إِنَّ الْعِلْمَ نَوْعَانِ عِلْمٌ اصْطِلَاحِيٌّ وَعِلْمٌ حَقِيقِيٌّ، فَأَمَّا الِاصْطِلَاحِيُّ فَهُوَ مَا تَوَاضَعَ النَّاسُ فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ يُعَدُّ فِي صَفِّ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا قَدْ يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْعُصُورِ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ وَالْأَقْطَارِ، وَهَذَا النَّوْعُ لَا تَخْلُو عَنْهُ أُمَّةٌ.
وَأَمَّا الْعِلْمُ الْحَقِيقِيُّ فَهُوَ مَعْرِفَةُ مَا بِمَعْرِفَتِهِ كَمَالُ الْإِنْسَانِ، وَمَا بِهِ يَبْلُغُ إِلَى ذُرْوَةِ الْمَعَارِفِ وَإِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ النَّافِعَةِ عَاجِلًا وَآجِلًا، وَكِلَا الْعِلْمَيْنِ كَمَالٌ إِنْسَانِيٌّ وَوَسِيلَةٌ لِسِيَادَةِ أَصْحَابِهِ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِمْ، وَبَيْنَ الْعِلْمَيْنِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ. وَهَذِهِ الْجِهَةُ خَلَا عَنْهَا كَلَامُ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ أَغْرَاضَ شِعْرِهِمْ كَانَتْ لَا تَعْدُو وَصْفَ الْمُشَاهَدَاتِ وَالْمُتَخَيَّلَاتِ وَالِافْتِرَاضَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ وَلَا تَحُومُ حَوْلَ تَقْرِيرِ الْحَقَائِقِ وَفَضَائِلِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي هِيَ أَغْرَاضُ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَقُلْ إِلَّا صِدْقًا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ.
وَقَدِ اشْتَمَلَ الْقُرْآنُ عَلَى النَّوْعَيْنِ، فَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَتَنَاوُلُهُ قَرِيبٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى كَدِّ فِكْرٍ وَلَا يَقْتَضِي نَظَرًا فَإِنَّ مَبْلَغَ الْعلم عِنْدهم يؤمئذ عُلُومُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَعْرِفَةُ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ وَقَصَصُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ وَأَخْبَارِ الْعَالَمِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ [الْأَنْعَام: ١٥٥- ١٥٧] وَقَالَ: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا
[هود: ٤٩] وَنَحْوَ
هَذَا مِنْ مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الَّذِي عَنَاهُ عِيَاضٌ بِقَوْلِهِ فِي «الشِّفَاءِ» :«مَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ وَالْأُمَمِ الْبَائِدَةِ وَالشَّرَائِعِ الدَّاثِرَةِ مِمَّا كَانَ لَا يَعْلَمُ الْقِصَّةَ مِنْهُ إِلَّا الْفَذُّ مِنْ أَحْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي قَضَى عُمُرَهُ فِي تَعْلِيمِ ذَلِكَ فَيُورِدُهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِهِ فَيَعْتَرِفُ الْعَالِمُ بِذَلِكَ بِصِحَّتِهِ وَصِدْقِهِ كَخَبَرِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ، وَيُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ، وَأَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَذِي الْقَرْنَيْنِ، وَلُقْمَانَ» إِلَخْ كَلَامِهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ قَدْ سَاقَهُ فِي غَيْرِ مَسَاقِنَا بَلْ جَاءَ بِهِ دَلِيلًا عَلَى الْإِعْجَازِ مِنْ حَيْثُ عِلْمُهُ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ ثُبُوتِ الْأُمِّيَّةِ، وَمِنْ حَيْثُ مُحَاجَّتِهِ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ. فَأَمَّا إِذَا أَرَدْنَا عَدَّ هَذَا الْوَجْهِ فِي نَسَقِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ فَذَلِكَ فِيمَا نَرَى مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَكُنْ أَدَبُهُمْ مُشْتَمِلًا عَلَى التَّارِيخِ إِلَّا بِإِشَارَاتٍ نَادِرَةٍ، كَقَوْلِهِمْ دِرْعٌ عَادِيَّةٌ، وَرُمْحٌ يَزَنِيَّةٌ،

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٧٦]

ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)
جِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِرَبْطِ الْكَلَامِ اللَّاحِقِ بِالسَّابِقِ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي أَمْثَالِهِ إِذَا طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْءِ وَمَا ارْتَبَطَ بِهِ مِنْ حُكْمٍ أَوْ عِلَّةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ مِثْلِكَ رَائِعُ
بَعْدَ قَوْلِهِ:
أَتَانِي أَبَيْتَ اللَّعْنَ أَنَّكَ لُمْتَنِي
وَالْكَلَامُ السَّابِقُ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ قَوْلُهُ: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [الْبَقَرَة: ١٧٥] وَالْمَعْنَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ عَلَى كِتْمَانِهِمْ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَكِتْمَانُهُمْ شَيْئًا مِنَ الْكِتَابِ كِتْمَانٌ لِلْحَقِّ وَذَلِكَ فَسَادٌ وَتَغْيِيرٌ لِمُرَادِ اللَّهِ لِأَنَّ مَا يُكْتَمُ مِنَ الْحَقِّ يَخْلُفُهُ الْبَاطِلُ كَمَا بَيَّنَاهُ آنِفًا فَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ لِكِتْمَانِهِ، لِأَنَّهُ مُخَالِفُ مُرَادِ اللَّهِ مِنْ تَنْزِيلِهِ، وَعَلَيْهِ فَالْكِتَابُ فِي قَوْلِهِ: بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ هُوَ عَيْنُ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ [الْبَقَرَة: ١٧٤] وَهُوَ كِتَابُهُمُ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ لِيَكُونَ الْمَوْضُوعُ فِي الْعِلَّةِ وَالْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ وَاحِدًا، وَعَلَيْهِ فَالْجُمْلَةُ فُصِّلَتْ مِنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا لِجَرَيَانِهَا مِنْهَا مَجْرَى الْعِلَّةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ السَّابِقُ هُوَ الْكِتْمَانَ الْمَأْخُوذَ من يَكْتُمُونَ [الْبَقَرَة:
١٧٤]، أَيْ إِنَّمَا كَتَمُوا مَا كَتَمُوا بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَعَلِمُوا أَنَّهُ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي بِشَّرَ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ التَّوْرَاةِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَتَمُوا دَلَائِل صدق النَّبِي حَسَدًا وَعِنَادًا لِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَى مُحَمَّدٍ، فَالْكِتَابُ هُنَا غَيْرُ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ [الْبَقَرَة: ١٧٤].
وَالْجُمْلَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِاسْتِغْرَابِ تَعَمُّدِهِمْ كِتْمَانَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَإِنَّ هَذَا الصُّنْعَ الشَّنِيعَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ سَبَبٍ عَظِيمٍ، فَبُيِّنَ بُقُولِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ تَذْيِيلٌ وَلَكِنَّهُ عَطَفَ بِالْوَاوِ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَكْمِلَةَ وَصْفِ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَوَعِيدَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ اخْتَلَفُوا
عَيْنُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَكْتُمُونَ [الْبَقَرَة: ١٧٤]، والَّذِينَ اشْتَرَوُا [الْبَقَرَة: ١٧٥]، فَالْمَوْصُولَاتُ كُلُّهَا عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ نَهْيٌ، وَأَنَّ مُقْتَضَى النَّهْيِ إِفَادَةُ التَّكْرَارِ
عِنْدَ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ: أَيْ تَكْرَارِ الِانْكِفَافِ عَنْ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ فِي أَوْقَاتِ عُرُوضِ فِعْلِهِ، وَلَوْلَا إِفَادَتُهُ التَّكْرَارَ لَمَا تَحَقَّقَتْ مَعْصِيَةٌ، وَأَنَّ التَّكْرَارَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّهْيُ تَكْرَارٌ يَسْتَغْرِقُ الْأَزْمِنَةَ الَّتِي يَعْرِضُ فِيهَا دَاعٍ لِفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَلِذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى مَنْ تَحَمَّلَ شَهَادَةً بِحَقٍّ أَلَّا يَكْتُمَهُ عِنْدَ عُرُوضِ إِعْلَانِهِ: بِأَنْ يُبَلِّغَهُ إِلَى مَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ، أَوْ يَقْضِيَ بِهِ، كُلَّمَا ظَهَرَ الدَّاعِي إِلَى الِاسْتِظْهَارِ بِهِ، أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ إِذَا خَشِيَ الشَّاهِدُ تَلَاشِيَ مَا فِي عِلْمِهِ: بِغَيْبَةٍ أَوْ طُرُوِّ نِسْيَانٍ، أَوْ عُرُوضِ مَوْتٍ، بِحَسَبِ مَا يَتَوَقَّعُ الشَّاهِدُ أَنَّهُ حَافِظٌ لِلْحَقِّ الَّذِي فِي عِلْمِهِ، عَلَى مِقْدَارِ طَاقَتِهِ وَاجْتِهَادِهِ.
