وَقَدْ عَدَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ مَا يُعَدُّ جِهَةً رَابِعَةً هِيَ مَا انْطَوَى
عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ مِمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عَلَّامِ الْغُيُوبِ، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ مَا عَدَّهُ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» وَجْهًا رَابِعًا مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَهُوَ مَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ مِمَّا كَانَ لَا يَعْلَمُ مِنْهُ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ إِلَّا الْفَذُّ مِنْ أَحْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَهَذَا مُعْجِزٌ لِلْعَرَبِ الْأُمِّيِّينَ خَاصَّةً وَلَيْسَ مُعْجِزًا لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَخَاصٌّ ثُبُوتُ إِعْجَازِهِ بِأَهْلِ الْإِنْصَافِ مِنَ النَّاظِرِينَ فِي نَشْأَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْوَالِهِ، وَلَيْسَ مُعْجِزًا لِلْمُكَابِرِينَ فَقَدْ قَالُوا إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النَّحْل: ١٠٣].
فَإِعْجَازُ الْقُرْآنِ مِنَ الْجِهَتَيْنِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْعَرَبِ، إِذْ هُوَ مُعْجِزٌ لِفُصَحَائِهِمْ وَخُطَبَائِهِمْ وَشُعَرَائِهِمْ مُبَاشَرَةً، وَمُعْجِزٌ لِعَامَّتِهِمْ بِوَاسِطَةِ إِدْرَاكِهِمْ أَنَّ عَجْزَ مُقَارِعِيهِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَيْهِ هُوَ بُرْهَانٌ سَاطِعٌ عَلَى أَنَّهُ تَجَاوَزَ طَاقَةَ جَمِيعِهِمْ. ثُمَّ هُوَ بِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ لَدَى بَقِيَّةِ الْبَشَرِ الَّذِينَ بَلَغَ إِلَيْهِمْ صَدَى عَجْزِ الْعَرَبِ بُلُوغًا لَا يُسْتَطَاعُ إِنْكَارُهُ لِمُعَاصِرِيهِ بِتَوَاتُرِ الْأَخْبَارِ، وَلِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ بِشَوَاهِدِ التَّارِيخِ.
فَإِعْجَازُهُ لِلْعَرَبِ الْحَاضِرِينَ دَلِيلٌ تَفْصِيلِيٌّ، وَإِعْجَازُهُ لِغَيْرِهِمْ دَلِيلٌ إِجْمَالِيٌّ.
ثُمَّ قَدْ يُشَارِكُ خَاصَّةً الْعَرَبَ فِي إِدْرَاكِ إِعْجَازِهِ كُلُّ مَنْ تَعَلَّمَ لُغَتَهُمْ وَمَارَسَ بَلِيغَ كَلَامِهِمْ وَآدَابِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْبَلَاغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي مُخْتَلِفِ الْعُصُورِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّكَّاكِيِّ فِي «الْمِفْتَاحِ» مُخَاطِبًا لِلنَّاظِرِ فِي كِتَابِهِ «مُتَوَسِّلًا بِذَلِكَ (أَيْ بِمَعْرِفَةِ الْخَصَائِصِ الْبَلَاغِيَّةِ الَّتِي هُوَ بِصَدَدِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ تَتَأَنَّقَ فِي وَجْهِ الْإِعْجَازِ فِي التَّنْزِيلِ مُنْتَقِلًا مِمَّا أَجْمَلَهُ عَجْزُ الْمُتَحَدَّيْنَ بِهِ عِنْدَكَ إِلَى التَّفْصِيلِ».
وَالْقُرْآنُ مُعْجِزٌ مِنِ الْجِهَةِ الثَّالِثَةِ لِلْبَشَرِ قَاطِبَةً إِعْجَازًا مُسْتَمِرًّا عَلَى مَمَرِّ الْعُصُورِ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا شَمِلَهُ قَوْلُ أَئِمَّةِ الدِّينِ: إِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْمُعْجِزَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ عَلَى تَعَاقُبِ السِّنِينَ، لِأَنَّهُ قَدْ يُدْرِكُ إِعْجَازَهُ الْعُقَلَاءُ مِنْ غَيْرِ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ بِوَاسِطَةِ تَرْجَمَةِ مَعَانِيهِ التَّشْرِيعِيَّةِ وَالْحِكَمِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِيَّةِ، وَهُوَ دَلِيلٌ تَفْصِيلِيٌّ لِأَهْلِ تِلْكَ الْمَعَانِي وَإِجْمَالِيٌّ لِمَنْ تَبْلُغُهُ شَهَادَتُهُمْ بِذَلِكَ.
وَهُوَ مِنَ الْجِهَةِ الرَّابِعَةِ- عِنْدَ الَّذِينَ اعْتَبَرُوهَا زَائِدَةً عَلَى الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ- مُعْجِزٌ لِأَهْلِ عَصْرِ نُزُولِهِ إِعْجَازًا تَفْصِيلِيًّا، ومعجز لمن يجيىء بَعْدَهُمْ مِمَّنْ يَبْلُغُهُ ذَلِكَ بِسَبَبِ تَوَاتُرِ نَقْلِ الْقُرْآنِ، وَتَعَيُّنِ صَرْفِ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى هَذَا الْإِخْبَارِ إِلَى مَا أُرِيدَ مِنْهَا.
مَا يُوَسْوِسُ لَهُمْ بِحَالِ الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ وَيَكُونُ لَفْظُ يَأْمُرُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ مُفِيدا مَعَ ذَلِك الرَّمْزِ إِلَى أَنَّهُمْ لَا إِرَادَةَ لَهُمْ وَلَا يَمْلِكُونَ أَمْرَ أَنْفُسِهِمْ وَفِي هَذَا زِيَادَةُ
تَشْنِيعٍ لِحَالِهِمْ وَإِثَارَةٌ لِلْعَدَاوَةِ بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَبَيْنَهُمْ.
وَالسُّوءُ الضُّرُّ مِنْ سَاءَهُ سَوْءًا، فَالْمَصْدَرُ بِفَتْحِ السِّينِ وَأَمَّا السُّوءُ بِضَمِّ السِّينِ فَاسْمٌ لِلْمَصْدَرِ.
وَالْفَحْشَاءُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ فَحُشَ إِذَا تَجَاوَزَ الْحَدَّ الْمَعْرُوفَ فِي فِعْلِهِ أَوْ قَوْلِهِ وَاخْتُصَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِمَا تَجَاوَزَ حَدَّ الْآدَابِ وَعَظُمَ إِنْكَارُهُ، لِأَنَّ وَسَاوِسَ النَّفْسِ تَئُولُ إِلَى مَضَرَّةٍ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَتْلِ الْمُفْضِي لِلثَّأْرِ أَوْ إِلَى سَوْأَةٍ وَعَارٍ كَالزِّنَا وَالْكَذِبِ، فَالْعَطْفُ هُنَا عَطْفٌ لِمُتَغَايِرَيْنِ بِالْمَفْهُومِ وَالذَّاتِ لَا مَحَالَةَ بِشَهَادَةِ اللُّغَةِ وَإِنْ كَانَا مُتَّحِدَيْنِ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِدُخُولِ كِلَيْهِمَا تَحْتَ وَصْفِ الْحَرَامِ أَوِ الْكَبِيرَةِ وَأَمَّا تَصَادُقُهُمَا مَعًا فِي بَعْضِ الذُّنُوبِ كَالسَّرِقَةِ فَلَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ كَسَائِرِ الْكُلِّيَّاتِ الْمُتَصَادِقَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ يُشِيرُ إِلَى مَا اخْتَلَقَهُ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الضَّلَالِ مِنْ رُسُومِ الْعِبَادَاتِ وَنِسْبَةِ أَشْيَاءَ لِدِينِ اللَّهِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهَا. وَخَصَّهُ بِالْعَطْفِ مَعَ أَنَّهُ بَعْضُ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَهُوَ الشِّرْكُ وَالِافْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ.
وَمَفْعُولُ تَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ وَهُوَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى (مَا) وَهُوَ رَابِطُ الصِّلَةِ، وَمَعْنَى مَا لَا تَعْلَمُونَ لَا تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: عَلَى اللَّهِ أَيْ لَا تَعْلَمُونَ أَنَّهُ يُرْضِيهِ وَيَأْمُرُ بِهِ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ رِضَا اللَّهِ وَأَمْرِهِ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى الْوَحْيِ وَإِلَى مَا يَتَفَرَّعُ عَنْهُ مِنَ الْقِيَاسِ وَأَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ الْمُسْتَقْرَاةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ الْأُصُولِيُّونَ: يَجُوزُ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَقُولَ فِيمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ: إِنَّهُ دِينُ اللَّهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ قَالَهُ اللَّهُ، لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ قَدْ حَصَلَتْ لَهُ مُقَدِّمَةٌ قَطْعِيَّةٌ مُسْتَقْرَاةٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهَا وَهِيَ وُجُوبُ عَمَلِهِ بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ بِأَنْ يَعْمَلَ بِهِ فِي الْفَتْوَى وَالْقَضَاءِ وَخَاصَّةِ نَفْسِهِ فَهُوَ إِذَا أَفْتَى بِهِ وَأَخْبَرَ فَقَدْ قَالَ عَلَى اللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى بِحَسَبِ مَا كُلِّفَ بِهِ من الظَّن (١).
[١٧٠]
_________
(١) قَالَ الألوسي عِنْد شرح وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ «وَظَاهر الْآيَة الْمَنْع من اتِّبَاع الظَّن رَأْسا لِأَن الظَّن مُقَابل للْعلم لُغَة وعرفاه وَيشكل عَلَيْهِ أَن الْمُجْتَهد يعْمل بِمُقْتَضى ظَنّه الْحَاصِل عِنْده من النُّصُوص فَكيف يسوغ اتِّبَاعه للمقلد، وَأجِيب بِأَن الحكم المظنون للمجتهد يجب الْعَمَل بِهِ للدليل الْقَاطِع وَهُوَ الْإِجْمَاع وكل حكم يجب الْعَمَل بِهِ قطعا علم قطعا بِأَنَّهُ حكم الله تَعَالَى: وَإِلَّا لم يجب الْعَمَل بِهِ قطعا، وكل مَا علم قطعا أَنه حكم الله تَعَالَى فَهُوَ مَعْلُوم قطعا، فَالْحكم المظنون للمجتهد مَعْلُوم قطعا وخلاصته أَن الظَّن كَاف فِي طَرِيق تَحْصِيله ثمَّ بِوَاسِطَة الْإِجْمَاع على وجوب
وَفْدِ هَوَازِنَ: قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِيَرْفَعْ إِلَيَّ عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ»
، وَكَانَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ وَفِي الْحُقُوقِ الْقِبْلِيَّةِ.
وَمَعْنَى بِالْعَدْلِ أَيْ بِالْحَقِّ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِقْرَارَ الْوَصِيِّ وَالْمُقَدَّمِ فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ مَاضٍ إِذَا ظَهَرَ سَبَبُهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ خَشْيَةَ التَّوَاطُؤِ عَلَى إِضَاعَةِ أَمْوَالِ الضُّعَفَاءِ.
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى.
عَطْفٌ عَلَى فَاكْتُبُوهُ، وَهُوَ غَيْرُهُ وَلَيْسَ بَيَانًا لَهُ إِذْ لَوْ كَانَ بَيَانًا لَمَا اقْتَرَنَ بِالْوَاوِ.
