الْحَرَمَيْنِ وَعَلَيْهِ الْجَاحِظُ وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ كَمَا فِي «الْمَوَاقِفِ»، فَالتَّعْلِيلُ لِعَجْزِ الْمُتَحَدَّيْنَ بِهِ بِأَنَّهُ بُلُوغُ الْقُرْآنِ فِي دَرَجَاتِ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ مَبْلَغًا تَعْجِزُ قُدْرَةُ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ،
وَهُوَ الَّذِي نَعْتَمِدُهُ وَنَسِيرُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ.
وَقَدْ بَدَا لِي دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى هَذَا وَهُوَ بَقَاءُ الْآيَاتِ الَّتِي نُسِخَ حُكْمُهَا وَبَقِيَتْ مَتْلُوَّةً مِنَ الْقُرْآنِ وَمَكْتُوبَةً فِي الْمَصَاحِفِ فَإِنَّهَا لَمَّا نُسِخَ حُكْمُهَا لَمْ يَبْقَ وَجْهٌ لِبَقَاءِ تِلَاوَتِهَا وَكَتْبِهَا فِي الْمَصَاحِفِ إِلَّا مَا فِي مِقْدَارِ مَجْمُوعِهَا مِنَ الْبَلَاغَةِ بِحَيْثُ يَلْتَئِمُ مِنْهَا مِقْدَارُ ثَلَاثِ آيَاتٍ مُتَحَدًّى بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا مِثَالُ ذَلِكَ آيَةُ الْوَصِيَّةِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ.
وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّحَدِّي بِسُورَةٍ أَيْ وَإِنْ كَانَتْ قَصِيرَةً دُونَ أَنْ يَتَحَدَّاهُمْ بِعَدَدٍ مِنَ الْآيَاتِ لِأَنَّ مِنْ أَفَانِينِ الْبَلَاغَةِ مَا مَرْجِعُهُ إِلَى مَجْمُوعِ نَظْمِ الْكَلَامِ وَصَوْغِهِ بِسَبَبِ الْغَرَضِ الَّذِي سِيقَ فِيهِ مِنْ فَوَاتِحِ الْكَلَامِ وَخَوَاتِمِهِ، وَانْتِقَالِ الْأَغْرَاضِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى الْغَرَضِ، وَفُنُونِ الْفَصْلِ، وَالْإِيجَازِ وَالْإِطْنَابِ، وَالِاسْتِطْرَادِ وَالِاعْتِرَاضِ، وَقَدْ جَعَلَ شَرَفُ الدِّينِ الطِّيبِيُّ (١) هَذَا هُوَ الْوَجْهَ لِإِيقَاعِ التَّحَدِّي بِسُورَةٍ دُونَ أَنْ يُجْعَلَ بِعَدَدٍ مِنَ الْآيَاتِ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ تَفْصِيلُ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ لَا يَحْصُرُهُ الْمُتَأَمِّلُ كَانَ عَلَيْنَا أَنْ نَضْبُطَ مَعَاقِدَهَا الَّتِي هِيَ مِلَاكُهَا، فَنَرَى مِلَاكَ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ رَاجِعًا إِلَى ثَلَاثِ جِهَاتٍ:
الْجِهَةُ الْأُولَى:
بُلُوغُهُ الْغَايَةَ الْقُصْوَى مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَبْلُغَهُ الْكَلَامُ الْعَرَبِيُّ الْبَلِيغُ مِنْ حُصُولِ كَيْفِيَّاتٍ فِي نَظْمِهِ مُفِيدَةٍ مَعَانِيَ دَقِيقَةً وَنُكَتًا مِنْ أَغْرَاضِ الْخَاصَّةِ مِنْ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ مِمَّا لَا يُفِيدُهُ أَصْلُ وَضْعِ اللُّغَةِ، بِحَيْثُ يَكْثُرُ فِيهِ ذَلِكَ كَثْرَةً لَا يُدَانِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْبُلَغَاءِ مِنْ شُعَرَائِهِمْ وَخُطَبَائِهِمْ.
الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ:
مَا أَبْدَعَهُ الْقُرْآنُ مِنْ أَفَانِينِ التَّصَرُّفِ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا فِي أَسَالِيبِ الْعَرَبِ، وَلكنه غير خارح عَمَّا تَسْمَحُ بِهِ اللُّغَةُ.
الْجِهَةُ الثَّالِثَةُ:
مَا أُودِعَ فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الْحِكَمِيَّةِ وَالْإِشَارَاتِ إِلَى الْحَقَائِقِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ مِمَّا لَمْ تَبْلُغْ إِلَيْهِ عُقُولُ الْبَشَرِ فِي عَصْرِ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَفِي عُصُورٍ بَعْدَهُ مُتَفَاوِتَةٍ، وَهَذِهِ الْجِهَةُ أَغْفَلَهَا الْمُتَكَلِّمُونَ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ مِنْ عُلَمَائِنَا مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ وَالْقَاضِي عِيَاضٍ.
_________
(١) اسْمه على الْأَصَح الْحُسَيْن، وَقيل: الْحسن بن مُحَمَّد الطَّيِّبِيّ- بِكَسْر الطَّاء وَسُكُون الْيَاء-، الشَّافِعِي الْمُتَوفَّى سنة ٧٤٣ هـ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، (إِنَّ) لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَالنَّاسِ مَعْلُومَةٌ مُتَقَرِّرَةٌ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَقَدْ كَانُوا فِي الْحَجِّ يَرْمُونَ الْجِمَارَ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يَرْجُمُونَ الشَّيْطَانَ، أَوْ تُجْعَلُ (إِنَّ) لِلتَّأْكِيدِ بِتَنْزِيلِ غَيْرِ الْمُتَرَدِّدِ فِي الْحُكْمِ
مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ أَوِ الْمُنْكَرِ لِأَنَّهُمْ لِاتِّبَاعِهِمُ الْإِشَارَاتِ الشَّيْطَانِيَّةَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُنْكِرُ عَدَاوَتَهُ كَمَا قَالَ عَبْدَةُ:
إِنَّ الَّذِينَ تُرَوْنَهُمْ إِخْوَانَكُمْ | يَشْفِي غَلِيلَ صُدُورِهِمْ أَنْ تُصْرَعُوا |
بَكِّرَا صَاحِبَيَّ قَبْلَ الْهَجِيرِ | إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ |
وَإِنَّمَا كَانَ عَدُوًّا لِأَنَّ عُنْصُرَ خِلْقَتِهِ مُخَالِفٌ لِعُنْصُرِ خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ فَاتِّصَالُهُ بِالْإِنْسَانِ يُؤْثِرُ خِلَافَ مَا يُلَائِمُهُ، وَقَدْ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ تَمْثِيلُ الشَّيْطَانِ فِي صُورَةِ الْعَدُوِّ الْمُتَرَبِّصِ بِنَا الدَّوَائِرَ لِإِثَارَةِ دَاعِيَةِ مُخَالَفَتِهِ فِي نُفُوسِنَا كَيْ لَا نَغْتَرَّ حِينَ نَجِدُ الْخَوَاطِرَ الشِّرِّيرَةَ فِي أَنْفُسِنَا فَنَظُنُّهَا مَا نَشَأَتْ فِينَا إِلَّا وَهِيَ نَافِعَةٌ لَنَا لِأَنَّهَا تَوَلَّدَتْ مِنْ نُفُوسِنَا، وَلِأَجْلِ هَذَا أَيْضًا صُوِّرَتْ لَنَا النَّفْسُ فِي صُورَةِ الْعَدُوِّ فِي مِثْلِ هَاتِهِ الْأَحْوَالِ.
وَمَعْنَى الْمُبِينِ الظَّاهِرُ الْعَدَاوَةِ مِنْ أَبَانَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى بَانَ وَلَيْسَ مِنْ أَبَانَ الَّذِي هَمْزَتُهُ لِلتَّعْدِيَةِ بِمَعْنَى أَظْهَرَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يُظْهِرُ لَنَا الْعَدَاوَةَ بَلْ يُلَبِّسُ لَنَا وَسْوَسَتَهُ فِي لِبَاسِ النَّصِيحَةِ أَوْ جَلْبِ الْمُلَائِمِ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ اللَّهُ وَلِيًّا فَقَالَ: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً [النِّسَاء: ١١٩]، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ فَضَحَهُ فَلَمْ يَبْقَ مُسْلِمٌ تَرُوجُ عَلَيْهِ تَلْبِيسَاتُهُ حَتَّى فِي حَالِ اتِّبَاعِهِ لِخُطْوَاتِهِ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا وَسَاوِسُهُ الْمُضِرَّةُ إِلَّا أَنَّهُ تَغْلِبُهُ شَهْوَتُهُ وَضَعْفُ عَزِيمَتِهِ وَرِقَّةُ دِيَانَتِهِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَيَئُولُ إِلَى كَوْنِهِ عِلَّةً لِلْعِلَّةِ إِذْ يَسْأَلُ السَّامِعُ عَنْ ثُبُوتِ الْعَدَاوَةِ مَعَ عَدَمِ سَبْقِ الْمَعْرِفَةِ وَمَعَ بُعْدِ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَقِيلَ إِنَّما يَأْمُرُكُمْ أَيْ لِأَنَّهُ لَا يَأْمُرُكُمْ إِلَّا بِالسُّوءِ إِلَخْ أَيْ يُحَسِّنُ لَكُمْ مَا فِيهِ مَضَرَّتُكُمْ لِأَنَّ عَدَاوَتَهُ أَمْرٌ خَفِيٌّ عَرَفْنَاهُ مِنْ آثَارِ أَفْعَالِهِ.
وَالْأَمْرُ فِي الْآيَةِ مَجَازٌ عَنِ الْوَسْوَسَةِ وَالتَّزْيِينِ إِذْ لَا يَسْمَعُ أَحَدٌ صِيَغَ أَمْرٍ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ جُمْلَةَ: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ تَمْثِيلِيَّةً بِتَشْبِيهِ حَالِهِ وَحَالِهِمْ فِي التَّسْوِيلِ وَالْوَسْوَسَةِ وَفِي تَلَقِّيهِمْ
وَالضَّمِيرَانِ فِي قَوْلِهِ: وَلْيَتَّقِ، وَقَوْلِهِ: وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَا إِلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ مِنَ الضَّمِيرَيْنِ، أَيْ لَا يُنْقِصْ رَبَّ الدَّيْنِ شَيْئًا حِينَ الْإِمْلَاءِ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَهُوَ عَلَى هَذَا أَمْرٌ لِلْمَدِينِ بِأَنْ يُقِرَّ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَلَا يَغْبِنَ الدَّائِنَ. وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا بَعِيدٌ إِذْ لَا فَائِدَةَ بِهَذِهِ الْوِصَايَةِ فَلَوْ أَخْفَى الْمَدِينُ شَيْئًا أَوْ غَبَنَ لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ رَبُّ الدَّيْنِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ يَحْضُرُهَا كِلَاهُمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرَانِ إِلَى كاتِبٌ بِقَرِينَةِ أَنَّ هَذَا النَّهْيَ أَشَدُّ تَعَلُّقًا بِالْكَاتِبِ فَإِنَّهُ الَّذِي قَدْ يَغْفُلُ عَنْ بَعْضِ مَا وَقَعَ إِمْلَاؤُهُ عَلَيْهِ.
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى الْحَقِّ وَهُوَ حَقٌّ لِكِلَا الْمُتَدَايِنَيْنِ، فَإِذَا بَخَسَ مِنْهُ شَيْئًا أَضَرَّ بِأَحَدِهِمَا لَا مَحَالَةَ، وَهَذَا إِيجَازٌ بَدِيعٌ.
وَالْبَخْسُ فَسَرَّهُ أَهْلُ اللُّغَةِ بِالنَّقْصِ وَيَظْهَرُ أَنَّهُ أَخَصُّ مِنَ النَّقْصِ، فَهُوَ نَقْصٌ بِإِخْفَاءٍ.
وَأَقْرَبُ الْأَلْفَاظِ إِلَى مَعْنَاهُ الْغَبْنُ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: «الْبَخْسُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ هُوَ النَّقْصُ بِالتَّعْيِيبِ وَالتَّزْهِيدِ، أَوِ الْمُخَادَعَةُ عَنِ الْقِيمَةِ، أَوِ الِاحْتِيَالُ فِي التَّزَيُّدِ فِي الْكَيْلِ أَوِ النُّقْصَانُ مِنْهُ» أَيْ عَنْ غَفلَة من صَاحِبِ الْحَقِّ، وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ النَّهْيُ عَنِ النَّقْصِ مِنَ الْحَقِّ عَنْ غَفْلَةٍ مِنْ صَاحِبِهِ، وَلِذَلِكَ نُهِيَ الشَّاهِدُ أَوِ الْمَدِينُ أَوِ الدَّائِنُ، وَسَيَجِيءُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ [الْأَعْرَاف: ٨٥].
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً السَّفِيهُ هُوَ مُخْتَلُّ الْعَقْلِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ [الْبَقَرَة: ١٤٢].
وَالضَّعِيفُ الصَّغِيرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ [الْبَقَرَة: ٢٦٦].
وَالَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ الْعَاجِزُ كَمَنْ بِهِ بَكَمٌ وَعَمًى وَصَمَمٌ جَمِيعًا.
وَوَجْهُ تَأْكِيدِ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي فِعْلِ يُمِلَّ بِالضَّمِيرِ الْبَارِزِ هُوَ التَّمْهِيدُ لِقَوْلِهِ:
فَلْيُمْلِلْ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ النَّاسُ أَنَّ عَجْزَهُ يُسْقِطُ عَنْهُ وَاجِبَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ بِمَا يَسْتَدِينُهُ، وَكَانَ الْأَوْلِيَاءُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَفِي صَدْرِهِ كُبَرَاءَ الْقَرَابَةِ. وَالْوَلِيُّ مَنْ لَهُ وَلَايَةٌ عَلَى السَّفِيهِ وَالضَّعِيفِ وَمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَعُرَفَاءِ الْقَبِيلَةِ،
وَفِي حَدِيثِ
وَهَذَا كَقَوْلِ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ.
