الْعَرَبَ بِأَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مثله، وبعشر سُورَة مِثْلِهِ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ، نَاهِيكَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَادَى بِأَنَّهُ مُعْجِزٌ لَهُمْ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ [الْبَقَرَة: ٢٣، ٢٤] الْآيَةَ فَإِنَّهُ سَهَّلَ وَسَجَّلَ: سَهَّلَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ سُورَةٍ مِنْ سُوَرِهِ، وَسَجَّلَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ أَبَدًا، فَكَانَ كَمَا سَجَّلَ، فَالتَّحَدِّي مُتَوَاتِرٌ وَعَجْزُ الْمُتَحَدَّيْنَ أَيْضًا مُتَوَاتِرٌ بِشَهَادَةِ التَّارِيخِ إِذْ طَالَتْ مُدَّتُهُمْ فِي الْكُفْرِ وَلَمْ يُقِيمُوا الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ عَاجِزِينَ، وَمَا اسْتَطَاعُوا الْإِتْيَانَ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ثُمَّ عَدَلُوا إِلَى الْمُقَاوَمَةِ بِالْقُوَّةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣، ٢٤]. وَقَالَ: قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ سُورَةُ يُونُسَ [٣٨] وَقَالَ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ سُورَةُ هُودٍ [١٣، ١٤]. فَعَجْزُ جَمِيعِ الْمُتَحَدَّيْنَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ مُتَوَاتِرٌ بِتَوَاتُرِ هَذِهِ الْآيَاتِ بَيْنَهُمْ وَسُكُوتِهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ مَعَ تَوَفُّرِ دَوَاعِيهِمْ عَلَيْهَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْلِيلِ عَجْزِهِمْ عَنْ ذَلِكَ فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ إِلَى تَعْلِيلِهِ بِأَنَّ اللَّهَ صَرَفَهُمْ عَنْ مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ فَسَلَبَهُمُ الْمَقْدِرَةَ أَوْ سَلَبَهَمُ الدَّاعِيَ لِتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِمَرْأَى وَمَسْمَعٍ مِنْ جَمِيعِ الْعَرَبِ، وَيُعْرَفُ هَذَا الْقَوْلُ بِالصَّرْفَةِ كَمَا فِي «المواقف» للعضد و «الْمَقَاصِد» لِلتَّفْتَزَانِيِّ (وَلَعَلَّهَا بِفَتْحِ الصَّادِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَهِيَ مَرَّةٌ من الصّرْف وضع بِصِيغَةِ الْمَرَّةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهَا صَرْفٌ خَاصٌّ فَصَارَتْ كَالْعِلْمِ بِالْغَلَبَةِ) وَلَمْ يَنْسُبُوا هَذَا الْقَوْلَ إِلَّا إِلَى الْأَشْعَرِيِّ فِيمَا حَكَاهُ أَبُو الْفَضْلِ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» وَإِلَى النَّظَّامِ وَالشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى وَأَبِي إِسْحَاقَ الِإِسْفِرَائِينِيِّ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ عَضُدُ الدِّينِ فِي «الْمَوَاقِفِ»، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ صَرَّحَ بِهِ فِي كِتَابِ «الْفَصْلِ» ص ٧ جُزْء ٣، ص ١٨٤ جُزْء ٢ وَقَدْ عَزَاهُ صَاحِبُ «الْمَقَاصِدِ» فِي شَرْحِهِ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَأَمَّا الَّذِي عَلَيْهِ جَمْهَرَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالتَّحْقِيقِ وَاقْتصر عَلَيْهِ أئمّة الْأَشْعَرِيَّةِ وَإِمَامُ
وَاتِّبَاعُ الْخُطْوَاتِ تَمْثِيلِيَّةٌ، أَصْلُهَا أَنَّ السَّائِرَ إِذَا رَأَى آثَارَ خُطْوَاتِ السَّائِرِينَ تَبِعَ ذَلِكَ الْمَسْلَكَ عِلْمًا مِنْهُ بِأَنَّهُ مَا سَارَ فِيهِ السَّائِرُ قَبْلَهُ إِلَّا لِأَنَّهُ مُوَصِّلٌ لِلْمَطْلُوبِ، فَشَبَّهَ الْمُقْتَدِي الَّذِي لَا دَلِيلَ لَهُ سِوَى الْمُقْتَدَى بِهِ وَهُوَ يَظُنُّ مَسْلَكَهُ مُوَصِّلًا، بِالَّذِي يَتَّبِعُ خُطْوَاتِ السَّائِرِينَ وَشَاعَتْ هَاتِهِ
التَّمْثِيلِيَّةُ حَتَّى صَارُوا يَقُولُونَ هُوَ يَتَّبِعُ خُطَا فُلَانٍ بِمَعْنَى يَقْتَدِي بِهِ وَيَمْتَثِلُ لَهُ.
وَالْخُطْوَاتُ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ جَمْعُ خُطْوَةٍ- مِثْلُ الْغُرْفَةِ وَالْقُبْضَةِ بِضَمِّ أَوَّلَهِمَا بِمَعْنَى الْمَخْطُوِّ- وَالْمَغْرُوفِ وَالْمَقْبُوضِ، فَهِيَ بِمَعْنَى مَخْطُوَّةٍ اسْمٌ لِمَسَافَةٍ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ عِنْدَ مَشْيِ الْمَاشِي فَهُوَ يَخْطُوهَا، وَأَمَّا الْخَطْوَةُ بِفَتْحِ الْخَاءِ فَهِيَ الْمَرَّةُ مِنْ مَصْدَرِ الْخَطْوِ وَتُطْلَقُ عَلَى الْمَخْطُوِّ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (خُطْوَاتِ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ عَلَى أَصْلِ جَمْعِ السَّلَامَةِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَقُنْبُلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّ الْخَاءِ وَالطَّاءِ عَلَى الْإِتْبَاعِ، وَالْإِتْبَاعُ يُسَاوِي السُّكُونَ فِي الْخِفَّةِ عَلَى اللِّسَانِ.
وَالِاقْتِدَاءُ بِالشَّيْطَانِ إِرْسَالُ النَّفْسِ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا يُوَسْوِسُهُ لَهَا من الخواطر الشرية، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ مَوْجُودَاتٌ مُدْرَكَةٌ لَهَا اتِّصَالٌ بِالنُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ لَعَلَّهُ كَاتِّصَالِ الْجَاذِبِيَّةِ بِالْأَفْلَاكِ وَالْمِغْنَاطِيسِ بِالْحَدِيدِ، فَإِذَا حَصَلَ التَّوَجُّهُ مِنْ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ بِأَسْبَابٍ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ حَدَثَتْ فِي النَّفْسِ خَوَاطِرُ سَيِّئَةٌ، فَإِنْ أَرْسَلَ الْمُكَلَّفُ نَفْسَهُ لِاتِّبَاعِهَا وَلَمْ يَرْدَعْهَا بِمَا لَهُ مِنَ الْإِرَادَةِ وَالْعَزِيمَةِ حققها فِي فَاعله، وَإِنْ كَبَحَهَا وَصَدَّهَا عَنْ ذَلِكَ غَلَبَهَا. وَلِذَلِكَ أَوْدَعَ اللَّهُ فِينَا الْعَقْلَ وَالْإِرَادَةَ وَالْقُدْرَةَ وَكَمَّلَ لَنَا ذَلِكَ بِالْهُدَى الدِّينِيِّ عَوْنًا وَعِصْمَةً عَنْ تَلْبِيَتِهَا لِئَلَّا تُضِلَّنَا الْخَوَاطِرُ الشَّيْطَانِيَّةُ حَتَّى نَرَى حَسَنًا مَا لَيْسَ بِالْحَسَنِ، وَلِهَذَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً»
لِأَنَّهُ لَمَّا هَمَّ بِهَا فَذَلِكَ حِينَ تَسَلَّطَتْ عَلَيْهِ الْقُوَّةُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَلَمَّا عَدَلَ عَنْهَا فَذَلِكَ حِينَ غَلَّبَ الْإِرَادَةَ الْخَيْرِيَّةَ عَلَيْهَا، وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ فِي الْخَوَاطِرِ الْخَيْرِيَّةِ وَهِيَ النَّاشِئَةُ عَنِ التَّوَجُّهَاتِ الْمَلَكِيَّةِ، فَإِذَا تَنَازَعَ الدَّاعِيَانِ فِي نُفُوسِنَا احْتَجْنَا فِي التَّغَلُّبِ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِعُقُولِنَا وَآرَائِنَا وَقُدْرَتِنَا، وَهُدَى اللَّهِ تَعَالَى إِيَّانَا وَذَلِكَ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ بِالْكَسْبِ، وَعَنْهُ يَتَرَتَّبُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ.
وَاللَّامُ فِي الشَّيْطانِ لِلْجِنْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْعَهْدِ، وَيَكُونَ الْمُرَادُ إِبْلِيسَ وَهُوَ أَصْلُ الشَّيَاطِينِ وَآمِرُهُمْ فَكُلُّ مَا يَنْشَأُ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ الَّذِي خَطَا الْخُطْوَاتِ الْأُولَى.
أَسْبَابَ عِلْمِهَا، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ هَذَا الشُّكْرُ بِأَنْ يَكْتُبَ مَا فِيهِ حِفْظُ الْحَقِّ وَلَا يُقَصِّرُ وَلَا يُدَلِّسُ، وَيَنْشَأُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ التَّشْبِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [الْقَصَص: ٧٧] وَقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [الْبَقَرَة: ١٩٨].
وَالْكَافُ عَلَى هَذَا إِمَّا نَائِبَةٌ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ أَوْ صِفَةٌ لِمَفْعُولٍ بِهِ مَحْذُوفٍ عَلَى تَأْوِيلِ مَصْدَرِ فِعْلِ أَنْ يَكْتُبَ بِالْمَكْتُوبِ، وَ (مَا) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَصْدَرِيَّةٌ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أَنْ يَكْتُبَ، وَجَوَّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» تَعْلِيقَهُ بِقَوْلِهِ فَلْيَكْتُبْ فَهُوَ وَجْهٌ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ.
وَقَوْلُهُ: فَلْيَكْتُبْ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلا يَأْبَ كاتِبٌ، وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمُقْتَضَى النَّهْيِ وَتَكْرِيرٌ لِلْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَاكْتُبُوهُ، فَهُوَ يُفِيدُ تَأْكِيدَ الْأَمْرِ وَتَأْكِيدَ النَّهْيِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا
أُعِيدَ لِيُرَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ لِبُعْدِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ بِمَا وَلِيَهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: اتَّخَذُوهُ [الْأَعْرَاف: ١٤٨] بَعْدَ قَوْلِهِ: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً [الْأَعْرَاف: ١٤٨] الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أَمَلَّ وَأَمْلَى لُغَتَانِ: فَالْأُولَى لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَبَنِي أَسَدٍ، وَالثَّانِيَةُ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِهِمَا قَالَ تَعَالَى: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَقَالَ: فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْفرْقَان: ٥]، قَالُوا وَالْأَصْلُ هُوَ أَمْلَلَ ثُمَّ أُبْدِلَتِ اللَّامُ يَاءً لِأَنَّهَا أَخَفُّ أَيْ عَكْسُ مَا فَعَلُوا فِي قَوْلِهِمْ تَقَضَّى الْبَازِيُّ إِذْ أَصْلُهُ تَقَضَّضَ.
وَمَعْنَى اللَّفْظَيْنِ أَنْ يُلْقِيَ كَلَامًا عَلَى سَامِعِهِ لِيَكْتُبَهُ عَنْهُ، هَكَذَا فَسَّرَهُ فِي «اللّسان» و «الْقَامُوس». وَهُوَ مَقْصُور فِي التَّفْسِيرِ أَحْسَبُ أَنَّهُ نَشَأَ عَنْ حَصْرِ نَظَرِهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْوَارِدَةِ فِي غَرَضِ الْكِتَابَةِ، وَإِلَّا فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٥] : فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا تَشْهَدُ بِأَنَّ الْإِمْلَاءَ وَالْإِمْلَالَ يَكُونَانِ لِغَرَضِ الْكِتَابَةِ وَلِغَرَضِ الرِّوَايَةِ وَالنَّقْلِ كَمَا فِي آيَةِ الْفُرْقَانِ، وَلِغَرَضِ الْحِفْظِ كَمَا يُقَالُ مَلَّ الْمُؤَدِّبُ عَلَى الصَّبِيِّ لِلْحِفْظِ، وَهِيَ طَرِيقَةُ تَحْفِيظِ الْعُمْيَانِ. فَتَحْرِيرُ الْعِبَارَةِ أَنْ يُفَسَّرَ هَذَانِ اللَّفْظَانِ بِإِلْقَاءِ كَلَامٍ لِيُكْتَبَ عَنْهُ أَوْ لِيُرْوَى أَوْ لِيُحْفَظَ، وَالْحق هُنَا مَا حَقَّ أَيْ ثَبَتَ لِلدَّائِنِ.
وَفِي هَذَا الْأَمْرِ عِبْرَةٌ لِلشُّهُودِ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَكْتُبُونَ فِي شُرُوطِ الْحُبْسِ وَنَحْوِهِ مَا لَمْ يُمْلِلْهُ عَلَيْهِمُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا كَانَ قَدْ فَوَّضَ إِلَى الشَّاهِدِ الْإِحَاطَةَ بِمَا فِيهِ تَوَثُّقُهُ لِحَقِّهِ أَوْ أَوْقَفَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ عَقْدِهِ عَلَى السَّدَارَةِ.
