هَذَا مِلَاكُ الْإِعْجَازِ بِحَسَبِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ اسْتِقْرَاؤُنَا إِجْمَالًا، وَلَنَأْخُذْ فِي شَيْءٍ مِنْ تَفْصِيلِ ذَلِكَ وَتَمْثِيلِهِ.
فَأَمَّا الْجِهَةُ الْأَوْلَى فَمَرْجِعُهَا إِلَى مَا يُسَمَّى بِالطَّرَفِ الْأَعْلَى مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ، وَهُوَ الْمُصْطَلَحُ عَلَى تَسْمِيَتِهِ حَدَّ الْإِعْجَازِ، فَلَقَدْ كَانَ مُنْتَهَى التَّنَافُسِ عِنْدَ الْعَرَبِ بِمِقْدَارِ التَّفَوُّقِ فِي الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ، وَقَدْ وَصَفَ أَئِمَّةُ الْبَلَاغَةِ وَالْأَدَبِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ بِمَا دُوِّنَ لَهُ عِلْمَا الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ، وَتَصَدَّوْا فِي خِلَالِ ذَلِكَ لِلْمُوَازَنَةِ بَيْنَ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ضُرُوبِ الْبَلَاغَةِ وَبَيْنَ أَبْلَغِ مَا حُفِظَ عَنِ الْعَرَبِ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا عُدَّ فِي أَقْصَى دَرَجَاتِهَا. وَقَدْ تَصَدَّى أَمْثَالُ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ وَأَبِي هِلَالٍ الْعَسْكَرِيِّ وَعَبْدِ الْقَاهِرِ وَالسَّكَّاكِيِّ وَابْنِ الْأَثِيرِ، إِلَى الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَبَين مَا ورد فِي بَلِيغِ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ بَعْضِ فُنُونِ الْبَلَاغَةِ بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ لِلْمُتَأَمِّلِ، وَمَثَلٌ لِلْمُتَمَثِّلِ. وَلَيْسَ مِنْ حَظِّ الْوَاصِفِ إِعْجَازَ الْقُرْآن وَصفا إجماليا كَصُنْعِنَا هَاهُنَا أَنْ يَصِفَ هَذِهِ الْجِهَةَ وَصْفًا مُفَصَّلًا لِكَثْرَةِ أَفَانِينِهَا، فَحَسْبُنَا أَنْ نُحِيلَ فِي تَحْصِيلِ كُلِّيَّاتِهَا وَقَوَاعِدِهَا عَلَى الْكُتُبِ الْمَجْعُولَةِ لِذَلِكَ مِثْلَ «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ»، وَ «أَسْرَارِ الْبَلَاغَةِ»، وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ فَمَا بَعْدَهُ مِنَ «الْمِفْتَاحِ»، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَنْ نُحِيلَ فِي تَفَاصِيلِهَا الْوَاصِفَةِ لِإِعْجَازِ آيِ الْقُرْآنِ عَلَى التَّفَاسِيرِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي ذَلِكَ وَعُمْدَتُهَا كِتَابُ «الْكَشَّافِ» لِلْعَلَّامَةِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَمَا سَنَسْتَنْبِطُهُ وَنَبْتَكِرُهُ فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، غَيْرَ أَنِّي ذَاكِرٌ هُنَا أُصُولًا لِنَوَاحِي إِعْجَازِهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَبِخَاصَّةٍ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْأَئِمَّةُ أَوْ أَجْمَلُوا فِي ذِكْرِهِ.
وَحَسْبُنَا هُنَا الدَّلِيلُ الْإِجْمَالِيُّ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَحَدَّى بُلَغَاءَهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ وَاحِدٌ إِلَى مُعَارَضَتِهِ، اعْتِرَافًا بِالْحَقِّ وَرَبْئًا بِأَنْفُسِهِمْ عَنِ التَّعْرِيضِ بِالنَّفْسِ إِلَى الِافْتِضَاحِ، مَعَ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْقُدْرَةِ فِي أَفَانِينِ الْكَلَامِ نَظْمًا وَنَثْرًا، وَتَرْغِيبًا وَزَجْرًا، قَدْ خُصُّوا مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ بِقُوَّةِ الذِّهْنِ وَشِدَّةِ الْحَافِظَةِ وَفَصَاحَةِ اللِّسَانِ وَتِبْيَانِ الْمَعَانِي، فَلَا يَسْتَصْعِبُ عَلَيْهِمْ سَابِقٌ مِنَ الْمعَانِي، وَلَا يجمع بِهِمْ عَسِيرٌ مِنَ الْمَقَامَاتِ.
قَالَ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» :«فَلَمْ يَزَلْ يُقَرِّعُهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ التَّقْرِيعِ وَيُوَبِّخُهُمْ غَايَةَ التَّوْبِيخِ وَيُسَفِّهُ أَحْلَامَهُمْ وَيَحُطُّ أَعْلَامَهُمْ وَهُمْ فِي كُلِّ هَذَا نَاكِصُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ مُحْجِمُونَ عَنْ مُمَاثَلَتِهِ، يُخَادِعُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالتَّكْذِيبِ وَالْإِغْرَاءِ بِالِافْتِرَاءِ، وَقَوْلِهِمْ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [المدثر: ٢٤] وسِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [الْقَمَر: ٢] وإِفْكٌ افْتَراهُ [الْفرْقَان: ٤] وأَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْعَام: ٢٥] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا، فَمَا

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٧٠]

وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠)
الْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [الْبَقَرَة:
١٦٨]، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْخِطَابِ فِي ذَلِكَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ ائْتَمَرُوا لِأَمْرِهِ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ، وَخَاصَّةً بِأَنْ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَالْمُسْلِمُونَ مُحَاشَوْنَ عَنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَعْطُوفَةِ زِيَادَةُ تَفْظِيعٍ لِحَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَبَعْدَ أَنْ أَثْبَتَ لَهُمُ اتِّبَاعَهُمْ خُطْوَاتِ الشَّيْطَانِ فِيمَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ إِعْرَاضِهِمْ عَمَّنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَتَشَبَّثُوا بِعَدَمِ مُخَالَفَتِهِمْ مَا أَلْفَوْا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ، وَأَعْرَضُوا عَنِ الدَّعْوَةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ دُونَ تَأَمُّلٍ وَلَا تَدَبُّرٍ.
بَلْ إِضْرَابُ إِبْطَالٍ، أَيْ أَضْرَبُوا عَنْ قَوْلِ الرَّسُولِ، اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، إِضْرَابَ إِعْرَاضٍ بِدُونِ حُجَّةٍ إِلَّا بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا أَلْفَوْا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ.
وَفِي ضَمِيرِ لَهُمُ الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [الْبَقَرَة: ١٦٨].
وَالْمُرَادُ بِمَا ألفوا عَلَيْهِ ءاباءهم، مَا وَجَدُوهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الشِّرْكِ كَمَا قَالُوا: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف: ٢٣] وَالْأُمَّةُ: الْمِلَّةُ وَأَعْظَمُ ذَلِكَ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ.
وَقَوْلُهُ: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ كَلَامٌ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ لِلرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِمْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا، فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَمَّا حَكَاهُ عَنْهُمْ رَدَّ قَوْلَهُمْ هَذَا بِاسْتِفْهَامٍ يُقْصَدُ مِنْهُ الرَّدُّ ثُمَّ التَّعْجِيبُ، فَالْهَمْزَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِنْكَارِ كِنَايَةً وَفِي التَّعْجِيبِ إِيمَاءً، وَالْمُرَادُ بِالْإِنْكَارِ الرَّدُّ وَالتَّخْطِئَةُ لَا الْإِنْكَارُ بِمَعْنَى النَّفْيِ.
وَ (لَوْ) لِلشَّرْطِ وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ، تَقْدِيرُهُ: لَاتَّبَعُوهُمْ، وَالْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ هُوَ الِارْتِبَاطُ الَّذِي بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، وَإِنَّمَا صَارَتِ الْهَمْزَةُ لِلرَّدِّ لِأَجْلِ
الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْهُ يُجَابُ عَنْهُ بِالْإِثْبَاتِ بِقَرَائِنِ حَالِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَالْمُسْتَفْهِمِ. وَمِثْلُ هَذَا التَّرْكِيبِ مِنْ بَدِيعِ التَّرَاكِيبِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَعْلَاهَا إِيجَازًا وَ (لَوْ) فِي مِثْلِهِ تُسَمَّى وَصَلْيَةً وَكَذَلِكَ (إِنَّ) إِذَا وَقَعَتْ فِي مَوْقِعِ (لَوْ).
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى الْوَاوِ وَأَدَاةِ الشَّرْطِ فِي مِثْلِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
وَالشَّهَادَةُ حَقِيقَتُهَا الْحُضُورُ وَالْمُشَاهَدَةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا حُضُورٌ خَاصٌّ وَهُوَ حُضُورٌ لِأَجْلِ الِاطِّلَاعِ عَلَى التَّدَايُنِ، وَهَذَا إِطْلَاقٌ مَعْرُوفٌ لِلشَّهَادَةِ عَلَى حُضُورٍ لِمُشَاهَدَةِ تَعَاقُدٍ بَيْنَ مُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِسَمَاعِ عَقْدٍ مِنْ عَاقِدٍ وَاحِدٍ مِثْلِ الطَّلَاقِ وَالْحُبْسِ. وَتُطْلَقُ الشَّهَادَةُ أَيْضًا عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ صَاحِبُهُ عَنْ أَمْرٍ حَصَلَ لِقَصْدِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ لِمَنْ يَزْعُمُهُ، وَالِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى مَنْ يُنْكِرُهُ، وَهَذَا هُوَ الْوَارِدُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ [النُّور: ٤].
وَجَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ طَلَبَ الْإِشْهَادِ لِأَنَّهُ الَّذِي فِي قُدْرَةِ الْمُكَلَّفِ وَقَدْ فَهِمَ السَّامِعُ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ طَلَبِ الْإِشْهَادِ حُصُولُهُ. وَلِهَذَا أَمَرَ الْمُسْتَشْهَدَ- بِفَتْحِ الْهَاءِ- بَعْدَ ذَلِكَ بِالِامْتِثَالِ فَقَالَ: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا.
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ قِيلَ لِلْوُجُوبِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ، وَقِيلَ لِلنَّدْبِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ: مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ رِجالِكُمْ أَيْ مِنْ رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَحَصَلَ بِهِ شَرْطَانِ: أَنَّهُمْ رِجَالٌ، وَأَنَّهُمْ مِمَّنْ يَشْمَلُهُمُ الضَّمِيرُ.
وَضَمِيرُ جَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ مُرَادٌ بِهِ الْمُسْلِمُونَ لِقَوْلِهِ فِي طَالِعَةِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.
وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَلَمْ يَعْتَبِرْهُ الشَّرْعُ لِضَعْفِ عَقْلِهِ عَنِ الْإِحَاطَة بمواقع الْإِشْهَاد وَمَدَاخِلِ
التُّهَمِ.
وَالرَّجُلُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ يُفِيدُ وَصْفَ الذُّكُورَةِ فَخَرَجَتِ الْإِنَاثُ، وَيُفِيدُ الْبُلُوغَ فَخَرَجَ الصِّبْيَانُ، وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ أَفَادَ وَصْفَ الْإِسْلَامِ. فَأَمَّا الْأُنْثَى فَيُذْكَرُ حُكْمُهَا بَعْدَ هَذَا، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ يُوجِبُ التَّبَاعُدَ فِي الْأَحْوَالِ وَالْمُعَاشَرَاتِ وَالْآدَابِ فَلَا تُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِأَحْوَالِ الْعُدُولِ وَالْمُرْتَابِينَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، كَيْفَ وَقَدِ اشْتُرِطَ فِي تَزْكِيَةِ الْمُسْلِمِينَ شِدَّةُ الْمُخَالَطَةِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ مِنْ غَالِبِ أَهْلِ الْمِلَلِ اسْتِخْفَافُ الْمُخَالِفِ فِي الدِّينِ بِحُقُوقِ مُخَالِفِهِ، وَذَلِكَ مِنْ تَخْلِيطِ الْحُقُوقِ وَالْجَهْلِ بِوَاجِبَاتِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ. فَإِنَّ الْأَدْيَانَ السَّالِفَةَ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِاحْتِرَامِ حُقُوقِ الْمُخَالِفِينَ، فَتَوَهَّمَ أَتْبَاعُهُمْ دَحْضَهَا. وَقَدْ حَكَى اللَّهُ
وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ (أَمْ) مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّغْلِيطِ وَالنَّهْيِ، وَلذَلِك جَاءَ ب (أم) لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّغْلِيطِ: أَيْ لَا تَحْسَبُوا أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ دُونَ أَنْ تُجَاهِدُوا وَتَصْبِرُوا عَلَى عَوَاقِبِ الْجِهَادِ.
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ من قدّر ل (أم) هُنَا مُعَادِلًا مَحْذُوفًا، وَجَعَلَهَا مُتَّصِلَةً، فَنَقَلَ الْفَخْرُ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: عَادَةُ الْعَرَبِ يَأْتُونَ بِهَذَا الْجِنْسِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ تَوْكِيدًا لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا [آل عمرَان: ١٣٩] كَأَنَّهُ قَالَ: أَفَتَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَمَا تُؤْمَرُونَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ.
وَجُمْلَةُ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ إِلَخْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهِيَ مَصَبُّ الْإِنْكَارِ، أَيْ لَا تَحْسَبُوا أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حِينَ لَا يَعْلَمُ اللَّهُ الّذين جاهدوا.