وَأَقْبَلْتُ والخطي يخْطر بَينا | لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا |
وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ قَوْلَهُ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ تَمْثِيلًا أَيْ فِعْلُ ذَلِكَ فِعْلُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ وَإِلَيْهِ مَالَ فِي «الْكَشَّافِ»، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْعِلَّةُ هِيَ تَعَلُّقُ عِلْمِ اللَّهِ بِالْحَادِثِ وَهُوَ تَعَلُّقٌ حَادِثٌ، أَيْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مَوْجُودِينَ. قَالَه الْبَيْضَاوِيّ والتفتازانيّ فِي «حَاشِيَةِ الْكَشَّافِ». وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا ظَاهِرُهُ أَيْ لِيَعْلَمَ مَنِ اتَّصَفَ بِالْإِيمَانِ، تَعَيَّنَ التَّأْوِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا لِأَجْلِ لُزُومِ حُدُوثِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ أُحُدٍ حَاصِلٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَمَسَّهُمُ الْقَرْحِ، فَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَرَادَ الْعِلْمَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَهُوَ ثَبَاتُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَعَدَمُ تزلزلهم فِي حَال الشدّة، وَأَشَارَ التفتازانيّ إِلَى أَنَّ تَأْوِيلَ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» ذَلِكَ بِأَنَّهُ وَارِدٌ مورد التَّمْثِيل، نَاظر إِلَى كَوْنِ الْعِلْمِ بِالْمُؤْمِنِينَ حَاصِلًا مِنْ قَبْلُ، لَا لِأَجْلِ التَّحَرُّزِ عَنْ لُزُومِ حُدُوثِ الْعِلْمِ.
وَقَوْلُهُ: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ عَطْفٌ عَلَى الْعِلَّةِ السَّابِقَةِ. وَجَعَلَ الْقَتْلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ اتِّخَاذِ الْقَتْلَى شُهَدَاءَ عِلَّةً مِنْ عِلَلِ الْهَزِيمَةِ، لِأَنَّ كَثْرَةَ الْقَتْلَى هِيَ الَّتِي أَوْقَعَتِ
الْهَزِيمَةَ.
وَالشُّهَدَاءُ هُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ أُحُدٍ، وَعَبَّرَ عَنْ تَقْدِير الشَّهَادَة لَهُم بِالِاتِّخَاذِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فَضِيلَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَاقْتِرَابٌ مِنْ رِضْوَانِهِ، وَلِذَلِكَ قُوبِلَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أَيِ الْكَافِرِينَ فَهُوَ فِي جَانِبِ الْكُفَّارِ، أَيْ فَقَتْلَاكُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التَّوْبَة: ٥٢].
والتّمحيص: التنقية والتخليص مِنَ الْعُيُوبِ. وَالْمَحْقُ: الْإِهْلَاكُ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَسَّ الْقَرْحِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارَ فَاعِلًا فِعْلًا وَاحِدًا: هُوَ فَضِيلَةٌ فِي جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَزِيَّةٌ فِي جَانِبِ الْكَافِرِينَ، فَجَعَلَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ تَمْحِيصًا وَزِيَادَةً فِي
وَالْآخَرُ من الْيَهُود تدارءا فِي حَقٍّ، فَدَعَاهُ الْيَهُودِيُّ إِلَى التَّحَاكُمِ عِنْدَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ. وَدَعَاهُ الْأَنْصَارِيُّ إِلَى التَّحَاكُمِ لِلْكَاهِنِ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ يَرْتَشِي، فَيَقْضِي لَهُ، فَنَزَلَتْ فِيهِمَا هَذِهِ الْآيَةُ. وَفِي رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ مِثْلُ مَا قَالَ قَتَادَةُ، وَلَكِنَّهُ وَصَفَ الْأَنْصَارِيَّ بِأَنَّهُ مُنَافِقٌ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْخُصُومَةَ بَيْنَ مُنَافِقٍ وَيَهُودِيٍّ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ «لِنَنْطَلِقْ إِلَى مُحَمَّدٍ» وَقَالَ الْمُنَافِقُ «بَلْ نَأْتِي كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيَّ» وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ الطَّاغُوتَ.
وَصِيغَةُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَزْعُمُونَ مُرَادٌ بِهَا وَاحِدٌ. وَجِيءَ بِاسْمِ مَوْصُولِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامَ تَوْبِيخٍ، كَقَوْلِهِمْ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا، لِيَشْمَلَ الْمَقْصُودَ وَمَنْ كَانَ عَلَى شَاكِلَتِهِ. وَالزَّعْمُ: خَبَرٌ كَاذِبٌ، أَوْ مَشُوبٌ بِخَطَأٍ، أَوْ بِحَيْثُ يَتَّهِمُهُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْأَعْشَى لَمَّا قَالَ يمدح قيسا بْنَ مَعْدِ يكَرِبَ الْكِنْدِيَّ:
وَنُبِّئْتُ قَيْسًا وَلَمْ أَبْلُهُ | كَمَا زَعَمُوا خَيْرَ أَهْلِ الْيَمَنْ |
وَيُسْتَعْمَلُ الزَّعْمُ فِي الْخَبَرِ الْمُحَقَّقِ بِالْقَرِينَةِ، كَقَوْلِهِ:
زَعَمَ الْعَوَاذِلُ أَنَّنِي فِي غَمْرَةٍ | صَدَقُوا وَلَكِنْ غَمْرَتِي لَا تَنْجَلِي |
وَقَدْ كَانَ الَّذِينَ أَرَادُوا التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، فَإِطْلَاقُ الزَّعْمِ عَلَى إِيمَانِهِمْ ظَاهِرٌ.
وَعُطِفَ قَوْلُهُ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا مِنَ الْيَهُودِ، وَقَدْ دَخَلَ الْمَعْطُوفُ فِي حَيِّزِ الزَّعْمِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ بِمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ لَمْ يَكُنْ مُطَّرِدًا، فَلِذَلِكَ كَانَ ادِّعَاؤُهُمْ ذَلِكَ زَعْمًا، لِانْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ بِالتَّوْرَاةِ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِثْلِ هَذَا، إِذْ لَوِِْ
الْوُصُولَ بِهِ إِلَى مَا يَحْتَاجُونَهُ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ. قَالَ الشَّاطِبِيُّ: «الْقُرْآنُ، مَعَ اخْتِصَارِهِ، جَامِعٌ وَلَا يَكُونُ جَامِعًا إِلَّا وَالْمَجْمُوعُ فِيهِ أُمُورٌ كُلِّيَّةٌ، لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ تَمَّتْ بِتَمَامِ
نُزُولِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ: أَنَّ الصَّلَاةَ، وَالزَّكَاةَ، وَالْجِهَادَ، وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، لَمْ تُبَيَّنْ جَمِيعُ أَحْكَامِهَا فِي الْقُرْآنِ، إِنَّمَا بَيَّنَتْهَا السنّة، وَكَذَلِكَ الماديّات مِنَ الْعُقُودِ وَالْحُدُودِ وَغَيْرِهَا، فَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى رُجُوعِ الشَّرِيعَةِ إِلَى كُلِّيَّاتِهَا الْمَعْنَوِيَّةِ، وَجَدْنَاهَا قَدْ تَضَمَّنَهَا الْقُرْآنُ عَلَى الْكَمَالِ، وَهِيَ: الضَّرُورِيَّاتُ، وَالْحَاجِيَّاتُ، وَالتَّحْسِينَاتُ وَمُكَمِّلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، فَالْخَارِجُ عَنِ الْكِتَابِ مِنَ الْأَدِلَّةِ: وَهُوَ السُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ، إِنَّمَا نَشَأَ عَنِ الْقُرْآنِ وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ والواشمات وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ والواصلات والمستوصلات والمنتمصات لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ» فَبَلَغَ كَلَامُهُ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا: أُمُّ يَعْقُوبَ، وَكَانَتْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَأَتَتْهُ فَقَالَتْ: «لَعَنْتَ كَذَا وَكَذَا» فَذَكَرَتْهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ»، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: «لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ لَوْحَيِ الْمُصْحَفِ، فَمَا وَجَدْتُهُ»، فَقَالَ: «لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ» : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الْحَشْر: ٧] » اه.
فَكَلَامُ ابْنِ مَسْعُودٍ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ جَامِعُ أُصُولِ الْأَحْكَامِ، وَأَنَّهُ الْحُجَّةُ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، إِذْ قَدْ بَلَغَ لِجَمِيعِهِمْ وَلَا يَسَعُهُمْ جَهْلُ مَا فِيهِ، فَلَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُمْ أَثَارَةٌ مِنْ عِلْمٍ غَيْرُ الْقُرْآنِ لَكَفَاهُمْ فِي إِقَامَةِ الدِّينِ، لِأَنَّ كُلِّيَّاتِهِ وَأَوَامِرَهُ الْمُفَصَّلَةَ ظَاهِرَةُ الدَّلَالَةِ، وَمُجْمَلَاتِهِ تَبْعَثُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَعَرُّفِ بَيَانِهَا مِنِ اسْتِقْرَاءِ أَعْمَالِ الرَّسُولِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ، الْمُتَلَقِّينَ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ لَمَّا اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي شَأْنِ كِتَابَةِ النَّبِيءِ لَهُمْ كِتَابًا فِي مَرَضِهِ قَالَ عُمَرُ: حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ، فَلَوْ أَنَّ أَحَدًا قَصَرَ نَفْسَهُ عَلَى عِلْمِ الْقُرْآنِ فَوَجَدَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ [الْبَقَرَة: ٤٣] وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [الْأَنْعَام: ١٤١] وكُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الْبَقَرَة: ١٨٣] وأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [الْبَقَرَة: ١٩٦]، لَتَطَلَّبَ بَيَانَ ذَلِكَ مِمَّا تَقَرَّرَ مِنْ عَمَلِ سَلَفِ الْأُمَّةِ،
فَكَانَ الْحَوَارِيُّونَ سَابِقِينَ إِلَى الْإِيمَانِ لَمْ يَتَرَدَّدُوا فِي صِدْقِ عِيسَى. وأَنْ تَفْسِيرِيَّةٌ لِلْوَحْيِ الَّذِي أَلْقَاهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْحَوَارِيِّينَ.
وَفَصْلُ جُمْلَةِ قالُوا آمَنَّا لِأَنَّهَا جَوَابُ مَا فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَهُوَ «أَوْحَيْنَا»، عَلَى طَرِيقَةِ الْفَصْلِ فِي الْمُحَاوَرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ نَفْسِيٌّ حَصَلَ حِينَ أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ تَصْدِيقَ عِيسَى فَكَأَنَّهُ خَاطَبَهُمْ فَأَجَابُوهُ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِمْ: وَاشْهَدْ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ بِكَلَامٍ نَفْسِيٍّ مِنْ لُغَتِهِمْ، فَحَكَى اللَّهُ مَعْنَاهُ بِمَا يُؤَدِّيهِ قَوْلُهُ: وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ. وَسَمَّى إِيمَانَهُمْ إِسْلَامًا لِأَنَّهُ كَانَ تَصْدِيقًا رَاسِخًا قَدِ ارْتَفَعُوا بِهِ عَنْ مَرْتَبَةِ إِيمَانِ عَامَّةِ مَنْ آمَنَ بِالْمَسِيحِ غَيْرُهُمْ، فَكَانُوا مُمَاثِلِينَ لِإِيمَانِ عِيسَى، وَهُوَ إِيمَان الْأَنْبِيَاء والصدّيقين، وَقَدْ قَدَّمْتُ بَيَانَهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٦٧]، وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣٢] فَارْجِع إِلَيْهِ.
[١١٢، ١١٣]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : الْآيَات ١١٢ إِلَى ١١٣]
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣)
جُمْلَةُ: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الَّذِي يُكَلِّمُ اللَّهُ بِهِ عِيسَى يَوْمَ يَجْمَعُ الرُّسُلَ، فَيَكُونُ إِذْ ظَرْفًا مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ قالُوا آمَنَّا [الْمَائِدَة: ١١١] فَيَكُونُ مِمَّا يُذَكِّرُ اللَّهُ بِهِ عِيسَى يَوْمَ يَجْمَعُ الرُّسُلَ، فَحُكِيَ عَلَى حَسَبِ حُصُولِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُقْتَضٍ أَنَّ سُؤَالَهُمُ الْمَائِدَةَ حَصَلَ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ إِيمَانِهِمْ بَلْ فِي وَقْتٍ آخَرَ قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ [الْمَائِدَة: ١١١] فَإِنَّ قَوْلَهُمْ آمَنَّا قَدْ يَتَكَرَّرُ مِنْهُمْ بِمُنَاسَبَاتٍ، كَمَا يَكُونُ عِنْدَ سَمَاعِهِمْ تَكْذِيبَ الْيَهُودِ عِيسَى، أَوْ عِنْدَ مَا يُشَاهِدُونَ آيَاتٍ عَلَى يَدِ عِيسَى، أَوْ يَقُولُونَهُ لِإِعَادَةِ اسْتِحْضَارِ الْإِيمَان شَأْن الصدّيقين الَّذِينَ يُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيُصْقِلُونَ إِيمَانَهُمْ
وَاللَّامُ فِي: لِيُرْدُوهُمْ لَامُ الْعَاقِبَةِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالشُّرَكَاءِ الْأَصْنَامَ، أَيْ زَيَّنُوا لَهُمْ ذَلِكَ قَصْدًا لِنَفْعِهِمْ، فَانْكَشَفَ عَنْ أَضْرَارٍ جَهِلُوهَا. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالشُّرَكَاءِ الْجِنَّ، أَيِ الشَّيَاطِينَ فَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ: لِأَنَّ الْإِيقَاعَ فِي الشَّرِّ مِنْ طَبِيعَةِ الْوَسْوَاسِ لِأَنَّهُ يَسْتَحْسِنُ الشَّرَّ وَيَنْسَاقُ إِلَيْهِ انْسِيَاقَ الْعَقْرَبِ لِلَّسْعِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى كَوْنِ مَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ مُرْدِيًا وَمُلْبِسًا فَإِنَّهُمْ أَوْلِيَاؤُهُمْ لَا يَقْصِدُونَ إِضْرَارَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا دَعَوْهُمْ إِلَى أَشْيَاءَ هِيَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَضَارُّ كَانَ تَزْيِينُهُمْ مُعَلَّلًا بِالْإِرْدَاءِ وَالْإِلْبَاسِ وَإِنْ لَمْ يَفْقَهُوهُ بِخِلَافِ مَنْ دَعَا لِسَبَبٍ فَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ، وَالضَّمِيرُ لِلشُّرَكَاءِ وَالتَّعْلِيلُ لِلتَّزْيِينِ.