الْعَالِمِ بِهِمَا. الثَّانِي التَّغَايُرُ بَيْنَهُمَا فِي الشَّرْطِ فَإِنَّ شَرْطَ الْعِلْمِ بِكَوْنِ الشَّيْءِ سَيَقَعُ هُوَ عَدَمُ الْوُقُوعِ، وَشَرْطُ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ وَقَعَ الْوُقُوعُ، فَلَوْ كَانَ الْعِلْمَانِ شَيْئًا وَاحِدًا لَمْ يَخْتَلِفْ شَرْطَاهُمَا. الثَّالِثُ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ وَقَعَ الْجَهْلُ بِأَنَّهُ سَيَقَعُ وَبِالْعَكْسِ وَغَيْرُ الْمَعْلُومِ غَيْرُ الْمَعْلُومِ (هَكَذَا عَبَّرَ أَبُو الْحُسَيْنِ أَيِ الْأَمْرُ الْغَيْرُ الْمَعْلُومِ مُغَايِرٌ لِلْمَعْلُومِ) وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بِالْتِزَامِ وُقُوعِ التَّغَيُّرِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُتَغَيِّرَاتِ، وأنّ ذَاته تَعَالَى تَقْتَضِي اتِّصَافَهُ بِكَوْنِهِ عَالِمًا بِالْمَعْلُومَاتِ الَّتِي سَتَقَعُ، بِشَرْطِ وُقُوعِهَا، فَيَحْدُثُ الْعِلْمُ بِأَنَّهَا وُجِدَتْ عِنْدَ وُجُودِهَا، وَيَزُولُ عِنْدَ زَوَالِهَا، وَيَحْصُلُ عِلْمٌ آخَرُ، وَهَذَا عَيْنُ مَذْهَبِ جَهْمٍ وَهِشَامٍ. وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ عَالِمًا بِأَحْوَالِ الْحَوَادِثِ، وَهَذَا تَجْهِيلٌ. وَأَجَابَ عَنْهُ عَبْدُ الْحَكِيمِ فِي «حَاشِيَةِ الْمَوَاقِفِ» بِأَنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ فِي الْأَزَلِ أَنَّ الْحَادِثَ سَيَقَعُ عَلَى الْوَصْفِ الْفُلَانِيِّ، فَلَا جَهْلَ فِيهِ، وَأَنَّ عَدَمَ شُهُوده تَعَالَى لِلْحَوَادِثِ قَبْلَ حُدُوثِهَا لَيْسَ
بِجَهْلٍ، إِذْ هِيَ مَعْدُومَةٌ فِي الْوَاقِعِ، بَلْ لَوْ عَلِمَهَا تَعَالَى شُهُودِيًّا حِينَ عَدِمَهَا لَكَانَ ذَلِكَ الْعِلْمُ هُوَ الْجَهْلُ، لِأَنَّ شُهُودَ الْمَعْدُومِ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ، فَالْعِلْمُ الْمُتَغَيِّرُ الْحَادِثِ هُوَ الْعِلْمُ الشُّهُودِيُّ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ ثَمَّةَ عِلْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَدِيمٌ وَهُوَ الْعِلْمُ الْمَشْرُوطُ بِالشُّرُوطِ، وَالْآخَرُ حَادث وَهُوَ الْمَعْلُوم الْحَاصِلَةُ عِنْدَ حُصُولِ الشُّرُوط وَلَيْسَت بِصفة مستقلّة، وإنّما هِيَ تعلّقات وإضافات، وَلذَلِك جرى فِي كَلَام المتأخّرين، مِنْ عُلَمَائِنَا وَعُلَمَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ، إِطْلَاقُ إِثْبَاتِ تَعَلُّقِ حَادِثٍ لِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَوَادِثِ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْحَكِيمِ فِي «الرِّسَالَةِ الْخَاقَانِيَّةِ» الَّتِي جَعَلَهَا لِتَحْقِيقِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ مَنْسُوبٍ لِقَائِلٍ، بَلْ عَبَّرَ عَنْهُ بِقِيلَ، وَقد رَأَيْت التفتازانيّ جَرَى عَلَى ذَلِكَ فِي «حَاشِيَةِ الْكَشَّافِ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَلَعَلَّ الشّيخ عبد الْحَكِيمَ نَسِيَ أَنْ يَنْسُبَهُ.
وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ: فأمّا الّذين أَبُو إِطْلَاقَ الْحُدُوثِ عَلَى تَعَلُّقِ الْعِلْمِ فَقَالُوا فِي قَوْلِهِ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أَطْلَقَ الْعِلْمَ عَلَى لَازِمِهِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمَعْلُومِ أَيْ تَمَيُّزُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّهَا كَإِثْبَاتِ الشَّيْءِ بِالْبُرْهَانِ،
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْيَهُودِيَّ دَعَا الْمُنَافِقَ إِلَى التَّحَاكُمِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ الْمُنَافِقَ دَعَا إِلَى كَعْبِ ابْن الْأَشْرَفِ، فَأَبَى الْيَهُودِيُّ وَانْصَرَفَا مَعًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى لِلْيَهُودِيِّ، فَلَمَّا خَرَجَا، قَالَ الْمُنَافِقُ: لَا أَرْضَى، انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَحَكَمَ أَبُو بَكْرٍ بِمِثْلِ حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ الْمُنَافِقُ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى عُمَرَ، فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ، وَأَخْبَرَهُ الْيَهُودِيُّ الْخَبَرَ وَصَدَّقَهُ الْمُنَافِقُ، قَالَ عُمَرُ: رُوَيْدَكُمَا حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكُمَا، فَدَخَلَ وَأَخَذَ سَيْفَهُ ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ الْمُنَافِقَ حَتَّى بَرَدَ، وَقَالَ: هَكَذَا أَقْضِي عَلَى مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
فَنَزَلَتِ الْآيَةُ وَقَالَ جِبْرِيلُ: إِنَّ عُمَرَ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَلَقَّبَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْفَارُوقَ»
. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ بَيْنَ قُرَيْظَةَ وَالْخَزْرَجِ حِلْفٌ، وَبَيْنَ النَّضِيرِ وَالْأَوْسِ حِلْفٌ، فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَتِ النَّضِيرُ أَكْثَرَ وَأَشْرَفَ، فَكَانُوا إِذَا قَتَلَ قُرَظِيٌّ نَضِيرِيًّا قُتِلَ بِهِ وَأَخَذَ أَهْلُ الْقَتِيلِ دِيَةَ صَاحِبِهِمْ بَعْدَ قَتْلِ قَاتِلِهِ، وَكَانَتِ الدِّيَةُ مِائَةَ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ، وَإِذَا قَتَلَ نَضِيرِيٌّ قُرَظِيًّا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ وَأَعْطَى دِيَتَهُ فَقَطْ: سِتِّينَ وَسْقًا. فَلَمَّا أَسْلَمَ نَفَرٌ مِنَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ قَتَلَ نَضِيرِيٌّ قُرَظِيًّا وَاخْتَصَمُوا، فَقَالَتِ النَّضِيرُ: نُعْطِيكُمْ سِتِّينَ وَسْقًا كَمَا كُنَّا اصْطَلَحْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَالَتْ قُرَيْظَةُ: هَذَا شَيْءٌ فَعَلْتُمُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّكُمْ كَثُرْتُمْ وَقَلَلْنَا فَقَهَرْتُمُونَا، وَنَحْنُ الْيَوْمَ إِخْوَةٌ وَدِينُنَا وَدِينُكُمْ وَاحِدٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ- وَكَانَ مُنَافِقًا: انْطَلِقُوا إِلَى أَبِي بُرْدَةَ- وَكَانَ أَبُو بُرْدَةَ كَاهِنًا يَقْضِي بَيْنَ الْيَهُودِ فِيمَا يَتَنَافَرُونَ إِلَيْهِ فِيهِ وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: لَا بَلْ نَنْطَلِقُ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. (وَأَبُو بُرْدَةَ- بِدَالٍ بَعْدَ الرَّاءِ- عَلَى الصَّحِيحِ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِي مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ وَفِي الْإِصَابَةِ لِابْنِ حَجَرٍ، وَوَقَعَ فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ بِزَايٍ بَعْدَ الرَّاءِ وَهُوَ تَحْرِيفٌ اشْتَبَهَ بِأَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ نَضْلَةَ بْنِ عُبَيْدٍ وَلَمْ يَكُنْ أَبُو بَرْزَةَ كَاهِنًا قَطُّ). وَنُسِبَ أَبُو بُرْدَةَ الْكَاهِنِ بِالْأَسْلَمِيِّ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُ كَانَ فِي جُهَيْنَةَ. وَبَعْضُهُمْ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «كَانَتِ الطَّوَاغِيتُ الَّتِي يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهَا وَاحِدٌ فِي جُهَيْنَةَ وَوَاحِدٌ فِي أَسْلَمَ، وَفِي كُلِّ حَيٍّ وَاحِدٌ كَهَّانٌ».
وَفِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ أَنَّ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى نَاسٌ مِنْ أَسْلَمَ تَنَافَرُوا إِلَى أَبِي بُرْدَةَ
الْأَسْلَمِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا اسْمُهُ بِشْرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ،
وَالدِّينُ: مَا كَلَّفَ اللَّهُ بِهِ الْأُمَّةَ مِنْ مَجْمُوعِ الْعَقَائِدِ، وَالْأَعْمَالِ، وَالشَّرَائِعِ، وَالنُّظُمِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٩]. فَإِكْمَالُ الدِّينِ هُوَ إِكْمَالُ الْبَيَانِ الْمُرَادِ لِلَّهِ تَعَالَى الَّذِي اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ تَنْجِيمُهُ، فَكَانَ بَعْدَ نُزُولِ أَحْكَامِ الِاعْتِقَادِ، الَّتِي لَا يَسَعُ الْمُسْلِمِينَ جَهْلُهَا، وَبَعْدَ تَفَاصِيلِ أَحْكَامِ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ- الَّتِي آخِرُهَا الْحَجُّ- بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَبَعْدَ بَيَانِ شَرَائِعِ الْمُعَامَلَاتِ وَأُصُولِ النِّظَامِ الْإِسْلَامِيِّ، كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ قَدْ تَمَّ الْبَيَانُ الْمُرَادُ لِلَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النَّحْل: ٨٩] وَقَوْلِهِ: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النَّحْل: ٤٤] بِحَيْثُ صَارَ مَجْمُوعُ التَّشْرِيعِ الْحَاصِلِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، كَافِيًا فِي هَدْيِ الْأُمَّةِ فِي عِبَادَتِهَا، وَمُعَامَلَتِهَا، وَسِيَاسَتِهَا، فِي سَائِرِ عُصُورِهَا، بِحَسَبِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَاتُهَا، فَقَدْ كَانَ الدِّينُ وَافِيًا فِي كُلِّ وَقْتٍ بِمَا يَحْتَاجُهُ الْمُسْلِمُونَ. وَلَكِنِ ابْتَدَأَتْ أَحْوَالُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بَسِيطَةً ثُمَّ اتَّسَعَتْ جَامِعَتُهُمْ، فَكَانَ الدِّينُ يَكْفِيهِمْ لِبَيَانِ الْحَاجَاتِ فِي أَحْوَالِهِمْ بِمِقْدَارِ اتِّسَاعِهَا، إِذْ كَانَ تَعْلِيمُ الدِّينِ بِطَرِيقِ التَّدْرِيجِ لِيَتَمَكَّنَ رُسُوخُهُ، حَتَّى اسْتَكْمَلَتْ جَامِعَةُ الْمُسلمين كلّ شؤون الْجَوَامِعِ الْكُبْرَى، وَصَارُوا أُمَّةً كَأَكْمَلِ مَا تَكُونُ أُمَّةً، فَكَمُلَ مِنْ بَيَانِ الدَّيْنِ مَا بِهِ الْوَفَاءُ بِحَاجَاتِهِمْ كُلِّهَا، فَذَلِكَ مَعْنَى إِكْمَالِ الدِّينِ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ. وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الدِّينَ كَانَ نَاقِصًا، وَلَكِنَّ أَحْوَالَ الْأُمَّةِ فِي الْأُمَمِيَّةِ غَيْرُ مُسْتَوْفَاةٍ، فَلَمَّا تَوَفَّرَتْ كَمُلَ الدِّينُ لَهُمْ فَلَا إِشْكَالَ عَلَى الْآيَةِ. وَمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ لَعَلَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَشْرِيعُ شَيْءٍ جَدِيدٍ، وَلَكِنَّهُ تَأْكِيدٌ لِمَا تَقَرَّرَ تَشْرِيعُهُ مِنْ قَبْلُ بِالْقُرْآنِ أَوِ السُّنَّةِ.
فَمَا نَجِدُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْآيَاتِ، بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، مِمَّا فِيهِ تَشْرِيعٌ أَنَفَ مِثْلُ جَزَاءِ صَيْدِ الْمُحْرِمِ، نَجْزِمُ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ أُمِرَ بِوَضْعِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ يَنْزِلْ عَلَى النَّبِيءِ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ تَحْلِيلٌ وَلَا تَحْرِيمٌ وَلَا فَرْضٌ. فَلَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَضَاعُوا كُلَّ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ- وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ- وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمْ إِلَّا الْقُرْآنُ لَاسْتَطَاعُوا
بَيْنَهُمْ. وَقَوْلُهُ: فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ تَخَلُّصٌ مِنْ تَنْهِيَةِ تَقْرِيعِ مُكَذِّبِيهِ إِلَى كَرَامَةِ الْمُصَدِّقِينَ بِهِ.