وَإِذْ قَدْ عَلِمْتَ- آنِفًا- أَنَّ اللَّهَ أَنْبَأَنَا بِأَنَّ مُرَادَهُ إِقَامَةُ الشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا بِقَوْلِهِ:
وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ [الْبَقَرَة: ٢٨٢]، وَأَنَّهُ حَرَّضَ الشَّاهِدَ عَلَى الْحُضُورِ لِلْإِشْهَادِ إِذَا طُلِبَ بِقَوْلِهِ:
وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا [الْبَقَرَة: ٢٨٢] فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ الِاهْتِمَامُ بِإِظْهَارِ الشَّهَادَةِ إِظْهَارًا لِلْحَقِّ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى وَيَزِيدُهُ بَيَانًا:
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا» رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ»، وَرَوَاهُ عَنْهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ.
فَهَذَا وَجْهُ تَفْسِيرِ الْآيَةِ تَظَاهَرَ فِيهِ الْأَثَرُ وَالنَّظَرُ. وَلَكِنْ
رُوِيَ فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَيْرُ أُمَّتِي الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْتُ فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ- قَالَهَا ثَانِيَةً وَشَكَّ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي الثَّالِثَةِ- ثُمَّ يَخْلُفُ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا»
الْحَدِيثَ.
وَهُوَ مَسُوقٌ مَسَاقَ ذَمِّ مَنْ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا، وَأَنَّ ذَمَّهُمْ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الصِّفَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَحْمَلِهِ قَالَ عِيَاضٌ: حَمَلَهُ قَوْمٌ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ ذَمِّ مَنْ يَشْهَدُ قَبْلَ أَنْ تُطْلَبَ مِنْهُ الشَّهَادَةُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ قَادِحٍ، وَحَمَلُوا مَا فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا إِذَا شَهِدَ كَاذِبًا، وَإِلَّا فَقَدْ
جَاءَ فِي «الصَّحِيحِ» :«خَيْرُ الشُّهُودِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا»
. وَأَقُولُ:
رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ خَيْرَكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ- قَالَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا- ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ»
الْحَدِيثَ.
وَقَوْلُهُ: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أَيْ مَا لَا سُلْطَانَ لَهُ. وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ وَالْبُرْهَانُ لِأَنَّهُ يَتَسَلَّطُ عَلَى النَّفْسِ، وَنُفِيَ تَنْزِيلُهُ وَأُرِيدَ نَفْيُ وَجُودِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِنَزَلَ أَيْ لَأَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَى النَّاسِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُمِ النَّاسَ الْإِرْشَادَ إِلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنِ اعْتِقَادٍ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، فَالتَّنْزِيلُ إِمَّا بِمَعْنَى الْوَحْيِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى نصب الأدلّة عَلَيْهِم كَقَوْلِهِمْ: «نَزَلَتِ الْحِكْمَةُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ وَعُقُولِ الْفُرْسِ وَأَيْدِي الصِّينِ» وَلَمَّا كَانَ الْحَقُّ لَا يَعْدُو هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ: لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُعْلَمَ بِالْوَحْيِ، أَوْ بِالْأَمَارَاتِ، كَانَ نَفْيُ تَنْزِيلِ السُّلْطَانِ عَلَى الْإِشْرَاكِ كِنَايَةً عَنْ نَفْيِ السُّلْطَانِ نَفْسِهِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ:
لَا تُفْزِعُ الْأَرْنَبَ أَهْوَالُهَا وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ
وَقَوْلُهُ: وَمَأْواهُمُ النَّارُ ذَكَرَ عِقَابَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَالْمَأْوَى مَفْعَلٌ مِنْ أَوَى إِلَى كَذَا إِذَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَالْمَثْوَى مَفْعَلٌ مِنْ ثَوَى إِذَا أَقَامَ فَالنَّارُ مَصِيرُهُمْ وَمَقَرُّهُمْ وَالْمرَاد الْمُشْركُونَ.
[١٥٢]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٥٢]
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [آل عمرَان: ١٥١] وَهَذَا عَوْدٌ إِلَى التَّسْلِيَةِ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ، وَإِظْهَارٌ لِاسْتِمْرَارِ عِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُؤْمِنِينَ، وَرَمَزَ إِلَى الثِّقَةِ بِوَعْدِهِمْ بِإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَبْيِينٍ لِسَبَبِ هَزِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ: تَطْمِينًا لَهُمْ بِذِكْرِ نَظِيرِهِ وَمُمَاثِلِهِ السَّابِقِ، فَإِنَّ لِذَلِكَ مَوْقِعًا عَظِيمًا فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ (التَّارِيخُ يُعِيدُ نَفْسَهُ) وَلِيَتَوَسَّلَ
وَهَذَا هُوَ الْمُلَائِمُ لِلْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ. وَتَأْوِيلُ وَصْفِهِمْ بِقَوْلِهِ مِنْهُمْ: أَيْ مِنَ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، وَهَذَا عَلَى غُمُوضِهِ هُوَ الَّذِي يَنْسَجِمُ مَعَ أُسْلُوبِ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا بَعْدَهُ، كَمَا سَيَأْتِي، أَمَّا عَلَى قَوْلِ السُّدِّيِّ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَأْوِيلِ الْآيَةِ.
فَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ لِلتَّعْجِيبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ نَظَائِرُهُ. وَالْمُتَعَجَّبُ مِنْهُمْ لَيْسُوا هُمْ جَمِيعُ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ فِي مَكَّةَ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، بَلْ فَرِيقٌ آخَرُ مِنْ صِفَتِهِمْ أَنَّهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ. وَإِنَّمَا عُلِّقَ التَّعْجِيبُ بِجَمِيعِ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ حَالُهُمْ كَمَا وُصِفَ، فَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى فَرِيقٍ مِنَ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ.
وَالْقَوْلُ فِي تَرْكِيبِ قَوْلِهِ: كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠٠].
وَقَوْلُهُمْ: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ إِنَّمَا هُوَ قَوْلُهُمْ فِي نُفُوسِهِمْ عَلَى مَعْنَى عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ لِحِكْمَةِ تَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ وَظَنِّهِمْ أَنَّ ذَلِكَ بَلْوَى. (وَالْأَجَلُ الْقَرِيبُ) مُدَّةٌ مُتَأَخِّرَةٌ رَيْثَمَا يَتِمُّ اسْتِعْدَادُهُمْ، مِثْلَ قَوْلِهِ: فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ [المُنَافِقُونَ: ١٠].
وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ (الْأَجَلِ) الْعُمْرُ،. بِمَعْنَى لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ آجَالَنَا دُونَ قِتَالٍ، فَيَصِيرُ تَمَنِّيًا لِانْتِفَاءِ فَرْضِ الْقِتَالِ، وَهَذَا بعيد لعدم ملائمته لِسِيَاقِ الْكَلَامِ، إِذْ لَيْسَ الْمَوْتُ فِي الْقِتَالِ غَيْرَ الْمَوْتِ بِالْأَجَلِ، وَلِعَدَمِ مُلَاءَمَتِهِ لِوَصْفِهِ بِقَرِيبٍ، لِأَنَّ أَجَلَ الْمَرْءِ لَا يُعْرَفُ أَقَرِيبٌ هُوَ أَمْ بَعِيدٌ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ تَقْلِيلُ الْحَيَاةِ كُلِّهَا. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَالْقِتَالُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُنَا هُوَ أَوَّلُ قِتَالٍ أُمِرُوا بِهِ، وَالْآيَةُ ذَكَّرَتْهُمْ بِذَلِكَ فِي وَقْتِ نُزُولِهَا حِينَ التَّهَيُّؤِ لِلْأَمْرِ بِفَتْحِ مَكَّةَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أُرِيدَ بِالْفَرِيقِ بَعْضٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ حَدِيثًا قَبْلَ أَنْ يَكُونَ الْقِتَالُ مِنْ فَرَائِضِهِ وَكَانُوا يَتَمَنَّوْنَ أَنْ يُقَاتِلُوا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ جَبُنُوا لِضَعْفِ إِيمَانِهِمْ، وَيكون الْقِتَال الَّذين خَافُوهُ هُوَ غَزْوُ مَكَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ خَشُوا بَأْسَ الْمُشْرِكِينَ.