وَالْإِرْدَاءُ: الْإِيقَاعُ فِي الرَّدَى، وَالرَّدَى: الْمَوْتُ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الضُّرِّ الشَّدِيدِ مَجَازًا أَوِ اسْتِعَارَةً وَذَلِكَ الْمُرَادُ هُنَا.
وَلَبَّسَ عَلَيْهِ أَوْقَعَهُ فِي اللَّبْسِ، وَهُوَ الْخَلْطُ وَالِاشْتِبَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٢]، وَفِي قَوْلِهِ: وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٩]. أَيْ أَنْ يَخْلِطُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ فَيُوهِمُوهُمُ الضَّلَالَ رُشْدًا وَأَنَّهُ مُرَادُ اللَّهِ مِنْهُمْ، فَهُمْ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الْأَصْنَامِ لِتُقَرِّبَهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ وَمَا لَا يَرْضَاهُ، وَيُخَيِّلُونَ إِلَيْهِمْ أَنَّ وَأْدَ الْبَنَاتِ مصلحَة. وَمن أقولهم: «دَفْنُ الْبُنَاهْ
مِنَ الْمَكْرُمَاهْ» (الْبُنَاهْ. وَالْمَكْرُمَاهْ. بِالْهَاءِ سَاكِنَةً فِي آخِرِهِمَا. وَأَصْلُهَا تَاءُ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ فَغُيِّرَتْ لِتَخْفِيفِ الْمَثَلِ) وَهَكَذَا شَأْنُ الشُّبَهِ وَالْأَدِلَّةِ الْمَوْهُومَةِ الَّتِي لَا تَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلٍ.
فَمَعْنَى: وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ أَنَّهُمْ يُحْدِثُونَ لَهُمْ دِينًا مُخْتَلِطًا مِنْ أَصْنَافِ الْبَاطِلِ، كَمَا يُقَالُ: وَسِّعِ الْجُبَّةَ، أَيِ اجْعَلْهَا وَاسِعَةً، وَقِيلَ: الْمُرَادُ لِيُدْخِلُوا عَلَيْهِمُ اللَّبْسَ فِي الدِّينِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ وَهُوَ دِينُ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَيِ الْحَنِيفِيَّةُ، فَيَجْعَلُوا فِيهِ أَشْيَاءَ مِنَ الْبَاطِلِ تَخْتَلِطُ مَعَ الْحَقِّ.
وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الْأَنْعَام: ١١٢] وَضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي:
أَجَلُ فُلَانٍ» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَلَغْنا أَجَلَنَا
الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا
[الْأَنْعَام: ١٢٨] وَالْوَاقِعُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَصِحُّ لِلِاسْتِعْمَالَيْنِ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَجَلِ الْأَوَّلِ الْمُدَّةَ، وَبِالثَّانِي الْوَقْتَ الْمُحَدَّدَ لِفِعْلٍ مَا.
وَالْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ هُنَا الْجَمَاعَةُ الَّتِي اشْتَرَكَتْ فِي عَقِيدَةِ الْإِشْرَاكِ أَوْ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ [الْأَعْرَاف: ٣٣] إِلَخْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ، الْجَمَاعَةَ الَّتِي يَجْمَعُهَا نَسَبٌ أَوْ لُغَةٌ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ انْقِرَاضُهَا عَنْ بَكَرَةِ أَبِيهَا، وَلَمْ يَقَعْ فِي التَّارِيخِ انْقِرَاضُ إِحْدَاهَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْأُمَمِ أَنِ انْقَرَضَ غَالِبُ رِجَالِهَا بِحَوَادِثَ عَظِيمَةٍ مِثْلَ (طَسْمٍ) وَ (جَدِيسٍ) وَ (عَدْوَانَ) فَتَنْدَمِجُ بَقَايَاهَا فِي أُمَمٍ أُخْرَى مُجَاوِرَةٍ لَهَا فَلَا يُقَالُ لِأُمَّةٍ إِنَّ لَهَا أَجَلًا تَنْقَرِضُ فِيهِ، إِلَّا بِمَعْنَى جَمَاعَةٍ يَجْمَعُهَا أَنَّهَا مُرْسَلٌ إِلَيْهَا رَسُولٌ فَكَذَّبَتْهُ، وَكَذَلِكَ كَانَ مَا صدق هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ لَمَّا أرسل محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَدَأَ دَعْوَتَهُ فِيهِمْ وَلَهُمْ، فَآمَنَ بِهِ مَنْ آمَنَ، وَتَلَاحَقَ الْمُؤْمِنُونَ أَفْوَاجًا، وَكَذَّبَ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ وَتَبِعَهُمْ مَنْ حَوْلَهُمْ، وَأَمْهَلَ اللَّهُ الْعَرَبَ بِحِكْمَتِهِ وبرحمة نبيّه
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَالَ: «لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ»
فَلَطَفَ اللَّهُ بِهِمْ إِذْ جَعَلَهُمْ مُخْتَلِطِينَ مُؤْمِنَهُمْ وَمُشْرِكَهُمْ، ثُمَّ هَاجَرَ الْمُؤْمِنُونَ فَبَقِيَتْ مَكَّةُ دَارَ شِرْكٍ وَتَمَحَّضَ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ فَاسْتَأْصَلُوهُمْ فَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ، فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ أَيَّامِ الْإِسْلَامِ، إِلَى أَنْ تَمَّ اسْتِئْصَالُ أَهْلِ الشِّرْكِ بِقَتْلِ بَقِيَّةِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، مِثْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَطَلٍ وَمَنْ قُتِلَ مَعَهُ، فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ دَانَ الْعَرَبُ لِلْإِسْلَامِ وَانْقَرَضَ أَهْلُ الشِّرْكِ، وَلَمْ تَقُمْ لِلشِّرْكِ قَائِمَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَظْهَرَ اللَّهُ عِنَايَتَهُ بِالْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ إِذْ كَانَتْ مِنْ أَوَّلِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ غَيْرَ مُتَمَحِّضَةٍ لِلشِّرْكِ، بَلْ كَانَ فِيهَا مُسْلِمُونَ مِنْ أَوَّلِ يَوْم الدّعوة، وَمَا زَالُوا يَتَزَايَدُونَ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ، بِأَجَلِ الْأُمَّةِ، أَجَلَ أَفْرَادِهَا، وَهُوَ مُدَّةُ حَيَاةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، لِأَنَّهُ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالسِّيَاقِ، وَلِأَنَّ إِسْنَادَهُ إِلَى الْأُمَّةِ يُعَيِّنُ
هُنَا صَرْفٌ تَكْوِينِيٌّ فِي نُفُوسِ الْأَقْوَامِ، وَعَنِ الْحَسَنِ: إِنَّ مِنَ الْكُفَّارِ مَنْ يُبَالِغُ فِي كُفْرِهِ وَيَنْتَهِي إِلَى حَدٍّ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ مَاتَ قَلْبُهُ.
وَفِي قَصِّ اللَّهِ تَعَالَى هَذَا الْكَلَامَ على مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِيضٌ بِكُفَّارِ الْعَرَبِ بِأَنَّ اللَّهَ دَافِعُهُمْ عَنْ تَعْطِيلِ آيَاتِهِ، وَبِأَنَّهُ مَانِعٌ كَثِيرًا مِنْهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا لِمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى لرَسُوله مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَى الطَّبَرِيُّ ذَلِكَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً فِي أَثْنَاءِ قِصَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ
بِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ [الْأَعْرَاف: ١٤٥] تَعْرِيضًا بِأَنَّ حَالَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَحَالِ أُولَئِكَ الْفَاسِقِينَ، وَتَصْرِيحًا بِسَبَبِ إِدَامَتِهِمُ الْعِنَادَ وَالْإِعْرَاضَ عَنِ الْإِيمَانِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَة مستأنفة استينافا ابْتِدَائِيًّا، وَتَأْتِي فِي مَعْنَى الصَّرْفِ عَنِ الْآيَاتِ الْوُجُوهُ السَّابِقَةُ وَاقْتِرَانُ فِعْلِ سَأَصْرِفُ بِسِينِ الِاسْتِقْبَالِ الْقَرِيبِ تُنَبِّهُهُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُعَجِّلُ ذَلِكَ الصَّرْفَ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ على مفعول سَأَصْرِفُ لِلِاهْتِمَامِ بِالْآيَاتِ، وَلِأَنَّ ذِكْرَهُ عَقِبَ الْفِعْلِ الْمُتَعَلِّقِ هُوَ بِهِ أَحْسَنُ.
وَتَعْرِيفُ الْمَصْرُوفِينَ عَنِ الْآيَاتِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِلْإِيمَاءِ بِالصِّلَةِ إِلَى عِلَّةِ الصَّرْفِ.
وَهِيَ مَا تَضَمَّنَتْهُ الصِّلَاتُ الْمَذْكُورَةُ، لِأَنَّ مَنْ صَارَتْ تِلْكَ الصِّفَاتُ حَالَاتٍ لَهُ يَنْصُرُهُ اللَّهُ، أَوْ لِأَنَّهُ إِذَا صَارَ ذَلِكَ حَالَهُ رِينَ عَلَى قَلْبِهِ، فَصُرِفَ قَلْبُهُ عَنْ إِدْرَاكِ دَلَالَةِ الْآيَاتِ وَزَالَتْ مِنْهُ الْأَهْلِيَّةُ لِذَلِكَ الْفَهْمِ الشَّرِيفِ.
وَالْأَوْصَافُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الصِّلَاتُ فِي الْآيَةِ تَنْطَبِقُ عَلَى مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ أَتَمَّ الِانْطِبَاقِ.
وَالتَّكَبُّرُ الِاتِّصَافُ بِالْكِبْرِ. وَقَدْ صِيغَ لَهُ الصِّيغَةُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّكَلُّفِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَبى وَاسْتَكْبَرَ [الْبَقَرَة: ٣٤] وَقَوْلِهِ: اسْتَكْبَرْتُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨٧]، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُعْجَبُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَيَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ عُظَمَاءَ فَلَا يَأْتَمِرُونَ لِآمِرٍ، وَلَا يَنْتَصِحُونَ لِنَاصِحٍ.
وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ: فِي الْأَرْضِ لِتَفْضِيحِ تَكَبُّرِهِمْ، وَالتَّشْهِيرِ بِهِمْ بِأَنَّ كِبْرَهُمْ مَظْرُوفٌ فِي الْأَرْضِ، أَيْ لَيْسَ هُوَ خَفِيًّا مُقْتَصِرًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، بَلْ هُوَ مَبْثُوثٌ فِي الْأَرْضِ، أَيْ
أَنْ لَا يُصَدَّ أَحَدٌ عَنِ الْبَيْتِ إِذَا جَاءَ، وَأَنْ لَا يُخَافَ أَحَدٌ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَقَدْ كَانَ مُعْظَمُ قَبَائِلِ الْعَرَبِ دَاخِلًا فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ الْوَاقِعِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ لِأَنَّ قُرَيْشًا كَانُوا يَوْمَئِذٍ زُعَمَاءَ جَمِيعِ الْعَرَبِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ شُرُوطِ الصُّلْحِ يَوْمَئِذٍ: أَنَّ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَهْدِ مُحَمَّدٍ دَخَلَ فِيهِ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ دَخَلَ فِيهِ، وَكَانَ مِنْ شُرُوطِ الصُّلْحِ وَضْعُ الْحَرْبِ عَنِ النَّاسِ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، فَالَّذِينَ عَاهَدُوا الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَعْرُوفُونَ عِنْدَ النَّاسِ يَوْمَ نُزُولِ الْآيَةِ. وَهَذَا الْعَهْدُ، وَإِنْ كَانَ لِفَائِدَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَقَدْ كَانَ عَدِيلُهُ لَازِمًا لِفَائِدَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، حِينَ صَارَ الْبَيْتُ بِيَدِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَزَالَ مَا زَالَ مِنْهُ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَإِسْلَامِ قُرَيْشٍ وَبَعْضِ أَحْلَافِهِمْ.
وَكَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَعْضِ قَبَائِلِ الْمُشْرِكِينَ عُهُودٌ كَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ سُورَةُ النِّسَاءِ [٩٠] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ الْآيَةَ، وَكَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةُ [٤] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً الْآيَةَ.