وَاقْتُصِرَ مِنْ دَعَاوِي تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ عَلَى قَوْلِهِمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ الِادِّعَاءَ قَصَدُوا بِهِ التَّوَسُّلَ إِلَى قَتْلِهِ، لِأَنَّ حُكْمَ السَّاحِرِ فِي شَرِيعَةِ الْيَهُودِ الْقَتْلُ إِذِ السِّحْرُ عِنْدَهُمْ كُفْرٌ، إِذْ كَانَ مِنْ صِنَاعَةِ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، فَقَدْ قَرَنَتِ التَّوْرَاةُ السِّحْرَ وَعِرَافَةِ الْجَانِّ بِالشِّرْكِ، كَمَا جَاءَ فِي سفر اللاويّين فِي الْإِصْحَاحِ الْعِشْرِينَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ، وَالْإِشَارَةُ بِ هَذَا إِلَى مَجْمُوعِ مَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ إِلَّا سَاحِرٌ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى عِيسَى الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِعِيسَى كِلْتَا الْمَقَالَتَيْنِ عَلَى التَّفْرِيقِ أَوْ عَلَى اخْتِلَافِ جَمَاعَاتِ الْقَائِلِينَ وأوقات القَوْل.
[١١١]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ١١١]
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ [الْمَائِدَة: ١١٠]، فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَقُولُهُ اللَّهُ لِعِيسَى يَوْمَ يَجْمَعُ الرُّسُلَ. فَإِنَّ إِيمَانَ الْحَوَارِيِّينَ نِعْمَةٌ عَلَى عِيسَى إِذْ لَوْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ لَمَا وَجَدَ مَنْ يَتَّبِعُ دِينَهُ فَلَا يَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ الْمُتَجَدِّدُ بِتَجَدُّدِ اهْتِدَاءِ الْأَجْيَالِ بِدِينِهِ إِلَى أَنْ جَاءَ نَسْخُهُ بِالْإِسْلَامِ.
وَالْمُرَادُ بِالْوَحْيِ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ إِلْهَامُهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ دَعْوَةِ عِيسَى لِلْمُبَادَرَةِ بِتَصْدِيقِهِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْوَحْيِ الَّذِي بِهِ دَعَاهُمْ عِيسَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَحْيُ الَّذِي أُوحِيَ بِهِ إِلَى
عِيسَى لِيَدْعُوَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى دِينِهِ. وَخَصَّ الْحَوَارِيُّونَ بِهِ هُنَا تَنْوِيهًا بِهِمْ حَتَّى كَأَنَّ الْوَحْيَ بِالدَّعْوَةِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا لِأَجْلِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ حَصَلَ لِجَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَكَفَرَ أَكْثَرُهُمْ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ [الصَّفّ: ١٤]
سَهْلٌ: لِأَنَّ الْمَفْعُولَ لَيْسَ أَجْنَبِيًّا عَنِ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بالمفعول، وَجَاءَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي ذَلِكَ بِالتَّهْوِيلِ، وَالضَّجِيجِ وَالْعَوِيلِ، كَيْفَ يُفْصَلُ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالْمَفْعُولِ وَزَادَ طُنْبُورُ الْإِنْكَارِ نَغْمَةً. فَقَالَ: وَالَّذِي حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ: شُرَكائِهِمْ مَكْتُوبًا بِالْيَاءِ، وَهَذَا جَرْيٌ عَلَى عَادَةِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي تَوْهِينِ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ، إِذَا خَالَفَتْ مَا دُوِّنَ عَلَيْهِ عِلْمُ النَّحْوِ، لِتَوَهُّمِهِ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ اخْتِيَارَاتٌ وَأَقْيِسَةٌ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَإِنَّمَا هِيَ رِوَايَاتٌ صَحِيحَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ وَفِي الْإِعْرَابِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمَقْصُودِ لَا تُنَاكِدَ الْفَصَاحَةَ.
وَمُدَوَّنَاتُ النَّحْوِ مَا قُصِدَ بِهَا إِلَّا ضَبْطُ قَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ الْغَالِبَةِ لِيَجْرِيَ عَلَيْهَا النَّاشِئُونَ فِي
اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَيْسَتْ حَاصِرَةً لِاسْتِعْمَالِ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ، وَالْقُرَّاءُ حُجَّةٌ عَلَى النُّحَاةِ دُونَ الْعَكْسِ، وَقَوَاعِدُ النَّحْوِ لَا تَمْنَعُ إِلَّا قِيَاسَ الْمُوَلَّدِينَ عَلَى مَا وَرَدَ نَادِرًا فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ، وَالنُّدْرَةُ لَا تُنَافِي الْفَصَاحَةَ، وَهَلْ يُظَنُّ بِمِثْلِ ابْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مُتَابَعَةً لِصُورَةِ حُرُوفِ التَّهَجِّي فِي الْكِتَابَةِ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَرُوجُ عَلَى الْمُبْتَدِئِينَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، وَهَلَّا كَانَ رَسْمُ الْمُصْحَفِ عَلَى ذَلِكَ الشَّكْلِ هَادِيًا لِلزَّمَخْشَرِيِّ أَنْ يَتَفَطَّنَ إِلَى سَبَبِ ذَلِكَ الرَّسْمِ. أَمَّا ابْنُ عَطِيَّةَ فَقَالَ: «هِيَ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةٌ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ» يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ الْفَصْلَ نَادِرٌ، وَهَذَا لَا يُثْبِتُ ضَعْفَ الْقِرَاءَةِ لِأَنَّ النُّدُورَ لَا يُنَافِي الْفَصَاحَةَ.
وَبَعَّدَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ بِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهَا لِلتَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ: لِيُرْدُوهُمْ وَتَبْعِيدُ ابْنِ عَطِيَّةَ لَهَا تَوَهُّمٌ: إِذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ أَنْ يُزَيِّنُوا لَهُمْ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ وَبَيْنَ التَّعْلِيلِ فَإِنَّ التَّعْلِيلَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعَاقِبَةِ مَجَازًا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: ٨]. وَمِنَ الْعَجِيبِ قَوْلُ الطَّبَرِيِّ: وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا أَسْتَجِيزُ غَيْرَهَا- بِفَتْحِ الزَّايِ وَنَصْبِ: الْقَتْلِ وَخَفْضِ: أَوْلادِهِمْ وَرَفْعِ: شُرَكاؤُهُمْ. وَذَلِكَ عَلَى عَادَتِهِ فِي نَصْبِ نَفْسِهِ حَكَمًا فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْقِرَاءَاتِ.
وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بالْخبر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ وَعْدًا لَهُ بِالنَّصْرِ عَلَى مُكَذِّبِيهِ، وَإِعْلَامًا لَهُ بِأَنَّ سُنَّتَهُ سُنَّةُ غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ بِطَرِيقَةِ جَعْلِ سُنَّةِ أُمَّتِهِ كَسُنَّةِ غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ.
وَذِكْرُ عُمُومِ الْأُمَمِ فِي هَذَا الْوَعِيدِ، مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا، إِنَّمَا هُوَ مُبَالَغَةٌ فِي الْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ بِتَقْرِيبِ حُصُولِهِ كَمَا حَصَلَ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِشْهَادِ بِشَوَاهِدِ التَّارِيخِ فِي قِيَاسِ الْحَاضِرِ عَلَى الْمَاضِي فَيَكُونُ الْوَعِيدُ خَبَرًا مَعْضُودًا بِالدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمرَان: ١٣٧] أَيْ: مَا أَنْتُمْ إِلَّا أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجْلٌ فَأَنْتُمْ لَكُمْ أَجْلٌ سَيَحِينُ حِينُهُ.
وَذِكْرُ الْأَجَلِ هُنَا، دُونَ أَنْ يَقُولَ لِكُلِّ أُمَّةٍ عَذَابٌ أَوِ اسْتِئْصَالٌ، إِيقَاظًا لِعُقُولِهِمْ مِنْ أَنْ يَغُرَّهُمُ الْإِمْهَالُ فَيَحْسَبُوا أَنَّ اللَّهَ غَيْرُ مُؤَاخِذِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ، كَمَا قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: ٣٢]، وَطَمْأَنَةً لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّ تَأْخِيرَ الْعَذَابِ عَنْهُمْ إِنَّمَا هُوَ جَرْيٌ عَلَى عَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِمْهَالِ الظَّالِمِينَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا [يُوسُف: ١١٠]- وَقَوْلِهِ- لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ [آل عمرَان: ١٩٦، ١٩٧].
وَمَعْنَى: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ لِكُلِّ أُمَّةٍ مُكَذِّبَةٍ إِمْهَالٌ فَحُذِفَ وَصْفُ أُمَّةٍ أَيْ: مُكَذِّبَةٍ.
وَجُعِلَ لِذَلِكَ الزَّمَانِ نِهَايَةٌ وَهِيَ الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ لِانْقِضَاءِ الْإِمْهَالِ، فَالْأَجَلُ يُطْلَقُ عَلَى مُدَّةِ الْإِمْهَالِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ بِهِ انْتِهَاءُ الْإِمْهَالِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ وُضِعَ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ ثُمَّ اسْتعْمل فِي الْآخِرَة عَلَى تَأْوِيلِ مُنْتَهَى الْمُدَّةِ أَوْ تَأْخِيرِ الْمُنْتَهَى وَشَاعَ الِاسْتِعْمَالَانِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ يُقَالُ قَضَى الْأَجَلَ أَيِ الْمُدَّةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ [الْقَصَص: ٢٨] وَعَلَى الثَّانِي يُقَالُ: «دَنَا
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِدَارِ الْفَاسِقِينَ دِيَارُ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ مِثْلَ دِيَارِ ثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ لِكُفْرِهِمْ، أَيْ سَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ فَتَرَوْنَ دِيَارَهُمْ فَتَتَّعِظُونَ بِسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ لِفِسْقِهِمْ، وَفِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَمُرُّوا مَعَ مُوسَى عَلَى هَذِهِ الْبِلَادِ.
وَالْعُدُولُ عَنْ تَسْمِيَةِ الْأُمَمِ بِأَسْمَائِهِمْ إِلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِوَصْفِ الْفَاسِقِينَ لِأَنَّهُ أَدَلُّ
عَلَى تَسَبُّبِ الْوَصْفِ فِي الْمَصِيرِ الَّذِي صَارُوا إِلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ أَجْمَعُ وَأَوْجَزُ، وَاخْتِيَارُ وَصْفِ الْفَاسِقِينَ دُونَ الْمُشْرِكِينَ وَالظَّالِمِينَ الشَّائِعِ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الشِّرْكِ فِي الْقُرْآنِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ عَاقِبَتَهُمُ السُّوأَى تَسَبَّبَتْ عَلَى الشِّرْكِ وَفَاسِدِ الْأَفْعَال مَعًا.
[١٤٦]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١٤٦]
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ تَكْمِلَةً لِمَا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ سَأَصْرِفُ إِلَخ بأسهم، اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا يَهَابُونَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ وَيَخْشَوْنَ، فَكَأَنَّهُمْ تَسَاءَلُوا كَيْفَ تُرِينَا دَارَهُمْ وَتَعِدُنَا بِهَا، وَهَلْ لَا نَهْلِكُ قَبْلَ الْحُلُولِ بِهَا، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ قالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٢٢] وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ، فَأُجِيبُوا بِأَنَّ اللَّهَ سَيَصْرِفُ أُولَئِكَ عَنْ آيَاتِهِ.
وَالصَّرْفُ الدَّفْعُ أَيْ سَأَصُدُّ عَنْ آيَاتِي، أَيْ عَنْ تَعْطِيلِهَا وَإِبْطَالِهَا.
وَالْآيَاتُ الشَّرِيعَةُ، وَوَعَدَ اللَّهُ أَهْلَهَا بِأَنْ يُورِثَهُمْ أَرْضَ الشَّامِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى سَأَتَوَلَّى دَفْعَهُمْ عَنْكُمْ، وَيَكُونُ هَذَا مِثْلَ مَا وَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ وَالثَلَاثِينَ «هَا أَنَا طَارِدٌ مِنْ قُدَّامِكَ الْأَمُورِيِّينَ إِلَخْ»، فَالصَّرْفُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عِنَايَةٌ مِنَ اللَّهِ بِمُوسَى وَقَومه بِمَا يهيء لَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ عَلَى أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الْأَقْوِيَاءِ، كَإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَتَشْتِيتِ كَلِمَتِهِمْ، وَإِيجَادِ الْحَوَادِثِ الَّتِي تَفُتُّ فِي سَاعِدِ عُدَّتِهِمْ أَوْ تَكُونُ الْجُمْلَةُ جَوَابًا لِسُؤَالِ مَنْ يَقُولُ: إِذَا دَخَلْنَا أَرْضَ الْعَدُوِّ فَلَعَلَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهَدْيِنَا، وَيَتَّبِعُونَ دِينَنَا، فَلَا نَحْتَاجُ إِلَى قِتَالِهِمْ، فَأُجِيبُوا بِأَنَّ اللَّهَ يَصْرِفُهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ آيَاتِهِ لِأَنَّهُمْ جُبِلُوا عَلَى التَّكَبُّرِ فِي الْأَرْضِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْآيَاتِ، فَالصَّرْفُ
وَتَنْكِيرُ بَراءَةٌ تَنْكِيرُ التَّنْوِيعِ، وَمَوْقِعُ بَراءَةٌ مُبْتَدَأٌ، وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهِ مَا فِي التَّنْكِيرِ مِنْ مَعْنَى التَّنْوِيعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ هَذَا النَّوْعَ كَافٍ فِي فَهْمِ الْمَقْصُودِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الْأَعْرَاف: ١، ٢].