وَقَوْلُهُمْ: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا فِي نُفُوسِهِمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ قَوْلٌ بِأَفْوَاهِهِمْ، وَيَبْدُو هُوَ الْمُتَعَيِّنُ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْفَرِيقِ فَرِيقَ الْمُنَافِقِينَ فَهُمْ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ بِأَلْسِنَتِهِمْ عَلَنًا لِيُوقِعُوا الْوَهْنَ فِي قُلُوبِ الْمُسْتَعِدِّينَ لَهُ
(٦)
إِذَا جَرَيْنَا عَلَى مَا تَحَصْحَصَ لَدَيْنَا وَتَمَحَّصَ: مِنْ أَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ هِيَ مِنْ آخِرِ السُّوَرِ نُزُولًا، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَامِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، جَزَمْنَا بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ هُنَا تَذْكِيرًا بِنِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ نِعَمِ التَّشْرِيعِ: وَهِيَ مِنَّةُ شَرْعِ التَّيَمُّمِ عِنْدَ مَشَقَّةِ التَّطَهُّرِ بِالْمَاءِ، فَجَزَمْنَا بِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ كُلَّهُ مَشْرُوعٌ مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ هُنَا فِي عِدَادِ النِّعَمِ الَّتِي امْتَنَّ اللَّهُ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْآثَارَ صَحَّتْ بِأَنَّ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ شُرِعَا مَعَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ، وَبِأَنَّ التَّيَمُّمَ شُرِعَ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ سَنَةَ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى - فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٤٣]- الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَ فِيهَا شَرْعُ التَّيَمُّمِ أَهِيَ آيَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ، أَمْ آيَةُ سُورَةِ الْمَائِدَةِ. وَذَكَرْنَا هُنَالِكَ أَنَّ حَدِيثَ «الْمُوَطَّأِ» مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ عَن عبد الرحمان بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ لَيْسَ فِيهِ تَعْيِينُ الْآيَةِ وَلَكِنْ سَمَّاهَا آيَةَ التَّيَمُّمِ، وَأَنَّ الْقُرْطُبِيَّ اخْتَارَ أَنَّهَا آيَةُ النِّسَاءِ لِأَنَّهَا الْمَعْرُوفَةُ بِآيَةِ التَّيَمُّمِ، وَكَذَلِكَ اخْتَارَ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ»، وَذَكَرْنَا أَنَّ صَرِيحَ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الْآيَةَ، كَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ يَحْيَى عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَن عبد الرحمان بْنِ الْقَاسِمِ، وَلَا يُسَاعِدُ مُخْتَارُنَا فِي تَارِيخِ نُزُولِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ سَهْوًا مِنْ أَحَدِ رُوَاتِهِ غير عبد الرحمان بْنِ الْقَاسِمِ وَأَبِيهِ، أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ آيَةَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى
تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا، وَهِيَ آيَةُ النِّسَاءِ [٤٣]، فَذَكَرَ آيَةَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ الْآيَةَ. فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُهُ حِينَئِذٍ بِأَنْ تَكُونَ آيَةُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ نُزُولِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، ثُمَّ أُعِيدَ نُزُولُهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، أَوْ أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُوضَعَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَالْأَرْجَحُ عِنْدِي: أَنْ يَكُونَ مَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَهْمًا مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ لِأَنَّ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ مُشَابَهَةً.
فَالْمَعْنَى هُنَا أَنَّ الْحَمْدَ كُلَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا اللَّهُ، وَهَذَا قَصْرٌ إِضَافِيٌّ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَمِدُوا الْأَصْنَامَ عَلَى مَا تَخَيَّلُوهُ مِنْ إِسْدَائِهَا إِلَيْهِمْ نِعَمًا وَنَصْرًا وَتَفْرِيجَ كُرُبَاتٍ، فَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ انْتَصَرَ هُوَ وَفَرِيقُهُ يَوْمَ أُحُدٍ: اعْلُ هُبَلُ لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَصْرًا حَقِيقِيًّا عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ وَأَنَّ حَمْدَ غَيْرِهِ تَعَالَى مِنَ الْمُنْعِمِينَ تَسَامُحٌ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَاسِطَةٌ صُورِيَّةٌ لِجَرَيَانِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى يَدَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ هُوَ، وَهُوَ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ الصُّورِيَّ بَلْهَ الْحَقِيقِيَّ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَام- «لم نعْبد مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا». وَلِذَلِكَ عُقِّبَتْ جُمْلَةُ الْحَمْدِ عَلَى عَظِيمِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى بِجُمْلَةِ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ.
وَالْمَوْصُولُ، فِي مَحَلِّ الصِّفَةِ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ، أَفَادَ مَعَ صِلَتِهِ التَّذْكِيرَ بِعَظِيمِ صِفَةِ الْخَلْقِ الَّذِي عَمَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا فِيهِنَّ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ. وَذَلِكَ أَوْجَزُ لَفْظٍ فِي اسْتِحْضَارِ عَظَمَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَيْسَ فِي التَّعْرِيفِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ هُنَا إِيذَانٌ بِتَعْلِيلِ الْجُمْلَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ قَبْلَهُ، إِذْ لَيْسَتِ الْجُمْلَةُ إِنْشَائِيَّةً كَمَا عَلِمْتَ. وَالْجُمْلَةُ الْخَبَرِيَّةُ لَا تُعَلَّلُ، لِأَنَّ الْخَبَرَ حِكَايَةُ مَا فِي الْوَاقِعِ فَلَا حَاجَةَ لِتَعْلِيلِهِ. فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَوْصَافِ التَّمْهِيدُ لِقَوْلِهِ بَعْدُ
ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ.
وَجَمَعَ: السَّماواتِ لِأَنَّهَا عَوَالِمُ كَثِيرَةٌ، إِذْ كُلُّ كَوْكَبٍ مِنْهَا عَالَمٌ مُسْتَقِلٌّ عَنْ غَيْرِهِ، وَمِنْهَا الْكَوَاكِبُ السَّبْعَةُ الْمَشْهُورَةُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا فِي الْقُرْآنِ بِالسَّمَاوَاتِ السَّبْعِ فِيمَا نَرَى. وَأَفْرَدَ الْأَرْضَ لِأَنَّهَا عَالَمٌ وَاحِدٌ، وَلذَلِك لم يَجِيء لَفْظُ الْأَرْضِ فِي الْقُرْآنِ جَمْعًا.
وَقَوْلُهُ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ أَشَارَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ (جَعَلَ) إِذَا تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ فَهُوَ بِمَعْنَى أَحْدَثَ وَأَنْشَأَ فَيُقَارِبُ مُرَادِفَةَ مَعْنَى (خَلَقَ). وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ (خَلَقَ) فَإِنَّ فِي الْخَلْقِ مُلَاحَظَةَ مَعْنَى التَّقْدِيرِ، وَفِي الْجَعْلِ مُلَاحَظَةَ مَعْنَى الِانْتِسَابِ، يَعْنِي كَوْنَ الْمَجْعُولِ مَخْلُوقًا لِأَجْلِ غَيْرِهِ أَوْ مُنْتَسِبًا إِلَى غَيْرِهِ، فَيُعْرَفُ الْمُنْتَسِبُ إِلَيْهِ بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ.
فَالظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ لَمَّا كَانَا عَرَضَيْنِ كَانَ خَلْقُهُمَا تَكْوِينًا لِتَكَيُّفِ مَوْجُودَاتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِهِمَا. وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِذِكْرِ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ عَقِبَ ذِكْرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَبِاخْتِيَارِ لَفْظِ الْخَلْقِ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَفْظِ الْجَعْلِ لِلظُّلُمَاتِ
وَقَالَ: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ [النَّحْل: ٥- ٧] الْآيَةَ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْتَرِشُونَ جُلُودَ الْغَنَمِ وَالْمَعْزِ لِلْجُلُوسِ عَلَيْهَا.
وَلَفْظُ فَرْشاً صَالِحٌ لِهَذِهِ الْمَعَانِي كُلِّهَا، وَمَحَامِلُهُ كُلُّهَا مُنَاسِبَةٌ لِلْمَقَامِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَقْصُودَةً مِنَ الْآيَةِ، وَكَأَنَّ لَفْظَ الْفَرْشِ لَا يُوَازِنُهُ غَيْرُهُ فِي جَمْعِ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَهَذَا مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ مِنْ جَانِبِ فَصَاحَتِهِ، فَالْحَمُولَةُ الْإِبِلُ خَاصَّةً، وَالْفَرْشُ يَكُونُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ عَلَى اخْتِلَافِ مَعَانِي اسْمِ الْفَرْشِ الصَّالِحَةِ لِكُلِّ نَوْعٍ مَعَ ضَمِيمَتِهِ إِلَى كَلِمَةِ (مِنَ) الصَّالِحَةِ لِلِابْتِدَاءِ.
فَالْمَعْنَى: وَأَنْشَأَ مِنَ الْأَنْعَامِ مَا تَحْمِلُونَ عَلَيْهِ وَتَرْكَبُونَهُ، وَهُوَ الْإِبِلُ الْكَبِيرَةُ وَالْإِبِلُ الصَّغِيرَةُ، وَمَا تَأْكُلُونَهُ وَهُوَ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، وَمَا هُوَ فَرْشٌ لَكُمْ وَهُوَ مَا يُجَزُّ مِنْهَا، وَجُلُودُهَا.
وَقَدْ عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَنْشَأَ حَمُولَةً وَفَرْشًا مِنَ الْأَنْعَامِ فقد أنشأ الْأَنْعَام أَيْضا، وَأول مَا يتَبَادَر للنّاس حِين ذكر الْأَنْعَام أَنْ يَتَذَكَّرُوا أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ مِنْهَا، فَحَصَلَ إِيجَازٌ فِي الْكَلَامِ وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ.