و (لمّا) حَرْفُ نَفْيٍ أُخْتُ (لَمْ) إِلَّا أَنَّهَا أَشَدُّ نَفْيًا مِنْ (لَمْ)، لِأَنَّ (لَمْ) لِنَفْيِ قَوْلِ الْقَائِلِ فَعَلَ فُلَانٌ، و (لمّا) لِنَفْيِ قَوْلِهِ قَدْ فَعَلَ فُلَانٌ. قَالَهُ سِيبَوَيْهِ، كَمَا قَالَ: إِنَّ (لَا) لنفي يَفْعَلُ وَ (لَنْ) لِنَفْيِ سَيَفْعَلُ وَ (مَا) لِنَفْيِ لَقَدْ فَعَلَ وَ (لَا) لِنَفْيِ هُوَ يَفْعَلُ. فَتَدُلُّ (لَمَّا) عَلَى اتِّصَالِ النَّفْيِ بِهَا إِلَى زَمَنِ التَّكَلُّمِ، بِخِلَافِ (لَمْ)، وَمِنْ هَذِهِ الدَّلَالَةِ اسْتُفِيدَتْ دَلَالَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهَا تُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمَنْفِيَّ بِهَا مُتَرَقَّبُ الثُّبُوتِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، لِأَنَّهَا قَائِمَةٌ مَقَامَ قَوْلِكَ اسْتَمَرَّ النَّفْيُ إِلَى الْآنِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا فَقَالَ: و (لمّا) بِمَعْنَى (لَمْ) إِلَّا أَنَّ فِيهَا ضَرْبًا مِنَ التَّوَقُّعِ وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ [١٤] :
فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَعْرَابَ آمَنُوا فِيمَا بَعْدُ.
وَالْقَوْلُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَقَدَّمَ آنِفًا فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ.
وَأُرِيدَ بِحَالَةِ نَفْيِ عِلْمِ اللَّهِ بِالَّذِينَ جَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ الْكِنَايَةُ عَنْ حَالَةِ نَفْيِ الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ عَنْهُمْ، لِأَنَّ اللَّهَ إِذَا عَلِمَ شَيْئًا فَذَلِكَ الْمَعْلُومُ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ فَكَمَا كَنَّى بِعِلْمِ اللَّهِ عَنِ التَّحَقُّقِ فِي قَوْلِهِ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمرَان: ١٤٠] كَنَّى بِنَفْيِ الْعِلْمِ عَنْ نَفْيِ الْوُقُوعِ. وَشَرْطُ الْكِنَايَةِ هُنَا مُتَوَفِّرٌ وَهُوَ جَوَازُ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْمَلْزُومِ مَعَ الْمَعْنَى اللَّازِمِ لِجَوَازِ إِرَادَةِ انْتِفَاءِ عِلْمِ اللَّهِ بِجِهَادِهِمْ مَعَ إِرَادَةِ انْتِفَاءِ
بِكَسْرِ لَامِ الْقَافِيَةِ الْمَكْسُورَةِ، مَعْدُودًا لَحْنًا.
وَفِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ- أَيْ فِي زَمَانِ الزَّمَخْشَرِيِّ- يَقُولُونَ تَعَالِي لِلْمَرْأَةِ.
فَذَلِكَ مِنَ اللَّحْنِ الَّذِي دَخَلَ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِسَبَبِ انْتِشَارِ الدُّخَلَاءِ بَيْنَهُمْ.
وَوَجْهُ اشْتِقَاقِ تَعَالَ مِنْ مَادَّةِ الْعُلُوِّ أَنَّهُمْ تَخَيَّلُوا الْمُنَادِيَ فِي عُلُوٍّ وَالْمُنَادَى (بِالْفَتْحِ) فِي سُفْلٍ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ بُيُوتَهُمْ فِي الْمُرْتَفَعَاتِ لِأَنَّهَا أَحْصَنُ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ أَصْلُهُ
أَنْ يَدُلَّ عَلَى طَلَبِ حُضُورٍ لِنَفْعٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِير فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [١٠٤] :«تَعَالَ نِدَاءٌ بِبِرٍّ، هَذَا أَصْلُهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ حَيْثُ الْبِرُّ وَحَيْثُ ضِدُّهُ». وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ النِّسَاءِ: «وَهِيَ لَفْظَةٌ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعُلُوِّ لَمَّا اسْتُعْمِلَتْ فِي دُعَاءِ الْإِنْسَانِ وَجَلْبِهِ صِيغَتْ مِنَ الْعُلُوِّ تَحْسِينًا لِلْأَدَبِ كَمَا تَقُولُ: ارْتَفِعْ إِلَى الْحَقِّ وَنَحْوِهِ». وَاعْلَمْ أَنَّ تَعَالَ لَمَّا كَانَتْ فِعْلًا جَامِدًا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُصَاغَ مِنْهُ غَيْرُ الْأَمْرِ، فَلَا تَقُولُ: تَعَالَيْتُ بِمَعْنَى حَضَرْتُ، وَلَا تَنْهَى عَنْهُ فَتَقُولُ: لَا تَتَعَالْ. قَالَ فِي «الصِّحَاحِ» «وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مِنْهُ تَعَالَيْتُ وَلَا يُنْهَى عَنْهُ». وَفِي «الصِّحَاحِ» عَقِبَهُ «وَتَقُولُ: قَدْ تَعَالَيْتُ وَإِلَى أَيِّ شَيْءٍ أَتَعَالَى» يَعْنِي أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خُصُوصِ جَوَابِ الطَّلَبِ لِمَنْ قَالَ لَكَ تَعَالَ، وَتَبِعَهُ فِي هَذَا صَاحِبُ «اللِّسَانِ» وَأَغْفَلَ الْعِبَارَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَأَمَّا صَاحِبُ «تَاجِ الْعَرُوسِ» فَرُبَّمَا أَخْطَأَ إِذْ قَالَ: «قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مِنْهُ: تَعَالَيْتُ وَإِلَى أَيِّ شَيْءٍ أَتَعَالَى» وَلَعَلَّ النُّسْخَةَ قَدْ وَقَعَ فِيهَا نَقْصٌ أَوْ خَطَأٌ مِنَ النَّاسِخِ لِظَنِّهِ فِي الْعِبَارَةِ تَكْرِيرًا، وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَلَى هَذَا لِئَلَّا تَقَعَ فِي أَخْطَاءٍ وَحَيْرَةٍ.
وَ (تَعَالَوْا) مُسْتَعْمَلٌ هُنَا مَجَازًا، إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ حُضُورٌ وَإِتْيَانٌ، فَهُوَ مَجَازٌ فِي تَحْكِيمِ كِتَابِ اللَّهِ وَتَحْكِيمِ الرَّسُولِ فِي حُضُورِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِذْ لَا يَحْكُمُ اللَّهُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ كَلَامِهِ، وَأَمَّا تَحْكِيمُ الرَّسُولِ فَأُرِيدَ بِهِ تَحْكِيمُ ذَاتِهِ لِأَنَّ الْقَوْمَ الْمُخْبَرَ عَنْهُمْ كَانُوا مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَ (صُدُودًا) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَلِقَصْدِ التَّوَصُّلِ بِتَنْوِينِ صُدُوداً لِإِفَادَةِ أَنَّهُ تَنْوِين تَعْظِيم.
مِنْ أَدَاءِ حَجِّهِمْ دُونَ مُعَارِضٍ، وَقَدْ كَمُلَ أَيْضًا سُلْطَانُ الدِّينِ بِدُخُولِ الرَّسُولِ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي أَخْرَجُوهُ مِنْهُ، وَمَكَّنَهُ مِنْ قَلْبِ بِلَادِ الْعَرَبِ. فَالْمُرَادُ مِنَ الدِّينِ دِينُ الْإِسْلَامِ وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ لِتَشْرِيفِهِمْ بِذَلِكَ.
وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الدِّينِ الْقُرْآنَ: لِأَنَّ آيَاتٍ كَثِيرَةً نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَحَسْبُكَ مِنْ ذَلِكَ بَقِيَّةُ سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَآيَةُ الْكَلَالَةِ، الَّتِي فِي آخِرِ النِّسَاءِ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ، وَسُورَةُ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ [النَّصْر: ١] كَذَلِكَ، وَقَدْ عَاشَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ نَحْوًا مِنْ تِسْعِينَ يَوْمًا، يُوحَى إِلَيْهِ. وَمَعْنَى (الْيَوْمَ) فِي قَوْلِهِ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ نَظِيرُ مَعْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ.
وَقَوْلُهُ: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي إِتْمَامُ النِّعْمَةِ: هُوَ خُلُوصُهَا مِمَّا يُخَالِطُهَا: مِنَ الْحَرَجِ، وَالتَّعَبِ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْجُمْلَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فَيَكُونُ مُتَعَلِّقًا لِلظَّرْفِ وَهُوَ الْيَوْمُ، فَيَكُونُ تَمَامُ النِّعْمَةِ حَاصِلًا يَوْمَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَإِتْمَامُ هَذِهِ النِّعْمَةِ هُوَ زَوَالُ مَا كَانُوا يَلْقَوْنَهُ مِنَ الْخَوْفِ فَمَكَّنَهُمْ من الْحَج آمين، مُؤْمِنِينَ، خَالِصِينَ، وَطَوَّعَ إِلَيْهِمْ أَعْدَاءَهُمْ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَقَدْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ فِي نِعْمَةٍ فَأَتَمَّهَا عَلَيْهِمْ، فَلِذَلِكَ قَيَّدَ إِتْمَامَ النِّعْمَةِ بِذَلِكَ الْيَوْمِ، لِأَنَّهُ زَمَانُ ظُهُورِ هَذَا الْإِتْمَامِ: إِذِ الْآيَةُ نَازِلَةٌ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ، فَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ ضَعِيفًا، فَتَمَامُ النِّعْمَةِ فِيهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ: أَنْ مَكَّنَهُمْ مِنْ أَشَدِّ أَعْدَائِهِمْ، وَأَحْرَصِهِمْ عَلَى اسْتِئْصَالِهِمْ، لَكِنْ
يُنَاكِدُهُ قَوْلُهُ: أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ إِلَّا عَلَى تَأْوِيلَاتٍ بَعِيدَةٍ.
وَظَاهِرُ الْعَطْفِ يَقْتَضِي: أَنَّ تَمَامَ النِّعْمَةِ مِنَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ إِكْمَالِ الدِّينِ،
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَسْتَطِيعُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَرَفْعِ رَبُّكَ. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ- بِتَاءِ الْمُخَاطَبِ وَنَصْبِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ- مِنْ قَوْلِهِ رَبُّكَ عَلَى أَنَّ رَبُّكَ مَفْعُولٌ بِهِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى هَلْ تَسْأَلُ لَنَا رَبَّكَ، فَعَبَّرَ بِالِاسْتِطَاعَةِ عَنْ طَلَبِ الطَّاعَةِ، أَيْ إِجَابَةِ السُّؤَالِ. وَقِيلَ: هِيَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ هَلْ تَسْتَطِيعُ سُؤَالَ رَبِّكَ، فَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَ الْمُضَافِ فِي إِعْرَابِهِ. وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ الْحَوَارِيُّونَ أَعْلَمَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَنْ يَقُولُوا: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ، وَلَكِنْ قَالُوا: هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ. وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَقْرَأْنَا النَّبِيءُ هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ.
وَاسْمُ مائِدَةً هُوَ الْخِوَانُ الْمَوْضُوعُ عَلَيْهِ طَعَامٌ، فَهُوَ اسْمٌ لِمَعْنًى مُرَكَّبٍ يَدُلُّ عَلَى طَعَامٍ وَمَا يُوضَعُ عَلَيْهِ. وَالْخِوَانُ- بِكَسْرِ الْخَاءِ وَضَمِّهَا- تَخْتٌ مِنْ خَشَبٍ لَهُ قَوَائِمُ مَجْعُولٌ لِيُوضَعَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ لِلْأَكْلِ، اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مُعَرَّبٌ. قَالَ الْجَوَالِيقِيُّ: هُوَ أَعْجَمِيٌّ.
وَفِي حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا أَكَلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خِوَانٍ قَطُّ، وَلَا فِي سُكْرُجَةٍ، قَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: فَعَلَامَ كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ قَالَ: عَلَى السُّفَرِ،
وَقِيلَ: الْمَائِدَةُ اسْمُ الطَّعَامِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي وِعَاءٍ وَلَا عَلَى خِوَانٍ. وَجَزَمَ بِذَلِكَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَلَعَلَّهُ مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِعَلَاقَةِ الْمَحَلِّ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لِلْعَرَبِ مَوَائِدُ إِنَّمَا كَانَتْ لَهُمُ السُّفْرَةُ. وَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الضَّبِّ: لَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ، إِنَّمَا يُعْنَى بِهِ الطَّعَامُ الْمَوْضُوعُ عَلَى سُفْرَةٍ. وَاسْمُ السُّفْرَةِ غَلَبَ إِطْلَاقُهُ عَلَى وِعَاءٍ مِنْ أَدِيمٍ مُسْتَدِيرٍ لَهُ مَعَالِيقُ ليرْفَع بهَا إِذْ أُرِيدَ السَّفَرُ بِهِ. وَسُمِّيَتْ سُفْرَةً لِأَنَّهَا يَتَّخِذُهَا الْمُسَافِرُ.
وَإِنَّمَا سَأَلَ الْحَوَارِيُّونَ كَوْنَ الْمَائِدَةِ مُنَزَّلَةً مِنَ السَّمَاءِ لِأَنَّهُمْ رَغِبُوا أَنْ تَكُونَ خَارِقَةً لِلْعَادَةِ فَلَا تَكُونُ مِمَّا صُنِعَ فِي الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ مِنْ عَالَمٍ عُلْوِيٍّ.
وَقَوْلُ عِيسَى حِينَ أَجَابَهُمُ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَمْرٌ بِمُلَازَمَةِ التَّقْوَى وَعَدَمِ تَزَلْزُلِ الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بِ أَنْ الْمُفِيدَةِ لِلشَّكِّ فِي الْإِيمَانِ لِيَعْلَمَ الدَّاعِي إِلَى ذَلِكَ السُّؤَالِ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ نَشَأَ لَهُمْ عَنْ شَكٍّ فِي صِدْقِ رَسُولِهِمْ، فَسَأَلُوا مُعْجِزَةً يَعْلَمُونَ بِهَا صِدْقَهُ بَعْدَ أَنْ آمَنُوا بِهِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ الْمَحْكِيِّ فِي قَوْلِهِ: قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ،
دِينِهِمْ، كَمَا يَقُولُ الْقَاسِمُ: هَذَا لِفُلَانٍ، وَهَذَا لِلْآخَرِ.