فَالْمَأْمُورُ بِهِ المتداينون شيآن: الْكِتَابَةُ، وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهَا. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكِتَابَةِ ضَبْطُ صِيغَةِ التَّعَاقُدِ وَشُرُوطِهِ وَتَذَكُّرُ ذَلِكَ خَشْيَةَ النِّسْيَانِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سَمَّاهَا الْفُقَهَاءُ ذُكْرَ الْحَقِّ، وَتُسَمَّى عَقْدًا قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
حَذَرَ الْجَوْرِ وَالتَّطَاخِي وَهَلْ يَنْ | قُضُ مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ |
وَاسْتَشْهِدُوا بِمَعْنَى أَشْهِدُوا، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُمَا لِلطَّلَبِ أَيِ اطْلُبُوا شَهَادَةَ شَاهِدَيْنِ، فَيَكُونُ تَكْلِيفًا بِالسَّعْيِ لِلْإِشْهَادِ وَهُوَ التَّكْلِيفُ الْمُتَعَلِّقُ بِصَاحِبِ الْحَقِّ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا تَكْلِيفًا لِمَنْ يَطْلُبُ مِنْهُ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِمَا أَلَّا يَمْتَنِعَ.
تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَاعْتِبَارًا بِمَوَاعِظِ اللَّهِ تَعَالَى، وَجَعَلَهُ لِلْكَافِرِينَ هَلَاكًا، لِأَنَّ مَا أَصَابَهُمْ فِي بَدْرٍ تَنَاسَوْهُ، وَمَا انْتَصَرُوهُ فِي أُحُدٍ يَزِيدُهُمْ ثِقَةً بِأَنْفُسِهِمْ فَيَتَوَاكَلُونَ يَظُنُّونَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ ذَهَبَ بَأْسُهُمْ، عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي ازْدِيَادٍ، فَلَا يُنْقِصُهُمْ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، والكفّار فِي تنَاقض فَمَنْ ذَهَبَ مِنْهُمْ نَفِدَ. وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْمَوَاعِظِ وَالنُّذُرِ وَالْعِبَرِ قَدْ تُكْسِبُ بَعْضَ النُّفُوسِ كَمَالًا وَبَعْضَهَا نَقْصًا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ:
فَحُبُّ الْجَبَانِ الْعَيْشَ أَوْرَدَهُ التُّقَى | وَحُبُّ الشُّجَاعِ الْعَيْشَ أَوْرَدَهُ الْحَرْبَا |
وَيَخْتَلِفُ الْقَصْدَانِ وَالْفِعْلُ وَاحِدٌ | إِلَى أَنْ نَرَى إِحْسَانَ هَذَا لَنَا ذَنْبًا |
[١٤٢]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٤٢]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢)
أَمْ هُنَا مُنْقَطِعَةٌ، هِيَ بِمَعْنَى (بَلِ) الِانْتِقَالِيَّةِ، لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ انْتِقَالٌ مِنْ غَرَضٍ إِلَى آخَرَ، وَهِيَ إِذَا اسْتُعْمِلَتْ مُنْقَطِعَةً تُؤْذِنُ بِأَنَّ مَا بَعْدَهَا اسْتِفْهَامٌ، لِمُلَازَمَتِهَا لِلِاسْتِفْهَامِ، حَتَّى قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْمُحَقِّقُونَ: إِنَّهَا لَا تُفَارِقُ الدَّلَالَةَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَهَا، وَقَالَ غَيره:
ذَلِك هُوَ الْغَالِبُ وَقَدْ تُفَارِقُهُ، وَاسْتَشْهَدُوا عَلَى مُفَارَقَتِهَا لِلِاسْتِفْهَامِ بِشَوَاهِدٍ تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ.
فَقَوْلُهُ: أَمْ حَسِبْتُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَهِنُوا [آل عمرَان: ١٣٩] وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا مَسَّهُمُ الْقَرْحُ فَحَزِنُوا وَاعْتَرَاهُمُ الْوَهَنُ حَيْثُ لَمْ يُشَاهِدُوا مِثْلَ النَّصْرِ الَّذِي شَاهَدُوهُ يَوْمَ بَدْرٍ،
بَيَّنَ اللَّهُ أَنْ لَا وَجْهَ لِلْوَهَنِ لِلْعِلَلِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ هُنَا: أَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ الَّذِي هُوَ مَرْغُوبُهُمْ لَا يَحْصُلُ إِذَا لَمْ يَبْذُلُوا نُفُوسَهُمْ فِي نَصْرِ الدِّينِ فَإِذَا حَسِبُوا دُخُولَ الْجَنَّةِ يَحْصُلُ دُونَ ذَلِك، فقد أخطأوا.
كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِهَا حَقًّا، لَمْ يَكُونُوا لِيَتَحَاكَمُوا إِلَى الْكُهَّانِ، وَشَرِيعَةُ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- تُحَذِّرُ مِنْهُمْ.
وَقَوْلُهُ يُرِيدُونَ أَيْ يُحِبُّونَ مَحَبَّةً تَبْعَثُ عَلَى فِعْلِ الْمَحْبُوبِ.
وَالطَّاغُوتُ هُنَا هُمُ الْأَصْنَامُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ، وَلَكِنْ فَسَّرُوهُ بِالْكَاهِنِ، أَوْ بِعَظِيمِ الْيَهُودِ، كَمَا رَأَيْتَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ إِطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ بِتَشْبِيهِ عَظِيمِ الْكُفْرِ بِالصَّنَمِ الْمَعْبُودِ لِغُلُوِّ قَوْمِهِ فِي تَقْدِيسِهِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْكَاهِنَ يُتَرْجِمُ عَنْ أَقْوَالِ الصَّنَمِ فِي زَعْمِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ اشْتِقَاقُ الطَّاغُوتِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النِّسَاء: ٥١] مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَإِنَّمَا قَالَ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً أَيْ يُحِبُّ ذَلِكَ وَيُحَسِّنُهُ لَهُمْ، لِأَنَّهُ أَلْقَى فِي نُفُوسِهِمُ الدُّعَاءَ إِلَى تَحْكِيمِ الْكُهَّانِ وَالِانْصِرَافَ عَنْ حُكْمِ الرَّسُولِ، أَوِ الْمَعْنَى:
يُرِيدُ أَنْ يُضِلَّهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِسَبَبِ فَعْلَتِهِمْ هَذِهِ لَوْلَا أَنْ أَيْقَظَهُمُ اللَّهُ وَتَابُوا مِمَّا صَنَعُوا.
وَالضَّلَالُ الْبَعِيدُ هُوَ الْكُفْرُ، وَوَصْفُهُ بِالْبَعِيدِ مَجَازٌ فِي شِدَّةِ الضَّلَالِ بِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ جِنْسٍ ذِي مَسَافَةٍ كَانَ هَذَا الْفَرْدُ مِنْهُ بَالِغًا غَايَةَ الْمَسَافَةِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
ضَيَّعْتُ حَزْمِي فِي إِبْعَادِيَ الْأَمَلَا وَقَوْلُهُ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا الْآيَةَ أَيْ إِذَا قِيلَ لَهُمُ احْضُرُوا أَوِ ايتُوا. فَإِنَّ (تَعَالَ) كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِالْحُضُورِ وَالْإِقْبَالِ، فَمَفَادُهَا مَفَادُ حَرْفِ النِّدَاءِ إِلَّا أَنَّهَا لَا تَنْبِيهَ فِيهَا.
وَقد اخْتلف أئمّة الْعَرَبِيَّةِ فِي أَنَّهُ فِعْلٌ أَوِ اسْمُ فِعْلٍ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ فِعْلٌ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مَادَّةِ الْعُلُوِّ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي «الصِّحَاحِ» «وَالتَّعَالِي الِارْتفَاع»، تَقُولُ مِنْهُ، إِذَا أَمَرْتَ:
«تَعَالَ يَا رَجُلُ»، وَمِثْلُهُ فِي «الْقَامُوسِ»، وَلِأَنَّهُ تَتَّصِلُ بِهِ ضَمَائِرُ الرَّفْعِ، وَهُوَ فِعْلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ عَلَى غَيْرِ سُنَّةِ فِعْلِ الْأَمْرِ، فَذَلِكَ الْبِنَاءُ هُوَ الَّذِي حَدَا فَرِيقًا مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ اسْمُ فِعْلٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْقَوْلُ بِبَعِيدٍ، وَلَمْ يَرِدْ عَنِ الْعَرَبِ غَيْرُ فَتْحِ اللَّامِ، فَلِذَلِكَ كَانَ كَسْرُ اللَّامِ فِي قَوْلِ أَبِي فِرَاسٍ:
أَيَا جَارَتَا مَا أَنْصَفَ الدَّهْرُ بَيْنَنَا | تَعَالَيْ أُقَاسِمْكِ الْهُمُومَ تَعَالِي |
وَقَفَ الْهَوَى بِي حَيْثُ أَنْتِ فَلَيْسَ لِي | مُتَأَخَّرٌ عَنْهُ وَلَا مُتَقَدَّمُ |
فَهَلَّا أَعْدَوْنِي لِمِثْلِي تَفَاقَدُوا | وَفِي الْأَرْضِ مَبْثُوثٌ شُجَاعٌ وَعَقْرَبُ |
«الْكَشَّافِ».
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ حَاوَلَ جَعْلَ قَوْلِهِ: بِغَيْرِ الْحَقِّ قَيْدًا لِلتَّكَبُّرِ، وَجَعَلَ مِنَ التَّكَبُّرِ مَا هُوَ حَقٌّ، لِأَنَّ لِلْمُحِقِّ أَنْ يَتَكَبَّرَ عَلَى الْمُبْطِلِ، وَمِنْهُ الْمَقَالَةُ الْمَشْهُورَةُ «الْكِبْرُ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ صَدَقَةٌ» وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ الْمُسْتَشْهَدُ بِهَا جَرَتْ عَلَى الْمَجَازِ أَوِ الْغَلَطِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: يَتَكَبَّرُونَ فَهُوَ فِي حُكْمِ الصِّلَةِ، وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٩٦، ٩٧] وَكُلُّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٥].
وَالسَّبِيلُ مُسْتَعَارٌ لِوَسِيلَةِ الشَّيْءِ بِقَرِينَةِ إِضَافَتِهِ إِلَى الرُّشْدِ وَإِلَى الْغَيِّ. وَالرُّؤْيَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِلْإِدْرَاكِ.
وَالِاتِّخَاذُ حَقِيقَتُهُ مُطَاوِعُ أَخَّذَهُ بِالتَّشْدِيدِ، إِذَا جَعَلَهُ آخِذًا، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى أَخْذِ الشَّيْءِ وَلَوْ لَمْ يُعْطِهِ إِيَّاهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْمُلَازَمَةِ، أَيْ لَا يُلَازِمُونَ طَرِيقَ الرُّشْدِ، وَيُلَازِمُونَ طَرِيقَ الْغَيِّ.
