لذلك بادره قبل أنْ ينطق، وقبل أنْ ينهره ﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ [النمل: ٢٢] أي: عرفتُ ما لم تعرف هذا الكلام مُوجَّه إلى سليمان الذي ملَك الدنيا كلها، وسخَّر الله له كل شيء؛ لذلك ذُهل سليمان من مقالة الهدهد وتشوَّق إلى ما عنده من أخبار لا يعرفها هو.
ثم يستمر الهدهد: ﴿وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ [النمل: ٢٢].
أولاً: نقف عند جمال التعبير في سبأ ونبأ، فبينهما جناس ناقص، وهو من المحسّنات البديعية في لغتنا، ويعطي للعبارة نغمة جميلة تتوافق مع المعنى المراد، والجناس أن تتفق الكلمتان في الحروف، وتختلفا في المعنى، كما في قول الشاعر:
رَحَلْتُ عَنِ الدِّيَارِ لكُم أَسِيرُ... وَقَلْبي في محبتكُمْ أَسير
وقَوْل الآخر:
لَمْ يَقْضِ مِنْ حقِّكم عَليَّ... بَعْضَ الذي يَجِبُ
قَلْبٌ متَى مَا جَرَت... ذِكْرَاكُمُ يَجِبُ
ومن الجناس التام في القرآن الكريم: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ﴾ [الروم: ٥٥].
فالتعبير القرآني ﴿وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ﴾ [النمل: ٢٢] تعبير جميل لفظاً، دقيق مَعنىً، أَلاَ تراه لو قال (وجئتك من سبأ بخبر) لا ختلَّ اللفظ والمعنى معاً؛ لأن الخبر يُرَاد به مُطلْق الخبر، أمّا النبا فلا تُقال إلا للخبر العجيب الهام الملفت للنظر، كما في قوله تعالى: ﴿عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم﴾ [النبأ: ١٢].
والجناس لا يكون جميلاً مؤثراً إلا إذا جاء طبيعياً غير مُتكلّف،