وَأَجْمَلَ ذَلِكَ هُنَا إِذْ لَا غَرَضَ فِي بَيَانِهِ لِأَنَّ الْغَرَضَ التَّعْجِيبُ مِنْ فَسَادِ شَرْعِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا [الْأَنْعَام: ١٣٦] وَقَدْ صَنَّفُوا ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ:
صِنْفٌ مُحْجَرٌ عَلَى مَالِكِهِ انْتِفَاعُهُ بِهِ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ يُعَيِّنُهُ الْمَالِكُ. وَالَّذِي يُؤْخَذُ مِمَّا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَيِّنُونَ مِنْ أَنْعَامِهِمْ وَزَرْعِهِمْ وَثِمَارِهِمْ شَيْئًا يَحْجُرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمُ الِانْتِفَاعَ بِهِ، وَيُعَيِّنُونَهُ لِمَنْ يَشَاءُونَ مِنْ سَدَنَةِ بُيُوتِ الْأَصْنَامِ، وَخَدَمَتِهَا، فَتُنْحَرُ أَو تذبح عِنْد مَا يَرَى مَنْ عُيِّنَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَتَكُونُ لِحَاجَةِ النَّاسِ وَالْوَافِدِينَ عَلَى بُيُوتِ الْأَصْنَامِ وَإِضَافَتِهِمْ، وَكَذَلِكَ الزَّرْعُ وَالثِّمَارُ تُدْفَعُ إِلَى مَنْ عُيِّنَتْ لَهُ، يَصْرِفُهَا حَيْثُ يَتَعَيَّنُ. وَمِنْ هَذَا الصِّنْفِ أَشْيَاءٌ مُعَيَّنَةٌ بِالِاسْمِ، لَهَا حُكْمٌ مُنْضَبِطٌ مِثْلُ الْبَحِيرَةِ: فَإِنَّهَا لَا تُنْحَرُ وَلَا تُؤَكَلُ إِلَّا إِذَا مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا، فَيَحِلُّ أَكْلُهَا لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَإِذَا كَانَ لَهَا دَرٌّ لَا يَشْرَبُهُ إِلَّا سَدَنَةُ الْأَصْنَامِ وَضُيُوفُهُمْ، وَكَذَلِكَ السَّائِبَةُ يَنْتَفِعُ بِدَرِّهَا أَبْنَاءُ السَّبِيلِ وَالسَّدَنَةُ، فَإِذَا مَاتَتْ فَأَكْلُهَا كَالْبَحِيرَةِ، وَكَذَلِكَ الْحَامِي، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ.
فَمَعْنَى لَا يَطْعَمُها لَا يَأْكُلُ لَحْمَهَا، أَيْ يَحْرُمُ أَكْلُ لَحْمِهَا. وَنُونُ الْجَمَاعَةِ فِي نَشاءُ مُرَادٌ بِهَا الْقَائِلُونَ، أَيْ يَقُولُونَ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ، أَيْ مَنْ نُعَيِّنُ أَنْ يَطْعَمَهَا، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : يَعْنُونَ خَدَمَ الْأَوْثَانِ وَالرِّجَالَ دُونَ النِّسَاءِ.
وَالْحَرْثُ أَصْلُهُ شَقُّ الْأَرْضِ بِآلَةٍ حَدِيدِيَّةٍ لِيُزْرَعَ فِيهَا أَوْ يُغْرَسَ، وَيُطْلَقُ هَذَا الْمَصْدَرُ عَلَى الْمَكَانِ الْمَحْرُوثِ وَعَلَى الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ وَالْمَغْرُوسَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا حَرْثٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ [الْقَلَم: ٢٢] فَسَمَّاهُ حَرْثًا فِي وَقْتِ جُذَاذِ الثِّمَارِ.
وَكُلُّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَمْثِيلِ حَالَةِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ التَّخَلُّصَ مِنْ وَعِيدٍ أَوْ نَحْوِهِ بِهَيْئَةِ مَنِ احْتُبِسَ بِمَكَانٍ لَا يَسْتَطِيعُ تَجَاوُزَهُ إِلَى الْأَمَامِ وَلَا إِلَى الوراء.
[٣٥، ٣٦]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ٣٥ إِلَى ٣٦]
يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦)
يَجِيءُ فِي مَوْقِعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: مِنَ التَّأْوِيلِ، مَا تقدّم فِي الْقَوْلِ فِي نَظِيرَتِهَا وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ [الْأَعْرَاف: ٢٦].
وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي اسْتَظْهَرْنَا بِهِ هُنَالِكَ يَبْدُو فِي هَذِهِ النَّظِيرَةِ الرَّابِعَةِ أَوْضَحَ. وَصِيغَةُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: رُسُلٌ- وَقَوْلِهِ- يَقُصُّونَ تَقْتَضِي تَوَقُّعَ مَجِيءِ عِدَّةِ رُسُلٍ، وَذَلِكَ مُنْتَفٍ بَعْدَ بِعْثَةِ الرَّسُولِ الْخَاتِمِ لِلرُّسُلِ الْحَاشِرِ الْعَاقِبِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَذَلِكَ يَتَأَكَّدُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخِطَابُ لِبَنِي آدَمَ الْحَاضِرِينَ وَقْتَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَيُرَجِّحُ أَنْ تكون هَذِه النّداآت الْأَرْبَعَةُ حِكَايَةً لِقَوْلٍ مُوَجَّهٍ إِلَى بَنِي آدَمَ الْأَوَّلِينَ الَّذِي أَوَّلُهُ: قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ [الْأَعْرَاف: ٢٥].
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «وَكَأَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ، قَدِيمِهَا وَحَدِيثِهَا، هُوَ مُتَمَكِّنٌ لَهُمْ،
وَمُتَحَصِّلٌ مِنْهُ لحاضري محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ فِي الْعَالَمِ مُنْذُ أَنْشَأَهُ»
يُرِيدُ أَنَّ اللَّهَ أَبْلَغَ النَّاسَ هَذَا الْخِطَابَ عَلَى لِسَانِ كُلِّ نَبِيءٍ، مِنْ آدَمَ إِلَى هَلُمَّ جَرًّا، فَمَا مِنْ نَبِيءٍ أَوْ رَسُولٍ إِلَّا وَبَلَّغَهُ أُمَّتَهُ،
لِغَلَبَةِ الْهَوَى عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَإِنْ يُدْرِكُوا الْفَسَادَ عَمِلُوا بِهِ لِغَلَبَةِ الْهَوَى، فَالْعَمَلُ بِهِ حَمْلٌ لِلنَّفْسِ عَلَى كُلْفَةٍ، وَذَلِكَ تَأْبَاهُ الْأَنْفُسُ الَّتِي نَشَأَتْ عَلَى مُتَابَعَةِ مَرْغُوبِهَا، وَذَلِكَ شَأْنُ النَّاسِ الَّذِينَ لَمْ يُرَوِّضُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْهُدَى الْإِلَهِيِّ، وَلَا بِالْحِكْمَةِ وَنَصَائِحِ الْحُكَمَاءِ وَالْعُقَلَاءِ، بِخِلَافِ الْغَيِّ، فَإِنَّهُ مَا ظَهَرَ فِي الْعَالَمِ إِلَّا مِنْ آثَارِ شَهَوَاتِ النُّفُوسِ وَدَعَوَاتِهَا الَّتِي يُزَيِّنُ لَهَا الظَّاهِرُ الْعَاجِلُ، وَتَجَهُّلُ عَوَاقِبِ السُّوءِ الْآجِلَةِ، كَمَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ.
وَالتَّعْبِيرُ فِي الصِّلَاتِ الْأَرْبَعِ بِالْأَفْعَالِ الْمُضَارَعَةِ: لِإِفَادَةِ تَجَدُّدِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ مِنْهُمْ وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَيْهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الرُّشْدِ- بِضَمٍّ فَسُكُونٍ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ:
بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُمَا لُغَتَانِ فِيهِ.
وَجُمْلَةُ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ تَوْسِيمَهُمْ بِتِلْكَ الصِّلَاتِ يُثِيرُ سُؤَالًا.
وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ مَا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ، نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ وَهُوَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَاسْتُعْمِلُ لَهُ اسْمُ إِشَارَةِ الْمُفْرِدِ لِتَأْوِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِالْمَذْكُورِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً [الْفرْقَان: ٦٨] أَيْ مَنْ يَفْعَلِ الْمَذْكُورَ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ كَثِيرٌ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَأُلْحِقَ بِهِ الضَّمِيرُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة [٦١].
وَالْبَاء السَّبَبِيَّة أَيْ: كِبْرُهُمْ. وَعَدَمُ إِيمَانِهِمْ، وَاتِّبَاعُهُمْ سَبِيلَ الْغَيِّ، وَإِعْرَاضُهُمْ عَنْ سَبِيلِ الرُّشْدِ سَبَبُهُ تَكْذِيبُهُمْ بِالْآيَاتِ، فَأَفَادَتِ الْجُمْلَةُ بَيَانَ سَبَبِ الْكِبْرِ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ صَرْفِهِمْ عَنِ الْآيَاتِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ السَّبَبِ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ إِرْجَاعِ الْإِشَارَةِ إِلَى الصّرْف الْمَأْخُوذَة مِنْ سَأَصْرِفُ لِأَنَّ هَذَا الْمَحْمَلَ يَجْعَلُ التَّكْذِيبَ سَبَبًا ثَانِيًا لِلصَّرْفِ، وَجَعْلُهُ سَبَبًا لِلسَّبَبِ أَرْشَقُ.
وَاجْتُلِبَتْ (أَنْ) الدَّالَّةُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ وَالتَّوْكِيدِ لِتَحْقِيقِ هَذَا التَّسَبُّبِ وَتَأْكِيدِهِ، لِأَنَّهُ مَحَلُّ عَرَابَةٍ.
وَالسِّيَاحَةُ حَقِيقَتُهَا السَّيْرُ فِي الْأَرْضِ. وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ بِهَذَا السَّيْرِ مُفَرَّعًا عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعَهْدِ، وَمُقَرِّرًا لحُرْمَة الْأَشْهر الْحَرَام، عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ السَّيْرُ بِأَمْنٍ دُونَ خَوْفٍ فِي أَيِّ مَكَانٍ من الأَرْض، وَلَيْسَ هُوَ سيرهم فِي أَرض قَومهمْ، دلّ على ذَلِك إِطْلَاق السياحة
وَإِطْلَاق الْأَرْضِ، فَكَانَ الْمَعْنَى: فَسِيحُوا آمِنِينَ حَيْثُمَا شِئْتُمْ مِنَ الْأَرْضِ.
وَهَذَا تَأْجِيلٌ خَاصٌّ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ كَانَ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ شَوَّالٍ وَقْتَ نُزُولِ بَرَاءَةٌ، وَنِهَايَتُهُ نِهَايَةُ مُحَرَّمٍ فِي آخِرِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الْمُتَوَالِيَةِ، وَهِيَ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأُجِّلَ النَّاسُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ أُذِّنَ فِيهِمْ لِيَرْجِعَ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَأْمَنِهِمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ تَبْتَدِئُ مِنْ عَاشِرِ ذِي الْحِجَّةِ وَتَنْتَهِي فِي عَاشِرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ [التَّوْبَة: ٥] (أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ) تَنْهِيَةً لِذَلِكَ الْأَجَلِ رُوعِيَ فِيهَا الْمُدَّةُ الْكَافِيَةُ لِرُجُوعِ النَّاسِ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَذَلِكَ نِهَايَةُ الْمُحَرَّمِ.
وَقِيلَ: الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمْ فِي جَمِيعِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَهِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ، أَيْ فَلَمْ يَبْقَ لِلْمُشْرِكِينَ أَمْنٌ إِلَّا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَأْجِيلٌ خَاصٌّ لِتَأْمِينِهِمْ، وَلَكِنَّهُ التَّأْمِينُ الْمُقَرِّرُ لِلْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى:
الْبَرَاءَةُ مِنَ الْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَهُمْ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَمْنِ الْمُقَرِّرِ لِلْأَشْهُرِ الْحُرُمِ. وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ فِي «الرَّوْضِ الْآنِفِ» أَنَّهُ قِيلَ أَنَّهُ أَرَادَ بِانْسِلَاخِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ذَا الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ، وَأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ أَجَلًا لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ جُعِلَ لَهُ عَهْدٌ جُعِلَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَوَّلُهَا يَوْمُ النَّحْرِ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ.
وَفِي هَذَا الْأَمْرِ إِيذَانٌ بِفَرْضِ الْقِتَالِ فِي غَيْرِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَبِأَنَّ مَا دُونَ تِلْكَ الْأَشْهُرِ حَرْبٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَسَيَقَعُ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ.
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ.
عَطْفٌ عَلَى فَسِيحُوا دَاخِلٌ فِي حُكْمِ التَّفْرِيعِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِالْأَمَانِ فِي أَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ عَقَّبَهُ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ احْتِرَاسًا مِنْ تَطَرُّقِ الْغُرُورِ، وَتَهْدِيدًا بِأَنْ لَا
وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ رُبَّمَا تَمَنَّوْا نُزُولَ الْعَذَاب بالمشركين واستبطأوا مَجِيءَ النَّصْرِ لِلنَّبِيءِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَأَصْحَابِهِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ. وَرُبَّمَا عَجِبَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنْ يَرْزُقَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِهِ. فَلَمَّا جَاءَتْ آيَاتُ هَذِهِ السُّورَةِ بِقَوَارِعِ التَّهْدِيدِ لِلْمُشْرِكِينَ أُعْقِبَتْ بِمَا يُزِيلُ شُبُهَاتِهِمْ وَيُطَمْئِنُ نُفُوسَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَجْمَعُهُ قَوْلُهُ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ.