وَالرُّشْدُ الصَّلَاحُ وَفِعْلُ النَّافِعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦] وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: الشَّيْءُ الصَّالِحُ كُلُّهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
وَالْغَيُّ الْفَسَادُ وَالضَّلَالُ، وَهُوَ ضِدُّ الرُّشْدِ بِهَذَا الْمَعْنَى، كَمَا أَنَّ السَّفَهَ ضِدُّ الرُّشْدِ بِمَعْنَى حُسْنِ النَّظَرِ فِي الْمَالِ، فَالْمَعْنَى: إِنْ يُدْرِكُوا الشَّيْءَ الصَّالِحَ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ.
وَإِنَّمَا جُعِلَتِ الْبَرَاءَةُ شَأْنًا من شؤون اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأُسْنِدَ الْعَهْدُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ:
لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْعُهُودَ الَّتِي عَقَدَهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَازِمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ مَا عَقَدُوهُ
بِأَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ عُهُودَ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا كَانَتْ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، فِي وَقْتِ عَدَمِ اسْتِجْمَاعِ قُوَّتِهِمْ، وَأَزْمَانَ كَانَتْ بَقِيَّةُ قُوَّةٍ لِلْمُشْرِكِينَ، وَإِلَّا فَإِنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ مَا كَانُوا يَسْتَحِقُّونَ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ تَوْسِعَةً وَلَا عَهْدًا لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الدِّينِ تَكُونُ أَقْوَمَ إِذَا شَدَّدَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَعْدَائِهِ، فَالْآنَ لَمَّا كَانَتْ مَصْلَحَةُ الدِّينِ مُتَمَحِّضَةً فِي نَبْذِ الْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدَهُ الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ أَذِنَ اللَّهُ رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ ذَلِكَ الْعَهْدِ، فَلَا تَبِعَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي نَبْذِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعَهْدُ قَدْ عَقَدَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ تَوْسِعَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، عَلَى نَحْو مَا جزى مِنَ الْمُحَاوَرَةِ بَيْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَبَيْنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَعَلَى نَحْوِ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ثَبَاتِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِاثْنَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، عَلَى أَنَّ فِي الْكَلَامِ احْتِبَاكًا، لِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَعْمَلُونَ عَمَلًا إِلَّا عَنْ أَمْرٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَصَارَ الْكَلَامُ فِي قُوَّةِ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمِنْكُمْ، إِلَى الَّذين عَاهَدَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَعَاهَدْتُمْ. فَالْقَبَائِلُ الَّتِي كَانَ لَهَا عَهْدٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ قَدْ جَمَعَهَا كُلَّهَا الْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ: إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَالتَّعْرِيفُ بِالْمَوْصُولِيَّةِ هُنَا، لِأَنَّهَا أَخْصَرُ طَرِيقٍ لِلتَّعْبِيرِ عَنِ الْمَقْصُودِ، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْبَرَاءَةَ بَرَاءَةٌ مِنَ الْعَهْدِ، ثُمَّ بَيَّنَ بَعْضَهَا بِقَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً [التَّوْبَة: ٤] الْآيَة.
[٢]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٢]
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢)
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَعْنَى الْبَرَاءَةِ، لِأَنَّهَا لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِالْأَذَانِ بِهَا كَانَتْ إِعْلَامًا لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ هُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي فِعْلِ الْأَمْرِ مَعْلُومٌ مِنْهُ أَنَّهُمُ الْمُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الْكَلَامُ وَذَلِكَ الْتِفَاتٌ. فَالتَّقْدِيرُ:
فَلْيَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ وَنُكْتَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ إِبْلَاغُ الْإِنْذَارِ إِلَيْهِمْ مُبَاشَرَةً.
وَيَجُوزُ تَقْدِيرُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ مُفَرَّعٍ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ عُهُودِهِمْ، أَيْ فَقُلْ لَهُمْ: سِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
وَسِيَاقُ الْكَلَامِ وَتَرْتِيبُهُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ مُجْتَمِعِينَ، وَلِذَلِكَ قُرِنَ ذِكْرُ دُعَائِهِمْ بِذِكْرِ تَحِيَّتِهِمْ، فَلَعَلَّهُمْ إِذَا تَرَاءَوُا ابْتَدَرُوا إِلَى الدُّعَاءِ بِالتَّسْبِيحِ فَإِذَا اقْتَرَبَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ سَلَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. ثُمَّ إِذَا رَامُوا الِافْتِرَاقَ خَتَمُوا دُعَاءَهُمْ بِالْحَمْدِ، فَأَنْ تَفْسِيرِيَّةٌ لِآخِرِ دَعْوَاهُمْ، وَهِيَ مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّ آخِرَ الدُّعَاءِ هُوَ نَفْسُ الْكَلِمَةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى فَضْلِ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَلِمَتَانِ حبيبتان إِلَى الرحمان
خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ الله الْعَظِيم»
. [١١]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ١١]
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١)
مَجِيءُ حَرْفِ الْعَطْفِ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي فِي عِلْمِ الْبَلَاغَةِ خُصُوصِيَّةً لِعَطْفِهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا وَمَزِيدَ اتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا فَتَعَيَّنَ إِيضَاحُ مُنَاسَبَةِ مَوْقِعِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مِنْ غُرُورِهِمْ يَحْسَبُونَ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ كَتَصَرُّفَاتِ النَّاسِ مِنَ الِانْدِفَاعِ إِلَى الِانْتِقَامِ عِنْدَ الْغَضَبِ انْدِفَاعًا سَرِيعًا، وَيَحْسَبُونَ الرُّسُلَ مَبْعُوثِينَ لِإِظْهَارِ الْخَوَارِقِ وَنِكَايَةِ الْمُعَارِضِينَ لَهُمْ، وَيُسَوُّونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشَعْوِذِينَ وَالْمُتَحَدِّينَ بِالْبُطُولَةِ وَالْعَجَائِبِ، فَكَانُوا لَمَّا كَذَّبُوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وركبوا رؤوسهم وَلَمْ تُصِبْهُمْ بِأَثَرِ ذَلِكَ مَصَائِبُ مِنْ عَذَابٍ شَامِلٍ أَوْ مُوتَانٍ عَامٍّ ازْدَادُوا غُرُورًا بِبَاطِلِهِمْ وَإِحَالَةً لِكَوْنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا كَقَوْلِهِ: وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: ٣٢] وَقَوْلِهِ: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ [الْحَج:
٤٧] وَقَوْلِهِ: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ [الذاريات: ٥٩] وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَفِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ.
وَكَقَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥]، وَهُوَ أَيْضًا مِثْلُهُ فِي أَنَّ الْإِتْيَانَ بِهِ عَقِبَ الْأَخْبَارِ الْمَاضِيَةِ عَنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ جَدِيرُونَ بِمَا يَأْتِي بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْخَبَرِ لِأَجْلِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَتَأْنِيثُ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِتَأْوِيلِ الْأُمَّةِ.
وعادٌ بَيَانٌ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَجُمْلَةُ جَحَدُوا خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَهُوَ وَمَا بَعْدَهُ تَمْهِيدٌ لِلْمَعْطُوفِ وَهُوَ وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً لِزِيَادَةِ تَسْجِيلِ التَّمْهِيدِ بِالْأَجْرَامِ السَّابِقَةِ، وَهُوَ الَّذِي اقْتَضَاهُ اسْمُ الْإِشَارَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ جَمْعِ الْعَذَابَيْنِ لَهُمْ.
وَالْجَحْدُ: الْإِنْكَارُ الشَّدِيدُ، مِثْلَ إِنْكَارِ الْوَاقِعَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُودًا أَتَاهُمْ بِآيَاتٍ فَأَنْكَرُوا دَلَالَتَهَا. وَعُدِّيَ جَحَدُوا بِالْبَاءِ مَعَ أَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ لِتَأْكِيدِ التَّعْدِيَةِ، أَوْ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى كَفَرُوا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قِيلَ: جَحَدُوا آيَاتِ رَبِّهِمْ وَكَفَرُوا بِهَا، كَقَوْلِهِ: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النَّمْل: ١٤].
وَجَمَعَ الرُّسُلَ فِي قَوْلِهِ: وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَإِنَّمَا عَصَوْا رَسُولًا وَاحِدًا، وَهُوَ هُودٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَنَّ الْمُرَادَ ذِكْرُ إِجْرَامِهِمْ فَنَاسَبَ أَنْ يُنَاطَ الْجُرْمُ بِعِصْيَانِ جِنْسِ الرُّسُلِ لِأَنَّ تَكْذِيبَهُمْ هُودًا لَمْ يَكُنْ خَاصًّا بِشَخْصِهِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ [هود: ٥٣]، فَكُلُّ رَسُولٍ جَاءَ بِأَمْرِ تَرْكِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَهُمْ مُكَذِّبُونَ بِهِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاء: ١٢٣].
وَمَعْنَى اتِّبَاعِ الْأَمْرِ: طَاعَةُ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، فَالِاتِّبَاعُ تَمْثِيلٌ لِلْعَمَلِ بِمَا يُمْلَى عَلَى الْمُتَّبِعِ،
لِأَنَّ الْأَمَرَ يُشْبِهُ الْهَادِيَ لِلسَّائِرِ فِي الطَّرِيقِ، وَالْمُمْتَثِلَ يُشْبِهُ الْمُتَّبِعَ لِلسَّائِرِ.
وَهَذَا اعْتِرَاضٌ بَيْنَ تَعْدَادِ الْمَوَاعِظِ لِمُنَاسَبَةِ التَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ، أَيْ أَنَّ التَّنْزِيهَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتُ الْجَوِّ يَقُومُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ، فَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ تَنْزِيهِكُمْ إِيَّاهُ، كَقَوْلِهِ: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [سُورَة الزمر: ٧]، وَقَوْلِهِ: وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٨].
وَاقْتُصِرَ فِي الْعِبْرَةِ بِالصَّوَاعِقِ عَلَى الْإِنْذَارِ بِهَا لِأَنَّهَا لَا نِعْمَةَ فِيهَا لِأَنَّ النِّعْمَةَ حَاصِلَةٌ بِالسَّحَابِ وَأَمَّا الرَّعْدُ فَآلَةٌ مِنْ آلَاتِ التَّخْوِيفِ وَالْإِنْذَارِ. كَمَا قَالَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ [سُورَة الْبَقَرَة: ١٩]. وَكَانَ الْعَرَبُ يَخَافُونَ الصَّوَاعِقَ. وَلَقَّبُوا خُوَيْلِدَ بْنَ نُفَيْلٍ الصَّعِقَ لِأَنَّهُ أَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ أَحْرَقَتْهُ.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ»
، أَيْ بِكُسُوفِهِمَا فَاقْتَصَرَ فِي آيَتِهِمَا عَلَى الْإِنْذَارِ إِذْ لَا يَتَرَقَّبُ النَّاسُ مِنْ كُسُوفِهِمَا نَفْعًا.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ لِأَنَّهُ مِنْ مُتَمِّمَاتِ التَّعَجُّبِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ [الرَّعْد: ٥] إِلَخْ. فَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ كُلُّهَا عَائِدَةٌ إِلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي صَدْرِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [الرَّعْد:
١] وَقَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ [الرَّعْد: ٥] وَقَوْلِهِ: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الرَّعْد: ٧]. وَقَدْ أُعِيدَ الْأُسْلُوبُ هُنَا إِلَى ضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ لِانْقِضَاءِ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَصْلُحُ لِمَوْعِظَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فَتَمَحَّضَ تَخْوِيفُ الْكَافِرِينَ.