وَبَعْضُ هَذِهِ الْعُهُودِ كَانَ لِغَيْرِ أَجَلٍ مُعَيَّنٍ، وَبَعْضُهَا كَانَ لِأَجَلٍ قَدِ انْقَضَى، وَبَعْضُهَا لَمْ يَنْقَضِ أَجَلُهُ. فَقَدْ كَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ مُؤَجَّلًا إِلَى عَشْرِ سِنِينَ فِي بَعْضِ الْأَقْوَالِ وَقِيلَ: إِلَى أَرْبَعِ سِنِينَ، وَقِيلَ: إِلَى سَنَتَيْنِ. وَقَدْ كَانَ عَهْدُ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ، فَيَكُونُ قَدِ انْقَضَتْ مُدَّتُهُ عَلَى بَعْضِ الْأَقْوَال، وَلم تنقض عَلَى بَعْضِهَا، حِينَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَكَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُ عَلَى حُكْمِ الِاسْتِمْرَارِ، وَكَانَ بَعْضُ تِلْكَ الْعُهُودِ مُؤَجَّلًا إِلَى أَجَلٍ لَمْ يَتِمَّ، وَلَكِنَّ الْمُشْرِكِينَ خَفَرُوا بِالْعَهْدِ فِي مُمَالَاةِ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ غَيْرِ الْمُعَاهِدِينَ، وَفِي إِلْحَاقِ الْأَذَى بِالْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ أَرْجَفَ الْمُنَافِقُونَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ غُلِبُوا فَنَقَضَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْعَهْدَ، وَمِمَّنْ نَقَضَ الْعَهْدَ بَعْضُ خُزَاعَةَ، وَبَنُو مُدْلِجٍ، وَبَنُو خُزَيْمَةَ أَوْ جُذَيْمَةَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً [التَّوْبَة: ٤] فَأَعْلَنَ اللَّهُ لِهَؤُلَاءِ هَذِهِ الْبَرَاءَةَ لِيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ تَضْيِيقٌ عَلَيْهِمْ إِنْ دَامُوا عَلَى الشِّرْكِ، لِأَنَّ الْأَرْضَ صَارَتْ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدُ: فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ [التَّوْبَة: ٣].
وَنُكْتَةُ حَذْفِ كَلِمَةِ (عَلَيْكُمْ) فِي سَلَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَنَّ التَّحِيَّةَ بَيْنَهُمْ مُجَرَّدُ إِينَاسٍ وَتَكْرِمَةٍ فَكَانَت أشبه بالْخبر وَالشُّكْرِ مِنْهَا بِالدُّعَاءِ وَالتَّأْمِينِ كَأَنَّهُمْ يَغْتَبِطُونَ بِالسَّلَامَةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي هُمْ فِيهَا فِي الْجَنَّةِ فَتَنْطَلِقُ أَلْسِنَتُهُمْ عِنْدَ اللِّقَاءِ مُعَبِّرَةً عَمَّا فِي ضَمَائِرِهِمْ، بِخِلَافِ تَحِيَّةِ أَهْلِ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا تَقَعُ كَثِيرًا بَيْنَ الْمُتَلَاقِينَ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَكَانَتْ فِيهَا بَقِيَّةٌ مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي أَحْدَثَ الْبَشَرُ لِأَجْلِهِ السَّلَامَ، وَهُوَ مَعْنَى تَأْمِينِ
الْمُلَاقِي مِنَ الشَّرِّ الْمُتَوَقَّعِ مِنْ بَيْنِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَنَاكِرِينَ. وَلِذَلِكَ كَانَ اللَّفْظُ الشَّائِعُ هُوَ لَفْظُ السَّلَامِ الَّذِي هُوَ الْأَمَانُ، فَكَانَ مِنَ الْمُنَاسِبِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الْأَمَانَ عَلَى الْمُخَاطَبِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى تَسْكِينِ رَوْعِهِ، وَذَلِكَ شَأْنٌ قَدِيمٌ أَنَّ الَّذِي يُضْمِرُ شَرًّا لِمُلَاقِيهِ لَا يُفَاتِحُهُ بِالسَّلَامِ، وَلِذَلِكَ جُعِلَ السَّلَامُ شِعَارَ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ اللِّقَاءِ تَعْمِيمًا لِلْأَمْنِ بَيْنَ الْأُمَّةِ الَّذِي هُوَ مِنْ آثَارِ الْأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْقِرَى فِي الْحَضَارَةِ الْقَدِيمَةِ فَإِنَّ الطَّارِقَ إِذَا كَانَ طَارِقَ شَرٍّ أَوْ حَرْبٍ يَمْتَنِعُ عَنْ قَبُولِ الْقِرَى، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [هود: ٧٠].
وَفِيهِ تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ هَذَا اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ شِعَارُ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ مُلَاقَاتِهِمْ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الْجَامِعَةِ لِلْإِكْرَامِ، إِذْ هُوَ دُعَاءٌ بِالسَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ مَا يُكَدِّرُ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ أَحْيَاكَ اللَّهُ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ بِالْحَيَاةِ وَقَدْ لَا تَكُونُ طَيِّبَةً، وَالسَّلَامُ يَجْمَعُ الْحَيَاةَ وَالصَّفَاءَ مِنَ الْأَكْدَارِ الْعَارِضَةِ فِيهَا.
وَإِضَافَةُ التَّحِيَّةِ إِلَى ضَمِيرِ (هُمْ) مَعْنَاهَا التَّحِيَّةُ الَّتِي تَصْدُرُ مِنْهُمْ، أَيْ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ.
وَوَجْهُ ذِكْرِ تَحِيَّتِهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُمْ فِي أُنْسٍ وَحُبُورٍ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ لَذَّاتِ النَّفْسِ.
وَجُمْلَةُ وَآخِرُ دَعْواهُمْ بَقِيَّةُ الْجُمَلِ الْحَالِيَّةِ. وَجُعِلَ حَمْدُ اللَّهِ مِنْ دُعَائِهِمْ كَمَا اقْتَضَتْهُ (أَنِ) التَّفْسِيرِيَّةُ الْمُفَسَّرَةُ بِهِ آخِرُ دَعْواهُمْ لِأَنَّ فِي دَعْوَاهُمْ مَعْنَى الْقَوْلِ إِذْ جُعِلَ آخِرَ أَقْوَالٍ.
وَمَعْنَى آخِرُ دَعْواهُمْ أَنَّهُمْ يَخْتِمُونَ بِهِ دُعَاءَهُمْ فَهُمْ يُكَرِّرُونَ سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ فَإِذَا أَرَادُوا الِانْتِقَالَ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ النَّعِيمِ نَهَّوْا دُعَاءَهُمْ بِجُمْلَةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
وَمُتَعَلِّقُ نَجَّيْنا الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ مِنَ الْعَذَابِ الدَّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا. وَكَيْفِيَّةُ إِنْجَاءِ هُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَنْ مَعَهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَالْبَاءُ فِي بِرَحْمَةٍ مِنَّا لِلسَّبَبِيَّةِ، فَكَانَتْ رَحْمَةُ اللَّهِ بِهِمْ سَبَبًا فِي نَجَاتِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْحَمْهُمْ لِشَمِلَهُمُ الِاسْتِئْصَالُ فَكَانَ نِقْمَةً لِلْكَافِرِينَ وَبَلْوًى لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَجُمْلَةُ وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا.
وَالتَّقْدِيرُ وَأَيْضًا نَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ وَهُوَ الْإِنْجَاءُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَهُوَ الْعَذَابُ الْغَلِيظُ. فَفِي هَذَا مِنَّةٌ ثَانِيَةٌ عَلَى إِنْجَاءٍ ثَانٍ، أَيْ نَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ فِي الْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ فِعْلَ نَجَّيْناهُمْ عَلَى نَجَّيْنا، وَهَذَانِ الْإِنْجَاءَانِ يُقَابِلَانِ جَمْعَ الْعَذَابَيْنِ لِعَادٍ فِي قَوْلِهِ: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ [هود: ٦٠]. وَقَدْ ذُكِرَ هُنَا مُتَعَلِّقُ الْإِنْجَاءِ وَحُذِفَ السَّبَبُ عَكْسُ مَا فِي الْجُمْلَةِ الْأَوْلَى لِظُهُورِ أَنَّ الْإِنْجَاءَ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ كَانَ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ وَطَاعَةِ اللَّهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ [هود: ٥٩].
وَالْغَلِيظُ حَقِيقَتُهُ: الْخَشِنُ ضِدُّ الرَّقِيقِ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِلشَّدِيدِ. وَاسْتَعْمَلَ الْمَاضِي فِي وَنَجَّيْناهُمْ فِي مَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ لِتَحَقُّقِ الْوَعْد بِوُقُوعِهِ.
[٥٩، ٦٠]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٥٩ إِلَى ٦٠]
وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠)
الْإِشَارَةُ بِ تِلْكَ حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ بِسَبَبِ مَا أُجْرِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَدِيثِ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ حَاضِرٌ فِي الْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها [الْأَعْرَاف: ١٠١]
وَجَعَلَ الْبَرْقَ آيَةً نِذَارَةً وَبِشَارَةً مَعًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ الْبَرْقَ فَيَتَوَسَّمُونَ الْغَيْثَ وَكَانُوا يَخْشَوْنَ صَوَاعِقَهُ.
وَإِنْشَاءُ السَّحَابِ: تَكْوِينُهُ مِنْ عَدَمٍ بِإِثَارَةِ الْأَبْخِرَةِ الَّتِي تَتَجَمَّعُ سَحَابًا.
وَالسَّحَابُ: اسْمُ جَمْعٍ لِسَحَابَةٍ. وَالثِّقَالُ: جَمْعُ ثَقِيلَةٍ. وَالثِّقْلُ كَوْنُ الْجِسْمِ أَكْثَرَ كَمِّيَّةِ
أَجْزَاءٍ مِنْ أَمْثَالِهِ، فَالثِّقْلُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِ الْأَجْسَامِ، فَرُبَّ شَيْءٍ يُعَدُّ ثَقِيلًا فِي نَوْعِهِ وَهُوَ خَفِيفٌ بِالنِّسْبَةِ لِنَوْعٍ آخَرَ. وَالسَّحَابُ يَكُونُ ثَقِيلًا بِمِقْدَارِ مَا فِي خِلَالِهِ مِنَ الْبُخَارِ. وَعَلَامَةُ ثِقَلِهِ قُرْبُهُ مِنَ الْأَرْضِ وَبُطْءُ تَنَقُّلِهِ بِالرِّيَاحِ. وَالْخَفِيفُ مِنْهُ يُسَمَّى جَهَامًا.
وَعَطَفَ الرَّعْدَ عَلَى ذِكْرِ الْبَرْقِ وَالسَّحَابِ لِأَنَّهُ مُقَارِنُهُمَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْوَالِ.
وَلَمَّا كَانَ الرَّعْدُ صَوْتًا عَظِيمًا جَعَلَ ذِكْرَهُ عِبْرَةً لِلسَّامِعِينَ لِدَلَالَةِ الرَّعْدِ بِلَوَازِمَ عَقْلِيَّةٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَمَّا يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ مِنِ ادِّعَاءِ الشُّرَكَاءِ، وَكَانَ شَأْنُ تِلْكَ الدَّلَالَةِ أَنْ تَبْعَثَ النَّاظِرَ فِيهَا عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الشَّرِيكِ جَعَلَ صَوْتَ الرَّعْدِ دَلِيلًا عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِسْنَادُ التَّسْبِيحِ إِلَى الرَّعْدِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً بِأَنْ شُبِّهَ الرَّعْدُ بِآدَمِيٍّ يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى، وَأُثْبِتَ شَيْءٌ مِنْ عَلَائِقِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ التَّسْبِيحُ، أَيْ قَوْلُ سُبْحَانَ اللَّهِ.
وَالْبَاءُ فِي بِحَمْدِهِ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ يُنَزِّهُ اللَّهَ تَنْزِيهًا مُلَابِسًا لِحَمْدِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ دَالٌّ عَلَى اقْتِرَابِ نُزُولِ الْغَيْثِ وَهُوَ نِعْمَةٌ تَسْتَوْجِبُ الْحَمْدَ. فَالْقَوْلُ فِي مُلَابَسَةِ الرَّعْدِ لِلْحَمْدِ مُسَاوٍ لِلْقَوْلِ فِي إِسْنَادِ التَّسْبِيحِ إِلَى الرَّعْدِ. فَالْمُلَابَسَةُ مَجَازِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ أَوِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ.
والْمَلائِكَةُ عَطْفٌ عَلَى الرَّعْدِ، أَيْ وَتُسَبِّحُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ، أَيْ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ.
ومِنْ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ يُنَزِّهُونَ اللَّهَ لِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنْهُ، أَيِ الْخَوْفِ مِمَّا لَا يَرْضَى بِهِ وَهُوَ التَّقْصِيرُ فِي تَنْزِيهِهِ.
اعْتِبَارٌ بِهَذَا التَّكْوِينِ الْعَجِيبِ لِشَبَهِهِ بِتَكْوِينِ الْإِنْسَانِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ خَلَقَها بِمُتَعَلِّقَاتِهَا مُسْتَأْنَفَةٌ، فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ الِامْتِنَانُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفُ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَيَكُونُ نَصْبُ الْأَنْعامَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَخَلَقَ الْأَنْعَامَ خَلَقَهَا. فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُفِيدًا لِلتَّأْكِيدِ لِقَصْدِ تَقْوِيَةِ الْحُكْمِ اهْتِمَامًا بِمَا فِي الْأَنْعَامِ مِنَ الْفَوَائِدِ فَيَكُونُ امْتِنَانًا عَلَى الْمُخَاطَبِينَ، وَتَعْرِيضًا بِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَفَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ بِخَلْقِهَا فَجَعَلُوا مِنْ نِتَاجِهَا لِشُرَكَائِهِمْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ نَصِيبًا. وَأَيُّ كُفْرَانٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُتَقَرَّبَ بِالْمَخْلُوقَاتِ إِلَى غَيْرِ مَنْ خَلَقَهَا. وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ حَصْرٌ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ.