وَهُوَ إِجْمَال ينبىء بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ نِظَامَ هَذَا الْعَالَمِ عَلَى الرِّفْقِ بِالْمَخْلُوقَاتِ وَاسْتِبْقَاءِ الْأَنْوَاعِ إِلَى آجَالٍ أَرَادَهَا، وَجَعَلَ لِهَذَا الْبَقَاءِ وَسَائِلَ الْإِمْدَادِ بِالنِّعَمِ الَّتِي بِهَا دَوَامُ الْحَيَاةِ، فَالْخَيْرَاتُ الْمُفَاضَةُ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ فِي هَذَا الْعَالَمِ كَثِيرَةٌ، وَالشُّرُورُ الْعَارِضَةُ نَادِرَةٌ وَمُعْظَمُهَا مُسَبَّبٌ عَنْ أَسْبَابٍ مَجْعُولَةٍ فِي نِظَامِ الْكَوْنِ وَتَصَرُّفَاتِ أَهْلِهِ، وَمِنْهَا مَا يَأْتِي عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ عِنْدَ مَحَلِّ آجَالِهِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ [يُونُس: ٤٩] وَقَوْلِهِ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرَّعْد: ٣٨].
فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا [يُونُس: ٧] الْآيَةَ، فَحَيْثُ ذُكِرَ عَذَابُهُمُ الَّذِي هم آئلون إِلَيْهِ نَاسَبَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ سَبَبَ تَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا لِتُكْشَفَ شُبْهَةُ غُرُورِهِمْ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ آمَنُوا حِكْمَةً مِنْ حِكَمِ تَصَرُّفِ اللَّهِ فِي هَذَا الْكَوْنِ.
وَالْقَرِينَةُ عَلَى اتِّصَالِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِجُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا [يُونُس: ٧] قَوْلُهُ فِي آخِرِ هَذِهِ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
فَبَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ الرِّفْقَ جَعَلَهُ اللَّهُ مُسْتَمِرًّا عَلَى عِبَادِهِ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ أَقَامَ عَلَيْهِ نِظَامَ الْعَالَمِ إِذْ أَرَادَ ثَبَاتَ بِنَائِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُقَدِّرْ تَوَازِيَ الشَّرِّ فِي هَذَا الْعَالَمِ بِالْخَيْرِ لُطْفًا مِنْهُ وَرِفْقًا، فَاللَّهُ لِطَيْفٌ بِعِبَادِهِ، وَفِي ذَلِكَ مِنَّةٌ عَظِيمَةٌ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الشَّرَّ لَوْ عُجِّلَ لَهُمْ مَا اسْتَحَقُّوهُ لَبَطَلَ النِّظَامُ الَّذِي وُضِعَ عَلَيْهِ الْعَالَمُ.
وَالنَّاسُ: اسْمٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْكَلَامُ عَلَى إِبْطَالِ شُبْهَةِ الْمُشْرِكِينَ وَكَانُوا الْمُسْتَحِقِّينَ لِلشَّرِّ كَانُوا أَوَّلَ مَنْ يَتَبَادَرُ مِنْ عُمُومِ النَّاسِ، كَمَا زَادَهُ تَصْرِيحًا قَوْلُهُ:
فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
وَالْجَبَّارُ: الْمُتَكَبِّرُ. وَالْعَنِيدُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْمُعَانَدَةِ. يُقَالُ: عَنَدَ- مُثَلَّثُ النُّونِ- إِذَا طَغَى، وَمَنْ كَانَ خُلُقُهُ التَّجَبُّرُ، وَالْعُنُودُ لَا يَأْمُرُ بِخَيْرٍ وَلَا يَدْعُو إِلَّا إِلَى بَاطِلٍ، فَدَلَّ اتِّبَاعُهُمْ أَمْرَ الْجَبَابِرَةِ الْمُعَانِدِينَ عَلَى أَنَّهُمْ أَطَاعُوا دُعَاةَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَالظُّلْمِ.
وكُلِّ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، فَإِنْ أُرِيدَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ قَوْمِهِمْ فَالْعُمُومُ حَقِيقِيٌّ، وَإِنْ أُرِيدَ جِنْسُ الْجَبَابِرَةِ فَ كُلِّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْكَثْرَةِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
بِهَا كُلُّ ذَيَّالٍ وَخَنْسَاءَ تَرْعَوِي وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٢٧].
وَإِتْبَاعُ اللَّعْنَةِ إِيَّاهُمْ مُسْتَعَارٌ لِإِصَابَتِهَا إِيَّاهُمْ إِصَابَةً عَاجِلَةً دُونَ تَأْخِيرٍ كَمَا يُتْبَعُ الْمَاشِي بِمَنْ يَلْحَقُهُ. وَمِمَّا يَزِيدُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ حُسْنًا مَا فِيهَا من الْمُشَاركَة وَمن مُمَاثَلَةِ الْعِقَابِ لِلْجُرْمِ لِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا الْمَلْعُونِينَ فَأُتْبِعُوا بِاللَّعْنَةِ.
وَبُنِيَ فِعْلُ اتَّبَعُوا لِلْمَجْهُولِ إِذْ لَا غَرَضَ فِي بَيَانِ الْفَاعِلِ، وَلَمْ يُسْنَدِ الْفِعْلُ إِلَى اللَّعْنَةِ مَعَ اسْتِيفَائِهِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ إِتْبَاعَهَا لَهُمْ كَانَ بِأَمْرٍ فَاعِلٍ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهَا تَبِعَتْهُمْ عِقَابًا مِنَ اللَّهِ لَا مُجَرَّدَ مُصَادَفَةٍ.
وَاللَّعْنَةُ: الطَّرْدُ بِإِهَانَةٍ وَتَحْقِيرٍ.
وَقَرَنَ الدُّنْيَا بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِقَصْدِ تَهْوِينِ أَمْرِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى لَعْنَةِ الْآخِرَةِ، كَمَا فِي قَوْلِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ:
مَتَّى يَأْتِ هَذَا الْمَوْتُ لَا يُلْفِ حَاجَةً لِنَفْسِيَ إِلَّا قَدْ قَضَيْتُ قَضَاءَهَا
أَوْمَأَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَكْتَرِثُ بِالْمَوْتِ وَلَا يَهَابُهُ.
وَجُمْلَةُ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ افْتُتِحَتْ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ لِتَهْوِيلِ الْخَبَرِ وَمُؤَكَّدَةٌ بِحَرْفِ إِنَّ لِإِفَادَةِ التَّعْلِيلِ بِجُمْلَةِ وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ لِيَعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ عَادًا.
وَالْمُجَادَلَةُ إِنَّمَا تكون فِي الشؤون وَالْأَحْوَالِ، فَتَعْلِيقُ اسْمِ الْجَلَالَةِ الْمَجْرُورِ بِفِعْلِ يُجادِلُونَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ، أَيْ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ أَوْ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى الْبَعْثِ.
وَمِنْ جَدَلِهِمْ مَا حَكَاهُ قَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. فِي سُورَةِ يس [٧٧، ٧٨].
وَالْمِحَالُ: بِكَسْرِ الْمِيمِ يَحْتَمِلُ هُنَا مَعْنَيَيْنِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْمِيمُ فِيهِ أَصْلِيَّةً فَهُوَ فِعَالٌ بِمَعْنَى الْكَيْدِ وَفِعْلُهُ مَحَلَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ تَمَحَّلَ إِذَا تَحَيَّلَ. جَعَلَ جِدَالَهُمْ فِي اللَّهِ جِدَالَ كَيْدٍ لِأَنَّهُمْ يُبْرِزُونَهُ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِي نَحْوِ قَوْلهم: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ فَقُوبِلَ بِ شَدِيدُ الْمِحالِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُشَاكَلَةِ، أَيْ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ لَا يَغْلِبُونَهُ، وَنَظِيرُهُ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [سُورَة آل عمرَان: ٥٤].
وَقَالَ نِفْطَوَيْهِ: هُوَ مِنْ مَاحَلَ عَنْ أَمْرِهِ، أَيْ جَادَلَ. وَالْمَعْنَى: وَهُوَ شَدِيدُ الْمُجَادَلَةِ، أَيْ قَوِيُّ الْحُجَّةِ.
وَإِنْ كَانَتِ الْمِيمُ زَائِدَةً فَهُوَ مِفْعَلٌ مِنَ الْحَوْلِ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ، وَعَلَى هَذَا فَإِبْدَالُ الْوَاوِ أَلِفًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ لِلْقَلْبِ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْوَاوِ سَاكِنٌ سُكُونًا حَيًّا. فَلَعَلَّهُمْ
قَلَبُوهَا أَلِفًا لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِحْوَلٍ بِمَعْنَى صَبِيٍّ ذِي حَوْلٍ، أَيْ سَنَةٍ.
وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ وَالطَّبَرِيُّ أَخْبَارًا عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ وَأَرْبَدَ بْنِ رَبِيعَةَ حِينَ وَرَدَا الْمَدِينَة يشترطان لدخلولهما فِي الْإِسْلَامِ شُرُوطًا لَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُمَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَهَمَّ أَرْبَدُ بِقَتْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَرَفَهُ اللَّهُ، فَخَرَجَ هُوَ وَعَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ قَاصِدَيْنِ قَوْمَهُمَا وَتَوَاعَدَا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَجْلِبَا عَلَيْهِ خَيْلَ بَنِي عَامِرٍ. فَأَهْلَكَ اللَّهُ أَرْبَدَ بِصَاعِقَةٍ أَصَابَتْهُ وَأَهْلَكَ عَامِرًا بِغُدَّةٍ نَبَتَتْ فِي جِسْمِهِ فَمَاتَ مِنْهَا وَهُوَ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي سَلُولٍ فِي طَرِيقِهِ إِلَى أَرْضِ قَوْمِهِ، فَنَزَلَتْ فِي أَرْبَدَ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ وَفِي عَامِرٍ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ
فِي قِصَّةِ أُمِّ زَرْعٍ «رَكِبَ شَرِيًّا وَأَخَذَ خَطِيًّا فَأَرَاحَ عَلَيَّ نَعَمًا ثَرِيًّا»، فَإِنَّ النَّعَمَ الَّتِي تُؤْخَذُ بِالرُّمْحِ هِيَ الْإِبِلُ لِأَنَّهَا تُؤْخَذُ بِالْغَارَةِ.
وَضَمِيرُ وَتَحْمِلُ عَائِدٌ إِلَى بَعْضِ الْأَنْعَامِ بِالْقَرِينَةِ. وَاخْتِيَارُ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ بِتَكَرُّرِ ذَلِكَ الْفِعْلِ.
وَالْأَثْقَالُ: جَمْعُ ثَقَلٍ- بِفَتْحَتَيْنِ- وَهُوَ مَا يَثْقُلُ عَلَى النَّاسِ حَمْلُهُ بِأَنْفُسِهِمْ.
وَالْمُرَادُ بِ بَلَدٍ جنس الْبَلَد الَّذِي يَرْتَحِلُونَ إِلَيْهِ كَالشَّامِ وَالْيَمَنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الْحِجَازِ، وَمِنْهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ فِي رِحْلَةِ الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ وَالرِّحْلَةِ إِلَى الْحَجِّ.
وَقَدْ أَفَادَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ مَعْنَى تَحْمِلُكُمْ وَتُبَلِّغُكُمْ، بِطَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ التَّصْرِيحِ. وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ.
وَجُمْلَةُ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ صِفَةٌ لِ بَلَدٍ، وَهِيَ مُفِيدَةٌ مَعْنَى الْبُعْدِ، لِأَنَّ بُلُوغَ الْمُسَافِرِ إِلَى بَلَدٍ بِمَشَقَّةٍ هُوَ مِنْ شَأْنِ الْبَلَدِ الْبَعِيدِ، أَيْ لَا تَبْلُغُونَهُ بِدُونِ الْأَنْعَامِ الْحَامِلَةِ أَثْقَالَكُمْ.
وَالشِّقُّ- بِكَسْرِ الشِّينِ- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: الْمَشَقَّةُ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ. وَالْمَشَقَّةُ:
التَّعَبُ الشَّدِيدُ.
وَمَا بَعْدَ أَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ مُسْتَثْنًى مِنْ أَحْوَالٍ لِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ- بِفَتْحِ الشِّينِ- وَهُوَ لُغَةٌ فِي الشِّقِّ الْمَكْسُورِ الشِّينِ.
وَقَدْ نَفَتِ الْجُمْلَةُ أَنْ يَكُونُوا بَالِغَيْهِ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ، فَأَفَادَ ظَاهِرُهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَبْلُغُونَهُ بِدُونِ الرَّوَاحِلِ بِمَشَقَّةٍ وَلَيْسَ مَقْصُودًا، إِذْ كَانَ الْحَمْلُ عَلَى الْأَنْعَامِ مُقَارِنًا لِلْأَسْفَارِ بِالِانْتِقَالِ إِلَى الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ، بَلِ الْمُرَادُ: لَمْ تَكُونُوا بَالِغَيْهِ لَوْلَا الْإِبِلُ أَوْ بِدُونِ الْإِبِلِ، فَحُذِفَ لِقَرِينَةِ السِّيَاقِ.
وَفِي هَذَا التَّذْيِيلِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ السَبْعَ عَشْرَةَ هُوَ مِنَ الْحِكْمَةِ، تَحْرِيضًا عَلَى اتِّبَاعِ مَا فِيهَا وَأَنَّهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ. وَفِيهِ امْتِنَانٌ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ، فَذَلِكَ وَجْهُ قَوْلِهِ: مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْأُمِّيُّونَ لَوْلَا الْوَحْيُ مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ عَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ وَأَمَرَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ النَّاسَ.
وَالْحِكْمَةُ: مَعْرِفَةُ الْحَقَائِقِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ دُونَ غَلَطٍ وَلَا اشْتِبَاهٍ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْكَلَامِ الدَّالِّ عَلَيْهَا. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَة: ٢٦٩].
وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً عَطْفٌ عَلَى جُمَلِ النَّهْيِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاء: ٢٣]، أُعِيدَ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ التَّوْحِيدِ بِتَكْرِيرِ مَضْمُونِهِ وَبِمَا رُتِّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَعِيدِ بِأَنْ يُجَازَى بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ مُهَانًا.
وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَنْهِيَّاتِ قَبْلَهُ، وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ عَقِبَهُ: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ الْآيَة [الْإِسْرَاء: ٤٠].