وَالْمَجْرُورَانِ فِي قَوْلِهِ: مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْفَائِدَةِ أَيْ: الْبَرَاءَةُ صَدَرَتْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
ومِنَ ابْتِدَائِيَّةٌ، وإِلَى لِلِانْتِهَاءِ لِمَا أَفَادَهُ حَرْفُ مِنَ مِنْ مَعْنَى الِابْتِدَاءِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ بَرَاءَةٌ أَصْدَرَهَا اللَّهُ بِوَاسِطَةِ رَسُولِهِ إِبْلَاغًا إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَالْبَرَاءَةُ الْخُرُوجُ وَالتَّفَصِّي مِمَّا يُتْعِبُ وَرَفْعُ التَّبِعَةِ. وَلَمَّا كَانَ الْعَهْدُ يُوجِبُ عَلَى الْمُتَعَاهِدِينَ الْعَمَلَ بِمَا تَعَاهَدُوا عَلَيْهِ وَيُعَدُّ الْإِخْلَافُ بِشَيْءٍ مِنْهُ غَدْرًا عَلَى الْمُخْلِفِ، كَانَ الْإِعْلَانُ بِفَسْخِ الْعَهْدِ بَرَاءَةً مِنَ التَّبِعَاتِ الَّتِي كَانَتْ بِحَيْثُ تَنْشَأُ عَنْ إِخْلَافِ الْعَهْدِ، فَلِذَلِكَ كَانَ لَفْظُ بَراءَةٌ هُنَا مُفِيدًا مَعْنَى فَسْخِ الْعَهْدِ وَنَبْذِهِ لِيَأْخُذَ الْمُعَاهِدُونَ حِذْرَهُمْ. وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَنْبِذُونَ الْعَهْدَ وَيَرُدُّونَ الْجِوَارَ إِذَا شَاءُوا تَنْهِيَةَ الِالْتِزَامِ بِهِمَا، كَمَا فَعَلَ ابْنُ الدُّغُنَّةِ فِي رَدِّ جِوَارِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ قُرَيْشٍ، وَمَا فَعَلَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِي رَدِّ جِوَارِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ إِيَّاهُ قَائِلًا: «رَضِيتُ بِجِوَارِ رَبِّي وَلَا أُرِيدُ أَنْ أَسْتَجِيرَ غَيْرَهُ». وَقَالَ تَعَالَى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ [الْأَنْفَال: ٥٨] أَيْ: وَلَا تَخُنْهُمْ لِظَنِّكَ أَنَّهُمْ يَخُونُونَكَ فَإِذَا ظَنَنْتَهُ فَافْسَخْ عَهْدَكَ مَعَهُمْ.
وَلَمَّا كَانَ الْجَانِبُ، الَّذِي ابْتَدَأَ بِإِبْطَالِ الْعَهْدِ وَتَنْهِيَتِهِ، هُوَ جَانِبُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ، جُعِلَتْ هَذِهِ الْبَرَاءَةُ صَادِرَةً مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّهُ الْآذِنُ بِهَا، وَمِنْ رَسُولِهِ، لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لَهَا.
وَجُعِلَ ذَلِكَ مُنَهًّى إِلَى الْمُعَاهِدِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِبْلَاغُ ذَلِكَ الْفَسْخِ إِلَيْهِمْ وَإِيصَالُهُ لِيَكُونُوا عَلَى بَصِيرَةٍ فَلَا يَكُونَ ذَلِكَ الْفَسْخُ غَدْرًا.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: عاهَدْتُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ. فَهَذِهِ الْبَرَاءَةُ مَأْمُورُونَ بِإِنْفَاذِهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَهْدَ بَيْنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ كَانَ قَدِ انْعَقَدَ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ،
فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ ظَاهَرَهُمْ عَهْدُ الْحُدَيْبِيَةِ:
إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا | كَفَاهُ عَنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ |
وَوَجْهُ ذِكْرِ هَذَا فِي عَدَدِ أَحْوَالِهِمْ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ هُوَ غَايَاتُ الرَّاغِبِينَ بِحَيْثُ إِنْ أَرَادُوا أَنْ يَنْعَمُوا بِمَقَامِ دُعَاءِ رَبِّهِمُ الَّذِي هُوَ مَقَامُ الْقُرْبِ لَمْ يَجِدُوا أَنْفُسَهُمْ مُشْتَاقِينَ لِشَيْءٍ يَسْأَلُونَهُ فَاعْتَاضُوا عَنِ السُّؤَالِ بِالثَّنَاءِ عَلَى رَبِّهِمْ فَأُلْهِمُوا إِلَى الْتِزَامِ التَّسْبِيحِ لِأَنَّهُ أَدَلُّ لَفْظٍ عَلَى التَّمْجِيدِ وَالتَّنْزِيهِ، فَهُوَ جَامِعٌ لِلْعِبَارَةِ عَنِ الْكَمَالَاتِ.
وَالتَّحِيَّةُ: اسْمُ جِنْسٍ لِمَا يُفَاتَحُ بِهِ عِنْدَ اللِّقَاءِ مِنْ كَلِمَاتِ التَّكْرِمَةِ. وَأَصْلُهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ مَصْدَرِ حَيَّاهُ إِذَا قَالَ لَهُ عِنْدَ اللِّقَاءِ أَحْيَاكَ اللَّهُ. ثُمَّ غَلَبَتْ فِي كُلِّ لَفْظٍ يُقَالُ عِنْدَ اللِّقَاءِ، كَمَا غَلَبَ لَفْظُ السَّلَامِ، فَيَشْمَلُ: نَحْوَ حَيَّاكَ اللَّهُ، وَعم صَبَاحًا، وَعم مَسَاءً وصبّحك اللَّهُ بِخَيْرٍ، وبتّ بِخَيْرٍ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٨٦].
وَلِهَذَا أَخْبَرَ عَنْ تَحِيَّتِهِمْ بِأَنَّهَا سَلَامٌ، أَيْ لَفْظُ سَلَامٍ، إِخْبَارًا عَنِ الْجِنْسِ بِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ، أَيْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ لَفْظَ السَّلَامِ تَحِيَّةً لَهُمْ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّحِيَّةَ بَيْنَهُمْ هِيَ كَلِمَةُ (سَلَامٍ)، وَأَنَّهَا مَحْكِيَّةٌ هُنَا بِلَفْظِهَا دُونَ لَفْظِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَوْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَقِيلَ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا السَّلَامُ بِالتَّعْرِيفِ لِيَتَبَادَرَ مِنَ التَّعْرِيفِ أَنَّهُ السَّلَامُ الْمَعْرُوفُ فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ كَلِمَةُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. وَكَذَلِكَ سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِهَذَا اللَّفْظِ قَالَ تَعَالَى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: ٥٨] وَأَمَّا قَوْلُهُ:
وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ [الرَّعْد: ٢٣، ٢٤] فَهُوَ تَلَطُّفٌ مَعَهُمْ بِتَحِيَّتِهِمُ الَّتِي جَاءَهُمْ بِهَا الْإِسْلَامُ.
الْمُسْتَأْنَفِ لِيَكُونَ مَقْصُودًا بِذَاتِهِ لَا تَبَعًا لِلْجَوَابِ، فَبِذَلِكَ يَكُونُ مَقْصُودًا بِهِ إِخْبَارُهُمْ لِإِنْذَارِهِمْ بِالِاسْتِئْصَالِ.
وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً وَالْمُرَادُ لَا تَضُرُّونَ اللَّهَ بِتَوَلِّيكُمْ شَيْئًا وشَيْئاً مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِفِعْلِ تَضُرُّونَهُ الْمَنْفِيِّ.
وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّقْلِيلِ كَمَا هُوَ شَأْنُ تَنْكِيرِ لَفْظِ الشَّيْءِ غَالِبًا. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّأْكِيدِ التَّنْصِيصُ عَلَى الْعُمُومِ بِنَفْيِ الضُّرِّ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ، أَيْ فَاللَّهُ يُلْحِقُ بِكُمُ الِاسْتِئْصَالُ، وَهُوَ
أَعْظَمُ الضُّرِّ، وَلَا تَضُرُّونَهُ أَقَلَّ ضُرٍّ فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ فِي الْمُقَارَعَاتِ وَالْخُصُومَاتِ أَنَّ الْغَالِبَ الْمُضِرَّ بِعَدُّوِهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَلْحَقَهُ بَعْضَ الضُّرِّ مِنْ جَرَّاءِ الْمُقَارَعَةِ وَالْمُحَارَبَةِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً، فَمُوقِعُ إِنَّ فِيهَا مَوْقِعُ فَاءِ التَّفْرِيعِ.
وَالْحَفِيظُ: أَصْلُهُ مُبَالَغَةُ الْحَافِظِ، وَهُوَ الَّذِي يضع الْمَحْفُوظ بِحَيْثُ لَا يَنَالُهُ أَحَدٌ غَيْرُ حَافِظِهِ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْقُدْرَة والقهر.
[٥٨]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٥٨]
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨)
اسْتِعْمَالُ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: جاءَ أَمْرُنا بِمَعْنَى اقْتِرَابِ الْمَجِيءِ لِأَنَّ الْإِنْجَاءَ كَانَ قَبْلَ حُلُولِ الْعَذَابِ.
وَالْأَمْرُ أُطْلِقَ عَلَى أَثَرِ الْأَمْرِ، وَهُوَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمْرَ تَكْوِينٍ، أَيْ لَمَّا اقْتَرَبَ مَجِيءُ أَثَرِ أَمْرِنَا، وَهُوَ الْعَذَابُ، أَيِ الرِّيحُ الْعَظِيمُ.
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ١٢]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢)[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ١٣]
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ عَلَى أُسْلُوبِ تَعْدَادِ الْحُجَجِ الْوَاحِدَةُ تُلْوَى الْأُخْرَى، فَلِأَجْلِ أُسْلُوبِ التَّعْدَادِ إِذْ كَانَ كَالتَّكْرِيرِ لَمْ يُعْطَفْ عَلَى جُمْلَةِ سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ [الرَّعْد: ١٠].
وَقَدْ أَعْرَبَ هَذَا عَنْ مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعَجِيبِ صُنْعِهِ. وَفِيهِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ لِلْإِنْذَارِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ [سُورَة الرَّعْد: ١١] إِلَخْ أَنَّهُ مِثَالٌ لِتَصَرُّفِ اللَّهِ بِالْإِنْعَامِ وَالِانْتِقَامِ فِي تَصَرُّفٍ وَاحِدٍ مَعَ تَذْكِيرِهِمْ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي هُمْ فِيهَا. وَكُلُّ ذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِمَقَاصِدِ الْآيَاتِ الْمَاضِيَةِ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى [سُورَة الرَّعْد: ٨] وَقَوْلِهِ: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [سُورَة الرَّعْد: ٨]، فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ جَدِيرَةً بِالِاسْتِقْلَالِ وَأَنْ يُجَاءَ بِهَا مُسْتَأْنَفَةً لِتَكُونَ مُسْتَقِلَّةً فِي عِدَادِ الْجُمَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِي غَرَضِ السُّورَةِ.
وَجَاءَ هُنَا بِطَرِيقِ الْخِطَابِ عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ [سُورَة الرَّعْد: ١٠] لِأَنَّ الْخَوْفَ وَالطَّمَعَ يَصْدُرَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيُهَدَّدُ بِهِمَا الْكَفَرَةُ.
وَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِضَمِيرِ الْجَلَالَةِ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ الْمُفْتَتَحِ بِهِ فِي الْجُمَلِ السَّابِقَةِ، فَجَاءَتْ عَلَى أُسْلُوبٍ مُخْتَلِفٍ. وَأَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ مُرَاعَاةٌ لِكَوْنِ هَاتِهِ الْجُمْلَةِ مُفَرَّعَةً عَنْ أَغْرَاضِ الْجُمَلِ السَّابِقَةِ فَإِنَّ جُمَلَ فَوَاتِحِ الْأَغْرَاضِ افْتُتِحَتْ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ [سُورَة الرَّعْد: ٢] وَقَوْلِهِ: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى [سُورَة الرَّعْد: ٨] وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ [سُورَة الرَّعْد: ١١]، وَجُمَلُ التَّفَارِيعِ افْتُتِحَتْ بِالضَّمَائِرِ كَقَوْلِهِ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ [سُورَة الرَّعْد: ٤] وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ [سُورَة الرَّعْد: ٣] وَقَوْلِهِ: جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ.
وخَوْفاً وَطَمَعاً مَصْدَرَانِ بِمَعْنَى التَّخْوِيفِ وَالْإِطْمَاعِ، فَهُمَا فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ لِظُهُورِ الْمُرَادِ.
: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [سُورَة الْحجر: ٧٧- ٧٨].
وَالْإِتْيَانُ بِحَرْفِ (إِذَا) الْمُفَاجِأَةِ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ. اسْتُعِيرَ الْحَرْفُ الدَّالُّ عَلَى مَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ لِمَعْنَى تَرَتُّبِ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِ مَا يُظَنُّ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ. وَهَذَا مَعْنًى لَمْ يُوضَعْ لَهُ حَرْفٌ. وَلَا مُفَاجَأَةَ بِالْحَقِيقَةِ هُنَا لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْجَأْهُ ذَلِكَ وَلَا فَجَأَ أَحَدًا، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ بِحَيْثُ لَوْ تَدَبَّرَ النَّاظِرُ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ لَتَرَقَّبَ مِنْهُ الِاعْتِرَافَ بِوَحْدَانِيَّةِ خَالِقِهِ وَبِقُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِهِ، فَإِذَا سَمِعَ مِنْهُ الْإِشْرَاكَ وَالْمُجَادَلَةَ فِي إِبْطَالِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَفِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ كَانَ كَمَنْ فَجَأَهُ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ حَرْفُ الْمُفَاجَأَةِ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْفَجْأَةِ لِلْمُتَكَلِّمِ بِهِ تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْمُفَاجَأَةُ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً.
