إذن: فقوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا﴾ [مريم: ١٧] أي: جبريل عليه السلام. ﴿فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً﴾ [مريم: ١٧] معنى تمثَّل: أي: ليستْ هذه حقيقته، إنه تمثَّل بها، أما حقيقته فنورانية ذات صفات أخرى، وذات أجنحة مَثْنى وثُلاَث ورُبَاع، فلماذا إذن جاء الملَكُ مريمَ في صورة بشرية؟
لأنهما سيلتقيان، ولا يمكن أنْ يتمّ هذا اللقاء خُفْية، وكذلك يستحيل أنْ يلتقيَ الملَكُ بملكتيه مع البشر ببشريته، فلكل منهما قانونه الخاص الذي لا يناسب الآخر، ولابُدَّ في لقائهما أنْ يتصوَّر الملَك في صورة بشر، أو يُرقَّى البشر إلى صفات الملائكة، كما رُقي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى صفات الملائكة في حادثة الإسراء والمعراج، ولا يتم الالتقاء بين الجنسين إلا بهذا التقارب.
لذلك، لما طلب الكفار أن يكون الرسول ملَكاً رَدَّ عليهم الحق تبارك وتعالى: ﴿قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً﴾ [الإسراء: ٩٥].
وقال: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام: ٩] إذن: لا يمكن أن يلتقي الملَكُ بالبشر إلا بهذا التقارب.
جاء جبريل عليه السلام إلى مريم في صورة بشرية لتأنس به، ولا تفزع إنْ رأتْه على صورته الملائكية ﴿فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً﴾ [مريم: ١٧] أي: من جنسها ﴿سَوِيّاً﴾ [مريم: ١٧].
أي: سويّ الخِلْقة والتكوين، وسيماً، قد انسجمتْ أعضاؤه وتناسقتْ على أجمل ما يكون البشر، فلا يعيبه كِبَر جبهته أو أنفه أو فمه، كما نرى في بعض الناس.


الصفحة التالية
Icon