وَالْمُجَادَلَةُ: الْمُخَاصَمَةُ وَالْمُرَاجَعَةُ بِالْقَوْلِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٠٧].
وَقَدْ فُهِمَ أَنَّ مَفْعُولَ يُجادِلُونَ هُوَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ. فَالتَّقْدِيرُ: يُجَادِلُونَكَ أَوْ يُجَادِلُونَكُمْ، كَقَوْلِهِ: يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ
فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ مَادَّةَ النَّسْجِ جُعِلَ الْمَنْسُوجُ كَأَنَّهُ مَظْرُوفٌ فِي الْأَنْعَامِ.
وَخُصَّ الدِّفْءُ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ عُمُومِ الْمَنَافِعِ لِلْعِنَايَةِ بِهِ.
وَعطف مَنافِعُ عَلَى دِفْءٌ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لِأَنَّ أَمْرَ الدِّفْءِ قَلَّمَا تَسْتَحْضِرُهُ الْخَوَاطِرُ.
ثُمَّ عُطِفَ الْأَكْلُ مِنْهَا لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِهَا لَا مِنْ ثَمَرَاتِهَا.
وَجُمْلَةُ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَكُمْ فِيها دِفْءٌ.
وَجُمْلَةُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَكُمْ فِيها دِفْءٌ. وَهَذَا امْتِنَانٌ بِنِعْمَةِ تَسْخِيرِهَا لِلْأَكْلِ مِنْهَا وَالتَّغَذِّي، وَاسْتِرْدَادِ الْقُوَّةِ لِمَا يَحْصُلُ مِنْ تَغْذِيَتِهَا.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْها تَأْكُلُونَ للاهتمام، لأَنهم شَدِيد وَالرَّغْبَة فِي أَكْلِ اللُّحُومِ، وَلِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ فِي تَأْكُلُونَ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُتَكَرِّرَةِ.
وَالْإِرَاحَةُ: فِعْلُ الرَّوَاحِ، وَهُوَ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَعَاطِنِ، يُقَالُ: أَرَاحَ نِعَمَهُ إِذَا أَعَادَهَا بَعْدَ السُّرُوحِ.
وَالسُّرُوحُ: الْإِسَامَةُ، أَيِ الْغُدُوُّ بِهَا إِلَى الْمَرَاعِي. يُقَالُ: سَرَحَهَا- بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ- سَرَحًا وَسُرُوحًا، وَسَرَّحَهَا- بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ- تَسْرِيحًا.
وَتَقْدِيمُ الْإِرَاحَةِ عَلَى التَّسْرِيحِ لِأَنَّ الْجَمَالَ عِنْدَ الْإِرَاحَةِ أَقْوَى وَأَبْهَجُ، لِأَنَّهَا تُقْبِلُ حِينَئِذٍ مَلْأَى الْبُطُونِ حَافِلَةَ الضُّرُوعِ مَرِحَةً بِمَسَرَّةِ الشِّبَعِ وَمَحَبَّةِ الرُّجُوعِ إِلَى مَنَازِلِهَا مِنْ مَعَاطِنَ وَمَرَابِضَ.
وَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ فِي تُرِيحُونَ وتَسْرَحُونَ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُتَكَرِّرَةِ.
وَفِي تَكَرُّرِهَا تَكَرُّرُ النِّعْمَةِ بِمَنَاظِرِهَا.
وَجُمْلَةُ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ فَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْضًا. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى أَشْهَرِ الْأَنْعَامِ عِنْدَهُمْ وَهِيَ الْإِبِلُ، كَقَوْلِهَا
فَالَّذِي وُصِفَ بِالسَّيِّئَةِ وَبِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ لَا يَكُونُ إِلَّا مَنْهِيًّا عَنْهُ أَوْ مَأْمُورًا بِضِدِّهِ إِذْ لَا يَكُونُ الْمَأْمُورُ بِهِ مَكْرُوهًا لِلْآمِرِ بِهِ، وَبِهَذَا يظْهر للسامع معَان اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: كُلُّ ذلِكَ.
وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ مَا فِي الْمَذْكُورَاتِ مِنْ مَعَانِي النَّهْيِ لِأَنَّ الْأَهَمَّ هُوَ الْإِقْلَاعُ عَمَّا يَقْتَضِيهِ جَمِيعُهَا مِنَ الْمَفَاسِدِ بِالصَّرَاحَةِ أَوْ بِالِالْتِزَامِ، لِأَنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ أَهَمُّ مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ فِي الِاعْتِبَارِ وَإِنْ كَانَا مُتَلَازِمَيْنِ فِي مِثْلِ هَذَا.
وَقَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّكَ مُتَعَلِّقٌ بِ مَكْرُوهاً أَيْ هُوَ مَذْمُومٌ عِنْدَ اللَّهِ. وَتَقْدِيمُ هَذَا الظَّرْفِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالظَّرْفِ إِذْ هُوَ مُضَافٌ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ، فَزِيَادَةُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً لِتَشْنِيعِ الْحَالَةِ، أَيْ مَكْرُوهًا فِعْلُهُ مِنْ فَاعِلِهِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ فَاعِلَهُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ اللَّهِ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ كانَ سَيِّئُهُ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَبَهَاءِ ضَمِيرٍ فِي آخِرِهِ-. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى كُلُّ ذلِكَ، وكُلُّ ذلِكَ هُوَ نفس السيء فإضافة (سيىء) إِلَى ضَمِيرِهِ إِضَافَةٌ بَيَانِيَّةٌ تُفِيدُ قُوَّة صفة السيء حَتَّى كَأَنَّهُ شَيْئَانِ يُضَافُ
أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ. وَهَذِهِ نُكْتَةُ الْإِضَافَةِ الْبَيَانِيَّةِ كُلَّمَا وَقَعَتْ، أَيْ كَانَ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ مَكْرُوهًا عِنْدَ اللَّهِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهاً خَبَرًا ثَانِيًا لِ (كَانَ) لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِلْقِرَاءَتَيْنِ.
[٣٩]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٣٩]
ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩)
ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ عَدَلَ عَنْ مُخَاطَبَةِ الْأُمَّةِ بِضَمَائِرِ جَمْعِ الْمُخَاطَبِينَ وَضَمَائِرِ الْمُخَاطَبِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ إِلَى خطاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدًّا إِلَى مَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَضى رَبُّكَ إِلَخ [الْإِسْرَاء: ٢٣]. وَهُوَ تَذْيِيلٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ جُمَلِ النَّهْيِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي صَرَاحَةٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَضى رَبُّكَ [الْإِسْرَاء: ٢٣].
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ
[مَرْيَمَ: ١٦]، أَيِ اذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ اللَّهَ رَبِّي فَكَذَلِكَ، وَيَكُونُ تَفْرِيعُ فَاعْبُدُوهُ عَلَى قَوْلِهِ: مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ [مَرْيَم: ٣٥] إِلَى آخِرِهِ...
وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنَّ. وَوَجْهُهَا ظَاهِرٌ عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ.
وَجُمْلَةُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ تَذْيِيلٌ وَفَذْلَكَةٌ لِمَا سَبَقَهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْوُجُوهِ.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَضْمُونِ مَا تَقَدَّمَ عَلَى اخْتِلَافِ الْوُجُوهِ.
وَالْمُرَادُ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ اعْتِقَادُ الْحَقِّ، شُبِّهَ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، شَبَّهَ الِاعْتِقَادَ الْحَقَّ فِي كَوْنِهِ مَوْصُولًا إِلَى الْهُدَى بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي إِيصَالِهِ إِلَى الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ بِاطْمِئْنَانِ بَالٍ، وَعُلِمَ أَنَّ غَيْرَ هَذَا كَبُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ مَنْ سَلَكَهَا أَلْقَت بِهِ فِي الْمَخَاوِفُ وَالْمَتَالِفُ كَقَوْلِهِ وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ
سَبِيلِهِ
[الْأَنْعَام: ١٥٣].
[٣٧]
[سُورَة مَرْيَم (١٩) : آيَة ٣٧]
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧)
الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْإِخْبَارِ بِحُصُولِ الِاخْتِلَافِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِأَنَّ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، أَيْ حَادَ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْأَحْزَابُ فَاخْتَلَفُوا بَيْنَهُمْ فِي الطَّرَائِقِ الَّتِي سَلَكُوهَا، أَيْ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ لَا يَخْتَلِفُ سَالِكُوهُ اخْتِلَافًا أَصْلِيًّا، فَسَلَكَ الْأَحْزَابُ طُرُقًا أُخْرَى هِيَ حَائِدَةٌ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى شَيْءٍ.
وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ وَتَشْنِيعِ عِبَادَةِ غَيْرِهِ.
وفرّع عَلَى الْإِنْكَارِ وَالتَّضَجُّرِ اسْتِفْهَامًا إِنْكَارِيًّا عَنْ عَدَمِ تَدَبُّرِهِمْ فِي الْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ مِنَ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ فَقَالَ: أَفَلا تَعْقِلُونَ.
[٦٨، ٦٩]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : الْآيَات ٦٨ إِلَى ٦٩]
قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩)
لَمَّا غَلَبَهُمْ بِالْحُجَّةِ الْقَاهِرَةِ لَمْ يَجِدُوا مُخَلِّصًا إِلَّا بِإِهْلَاكِهِ. وَكَذَلِكَ الْمُبْطِلُ إِذَا قَرَعَتْ بَاطِلَهُ حُجَّةُ فَسَادِهِ غَضِبَ عَلَى الْمُحِقِّ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَفْزَعٌ إِلَّا مُنَاصَبَتُهُ وَالتَّشَفِّي مِنْهُ، كَمَا فَعَلَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ عَجَزُوا عَنِ الْمُعَارَضَةِ. وَاخْتَارَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَكُونَ إِهْلَاكُهُ بِالْإِحْرَاقِ لِأَنَّ النَّارَ أَهْوَلُ مَا يُعَاقَبُ بِهِ وَأَفْظَعُهُ.
وَالتَّحْرِيقُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْحَرْقِ، أَيْ حَرْقًا مُتْلِفًا.
وَأُسْنِدَ قَوْلُ الْأَمْرِ بِإِحْرَاقِهِ إِلَى جَمِيعِهِمْ لِأَنَّهُمْ قَبِلُوا هَذَا الْقَوْلَ وَسَأَلُوا مَلِكَهُمْ، وَهُوَ (النُّمْرُوذُ)، إِحْرَاقَ إِبْرَاهِيمَ فَأَمَرَ بِإِحْرَاقِهِ لِأَنَّ الْعِقَابَ بِإِتْلَافِ النُّفُوسِ لَا يَمْلِكُهُ إِلَّا وُلَاةُ أُمُورِ الْأَقْوَامِ. قِيلَ الَّذِي أَشَارَ بِالرَّأْيِ بِإِحْرَاقِ إِبْرَاهِيمَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ كُرْدِيٌّ اسْمُهُ (هِينُونُ)، وَاسْتَحْسَنَ الْقَوْمُ ذَلِكَ، وَالَّذِي أَمَرَ بِالْإِحْرَاقِ (نُمْرُوذُ)، فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِمْ حَرِّقُوهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمُشَاوَرَةِ.
وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَانَ مُؤَامَرَةً سِرِّيَّةً بَيْنَهُمْ دُونَ حَضْرَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّهُمْ دَبَّرُوهُ لِيَبْغَتُوهُ بِهِ خَشْيَةَ هُرُوبِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً [الْأَنْبِيَاء: ٧٠].
وَنُمْرُوذُ هَذَا يَقُولُونَ: إِنَّهُ ابْنُ (كُوشَ) بْنِ حَامِ بْنِ نُوحٍ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ وَزَمَنِ (كُوشَ). فَالصَّوَابُ أَنَّ (نُمْرُوذَ)
(٧٩)
هُوَ عَلَى شَاكِلَةِ قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٧٨].
وَالذَّرْءُ: الْبَثُّ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٣٦]. وَهَذَا امْتِنَانٌ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ وَالْحَيَاةِ وَتَيْسِيرِ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَرْضِ وَإِكْثَارِ النَّوْعِ لِأَنَّ الذَّرْءَ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ كُلَّهُ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ آخَرُ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ إِذْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْخَلْقِ فَكَيْفَ يُشْرِكُونَ مَعَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ أَصْنَافًا هُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا لَا تَخْلُقُ شَيْئًا. وَهُوَ أَيْضًا اسْتِدْلَالٌ عَلَى الْبَعْثِ لِأَنَّ الَّذِي أَحْيَا النَّاسَ عَنْ عَدَمٍ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ إِحْيَائِهِمْ بَعْدَ تَقَطُّعِ أَوْصَالِهِمْ.
وَقُوبِلَ الذَّرْءُ بِضِدِّهِ وَهُوَ الْحَشْرُ وَالْجَمْعُ، فَإِنَّ الْحَشْرَ يَجْمَعُ كُلَّ مَنْ كَانَ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْبَشَرِ. وَفِيهِ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ الرَّدُّ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ، فَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ بِأَنَّهُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ فَهُوَ يجازيهم.
[٨٠]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٨٠]
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠)
هُوَ مِنْ أُسْلُوبِ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٧٨] وَأُعْقِبَ ذِكْرُ الْحَشْرِ بِذِكْرِ الْإِحْيَاءِ لِأَنَّ الْبَعْثَ إِحْيَاءٌ إِدْمَاجًا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عُمُومِ التَّصَرُّفِ فِي الْعَالَمِ.
وَأَمَّا ذِكْرُ الْإِمَاتَةِ فَلِمُنَاسَبَةِ التَّضَادِّ، وَلِأَنَّ فِيهَا دَلَالَةً عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَالْقَهْرِ. وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْإِحْيَاءِ خَلْقُ الْإِيقَاظِ وَمِنَ الْإِمَاتَةِ خَلْقُ النَّوْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزمر: ٤٢] الْآيَةَ عُطِفَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ بِقُدْرَتِهِ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِتِلْكَ الْمُنَاسَبَةِ، وَلِأَنَّ فِي تَصْرِيفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ دَلَالَةً عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ، وَالْعِلْمُ دَلَالَةٌ عَلَى الِانْفِرَادِ بِصِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَعَلَى وُقُوعِ الْبَعْثِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الْأَعْرَاف: ٢٩].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَلَا كَلِمَةً وَاحِدَةً هِيَ أَدَاةُ الْعَرْضِ وَالتَّحْضِيضِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ:
أَلا يَتَّقُونَ بَيَانًا لِجُمْلَةِ ائْتِ. وَالْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ: أَلَا تَتَّقُونَ. فَحَكَى مَقَالَتَهُ بِمَعْنَاهَا لَا بِلَفْظِهَا. وَذَلِكَ وَاسْعٌ فِي حِكَايَةِ الْقَوْلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [الْمَائِدَة: ١١٧] فَإِنَّ جُمْلَةَ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مُفَسِّرَةٌ لِجُمْلَةِ أَمَرْتَنِي. وَإِنَّمَا أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ رَبَّ مُوسَى وَرَبَّهُمْ، فَحَكَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ بِالْمَعْنَى. وَهَذَا الْعَرْضُ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [١٨] فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى.
وَالِاتِّقَاءُ: الْخَوْفُ وَالْحَذَرُ، وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ فِعْلِ يَتَّقُونَ لِظُهُورِ أَنَّ الْمُرَادَ: أَلَا يَتَّقُونَ عَوَاقِبَ ظُلْمِهِمْ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٥٦].
وَيَعْلَمُ مُوسَى مِنْ إِجْرَاءِ وَصْفِ الظُّلْمِ وَعَدَمِ التَّقْوَى عَلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ فِي مَعْرِضِ أَمْرِهِ بِالذَّهَابِ إِلَيْهِمْ أَنَّ مِنْ أَوَّلِ مَا يَبْدَأُ بِهِ دَعْوَتَهُمْ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى تَرْكِ الظُّلْمِ وَإِلَى التَّقْوَى.
وَذِكْرُ مُوسَى تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فِي سُورَة الْبَقَرَةِ [٥١]. وَتَقَدَّمَتْ تَرْجَمَةُ فِرْعَوْنَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فِي الْأَعْرَاف [١٠٣].
[١٢- ١٤]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٢ إِلَى ١٤]
قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤)
افْتِتَاحُ مُرَاجَعَتِهِ بِنِدَاءِ اللَّهِ بِوَصْفِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَيْهِ تَحْنِينٌ وَاسْتِسْلَامٌ. وَإِنَّمَا خَافَ أَنْ
يُكَذِّبُوهُ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الرِّسَالَةِ لَا يَتَلَقَّاهَا الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ إِلَّا بِالتَّكْذِيبِ، وَجَعَلَ نَفْسَهُ خَائِفًا مِنَ التَّكْذِيبِ لِأَنَّهُ لَمَّا خُلِعَتْ عَلَيْهِ الرِّسَالَةُ عَنِ اللَّهِ وَقَرَ فِي صَدْرِهِ الْحِرْصُ عَلَى نَجَاحِ رِسَالَتِهِ فَكَانَ تَكْذِيبُهُ فِيهَا مَخُوفًا مِنْهُ.
ويَضِيقُ صَدْرِي قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى أَخافُ
وَجُمْلَةُ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْخَوْفِ. وَوَصْفُ قَوْمِ فِرْعَوْنَ بِالظَّالِمِينَ تَصْدِيقًا لِمَا أَخْبَرَهُ بِهِ مُوسَى مِنْ رَوْمِهِمْ قَتْلَهُ قِصَاصًا عَنْ قَتْلٍ خَطَأٍ. وَمَا سَبَقَ ذَلِكَ مِنْ خَبَرِ عَدَاوَتِهِمْ عَلَى بني إِسْرَائِيل.
[٢٦- ٢٨]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : الْآيَات ٢٦ إِلَى ٢٨]
قالَتْ إِحْداهُما يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨)
حَذَفَ مَا لَقِيَهُ مُوسَى مِنْ شُعَيْبٍ مِنَ الْجَزَاءِ بِإِضَافَتِهِ وَإِطْعَامِهِ، وَانْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى عَرْضِ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ عَلَى أَبِيهَا أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِلْعَمَلِ فِي مَاشِيَتِهِ إِذْ لَمْ يكن لَهُم بَيتهمْ رَجُلٌ يَقُومُ بِذَلِكَ وَقَدْ كَبُرَ أَبُوهُمَا فَلَمَّا رَأَتْ أَمَانَتَهُ وَوَرَعَهُ رَأَتْ أَنَّهُ خَيْرُ مَنْ يُسْتَأْجَرُ لِلْعَمَلِ عِنْدَهُمْ لِقُوَّتِهِ عَلَى الْعَمَلِ وَأَمَانَتِهِ.
وَالتَّاءُ فِي أَبَتِ عِوَضٌ عَنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي النِّدَاءِ خَاصَّةً وَهِيَ يَجُوزُ كَسْرُهَا وَبِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَيَجُوزُ فَتْحُهَا وَبِهِ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ عِلَّةٌ لِلْإِشَارَةِ عَلَيْهِ بِاسْتِئْجَارِهِ، أَيْ لِأَنَّ مِثْلَهُ مَنْ يُسْتَأْجَرُ. وَجَاءَتْ بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ مُرْسَلَةٍ مَثَلًا لِمَا فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ وَمُطَابَقَةِ الْحَقِيقَةِ بِدُونِ تَخَلُّفٍ، فَالتَّعْرِيفُ بِاللَّامِ فِي الْقَوِيُّ الْأَمِينُ لِلْجِنْسِ مُرَادٌ بِهِ الْعُمُومُ. وَالْخِطَابُ فِي
مَنِ اسْتَأْجَرْتَ مُوَجَّهٌ إِلَى شُعَيْبٍ، وَصَالِحٌ لِأَنْ يَعُمَّ كُلَّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِطَابِ لِتَتِمَّ صَلَاحِيَّةُ هَذَا الْكَلَامِ لِأَنْ يُرْسَلَ مَثَلًا. فَالتَّقْدِيرُ: مَنِ اسْتَأْجَرَ الْمُسْتَأْجِرُ. ومَنِ مَوْصُولَةٌ فِي مَعْنَى الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ إِذْ لَا يُرَادُ بِالصِّلَةِ هُنَا وَصْفُ خَاصٍّ بِمُعَيَّنٍ.
وَجَعْلُ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ مُسْنَدًا إِلَيْهِ بِجَعْلِهِ اسْمًا لِأَنَّ جَعْلَ الْقَوِيُّ
لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِلرِّيَاءِ وَالْفَخْرِ. فَمَنْ آتَى لِلرِّيَاءِ وَالْفَخْرِ فَلَا فَلَاحَ لَهُ من إيتائه.
[٣٩]
[سُورَة الرّوم (٣٠) : آيَة ٣٩]
وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩)
لَمَّا جَرَى التَّرْغِيب وَالْأَمر ببذلك الْمَالِ لِذَوِي الْحَاجَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَلَاحِ أَعْقَبَ بِالتَّزْهِيدِ فِي ضَرْبٍ آخَرَ مِنْ إِعْطَاءِ الْمَالِ لَا يَرْضَى اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَكَانَ الرِّبَا فَاشِيًّا فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ وَصَدْرِ الْإِسْلَامِ وَخَاصَّةً فِي ثَقِيفٍ وَقُرَيْشٍ. فَلَمَّا أَرْشَدَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مُوَاسَاةِ أَغْنِيَائِهِمْ فُقَرَاءَهُمْ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِتَهْيِئَةِ نُفُوسِهِمْ لِلْكَفِّ عَنِ الْمُعَامَلَةِ بِالرِّبَا لِلْمُقْتَرِضِينَ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْمُعَامَلَةَ بِالرِّبَا تُنَافِي الْمُوَاسَاةَ لِأَنَّ شَأْنَ الْمُقْتَرِضِ أَنَّهُ ذُو خَلَّةٍ، وَشَأْنُ الْمُقْرِضِ أَنَّهُ ذُو جِدَةٍ فَمُعَامَلَتُهُ الْمُقْتَرِضَ مِنْهُ بالربا افتراض لِحَاجَتِهِ وَاسْتِغْلَالٌ لِاضْطِرَارِهِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ.
وَمَا شُرْطِيَّةٌ تُفِيدُ الْعُمُومَ، فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَعْدَ جُمْلَةٍ فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ [الرّوم: ٣٨] إِلَخْ. وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَمَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِدْرَاكِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى إِيتَاءِ مَالٍ هُوَ ذَمِيمٌ. وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ شَرْطِيَّةً لِأَنَّهَا أَنْسَبُ بِمَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ عَلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ.
فَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِضُونَ بِالرِّبَا قَبْلَ تَحْرِيمِهِ.
وَمَعْنَى آتَيْتُمْ: آتَى بَعْضُكُمْ بَعْضًا لِأَنَّ الْإِيتَاءَ يَقْتَضِي مُعْطِيًا وَآخِذًا.
وَقَوْلُهُ لِتُرْبُوا فِي أَمْوالِ النَّاسِ خِطَابٌ لِلْفَرِيقِ الْآخِذِ.
ولتربوا لِتَزِيدُوا، أَيْ لِأَنْفُسِكُمْ أَمْوَالًا عَلَى أَمْوَالِكُمْ. وَقَوْلُهُ: فِي أَمْوالِ النَّاسِ فِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ بِمَعْنَى (مِنِ) الِابْتِدَائِيَّةِ، أَيْ لِتَنَالُوا زِيَادَةً وَأَرْبَاحًا تَحْصُلُ لَكُمْ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، فَحَرْفُ فِي هُنَا كَالَّذِي فِي قَوْلِ سَبْرَةَ الْفَقْعَسِيِّ:
وَنَشْرَبُ فِي أَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ (١)
_________
(١) أَوله: نحابي أكفاءنا ونهينها. وَهُوَ من شعر الحماسة يذكر فِيهِ إبل الدِّيَة. قَالَ ذَلِك من أَبْيَات يذكر أَن أحد بني أَسد عيّره بِأخذ الدِّيَة عَن قَتِيل.
وَمَعْنَى هَذَا
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ»
وَأَذَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَحْصُلُ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ فِيمَا يَفْعَلُهُ، وَبِالْكَيْدِ لَهُ، وَبِأَذَى أَهْلِهِ مِثْلَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي
الْإِفْكِ، وَالطَّاعِنِينَ أَعْمَالَهُ، كَالطَّعْنِ فِي إِمَارَةِ زَيْدٍ وَأُسَامَةَ، وَالطَّعْنِ فِي أَخْذِهِ صَفِيَّةَ لِنَفْسِهِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ طَعَنُوا فِي اتِّخَاذِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حييّ لنَفسِهِ».
[٥٨]
[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : آيَة ٥٨]
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨)
أُلْحِقَتْ حُرْمَةُ الْمُؤْمِنِينَ بِحُرْمَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْوِيهًا بِشَأْنِهِمْ، وَذُكِرُوا عَلَى حِدَةٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى نُزُولِ رُتْبَتِهِمْ عَنْ رُتْبَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَهَذَا مِنَ الِاسْتِطْرَادِ مُعْتَرَضٌ بَيْنَ أَحْكَامِ حُرْمَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآدَابِ أَزْوَاجِهِ وَبَنَاتِهِ وَالْمُؤْمِنَات.
وَعَطْفُ الْمُؤْمِناتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِلتَّصْرِيحِ بِمُسَاوَاةِ الْحُكْمِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا مِنَ الشَّرِيعَةِ، لِوَزْعِ الْمُؤْذِينَ عَنْ أَذَى الْمُؤْمِنَاتِ لِأَنَّهُنَّ جَانِبٌ ضَعِيفٌ بِخِلَافِ الرِّجَالِ فَقَدْ يَزَعُهُمْ عَنْهُمُ اتِّقَاءُ غَضَبِهِمْ وَثَأْرِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ.
وَالْمُرَادُ بِالْأَذَى: أَذَى الْقَوْلِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً لِأَنَّ الْبُهْتَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَقْوَالِ وَذَلِكَ تَحْقِيرٌ لِأَقْوَالِهِمْ، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ التَّحْقِيرَ بِأَنَّهُ إِثْمٌ مُبِينٌ. وَالْمُرَادُ بِالْمُبِينِ الْعَظِيمُ الْقَوِيُّ، أَيْ جُرْمًا مِنْ أَشَدِّ الْجُرْمِ، وَهُوَ وَعِيدٌ بِالْعِقَابِ عَلَيْهِ.
وَضَمِيرُ اكْتَسَبُوا عَائِدٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ، وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَهَذَا الْحَالُ لِزِيَادَةِ تَشْنِيعِ ذَلِكَ الْأَذَى بِأَنَّهُ ظُلْمٌ وَكَذِبٌ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَالِ تَقْيِيدَ الْحُكْمِ حَتَّى يَكُونَ مَفْهُومُهُ جَوَازَ أَذَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِمَا اكْتَسَبُوا، أَيْ أَنْ يُسَبُّوا بِعَمَلٍ ذَمِيمٍ اكْتَسَبُوهُ لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ مَوْكُولًا لِعُمُومِ النَّاسِ وَلَكِنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما [النِّسَاء: ١٦]. وَقَدْ نَهَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْغِيبَةِ
وَقَالَ: «هِيَ أَنْ تَذْكُرَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ. فَقِيلَ:
وَإِنْ كَانَ حَقًّا. قَالَ: إِنْ كَانَ غَيْرَ حَقٍّ فَذَلِكَ الْبُهْتَانُ»
فَأَمَّا تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ فَلَا يَصْحَبُهُ أَذًى.
فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تُغْرُونَنَا بِقُوَّةٍ مِنْكُمْ، وَمِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَحْتَمِلُهَا الْآيَةُ أَنْ يُرِيدُوا: تَأْتُونَنَا مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي يُحْسِنُهَا تَمْوِيهُكُمْ وَإِغْوَاؤُكُمْ وَتُظْهِرُونَ فِيهَا أَنَّهَا جِهَةُ الرُّشْدِ (وَهُوَ عَنِ الزَّجَّاجِ وَالْجُبَّائِيِّ) وَمِمَّا تَحْتَمِلُهُ الْآيَةُ أَنْ يُرِيدُوا:
إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا، أَيْ تَقْطَعُونَ بِنَا عَنْ أَخْبَارِ الْخَيْرِ وَالْيُمْنِ، فَعَبَّرُوا عَنْهَا بِالْيَمِينِ، وَمِنَ الْمَعَانِي أَنْ يُرِيدُوا: أَنَّكُمْ تَجِيئُونَ مِنْ جِهَةِ الشَّهَوَاتِ وَعَدَمِ النَّظَرِ لِأَنَّ جِهَةَ يَمِينِ الْإِنْسَانِ فِيهَا كَبِدُهُ وَجِهَةَ شَمَالِهِ فِيهَا قَلْبُهُ وَأَنَّ نَظَرَ الْإِنْسَانِ فِي قَلْبِهِ وَقِيلَ: تحلفون لنا ا. هـ.
وَجَوَابُ الزُّعَمَاءِ بِقَوْلِهِمْ: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِضْرَابُ إِبْطَالٍ لِزَعْمِ الْأَتْبَاعِ أَنَّهُمُ الَّذِينَ صَدُّوهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْخَيْرِ أَيْ بَلْ هُمْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَقْبَلُ الْإِيمَانَ لِأَنَّ تَسْلِيطَ النَّفْيِ عَلَى فِعْلِ الْكَوْنِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: بَلْ لَمْ تُؤْمِنُوا، مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْإِيمَانَ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِمْ، أَيْ بَلْ كُنْتُمْ أَنْتُمُ الْآبِينَ قَبُولَ الْإِيمَانِ. وَمَا كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أَيْ مِنْ قَهْرٍ وَغَلَبَةٍ حَتَّى نُكْرِهَكُمْ عَلَى رَفْضِ الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ أَكَّدُوا هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِمْ: بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ، أَيْ كَانَ الطُّغْيَانُ وَهُوَ التَّكَبُّرُ عَنْ قَبُولِ دَعْوَةِ رَجُلٍ مِنْكُمْ شَأْنَكُمْ وَسَجِيَّتَكُمْ، فَلِذَلِكَ أَقْحَمُوا لَفْظَ قَوْماً بَيْنَ «كَانَ» وَخَبَرِهَا لِأَنَّ اسْتِحْضَارَهُمْ بِعُنْوَانِ الْقَوْمِيَّةِ فِي الطُّغْيَانِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الطُّغْيَانَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا قَدَّمْنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤].
وَفَرَّعُوا عَلَى كَلَامِهِمُ اعْتِرَافَهَمْ بِأَنَّهُمْ جَمِيعًا اسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ فَقَوْلُهُمْ: فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ، تَفْرِيعُ الِاعْتِرَاضِ، أَيْ كَانَ أَمْرُ رَبِّنَا بِإِذَاقَتِنَا عَذَابَ جَهَنَّمَ حَقًّا.
وَفِعْلُ «حَقَّ» بِمَعْنَى ثَبَتَ.
وَجُمْلَةُ إِنَّا لَذائِقُونَ بَيَانٌ لِ قَوْلُ رَبِّنا. وَحُكِيَ الْقَوْلُ بِالْمَعْنَى عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ وَلَوْلَا الِالْتِفَاتُ لَقَالَ: إِنَّكُمْ لَذَائِقُونَ أَوْ إِنَّهُمْ لَذَائِقُونَ. وَنُكْتَةُ الِالْتِفَاتِ زِيَادَةُ التَّنْصِيصِ عَلَى الْمَعْنِيِّ بِذَوْقِ الْعَذَابِ.
وَحُذِفَ مَفْعُولُ «ذَائِقُونَ» لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَمْرُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاهْدُوهُمْ إِلى
صِراطِ الْجَحِيمِ
[الصافات: ٢٣].
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَرَاكُمْ آيَاتِهِ وَأَنْزَلَ لَكُمُ الرِّزْقَ وَمَا يتَذَكَّر بذلك إِلَّا الْمُنِيبُونَ وَأَنْتُمْ مِنْهُمْ فَادْعُوا الله مُخلصين لتوفر دَوَاعِي تِلْكَ الْعِبَادَةِ.
وَالدُّعَاءُ هُنَا الْإِعْلَانُ وَذِكْرُ اللَّهِ وَنِدَاؤُهُ وَيَشْمَلُ الدُّعَاءَ بِمَعْنَى سُؤَالِ الْحَاجَةِ شُمُولَ الْأَعَمِّ لِلْأَخَصِّ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا أَنَّ الدُّعَاءَ يُطْلَقُ عَلَى الْعِبَادَةِ. وَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ، فَالْمَقْصُودُ: دُومُوا عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، لِأَنَّ كَرَاهِيَةَ الْكَافِرِينَ ذَلِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ تَكُونُ سَبَبًا لِمُحَاوَلَتِهِمْ صَرْفَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ يَجِدُونَ إِلَيْهَا سَبِيلًا فَيُخْشَى ذَلِكَ أَنْ يَفْتِنَ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَالْكَرَاهِيَةُ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُقَاوَمَةِ وَالصَّدِّ لِأَنَّهُمَا لَازِمَانِ لِلْكَرَاهِيَةِ لِأَنَّ شَأْنَ الْكَارِهِ أَنْ لَا يَصْبِرَ عَلَى دَوَامِ مَا يَكْرَهُهُ، فَالْأَمْرُ بِقَوْلِهِ: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لي نَحْوِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء: ١٣٦].
وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: فَادْعُوا اللَّهَ لِأَنَّ الْكَلَامَ تَفْرِيعٌ لِاسْتِجْدَادِ غَرَضٍ آخَرَ فَجُعِلَ مُسْتَقِلًّا عَمَّا قَبْلَهُ.
وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَوَّلَ سُورَةِ الزُّمَرِ [٢].
وَجُمْلَةُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ من فَاعل فَادْعُوا.
ولَوْ وَصْلِيَّةٌ تُفِيدُ أَنَّ شَرْطَهَا أَقْصَى مَا يَكُونُ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي يُرَادُ تَقْيِيدُ عَامِلِ الْحَالِ بِهَا، أَيِ اعْبُدُوهُ فِي كُلِّ حَالٍ حَتَّى فِي حَالِ كَرَاهِيَةِ الْكَافِرِينَ ذَلِكَ لِأَنَّ كَرَاهِيَةَ الْكَافِرِينَ ذَلِكَ وَالْمُؤْمِنُونَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَفِي بِلَاد فِيهِ سُلْطَانِ الْكَافِرِينَ مَظِنَّةٌ لِأَنْ يَصُدَّهُمْ ذَلِكَ عَنْ دُعَاءِ اللَّهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الْحجر: ٩٤] وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ (لَوْ) هَذِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
[سُورَة الشورى (٤٢) : الْآيَات ٣٢ إِلَى ٣٤]
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤)لَمَّا جَرَى تَذْكِيرُهُمْ بِأَنَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ هُوَ مُسَبَّبٌ عَنِ اقْتِرَافِ أَعْمَالِهِمْ، وَتَذْكِيرِهِمْ بِحُلُولِ الْمَصَائِبِ تَارَةً وَكَشْفِهَا تَارَةً أُخْرَى بقوله: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:
٣٠]، وَأَعْقَبَ بِأَنَّهُمْ فِي الْحَالَتَيْنِ غَيْرُ خَارِجِينَ عَنْ قَبْضَةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ سِيقَ لَهُمْ ذِكْرُ هَذِهِ الْآيَةِ جَامِعَةً مِثَالًا لِإِصَابَةِ الْمَصَائِبِ وَظُهُورِ مَخَائِلِهَا الْمُخِيفَةِ الْمُذَكِّرَةِ بِمَا يَغْفُلُونَ عَنْهُ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ وَالَّتِي قَدْ تَأْتِي بِمَا أُنْذِرُوا بِهِ وَقَدْ تَنْكَشِفُ عَنْ غَيْرِ ضُرٍّ، وَدَلِيلًا عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَا مَحِيصَ عَنْ إِصَابَةِ مَا أَرَادَهُ، وَإِدْمَاجًا لِلتَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ السَّيْرِ فِي الْبَحْرِ وَتَسْخِيرِ الْبَحْرِ لِلنَّاسِ فَإِنَّ ذَلِكَ نِعْمَةٌ، قَالَ تَعَالَى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤]، فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضًا مِثْلَ جُمْلَةِ وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الشورى: ٢٩].
وَالْآيَاتُ: الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْحَقِّ.
وَالْجَوَارِي: جَمْعُ جَارِيَةٍ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ ذِكْرُ الْبَحْرِ، أَيِ السُّفُنُ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ [١١] إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ.
وَعَدَلَ عَنِ: الْفُلْكِ إِلَى الْجَوارِ إِيمَاءً إِلَى مَحَلِّ الْعِبْرَةِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي تَسْخِيرِ الْبَحْرِ لِجَرْيِهَا وَتَفْكِيرِ الْإِنْسَانِ فِي صُنْعِهَا.
وَالْأَعْلَامُ: جَمْعُ عَلَمٍ وَهُوَ الْجَبَلُ، وَالْمُرَادُ: بِالْجَوَارِي السُّفُنُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي تَسَعُ نَاسًا كَثِيرِينَ، وَالْعِبْرَةُ بِهَا أَظْهَرُ وَالنِّعْمَةُ بِهَا أَكْثَرُ.
وَكُتِبَتْ كَلِمَةُ الْجَوارِ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ يَاءٍ بَعْدَ الرَّاءِ وَلَهَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ فِي الرَّسْمِ وَالْقِرَاءَةِ، وَلِلْقُرَّاءِ فِي أَمْثَالِهَا اخْتِلَافٌ هِيَ الَّتِي تُدْعَى عِنْدَ عُلَمَاءِ الْقِرَاءَاتِ بِالْيَاءَاتِ الزَّوَائِدِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ الْجَوَارِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي
وَالتَّفْرِيعُ هَذَا مَزِيدُ مُنَاسَبَةٍ لِقَوْلِهِ آنِفًا ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [مُحَمَّد: ١١] الْآيَةَ.
فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَاعْلَمْ كِنَايَةٌ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْمَعْلُومِ، وَذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ عَلَيْهِ لِأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ وَعَلِمَهُ الْمُؤْمِنُونَ، وَإِذَا حَصَلَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً تَقَرَّرَ فِي النَّفْسِ لِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ فَلَيْسَ الْأَمْرُ بِهِ بَعْدَ حُصُولِهِ لِطَلَبِ تَحْصِيلِهِ بَلْ لِطَلَبِ الثَّبَاتِ فَهُوَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
[النِّسَاء: ١٣٦]. وَأَمَّا الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ فَهُوَ لِطَلَبِ تَجْدِيدِ ذَلِكَ إِنْ كَانَ قَدْ علمه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَبْلُ وَعَمِلَهُ أَوْ هُوَ لِطَلَبِ تَحْصِيلِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَهُ مِنْ قَبْلُ.
وَذِكْرُ الْمُؤْمِناتِ بعد لِلْمُؤْمِنِينَ اهْتِمَامٌ بِهِنَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَإِلَّا فَإِنَّ الْغَالِبَ اكْتِفَاءُ الْقُرْآنِ بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَشُمُولِهِ لِلْمُؤْمِنَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ لِلْعِلْمِ بِعُمُومِ تَكَالِيفِ الشَّرِيعَةِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ مِنَ التَّكَالِيفِ.
وَمِنَ اللَّطَائِفِ الْقُرْآنِيَّةِ أَنْ أَمَرَ هُنَا بِالْعِلْمِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْعَمَلِ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ فَضْلِ الْعِلْمِ: أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ حِينَ بَدَأَ بِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ. وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ «صَحِيحِهِ» بَابَ الْعِلْمِ
قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ.
وَمَا يَسْتَغْفِرُ مِنْهُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مِنَ السَّيِّئَاتِ لِعِصْمَتِهِ مِنْهَا، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِغْفَارٌ مِنَ الْغَفَلَاتِ وَنَحْوِهَا، وَتَسْمِيَتُهُ بِالذَّنْبِ فِي الْآيَةِ إِمَّا مُحَاكَاةٌ لِمَا كَانَ يكثر
النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي)
وَإِنَّمَا كَانَ يَقُولُهُ فِي مَقَامِ التَّوَاضُعِ، وَإِمَّا إِطْلَاقٌ لِاسْمِ الذَّنْبِ عَلَى مَا يَفُوتُ مِنَ الِازْدِيَادِ فِي الْعِبَادَةِ مِثْلُ أَوْقَاتِ النَّوْمِ وَالْأَكْلِ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى مَا عناه
النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ (١) عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ
_________
(١) يغان، أَي يغام ويغشى. وفسروا ذَلِك بالغفلات عَن الذّكر.
فَيُوقَفُ عَلَيْهِ بِالتَّاءِ وَيَكُونُ مَصْرُوفًا لِأَنَّ تَاءَ لَاتٍ مِثْلُ بَاءِ بَابٍ، وَأَصْلُهُ: مَنَوَاةُ بِالتَّحْرِيكِ وَقَدْ يمد فَيُقَال:
منآة وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ. وَقِيَاسُ الْوَقْفِ عَلَيْهِ أَنْ يُوقَفَ عَلَيْهِ بِالْهَاءِ، وَبَعْضُهُمْ يَقِفُ عَلَيْهِ بِالتَّاءِ تَبَعًا لِخَطِّ الْمُصْحَفِ، وَكَانَ صَخْرَةً وَقَدْ عَبَدَهُ جُمْهُورُ الْعَرَبِ وَكَانَ مَوْضِعُهُ فِي الْمُشَلَّلِ حَذْوَ قُدَيْدٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَكَانَ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ يَطُوفُونَ حَوْلَهُ فِي الْحَجِّ عِوَضًا عَنِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَمَّا حَجَّ الْمُسْلِمُونَ وَسَعَوْا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَحَرَّجَ الْأَنْصَارُ مِنَ السَّعْيِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْعَوْنَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَنَزَلَ فِيهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي «الْمُوَطَّإِ» فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٥٨].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَمَناةَ بِتَاءٍ بَعْدَ الْأَلِفِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ عَلَى إِحْدَى اللُّغَتَيْنِ. وَالْجُمْهُورُ يَقِفُونَ عَلَيْهِ بِالتَّاءِ تَبَعًا لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ فَتَكُونُ التَّاءُ حَرْفًا مِنَ الْكَلِمَةِ غَيْرَ عَلَامَةِ تَأْنِيثٍ فَهِيَ مِثْلُ تَاءِ اللَّاتَ وَيَجْعَلُونَ رَسْمَهَا فِي الْمُصْحَفِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ.
وَوَصْفُهَا بِالثَّالِثَةِ لِأَنَّهَا ثَالِثَةٌ فِي الذِّكْرِ وَهُوَ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ، وَوَصْفُهَا بِالْأُخْرَى أَيْضًا صِفَةٌ كَاشِفَةٌ لِأَنَّ كَوْنَهَا ثَالِثَةً فِي الذِّكْرِ غَيْرِ الْمَذْكُورَتَيْنِ قَبْلَهَا مَعْلُومٌ لِلسَّامِعِ، فَالْحَاصِلُ مِنَ الصِّفَتَيْنِ تَأْكِيدُ ذِكْرِهَا لِأَنَّ اللَّاتَ وَالْعُزَّى عِنْدَ قُرَيْشٍ وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْعَرَبِ أَشْهَرُ مِنْ مَنَاةَ لِبُعْدِ مَكَانِ مَنَاةَ عَنْ بِلَادِهِمْ وَلِأَنَّ تَرْتِيبَ مَوَاقِعِ بُيُوتِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ كَذَلِكَ، فَاللَّاتُ فِي أَعْلَى تِهَامَةَ بِالطَّائِفِ، وَالْعُزَّى فِي وَسْطِهَا بِنَخْلَةٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَمَنَاةُ بِالْمُشَلَّلِ بَيْنَ مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةِ فَهِيَ ثَالِثَةُ الْبِقَاعِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَتْ مَنَاةُ أَعْظَمَ هَذِهِ الْأَوْثَانِ قدرا وأكثرها عابدا وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: الثَّالِثَةَ الْأُخْرى فَأَكَّدَهَا بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ.