فَإِقْحَامُ حَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ جَعَلَ الْكَلَامَ مُفْهِمًا أَمْرَيْنِ هُمَا: التَّعْجِيبُ مِنْ تَطَوُّرِ الْإِنْسَانِ مِنْ أَمْهَنِ حَالَةٍ إِلَى أَبْدَعِ حَالَةٍ وَهِيَ حَالَةُ الْخُصُومَةِ وَالْإِبَانَةِ النَّاشِئَتَيْنِ عَنِ التَّفْكِيرِ وَالتَّعَقُّلِ، وَالدَّلَالَةِ عَلَى كُفْرَانِهِ النِّعْمَةَ وَصَرْفِهِ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ فِي عِصْيَانِ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِ. فَالْجُمْلَةُ فِي حَدِّ ذَاتِهَا تَنْوِيهٌ، وَبِضَمِيمَةِ حَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ أُدْمِجَتْ مَعَ التَّنْوِيهِ التَّعْجِيبِ. وَلَوْ قِيلَ: فَهُوَ خَصِيمٌ أَوْ فَكَانَ خَصِيمًا لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْمَعْنى البليغ.
[٥- ٧]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٥ إِلَى ٧]
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧)
يَجُوزُ أَنْ يَعْطِفَ الْأَنْعامَ عَطْفَ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ عَطْفًا على الْإِنْسانَ [سُورَة النَّحْل: ٤]، أَيْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ وَالْأَنْعَامَ، وَهِيَ أَيْضًا مَخْلُوقَةٌ مِنْ نُطْفَةٍ، فَيَحْصُلُ
حَقِيقِيٌّ أَوْ لِأَنَّ هَذَا الْمَجَازَ غَلَبَ حَتَّى سَاوَى
الْحَقِيقَةَ، قَالَ تَعَالَى: مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْإِسْرَاء: ١٠٢] وَقَالَ:
ذَمُّ الْمَنَازِلِ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى | وَالْعَيْشُ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ |
[٣٧]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٣٧]
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧)
نُهِيَ عَنْ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَهِيَ خَصْلَةُ الْكِبْرِيَاءِ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَعَمَّدُونَهَا. وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ.
وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مُخَاطَبٍ، وَلَيْسَ خطابا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ لَا يُنَاسِبُ مَا بَعْدَهُ.
وَالْمَرَحُ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الرَّاءِ-: شِدَّةُ ازْدِهَاءِ الْمَرْءِ وَفَرَحِهِ بِحَالِهِ فِي عَظَمَةِ الرِّزْقِ.
ومَرَحاً مَصْدَرٌ وَقَعَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ تَمْشِ. وَمَجِيءُ الْمَصْدَرِ حَالًا كمجيئه صفة يرد مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي الِاتِّصَافِ. وَتَأْوِيلُهُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ لَا تَمْشِ مَارِحًا، أَيْ مِشْيَةَ الْمَارِحِ، وَهِيَ الْمِشْيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى كِبْرِيَاءِ الْمَاشِي بِتَمَايُلٍ وَتَبَخْتُرٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرَحاً مَفْعُولًا مُطْلَقًا مُبَيِّنًا لِفِعْلِ تَمْشِ لِأَنَّ لِلْمَشْيِ أَنْوَاعًا، مِنْهَا: مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ ذُو مَرَحٍ.
فَإِسْنَادُ الْمَرَحِ إِلَى الْمَشْيِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ. وَالْمَشْيُ مَرَحًا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَشْيِ شِدَّةُ وَطْءٍ عَلَى الْأَرْضِ وَتَطَاوُلٌ فِي بَدَنِ الْمَاشِي.
وَجُمْلَةُ إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ اسْتِئْنَاف ناشىء عَنِ النَّهْيِ بِتَوْجِيهِ خِطَابٍ ثَانٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، أَيْ أَنَّكَ أَيُّهَا الْمَاشِي مَرَحًا
وَالِامْتِرَاءُ: الشَّكُّ، أَيِ الَّذِي فِيهِ يَشُكُّونَ، أَيْ يَعْتَقِدُونَ اعْتِقَادًا مَبْنَاهُ الشَّكُّ وَالْخَطَأُ، فَإِنْ عَادَ الْمَوْصُولُ إِلَى الْقَوْلِ فَالِامْتِرَاءُ فِيهِ هُوَ الِامْتِرَاءُ فِي صِدْقِهِ، وَإِنْ عَادَ إِلَى عِيسَى فَالِامْتِرَاءُ فِيهِ هُوَ الِامْتِرَاءُ فِي صِفَاتِهِ بَيْنَ رَافِعٍ وَخَافِضٍ.
وَجُمْلَةُ مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ تَقْرِيرٌ لِمَعْنَى الْعُبُودِيَّةِ، أَوْ تَفْصِيلٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ فَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ بَدَلِ الْبَعْضِ أَوِ الِاشْتِمَالِ مِنْهَا، اكْتِفَاءً بِإِبْطَالِ قَوْلِ النَّصَارَى بِأَنَّ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ، لِأَنَّهُ أَهَمُّ بِالْإِبْطَالِ، إِذْ هُوَ تَقْرِيرٌ لِعُبُودِيَّةِ عِيسَى وَتَنْزِيهٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِ الْأُلُوهِيَّةِ مِنِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ وَمِنْ شَائِبَةِ الشِّرْكِ، وَلِأَنَّهُ الْقَوْلُ النَّاشِئُ عَنِ الْغُلُوِّ فِي التَّقْدِيسِ، فَكَانَ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ صِفَاتِ الْمَدْحِ لِعِيسَى مَا قَدْ يُقَوِّي شُبْهَتَهُمْ فِيهِ بِخِلَافِ قَوْلِ الْيَهُودِ فَقَدْ ظَهَرَ بُطْلَانُهُ بِمَا عُدِّدَ لِعِيسَى مِنْ صِفَاتِ الْخَيْرِ.
وَصِيغَةُ مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ تُفِيدُ انْتِفَاءَ الْوَلَدِ عَنْهُ تَعَالَى بِأَبْلَغِ وَجْهٍ لِأَنَّ لَامَ الْجُحُودِ تُفِيدُ مُبَالَغَةَ النَّفْيِ، وَأَنَّهُ مِمَّا لَا يُلَاقِي وُجُودَ الْمَنْفِيِّ عَنْهُ، وَلِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَتَّخِذَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ لَكَانَ هُوَ خَلَقَهُ، وَاتَّخَذَهُ فَلَمْ يَعْدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ مخلوقاته، فإثبات النبوّة لَهُ خُلْفٌ مِنَ الْقَوْلِ.
وَجُمْلَةُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ، لِإِبْطَالِ شُبْهَةِ النَّصَارَى إِذْ جَعَلُوا تَكْوِينَ إِنْسَانٍ بِأَمْرِ التَّكْوِينِ عَنْ غَيْرِ سَبَبٍ مُعْتَادٍ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمُكَوَّنَ ابْنٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ أُصُولُ الْمَوْجُودَاتِ أَبْنَاءً لِلَّهِ وَإِنْ كَانَ مَا يَقْتَضِيهِ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْخُضُوعِ إِلَى أَمر التكوين.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ فَرَجَعَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، أَيْ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى خِطَابِ بَعْضٍ وَأَعْرَضُوا عَنْ مُخَاطَبَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّور: ٦١] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء: ٢٩]، أَيْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ.
وَضَمَائِرُ الْجَمْعِ مُرَادٌ مِنْهَا التَّوْزِيعُ كَمَا فِي: رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ فَرَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى نَفْسِهِ، أَيْ تَرَكَ التَّأَمُّلَ فِي تُهْمَةِ إِبْرَاهِيمَ وَتَدَبَّرَ فِي دِفَاعِ إِبْرَاهِيمَ.
فَلَاحَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بَرِيءٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ. وَضَمَائِرُ الْجَمْعِ جَارِيَةٌ عَلَى أَصْلِهَا الْمَعْرُوفِ. وَالْجُمْلَةُ مُفِيدَةٌ لِلْحَصْرِ، أَيْ أَنْتُمْ ظَالِمُونَ لَا إِبْرَاهِيمُ لِأَنَّكُمْ أَلْصَقْتُمْ بِهِ التُّهْمَةَ بِأَنَّهُ ظَلَمَ أَصْنَامَنَا مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ نَسْأَلَهَا عَمَّنْ فَعَلَ بِهَا ذَلِكَ، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ كَبِيرُهُمْ.
وَالرُّجُوعُ إِلَى أَنْفُسِهِمْ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ السَّابِقَيْنِ مُسْتَعَارٌ لِشَغْلِ الْبَالِ بِشَيْءٍ عَقِبَ شَغْلِهِ بِالْغَيْرِ، كَمَا يَرْجِعُ الْمَرْءُ إِلَى بَيْتِهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ إِلَى مَكَانِ غَيْرِهِ.
وَفِعْلُ نُكِسُوا مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ، أَيْ نَكَسَهُمْ نَاكِسٌ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ النَّكْسِ فَاعِلٌ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ بُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَجْهُولِ فَصَارَ بِمَعْنَى: انْتَكَسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ. وَهَذَا تَمْثِيلٌ.
وَالنَّكْسُ: قَلْبُ أَعْلَى الشَّيْءِ أَسْفَلَهُ وَأَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ، يُقَالُ: صُلِبَ اللِّصُّ مَنْكُوسًا، أَيْ مَجْعُولًا رَأْسُهُ مُبَاشِرًا لِلْأَرْضِ، وَهُوَ أَقْبَحُ هَيْئَاتِ الْمَصْلُوبِ. وَلَمَّا كَانَ شَأْنُ انْتِصَابِ جِسْمِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا عَلَى قَدَمَيْهِ فَإِذَا نُكِّسَ صَارَ انْتِصَابُهُ كَأَنَّهُ عَلَى رَأْسِهِ، فَكَانَ قَوْلُهُ
هُنَا نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ تَمْثِيلًا لِتَغَيُّرِ رَأْيِهِمْ عَنِ الصَّوَابِ كَمَا قَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ إِلَى مُعَاوَدَةِ الضَّلَالِ بِهَيْئَةِ مَنْ تَغَيَّرَتْ أَحْوَالُهُمْ مِنَ الِانْتِصَابِ عَلَى الْأَرْجُلِ إِلَى الِانْتِصَابِ عَلَى الرُّؤُوسِ مَنْكُوسِينَ. فَهُوَ مِنْ تَمْثِيلِ الْمَعْقُولِ
وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَذَابٌ مُسْتَقْبَلٌ. وَالْأَرْجَحُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عَذَابُ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ عَذَابُ الْجُوعِ.
وَقِيلَ: عَذَابُ الْآخِرَةِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَابُ حَقِيقَةً وَهُوَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: ٧١].
وَالْإِبْلَاسُ: شِدَّةُ الْيَأْسِ مِنَ النَّجَاةِ. يُقَالُ: أَبْلَسَ، إِذَا ذَلَّ وَيَئِسَ مِنَ التَّخَلُّصِ، وَهُوَ مُلَازِمٌ لِلْهَمْزَةِ وَلَمْ يَذْكُرُوا لَهُ فِعْلًا مُجَرَّدًا. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَلَاسِ كَسَحَابٍ وَهُوَ الْمِسْحُ، وَأَنَّ أَصْلَ أَبْلَسَ صَارَ ذَا بَلَاسٍ. وَكَانَ شِعَارَ مَنْ زَهِدُوا فِي النَّعِيمِ. يُقَالُ: لَبِسَ الْمُسُوحَ، إِذَا تَرَهَّبَ.
وَهُنَا انْتَهَتِ الْجُمَلُ الْمُعْتَرِضَةُ الْمُبْتَدَأَةُ بِجُمْلَةِ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [الْمُؤْمِنُونَ:
٢٣] وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهَا مِنْ قَوْلِهِ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٤] إِلَى قَوْلِهِ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [٧٨]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٧٨]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (٧٨)
هَذَا رُجُوعٌ إِلَى غَرَضِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِصِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالِامْتِنَانِ بِمَا مَنَحَ النَّاسَ مِنْ نِعْمَةٍ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ بِتَخْصِيصِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَذَلِكَ قَدِ انْتَقَلَ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
[الْمُؤْمِنُونَ: ٢٢] فَانْتَقَلَ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِآيَةِ فُلْكِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأُتْبِعَ بِالِاعْتِبَارِ بِقَصَصِ أَقْوَامِ الرُّسُلِ عَقِبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
[الْمُؤْمِنُونَ: ٢٢] فَالْجُمْلَةُ إِمَّا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً [الْمُؤْمِنُونَ: ٢١] وَالْغَرَضُ وَاحِدٌ وَمَا بَيْنَهُمَا انْتِقَالَاتٌ.
وَإِمَّا مُسْتَأْنَفَةٌ رُجُوعًا إِلَى غَرَضِ الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٣].
وَفِي هَذَا الِانْتِقَالِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ ثُمَّ الرُّجُوعُ إِلَى الْغَرَضِ تَجْدِيدٌ لِنَشَاطِ الذِّهْنِ وَتَحْرِيكٌ لِلْإِصْغَاءِ إِلَى الْكَلَامِ وَهُوَ مِنْ أَسَالِيبِ كَلَامِ
لِيُحَذِّرَ الْمُخَاطِبُونَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَ الْمُكَذِّبِينَ. وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ تَبْيِينٌ لِبَعْضِ مَا نَادَى بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الْبَرَاهِينِ.
وَإِذْ قَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَدِلَّةُ مِنَ الْمَثُلَاتِ قُصِدَ ذِكْرُ كَثِيرٍ اشْتُهِرَ مِنْهَا وَلَمْ يُقْتَصَرْ عَلَى حَادِثَةٍ وَاحِدَة لِأَن الدّلَالَة غَيْرَ الْعَقْلِيَّةِ يَتَطَّرَقُهَا احْتِمَالُ عَدَمِ الْمُلَازَمَةِ بِأَنْ يَكُونَ مَا أَصَابَ قَوْمًا مِنْ أُولَئِكَ عَلَى وَجْهِ الصُّدْفَةِ وَالِاتِّفَاقِ فَإِذَا تَبَيَّنَ تَكَرُّرُ أَمْثَالِهَا ضَعُفَ احْتِمَالُ الِاتِّفَاقِيَّةِ، لِأَنَّ قِيَاسَ التَّمْثِيلِ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ إِلَّا بِانْضِمَامِ مُقَوِّمَاتٍ لَهُ مِنْ تَوَاتَرٍ وَتَكَرُّرٍ.