وَجُمْلَةُ لَكُمْ فِيها دِفْءٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي خَلَقَها عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ إِلَّا أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ تَمَامُ مُقَابَلَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [سُورَة النَّحْل: ٤] مِنْ حَيْثُ حُصُولِ الِاعْتِبَارِ ابْتِدَاءً ثُمَّ التَّعْرِيضِ بِالْكُفْرَانِ ثَانِيًا، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الثَّانِي فَإِنَّ صَرِيحَهُ الِامْتِنَانُ، وَيَحْصُلُ الِاعْتِبَارُ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ مِنْ الِاهْتِمَامِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها وَمَا بَعْدَهُ إِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ.
والْأَنْعامَ: الْإِبِلُ، وَالْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ، وَالْمَعِزُ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَأَشْهَرُ الْأَنْعَامِ عِنْدَ الْعَرَبِ الْإِبِلُ، وَلِذَلِكَ يَغْلِبُ أَنْ يُطْلَقَ لَفْظُ الْأَنْعَامِ عِنْدَهُمْ عَلَى الْإِبِلِ.
وَالْخِطَابُ صَالِحٌ لِشُمُولِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُمُ الْمَقْصُودُ ابْتِدَاءً مِنْ الِاسْتِدْلَالِ، وَأَنْ يَشْمَلَ جَمِيعَ النَّاسِ وَلَا سِيَّمَا فِيمَا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ مِنْ الِامْتِنَانِ.
وَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَمَّا يُشْرِكُونَ [سُورَة النَّحْل:
٣] بِاعْتِبَارِ بَعْضِ الْمُخَاطَبِينَ.
وَالدِّفْءُ- بِكَسْرِ الدَّالِ- اسْمٌ لِمَا يُتَدَفَّأُ بِهِ كَالْمِلْءِ وَالْحِمْلِ. وَهُوَ الثِّيَابُ الْمَنْسُوجَةُ مِنْ أَوْبَارِ الْأَنْعَامِ وَأَصْوَافِهَا وَأَشْعَارِهَا تُتَّخَذُ مِنْهَا الْخِيَامُ وَالْمَلَابِسُ.
لَا تَخْرِقُ بِمَشْيِكَ أَدِيمَ الْأَرْضِ، وَلَا تَبْلُغُ بِتَطَاوُلِكَ فِي مَشْيِكَ طُولَ الْجِبَالِ، فَمَاذَا يُغْرِيكَ بِهَذِهِ الْمِشْيَةِ.
وَالْخَرْقُ: قَطْعُ الشَّيْءِ وَالْفَصْلُ بَيْنَ الْأَدِيمِ، فَخَرْقُ الْأَرْضِ تَمْزِيقُ قشر التُّرَاب.
وَالْكَلَام مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّغْلِيظِ بِتَنْزِيلِ الْمَاشِي الْوَاطِئِ الْأَرْضَ بِشِدَّةِ مَنْزِلَةِ مَنْ يَبْتَغِي خَرْقَ وَجْهِ الْأَرْضِ وَتَنْزِيلِهِ فِي تَطَاوُلِهِ فِي مَشْيِهِ إِلَى أَعْلَى مَنْزِلَةِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَبْلُغَ طُولَ الْجِبَالِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّهَكُّمِ التَّشْنِيعُ بِهَذَا الْفِعْلِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ حَرَامٌ لِأَنَّهُ فَسَادٌ فِي خُلُقِ صَاحِبِهِ وَسُوءٌ فِي نِيَّتِهِ وإهانة للنَّاس بِإِظْهَار الشفوف عَلَيْهِمْ وَإِرْهَابِهِمْ بِقُوَّتِهِ.
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ رَأَى غُلَامًا يَتَبَخْتَرُ فِي مِشْيَتِهِ فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ الْبَخْتَرَةَ مِشْيَةٌ تُكْرَهُ إِلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» يَعْنِي لِأَنَّهَا يُرْهِبُ بِهَا الْعَدُوَّ إِظْهَارًا لِلْقُوَّةِ عَلَى أَعْدَاءِ الدِّينِ فِي الْجِهَادِ.
وَإِظْهَارُ اسْمِ (الْأَرْضِ) فِي قَوْلِهِ: لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ دُونَ إِضْمَارٍ لِيَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ مُسْتَقِلًّا عَنْ غَيْرِهِ جَارِيًا مجْرى الْمثل.
[٣٨]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٣٨]
كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨)
تَذْيِيلٌ لِلْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاء: ٢٣] بِاعْتِبَارِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ التَّحْذِيرَاتِ وَالنَّوَاهِي. فَكُلُّ جُمْلَةٍ فِيهَا أَمْرٌّ هِيَ مُقْتَضِيَةٌ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ، وَكُلُّ جُمْلَةٍ فِيهَا نَهْيٌ هِيَ مُقْتَضِيَةٌ شَيْئًا مَنْهِيًّا عَنْهُ، فَقَوْلُهُ: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ يَقْتَضِي عِبَادَةً مَذْمُومَةً مَنْهِيًّا عَنْهَا، وَقَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الْإِسْرَاء:
٢٣] يَقْتَضِي إِسَاءَةً مَنْهِيًّا عَنْهَا، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَيِّئَةً- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ بَعْدَ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَبَهَاءِ تَأْنِيثٍ فِي آخِرِهِ، وَهِيَ ضِدُّ الْحَسَنَةِ.
[سُورَة مَرْيَم (١٩) : آيَة ٣٦]
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦)يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا بَقِيَّةً لِكَلَامٍ جَرَى عَلَى لِسَانِ عِيسَى تَأْيِيدًا لِبَرَاءَةِ أُمِّهِ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَالْمَعْنَى: تَعْمِيمُ رُبُوبِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِكُلِّ الْخَلْقِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ هَمْزَةَ وَأَنَّ مَفْتُوحَةً فَخَرَّجَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ كَلَامِ عِيسَى فَهُوَ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ فَاعْبُدُوهُ عَلَى أَنَّهُ مُقَدَّمٌ مِنْ تَأْخِيرٍ لِلِاهْتِمَامِ بِالْعِلَّةِ لِكَوْنِهَا مُقَرِّرَةً لِلْمَعْلُولِ وَمُثْبِتَةً لَهُ عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجنّ: ١٨] وَيَكُونُ قَوْلُهُ فَاعْبُدُوهُ مُتَفَرِّعًا عَلَى قَوْلِهِ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مَرْيَم: ٣٠] بَعْدَ أَن أرْدف بِمَا تعلّق بِهِ مِنْ أَحْوَالِ نَفْسِهِ.
وَلَمَّا اشْتَمَلَ مَدْخُولُ لَامِ التَّعْلِيلِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ أُضْمِرَ لَهُ فِيمَا بَعْدُ. وَتَقْدِيرُ النَّظْمِ هَكَذَا: فَاعْبُدُوا اللَّهَ لِأَنَّهُ رَبِّي وَرَبُّكُمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ [مَرْيَم: ٣١]، أَيْ وَأَوْصَانِي بِأَنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ، فَيَكُونُ بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ وَهُوَ مُطَّرِدٌ مَعَ (أَنَّ).
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْحَقِّ مِنْ قَوْلِهِ قَوْلَ الْحَقِّ [مَرْيَم: ٣٤] عَلَى وَجْهِ جَعْلِ قَوْلَ بِمَعْنَى قَائِلٍ، أَيْ قَائِلٌ الْحَقَّ وَقَائِلٌ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ، فَإِنَّ هَمْزَةَ أَنْ يَجُوزُ فَتْحُهَا وَكَسْرُهَا بَعْدَ مَادَّةِ الْقَوْلِ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّا خُوطِبَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ كَانَ بِتَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ عَطْفًا عَلَى مَرْيَمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
بِالْمَحْسُوسِ وَالْمَقْصُودُ بِهِ التَّشْنِيعُ. وَحَرْفُ (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ أَيْ عَلَتْ أَجْسَادُهُمْ فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ بِأَنِ انْكَبُّوا انْكِبَابًا شَدِيدًا بِحَيْثُ لَا تَبْدُو رُؤُوسُهُمْ. وَتَحْتَمِلُ الْآيَةُ وُجُوهًا أُخْرَى أَشَارَ إِلَيْهَا فِي «الْكَشَّافِ».
وَالْمَعْنَى: ثُمَّ تَغَيَّرَتْ آرَاؤُهُمْ بَعْدَ أَنْ كَادُوا يَعْتَرِفُونَ بِحُجَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَرَجَعُوا إِلَى الْمُكَابَرَةِ وَالِانْتِصَارِ لِلْأَصْنَامِ، فَقَالُوا: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ، أَيْ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَامَ لَا تَنْطِقُ فَمَا أردْت بِقَوْلِك فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ إِلَّا التَّنَصُّلَ مِنْ جَرِيمَتِكَ.
فَجُمْلَةُ لَقَدْ عَلِمْتَ إِلَى آخِرِهَا مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ.
وَجُمْلَةُ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ تُفِيدُ تَقَوِّي الِاتِّصَافِ بِانْعِدَامِ النُّطْقِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ انْعِدَامِ آلَتِهِ وَهِيَ الْأَلْسُنُ.
وَفِعْلُ عَلِمْتَ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ لِوُجُودِ حَرْفِ النَّفْيِ بَعْدَهُ، فَلَمَّا اعْتَرَفُوا بِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَسْتَطِيعُ النُّطْقَ انْتَهَزَ إِبْرَاهِيمُ الْفُرْصَةَ لِإِرْشَادِهِمْ مُفَرِّعَا عَلَى اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهَا لَا تَنْطِقُ اسْتِفْهَامًا إِنْكَارِيًّا عَلَى عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهَا وَزَائِدًا بِأَنَّ تِلْكَ الْأَصْنَامَ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ.
وَجَعَلَ عَدَمَ اسْتِطَاعَتِهَا النَّفْعَ وَالضُّرَّ مَلْزُومًا لِعَدَمِ النُّطْقِ لِأَنَّ النُّطْقَ هُوَ وَاسِطَةُ الْإِفْهَامِ، وَمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الْإِفْهَامَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَعْدُومُ الْعَقْلِ وَتَوَابِعِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ.
وأُفٍّ اسْمُ فِعْلٍ دَالٌّ عَلَى الضَّجَرِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ مِنْ صُورَةِ تَنَفُّسِ الْمُتَضَجِّرِ لِضِيقِ نَفْسِهِ مِنَ الْغَضَبِ. وَتَنْوِينُ أُفٍّ يُسَمَّى تَنْوِينَ التَّنْكِيرِ وَالْمُرَادُ بِهِ التَّعْظِيمُ، أَيْ ضَجَرًا قَوِيًّا لَكُمْ. وَتَقَدَّمَ فِي [سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: ٢٣] فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ.
وَاللَّامُ فِي لَكُمْ لِبَيَانِ الْمُتَأَفَّفِ بِسَبَبِهِ، أَيْ أُفٍّ لِأَجْلِكُمْ وَلِلْأَصْنَامِ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ.
الْعَرَبِ فِي خُطَبِهِمْ وَطِوَالِهِمْ.
وَسَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ: قِرَى الْأَرْوَاحِ. وَجَعَلَهُ مِنْ آثَارِ كَرَمِ الْعَرَبِ.
وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ تَذْكِيرٌ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْجَلَالَةِ مُسْنَدًا وَاسْمُ الْمَوْصُولِ مُسْنَدًا إِلَيْهِ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ
مُنْشِئًا أَنْشَأَ لَهُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ، فَصَاحِبُ الصِّلَةِ هُوَ الْأَوْلَى بِأَنْ يُعْتَبَرَ مُسْنَدًا إِلَيْهِ وَهُمْ لَمَّا عَبَدُوا غَيْرَهُ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ جَهِلَ أَنَّهُ الَّذِي أَنْشَأَ لَهُمُ السَّمْعَ فَأَتَى لَهُمْ بِكَلَامٍ مُفِيدٍ لِقَصْرِ الْقَلْبِ أَوِ الْإِفْرَادِ، أَيِ اللَّهُ الَّذِي أَنْشَأَ ذَلِكَ دُونَ أَصْنَامِكِمْ. وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، أَوْ لِجَمِيعِ النَّاسِ، أَوْ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ.
وَالْإِنْشَاءُ: الْإِحْدَاثُ، أَيِ الْإِيجَادُ.
وَجَمَعَ الْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ أَصْحَابِهَا. وَأَمَّا إِفْرَادُ السَّمْعِ فَجَرَى عَلَى الْأَصْلِ فِي إِفْرَادِ الْمَصْدَرِ لِأَنَّ أَصْلَ السَّمْعِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ. وَقِيلَ: الْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ الْمُتَعَلِّقَاتِ فَلَمَّا كَانَ الْبَصَرُ يَتَعَلَّقُ بِأَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَكَانَتِ الْعُقُولُ تُدْرِكُ أَجْنَاسًا وَأَنْوَاعًا جُمِعَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَأُفْرِدَ السَّمْعُ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ إِلَّا بِنَوْعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْأَصْوَاتُ.
وَانْتُصِبَ قَلِيلًا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَكُمُ. وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ. وَالتَّقْدِيرُ: فِي حَالِ كَوْنِكُمْ قَلِيلًا شُكْرُكُمْ. فَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ فَالشُّكْرُ مُرَادٌ بِهِ التَّوْحِيدُ، أَيْ فَالشُّكْرُ الصَّادِرُ مِنْكُمْ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَشْرِيكِكُمْ غَيْرَهُ مَعَهُ فِي الْعِبَادَةِ. وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِجَمِيعِ النَّاسِ فَالشُّكْرُ عَامٌّ فِي كُلِّ شُكْرِ نِعْمَةٍ وَهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لِقِلَّةِ عَدَدِ الشَّاكِرِينَ، لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ مُشْرِكُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [الْأَعْرَاف: ١٧]. وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمَقْصُودُ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ فَالشُّكْرُ عَامٌّ وَتَقْلِيلُهُ تَحْرِيضٌ عَلَى الِاسْتِزَادَةِ مِنْهُ ونبذ الشّرك.