وَجُمْلَةُ: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مُعْتَرِضَةٌ مِثْلُ آيَةِ: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ [الْأَنْعَام:
١٤١]. وَمُنَاسَبَةُ الْأَمْرِ بِالْأَكْلِ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَنْعَامِ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَفَرْشاً شَيْئًا مُلَائِمًا لِلذَّبْحِ، كَمَا تَقَدَّمَ، عَقَّبَ بِالْإِذْنِ بِأَكْلِ مَا يَصْلُحُ لِلْأَكْلِ مِنْهَا. وَاقْتَصَرَ عَلَى الْأَمْرِ بِالْأَكْلِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنَ السِّيَاقِ إِبْطَالًا لِتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَتَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَالْأَمْرُ بِالْأَكْلِ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ وَهُوَ عَدَمُ الْأَكْلِ مِنْ بَعْضِهَا، أَيْ لَا تُحَرِّمُوا مَا أُحِلَّ لَكُمْ مِنْهَا اتِّبَاعًا لِتَغْرِيرِ الشَّيْطَانِ بِالْوَسْوَسَةِ لِزُعَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ سَنُّوا لَهُمْ تِلْكَ السُّنَنِ الْبَاطِلَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الْإِبَاحَةَ فَقَطْ.
وَعَدَلَ عَنِ الضّمير بِأَن يَقُول: كُلُوا مِنْهَا: إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْمَوْصُولِ،
وَوَقَعَ الْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِدَفْعِ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ الْمُتَحَاوِرَتَيْنِ فِي النَّارِ، وَاخْتِيرَ مِنْ طُرُقِ الْإِظْهَارِ طَرِيقُ التَّعْرِيفِ بِالْمَوْصُولِ إِيذَانًا بِمَا تومىء إِلَيْهِ الصِّلَةُ مِنْ وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ، أَيْ: إِنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ تَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاسْتِكْبَارِهِمْ عَنْهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهَا السَّابِقِ آنِفًا.
وَالسَّمَاءُ أُطْلِقَتْ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَعَانٍ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْعَوَالِمُ الْعُلْيَا غَيْرُ
الْأَرْضِيَّةِ، فَالسَّمَاءُ مَجْمُوعُ الْعَوَالِمِ الْعُلْيَا وَهِيَ مَرَاتِبُ وَفِيهَا عَوَالِمُ الْقُدْسِ الْإِلَهِيَّةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحَانِيَّاتِ الصَّالِحَةِ النَّافِعَةِ، وَمَصْدَرُ إِفَاضَةِ الْخَيْرَاتِ الرُّوحِيَّةِ وَالْجُثْمَانِيَّةِ عَلَى الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ، وَمَصْدَرُ الْمَقَادِيرِ الْمُقَدَّرَةِ قَالَ تَعَالَى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ [الذاريات: ٢٢]، فَالسَّمَاءُ هَنَا مُرَادٌ بِهَا عَالَمُ الْقُدْسِ.
وَأَبْوَابُ السَّمَاءِ أَسْبَابُ أُمُورٍ عَظِيمَةٍ أُطْلِقَ عَلَيْهَا اسْمُ الْأَبْوَابِ لِتَقْرِيبِ حَقَائِقِهَا إِلَى الْأَذْهَانِ فَمِنْهَا قَبُولُ الْأَعْمَالِ، وَمَسَالِكُ وُصُولِ الْأُمُورِ الْخَيْرِيَّةِ الصَّادِرَةِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَطُرُقِ قَبُولِهَا، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِأَسْبَابِ التَّزْكِيَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:
١٠]، وَمَا يَعْلَمُ حَقَائِقَهَا بِالتَّفْصِيلِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّهَا مَحْجُوبَةٌ عَنَّا، فَكَمَا أَنَّ الْعُفَاةَ وَالشُّفَعَاءَ إِذَا وَرَدُوا الْمَكَانَ قَدْ يُقْبَلُونَ وَيُرْضَى عَنْهُمْ فَتُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ الْقُصُورِ وَالْقِبَابِ وَيَدْخُلُونَ مُكَرَّمِينَ، وَقَدْ يُرَدُّونَ وَيُسْخَطُونَ فَتُوصَدُ فِي وُجُوهِهِمُ الْأَبْوَابُ، مَثَّلَ إِقْصَاءَ الْمُكَذِّبِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَعَدَمَ الرِّضَا عَنْهُمْ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ، بِحَالِ مَنْ لَا تُفَتَّحُ لَهُ أَبْوَابُ الْمَنَازِلِ، وَأُضِيفَتِ الْأَبْوَابُ إِلَى السَّمَاءِ لِيَظْهَرَ أَنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ لِحِرْمَانِهِمْ مِنْ وَسَائِلِ الْخَيْرَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الرُّوحِيَّةِ، فَيَشْمَلُ ذَلِكَ عَدَمَ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ، وَعَدَمَ قَبُولِ الْأَعْمَالِ وَالْعِبَادَاتِ، وَحِرْمَانَ أَرْوَاحِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ مُشَاهَدَةَ مَنَاظِرِ الْجَنَّةِ وَمَقَاعِدِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهَا، فَقَوله: لَا نفتح لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِمَعْنَى الْحِرْمَانِ مِنَ الْخَيْرَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الْمَحْضَةِ، وَإِنْ كَانُوا يَنَالُونَ مِنْ نِعَمِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَرْفُ (لَوْ) مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ: مِنَ امْتِنَاعِ جَوَابِهِ لِامْتِنَاعِ شَرْطِهِ، فَيُتَّجَهُ أَنْ يُتَسَاءَلَ عَنْ مُوجِبِ حَذْفِ اللَّامِ مِنْ جَوَابِ (لَوْ) وَلَمْ يَقُلْ: لَأَهْلَكْتَهُمْ مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ فِي جَوَابِهَا الْمَاضِي الْمُثْبَتِ أَنْ يَقْتَرِنَ بِاللَّامِ فَحَذْفُ اللَّامِ هُنَا لِنُكْتَةِ أَنَّ التَّلَازُمَ بَيْنَ شَرْطِ لَوْ وَجَوَابِهَا هُنَا قَوِيٌ لِظُهُورِ أَنَّ الْإِهْلَاكَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ وَحْدَهُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً سُورَةُ الْوَاقِعَةِ [٧٠] وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَيَكُونُ الْمَعْنَى اعْتِرَافًا بِمِنَّةِ الْعَفْوِ عَنْهُمْ فِيمَا سَبَقَ، وَتَمْهِيدًا لِلتَّعْرِيضِ بِطَلَبِ الْعَفْوِ عَنْهُمُ الْآنَ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ أَيِ إِنَّكَ لَمْ تَشَأْ إِهْلَاكَهُمْ حِينَ تَلَبَّسُوا بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ فَلَا
تُهْلِكْهُمُ الْآنَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَتُهْلِكُنا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّفَجُّعِ أَيْ: أَخْشَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْقَوْمَ اسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ وَيَخْشَى أَنْ يَشْمَلَ عَذَابُ اللَّهِ مَنْ كَانَ مَعَ الْقَوْمِ الْمُسْتَحِقِّينَ وَإِنْ لَمْ يُشَارِكْهُمْ فِي سَبَبِ الْعَذَابِ، كَمَا قَالَ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الْأَنْفَال: ٢٥]
وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ- قَالَ- نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ»
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ، «ثُمَّ يُحْشَرُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ»
وَقَدْ خَشِيَ مُوسَى سُوءَ الظِّنَّةِ لِنَفْسِهِ وَلِأَخِيهِ وَلِلْبُرَاءِ مِنْ قَوْمِهِ أَنْ يَظُنَّهُمُ الْأُمَمُ الَّتِي يَبْلُغُهَا خَبَرُهُمْ أَنَّهُمْ مُجْرِمُونَ.
وَإِنَّمَا جُمِعُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: أَتُهْلِكُنا لِأَنَّ هَذَا الْإِهْلَاكَ هُوَ الْإِهْلَاكُ الْمُتَوَقَّعُ مِنَ اسْتِمْرَارِ الرَّجْفَةِ، وَتَوَقُّعِهِ وَاحِدٌ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، بِخِلَافِ الْإِهْلَاكِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ فَسَبَبُهُ مُخْتَلِفٌ فَنَاسَبَ تَوْزِيعَ مَفْعُولِهِ.
وَجُمْلَةُ: أَتُهْلِكُنا مُسْتَأْنَفَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ تَقْطِيعِ كَلَامِ الْحَزِينِ الْخَائِفِ السَّائِلِ. وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ وَجُمْلَةُ أَنْتَ وَلِيُّنا.
وَضَمِيرُ إِنْ هِيَ رَاجِعٌ إِلَى مَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ لِأَن مَا صدق مَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ هُوَ الْفِتْنَةُ، وَالْمَعْنَى: لَيْسَتِ الْفِتْنَةُ الْحَاصِلَةُ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ إِلَّا فِتْنَةً مِنْكَ، أَيْ مِنْ تَقْدِيرِكَ وَخَلْقِ أَسْبَابِ حُدُوثِهَا، مِثْلَ سَخَافَةِ عُقُولِ الْقَوْمِ، وَإِعْجَابِهِمْ بأصنام الكنعانيين، وعيبة مُوسَى، وَلنْ هَارُونَ، وَخَشْيَتِهِ مِنَ الْقَوْمِ، وَخَشْيَةِ شُيُوخِ إِسْرَائِيلَ مِنْ عَامَّتِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَأَيْقَنَ مُوسَى بِهِ إِيقَانًا إِجْمَالِيًّا.
وَالْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ الْآيَةَ: مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْشَاءِ التَّمْجِيدِ بِسِعَةِ
وَجُمْلَةُ: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ مُفَرَّعَةٌ عَلَى جُمْلَةِ اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ لِأَنَّ إِيثَارَهُمُ الْبَقَاءَ عَلَى كُفْرِهِمْ يَتَسَبَّبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصُدُّوا النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ، فَمُثِّلَ حَالُهُمْ بِحَالِ مَنْ يَصُدُّ النَّاسَ عَنِ السَّيْرِ فِي طَرِيقٍ تُبَلِّغُ إِلَى الْمَقْصُود.
ومفعول فَصَدُّوا مَحْذُوفٌ لِقَصْدِ الْعُمُومِ، أَيْ: صَدُّوا كُلَّ قَاصِدٍ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ ابْتِدَائِيَّةٌ أَيْضًا، فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِيَظْهَرَ اسْتِقْلَالُهَا بِالْأَخْبَارِ، وَأَنَّهَا لَا يَنْبَغِي أَنْ تُعْطَفَ فِي الْكَلَامِ، إِذِ الْعَطْفُ يَجْعَلُ الْجُمْلَةَ الْمَعْطُوفَةَ بِمَنْزِلَةِ التَّكْمِلَةِ لِلْمَعْطُوفَةِ عَلَيْهَا.
وَافْتُتِحَتْ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الذَّمِّ لَهُمْ.
وساءَ مِنْ أَفْعَالِ الذَّمِّ، مِنْ بَابِ بِئْسَ، وَمَا كانُوا يَعْمَلُونَ مَخْصُوصٌ بِالذَّمِّ.
وَعُبِّرَ عَنْ عَمَلِهِمْ بِ كانُوا يَعْمَلُونَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ دَأْبٌ لَهُمْ ومتكرّر مِنْهُم.
[١٠]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ١٠]
لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠)
لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً.
يَجُوزُ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ: إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [التَّوْبَة: ٩] لِأَنَّ انْتِفَاءَ مُرَاعَاةِ الْإِلِّ وَالذِّمَّةِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ سُوءُ عَمَلِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابتدئ بِهِ للاهتمام بِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ. وَقَدْ أَفَادَتْ مَعْنًى أَعَمَّ وَأَوْسَعَ مِمَّا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التَّوْبَة: ٨] لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْحُكْمِ عَنِ التَّقْيِيدِ بِشَرْطِ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ [التَّوْبَة: ٨] يُفِيدُ أَنَّ عَدَمَ مُرَاعَاتِهِمْ حَقَّ الْحِلْفِ وَالْعَهْدِ خلق متأصّل فيهم، سَوَاءً كَانُوا أَقْوِيَاءَ أَمْ مُسْتَضْعَفِينَ، وَإِنَّ ذَلِكَ لِسُوءِ طَوِيَّتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ. وَالْإِلُّ وَالذِّمَّةُ تَقَدَّمَا قَرِيبًا.
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِتَهَكُّمٍ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ قَدْ أَخْبَرُوا اللَّهَ بِأَنَّ لَهُمْ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَهُ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ هَذَا لَمَّا كَانَ شَيْئًا اخْتَرَعُوهُ وَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ جَعَلَ اخْتِرَاعَهَ بِمَنْزِلَةِ أَنَّهُمْ أَعْلَمُوا اللَّهَ بِهِ وَكَانَ لَا يَعْلَمُهُ فَصَارَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ بُطْلَانِهِ لِأَنَّ مَا لَمْ يَعْلَمِ اللَّهُ وُقُوعَهُ فَهُوَ مُنْتَفٍ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ مَنْ يُرِيدُ نَفْيَ شَيْءٍ عَنْ نَفْسِهِ: مَا عَلِمَ اللَّهُ هَذَا مِنِّي. وَفِي ضِدِّهِ قَوْلُهُمْ فِي تَأْكِيدِ وُقُوعِ الشَّيْءِ: يَعْلَمُ اللَّهُ كَذَا، حَتَّى صَارَ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ صِيَغِ الْيَمِينِ.
وفِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ بَعْدَ يَعْلَمُ الْعَائِدِ عَلَى (مَا)، إِذِ التَّقْدِيرُ: بِمَا لَا يَعْلَمُهُ، أَيْ كَائِنًا فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِمَا تَعْمِيمُ الْأَمْكِنَةِ، كَمَا هُوَ اسْتِعْمَالُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَقَابِلَاتِ مِثْلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وَأُعِيدَ حَرْفُ النَّفْيِ بَعْدَ الْعَاطِفِ لِزِيَادَةِ التَّنْصِيصِ عَلَى النَّفْيِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَتُنَبِّئُونَ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ. وَالْإِنْبَاءُ: الْإِعْلَامُ.
وَجُمْلَةُ: سُبْحانَهُ وَتَعالى إِنْشَاءُ تَنْزِيهٍ، فَهِيَ مُنْقَطِعَةٌ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠٠].
وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: عَمَّا يُشْرِكُونَ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ عَنْ إِشْرَاكِهِمْ، أَيْ تَعَالَى عَنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ثَابِتًا لَهُ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ تُشْرِكُونَ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ.
وقرأه الْبَاقُونَ بالتحية عَلَى أَنَّهَا تَعْقِيبٌ لِلْخِطَابِ بِجُمْلَةِ قُلْ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَهِيَ مُسْتَحِقَّةٌ لِلْفَصْلِ لكَمَال الِانْقِطَاع.
[١٩]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ١٩]
وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

[سُورَة هود (١١) : آيَة ٧٨]

وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يَا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨)
أَيْ جَاءَهُ بَعْضُ قَوْمِهِ. وَإِنَّمَا أُسْنِدَ الْمَجِيءُ إِلَى الْقَوْمِ لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْمَجِيءِ دأبهم وَقد تمالؤوا عَلَى مِثْلِهِ، فَإِذَا جَاءَ بَعْضُهُمْ فَسَيَعْقُبُهُ مَجِيءُ بَعْضٍ آخَرَ فِي وَقْتٍ آخَرَ. وَهَذَا مِنْ إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْقَبِيلَةِ إِذا فعله بَعْضهَا، كَقَوْلِ الْحَارِثِ بن وَعْلَةَ الْجَرْمِيِّ:
قَوْمِي هُمْ قَتَلُوا أُمَيْمَةَ أَخِي فَإِذَا رَمَيْتُ يُصِيبُنِي سَهْمِي
ويُهْرَعُونَ- بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى صِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ- فَسَّرُوهُ بِالْمَشْيِ الشَّبِيهِ بِمَشْيِ الْمَدْفُوعِ، وَهُوَ بَيْنَ الْخَبَبِ وَالْجَمْزِ، فَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَشْيُ الْأَسِيرِ الَّذِي يُسْرَعُ بِهِ. وَهَذَا الْبِنَاءُ يَقْتَضِي أَنَّ الْهَرْعَ هُوَ دَفْعُ الْمَاشِي حِينَ مَشْيِهِ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ تُنُوسِيَ، وَبَقِيَ أَهْرَعَ بِمَعْنَى سَارَ سَيْرًا كَسَيْرِ الْمَدْفُوعِ، وَلِذَلِكَ قَالَ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: إِنَّهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي الْتَزَمُوا فِيهَا صِيغَةَ الْمَفْعُولِ لِأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ مُسْنَدَةٌ إِلَى فَاعِلٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ. وَفَسَّرَهُ فِي «الصِّحَاح» و «الْقَامُوس» بِأَنَّهُ الِارْتِعَادُ مِنْ غَضَبٍ أَوْ خَوْفٍ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَجُمْلَةُ يُهْرَعُونَ حَالٌ.
وَقَدْ طَوَى الْقُرْآنُ ذِكْرَ الْغَرَض الَّذِي جاؤوا لِأَجْلِهِ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ فَقَدْ صَارَتْ لَهُمْ دَأْبًا لَا يَسْعَوْنَ إِلَّا لِأَجْلِهِ.
وَجُمْلَةُ قالَ يَا قَوْمِ إِلَخْ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ جُمْلَةِ وَجاءَهُ قَوْمُهُ، إِذْ قَدْ عَلِمَ السَّامِعُ غَرَضَهُمْ مِنْ مَجِيئِهِمْ، فَهُوَ بِحَيْثُ يَسْأَلُ عَمَّا تَلَقَّاهُمْ بِهِ.
وَبَادَرَهُمْ لُوطٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِقَوْلِهِ: يَا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ. وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِالنِّدَاءِ وَبِأَنَّهُمْ قَوْمُهُ تَرْقِيقٌ لِنُفُوسِهِمْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ تَصَلُّبَهُمْ فِي عَادَتِهِمُ الْفَظِيعَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ [هود: ٧٩]، كَمَا سَيَأْتِي.
ذَلِكَ الْعَهْدَ الْقَائِمَ فِي الْفِطْرَةِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ الْإِشْرَاكُ إِبْطَالًا لِلْعَهْدِ وَنَقْضًا لَهُ، وَلِذَلِكَ عُطِفَتْ جُمْلَةُ وَلا يَنْقُضُونَ
الْمِيثاقَ عَلَى جُمْلَةِ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمِيثاقَ يُحْمَلُ عَلَى تَعْرِيفِ الْجِنْسِ فَيَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الْمَوَاثِيقِ وَبِذَلِكَ يَكُونُ أَعَمَّ مِنْ عَهْدِ اللَّهِ فَيَشْمَلُ الْمَوَاثِيقَ الْحَاصِلَةَ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ عُهُودٍ وَأَيْمَانٍ.
وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْعُمُومِ حَصَلَتْ مُغَايَرَةٌ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَهْدِ اللَّهِ. وَتِلْكَ هِيَ مُسَوِّغَةُ عَطْفِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ عَلَى يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ مَعَ حُصُولِ التَّأْكِيدِ لِمَعْنَى الْأُولَى بِنَفْيِ ضِدِّهَا، وَتَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ لِاتِّصَافِهِمْ بِضِدِّ ذَلِكَ الْكَمَالِ، فَعُطِفَ التَّأْكِيدُ بِاعْتِبَارِ الْمُغَايَرَةِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ.
وَالْمِيثَاقُ وَالْعَهْدُ مُتَرَادِفَانِ. وَالْإِيفَاءُ وَنَفْيُ النَّقْضِ مُتَّحِدَا الْمَعْنَى. وَابْتُدِئَ مِنَ الصِّفَاتِ بِهَذِهِ الْخصْلَة لِأَنَّهَا تنبىء عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ أَصْلُ الْخَيْرَاتِ وَطَرِيقُهَا، وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَى يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ قَوْلُهُ: وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ تَحْذِيرًا مِنْ كُلِّ مَا فِيهِ نَقْضُهُ.
وَهَذِهِ الصِّلَاتُ صِفَاتٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ فَعَطْفُهَا مِنْ بَابِ عَطْفِ الصِّفَاتِ لِلْمَوْصُوفِ الْوَاحِدِ، وَلَيْسَ مِنْ عَطْفِ الْأَصْنَافِ. وَذَلِكَ مِثْلُ الْعَطْفِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ الَّذِي أَنْشَدَهُ الْفَرَّاءُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ:
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ
فَالْمَعْنَى: الَّذِينَ يَتَّصِفُونَ بِمَضْمُونِ كُلِّ صِلَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّلَاتِ كُلَّمَا عَرَضَ مُقْتَضٍ لِاتِّصَافِهِمْ بِهَا بِحَيْثُ إِذَا وُجِدَ الْمُقْتَضِي وَلَمْ يَتَّصِفُوا بِمُقْتَضَاهُ كَانُوا غَيْرَ مُتَّصِفِينَ بِتِلْكَ الْفَضَائِلِ، فَمِنْهَا مَا يَسْتَلْزِمُ الِاتِّصَافَ بِالضِّدِّ، وَمِنْهَا مَا لَا يَسْتَلْزِمُ إِلَّا التَّفْرِيطَ فِي الْفَضْلِ.
وَأُعِيدَ اسْمُ الْمَوْصُولِ هَذَا وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمَوْصُولَةِ، للدلالة على أَنَّهَا صِلَاتِهَا خِصَالٌ عَظِيمَةٌ تَقْتَضِي الِاهْتِمَامَ بِذِكْرِ مَنِ اتَّصَفَ بِهَا، وَلِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ عُقْبَى الدَّارِ لَا تَتَحَقَّقُ لَهُمْ إِلَّا إِذَا جَمَعُوا كُلَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ.
وَهِيَ طَرِيقَةُ الْكِنَايَةِ الَّتِي هِيَ كَذِكْرِ الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ. فَنَفْيُ الْحَيَاةِ عَنِ الْأَصْنَامِ فِي قَوْلِهِ: غَيْرُ أَحْياءٍ يَسْتَلْزِمُ نَفْيُ الْعِلْمِ عَنْهَا لِأَنَّ الْحَيَاةَ شَرْطٌ فِي قَبُولِ الْعِلْمِ، وَلِأَنَّ نَفْيَ أَنْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ مَا هُوَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ أَنْ يَعْلَمُوا أَحْوَالَ غَيْرِهِمْ بِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ غَيْرُ إِلَهٍ.
وَأُسْنِدَ يَخْلُقُونَ إِلَى النَّائِبِ لِظُهُورِ الْفَاعِلِ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ وَهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُمْ مِنَ الْحِجَارَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، وَلَا يُخْرِجُهَا نَحْتُ الْبَشَرِ إِيَّاهَا عَلَى صُوَرٍ وَأَشْكَالٍ عَنْ كَوْنِ الْأَصْلِ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى. كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَوْلَهُ: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [سُورَة الصافات: ٩٦].
وَجُمْلَةُ غَيْرُ أَحْياءٍ تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ أَمْواتٌ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى عَرَاقَةِ وَصْفِ الْمَوْتِ فِيهِمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَائِبَةُ حَيَاةٍ لِأَنَّهُمْ حِجَارَةٌ.
وَوُصِفَتِ الْحِجَارَةُ بِالْمَوْتِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْمَوْتِ عَدَمَ الْحَيَاةِ. وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَصْفِ بِأَسْمَاءِ الْإِعْدَامِ قَبُولُ الْمَوْصُوفَاتِ بِهَا لِمَلَكَاتِهَا، كَمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْحُكَمَاءُ، لِأَنَّ ذَلِكَ اصْطِلَاحٌ مَنْطِقِيٌّ دَعَا إِلَيْهِ تَنْظِيمُ أُصُولِ الْمُحَاجَّةِ.
وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ يَدْعُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ. وَفِيهَا زِيَادَةُ تَبْيِينٍ لِصَرْفِ الْخِطَابِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ.
وَجُمْلَةُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِدْمَاجٌ لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ عَقِبَ الْكَلَامِ عَلَى إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ هَذَيْنِ هُمَا أَصْلُ إِبْطَالِ عَقِيدَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَمْهِيدٌ لِوَجْهِ التَّلَازُمِ بَيْنَ إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَبَيْنَ إِنْكَارِ التَّوْحِيدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [سُورَة النَّحْل: ٢٢]. وَلِذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَيْ يَشْعُرُونَ
ويُبْعَثُونَ عَائِدَانِ إِلَى الْكُفَّارِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَعَلَى تَنَاسُقِ الضَّمَائِرِ فِي قِرَاءَةِ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ نَفْيِ شُعُورِهِمْ بِالْبَعْثِ تَهْدِيدُهُمْ بِأَنَّ الْبَعْثَ الَّذِي أَنْكَرُوهُ وَاقِعٌ وَأَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ مَتَّى يَبْغَتُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [سُورَة الْأَعْرَاف: ١٨٧].
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: قُلْ كُونُوا حِجارَةً كَلَامًا مُسْتَأْنِفًا لَيْسَ جَوَابًا عَلَى قَوْلِهِمْ: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً [الْإِسْرَاء: ٤٩] إِلَخْ وَتَكُونُ صِيغَةُ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلَةً فِي التَّسْوِيَةِ. وَفِي هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَوْلُهُ: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً إِلَخْ، وَمُفَرَّعًا عَلَى كَلَامٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: كُونُوا حِجارَةً،
أَيْ فَلَوْ كَانُوا كَذَلِكَ لَقَالُوا: مَنْ يُعِيدُنَا، أَيْ لَانْتَقَلُوا فِي مَدَارِجِ السَّفْسَطَةِ مِنْ إِحَالَةِ الْإِعَادَةِ إِلَى ادِّعَاءِ عَدَمِ وُجُودِ قَادِرٍ عَلَى إِعَادَةِ الْحَيَاةِ لَهُمْ لِصَلَابَةِ أَجْسَادِهِمْ.
وَبِهَذِهِ الْوُجُوهِ يَلْتَئِمُ نَظْمُ الْآيَةِ وَيَنْكَشِفُ مَا فِيهِ مِنْ غُمُوضٍ.
وَالْحَدِيدُ: تُرَابٌ مَعْدِنِيٌّ، أَيْ لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي مَغَاوِرِ الْأَرْضِ، وَهُوَ تُرَابٌ غَلِيظٌ مُخْتَلِفُ الْغِلَظِ، ثَقِيلٌ أَدْكَنُ اللَّوْنِ، وَهُوَ إِمَّا مُحَتَّتُ الْأَجْزَاءِ وَإِمَّا مُورِقُهَا، أَيْ مِثْلَ الْوَرَقِ.
وَأَصْنَافُهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ تَرْكِيبِ أَجْزَائِهِ، وَتَتَفَاوَتُ أَلْوَانُ هَذِهِ الْأَصْنَافِ، وَأَشْرَفُ أَصْنَافِهِ الْخَالِصُ، وَهُوَ السَّالِمُ فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهِ مِنْ الْمَوَادِّ الْغَرِيبَةِ. وَهَذَا نَادِرُ الْوُجُودِ وَأَشْهَرُ أَلْوَانِهِ الْأَحْمَرُ، وَيُقَسَّمُ بِاعْتِبَارِ صَلَابَتِهِ إِلَى صِنْفَيْنِ أَصْلِيَّيْنِ يُسَمَّيَانِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، فَالصُّلْبُ هُوَ الذَّكَرُ وَاللَّيِّنُ الْأُنْثَى. وَكَانَ الْعَرَبُ يَصِفُونَ السَّيْفَ الصُّلْبَ الْقَاطِعَ بِالذَّكَرِ. وَإِذَا صُهِرَ الْحَدِيدُ بِالنَّارِ تَمَازَجَتْ أَجْزَاؤُهُ وَتَمَيَّعَ وَصَارَ كَالْحَلْوَاءِ فَمِنْهُ مَا يَكُونُ حَدِيدَ صَبٍّ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ حَدِيدَ تَطْرِيقٍ، وَمِنْهُ فُولَاذٌ. وَكُلُّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِهِ صَالِحٌ لِمَا يُنَاسِبُ سَبْكَهُ مِنْهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْحَاجَةِ فِيهَا إِلَى شَدَّةِ الصَّلَابَةِ مِثْلَ السُّيُوفِ وَالدُّرُوعِ. وَمِنْ خَصَائِصَ الْحَدِيدِ أَنْ يَعْلُوَهُ الصَّدَأُ، وَهُوَ كَالْوَسَخِ أَخْضَرُ ثُمَّ يَسْتَحِيلُ تَدْرِيجًا إِلَى أُكْسِيدٍ (كَلِمَةٌ كِيمْيَاوِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى تَعَلُّقِ أَجْزَاءِ الْأُكْسُجِينِ بِجِسْمٍ فَتُفْسِدُهُ) وَإِذَا لَمْ يُتَعَهَّدِ الْحَدِيدُ بِالصَّقْلِ وَالزَّيْتِ أَخَذَ الصَّدَأُ فِي نَخْرِ سَطْحِهِ، وَهَذَا الْمَعْدِنُ يُوجَدُ فِي غَالِبِ الْبِلَادِ. وَأَكْثَرُ وُجُودِهِ فِي بِلَادِ الْحَبَشَةِ وَفِي صَحْرَاءِ مِصْرَ. وَوُجِدَتْ فِي الْبِلَادِ التُّونِسِيَّةِ
وَقَدْ رُتِّبَ جَزَاءُ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى نَبْذِهِ أَهْلَ الشِّرْكِ تَرْتِيبًا بَدِيعًا إِذْ جُوزِيَ بِنِعْمَةِ الدُّنْيَا وَهِيَ الْعَقِبُ الشَّرِيفُ، وَنِعْمَةِ الْآخِرَةِ وَهِيَ الرَّحْمَةُ، وَبِأَثَرِ تَيْنِكَ النِّعْمَتَيْنِ وَهُوَ لِسَانُ الصِّدْقِ، إِذْ لَا يُذْكَرُ بِهِ إِلَّا مَنْ حَصَّلَ النِّعْمَتَيْنِ.
وَتَقَدَّمَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي نَبِيئًا عِنْدَ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام.
[٥١- ٥٣]
[سُورَة مَرْيَم (١٩) : الْآيَات ٥١ إِلَى ٥٣]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣)
أَفْضَتْ مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ إِلَى أَنْ يُذْكَرَ مُوسَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُ أشرف نَبِي مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ.
وَالْقَوْلُ فِي جُمْلَةِ وَاذْكُرْ وَجُمْلَةِ إِنَّهُ كانَ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرَيْهِمَا فِي ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ عَدَا أَنَّ الْجُمْلَةَ هُنَا غَيْرُ مُعْتَرِضَةٍ بَلْ مُجَرَّدُ اسْتِئْنَافٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مُخْلِصًا بِكَسْرِ اللَّامِ مِنْ أَخْلَصَ الْقَاصِرِ إِذَا كَانَ الْإِخْلَاصُ صِفَتَهُ.
وَالْإِخْلَاصُ فِي أَمْرٍ مَا: الْإِتْيَانُ بِهِ غَيْرَ مَشُوبٍ بِتَقْصِيرٍ وَلَا تَفْرِيطٍ وَلَا هَوَادَةٍ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْخُلُوصِ، وَهُوَ التَّمَحُّضُ وَعَدَمُ الْخَلْطِ. وَالْمُرَادُ هُنَا: الْإِخْلَاصُ فِيمَا هُوَ شَأْنُهُ، وَهُوَ الرِّسَالَةُ بِقَرِينَة الْمقَام.
وقرأه حَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ بِفَتْحِ اللَّامِ مِنْ أَخْلَصَهُ، إِذَا اصْطَفَاهُ.
وَأَمَّا الْقِصَّةُ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا هَذِهِ الْآيَةُ فَهِيَ الْمُفَصَّلَةُ فِي السِّفْرِ الْخَاصِّ بِأَيُّوبَ مِنْ أَسْفَارِ النَّبِيئِينَ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ. وَحَاصِلُهَا أَنَّهُ كَانَ نَبِيئًا وَذَا ثَرْوَةٍ وَاسِعَةٍ وَعَائِلَةٍ صَالِحَةٍ مُتَوَاصِلَةٍ، ثُمَّ ابْتُلِيَ بِإِصَابَاتٍ لَحِقَتْ أَمْوَالَهُ مُتَتَابِعَةً فَأَتَتْ عَلَيْهَا، وَفَقَدَ أَبْنَاءَهُ السَّبْعَةَ وَبَنَاتِهِ الثَّلَاثَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَتَلَقَّى ذَلِكَ بِالصَّبْرِ وَالتَّسْلِيمِ. ثُمَّ ابْتُلِيَ بِإِصَابَةِ قُرُوحٍ فِي جَسَدِهِ وَتَلَقَّى ذَلِكَ كُلَّهُ بِصَبْرٍ وَحِكْمَةٍ وَهُوَ يَبْتَهِلُ إِلَى اللَّهِ بِالتَّمْجِيدِ وَالدُّعَاءِ بِكَشْفِ الضُّرِّ. وَتَلَقَّى رِثَاءَ أَصْحَابِهِ لِحَالِهِ بِكَلَامٍ عَزِيزِ الْحِكْمَةِ وَالْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِمَوَاعِظَ. ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ صِحَّتَهُ وَأَخْلَفَهُ مَالًا أَكْثَرَ مِنْ مَالِهِ وَوَلَدَتْ لَهُ زَوْجُهُ أَوْلَادًا وَبَنَاتٍ بِعَدَدِ مَنْ هَلَكُوا لَهُ مِنْ قَبْلُ.
وَقَدْ ذُكِرَتْ قِصَّتُهُ بِأَبْسَطَ مِنْ هُنَا فِي سُورَةِ ص، وَلِأَهْلِ الْقَصَصِ فِيهَا مُبَالَغَاتٌ لَا تَلِيقُ بِمَقَامِ النُّبُوءَةِ.
وَ (إِذْ) ظَرْفٌ قُيِّدَ بِهِ إِيتَاءُ أَيُّوبَ رِبَاطَةَ الْقَلْبِ وَحِكْمَةَ الصَّبْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ كَانَ أَجْلَى مَظَاهِرِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ كَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْقِصَّةُ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ [الْأَنْبِيَاء: ٧٦] فَصَارَ أَيُّوبُ مَضْرِبَ الْمَثَلِ فِي الصَّبْرِ.
وَقَوْلِهِ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ- عَلَى تَقْدِيرِ بَاءِ الْجَرِّ، أَيْ نَادَى ربه بِأَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ.
وَالْمَسُّ: الْإِصَابَةُ الْخَفِيفَةُ. وَالتَّعْبِيرُ بِهِ حِكَايَةً لِمَا سَلَكَهُ أَيُّوبُ فِي دُعَائِهِ مِنَ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ إِذْ جَعَلَ مَا حَلَّ بِهِ مِنَ الضُّرِّ كَالْمَسِّ الْخَفِيفِ.
وَالضُّرُّ- بِضَمِّ الضَّادِ- مَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَرْءُ فِي جَسَدِهِ مِنْ مرض أَو هزال، أَوْ فِي مَالِهِ مِنْ نَقْصٍ وَنَحْوِهِ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ جَوَابَ (إِذَا) هُوَ قَوْلُهُ الْآتِي قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٢] كَمَا سَيَأْتِي وَمَا بَيْنَهُمَا كُلُّهُ اعْتِرَاضٌ نَشَأَ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ.
وَضَمِيرُ بَيْنَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَتْ عَلَيْهِ ضَمَائِرُ جَمْعِ الْغَائِبِينَ قَبْلَهُ وَهِيَ عَائِدَةٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَمَعْنَى نَفْيِ الْأَنْسَابِ نَفْيُ آثَارِهَا مِنَ النَّجْدَةِ وَالنَّصْرِ وَالشَّفَاعَةِ لِأَنَّ تِلْكَ فِي عُرْفِهِمْ مِنْ لَوَازِمِ الْقَرَابَةِ. فَقَوْلُهُ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ النَّصِيرِ.
وَالتَّسَاؤُلُ: سُؤَالُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَالْمَعْنِيُّ بِهِ التَّسَاؤُلُ الْمُنَاسِبُ لِحُلُولِ يَوْمِ الْهَوْلِ، وَهُوَ أَنْ يَسْأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا الْمَعُونَةَ وَالنَّجْدَةَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [المعارج: ١٠].