وَالْأَحْسَنُ أَنَّ قَوْلَهُ: الثَّالِثَةَ الْأُخْرى جَرَى عَلَى أُسْلُوبِ الْعَرَبِ إِذَا أَخْبَرُوا عَنْ مُتَعَدِّدٍ وَكَانَ فِيهِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْخَبَرِ لِعِظَمَةٍ أَوْ تَبَاعُدٍ عَنِ التَّلَبُّسِ بِمِثْلِ مَا تَلَبَّسَ بِهِ نُظَرَاؤُهُ أَنْ يَخْتِمُوا الْخَبَرَ فَيَقُولُوا: «وَفُلَانٌ هُوَ الْآخَرُ» وَوَجْهُهُ هُنَا أَنَّ عُبَّادَ مَنَاةَ كَثِيرُونَ فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ عَبَدَتِهَا لَا يَزِيدُهَا قُوَّةً عَلَى بَقِيَّةِ الْأَصْنَامِ فِي مَقَامِ إِبْطَالِ إِلَهِيَّتِهَا وَكُلُّ ذَلِكَ جَارٍ مَجْرَى التَّهَكُّمِ وَالتَّسْفِيهِ.
الْقَيْدِ، أَيْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى قِتَالِكُمُ اجْتِمَاعَ الْجُيُوشِ، أَيْ لَا يُهَاجِمُونَكُمْ وَلَكِنْ يُقَاتِلُونَ قِتَالَ دِفَاعٍ فِي قُرَاهُمْ.
وَاسْتِثْنَاءُ إِلَّا فِي قُرىً عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي جَمِيعاً اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقِيٌّ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ، أَيْ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ كُلُّهُمْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ الْكَوْنِ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ
إِلَخْ. وَهُوَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي جَمِيعاً اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ الْقِتَالَ فِي الْقُرَى وَوَرَاءَ الْجُدُرِ لَيْسَ مِنْ أَحْوَالِ قِتَالِ الْجُيُوشِ الْمُتَسَانِدِينَ.
وَعَلَى كلا الِاحْتِمَالَيْنِ فَالْكَلَام يُفِيدُ أَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ إِلَّا مُتَفَرِّقِينَ كُلُّ فَرِيقٍ فِي قَرْيَتِهِمْ، وَإِلَّا خَائِفِينَ مُتَتَرِّسِينَ.
وَالْمَعْنَى: لَا يُهَاجِمُونَكُمْ، وَإِنْ هَاجَمْتُمُوهُمْ لَا يَبْرُزُونَ إِلَيْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ يُدَافِعُونَكُمْ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ يُقَاتِلُونَكُمْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ، أَيْ فِي الْحُصُونِ وَالْمَعَاقِلِ وَمِنْ وَرَاءِ الْأَسْوَارِ، وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ مَصِيرِهِمْ إِلَى الْهَزِيمَةِ إِذْ مَا حُورِبَ قَوْمٌ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا إِطْلَاعٌ لَهُمْ عَلَى تطمين للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَدَخَائِلِ الْأَعْدَاءِ.
وَ «الْجُدُرُ» بِضَمَّتَيْنِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ جَمْعُ جِدَارٍ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو جِدَارٌ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَالْمُرَادُ الْجِنْسُ تُسَاوِي الْجَمْعَ.
ومُحَصَّنَةٍ مَمْنُوعَةٍ مِمَّنْ يُرِيدُ أَخْذَهَا بِأَسْوَارٍ أَوْ خَنَادِقَ.
وقُرىً بِالْقَصْرِ جَمْعُ قَرْيَةٍ، وَوَزْنُهُ وَقَصْرُهُ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِأَنَّ مَا كَانَ عَلَى زِنَةِ فَعْلَةٍ مُعْتَلِّ اللَّامِ مِثْلَ قَرْيَةٍ يُجْمَعُ عَلَى فِعَالٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ مَمْدُودًا مِثْلَ: رَكْوَةٍ وَرِكَاءٍ، وَشَكْوَةٍ وَشِكَاءٍ. وَلَمْ يُسْمَعِ الْقَصْرُ إِلَّا فِي كَوَّةٍ بِفَتْحِ الْكَافِ لُغَةٌ وَكُوًى، وَقَرْيَةٍ وَقُرًى وَلِذَلِكَ قَالَ الْفَرَّاءُ: قُرًى شَاذٌّ، يُرِيدُ خَارِجٌ عَنِ الْقِيَاسِ.
بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَنْصَارِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ
مُعْظَمِهَا، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى يُونُسَ لِأَنَّ الْحُوتَ الْتَقَمَهُ ثُمَّ قَذَفَهُ فَصَارَ (صَاحِبُ الْحُوتِ) لَقَبًا لَهُ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ مَعِيَّةٌ قَوِيَّةٌ.
وَقَدْ كَانَتْ مُؤَاخَذَةُ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى ضَجَرِهِ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ وَهُمْ أَهْلُ نِينَوَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الصافات.
وإِذْ طرف زَمَانٍ وَهُوَ وَجُمْلَتُهُ مُتَعَلِّقٌ بِاسْتِقْرَارٍ مَنْصُوبٍ عَلَى الْحَالِ أَيْ فِي حَالَةِ وَقْتِ نِدَائِهِ رَبَّهُ، فَإِنَّهُ مَا نَادَى رَبَّهُ إِلَّا لِإِنْقَاذِهِ مِنْ كَرْبِهِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ بِسَبَبِ مُغَاضَبَتِهِ وَضَجَرِهِ مِنْ قَوْمِهِ، أَيْ لَا يَكُنْ مِنْكَ مَا يُلْجِئُكَ إِلَى مِثْلِ نِدَائِهِ.
وَالْمَكْظُومُ: الْمَحْبُوسُ الْمَسْدُودُ عَلَيْهِ يُقَالُ: كَظَمَ الْبَابَ أَغْلَقَهُ وَكَظَمَ النَّهْرَ إِذَا سَدَّهُ، وَالْمَعْنَى: نَادَى فِي حَالِ حَبْسِهِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ.
وَجِيءَ بِهَذِهِ الْحَالِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِدَلَالَتِهَا عَلَى الثَّبَاتِ، أَيْ هُوَ فِي حَبْسٍ لَا يُرْجَى لِمِثْلِهِ سَرَاحٌ، وَهَذَا تَمْهِيدٌ لِلْامْتِنَانِ عَلَيْهِ بِالنَّجَاةِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْحَبْسِ.
وَقَوْلُهُ: لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ إِلَخِ اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ مَضْمُونِ النَّهْيِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى إِلَخْ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ التَّحْذِيرَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي كَرْبٍ مِنْ قَبِيلِ كَرْبِ يُونُسَ ثُمَّ لَا يَدْرِي كَيْفَ يَكُونُ انْفِرَاجُهُ.
وأَنْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً مِنْ (أَنَّ)، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٌ، وَجُمْلَةُ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ خَبَرُهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ لَوْلَا تَدَارَكَ رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ.
وَالتَّدَارُكُ: تَفَاعُلُ مِنَ الدَّرَكِ بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ الْلَّحَاقُ، أَيْ أَنْ يَلْحَقَ بَعْضُ السَّائِرِينَ بَعْضًا وَهُوَ يَقْتَضِي تَسَابُقَهُمْ وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مُبَالَغَةِ إِدْرَاكِ نِعْمَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ.
وَالنَّبْذُ: الطَّرْحُ وَالتَّرْكُ. وَالْعَرَاءُ مَمْدُودًا: الْفَضَاءُ مِنَ الْأَرْضِ الَّذِي لَا نَبَاتَ فِيهِ وَلَا بِنَاءَ.
وَالْمَعْنَى: لَنَبَذَهُ الْحُوتُ أَوِ الْبَحْرُ بِالْفَضَاءِ الْخَالِي لِأَنَّ الْحُوتَ الَّذِي ابْتَلَعَهُ مِنَ النَّوْعِ
الَّذِي يُرْضِعُ فِرَاخَهُ فَهُوَ يَقْتَرِبُ مِنَ السَّوَاحِلِ الْخَالِيَةِ الْمُتَرَامِيَةِ الْأَطْرَافِ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ وَفِرَاخِهِ.
وَهُوَ اقْتِصَارُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِالْحِرْصِ عَلَى تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ إِلَى مَنْ يَرْجُو مِنْهُ قَبُولَهَا مَعَ الذُّهُولِ عَنِ التَّأَمُّلِ فِيمَا يُقَارِنُ ذَلِكَ مِنْ تَعْلِيمِ مَنْ يَرْغَبُ فِي عِلْمِ الدِّينِ مِمَّنْ آمَنَ، وَلَمَّا كَانَ صُدُورُ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ أَنْ يُفَاتِحَهُ بِمَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْكَلَامِ، فَوَجَّهَهُ إِلَيْهِ عَلَى أُسْلُوبِ الْغَيْبَةِ لِيَكُونَ أَوَّلُ مَا يَقْرَعُ سَمْعَهُ بَاعِثًا عَلَى أَنْ يَتَرَقَّبَ الْمَعْنِيَّ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ فَلَا يُفَاجِئُهُ الْعِتَابُ، وَهَذَا تَلَطُّفٌ مِنَ اللَّهِ بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَقَعَ الْعِتَابُ فِي نَفْسِهِ مُدَرَّجًا وَذَلِكَ أَهْوَنُ وَقْعًا، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَة: ٤٣].
قَالَ عِيَاضٌ: قَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالسَّمَرْقَنْدِيُّ: أَخْبَرَهُ اللَّهُ بِالْعَفْوِ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالذَّنْبِ حَتَّى سَكَنَ قَلْبُهُ اهـ. فَكَذَلِكَ تَوْجِيهُ الْعِتَابِ إِلَيْهِ مُسْنَدًا إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ ثُمَّ جِيءَ
بِضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ فَذِكْرُ الْأَعْمَى تُظْهِرُ الْمُرَادَ مِنَ الْقِصَّةِ وَاتَّضَحَ الْمُرَادُ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ.
ثُمَّ جِيءَ بِضَمَائِرِ الْخِطَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ.
وَيَظْهَرُ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَا مِنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَنْ يُسْلِمُوا فَيُسْلِمَ بِإِسْلَامِهِمْ جُمْهُورُ قُرَيْشٍ أَوْ جَمِيعُهُمْ فَكَانَ دُخُولُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ قَطْعًا لِسِلْكِ الْحَدِيثِ وَجَعَلَ يَقُولُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَدْنِنِي، عَلِّمْنِي، أَرْشِدْنِي، وَيُنَادِيهِ وَيُكْثِرُ النِّدَاءَ وَالْإِلْحَاحَ فَظَهَرَتِ الْكَرَاهِيَةُ فِي وَجْهِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّهُ لِقَطْعِهِ عَلَيْهِ كَلَامَهُ وَخَشْيَتِهِ أَنْ يَفْتَرِقَ النَّفَرُ الْمُجْتَمِعُونَ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ اسْتَقْرَأَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ.
وَجُمْلَةُ وَما يُدْرِيكَ إِلَخْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
(وَمَا يُدْرِيكَ) مُرَكَّبَةٌ مِنْ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَفِعْلِ الدِّرَايَةِ الْمُقْتَرِنِ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ، أَيْ مَا يَجْعَلُكَ دَارِيًا أَيْ عَالِمًا. وَمِثْلُهُ: مَا أَدْراكَ كَقَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: ٣].
وَمِنْهُ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠٩].
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي هَذِهِ التَّرَاكِيبِ مُرَادٌ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَغْفُولٍ عَنْهُ ثُمَّ تَقَعُ بَعْدَهُ جُمْلَةٌ نَحْوَ مَا أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ [الْقَارِعَةُ: ٣] وَنَحْوَ قَوْلِهِ هُنَا: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى
الصفحة التالية