[٧٩]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٧٩]
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
مُوسَى عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْضَمَّ دَاعِي غَضَبِهِ عَلَيْهِمْ إِلَى دَاعِي امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ الْبَاعِثِهِ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَوْقَعُ لِكَلَامِهِ فِي نُفُوسِهِمْ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمُ اشْتُهِرُوا بِالظُّلْمِ.
ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ وَصْفِهِمُ الذَّاتِيِّ بِطَرِيقَةِ الْبَيَانِ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ:
قَوْمَ فِرْعَوْنَ، وَفِي تَكْرِيرِ كَلِمَةِ قَوْمَ مَوْقِعٌ مِنَ التَّأْكِيدِ فَلَمْ يَقُلْ: ائْتِ قَوْمَ فِرْعَوْنَ الظَّالِمِينَ، كَقَوْلِ جَرِيرٍ:
يَا تَيْمُ تَيْمَ عَدَيٍّ لَا أَبَا لَكُمْ | لَا يلفينّكم فِي سوأة عُمَرُ |
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ عَدَلَ هُنَا عَنْ ذِكْرِ مَا ابْتُدِئَ بِهِ نِدَاءُ مُوسَى مِمَّا هُوَ فِي سُورَةِ طه [١٢- ٢٣] بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِلَى قَوْلِهِ: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا هُوَ شَرْحُ دَعْوَةِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَإِعْرَاضُهُمْ لِلِاتِّعَاظِ بِعَاقِبَتِهِمْ. وَأَمَّا مَقَامُ مَا فِي سُورَةِ طه فَلِبَيَانِ كَرَامَةِ مُوسَى عِنْدَ رَبِّهِ وَرِسَالَتِهِ مَعًا فَكَانَ مَقَامَ إِطْنَابٍ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنِ اخْتِلَافِ الْأُسْلُوبِ فِي حِكَايَةِ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّابِعَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَالْإِتْيَانُ الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ ذَهَابُهُ لِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِمْ. وَهَذَا إِيجَازٌ يبيّنه قَوْله: أْتِيا
فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
[الشُّعَرَاء: ١٦] إِلَى آخِرِهِ.
وَجُمْلَةُ: أَلا يَتَّقُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِالْإِتْيَانِ إِلَيْهِمْ لِدَعْوَتِهِمْ وَوَصَفَهُمْ بِالظَّالِمِينَ كَانَ الْكَلَامُ مُثِيرًا لِسُؤَالٍ فِي نَفْسِ مُوسَى عَنْ مَدَى ظُلْمِهِمْ فَجِيءَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى تَوَغُّلِهِمْ فِي الظُّلْمِ وَدَوَامِهِمْ عَلَيْهِ تَقْوِيَةً لِلْبَاعِثِ لِمُوسَى عَلَى بُلُوغِ الْغَايَةِ فِي الدَّعْوَةِ وَتَهْيِئَةً لِتَلَقِّيهِ تكذيبهم بِدُونِ مفاجأة، فَيَكُونُ أَلا مِنْ قَوْلِهِ: أَلا يَتَّقُونَ مُرَكَّبًا مِنْ حَرْفَيْنِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَ (لَا) النَّافِيَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ لِإِنْكَارِ انْتِفَاءِ تَقْوَاهُمْ، وَتَعْجِيبِ مُوسَى مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ مُوسَى كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى أَحْوَالِهِمْ إِذْ كَانَ قَدْ نَشَأَ فِيهِمْ وَقَدْ عَلِمَ مَظَالِمَهُمْ وَأَعْظَمُهَا الْإِشْرَاكُ وَقَتْلُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ....
قَالَ تَعَالَى هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرَّحْمَن: ٦٠] وَقَالَ تَعَالَى ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا [سبأ: ١٧].
وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ حِكَايَةٌ لِمَا فِي كَلَامِهَا مِنْ تَحْقِيقِ الْخَبَرِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَإِدْخَالِ الْمَسَرَّةِ عَلَى الْمُخْبَرِ بِهِ.
وَالْأَجْرُ: التَّعْوِيضُ عَلَى عَمَلٍ نَافِعٍ لِلْمُعَوَّضِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ ثَوَابُ الطَّاعَاتِ أَجْرًا، قَالَ تَعَالَى وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ [مُحَمَّد: ٣٦]. وَانْتَصَبَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِبَيَانِ نَوْعِ الْجَزَاءِ أَنَّهُ جَزَاءُ خَيْرٍ، وَهُوَ أَنْ أَرَادَ ضِيَافَتَهُ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ مَعْنَى إِجَارَةِ الْأَجِيرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ تَقَاوُلٍ وَلَا شَرْطٍ وَلَا عَادَةٍ.
وَالْجَزَاءُ: إِكْرَامٌ، وَالْإِجَارَةُ: تَعَاقُدٌ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ عَقِبَهُ قالَتْ إِحْداهُما يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ [الْقَصَص: ٢٦] فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَبَاهَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ عَزْمٌ عَلَى اسْتِئْجَارِ مُوسَى.
وَكَانَ فِعْلُ مُوسَى مَعْرُوفًا مَحْضًا لَا يَطْلَبُ عَلَيْهِ جَزَاءً لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْمَرْأَتَيْنِ وَلَا بَيْتَهُمَا، وَكَانَ فِعْلُ شُعَيْبٍ كَرَمًا مَحْضًا وَمَحَبَّةً لِقِرَى كُلِّ غَرِيبٍ، وَتَضْيِيفُ الْغَرِيبِ مِنْ سُنَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَلَا غَرْوَ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا رَجُلَانِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَمَا فِي قَوْلِهِ مَا سَقَيْتَ لَنا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ سَقْيِكَ، وَلَامُ لَنا لَامُ الْعِلَّةِ.
فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
كَانَتِ الْعَوَائِدُ أَنْ يُفَاتَحَ الضَّيْفُ بِالسُّؤَالِ عَنْ حَالِهِ وَمَقْدِمِهِ فَلِذَلِكَ قَصَّ مُوسَى قِصَّةَ خُرُوجِهِ وَمَجِيئِهِ عَلَى شُعَيْبٍ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ شُعَيْبًا سَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ قُدُومِهِ، والْقَصَصَ: الْخَبَرُ. وقَصَّ عَلَيْهِ أَخْبَرَهُ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَصَصَ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ قَصَصَهُ، أَوْ لِلْعَهْدِ، أَيِ الْقَصَصَ الْمَذْكُورَ آنِفًا. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُوسُفَ.
فَطَمْأَنَهُ شُعَيْبٌ بِأَنَّهُ يُزِيلُ عَنْ نَفْسِهِ الْخَوْفَ لِأَنَّهُ أَصْبَحَ فِي مَأْمَنٍ مِنْ أَنْ يَنَالَهُ حُكْمُ فِرْعَوْنَ لِأَنَّ بِلَادَ مَدْيَنَ تَابِعَةٌ لِمُلْكِ الْكَنْعَانِيِّينَ وَهُمْ أَهْلُ بَأْسٍ وَنَجْدَةٍ. وَمَعْنَى نَهْيِهِ عَنِ الْخَوْفِ نَهْيُهُ عَنْ ظَنِّ أَنْ تَنَالَهُ يَدُ فِرْعَوْنَ.
الْقَرِيبِ الْغَنِيِّ فَلَعَلَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ هُنَا وَلَيْسَ مِمَّا يَشْمَلُهُ لَفْظُ حَقَّهُ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ الْمُرَغَّبِ فِيهَا.
وَحَقُّ الْمِسْكِينِ: سَدُّ خَلَّتِهِ. وَحَقُّ ابْنِ السَّبِيلِ: الضِّيَافَةُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ» وَالْمَقْصُودُ إِبْطَالُ عَادَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ كَانُوا يُؤْثِرُونَ الْبَعِيدَ عَلَى الْقَرِيبِ فِي الْإِهْدَاءِ وَالْإِيصَاءِ حُبًّا لِلْمِدْحَةِ، وَيُؤْثِرُونَ بِعَطَايَاهُمُ السَّادَةَ وَأَهْلَ السُّمْعَةِ تَقَرُّبًا إِلَيْهِمْ، فَأُمِرَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَتَجَنَّبُوا ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٨٠].
وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ هُنَا ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أَيِ الَّذِينَ يَتَوَخَّوْنَ بِعَطَايَاهُمْ إِرْضَاءَ اللَّهِ وَتَحْصِيلَ ثَوَابِهِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذلِكَ خَيْرٌ إِلَى الْإِيتَاءِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ الْآيَةَ.
وَذِكْرُ الْوَجْهِ هُنَا تَمْثِيلٌ كَأَنَّ الْمُعْطِي أَعْطَى الْمَالَ بِمَرْأًى مِنَ اللَّهِ لِأَنَّ الْوَجْهَ هُوَ مَحَلُّ النَّظَرِ. وَفِيهِ أَيْضًا مُشَاكَلَةٌ تَقْدِيرِيَّةٌ لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ أُرِيدَ بِهِ مُقَابَلَةُ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْإِعْطَاءِ لِوَجْهِ الْمُعْطَى مِنْ أَهْلِ الْوَجَاهَةِ فِي الْقَوْمِ فَجَعَلَ هُنَا الْإِعْطَاءَ لِوَجْهِ اللَّهِ.
وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ لِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَتَحْصِيلِ رِضَاهُ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلتَّنْوِيهِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ. وخَيْرٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْضِيلًا وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَفْهُومٌ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ صَنِيعِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ يُعْطُونَ الْأَغْنِيَاءَ الْبُعَدَاءَ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، أَوِ الْمُرَادُ ذَلِكَ خَيْرٌ مَنْ بَذْلِ الْمَالِ فِي الْمُرَابَاةِ الَّتِي تُذْكَرُ بَعْدُ فِي قَوْلِهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً الْآيَة [الرّوم: ٣٩]. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَيْرُ مَا قَابَلَ الشَّرَّ، أَيْ ذَلِكَ فِيهِ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ ثَوَابُ اللَّهِ.
وَفِي قَوْلِهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ صِيغَةُ قَصْرٍ مِنْ أَجْلِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ أُولَئِكَ الْمُتَفَرِّدُونَ بِالْفَلَاحِ، وَهُوَ نَجَاحُ عَمَلِهِمْ فِي إِيتَاءٍ مِنْ ذِكْرٍ
مِمَّا قَدْ يَخْفَى عَلَى بَعْضِهِمْ مِنْ خَفِيِّ الْأَذَى فِي جَانِبِهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النبيء [الْأَحْزَاب: ٥٣] وَقَوْلِهِ: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [الْأَحْزَاب: ٥٣] وَعَلَّمَهُمْ كَيْفَ يُعَامِلُونَهُ مُعَامَلَةَ التَّوْقِيرِ وَالتَّكْرِيمِ بِقَوْلِهِ: وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ [الْأَحْزَاب: ٥٣] وَقَوْلِهِ:
وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الْأَحْزَاب: ٥٣] وَقَوْلِهِ:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ على النبيء [الْأَحْزَاب: ٥٦] الْآيَةَ، وَعَلِمَ أَنَّهُمْ قَدِ امْتَثَلُوا أَوْ تَعَلَّمُوا أَرْدَفَ ذَلِكَ بِوَعِيدِ قَوْمٍ اتَّسَمُوا بِسِمَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَ مِنْ دَأْبِهِمُ السَّعْيُ فِيمَا يُؤْذِي الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَعْلَمَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ أُولَئِكَ مَلْعُونُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ليعلم الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ أُولَئِكَ لَيْسُوا مِنَ الْإِيمَانِ فِي شَيْءٍ وَأَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْوَعِيدِ لَا يُعْهَدُ إِلَّا لِلْكَافِرِينَ.
فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّهُ يَخْطُرُ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَسْمَعُ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ أَنْ يَتَسَاءَلُوا عَنْ حَالِ قَوْمٍ قَدْ عُلِمَ مِنْهُمْ قِلَّةُ التَّحَرُّزِ مِنْ أَذَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَا يَلِيقُ بِتَوْقِيرِهِ.
وَجِيءَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ عَرَفُوا بِأَنَّ إِيذَاءَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَحْوَالِهِمُ الْمُخْتَصَّةِ بِهِمْ، وَلِدَلَالَةِ الصِّلَةِ عَلَى أَنَّ أَذَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ عِلَّةُ لَعْنِهِمْ وَعَذَابِهِمْ.
وَاللَّعْنُ: الْإِبْعَادُ عَنِ الرَّحْمَةِ وَتَحْقِيرِ الْمَلْعُونِ. فَهُمْ فِي الدُّنْيَا مُحَقَّرُونَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَمَحْرُومُونَ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ وَعِنَايَتِهِ، وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مُحَقَّرُونَ بِالْإِهَانَةِ فِي الْحَشْرِ وَفِي الدُّخُولِ فِي النَّارِ.
وَالْعَذَابُ الْمُهِينُ: هُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ مُهِينٌ لِأَنَّهُ عَذَابٌ مَشُوبٌ بِتَحْقِيرٍ وَخِزْيٍ.
وَالْقَرْنُ بَيْنَ أَذَى اللَّهِ وَرَسُوِلِهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ أَذَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُغْضِبُ اللَّهَ تَعَالَى فَكَأَنَّهُ أَذًى لِلَّهِ.
وَفِعْلُ يُؤْذُونَ مُعَدًّى إِلَى اسْمِ اللَّهِ عَلَى مَعْنَى الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ فِي اجْتِلَابِ غَضَبِ اللَّهِ وَتَعْدِيَتُهُ إِلَى الرَّسُولِ حَقِيقَةٌ. فَاسْتُعْمِلَ يُؤْذُونَ فِي مَعْنَيَيْهِ الْمَجَازِيِّ وَالْحَقِيقِيِّ.
