ونلحظ في قولها: ﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً﴾ [مريم: ٢٦] أن النهي عن الكلام مع البشر خاصة فلم تَقُل: لن أتكلم، وإلاّ فمعها جبريل عليه السلام يُكلّمها وبينهما تفاهم، لعلَّه يرى لها مَخْرجاً، وقد كانت مريم واثقة مطمئنة إلى هذا المخرج، فإذا كان ربها تبارك وتعالى أمرها بالصوم عن الكلام، فإنه سينطق الوليد ليتكلم هو ويدافع عن أمه أمام اتهامات القوم.
ولما تكلّمنا في قوله تعالى: ﴿فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي﴾ [مريم: ٢٤] استبعدنا أنْ يكون هذا النداء من جبريل، وقلنا: إنه نداء الوليد؛ لذلك اطمأنتْ مريم وعَلِمتْ أنها أمام معجزة عُظْمى، ووثقتْ تمام الثقة أنها حين تُشير إليه سيتكلم هو ويردُّ عنها الحَرج مع قومها؛ لأن الكلام ممَّنْ يقدر على الكلام لا يأتي بحجة تُقنِع الناس عن خلاف العادة، أما حين يتكلم وهو في المهد، فهذا يعني أنه معجزة خارقة للعادة، فإذا كان الوليد معجزةً فالمعجزة في أُمِّه من باب أَوْلَى.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ﴾
ونعجب للسيدة مريم، فبدلَ أن تخجل مما حدث وتستتر بوليدها عن أعيُن الناس، أو تنتقل به إلى مكان آخر في فيافي الأرض إذا بها تحمله، وتذهب به، وتبادر به قومها، وما كانت لتفعل ذلك وتتجرأ عليه إلا لثقتها في الحجة التي معها، والتي ستوافيها على يد وليدها.