وَالْإِلْقَاءُ: رَمْيُ الْجِسْمِ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ، وَهُوَ يُؤْذِنُ بِالْإِهَانَةِ.
وَالْمَلُومُ: الَّذِي يُنْكَرُ عَلَيْهِ مَا فَعَلَهُ.
وَالْمَدْحُورُ: الْمَطْرُودُ، أَيِ الْمَطْرُودُ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ، أَيْ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ وَمُبْعَدٌ مَنْ رَحْمَتِهِ فِي الْآخِرَةِ.
وَ «تُلْقَى» مَنْصُوبٌ فِي جَوَابِ النَّهْيِ بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ وَالتَّسَبُّبِ عَلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، أَيْ فَيَتَسَبَّبُ عَلَى جَعْلِكَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِلْقَاؤُكُ فِي جَهَنَّم.
وَقَوْلُهُ مِنْ بَيْنِهِمْ متعلّق باختلف. و (من) حَرْفُ تَوْكِيدٍ، أَيِ اخْتَلَفُوا بَيْنَهُمْ.
وَالْمُرَادُ بِالْأَحْزَابِ أَحْزَابُ النَّصَارَى، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ وَلَمْ يَكُنِ الْيَهُودُ مُوَافِقِينَ النَّصَارَى فِي شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ. وَقَدْ كَانَ النَّصَارَى عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ عَلَى التَّوْحِيدِ فِي حَيَاةِ الْحَوَارِيِّينَ ثُمَّ حَدَثَ الِاخْتِلَافُ فِي تَلَامِيذِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٧١] أَنَّ الِاخْتِلَافَ انْحَلَّ إِلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: الْمَلْكَانِيَّةُ (وَتُسَمَّى الْجَاثُلِيقِيَّةَ) وَالْيَعْقُوبِيَّةُ، وَالنَّسْطُورِيَّةُ. وَانْشَعَبَتْ مِنْ هَذِهِ الْفِرَقِ عِدَّةُ فِرَقٍ ذَكَرَهَا الشَّهْرَسْتَانِيُّ، وَمِنْهَا الْأَلْيَانَةُ، وَالْبِلْيَارِسِيَّةُ، وَالْمِقْدَانُوسِيَّةُ، وَالسِّبَالِيَّةُ، وَالْبُوطِينُوسِيَّةُ، وَالْبُولِيَّةُ، إِلَى فِرَقٍ أُخْرَى. مِنْهَا فِرْقَةٌ كَانَتْ فِي الْعَرَبِ تُسَمَّى الرَّكُوسِيَّةُ وَرَدَ ذِكْرُهَا
فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: إِنَّكَ رَكُوسِيٌّ»
. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ هِيَ نَصْرَانِيَّةٌ مَشُوبَةٌ بِعَقَائِدِ الصَّابِئَةِ. وَحَدَثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فِرْقَةُ الِاعْتِرَاضِيَّةِ (الْبُرُوتِسْتَانُ) أَتْبَاعُ (لُوثِيرَ). وَأَشْهَرُ الْفِرَقِ الْيَوْمَ هِيَ الْمَلْكَانِيَّةُ (كاثوليك)، واليعقوبية (أرثودوكس)، والاعتراضية (بروتستان). وَلَمَّا كَانَ اخْتِلَافُهُمْ قَدِ انْحَصَرَ فِي مَرْجِعٍ وَاحِدٍ يَرْجِعُ إِلَى إِلَهِيَّةِ عِيسَى اغْتِرَارًا وَسُوءَ فَهْمٍ فِي مَعْنَى لَفْظِ (ابْنٍ) الَّذِي وَرَدَ صِفَةً لِلْمَسِيحِ فِي الْأَنَاجِيلِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ وُصِفَ بِذَلِكَ فِيهَا أَيْضًا أَصْحَابُهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ أَيْضًا «أَنْتُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ». وَفِي إِنْجِيلِ مَتَّى الْحَوَارِيِّ وَإِنْجِيلِ يُوحَنَّا الْحَوَارِيِّ كَلِمَاتٌ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ إِنْسَانٍ وَأَنَّ اللَّهَ إِلَهُهُ وَرَبُّهُ، فَقَدِ انْحَصَرَتْ مَذَاهِبُهُمْ فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ فَلِذَلِكَ ذُيِّلَ بِقَوْلِهِ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ، فَشَمِلَ قَوْلُهُ (الَّذِينَ كَفَرُوا) هَؤُلَاءِ الْمُخْبَرَ عَنْهُمْ مِنَ النَّصَارَى وَشَمِلَ الْمُشْرِكِينَ غَيرهم.
وَالْمَشْهَدُ صَالِحٌ لِمَعَانٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنَ الْمُشَاهَدَةِ أَوْ مِنَ
مِنْ نَسْلِ (كُوشَ). وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ (نُمْرُوذَ) لَقَبًا لِمَلِكِ (الْكَلْدَانِ) وَلَيْسَتْ عَلَمًا. وَالْمُقَدَّرُ فِي التَّارِيخِ أَنَّ مَلِكَ مَدِينَةِ (أُورَ) فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ هُوَ (أَلْغَى بْنُ أُورَخَ) وَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ٢٥٨].
وَنَصْرُ الْآلِهَةِ بِإِتْلَافِ عَدُوِّهَا.
وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ النَّصْرَ، وَهَذَا تَحْرِيضٌ وَتَلْهِيبٌ لِحَمِيَّتِهِمْ.
وَجُمْلَةُ قُلْنا يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ مَفْصُولَةٌ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا إِمَّا لِأَنَّهَا وَقَعَتْ كَالْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ حَرِّقُوهُ فَأَشْبَهَتْ جُمَلَ الْمُحَاوَرَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا اسْتِئْنَافٌ عَنْ سُؤَالٍ يَنْشَأُ عَنْ قِصَّةِ التَّآمُرِ عَلَى الْإِحْرَاقِ. وَبِذَلِكَ يَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ جُمْلَةٍ أُخْرَى، أَيْ فَأَلْقَوْهُ فِي النَّارِ قُلْنَا: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لِإِبْرَاهِيمَ
إِذْ وَجَّهَ إِلَى النَّارِ تَعَلُّقَ الْإِرَادَةِ بِسَلْبِ قُوَّةِ الْإِحْرَاقِ، وَأَنْ تَكُونَ بَرْدًا وَسَلَامًا إِنْ كَانَ الْكَلَامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، أَوْ أَزَالَ عَنْ مِزَاجِ إِبْرَاهِيمَ التَّأَثُّرَ بِحَرَارَةِ النَّارِ إِنْ كَانَ الْكَلَامُ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ كُونِي كَبَرْدٍ فِي عَدَمِ تَحْرِيقِ الْمُلْقَى فِيكِ بِحَرِّكِ.
وَأَمَّا كَوْنُهَا سَلَامًا فَهُوَ حَقِيقَةٌ لَا مَحَالَةَ، وَذِكْرُ سَلاماً بَعْدَ ذِكْرِ الْبَرْدِ كَالِاحْتِرَاسِ لِأَنَّ الْبَرْدَ مُؤْذٍ بِدَوَامِهِ رُبَّمَا إِذَا اشْتَدَّ، فَعَقَّبَ ذِكْرَهُ بِذِكْرِ السَّلَامِ لِذَلِكَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَوْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لَأَهْلَكَتْهُ بِبَرْدِهَا. وَإِنَّمَا ذَكَرَ بَرْداً ثُمَّ أَتْبَعَ بِ سَلاماً وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى بَرْداً لِإِظْهَارِ عَجِيبِ صُنْعِ الْقُدْرَةِ إِذْ صَيَّرَ النَّارَ بَرْدًا.
وعَلى إِبْراهِيمَ يَتَنَازَعُهُ بَرْداً وَسَلاماً. وَهُوَ أَشَدُّ مُبَالَغَةً فِي حُصُولِ نَفْعِهِمَا لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِفعل الْكَوْن.
وَاللَّامُ فِي لَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لِلْمِلْكِ، أَيْ بِقُدْرَتِهِ تَصْرِيفُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَالنَّهَارُ يُنَاسِبُ الْحَيَاةَ وَلِذَلِكَ يُسَمَّى الْهُبُوبُ فِي النَّهَارِ بَعْثًا، وَاللَّيْلُ يُنَاسِبُ الْمَوْتَ وَلِذَلِكَ سَمَّى اللَّهُ النَّوْمَ وَفَاةً فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ [الْأَنْعَام: ٦٠].
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلْقَصْرِ، أَيْ لَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَا لِغَيْرِهِ، أَيْ فَغَيْرُهُ لَا تَحِقُّ لَهُ الْإِلَهِيَّةُ.
وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَدِلَّةُ تُفِيدُ مَنْ نَظَرَ فِيهَا عِلْمًا بِأَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ وَأَنَّ الْبَعْثَ وَاقِعٌ وَكَانَ الْمَقْصُودُونَ بِالْخِطَابِ قَدْ أَشْرَكُوا بِهِ وَلَمْ يَهْتَدُوا بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ جُعِلُوا بِمَنْزِلَةِ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ فَأُنْكِرَ عَلَيْهِمْ عَدَمُ الْعَقْلِ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ الْمُفَرَّعِ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ.
وَهَذَا تَذْيِيلٌ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٧٩] وَمَا بعده.
[٨١- ٨٣]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٨١ إِلَى ٨٣]
بَلْ قالُوا مِثْلَ مَا قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣)
هَذَا إِدْمَاجٌ لِذِكْرِ أَصْلٍ آخَرَ مِنْ أُصُولِ الشِّرْكِ وَهُوَ إِحَالَةُ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَ (بَلْ) لِلْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ إِبْطَالًا لِكَوْنِهِمْ يَعْقِلُونَ. وَإِثْبَاتٌ لِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ مَعَ بَيَانِ مَا بَعَثَهُمْ عَلَى إِنْكَارِهِ وَهُوَ تَقْلِيد الْآبَاء. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ الْأَدِلَّةَ لَكِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ أَقْوَالَ آبَائِهِمْ.
وَالْكَلَامُ جَرَى عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ انْتُقِلَ مِنَ التَّقْرِيعِ وَالتَّهْدِيدِ إِلَى حِكَايَةِ ضَلَالِهِمْ فَنَاسَبَ هَذَا الِانْتِقَالَ مَقَامُ الْغَيْبَةِ لِمَا فِي الْغَيْبَةِ مِنَ الْإِبْعَادِ فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ.
أَوْ تَكُونُ الْوَاوُ لِلْحَالِ فَتَكُونُ حَالًا مُقَدَّرَةً، أَيْ وَالْحَالُ يَضِيقُ سَاعَتَئِذٍ صَدْرِي مِنْ عَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ.
وَالضِّيقُ: ضِدُّ السِّعَةِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْغَضَبِ وَالْكَمَدِ لِأَنَّ مَنْ يَعْتَرِيهِ ذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ انْفِعَالٌ وَيَنْشَأُ عَنْهُ انْضِغَاطُ الْأَعْصَابِ فِي الصَّدْرِ وَالْقَلْبِ مِنْ تَأْثِيرِ الْإِدْرَاكِ الْخَاصِّ عَلَى جَمْعِ الْأَعْصَابِ الْكَائِنِ بِالدِّمَاغِ الَّذِي هُوَ الْمُدْرِكُ فَيُحِسُّ بِشِبْهِ امْتِلَاءٍ فِي الصَّدْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الْأَنْعَام: ١٢٥] وَقَوْلِهِ: وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ فِي سُورَةِ هُودٍ [١٢]. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَأْسَفُ وَيَكْمَدُ لِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ وَيَجِيشُ فِي نَفْسِهِ رَوْمُ إِقْنَاعِهِمْ بِصِدْقِهِ، وَتِلْكَ الْخَوَاطِرُ إِذَا خَطَرَتْ فِي الْعَقْلِ نَشَأَ مِنْهَا إِعْدَادُ الْبَرَاهِينِ، وَفِي ذَلِكَ الْإِعْدَادِ تَكَلُّفٌ وَتَعَبٌ لِلْفِكْرِ فَإِذَا أَبَانَهَا أَحَسَّ بِارْتِيَاحٍ وَبِشِبْهِ السِّعَةِ فِي الصَّدْرِ فَسَمَّى ذَلِكَ شَرْحًا لِلصَّدْرِ، وَلِذَلِكَ سَأَلَهُ مُوسَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه: ٢٥].
وَالِانْطِلَاقُ حَقِيقَتُهُ مُطَاوِعُ أَطْلَقَهُ إِذَا أَرْسَلَهُ وَلَمْ يَحْبِسْهُ فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الذَّهَابِ.
وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِفَصَاحَةِ اللِّسَانِ وَبَيَانِهِ فِي الْكَلَامِ، أَيْ يَنْحَبِسُ لِسَانِي فَلَا يُبَيِّنُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْمُحَاجَّةِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَعَطْفُهُ عَلَى يَضِيقُ صَدْرِي ينبىء بِأَنَّهُ أَرَادَ بِضِيقِ الصَّدْرِ تَكَاثُرَ خَوَاطِرِ الِاسْتِدْلَالِ، فِي نَفْسِهِ عَلَى الَّذِينَ كَذَّبُوهُ لِيُقْنِعَهُمْ بِصِدْقِهِ حَتَّى يَحُسَّ كَأَنَّ صَدْرَهُ قَدِ امْتَلَأَ، وَالشَّأْنُ أَنَّ ذَلِكَ يَنْقُصُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ بِمِقْدَارِ مَا يُفْصِحُ عَنْهُ صَاحِبُهُ مِنْ إِبْلَاغِهِ إِلَى السَّامِعِينَ، فَإِذَا كَانَتْ فِي لِسَانِهِ حَبْسَةٌ وَعِيٌّ بَقِيَتِ الْخَوَاطِرُ مُتَلَجْلِجَةً فِي صَدْرِهِ. وَالْمَعْنَى:
وَيَضِيقُ صَدْرِي حِينَ يُكَذِّبُونَنِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَضِيقُ... وَلا يَنْطَلِقُ مَرْفُوعَيْنِ عطفا على فَأَخافُ وَلِذَلِكَ حَقَّقَهُ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِأَنَّهُ أَيْقَنَ بِحُصُولِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ جِبِلِّيٌّ عِنْدَ تَلَقِّي التَّكْذِيبِ، وَلِأَنَّ أَمَانَةَ الرِّسَالَةِ وَالْحِرْصَ عَلَى تَنْفِيذِ مُرَادِ اللَّهِ يُحْدِثُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ لَا مَحَالَةَ، وَإِذْ قَدْ كَانَ انْحِبَاسُ لِسَانِهِ يَقِينًا عِنْدَهُ لِأَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ التَّيَقُّنِ كَانَ فِعْلَا يَضِيقُ... وَلا يَنْطَلِقُ مَعْطُوفَيْنِ عَلَى مَا هُوَ مُحَقَّقٌ عِنْدَهُ وَهُوَ حُصُولُ الْخَوْفِ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَلَمْ يَكُونَا مَعْطُوفَيْنِ عَلَى يُكَذِّبُونِ الْمَخُوفِ مِنْهُ الْمُتَوَقَّعِ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ مُحَقَّقَ الْحُصُولِ يَجْعَلُهُ أَحْرَى مِنَ الْمُتَوَقَّعِ.