وَعَبَّرَ عَنْ إِقْبَالِهِمْ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ وَهُوَ مِمَّا سَيَقَعُ فِي الْقِيَامَةِ، تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ لِأَنَّ لِذَلِكَ مَزِيدَ تَأْثِيرٍ فِي تَحْذِيرِ زُعَمَائِهِمْ مِنَ التَّغْرِيرِ بِهِمْ، وَتَحْذِيرِ دهمائهم من الاغترار بِتَغْرِيرِهِمْ، مَعَ أَنَّ قَرِينَةَ الِاسْتِقْبَالِ ظَاهِرَةٌ مِنَ السِّيَاقِ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ [الصافات:
١٩] الْآيَةَ.
وَالْإِقْبَالُ: الْمَجِيءُ مِنْ جِهَةٍ قِبَلَ الشَّيْءِ، أَيْ مِنْ جِهَةِ وَجْهِهِ وَهُوَ مَجِيءُ الْمُتَجَاهِرِ بِمَجِيئِهِ غَيْرِ الْمُتَخَتِّلِ الْخَائِفِ. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْقَصْدِ بِالْكَلَامِ وَالِاهْتِمَامِ بِهِ كَأَنَّهُ جَاءَهُ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ.
فَحَاصِلُ الْمَعْنَى حِكَايَةُ عِتَابٍ وَلَوْمٍ تَوَجَّهَ بِهِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا عَلَى قَادَتِهِمْ وَزُعَمَائِهِمْ، وَدَلَالَةُ التَّرْكِيبِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ أُطْلِقُ عَلَى الدَّعَايَةِ وَالْخَطَابَةِ فِيهِمْ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ يَتَضَمَّنُ الْقَصْدَ دُونَ إِرَادَةِ مَجِيءٍ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
أتَاكَ امْرِؤٌ مُسْتَبْطِنٌ لِي بِغَضَّةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ اسْتِعْمَالُهُ وَاسْتِعْمَالُ مُرَادِفِهِ وَهُوَ الْمَجِيءُ مَعًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٦٣، ٦٤]. أَوْ أَنْ يَكُونَ الْيَمِينُ مُرَادًا بِهِ جِهَةَ الْخَيْرِ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُضِيفُ الْخَيْرَ إِلَى جِهَةِ الْيَمِينِ. وَقَدِ اشْتُقَّتْ مِنَ الْيُمْنِ وَهُوَ الْبَرَكَةُ، وَهِيَ مُؤْذِنَةٌ بِالْفَوْزِ بِالْمَطْلُوبِ عِنْدَهُمْ. وَعَلَى ذَلِكَ جَرَتْ عَقَائِدُهُمْ فِي زَجْرِ الطَّيْرِ وَالْوَحْشِ مِنَ التَّيَمُّنِ بِالسَّانِحِ، وَهُوَ الْوَارِدُ مِنْ جِهَةِ يَمِينِ السَّائِرِ، وَالتَّشَاؤُمِ، أَيْ تَرَقُّبِ وُرُودِ الشَّرِّ مِنْ جِهَةِ الشِّمَالِ.
وَكَانَ حَقُّ فِعْلِ تَأْتُونَنا أَنْ يُعَدَّى إِلَى جِهَةِ الْيَمِينِ بِحَرْفِ «مِنْ» فَلَمَّا عُدِّيَ بِحَرْفِ عَنِ الَّذِي هُوَ للمجاوزة تَعَيَّنَ تَضْمِينُ تَأْتُونَنا مَعْنَى «تَصُدُّونَنَا» لِيُلَائِمَ مَعْنَى الْمُجَاوَزَةِ،
أَيْ تَأْتُونَنَا صَادِّينَنَا عَنِ الْيَمِينِ، أَيْ عَنِ الْخَيْرِ. فَهَذَا وَجْهُ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّذِي اعْتَمَدَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَقَدِ اضْطَرَبَ كَثِيرٌ فِي تَفْسِيرِهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مَا خُلَاصَتُهُ: اضْطَرَبَ الْمُتَأَوِّلُونَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِمْ: عَنِ الْيَمِينِ فَعَبَّرَ عَنْهُ ابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ بِطَرِيقِ الْجَنَّةِ وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْعِبَارَاتِ الَّتِي هِيَ تَفْسِيرٌ بِالْمَعْنَى وَلَا تَخْتَصُّ بِنَفْسِ اللَّفْظَةِ، وَبَعْضُهُمْ أَيْضًا نَحَا فِي تَفْسِيرِهِ إِلَى مَا يَخُصُّ اللَّفْظَةَ فَتَحَصَّلَ مِنْ ذَلِكَ مَعَانٍ مِنْهَا: أَنْ يُرِيدَ بِالْيَمِينِ الْقُوَّةَ وَالشِّدَّةَ (قُلْتُ وَهُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْفَرَّاءِ)
وَجُعِلَ تَنْزِيلُ الرِّزْقِ لِأَجْلِ الْمُخَاطَبِينَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ كَرَامَتَهُمُ ابْتِدَاءً وَأَنَّ انْتِفَاعَ غَيْرِهِمْ بِالرِّزْقِ انْتِفَاعٌ بِالتَّبَعِ لَهُمْ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ بِمَحَلِّ الرِّضَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَتُثَارُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَسْأَلَةُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ مَعَ الْمَاتُرِيدِيِّ وَمَعَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ الْكَافِرَ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ أَوْ لَا؟ فَعَنِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ الْكَافِرَ غَيْرُ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الدِّينِ وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وَالْمَاتُرِيدِيُّ: هُوَ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ نِعْمَةً دُنْيَوِيَّةً، لَا دِينِيَّةً وَلَا أُخْرَوِيَّةً، وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: هم مُنْعَمٌ عَلَيْهِ نِعْمَةً دُنْيَوِيَّةً وَدِينِيَّةً لَا أُخْرَوِيَّةً، فَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ فَلَمْ يَعْتَبِرْ بِظَاهِرِ الْمَلَاذِّ الَّتِي تَحْصُلُ لِلْكَافِرِ فِي الْحَيَاةِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ إِمْلَاءٌ وَاسْتِدْرَاجٌ لِأَنَّ مَآلَهَا الْعَذَابُ الْمُؤْلِمُ فَلَا تَسْتَحِقُّ اسْمَ النِّعْمَةِ.
وَأَنَا أَقُولُ: لَوِ اسْتَدَلَّ لَهُ بِأَنَّهَا حَاصِلَةٌ لَهُمْ تَبَعًا فَهِيَ لَذَائِذُ وَلَيْسَتْ نِعَمًا لِأَنَّ النِّعْمَةَ لَذَّةٌ أُرِيدَ مِنْهَا نَفْعُ مَنْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ آنِفًا.
وَأَمَّا الْبَاقِلَّانِيُّ فَرَاعَى ظَاهِرَ الْمَلَاذِّ فَلَمْ يَمْنَعْ أَنْ تَكُونَ نِعَمًا وَإِنْ كَانَتْ عَوَاقِبُهَا آلَامًا، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ شَاهِدَةٌ لِقَوْلِهِ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَزَادُوا فَزَعَمُوا أَنَّ الْكَافِرَ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ دِينًا، وَأَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ مَكَّنَ الْكَافِرَ مِنْ نِعْمَةِ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَوَاجِبِ صِفَاتِهِ. وَالَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ لِأَنَّهُ غَيْرُ نَاظِرٍ إِلَى حَقِيقَةِ حَالَةِ الْكَافِرِ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَإِنَّمَا نَظَرَ كُلُّ شِقٍّ مِنْ أَهْلِ الْخِلَافِ إِلَى مَا حَفَّ بِأَحْوَالِ الْكَافِرِ فِي تِلْكَ النِّعْمَةِ فَرَجَعَ إِلَى الْخِلَافِ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهَا ومدلولاتها لَا فِي حَقَائِقِ الْمَقْصُود مِنْهَا.
[١٤]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ١٤]
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤)
تَفْرِيعٌ عَلَى مَا شَاهَدُوا مِنَ الْآيَاتِ وَمَا أُفِيضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّزْقِ، وعَلى أَنهم المرجون للتذكر، أَيْ إِذْ كُنْتُمْ بِهَذِهِ الدَّرَجَةِ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ، فَفِي الْفَاءِ مَعْنَى الْفَصِيحَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ [غَافِر: ١٣].
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَصَابَكُمْ بِمُصِيبَةِ الْقَحْطِ ثُمَّ عَفَا عَنْكُمْ بِرَفْعِ الْقَحْطِ عَنْكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُفْلِتِينَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ أَنْ يُصِيبَكُمْ، فَهُوَ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ [الدُّخان: ١٥]، وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي سُفْيَانَ حِينَ دَعَا بِرَفْعِ الْقَحْطِ عَنْهُمْ:
تَعُودُونَ بَعْدُ، وَقَدْ عَادُوا فَأَصَابَهُمُ اللَّهُ بِبَطْشَةِ بَدْرٍ قَالَ: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: ١٦].
وَتَقْيِيدُ النَّفْيِ بَقَوْلِهِ: فِي الْأَرْضِ لِإِرَادَةِ التَّعْمِيمِ، أَيْ فِي أَيِّ مَكَانٍ مِنَ الْأَرْضِ لِئَلَّا يَحْسَبُوا أَنَّهُمْ فِي مَنْعَة بحولهم فِي مَكَّةَ الَّتِي أَمَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا خَافُوا سَطْوَةَ مَلِكٍ أَوْ عَظِيمٍ سَكَنُوا الْجِهَاتِ الصَّعْبَةَ، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ ذَاكِرًا تَحْذِيرَهُ قَوْمَهُ مِنْ تَرَصُّدِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ لَهُمْ وَنَاصِحًا لَهُمْ:
إِمَّا عُصِيتُ فَإِنِّي غَيْرُ مُنْفَلِتٍ | مِنِّي اللِّصَابُ فَجَنْبَا حَرَّةِ النَّارِ |
أَوْ أَضَعِ الْبَيْتَ فِي صَمَّاءَ مُضْلِمَةٍ | مِنَ الْمَظَالِمِ تُدْعَى أُمَّ صَبَّارِ |
تُدَافِعُ النَّاسَ عَنَّا حِينَ نَرْكَبُهَا | تَقَيُّدَ الْعَيْرِ لَا يَسْرِي بِهَا السَّارِي |
وَلَمَّا أَفَادَ قَوْلُهُ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مَنْجًى مِنْ سلطة الله أتبع بِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مَلْجَأٌ يَلْجَأُونَ إِلَيْهِ لِيَنْصُرَهُمْ وَيَقِيَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فَقَالَ: وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أَيْ لَيْسَ لَكُمْ وَلِيٌّ يَتَوَلَّاكُمْ فَيَمْنَعَكُمْ مِنْ سُلْطَانِ اللَّهِ وَلَا نَصِيرٍ يَنْصُرُكُمْ عَلَى اللَّهِ إِنْ أَرَادَ إِصَابَتَكُمْ فَتَغْلِبُونَهُ، فَجَمَعَتِ الْآيَةُ نَفْيَ مَا هُوَ مُعْتَادٌ بَيْنَهُمْ مِنْ وُجُوهِ الْوِقَايَةِ.
ومِنْ دُونِ اللَّهِ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ وَلِيٍّ ونَصِيرٍ، وَالْخَبَرُ الْأَوَّلُ هُوَ لَكُمْ. وَتَقْدِيمُ الْخِبْرَيْنِ لِلِاهْتِمَامِ بالْخبر ولتعجيل يأسهم من ذَلِك.
هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَو حفر مِنْ حُفَرِ النَّارِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
. وَهُوَ ضَعِيفٌ وَيُفَسِّرُهُ
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ ثُمَّ يُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وَنِهَايَةُ حَيَاةِ الْمَرْءِ قَرِيبَةٌ وَإِنْ طَالَ الْعُمُرُ.
وَالْأَشْرَاطُ بِالنِّسْبَةِ لِلصُّورَةِ الْأُولَى: الْحَوَادِثُ الَّتِي أخبر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا تَقَعُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، وَأَوَّلُهَا بِعْثَتُهُ لِأَنَّهُ آخِرُ الرُّسُلِ وَشَرِيعَتُهُ آخِرُ الشَّرَائِعِ ثُمَّ مَا يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَبِالنِّسْبَةِ لِلصُّورَةِ الثَّانِيَةِ أَشْرَاطُهَا الْأَمْرَاضُ وَالشَّيْخُوخَةُ.
فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ.
تَفْرِيعٌ عَلَى فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها. وأنى اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى الْحَالَةِ، وَيُضَمَّنُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ كَثِيرًا وَهُوَ هُنَا اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ كَيْفَ يَحْصُلُ لَهُمُ الذِّكْرَى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ، وَالْمَقْصُودُ: إِنْكَارُ الِانْتِفَاعِ بالذكرى حِينَئِذٍ.
وفَأَنَّى مُبْتَدَأٌ ثَانٍ مُقَدَّمٌ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَهُ الصَّدَارَةُ. وذِكْراهُمْ مُبْتَدَأٌ أَوَّلُ ولَهُمْ خبر عَن فَأَنَّى، وَهَذَا التَّرْكِيبُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى فِي سُورَةِ الدُّخَانِ [١٣]، وَضَمِيرُ جاءَتْهُمْ عَائِدٌ إِلَى السَّاعَةَ.