وَإِنَّمَا ابْتُدِئَ بِذِكْرِ قِصَّةِ مُوسَى ثُمَّ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى خِلَافِ تَرْتِيبِ حِكَايَةِ الْقَصَصِ الْغَالِبِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ جَعْلِهَا عَلَى تَرْتِيبِ سَبْقِهَا فِي الزَّمَانِ، لَعَلَّهُ لِأَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي إِلْحَاحِهِمْ عَلَى إِظْهَارِ آيَاتٍ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي الْكَائِنَاتِ زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا إِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ فَضُرِبَ لَهُمُ الْمَثَلُ بِمُكَابَرَةِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فِي آيَاتِ مُوسَى إِذْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ مُبِينٌ [يُونُس: ٢] وَعُطِفَ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى عَطْفَ جُمْلَةٍ على جملَة: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ [الشُّعَرَاء: ٧] بِتَمَامِهَا.
وَيَكُونُ إِذْ اسْمَ زَمَانٍ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ إِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ فِي الْقِصَّةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ [الشُّعَرَاء: ٦٩]. وَفِي هَذَا الْمُقَدَّرِ تَذْكِيرٌ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَا يُسَلِّيهِ عَمَّا يَلْقَاهُ مِنْ قَوْمِهِ.
وَنِدَاءُ اللَّهِ مُوسَى الْوَحْيُ إِلَيْهِ بِكَلَامٍ سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ مَلَكٍ.
جملَة: أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَفْسِيرٌ لِجُمْلَةِ: نَادَى، وأَنِ تَفْسِيرِيَّةٌ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ سَوْقِ هَذِهِ الْقِصَّةِ هُوَ الْمَوْعِظَةُ بِعَاقِبَةِ الْمُكَذِّبِينَ وَذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشُّعَرَاء: ٦٣- ٦٨]. وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى إِلَخْ فَهُوَ تَفْصِيلٌ لِأَسْبَابِ الْمَوْعِظَةِ بِذِكْرِ دَعْوَةِ مُوسَى إِلَى مَا أُمِرَ بِإِبْلَاغِهِ وَإِعْرَاضِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَمَا عَقِبَ ذَلِكَ إِلَى الْخَاتِمَةِ.
وَاسْتِحْضَارُ قَوْمِ فِرْعَوْنَ بِوَصْفِهِمْ بِالْقَوْمِ الظَّالِمِينَ إِيمَاءٌ إِلَى عِلَّةِ الْإِرْسَالِ. وَفِي هَذَا الْإِجْمَالِ تَوْجِيهُ نَفْسِ مُوسَى لِتَرَقُّبِ تَعْيِينِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ بِمَا يُبَيِّنُهُ، وَإِثَارَةٌ لِغَضَبِ
أَنْزَلْتَ إِلَيَّ) بِمَنْزِلَةِ الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ لِتُلَائِمَ قَوْلَهُ فَقِيرٌ أَيْ فَقِيرٌ لِذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ الْخَيْرِ، أَيْ لِأَمْثَالِهِ.
وَأَحْسَنُ خَيْرٍ لِلْغَرِيبِ وُجُودُ مَأْوًى لَهُ يَطْعَمُ فِيهِ وَيَبِيتُ وَزَوْجَةٌ يَأْنَسُ إِلَيْهَا وَيَسْكُنُ.
فَكَانَ اسْتِجَابَةُ اللَّهِ لَهُ بِأَنْ أَلْهَمَ شُعَيْبًا أَنْ يُرْسِلَ وَرَاءَهُ لِيُنْزِلَهُ عِنْدَهُ وَيُزَوِّجَهُ بِنْتَهُ، كَمَا أَشْعَرَتْ بِذَلِكَ فَاءُ التَّعْقِيبِ فِي قَوْلِهِ فَجاءَتْهُ إِحْداهُما [الْقَصَص: ٢٥].
[٢٥]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٢٥]
فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥)
عَرَفْتَ أَنَّ الْفَاءَ تُؤْذِنُ بِأَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ لَهُ فَقَيَّضَ شُعَيْبًا أَنْ يُرْسِلَ وَرَاءَ مُوسَى لِيُضَيِّفَهُ وَيُزَوِّجَهُ بِنْتَهُ، فَذَلِكَ يَضْمَنُ لَهُ أُنْسًا فِي دَارِ غُرْبَةٍ وَمَأْوًى وَعَشِيرًا صَالِحًا. وَتُؤْذِنُ الْفَاءُ أَيْضًا بِأَنَّ شُعَيْبًا لَمْ يَتَرَيَّثْ فِي الْإِرْسَالِ وَرَاءَهُ فَأَرْسَلَ إِحْدَى الْبِنْتَيْنِ اللَّتَيْنِ سَقَى لَهُمَا وَهِيَ
(صَفُّورَةُ) فَجَاءَتْهُ وَهُوَ لَمْ يَزَلْ عَنْ مَكَانِهِ فِي الظِّلِّ.
وَذَكَرَ تَمْشِي لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ عَلَى اسْتِحْياءٍ وَإِلَّا فَإِنَّ فِعْلَ (جَاءَتْهُ) مُغْنٍ عَنْ ذِكْرِ تَمْشِي.
وعَلَى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ مُسْتَعَارَةٌ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الْوَصْفِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا مُسْتَحْيِيَةٌ فِي مَشْيِهَا، أَيْ تَمْشِي غَيْرَ مُتَبَخْتِرَةٍ وَلَا مُتَثَنِّيَةٍ وَلَا مُظْهِرَةٍ زِينَةً. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهَا كَانَتْ سَاتِرَةً وَجْهَهَا بِثَوْبِهَا، أَيْ لِأَنَّ سَتْرَ الْوَجْهِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهَا وَلَكِنَّهُ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَيَاءِ.
وَالِاسْتِحْيَاءُ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَيَاءِ مِثْلُ الِاسْتِجَابَةِ قَالَ تَعَالَى وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ إِلَى قَوْلِهِ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النُّور: ٣١].
وَجُمْلَةُ قالَتْ بَدَلٌ مِنْ (جَاءَتْهُ). وَإِنَّمَا بَيَّنَتْ لَهُ الْغَرَضَ مِنْ دَعْوَتِهِ مُبَادَرَةً بِالْإِكْرَامِ.
وَالْجَزَاءُ: الْمُكَافَأَةُ عَلَى عَمَلٍ حسن أَو سيّىء بِشَيْءٍ مِثْلِهِ فِي الْحُسْنِ أَوِ الْإِسَاءَةِ،
تُقْبَلْ صَدَقَةُ أَحَدٍ وَرَحِمُهُ مُحْتَاجَةٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: حَقُّ ذِي الْقُرْبَى الْمُوَاسَاةُ فِي الْيُسْرِ، وَقَوْلٌ مَيْسُورٌ فِي الْعُسْرِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مُعْظَمُ مَا قُصِدَ أَمْرُ الْمَعُونَةِ بِالْمَالِ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ»
، وَلِلْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ حَقٌّ، وَبَيِّنٌ أَنَّ حَقَّ هَذَيْنِ فِي الْمَالِ اهـ. أَقُولُ وَلِذَلِكَ قَالَ جَمْعٌ كَثِيرٌ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَقَالَ فَرِيقٌ: لَمْ تُنْسَخْ بَلْ لِلْقَرِيبِ حَقٌّ فِي الْبِرِّ عَلَى كُلِّ حَالٍ، أَيْ لَا نَسْخَ فِي جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ بَلْ نَسَخَ بَعْضَهَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ وَبَقِيَ مَا عَدَاهُ. قُلْتُ: وَمَا بَقِيَ غَيْرَ مَنْسُوخٍ مُخْتَلِفَةٌ أَحْكَامُهُ، وَهُوَ مُجْمَلٌ تُبَيِّنُهُ أَدِلَّةٌ أُخْرَى مُتَفَرِّقَةٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ.
والْقُرْبى: قُرْبُ النَّسَبِ وَالرَّحِمِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٣٦]. والْمِسْكِينَ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ [٦٠].
وابْنَ السَّبِيلِ: الْمُسَافِرُ الْمُجْتَازُ بِالْقَرْيَةِ أَوْ بِالْحَيِّ.
وَوَقَعَ الْحَقُّ مُجْمَلًا وَالْحَوَالَةُ فِي بَيَانِهِ عَلَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ وَعَلَى مَا يُبَيِّنُهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَتِ الصَّدَقَةُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَاجِبَةً عَلَى الْجُمْلَةِ مَوْكُولَةً إِلَى حِرْصِ الْمُؤْمِنِ.
وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَيْهَا اسْمُ الزَّكَاةِ فِي آيَاتٍ مَكِّيَّةٍ كَثِيرَةٍ، وَقُرِنَتْ بِالصَّلَاةِ فَالْمُرَادُ بِهَا فِي تِلْكَ الْآيَاتِ الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ وَكَانَتْ غَيْرَ مَضْبُوطَةٍ بِنُصُبٍ ثُمَّ ضُبِطَتْ بِأَصْنَافٍ وَنُصُبٍ وَمَقَادِيرَ
مُخْرَجَةٍ عَنْهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ». وَإِنَّمَا ضُبِطَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَصَارَ مَا عَدَاهَا مِنَ الصَّدَقَةِ غَيْرَ وَاجِبٍ. وَقُصِرَ اسْمُ الزَّكَاةِ عَلَى الْوَاجِبَةِ وَأُطْلِقَ عَلَى مَا عَدَاهَا اسْمُ الصَّدَقَةِ أَوِ الْبِرِّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَجِمَاعُ حَقِّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ الْمُوَاسَاةُ بِالْمَالِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ لَهُمْ. وَكَانَ هَذَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ بِفَرْضِ الزَّكَاةِ، ثُمَّ إِنَّ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ حَقًّا فَحَقُّ ذِي الْقُرْبَى يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ حَاجَتِهِ فَلِلْغَنِيِّ حَقُّهُ فِي الْإِهْدَاءِ تَوَدُّدًا، وَلِلْمُحْتَاجِ حَقٌّ أَقْوَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ ذُو الْقُرَابَةِ الضَّعِيفُ الْمَالِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ بِهِ ضَعْفُهُ مَبْلَغَ الْمَسْكَنَةِ بِقَرِينَةِ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِالْحَقِّ، وَبِقَرِينَةِ مُقَابلَته بقوله لتربوا فِي أَمْوالِ النَّاسِ [الرّوم: ٣٩] عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي تَفْسِيرِهِ. وَأَمَّا إِعْطَاءُ
وَقَدِ اسْتَحْسَنَ أَيِمَّةُ السَّلَفِ أَنْ يُجْعَلَ الدُّعَاءُ بِالصَّلَاةِ مَخْصُوصًا بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنْ مَالِكٍ: لَا يُصَلَّى عَلَى غَيْرِ نَبِيئِنَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. يُرِيدُ أَنَّ تِلْكَ هِيَ السُّنَّةُ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنَّ الصَّلَاةَ خَاصَّةٌ بِالنَّبِيئِينَ كُلِّهِمْ.
وَأَمَّا التَّسْلِيمُ فِي الْغَيْبَةِ فَمَقْصُورٌ عَلَيْهِ وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ لَا يُشْرِكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ [الصافات: ٧٩]، وَقَوْلِهِ:
سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ [الصافات: ١٣٠]، سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ [الصافات: ١٢٠]، سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ [الصافات: ١٠٩].
وَأَنَّهُ يَجُوزُ إِتْبَاعُ آلِهِمْ وَأَصْحَابِهِمْ وَصَالِحِي الْمُؤْمِنِينِ إِيَّاهُمْ فِي ذَلِكَ دُونَ اسْتِقْلَالٍ.
هَذَا الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ اصْطِلَاحُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَمْ يَقْصِدُوا بِذَلِكَ تَحْرِيمًا وَلَكِنَّهُ اصْطِلَاحٌ وَتَمْيِيزٌ لِمَرَاتِبِ رِجَالِ الدِّينِ، كَمَا قَصَرُوا الرِّضَى عَلَى الْأَصْحَابِ وَأَيِمَّةِ الدِّينِ، وَقَصَرُوا كَلِمَاتِ الْإِجْلَالِ نَحْوَ: تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَجَلَّ جَلَالُهُ، عَلَى الْخَالِقِ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ.
وَأَمَّا الشِّيعَةُ فَإِنَّهُمْ يَذْكُرُونَ التَّسْلِيمَ عَلَى عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَآلِهِمَا، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِعَمَلِ السَّلَفِ فَلَا يَنْبَغِي اتِّبَاعُهُمْ فِيهِ لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِهِ الْغَضَّ مِنَ الْخُلَفَاءِ وَالصَّحَابَةِ.
وَانْتَصَبَ تَسْلِيماً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ لِ سَلِّمُوا وَإِنَّمَا لَمْ يُؤَكِّدِ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ بِمَصْدَرٍ فَيُقَالُ: صَلُّوا عَلَيْهِ صَلَاةً، لِأَنَّ الصَّلَاةَ غَلَبَ إِطْلَاقُهَا عَلَى مَعْنَى الِاسْمِ دُونَ الْمَصْدَرِ، وَقِيَاسُ الْمَصْدَرِ التَّصْلِيَةُ وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّهُ اشْتُهِرَ فِي الْإِحْرَاقِ، قَالَ تَعَالَى: وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ [الْوَاقِعَة: ٩٤]، عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ قَدْ حَصَلَ تَأْكِيدُهُ بِالْمَعْنَى لَا بِالتَّأْكِيدِ الِاصْطِلَاحِيِّ فَإِنَّ التَّمْهِيدَ لَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيءِ مُشِيرٌ إِلَى التَّحْرِيضِ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِشَأْنِ الله وَمَلَائِكَته.