الْأَمِينُ خَبَرًا مَعَ صِحَّةِ جَعْلِ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ هُوَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ فَإِنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعْرِيفِ فِي الْمَوْصُولِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ خَيْرَ، وَفِي الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ هُنَا الْعُمُومُ فِي كِلَيْهِمَا، فَأُوثِرَ بِالتَّقْدِيمِ فِي جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ مَا هُوَ أَهَمُّ وَأَوْلَى بِالْعِنَايَةِ وَهُوَ خَيْرُ أَجِيرٍ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ سِيقَتْ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ اسْتَأْجِرْهُ فَوَصْفُ الْأَجِيرِ أَهَمُّ فِي مَقَامِ تَعْلِيلِهَا وَنَفْسُ السَّامِعِ أَشَدُّ تَرَقُّبًا لِحَالِهِ.
وَمَجِيءُ هَذَا الْعُمُومِ عَقِبَ الْحَدِيثِ عَنْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُ مِمَّنْ يَشْمَلُهُ ذَلِكَ الْعُمُومُ فَكَانَ ذَلِكَ مُصَادِفًا الْمَحَزَّ مِنَ الْبَلَاغَةِ إِذْ صَارَ إِثْبَاتُ الْأَمَانَةِ وَالْقُوَّةِ لِهَذَا الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ إِثْبَاتًا لِلْحُكْمِ بِدَلِيلٍ. فَتَقْدِيرُ مَعْنَى الْكَلَامِ: اسْتَأْجِرْهُ فَهُوَ قَوِيٌّ أَمِينٌ وَإِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرَ مُسْتَأْجِرٌ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ. فَكَانَتِ الْجُمْلَةُ مُشْتَمِلَةً عَلَى خُصُوصِيَّةِ تَقْدِيمِ الْأَهَمِّ وَعَلَى إِيجَازِ الْحَذْفِ وَعَلَى الْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ، وَبِذَلِكَ اسْتَوْفَتْ غَايَةَ مُقْتَضَى الْحَالِ فَكَانَتْ بَالِغَةً حَدَّ الْإِعْجَازِ.
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ «أَشْكُو إِلَى اللَّهِ ضَعْفَ الْأَمِينِ وَخِيَانَةَ الْقَوِيِّ». يُرِيدُ:
أَسْأَلُهُ أَنْ يُؤَيِّدَنِي بِقَوِيٍّ أَمِينٍ أَسْتَعِينُ بِهِ.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ هاتَيْنِ إِلَى الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ سَقَى لَهُمَا إِنْ كَانَتَا حَاضِرَتَيْنِ مَعًا دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ بَنَاتِ شُعَيْبٍ لِتَعَلُّقِ الْقَضِيَّةِ بِشَأْنِهِمَا، أَوْ تَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِمَا لِحُضُورِهِمَا فِي ذِهْنِ مُوسَى بِاعْتِبَارِ قُرْبِ عَهْدِهِ بِالسَّقْيِ لَهُمَا إِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى غَائِبَةً حِينَئِذٍ.
وَفِيهِ جَوَازُ عَرْضِ الرَّجُلِ مَوْلَاتِهِ عَلَى مَنْ يَتَزَوَّجُهَا رَغْبَةً فِي صَلَاحِهِ. وَجَعَلَ لِمُوسَى اخْتِيَارَ إِحْدَاهُمَا لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَهَا وَكَانَتِ الَّتِي اخْتَارَهَا مُوسَى (صَفُّورَةَ) وَهِيَ الصُّغْرَى كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنَّمَا اخْتَارَهَا دُونَ أُخْتِهَا لِأَنَّهَا الَّتِي عَرَفَ أَخْلَاقَهَا بِاسْتِحْيَائِهَا وَكَلَامِهَا فَكَانَ ذَلِكَ تَرْجِيحًا لَهَا عِنْدَهُ.
وَكَانَ هَذَا التَّخْيِيرُ قَبْلَ انْعِقَادِ النِّكَاحِ، فَلَيْسَ فِيهِ جَهْلُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا.
وَقَوْلُهُ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ حَرْفُ عَلى مَنْ صِيَغِ الشَّرْطِ فِي الْعُقُودِ.
وتَأْجُرَنِي مُضَارِعُ أَجَرَهُ مِثْلُ نَصَرَهُ إِذَا كَانَ أَجِيرًا لَهُ. وَالْحِجَجُ: اسْمٌ
أَيْ نَشْرَبُ وَنُقَامِرُ مِنْ أَثْمَانِ إِبِلِنَا. وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٥].
ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ رِباً وَقَوْلُهُ مِنْ زَكاةٍ بَيَانِيَّةٌ مُبَيِّنَةٌ لِإِبْهَامِ مَا الشَّرْطِيَّةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَتَقَدَّمَ الرِّبَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَقَوله فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ جَوَابُ الشَّرْطِ. وَمعنى فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ أَنَّهُ عَمَلٌ نَاقِصٌ عِنْدَ الله غير زاك عِنْدَهُ، وَالنَّقْصُ يُكَنَّى بِهِ عَنِ الْمَذَمَّةِ وَالتَّحْقِيرِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَحْمَلِ لَفْظِ الرِّبَا عَلَى حَقِيقَتِهِ الْمَشْهُورَةِ، وَلِمُوَافَقَةِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ [الْبَقَرَة: ٢٧٦]، وَلِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْإِضْعَافِ فِي قَوْلِهِ هُنَا فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ وَقَوْلِهِ لَا تَأْكُلُوا «الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٣٠]. وَهَذَا الْمَعْنَى مَرْوِيٌّ عَنِ السُّدِّيِّ وَالْحَسَنِ. وَقَدِ اسْتَقَامَ بِتَوْجِيهِهِ الْمَعْنَى مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى فِي مِنْ قَوْلِهِ فِي أَمْوالِ النَّاسِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ رِباً فِي الْآيَةِ أَطُلِقَ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي مَالٍ لِغَيْرِهِ، أَيْ إِعْطَاءُ الْمَالِ لِذَوِي الْأَمْوَالِ قَصْدَ الزِّيَادَةِ فِي أَمْوَالِهِمْ تَقَرُّبًا إِلَيْهِمْ، فَيَشْمَلُ هِبَةَ الثَّوَابِ وَالْهِبَةَ لِلزُّلْفَى وَالْمَلْقَ. وَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنَ الْآيَةِ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ مِنْ مُوَافَقَةِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا وَإِنَّمَا نَفْعُهُ لِأَنْفُسِهِمْ. وَدَرَجَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى جَمٌّ غَفِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: وَمَا أَعْطَيْتُمْ مِنْ زِيَادَةٍ لِتَزِيدُوا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ، وَتَصِيرُ كَلِمَةُ لِتُرْبُوا تَوْكِيدًا لَفْظِيًّا لِيَعْلَقَ بِهِ قَوْلُهُ فِي أَمْوالِ النَّاسِ.
وَقَوْلُهُ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ إِلَخْ رُجُوعٌ إِلَى قَوْلِهِ فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ [الرّوم: ٣٨] الْآيَةَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْحَقَّ هُوَ الْمُسَمَّى بِالزَّكَاةِ.
وَجُمْلَةُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ جَوَابٌ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ، أَيْ فَمُؤْتَوْهُ الْمُضْعِفُونَ، أَيْ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَصَلَ لَهُمُ الْإِضْعَافُ وَهُوَ إِضْعَافُ الثَّوَابِ. وَضمير الْفَصْل لقصر جِنْسُ الْمُضْعِفِينَ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِإِضْعَافِ مَنْ عَدَاهُمْ لِأَنَّ إِضْعَافَ مَنْ عَدَاهُمْ إِضْعَافٌ دُنْيَوِيٌّ زَائِلٌ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ لِلتَّنْوِيهِ بِهَؤُلَاءِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى
وَمَا صدق الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: مَا اكْتَسَبُوا سَيِّئًا، أَيْ بِغَيْرِ مَا اكتسبوا من سيّىء.
وَمَعْنَى احْتَمَلُوا كَلَّفُوا أَنْفُسَهُمْ حِمْلًا، وَذَلِكَ تَمْثِيلٌ لِلْبُهْتَانِ بِحِمْلٍ ثَقِيلٍ عَلَى صَاحِبِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً
فِي سُورَة النِّسَاء [١١٢].
[٥٩]
[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : آيَة ٥٩]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩)
أُتْبِعَ النَّهْيُ عَنْ أَذَى الْمُؤْمِنَاتِ بِأَنْ أُمِرْنَ بِاتِّقَاءِ أَسْبَابِ الْأَذَى لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمَطَالِبِ السَّعْيَ فِي تَذْلِيلِ وَسَائِلِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها [الْإِسْرَاء:
١٩] وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ:
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ
وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى قَاعِدَةِ التَّعَاوُنِ عَلَى إِقَامَةِ الْمَصَالِحِ وَإِمَاتَةِ الْمَفَاسِدِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «رَحِمَ اللَّهُ وَالِدًا أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ».
وَهَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفُ السَّنَدِ لَكِنَّهُ صَحِيحُ الْمَعْنَى لِأَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ مَطْلُوبٌ، فَالْإِعَانَةُ عَلَيْهِ إِعَانَةٌ عَلَى وُجُودِ الْمَعْرُوفِ وَالْخَيْرِ.
وَابْتُدِئَ بِأَزْوَاجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَنَاتِهِ لِأَنَّهُنَّ أَكْمَلُ النِّسَاءِ، فَذِكْرُهُنَّ مِنْ ذِكْرِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ.
وَالنِّسَاءُ: اسْمُ جَمْعٍ لِلْمَرْأَةِ لَا مُفْرَدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلا نِسائِهِنَّ [الْأَحْزَاب: ٥٥]. فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالنِّسَاءِ هُنَا أَزْوَاجَ الْمُؤْمِنِينَ بَلِ الْمُرَادُ الْإِنَاثُ الْمُؤْمِنَاتُ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَعْنَى (مِنْ) أَيِ النِّسَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْجَلَابِيبُ: جَمْعُ جِلْبَابٍ وَهُوَ ثَوْبٌ أَصْغَرُ مِنَ الرِّدَاءِ وَأَكْبَرُ مِنَ الْخِمَارِ وَالْقِنَاعِ، تَضَعُهُ الْمَرْأَةُ عَلَى رَأْسِهَا فَيَتَدَلَّى جَانِبَاهُ عَلَى عِذَارَيْهَا وَيَنْسَدِلُ سائره على كتفها وَظَهْرِهَا، تَلْبَسُهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ وَالسَّفَرِ.
وَفَرَّعُوا عَلَى مَضْمُونِ رَدِّهِمْ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِلَى قَوْماً طاغِينَ قَوْلَهُمْ: فَأَغْوَيْناكُمْ، أَيْ مَا أَكْرَهْنَاكُمْ عَلَى الشِّرْكِ وَلَكِنَّا وَجَدْنَاكُمْ مُتَمَسِّكِينَ بِهِ وَرَاغِبِينَ فِيهِ فَأَغْوَيْنَاكُمْ، أَيْ فَأَيَّدْنَاكُمْ فِي غوايتكم لأنّا كُنَّا غَاوِينَ فَسَوَّلْنَا لَكُمْ مَا اخْتَرْنَاهُ لِأَنْفُسِنَا فَمَوْقِعُ جُمْلَةِ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ مَوْقِعُ الْعِلَّةِ.
وَ «إِنَّ» مُغْنِيَةٌ غَنَاءَ لَامِ التَّعْلِيلِ وَفَاءِ التَّفْرِيعِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَزِيَادَةُ كُنَّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمْكِينِ الْغَوَايَةِ مِنْ نُفُوسِهِمْ، وَقَدِ اسْتَبَانَ لَهُمْ أَنَّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ غَوَايَةٌ فَأَقَرُّوا بِهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [١٠١] : فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ أَنَّ تَسَاؤُلَهُمُ الْمَنْفِيَّ هُنَالِكَ هُوَ طَلَبُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ النَّجْدَةَ وَالنُّصْرَةَ وَأَنَّ تَسَاؤُلَهُمْ هُنَا تَسَاؤُلٌ عَنْ أَسْبَابِ وَرْطَتِهِمْ فَلَا تَعَارُضَ بَين الْآيَتَيْنِ.
[٣٣- ٣٤]
[سُورَة الصافات (٣٧) : الْآيَات ٣٣ إِلَى ٣٤]
فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤)
هَذَا الْكَلَامُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى موجه إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ حِكَايَةِ حِوَارِ اللَّهِ أَهْلَ الشِّرْكِ فِي الْقِيَامَةِ وَبَيْنَ تَوْبِيخِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ [الصافات: ٣٨].