[١٩]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ١٩]
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩)
فُرِّعَ عَلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنْ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَحَالِ الْكَافِرِينَ وَمِنْ عَوَاقِبِ ذَلِكَ وَوَعْدِهِ أَوْ وَعِيدِهِ أَنْ أَمَرَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالثَّبَاتِ عَلَى مَا لَهُ مِنَ الْعِلْمِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَعَلَى مَا هُوَ دَأْبُهُ مِنَ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ بِالِاسْتِغْفَارِ لِذَنْبِهِ وَمِنَ الْحِرْصِ عَلَى نَجَاةِ الْمُؤْمِنِينَ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ وَذَلِكَ الدَّأْبِ اسْتِمْطَارُ الْخَيْرَاتِ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ
وَهَذِهِ الْوُجُوهُ غَيْرُ مُتَنَافِيَةٍ فَنَحْمِلُهَا عَلَى أَنَّ جَمِيعَهَا مَقْصُودٌ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ فِعْلَ «أَرَأَيْتُمْ» (عَلَى اعْتِبَارِ الرُّؤْيَةِ عِلْمِيَّةً) مُعَلَّقًا عَنِ الْعَمَلِ لِوُقُوعِ إِنْ النَّافِيَةَ بَعْدَهُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها وَتَجْعَلُ جُمْلَةَ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى إِلَى قَوْلِهِ: ضِيزى اعْتِرَاضًا.
وَاللَّاتُ: صَنَمٌ كَانَ لِثَقِيفٍ بِالطَّائِفِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ وَجُمْهُورُ الْعَرَبِ يَعْبُدُونَهُ، وَلَهُ شُهْرَةٌ عِنْدَ قُرَيْشٍ، وَهُوَ صَخْرَةٌ مُرَبَّعَةٌ بَنَوْا عَلَيْهَا بِنَاءً. وَقَالَ الْفَخْرُ: «كَانَ عَلَى صُورَةِ إِنْسَانٍ، وَكَانَ فِي مَوْضِعِ مَنَارَةِ مَسْجِدِ الطَّائِفِ الْيُسْرَى» كَذَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فَلَعَلَّ الْمَسْجِدَ كَانَتْ لَهُ مَنَارَتَانِ.
وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي أَوَّلِ اللَّاتَ زَائِدَتَانِ. وَ (أَلْ) الدَّاخِلَةُ عَلَيْهِ زَائِدَةٌ وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَهُ: لَاتٌ، بِمَعْنَى مَعْبُودٍ، فَلَمَّا أَرَادُوا جَعْلَهُ عَلَمًا عَلَى مَعْبُودٍ خَاصٍّ أَدْخَلُوا عَلَيْهِ لَامَ تَعْرِيفِ الْعَهْدِ كَمَا فِي اللَّهِ فَإِنَّ أَصْلَهُ إِلَهٌ. وَيُوقَفُ عَلَيْهِ بِسِكُونِ تَائِهِ فِي الْفُصْحَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: اللَّاتَ بِتَخْفِيفِ الْمُثَنَّاة الْفَوْقِيَّة. وقرأه رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِتَشْدِيدِ
التَّاءِ وَذَلِكَ لُغَةٌ فِي هَذَا الِاسْمِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعَرَبِ يَقُولُونَ: أَصْلُ صَخْرَتِهِ مَوْضِعٌ كَانَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ رَجُلٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَلُتُّ السَّوِيقَ لِلْحَاجِّ فَلَمَّا مَاتَ اتَّخَذُوا مَكَانَهُ مَعْبَدًا.
والْعُزَّى: فُعْلَى مِنَ الْعِزِّ: اسْمُ صَنَمِ حَجَرٍ أَبْيَضَ عَلَيْهِ بِنَاءٌ وَقَالَ الْفَخْرُ: «كَانَ عَلَى صُورَةِ نَبَاتٍ» وَلَعَلَّهُ يَعْنِي: أَنَّ الصَّخْرَةَ فِيهَا صُورَةُ شَجَرٍ، وَكَانَ بِبَطْنِ نَخْلَةٍ فَوْقَ ذَاتِ عِرْقٍ وَكَانَ جُمْهُورُ الْعَرَبِ يعبدونها وخاصة قُرَيْش وَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ يُخَاطِبُ الْمُسْلِمِينَ «لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ».
وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ أَنَّ الْعَرَب كَانُوا إِذا شَرَعُوا فِي عمل قَالُوا:
بِسم اللَّاتِ بِاسْمِ الْعُزَّى.
وَأَمَّا مَناةَ فَعَلَمٌ مُرْتَجَلٌ، وَهُوَ مُؤَنَّثٌ فَحَقُّهُ أَنْ يُكْتَبَ بِهَاءِ تَأْنِيثِ فِي آخِرِهِ وَيُوقَفُ عَلَيْهِ بِالْهَاءِ، وَيَكُونُ مَمْنُوعًا مِنَ الصَّرْفِ، وَفِيهِ لُغَةٌ بِالتَّاءِ الْأَصْلِيَّةِ فِي آخِرِهِ
وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْلِهِ: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ وَاجْتِلَابُ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِيَتَمَيَّزَ الْأَمْرُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ أَتَمَّ تَمْيِيزٍ لِغَرَابَتِهِ.
وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالْمَجْرُورُ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ سَبَبُ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ وَهُوَ انْتِفَاءُ فَقَاهَتِهِمْ.
وَإِقْحَامُ لَفْظِ قَوْمٌ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ مِنْ أَنَّ عَدَمَ فِقْهِ أَنْفُسِهِمْ أَمْرٌ عُرِفُوا بِهِ جَمِيعًا وَصَارَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ لَا يَخْلُو عَنْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِلَى قَوْلِهِ: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤].
وَالْفِقْهُ: فَهْمُ الْمَعَانِيَ الْخَفِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٧٨]، وَقَوْلِهِ: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٦٥]، ذَلِكَ أَنَّهُمْ تَبِعُوا دَوَاعِيَ الْخَوْفِ الْمُشَاهَدِ وَذَهَلُوا عَنِ الْخَوْفِ الْمُغَيَّبِ عَنْ أَبْصَارِهِمْ، وَهُوَ خَوْفُ اللَّهِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ قِلَّةِ فَهْمِهِمْ لِلْخَفِيَّاتِ.
[١٤]
[سُورَة الْحَشْر (٥٩) : آيَة ١٤]
لَا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (١٤)
لَا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ.
هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ [الْحَشْر:
١٣]، لِأَنَّ شِدَّةَ الرَّهْبَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَشْتَمِلُ عَلَى شَدَّةِ التَّحَصُّنِ لِقِتَالِهِمْ إِيَّاهُمْ، أَيْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى قِتَالِكُمْ إِلَّا فِي هَاتِهِ الْأَحْوَالِ وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي يُقاتِلُونَكُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
[الْحَشْر: ١١].
وَقَوْلُهُ: جَمِيعاً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى كُلَّهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً [الْمَائِدَة: ٤٨] فَيَكُونُ لِلشِّمُولِ، أَيْ كُلُّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَكُمُ الْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ إِلَخْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مُجْتَمَعِينَ، أَيْ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جُيُوشًا كَشَأْنِ جُيُوشِ الْمُتَحَالِفِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ قِتَالُ مَنْ لَا يَقْبَعُونَ فِي قُرَاهُمْ فَيَكُونُ النَّفْيُ مُنْصَبًّا إِلَى هَذَا
وَقَوْلُهُ: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النِّسَاء: ٢٤]، أَيْ فَهُمْ يَفْرِضُونَ لِأَنْفُسِهِمْ أَنَّ السَّعَادَةَ فِي النُّفُورِ مِنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَيَفْرِضُونَ ذَلِكَ عَلَى الدَّهْمَاءِ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ.
وَمَجِيءُ جُمْلَةِ فَهُمْ يَكْتُبُونَ مُتَفَرِّعَةٌ عَنْ جُمْلَةِ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا فِي الْغَيْبِ مَفْرُوضٌ كَوْنِهِ شَاهِدًا عَلَى حُكْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [الْقَلَم: ٣٦] كَمَا عَلمته آنِفا.
[٤٨- ٥٠]
[سُورَة الْقَلَم (٦٨) : الْآيَات ٤٨ إِلَى ٥٠]
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠)
تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِبْطَالِ مَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ وَمَطَاعِنِهِمْ فِي الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا تَبِعَهُ مِنْ تَكَفُّلِ اللَّهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَاقِبَةِ النَّصْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ شِدَّتَهُ عَلَى نَفْسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُدْخِلَ عَلَيْهِ يَأْسًا مِنْ حُصُولِ رَغْبَتِهِ وَنَجَاحِ سَعْيِهِ، فَفَرَّعَ عَلَيْهِ تَثْبِيتَهُ وَحَثَّهُ عَلَى الْمُصَابَرَةِ وَاسْتِمْرَارَهُ عَلَى الْهَدْيِ، وَتَعْرِيفَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ التَّثْبِيتَ يَرْفَعُ دَرَجَتَهُ فِي مَقَامِ الرِّسَالَةِ لِيَكُونَ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ، فَذَكَّرَهُ بِمَثَلِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذِ اسْتَعْجَلَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، فَأَدَّبَهُ اللَّهُ ثُمَّ اجْتَبَاهُ وَتَابَ عَلَيْهِ وَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ تَذْكِيرًا مُرَادًا بِهِ التَّحْذِيرُ.
وَالْمُرَادُ بِحُكْمِ الرَّبِّ هُنَا أَمَرُهُ وَهُوَ مَا حَمَّلَهُ إِيَّاهُ مِنَ الْإِرْسَالِ وَالْاضْطِلَاعِ بِأَعْبَاءِ الدَّعْوَةِ. وَهَذَا الْحُكْمُ هُوَ الْمُسْتَقْرَأُ مِنْ آيَاتِ الْأَمْرِ بِالدَّعْوَةِ الَّتِي أَوَّلِهَا يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ إِلَى قَوْلِهِ: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر: ١- ٧] فَهَذَا هُوَ الصَّبْرُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا. وَلَا جَرَمَ أَنَّ الصَّبْرَ لِذَلِكَ يَسْتَدْعِي انْتِظَارَ الْوَعْدِ بِالنَّصْرِ وَعَدَمَ الضَّجَرِ مِنْ تَأَخُّرِهِ إِلَى
أَمَدِهِ الْمُقَدَّرِ فِي عِلْمِ اللَّهِ.
وَصَاحِبُ الْحُوتِ: هُوَ يُونُسُ بْنُ مَتَّى، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ إِلَى قَوْلِهِ: وَيُونُسَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٨٤- ٨٦].
وَالصَّاحِبُ: الَّذِي يَصْحَبُ غَيْرَهُ، أَيْ يَكُونُ مَعَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَوْ فِي
عَنْهُ بِمَكْتُومٍ. وَنُسِبَ إِلَى أُمِّهِ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ بَيْتًا مِنْ بَيْتِ أَبِيهِ لِأَنَّ بَنِي مَخْزُومٍ مِنْ أَهْلِ بُيُوتَاتِ قُرَيْشٍ فَوْقَ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ. وَهَذَا كَمَا نُسِبَ عَمْرُو بْنُ الْمُنْذِرِ مَلِكُ الْحِيرَةِ إِلَى أُمِّهِ هِنْدِ بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُجْرٍ آكِلِ الْمُرَارِ زِيَادَةً فِي تشريفه بوراثة الْمُلْكِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ.
وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّ أَمَّ مَكْتُومٍ هِيَ أَمُّ أَبِيهِ. وَقَالَ الطَّيِّبِيُّ: إِنَّهُ وَهْمٌ، وَأَسْلَمَ قَدِيمًا وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ مَقْدَمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا، وَتُوفِيَ بِالْقَادِسِيَّةِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بَعْدَ
سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ أَوْ خَمْسَ عَشْرَةَ.
وَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ وَآيَةُ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ [٩٥].
وَكَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهُ وَيُكْرِمُهُ وَقَدِ اسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ فِي خُرُوجِهِ إِلَى الْغَزَوَاتِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَرَّةً، وَكَانَ مُؤَذِّنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَبِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ.
وَالْعُبُوسُ بِضَمِّ الْعَيْنِ: تَقْطِيبُ الْوَجْهِ وَإِظْهَارُ الْغَضَبِ. وَيُقَالُ: رَجُلٌ عَبُوسٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، أَيْ مُتَقَطِّبٌ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً [الْإِنْسَان: ١٠].
وَعَبَسَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ.
وَالتَّوَلِّي: أَصْلُهُ تحوّل الذَّات عَن مَكَانِهَا، وَيُسْتَعَارُ لِعَدَمِ اشْتِغَالِ الْمَرْءِ بِكَلَامٍ يُلْقَى إِلَيْهِ أَوْ جَلِيسٍ يَحِلُّ عِنْدَهُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِعَدَمِ الِاشْتِغَالِ بِسُؤَالِ سَائِلٍ وَلِعَدَمِ الْإِقْبَالِ عَلَى الزَّائِرِ.
وَحَذْفُ مُتَعَلَّقِ تَوَلَّى لِظُهُورِ أَنَّهُ تَوَلٍّ عَنِ الَّذِي مَجِيئُهُ كَانَ سَبَبَ التَّوَلِّي.
وَعُبِّرَ عَنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ بِ الْأَعْمى تَرْقِيقًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونَ الْعِتَابُ مَلْحُوظًا فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ صَاحِبَ ضَرَارَةٍ فَهُوَ أَجْدَرُ بِالْعِنَايَةِ بِهِ، لِأَنَّ مِثْلَهُ يَكُونُ سَرِيعًا إِلَى انْكِسَارِ خَاطِرِهِ.
وأَنْ جاءَهُ الْأَعْمى مَجْرُورٌ بِلَامِ الْجَرِّ مَحْذُوفٌ مَعَ أَنْ وَهُوَ حَذْفٌ مُطَّرِدٌ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلَيْ عَبَسَ وَتَوَلَّى عَلَى طَرِيقَةِ التَّنَازُعِ.
وَالْعِلْمُ بِالْحَادِثَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَجِيءٌ خَاصٌّ وَأَعْمَى مَعْهُودٌ.
وَصِيغَةُ الْخَبَرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْعِتَابِ عَلَى الْغَفْلَةِ عَنِ الْمَقْصُودِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