[٥٧]
[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : آيَة ٥٧]
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧)
لَمَّا أَرْشَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى تَنَاهِي مَرَاتِبِ حُرْمَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكْرِيمِهِ وَحَذَّرَهُمْ
وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ لَازِمُهُ وَهُوَ التَّعْجِيبُ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ اخْتُصَّ بِكُمْ، فَ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ مُبْتَدَأٌ ولَكُمْ خَبَرٌ عَنْهُ.
وَجُمْلَةُ لَا تَناصَرُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ لَكُمْ وَهِيَ مَنَاطُ الِاسْتِفْهَامِ، أَيْ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ تَسْتَوْجِبُ التَّعَجُّبَ مِنْ عَدَمِ تَنَاصُرِكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا تَناصَرُونَ بِتَخْفِيفِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ. وَقَرَأَهُ الْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ عَلَى إِدْغَامِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى.
وَالْإِضْرَابُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ بَلْ إضراب لإبطال إِمْكَان التَّنَاصُرِ بَيْنَهُمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَوَهَّمُهُ السَّمْعُ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْإِضْرَابُ تَأْكِيدًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ مِنَ التَّعْجِيزِ.
وَالِاسْتِسْلَامُ: الْإِسْلَامُ الْقَوِيُّ، أَيْ إِسْلَامُ النَّفْسِ وَتَرْكُ الْمُدَافَعَةِ فَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي أَسْلَمَ.
وَذَكَرَ الْيَوْمَ لِإِظْهَارِ النِّكَايَةِ بِهِمْ، أَيْ زَالَ عَنْهُمْ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ تَنَاصُرٍ وَتَطَاوُلٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ الْيَوْمِ، أَيْ فِي الدُّنْيَا إِذْ كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ [الْقَمَر: ٤٤] وَقَدْ قَالَهَا أَبُو جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ، أَيْ نَحْنُ جَمَاعَةٌ لَا تُغْلَبُ فَكَانَ لِذِكْرِ الْيَوْمِ وَقْعٌ بَدِيعٌ فِي هَذَا الْمقَام.
[٢٧- ٣٢]
[سُورَة الصافات (٣٧) : الْآيَات ٢٧ إِلَى ٣٢]
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١)
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢)
عَطْفٌ على مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات: ٢٦] أَيِ اسْتَسْلَمُوا وَعَادَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِاللَّائِمَةِ وَالْمُتَسَائِلُونَ: الْمُتَقَاوِلُونَ وَهُمْ زُعَمَاءُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَدَهْمَاؤُهُمْ كَمَا تُبَيِّنُهُ حِكَايَةُ تَحَاوُرِهِمْ مِنْ قَوْلِهِ: وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ وَقَوْلِهِ: فَأَغْوَيْناكُمْ إِلَخْ.
أُدْمِجَ مَعَهَا امْتِنَانٌ، وَلِذَلِكَ عُقِّبَ الْأَمْرَانِ بِقَوْلِهِ: وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ.
وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يُرِيكُمْ ويُنَزِّلُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِرَاءَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ وَتَنْزِيلٌ مُتَجَدِّدٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْخِطَابَ مُسْتَأْنَفٌ مُرَادٌ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَلَيْسَ مِنْ بَقِيَّةِ خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ فِي جَهَنَّمَ، وَيَزِيدُ ذَلِكَ تَأْيِيدًا قَوْلُهُ: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [غَافِر: ١٤].
وَعُدِّيَ فِعْلَا (يُرِي) ويُنَزِّلُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِالْآيَاتِ فَآمَنُوا وَانْتَفَعُوا بِالرِّزْقِ فَشَكَرُوا بِالْعَمَلِ بِالطَّاعَاتِ فَجُعِلَ غَيْرُهُمْ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِ الْمَقْصُودِينَ بِالْآيَاتِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: ٤٣] فَجَعَلَ غَيْرَ الْعَالِمِينَ كَمَنْ لَا يَعْقِلُ وَلَا يَفْقَهُ.
وَلِذَلِكَ ذُيِّلَتْ إِرَاءَةُ الْآيَاتِ وَإِنْزَالُ الرِّزْقِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ أَيْ مَنْ آمَنَ وَنَبَذَ الشِّرْكَ لِأَنَّ الشِّرْكَ يَصُدُّ أَهْلَهُ عَنِ الْإِنْصَافِ وَإِعْمَالِ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ.
وَالْإِنَابَةُ: التَّوْبَةُ، وَفِي صِيغَةِ الْمُضَارِعِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِنَابَةَ الْمُحَصِّلَةَ لِلْمَطْلُوبِ هِيَ الْإِنَابَةُ الْمُتَجَدِّدَةُ الْمُتَكَرِّرَةُ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمُخَاطَبُونَ مُنِيبِينَ إِلَى اللَّهِ كَانَ قَوْلُهُ: وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ دَالًّا بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْا الْآيَات واطمأنوا بِهَا وَأَنَّهُمْ عَرَفُوا قَدْرَ النِّعْمَةِ وَشَكَرُوهَا فَكَانَ بَيْنَ الْإِنَابَةِ وَبَيْنَ التَّذَكُّرِ تَلَازُمٌ عَادِيٌّ، وَلِذَلِكَ فَجُمْلَةُ وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ تَذْيِيلٌ.
وَتَقْدِيمُ لَكُمْ عَلَى مَفْعُولِ يُنَزِّلُ وَهُوَ رِزْقاً لِكَمَالِ الِامْتِنَانِ بِأَنْ جُعِلَ تَنْزِيلُ الرِّزْقِ لِأَجْلِ النَّاسِ وَلَوْ أُخِّرَ الْمَجْرُورُ لَصَارَ صِفَةً لِ رِزْقاً فَلَا يُفِيدُ أَنَّ التَّنْزِيلَ لِأَجْلِ الْمُخَاطَبِينَ بَلْ يُفِيدُ أَنَّ الرِّزْقَ صَالِحٌ لِلْمُخَاطَبِينَ وَبَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ بَوْنٌ بَعِيدٌ، فَكَانَ تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي التَّرْتِيبِ عَلَى مَفْعُولِ الْفِعْلِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ حَقَّ الْمَفْعُولِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ الْفِعْلِ وَإِنَّمَا خُولِفَ الظَّاهِرُ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ.
عَلَى مَا كَانَتْ أَصَابَتْهُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْأَحْوَالِ الَّتِي عَرَضَتْ لَهَا فِي مَرْآِنَا قَبْلَ أَنْ تُوضَعَ فِي هَذِهِ الْأَجْسَادِ الَّتِي نَرَاهَا، وَقَدْ عَمُوا عَمَّا يَرُدُّ عَلَى هَذَا الزَّعْمِ مِنْ سُؤَالٍ عَنْ سَبَبِ إِيدَاعِ الْأَرْوَاحِ الشِّرِّيرَةِ فِي الْأَجْسَادِ الْمُيَسَّرَةِ لِلصَّالِحَاتِ وَالْعَكْسِ فَبِئْسَ مَا يفترون.
فَقَوله: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَضمير يَعْفُوا عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ [الشورى: ٢٩]. وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى مَا يَتَرَاءَى لَنَا مِنْ تَخَلُّفِ إِصَابَةِ الْمُصِيبَةِ عَنْ بَعْضِ الَّذِينَ كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ جَرَائِمَ، وَمِنْ ضِدِّ ذَلِكَ مِمَّا تُصِيبُ الْمَصَائِبُ بَعْضَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَهُوَ إِجْمَالٌ يُبَيِّنُهُ عَلَى الْجُمْلَةِ أَنَّ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِنْ أَحْوَالِ عِبَادَهِ وَمَا تَغَلَّبَ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ عَلَى سَيِّئَاتِهِمْ، وَمَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَةُ اللَّهِ مِنْ إِمْهَالِ بَعْضِ عِبَادِهِ أَوْ مِنِ ابْتِلَاءِ بَعْضِ الْمُقَرَّبِينَ، وَتِلْكَ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ وَأَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ تَتَعَارَضُ وَتَتَسَاقَطُ وَالْمُوَفَّقُ يَبْحَثُ عَنِ الْأَسْبَابِ فَإِنْ أَعْجَزَتْهُ فَوَّضَ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى يَعْفُو، أَيْ يَصْفَحُ فَلَا يُصِيبُ كَثِيرًا مِنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ اسْتَحَقُّوا جَزَاءَ السُّوءِ بِعُقُوبَاتٍ دُنْيَوِيَّةٍ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ أَلْيَقُ بِهِمْ. فَالْمُرَادُ هُنَا: الْعَفْوُ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الدُّنْيَا وَلَا عَلَاقَةَ لَهَا بِجَزَاءِ الْآخِرَةِ فَإِنَّ فِيهِ أَدِلَّةً أُخْرَى مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وكَثِيرٍ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ عَنْ خَلْقٍ أَو نَاس.
[٣١]
[سُورَة الشورى (٤٢) : آيَة ٣١]
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١)
عَطْفٌ على جملَة وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: ٣٠]، وَهُوَ احْتِرَاسٌ، أَيْ يَعْفُو عَنْ قُدْرَةٍ فَإِنَّكُمْ لَا تُعْجِزُونَهُ وَلَا تَغْلِبُونَهُ وَلَكِنْ يَعْفُو تَفَضُّلًا.
وَالْمُعْجِزُ: الْغَالِبُ غَيْرَهُ بِانْفِلَاتِهِ مِنْ قَبْضَتِهِ. وَالْمَعْنَى: مَا أَنْتُمْ بِفَالِتِينَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ.
وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ.
الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لَا تَحْسَبْ تَأْخِيرَ مُؤَاخَذَتِهِمْ إِفْلَاتًا من الْعقَاب، فَإِنَّهُ مُرْجَوْنَ إِلَى السَّاعَةِ.
وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ آنِفًا وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [مُحَمَّد: ١٢].
وَالْقَصْرُ الَّذِي أَفَادَهُ الِاسْتِثْنَاءُ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ، نُزِّلَ انْتِظَارُهُمْ مَا يَأْمُلُونَهُ مِنَ الْمَرْغُوبَاتِ
فِي الدُّنْيَا مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ لِضَآلَةِ أَمْرِهِ بَعْدَ أَنْ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَنْتَظِرُونَ فِيمَا يَنْتَظِرُونَ السَّاعَةَ لِأَنَّهُمْ لِتَحَقُّقِ حُلُولِهِ عَلَيْهِمْ جَدِيرُونَ بِأَنْ يَكُونُوا مِنْ مُنْتَظِرِيهَا.
وأَنْ تَأْتِيَهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ السَّاعَةِ. وبَغْتَةً حَالٌ مِنَ السَّاعَةِ قَالَ تَعَالَى: لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الْأَعْرَاف: ١٨٧]. وَالْبَغْتَةُ: الْفَجْأَةُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى: الْمَرَّةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْوَصْفُ، أَيْ مُبَاغِتَةً لَهُمْ.
وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّ السَّاعَةَ مَوْعِدُهُمْ وَأَنَّ السَّاعَةَ قَرِيبَةٌ مِنْهُمْ، فَحَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ يَنْتَظِرُ شَيْئًا فَإِنَّمَا يَكُونُ الِانْتِظَارُ إِذَا اقْتَرَبَ مَوْعِدُ الشَّيْءِ، هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ تَهَكُّمِيَّةٌ.
وَالْفَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَاءُ الْفَصِيحَةِ كَالَّتِي فِي قَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ:
قَالُوا خُرَاسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا | ثُمَّ الْقُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا |
وَالْأَشْرَاطُ: جَمْعُ شَرَطٍ بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ: الْعَلَامَةُ وَالْأَمَارَةُ عَلَى وُجُودِ شَيْءٍ أَوْ عَلَى وَصْفِهِ. وَعَلَامَاتُ السَّاعَةِ هِيَ عَلَامَاتُ كَوْنِهَا قَرِيبَةً. وَهَذَا الْقُرْبُ يُتَصَوَّرُ بِصُورَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا أَنَّ وَقْتَ السَّاعَةِ قَرِيبٌ قُرْبًا نِسْبِيًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى طُولِ مُدَّةِ هَذَا الْعَالَمِ وَمَنْ عَلَيْهِ مِنَ الْخَلْقِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ ابْتِدَاءَ مُشَاهَدَةِ أَحْوَالِ السَّاعَةِ يَحْصُلُ لِكُلِّ أَحَدٍ بِمَوْتِهِ فَإِنَّ رُوحَهُ إِذَا خَلَصَتْ عَنْ جَسَدِهِ شَاهَدَتْ مَصِيرَهَا مُشَاهَدَةً إِجْمَالِيَّةً وَبِهِ فُسِرَّ
حَدِيثُ أَبِيِِ
وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ بِالنِّسْبَةِ لِمَا وُصِفَ فِي عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشَرَفِ مَلَائِكَتِهِ وَشَرَفَ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا تَهَكُّمٌ بِهِمْ وَإِبْطَالٌ لِإِلَهِيَّةِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ بِطَرِيقِ الْفَحْوَى، وَدَلِيلُهُ الْعِيَانُ. وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ «أَرَأَيْتَ» أَنْ تَكُونَ لِلرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ رَضِيُّ الدِّينِ.
وَتَكُونُ جُمْلَةُ أَلَكُمُ الذَّكَرُ إِلَخِ اسْتِئْنَافًا وَارْتِقَاءً فِي الرَّدِّ أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى لِأَنَّ مَضْمُونَهَا مِمَّا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مَزَاعِمُهُمْ، كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ بِنَاتُ اللَّهِ كَمَا حَكَى عَنْهُمُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَسِيَاقُ الْآيَاتِ يَقْتَضِيهِ.