وَالْفَاءُ لِلْفَصِيحَةِ لِأَنَّهَا وَرَدَتْ بَعْدَ تَقْرِيرِ أَحْوَالٍ وَكَانَ مَا بَعْدَ الْفَاءِ نَتِيجَةً لِتِلْكَ الْأَحْوَالِ فَكَانَتِ الْفَاءُ مُفْصِحَةً عَنْ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ إِذَا كَانَ حَالُهُمْ كَمَا سَمِعْتُمْ فَإِنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الشِّرْكِ وَتَمَالُئِهِمْ، أَيْ لَا عُذْرَ لِلْكَلَامِ لِلْفَرِيقَيْنِ لَا لِلزُّعَمَاءِ بِتَسْوِيلِهِمْ وَلَا لِلدَّهْمَاءِ بِنَصْرِهِمْ. وَقَدْ يَكُونُ عَذَابُ الدُّعَاةِ الْمُغْوِينَ أَشَدَّ مِنْ عَذَابِ الْآخَرِينَ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي الِاشْتِرَاك فِي جِنْسِ الْعَذَابِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَدِلَّةٌ أُخْرَى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا بَيَانُ عَدَمِ إِجْدَاءِ مَعْذِرَةِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ وَتَنَصُّلِهِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمَلِ حِكَايَةِ مَوْقِفِهِمْ فِي الْحِسَابِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ تَعْلِيلٌ لِمَا اقْتَضَتْهُ جُمْلَةُ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي

[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ١٥ الى ١٦]

رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لَا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦)
رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لَا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ.
رَفِيعُ الدَّرَجاتِ خَبَرٌ عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ ضَمِيرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: فَادْعُوا اللَّهَ [غَافِر: ١٤] وَلَيْسَ خَبَرًا ثَانِيًا بَعْدَ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ [غَافِر: ١٣] لِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَا فِي غَرَضٍ مُسْتَجَدٍّ، وَحَذْفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي مِثْلِهِ حَذْفُ اتِّبَاعٍ لِلِاسْتِعْمَالِ فِي حَذْفِ مِثْلِهِ، كَذَا سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ بَعْدَ أَنْ يَجْرِيَ مِنْ قِبَلِ الْجُمْلَةِ حَدِيثٌ عَنِ الْمَحْذُوفِ كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَوْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَبَّاسِ الصُّولِيِّ أَوْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْكَاتِبِ:
سَأَشْكُرُ عَمْرًا إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي أَيَادِيَ لَمْ تُمْنَنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ
فَتًى غَيْرُ مَحْجُوبِ الْغِنَى عَنْ صديقه وَلَا مظْهرا للشكوى إِذَا النَّعْلُ زَلَّتِ
ورَفِيعُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً مُشَبَّهَةً. وَالتَّعْرِيفُ فِي الدَّرَجاتِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: رَفِيعَةٌ دَرَجَاتُهُ، فَلَمَّا حُوِّلَ وَصْفُ مَا هُوَ من شؤونه إِلَى أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِذَاتِهِ سُلِكَ طَرِيقُ الْإِضَافَةِ وَجُعِلَتِ الصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ خَبَرًا عَنْ ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ وَجُعِلَ فَاعِلُ الصِّفَةِ مُضَافًا إِلَيْهِ، وَذَلِكَ مِنْ حَالَاتِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ يُقَالُ: فُلَانٌ حَسَنٌ فعله، وَيُقَال: فلَان حَسَنُ الْفِعْلِ، فَيُؤَوَّلُ قَوْلُهُ: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ إِلَى صِفَةِ ذَاتِهِ.
والدَّرَجاتِ مُسْتَعَارَةٌ لِلْمَجْدِ وَالْعَظَمَةِ، وَجَمْعُهَا إِيذَانٌ بِكَثْرَةِ الْعَظَمَاتِ بِاعْتِبَارِ صِفَاتِ مَجْدِ اللَّهِ الَّتِي لَا تُحْصَرُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ حَقِيقٌ بِإِخْلَاصِ الدُّعَاءِ إِلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفِيعُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ كَثِيرُ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ لِمَنْ يَشَاءُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ [يُوسُف: ٧٦]. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الدَّرَجاتِ مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى الْمَفْعُولِ فَيَكُونُ رَاجِعًا إِلَى صِفَاتِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْمَقْصُودُ: تَثْبِيتُهُمْ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ بِالتَّرْغِيبِ بِالتَّعَرُّضِ إِلَى
حَالَةِ الْوَصْلِ وَبِحَذْفِهَا فِي حَالَةِ الْوَقْفِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْحَالَيْنِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا فِي الْحَالَيْنِ.
وَإِسْكَانُ الرِّيَاحِ: قَطْعُ هُبُوبِهَا، فَإِنَّ الرِّيحَ حَرَكَةٌ وَتَمَوُّجٌ فِي الْهَوَاءِ فَإِذَا سَكَنَ ذَلِكَ التَّمَوُّجُ فَلَا رِيحَ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ الرِّيَاحَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ الرِّيحَ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ. وَفِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرِّيحَ قَدْ تُطْلَقُ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ على الرّيح الْخَيْرِ، وَمَا قِيلَ: إِنَّ الرِّيَاحَ لِلْخَيْرِ وَالرِّيحَ لِلْعَذَابِ فِي الْقُرْآنِ هُوَ غَالِبٌ لَا مطّرد. وَقد قرىء فِي آيَاتٍ أُخْرَى الرِّيَاحَ وَالرِّيحَ فِي سِيَاقِ الْخَيْرِ دُونَ الْعَذَابِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَشَأْ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ. وَقَرَأَهُ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ بِأَلَفٍ عَلَى أَنَّهُ تَخْفِيفٌ لِلْهَمْزَةِ.
وَالرَّوَاكِدُ: جَمْعُ رَاكِدَةٍ، وَالرُّكُودُ: الِاسْتِقْرَارُ وَالثُّبُوتُ.
وَالظَّهْرُ: الصُّلْبُ لِلْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ، وَيُطْلَقُ عَلَى أَعْلَى الشَّيْءِ إِطْلَاقًا شَائِعًا. يُقَالُ:
ظَهْرُ الْبَيْتِ، أَيْ سَطْحُهُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها [الْبَقَرَة: ١٨٩]. وَأَصْلُهُ: اسْتِعَارَةٌ فَشَاعَتْ حَتَّى قَارَبَتِ الْحَقِيقَةَ، فَظَهْرُ الْبَحْرِ سَطْحُ مَائِهِ الْبَادِي لِلنَّاظِرِ، كَمَا أُطْلِقَ ظَهْرُ الْأَرْضِ عَلَى مَا يَبْدُو مِنْهَا، قَالَ تَعَالَى: مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: ٤٥].
وَجَعَلَ ذَلِكَ آيَةً لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ لِأَنَّ فِي الْحَالَتَيْنِ خَوْفًا وَنَجَاةً، وَالْخَوْفُ يَدْعُو إِلَى الصَّبْرِ، وَالنَّجَاةُ تَدْعُو إِلَى الشُّكْرِ. وَالْمُرَادُ: أَنَّ فِي ذَلِكَ آيَاتٍ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مُتَخَلِّقٍ بِخُلُقِ الصَّبْرِ عَلَى الضَّرَّاءِ وَالشُّكْرِ لِلسَّرَّاءِ، فَهُوَ يَعْتَبِرُ بِأَحْوَالِ الْفُلْكِ فِي الْبَحْرِ اعْتِبَارًا يُقَارِنُهُ الصَّبْرُ أَوِ الشُّكْرُ.
وَإِنَّمَا جَعَلَ ذَلِكَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِتِلْكَ الْآيَةِ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِالْإِلَهِيَّةِ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهَا تَمُرُّ بِأَعْيُنِهِمْ فَلَا يَعْتَبِرُونَ بِهَا.
وَقَوْلُهُ: أَوْ يُوبِقْهُنَّ عَطْفٌ عَلَى جَزَاءِ الشَّرْطِ.
ويُوبِقْهُنَّ: يُهْلِكُهُنَّ. وَالْإِيبَاقُ: الْإِهْلَاكُ، وَفِعْلُهُ وَبَقَ كَوَعَدَ. وَالْمُرَادُ بِهِ
(١).
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِذَنْبِكَ لَامُ التَّعْيِينِ بَيَّنَتْ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِفِعْلِ اسْتَغْفِرْ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ لَامُ الْعِلَّةِ، أَوْ بِمَعْنَى (عَنْ) وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيِ اسْتَغْفِرِ الذُّنُوبَ لِأَجْلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ: وَلِلْمُؤْمِنِينَ لِذُنُوبِهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ تَذْيِيلٌ جَامِعٌ لِأَحْوَالِ مَا تَقَدَّمَ. فَالْمُتَقَلَّبُ:
مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّقَلُّبِ، أُوثِرَ جَلْبُهُ هُنَا لِمُزَاوَجَةِ قَوْلِهِ: وَمَثْواكُمْ. وَالتَّقَلُّبُ: الْعَمَلُ الْمُخْتَلِفُ ظَاهِرًا كَانَ كَالصَّلَاةِ، أَوْ بَاطِنًا كَالْإِيمَانِ وَالنُّصْحِ.
والمثوى: الْمرجع والمثال، أَيْ يَعْلَمُ اللَّهُ أَحْوَالَكُمْ جَمِيعًا مِنْ مُؤْمِنِينَ وَكَافِرِينَ، وَقَدَّرَ لَهَا جَزَاءَهَا عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ بِمَرَاتِبِهَا وَيَعْلَمُ مَصَائِرَكُمْ وَإِنَّمَا أَمَرَكُمْ وَنَهَاكُمْ وَأَمَرَكُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ خَاصَّةً لِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْأَسْبَابِ عَلَى مُسَبِّبَاتِهَا فَلَا تَيْأَسُوا وَلَا تُهْمِلُوا.
[٢٠، ٢١]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : الْآيَات ٢٠ الى ٢١]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أُنْزِلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَقَدْ بَدَتْ قُرُونُ نِفَاقِ الْمُنَافِقِينَ، فَلَمَّا جَرَى
فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَصْفُ حَالِ الْمُنَافِقِينَ أُعْقِبَ ذَلِكَ بِوَصْفِ أَجْلَى مَظَاهِرِ نِفَاقِهِمْ، وَذَلِكَ حِينَ يُدْعَى الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْجِهَادِ فَقَدْ يَضِيقُ الْأَمْرُ بِالْمُنَافِقِينَ إِذْ كَانَ تَظَاهُرُهُمْ بِالْإِسْلَامِ سَيُلْجِئُهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ لِلْقِتَالِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ أَمْرٌ لَيْسَ بِالْهَيِّنِ لِأَنَّهُ تَعَرُّضٌ لِإِتْلَافِهِمُ النُّفُوسِ دون أَن يَرْجُو مِنْهُ نَفْعًا فِي الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ إِذْ هُمْ لَا يُصَدِّقُونَ بِهَا فَيُصْبِحُوا فِي حَيْرَةٍ. وَكَانَ حَالُهُمْ هَذَا مُخَالِفًا لِحَالِ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِي تَمَنَّوْا أَنْ يَنْزِلَ الْقُرْآنُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْقِتَالِ لِيُلَاقُوا الْمُشْرِكِينَ فَيَشْفُوا مِنْهُمْ غَلِيلَهُمْ، فَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ حُكِيَ تَمَنِّي الْمُؤْمِنِينَ نُزُولَ حُكْمِ الْقِتَالِ لِأَنَّهُ يَلُوحُ بِهِ تَمْيِيزُ حَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَيَبْدُو مِنْهُ الْفَرْقُ بَيْنَ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ وَقَدْ بَيَّنَ كُرْهَ الْقِتَالِ لَدَيْهِمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ.
فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ قَوْلُهُ: فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الْآيَةَ، وَمَا قَبْلَهُ تَوْطِئَةٌ لَهُ بِذِكْرِ سَبَّبِهِ، وَأَفَادَ تَقْدِيمُهُ
_________
(١) رَوَاهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد.
وَجُمْلَةُ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ارْتِقَاءٌ فِي الْإِبْطَالِ وَالتَّهَكُّمِ وَالتَّسْفِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ مُجَارَاةٌ لِاعْتِقَادِهِمُ أَنَّ تِلْكَ الْأَصْنَامَ الثَّلَاثَةَ بَنَاتُ اللَّهِ وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، أَيْ أجعلتم لله الْبَنَات خَاصَّةً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ لَكُمْ أَوْلَادًا ذُكُورًا وَإِنَاثًا وَأَنَّكُمْ تُفَضِّلُونَ الذُّكُورَ وَتَكْرَهُونَ الْإِنَاثَ وَقَدْ خَصَصْتُمُ اللَّهَ بِالْإِنَاثِ دُونَ الذُّكُورِ وَاللَّهُ أَوْلَى بِالْفَضْلِ وَالْكَمَالِ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَكَانَ فِي هَذَا زِيَادَةُ تَشْنِيعٍ لِكُفْرِهِمْ إِذْ كَانَ كُفْرًا وَسَخَافَةَ عَقْلٍ.
وَكَوْنُ الْعُزَّى وَمَنَاة عِنْدهم اثْنَتَيْنِ ظَاهِرٌ مِنْ صِيغَةِ اسْمَيْهِمَا، وَأَمَّا اللَّاتُ فَبِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ اعْتِبَارِ التَّاءِ فِي الِاسْم عَلامَة تَأْنِيث أَوْ أَصْلًا مِنَ الْكَلِمَةِ فَهُمْ كَانُوا يَتَوَهَّمُونَ اللَّاتَ أُنْثَى، وَلذَلِك قَالَ أبوبكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ «امْصُصْ أَوِ اعْضُضْ بَظْرَ اللَّاتِ».
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ فِي أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى لِلِاهْتِمَامِ بالاختصاص الَّذِي أفادته اللَّامُ اهْتِمَامًا فِي مَقَامِ التَّهَكُّمِ وَالتَّسْفِيهِ عَلَى أَنَّ فِي تَقْدِيمِ وَلَهُ الْأُنْثى «إِفَادَةَ الِاخْتِصَاصِ» أَيْ دُونَ الذَّكَرِ.
وَجُمْلَةُ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى تَعْلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّهَكُّمِ الْمُفَادُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ فِي أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى، أَيْ قَدْ جُرْتُمْ فِي الْقِسْمَةِ وَمَا عَدَلْتُمْ فَأَنْتُمْ أَحِقَّاءُ بِالْإِنْكَارِ.