وَيَجُوزُ أَن تكون الرُّؤْيَة عِلْمِيَّةً، أَيْ أَزَعَمْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ، فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي اخْتِصَارًا لِدِلَالَةِ قَوْلِهِ: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَزْعَمْتُمُوهُنَّ بَنَاتِ
اللَّهِ، أَتَجْعَلُونَ لَهُ الْأُنْثَى وَأَنْتُمْ تَبْتَغُونَ الْأَبْنَاءَ الذُّكُورَ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ أَلَكُمُ الذَّكَرُ إِلَخْ بَيَانًا لِلْإِنْكَارِ وَارْتِقَاءً فِي إِبْطَالِ مَزَاعِمِهِمْ، أَيْ أَتَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ خَاصَّةً وَتَغْتَبِطُونَ لِأَنْفُسِكُمْ بِالْبَنِينَ الذُّكُورِ.
وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشْفِ» قَوْلَهُ: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى سَادًّا مَسَدَّ الْمَفْعُول الثَّانِي لفعل «أَرَأَيْتُمْ».
وَأَيْضًا لِمَا كَانَ فِيمَا جَرَى مِنْ صِفَةِ الْوَحْيِ وَمَنَازِلِ الزُّلْفَى الَّتِي حَظِيَ بِهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَظَمَةُ جِبْرِيلَ إِشْعَارٌ بِسِعَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَظِيمِ مَلَكُوتِهِ مِمَّا يُسَجِّلُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي زَعْمِهِمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ أَصْنَامًا مِثْلَ اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ. فَسَادَ زَعْمِهِمْ وَسَفَاهَةَ رَأْيِهِمْ أُعْقِبَ ذِكْرُ دَلَائِلِ الْعَظَمَةِ الْإِلَهِيَّةِ بِإِبْطَالِ إِلَهِيَّةِ أَصْنَامِهِمْ بِأَنَّهَا أَقَلُّ مِنْ مَرْتَبَةِ الْإِلَهِيَّةِ إِذْ تِلْكَ أَوْهَامٌ لَا حَقَائِقَ لَهَا وَلَكِنِ اخْتَرَعَتْهَا مُخَيِّلَاتُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَوَضَعُوا لَهَا أَسْمَاءَ مَا لَهَا حَقَائِقُ، فَفَرَّعَ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى إِلَخْ فَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ تقريريا إنكاريّا، والرؤية عِلْمِيَّةً وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي هُوَ قَوْلُهُ: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها.
وَتَكُونُ جُمْلَةُ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى إِلَخْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْمَفْعُولَيْنِ لِلِارْتِقَاءِ فِي الْإِنْكَارِ، أَيْ وَزَعَمْتُوهُنَّ بَنَاتٍ لِلَّهِ أَوْ وَزَعَمْتُمُ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتٍ لِلَّهِ.
النَّسْجِ الَّذِي حَبَكَ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ، لِيَتَأَتَّى الِابْتِدَاءُ بِضَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ اهْتِمَامًا بِهِ وَلِيَكُونَ مُتَعَلِّقُ الرَّهْبَةِ ذَوَاتِ الْمُسْلِمِينَ لِتَوَقُّعِ بَطْشِهِمْ وَلِيَأْتِيَ التَّمْيِيزُ الْمُحَوَّلُ عَنِ الْفَاعِلِ لِمَا فِيهِ مِنْ خُصُوصِيَّةِ الْإِجْمَالِ مَعَ التَّفْصِيلِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي خُصُوصِيَّةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مَرْيَم: ٤] دُونَ: وَاشْتَعَلَ شَيْبُ رَأْسِي. وَلِيَتَأَتَّى حَذْفُ الْمُضَافِ فِي تَرْكِيبِ مِنَ اللَّهِ، إِذِ التَّقْدِيرُ:
مِنْ رَهْبَةِ اللَّهِ لِأَنَّ حَذْفَهُ لَا يَحْسُنُ إِلَّا إِذَا كَانَ مَوْقِعُهُ مُتَّصِلًا بِلَفْظِ رَهْبَةً، إِذْ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: لَرَهْبَتُهُمْ أَشَدُّ مِنَ اللَّهِ. وَانْظُرْ مَا تَقَدَّمَ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٧٧].
فَالْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَخْشُوا اللَّهَ. أَمَّا الْيَهُودُ فَلِأَنَّهُمْ أَهْلُ دِينٍ فَهُمْ يَخَافُونَ اللَّهَ وَيَحْذَرُونَ عِقَابَ الدُّنْيَا وَعِقَابَ الْآخِرَةِ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَهُمْ مُشْرِكُونَ وَهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْإِلَهُ الْأَعْظَمُ، وَأَنَّهُ أَوْلَى الْمَوْجُودَاتِ بِأَنْ يُخْشَى لِأَنَّهُ رَبُّ الْجَمِيعِ وَهُمْ لَا يُثْبِتُونَ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ فَخَشِيَتْهُمُ اللَّهَ قَاصِرَةٌ عَلَى خَشْيَةِ عَذَابِ الدُّنْيَا مِنْ خَسْفٍ وَقَحْطٍ وَاسْتِئْصَالٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ خَشْيَةٌ. وَهَذَا بِشَارَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ اللَّهَ أَوْقَعَ الرُّعْبَ مِنْهُمْ فِي نُفُوسِ عَدُوِّهُمْ كَمَا
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ»
. وَوَجْهُ وَصْفِ الرَّهْبَةِ بِأَنَّهَا فِي صُدُورِهِمُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهَا رَهْبَةٌ جَدُّ خَفِيَّةٍ، أَيْ أَنَّهُمْ يَتَظَاهَرُونَ بِالِاسْتِعْدَادِ لِحَرْبِ الْمُسْلِمِينَ وَيَتَطَاوَلُونَ بِالشَّجَاعَةِ لِيَرْهَبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَمَا هُمْ بِتِلْكَ الْمَثَابَةِ فَأَطْلَعَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دَخِيلَتِهِمْ فَلَيْسَ قَوْلُهُ: فِي صُدُورِهِمْ وَصْفًا كَاشِفًا.
وَإِذْ قَدْ حَصُلَتِ الْبِشَارَةُ مِنَ الْخَبَرِ عَنِ الرُّعْبِ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ ثُنِيَ عَنَانُ الْكَلَامِ إِلَى مَذَمَّةِ هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءِ مِنْ جَرَّاءِ كَوْنِهِمْ أَخْوَفَ لِلنَّاسِ مِنْهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قِلَّةٍ فَقْهِ نُفُوسِهِمْ، وَلَوْ فَقِهُوا لَكَانُوا أَخْوَفَ لِلَّهِ مِنْهُمْ لِلنَّاسِ فَنَظَرُوا فِيمَا يُخَلِّصُهُمْ مِنْ عِقَابِ التَّفْرِيطِ فِي النَّظَرِ فِي دَعْوَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلِمُوا صِدْقَهُ فَنَجَوْا مِنْ عَوَاقِبِ كُفْرِهِمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَكَانَتْ رَهْبَتُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هَذِهِ الرَّهْبَةُ مُصِيبَةً عَلَيْهِمْ وَفَائِدَةً لِلْمُسْلِمِينَ.
فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْبَيَانِ وَمُبَيِّنِهِ.
وَالْمَغْرَمُ: مَا يُفْرَضُ عَلَى الْمَرْءِ أَدَاؤُهُ مِنْ مَالِهِ لِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَا جِنَايَةٍ.
وَالْمُثْقَلُ: الَّذِي حُمِلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ثَقِيلٌ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْإِشْفَاقِ.
وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ وَالتَّسَبُّبِ، أَيْ فَيَتَسَبَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّكَ شَقَقْتَ عَلَيْهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ اعْتِذَارًا مِنْهُمْ عَنْ عَدَمِ قَبُولِ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ.
ومِنْ مَغْرَمٍ مُتَعَلِّقٌ بِ مُثْقَلُونَ، ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَهُوَ ابْتِدَاءٌ مَجَازِيٌّ بِمَعْنَى التَّعْلِيلِ، وَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ عَلَى عَامِلِهِ لِلْاهْتِمَامِ بِمُوجِبِ الْمَشَقَّةِ قَبْلَ ذِكْرِهَا مَعَ الرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[٤٧]
[سُورَة الْقَلَم (٦٨) : آيَة ٤٧]
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧)
إِضْرَابٌ آخَرُ انْتَقَلَ بِهِ مِنْ مَدَارِجِ إِبْطَالِ مَعَاذِيرَ مَفْرُوضَةٍ لَهُمْ أَن يَتَمَسَّكُوا بِبَعْضِهَا تَعِلَّةً لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ قَبُولِ دَعْوَةِ الْقُرْآنِ، قَطْعًا لِمَا عَسَى أَنْ يَنْتَحِلُوهُ مِنَ الْمَعَاذِيرِ عَلَى طَرِيقَةِ الْاسْتِقْرَاءِ وَمَنْعِ الْخُلُوِّ.
وَقَدْ جَاءَتِ الْإِبْطَالَاتُ السَّالِفَةُ مُتَعَلِّقَةً بِمَا يُفْرَضُ لَهُمْ مِنَ الْمَعَاذِيرِ الَّتِي هِيَ مِنْ قَبِيلِ مُسْتَنَدَاتٍ مِنَ الْمُشَاهَدَاتِ، وَانْتُقِلَ الْآنَ إِلَى إِبْطَالٍ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ، وَهُوَ إِبْطَالُ حُجَّةٍ مَفْرُوضَةٍ يَسْتَنِدُونَ فِيهَا إِلَى عِلْمِ شَيْءٍ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ الْمُغَيَّبَاتِ عَنِ النَّاسِ. وَهِيَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْغَيْبِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣]. وَقَدِ اسْتَقَرَّ عِنْدَ النَّاسِ كُلِّهِمْ أَنَّ أُمُورَ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ أَوْ مَنْ
أَطْلَعَ مِنْ عِبَادِهِ عَلَى بَعْضِهَا.
وَالْكَلَامُ هُنَا عَلَى حَذْفٍ مُضَافٍ، أَيْ أَعِنْدَهُمْ عِلْمُ الْغَيْبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى فِي سُورَةِ النَّجْمِ [٣٥].
فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أَنَّهُ حَصَلَ فِي عِلْمِهِمْ وَمُكْنَتِهِمْ، أَيْ بِاطِّلَاعِ جَمِيعِهِمْ عَلَيْهِ أَوْ بِإِبْلَاغِ كُبَرَائِهِمْ إِلَيْهِمْ وَتَلَقِّيهِمْ ذَلِكَ مِنْهُمْ.
وَتَقْدِيمُ عِنْدَهُمُ عَلَى الْمُبْتَدَإِ وَهُوَ مَعْرِفَةٌ لِإِفَادَةِ الْاخْتِصَاصِ، أَيْ صَارَ عِلْمُ الْغَيْبِ عِنْدَهُمْ لَا عِنْدَ اللَّهِ.
وَمَعْنَى يَكْتُبُونَ: يَفْرِضُونَ وَيُعَيِّنُونَ كَقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [الْبَقَرَة: ١٧٨]
[سُورَة عبس (٨٠) : الْآيَات ١ إِلَى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤)افْتِتَاحُ هَذِهِ السُّورَةِ بِفِعْلَيْنِ مُتَحَمِّلَيْنِ لِضَمِيرٍ لَا مَعَادَ لَهُ فِي الْكَلَامِ تَشْوِيقٌ لِمَا سَيُورَدُ بَعْدَهُمَا، وَالْفِعْلَانِ يُشْعِرَانِ بِأَنَّ الْمَحْكِيَّ حَادِثٌ عَظِيمٌ، فَأَمَّا الضَّمَائِرُ فَيُبَيِّنُ إِبْهَامَهَا قَوْلُهُ:
فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى [عبس: ٦] وَأَمَّا الْحَادِثُ فَيَتَبَيَّنُ مِنْ ذِكْرِ الْأَعْمَى وَمَنِ اسْتَغْنَى.
وَهَذَا الْحَادِثُ سَبَبُ نزُول هَذِه الْآيَات مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْله: بَرَرَةٍ [عبس: ١٦]. وَهُوَ مَا
رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» مُرْسَلًا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: أُنْزِلَتْ عَبَسَ وَتَوَلَّى فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ اسْتَدْنِنِي، وَعند النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ فَجَعَلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرِضُ عَنْهُ (أَيْ عَنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ) وَيُقْبِلُ عَلَى الْآخَرِ، وَيَقُولُ: يَا أَبَا فُلَانٍ هَلْ تَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا فَيَقُولُ: «لَا وَالدِّمَاءِ مَا أَرَى بِمَا تَقول يأسا»، فَأُنْزِلَتْ: عَبَسَ وَتَوَلَّى
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُسْنَدًا عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِقَرِيبٍ مِنْ هَذَا، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَرَوَى الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُوم جَاءَ يستقرىء النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ وَمِثْلُهُ عَنْ قَتَادَةَ.
وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ: «كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ يُنَاجِي عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأَبَا جَهْلٍ، وَالْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ، وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْبِلُ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ يَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ.
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِ الْأَعْمى هُوَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ. قِيلَ: اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَقِيلَ:
اسْمُهُ عَمْرٌو، وَهُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ فِي «الْإِصَابَةِ»، وَهُوَ ابْنُ قَيْسِ بْنِ زَائِدَةَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ مِنْ قُرَيْشٍ.
وَأُمُّهُ عَاتِكَةُ، وَكُنِّيَتْ أَمَّ مَكْتُومٍ لِأَنَّ ابْنَهَا عَبْدَ اللَّهِ وُلِدَ أَعْمَى وَالْأَعْمَى يُكَنَّى