وَالْإِشَارَةُ بِ تِلْكَ إِلَى الْمَذْكُورِ بِاعْتِبَارِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِلَفْظِ قِسْمَةٌ فَإِنَّهُ مؤنث اللَّفْظ.
وإِذاً حَرْفُ جَوَابٍ أُرِيدَ بِهِ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ الإنكاري، أَي ترَتّب عَلَى مَا زَعَمْتُمْ أَنَّ ذَلِكَ قِسْمَةٌ ضِيزَى، أَيْ قَسَمْتُمْ قِسْمَةً جَائِرَةً.
وضِيزى: وَزْنُهُ فُعْلَى بِضَمِ الْفَاءِ مِنْ ضَازَهُ حَقَّهُ، إِذَا نَقَصَهُ، وَأَصْلُ عَيْنِ ضَازَ هَمْزَةٌ، يُقَالُ: ضَأَزَهُ حَقَّهُ كَمَنَعَهُ ثُمَّ كَثُرَ فِي كَلَامِهِمْ تَخْفِيفُ الْهَمْزَةِ فَقَالُوا: ضَازَهُ بِالْأَلِفِ.
وَيَجُوزُ فِي مُضَارِعِهِ أَنْ يَكُونَ يَائِيَّ الْعَيْنِ أَوْ وَاوِيَّهَا قَالَ الْكِسَائِيُّ: يَجُوزُ ضَازَ يَضِيزُ، وَضَازَ يَضُوزُ. وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّ لَكَ الْخِيَارَ فِي الْمَهْمُوزِ الْعَيْنِ إِذَا خُفِّفَ
الْمُسْلِمِينَ إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ الْمُفِيدُ أَنَّهُمْ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى جَيْشٍ وَاحِدٍ مُتَسَانِدِينَ فِيهِ مِمَّا يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى عَدَاوَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَيُجَابُ بِأَنَّ بَيْنَهُمْ بَأْسًا شَدِيدًا وَتَدَابُرًا، فَهُمْ لَا يَتَّفِقُونَ.
وَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِ بَأْسُهُمْ لِلِاهْتِمَامِ بِالْأِخْبَارِ عَنْهُ بِأَنَّهُ بَيْنَهُمْ، أَيْ مُتَسَلِّطٌ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَيْسَ بَأْسُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَفِي تَهَكُّمٍ.
وَمَعْنَى بَيْنَهُمْ أَنَّ مَجَالَ الْبَأْسِ فِي مُحِيطِهِمْ فَمَا فِي بَأْسِهِمْ مِنْ إِضْرَارٍ فَهُوَ مُنْعَكِسٌ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا التَّرْكِيبُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الْفَتْح: ٢٩].
وَجُمْلَةُ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً إِلَى آخِرِهَا اسْتِئْنَافٌ عَنْ جُمْلَةِ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ.
لِأَنَّهُ قَدْ يَسْأَلُ السَّائِلُ: كَيْفَ ذَلِكَ وَنَحْنُ نَرَاهُمْ مُتَّفِقِينَ؟ فَأُجِيبُ بِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِهِمْ حَالُ اجْتِمَاعٍ وَاتِّحَادٍ وَهُمْ فِي بَوَاطِنِهِمْ مُخْتَلِفُونَ فَآرَاؤُهُمْ غير متفقة إِلَّا إِلْفَةَ بَيْنَهُمْ لِأَنَّ بَيْنَهُمْ إِحَنًا وَعَدَاوَاتٍ فَلَا يَتَعَاضَدُونَ.
وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحْسَبُ ذَلِكَ. وَهَذَا تَشْجِيعٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى قِتَالِهِمْ وَالِاسْتِخْفَافِ بِجَمَاعَتِهِمْ. وَفِي الْآيَةِ تَرْبِيَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ لِيَحْذَرُوا مِنَ التَّخَالُفِ وَالتَّدَابُرِ وَيَعْلَمُوا أَنْ الْأُمَّةَ لَا تَكُونُ ذَاتَ بَأْسٍ عَلَى أَعْدَائِهَا إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُتَّفِقَةَ الضَّمَائِرِ يَرَوْنَ رَأْيًا مُتَمَاثِلًا فِي أُصُولِ مَصَالِحِهِمَا الْمُشْتَرِكَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِي خُصُوصِيَّاتِهَا الَّتِي لَا تَنْقُضُ أُصُولَ مَصَالِحِهَا، وَلَا تُفَرِّقُ جَامِعَتِهَا، وَأَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي الِاتِّحَادِ تَوَافُقُ الْأَقْوَالِ وَلَا التَّوَافُقُ عَلَى الْأَغْرَاضِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الضَّمَائِرُ خَالِصَةً مِنَ الْإِحَنِ وَالْعَدَاوَاتِ.
وَالْقُلُوبُ: الْعُقُولُ وَالْأَفْكَارُ، وَإِطْلَاقُ الْقَلْبِ عَلَى الْعَقْلِ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ.
وَشَتَّى: جَمْعُ شَتِيتٍ بِمَعْنَى مُفَارِقٍ بِوَزْنِ فَعْلَى مَثَلَ قَتِيلٍ وَقَتْلَى، شُبِّهَتِ الْعُقُولُ الْمُخْتَلِفَةُ مَقَاصِدُهَا بِالْجَمَاعَاتِ الْمُتَفَرِّقِينَ فِي جِهَاتٍ فِي أَنَّهَا لَا تَتَلَاقَى فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ وَمِنْ تَشَتُّتِ قُلُوبِهِمْ أَيْ ذَلِكَ مُسَبَّبٌ عَلَى عَدَمِ عَقْلِهِمْ إِذِ انْسَاقُوا إِلَى إِرْضَاءِ خَوَاطِرِ الْأَحْقَادِ وَالتَّشَفِّي بَيْنَ أَفْرَادِهِمْ وَأَهْمَلُوا النَّظَرَ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَاتِّبَاعِ الْمَصَالِحِ فَأَضَاعُوا مَصَالِحَ قَوْمِهِمْ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِأَنْ أَنْبَتَ عَلَيْهِ شَجَرَةَ الْيَقْطِينِ كَمَا فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ.
وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ فَضْلُ التَّوْبَةِ وَالضَّرَاعَةِ إِلَى اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَوْلَا تَوْبَتُهُ وَضَرَاعَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَإِنْعَامُ اللَّهِ عَلَيْهِ نِعْمَةً بَعْدَ نِعْمَةٍ لَقَذَفَهُ الْحُوتُ مِنْ بَطْنِهِ مَيِّتًا فَأَخْرَجَهُ الْمَوْجُ إِلَى الشَّاطِئِ فَلَكَانَ مُثْلَةً لِلنَّاظِرِينَ أَوْ حَيًّا مَنْبُوذًا بِالْعَرَاءِ لَا يَجِدُ إِسْعَافًا، أَوْ لَنَجَا بَعْدَ لَأْيٍّ وَاللَّهُ غَاضِبٌ عَلَيْهِ فَهُوَ مَذْمُومٌ عِنْدَ اللَّهِ مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ. وَهِيَ نِعَمٌ كَثِيرَةٌ عَلَيْهِ إِذْ أَنْقَذَهُ مِنْ هَذِهِ الْوَرَطَاتِ كُلِّهَا إِنْقَاذًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى طُوِيَ طَيًّا بَدِيعًا وَأُشِيرَ إِلَيْهِ إِشَارَةً بَلِيغَةً بِجُمْلَةِ لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ.
وَطَرِيقَةُ الْمُفَسِّرِينَ فِي نَشْرِ هَذَا الْمَطْوِيِّ أَنَّ جُمْلَةَ وَهُوَ مَذْمُومٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَأَنَّ تِلْكَ الْحَالَ قَيْدٌ فِي جَوَابِ لَوْلا، فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ نَبْذًا ذَمِيمًا، أَيْ وَلَكِنَّ يُونُسَ نُبِذَ بِالْعَرَاءِ غَيْرَ مَذْمُومٍ.
وَالَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ نَبْذَهُ بِالْعَرَاءِ وَاقِعٌ فَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ لِأَنَّ لَوْلا تَقْتَضِي امْتِنَاعًا لِوُجُودٍ، فَلَا يَكُونُ جَوَابُهَا وَاقِعًا فَتَعَيَّنَ اعْتِبَارُ تَقْيِيدِ الْجَوَابِ بِجُمْلَةِ الْحَالِ، أَيِ انْتَفَى ذَمُّهُ عِنْدَ نَبْذِهِ بِالْعَرَاءِ.
وَيَلُوحُ لِي فِي تَفْصِيلِ النَّظَمِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ لَوْلا مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَهُوَ مَكْظُومٌ مَعَ مَا تُفِيدُهُ صِيغَةُ الْجُمْلَةِ الْاسْمِيَّةِ مِنْ تَمَكُّنِ الْكَظْمِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا، فَتِلْكَ الْحَالَةُ إِذَا اسْتَمَرَّتْ لَمْ يَحْصُلْ نَبْذُهُ بِالْعَرَاءِ، وَيَكُونُ الشَّرْطُ ب لَوْلا لَا حَقًا لِجُمْلَةِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ، أَيْ لَبَقِيَ مَكْظُومًا، أَيْ مَحْبُوسًا فِي بَطْنِ الْحُوتِ أَبَدًا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [١٤٣- ١٤٤] فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، وَتَجْعَلُ جُمْلَةَ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنِ الْإِجْمَالِ الْحَاصِلِ مِنْ مَوْقِعِ لَوْلا.
وَالْلَّامُ فِيهَا لَامُ الْقَسَمِ لِلتَّحْقِيقِ لِأَنَّهُ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ فَتَأْكِيدُهُ لِرَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ.
وَالْمَعْنَى: لَقَدْ نُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ. وَالْمَذْمُومُ: إِمَّا بِمَعْنَى الْمُذْنِبِ لِأَنَّ الذَّنْبَ يَقْتَضِي الذَّمَّ فِي الْعَاجِلِ وَالْعِقَابَ فِي الْآجِلِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي آيَةِ الصَّافَّاتِ
وَالْمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ يَجْعَلُكَ دَارِيًا. وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ مِثْلُهُ لِقَصْدِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ.
قَالَ الرَّاغِبُ: مَا ذُكِرَ مَا أَدْرَاكَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا وَذُكِرَ بَيَانُهُ بَعْدَهُ اهـ. قُلْتُ: فَقَدْ يُبَيِّنُهُ تَفْصِيلٌ مِثْلَ قَوْلِهِ هُنَا: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى وَقَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [الْقدر: ٢- ٣] وَقَدْ يَقَعُ بَعْدَهُ مَا فِيهِ تَهْوِيلٌ نَحْوَ: وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ [القارعة: ١٠] أَيْ مَا يُعْلِمُكَ حَقِيقَتَهَا وَقَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: ٣] أَيْ أَيُّ شَيْءٍ أَعْلَمَكَ جَوَابَ: مَا الْحَاقَّةُ وَفِعْلُ: يُدْرِيكَ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولَيْهِ لِوُرُودِ حَرْفِ (لَعَلَّ) بَعْدَهُ فَإِنَّ (لَعَلَّ) مِنْ مُوجِبَاتِ تَعْلِيقِ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ عَلَى مَا أَثْبَتَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فِي «التَّذْكِرَةِ» إِلْحَاقًا لِلتَّرَجِّي بِالِاسْتِفْهَامِ فِي أَنَّهُ طَلَبٌ. فَلَمَّا عُلِّقَ فِعْلُ يُدْرِيكَ عَنِ الْعَمَلِ صَارَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ إِلَى ثَلَاثَةِ مَفَاعِيلَ وَبَقِيَ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَة الَّتِي فِيهِ فَصَارَ مَا بَعْدَهُ جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً.
وَالتَّذَكُّرُ: حُصُولُ أَثَرِ التَّذْكِيرِ، فَهُوَ خُطُورُ أَمْرٍ مَعْلُومٍ فِي الذِّهْنِ بَعْدَ نِسْيَانِهِ إِذْ هُوَ
مُشْتَقٌّ مِنَ الذُّكْرِ بِضَمِّ الذَّالِ.
وَالْمَعْنَى: انْظُرْ فَقَدْ يَكُونُ تَزَكِّيهِ مَرْجُوًّا، أَيْ إِذَا أَقْبَلْتَ عَلَيْهِ بِالْإِرْشَادِ زَادَ الْإِيمَانُ رُسُوخًا فِي نَفْسِهِ وَفَعَلَ خَيْرَاتٍ كَثِيرَةً مِمَّا تُرْشِدُهُ إِلَيْهِ فَزَادَ تَزَكِّيهِ، فَالْمُرَادُ بِ «يَتَزَكَّى» تَزْكِيَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى تَزْكِيَة الْإِيمَان بالتملّي بِفَضَائِلِ شَرَائِعِهِ وَمَكَارِمِ أَخْلَاقِهِ مِمَّا يُفِيضُهُ هَدْيُكَ عَلَيْهِ، كَمَا
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّكُمْ تَكُونُونَ إِذَا خَرَجْتُمْ مِنْ عِنْدِي كَمَا تَكُونُونَ عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ»
إِذِ الْهُدَى الَّذِي يزْدَاد بِهِ الْمُؤمن رِفْعَةً وَكَمَالًا فِي دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ هُوَ كَاهْتِدَاءِ الْكَافِرِ إِلَى الْإِيمَانِ لَا سِيَّمَا إِذِ الْغَايَةُ مِنَ الِاهْتِدَاءَيْنِ وَاحِدَةٌ.
ويَزَّكَّى أَصْلُهُ: يَتَزَكَّى، قُلِبَتِ التَّاءُ زَايًا لِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا قَصْدًا لِيَتَأَتَّى الْإِدْغَامُ وَكَذَلِكَ فُعِلَ فِي يَذَّكَّرُ مِنَ الْإِدْغَامِ.
وَالتَّزَكِّي: مُطَاوِعُ زَكَّاهُ، أَيْ يَحْصُلُ أَثَرُ التَّزْكِيَةِ فِي نَفْسِهِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ.


الصفحة التالية
Icon