وَأَمَّا إِثْبَاتُ التَّسَاؤُلِ يَوْمَئِذٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ [الصافات: ٢٧- ٣٣] فَذَلِك بَعُدَ يَأْسُهُمْ مِنْ وُجُودِ نَصِيرٍ أَوْ شَفِيعٍ. وَفِي «الْبُخَارِيِّ» : أَنَّ رَجُلًا (هُوَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ الْخَارِجِيُّ) قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ قَالَ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ وَقَالَ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى
بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ
[الصافات: ٢٧] فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا قَوْلُهُ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ فَهُوَ فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ، ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ الْآخِرَةِ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ اهـ. يُرِيدُ اخْتِلَافَ الزَّمَانِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قُلْنَاهُ.
وَذُكِرَ مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِدْمَاجٌ لِلتَّنْوِيهِ بِالْمُؤْمِنِينَ وَتَهْدِيدُ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَجِدُونَ فِي مَوَازِينِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ شَيْئًا، قَالَ تَعَالَى: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الْفرْقَان: ٢٣]. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ
يُرِيدُ ابْعَثْ إِلَيْنَا دِينَارًا أَوْ عَبْدَ رَبٍّ سَرِيعًا لِأَجْلِ حَاجَتِنَا بِأَحَدِهِمَا. وَرَجَوُا اتِّبَاعَ السَّحَرَةِ، أَيِ اتِّبَاعَ مَا يُؤَيِّدُهُ سِحْرُ السَّحَرَةِ وَهُوَ إِبْطَالُ دِينِ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى، فَكَانَ قَوْلُهُمْ
لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ كِنَايَةً عَنْ رَجَاءِ تَأْيِيدِهِمْ فِي إِنْكَارِ رِسَالَةِ مُوسَى فَلَا يَتَّبِعُونَهُ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَصِيرَ السَّحَرَةُ أَيِمَّةً لَهُمْ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ هُوَ الْمُتَّبَعُ. وَقَدْ جِيءَ فِي شَرْطِ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ بِحَرْفِ إِنْ لِأَنَّهَا أَصْلُ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَكٌّ فِي أَنَّ السَّحَرَةَ غَالِبُونَ. وَهَذَا شَأْنُ الْمَغْرُورِينَ بِهَوَاهُمُ، الْعُمْيِ عَنِ النَّظَرِ فِي تَقَلُّبَاتِ الْأَحْوَالِ أَنَّهُمْ لَا يَفْرِضُونَ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ إِلَّا مَا يُوَافِقُ هَوَاهُمْ وَلَا يَأْخُذُونَ الْعُدَّةَ لاحْتِمَال نقيضه.
[٤١، ٤٢]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٤١ إِلَى ٤٢]
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢)
تَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بِقَوْلِهِ: وَجاءَ السَّحَرَةُ [الْأَعْرَاف: ١١٣] وَبِطَرْحِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ إِذْ قَالَ هُنَاكَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً [الْأَعْرَاف: ١١٣]، وَهُوَ تَفَنُّنٌ فِي حِكَايَةِ مَقَالَتِهِمْ عِنْدَ إِعَادَتِهَا لِئَلَّا تُعَادَ كَمَا هِيَ، وَبِدُونِ كَلِمَةِ إِذاً، فَحَكَى هُنَا مَا فِي كَلَامِ فِرْعَوْنَ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى جَزَاءِ مَضْمُونِ قَوْلِهِمْ: إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ [الْأَعْرَاف: ١١٣] زِيَادَةً عَلَى مَا اقْتَضَاهُ حَرْفُ (نَعَمْ) مِنْ تَقْرِيرِ اسْتِفْهَامِهِمْ عَنِ الْأَجْرِ. فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إِنْ كُنْتُمْ غَالِبِينَ إِذًا إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَهَذَا وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي حِكَايَةِ الْقِصَّةِ هُنَا. وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْقُرْآنِ فِي قَصَصِهِ أَنْ لَا يَخْلُوَ الْمَعَادُ مِنْهَا عَنْ فَائِدَةٍ غَيْرِ مَذْكُورَةٍ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ تَجْدِيدًا لِنَشَاطِ السَّامِعِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّابِعَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَسُؤَالُهُمْ عَنِ اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ إِدْلَالٌ بِخِبْرَتِهِمْ وَبِالْحَاجَةِ إِلَيْهِمْ إِذْ عَلِمُوا أَنَّ فِرْعَوْنَ شَدِيدُ الْحِرْصِ عَلَى أَنْ يَكُونُوا غَالِبِينَ وَخَافُوا أَنْ يُسَخِّرَهُمْ فِرْعَوْنُ بِدُونِ أَجْرٍ فَشَرَطُوا أَجْرَهُمْ مِنْ قَبْلِ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ ليقيدوه بوعده.
[٤٣، ٤٤]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٤٣ إِلَى ٤٤]
قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤)
حُكِيَ كَلَامُ مُوسَى فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ بِإِعَادَةِ فِعْلِ قالَ مَفْصُولًا بِطَرِيقَةِ حِكَايَةِ
بَيِّناتٍ [الْقَصَص: ٣٦] لِيَعْتَبِرَ النَّاسُ بِأَنَّ شَأْنَ أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَاحِدٌ فَإِنَّهُمْ يَتَلَقَّوْنَ دُعَاةَ الْخَيْرِ بِالْإِعْرَاضِ وَالِاسْتِكْبَارِ وَاخْتِلَاقِ الْمَعَاذِيرِ فَكَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْقَصَص: ٣٦] قَالَتْ قُرَيْشٌ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ [الْأَنْبِيَاء: ٥]، وَقَالُوا مَا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ [ص: ٧] أَيِ الَّتِي أَدْرَكْنَاهَا.
وَكَمَا طَمِعَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَبْلُغَ إِلَى اللَّهِ اسْتِكْبَارًا مِنْهُ فِي الْأَرْضِ سَأَلَ الْمُشْرِكُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً [الْفرْقَان: ٢١] وَظَنُّوا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى اللَّهِ كَمَا ظَنَّ أُولَئِكَ فَيُوشِكُ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِنَ الِاسْتِئْصَالِ مَا أصَاب أُولَئِكَ.
[٤١]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٤١]
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (٤١)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ [الْقَصَص: ٣٩] أَيِ اسْتَكْبَرُوا فَكَانُوا يَنْصُرُونَ الضَّلَالَ وَيَبُثُّونَهُ، أَيْ جَعَلْنَاهُ وَجُنُودَهُ أَيِمَّةً لِلضَّلَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى النَّارِ فَكَأَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ فَكُلٌّ يَدْعُو بِمَا تَصِلُ إِلَيْهِ يَدُهُ فَدَعْوَةُ فِرْعَوْنَ أَمْرُهُ، وَدَعْوَةُ كَهَنَتِهِ بِاخْتِرَاعِ قَوَاعِدِ الضَّلَالَةِ وَأَوْهَامِهَا، وَدَعْوَةُ جُنُودِهِ بِتَنْفِيذِ ذَلِكَ والانتصار لَهُ.
وَالْأَئِمَّة: جَمْعُ إِمَامٍ وَهُوَ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي عَمَلٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ قَالَ تَعَالَى وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [الْأَنْبِيَاء: ٧٣]. وَمَعْنَى جَعْلِهِمْ أَيِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ: خَلْقُ نُفُوسِهِمْ مُنْصَرِفَةً إِلَى الشَّرِّ وَمُعْرِضَةً عَنِ الْإِصْغَاءِ لِلرُّشْدِ وَكَانَ وُجُودُهُمْ بَيْنَ نَاسٍ ذَلِكَ شَأْنُهُمْ. فَالْجَعْلُ جَعْلٌ تَكْوِينِيٌّ بِجَعْلِ أَسْبَابِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ بَعَثَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ لِإِرْشَادِهِمْ فَلَمْ
يَنْفَعْ ذَلِكَ فَلِذَلِكَ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ.
وَالدُّعَاءُ إِلَى النَّارِ هُوَ الدُّعَاءُ إِلَى الْعَمَلِ الَّذِي يُوقِعُ فِي النَّارِ فَهِيَ دَعْوَةٌ إِلَى النَّار بالمئال. وَإِذَا كَانُوا يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ فَهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ بِالْأَحْرَى فَلِذَلِكَ قَالَ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لَا يُنْصَرُونَ أَيْ لَا يَجِدُونَ مَنْ يَنْصُرُهُمْ فَيَدْفَعُ عَنْهُمْ عَذَابَ النَّارِ. وَمُنَاسِبَةُ عَطْفِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لَا يُنْصَرُونَ هِيَ أَنَّ الدُّعَاءَ يَقْتَضِي جُنْدًا وَأَتْبَاعًا يَعْتَزُّونَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكِنَّهُمْ لَا يُجْدُونَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا [الْبَقَرَة: ١٦٧].
كَالْمَوْتَى وَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى. وَهَذَا مَعْذِرَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنِدَاءٌ عَلَى أَنَّهُ بَذَلَ الْجُهْدَ فِي التَّبْلِيغِ. وَفِيمَا عَدَا الْفَاءِ فَالْآيَةُ نَظِيرُ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النَّمْلِ وَنَزِيدُ هُنَا فَنَقُولُ: إِنَّ تَعْدَادَ التَّشَابِيهِ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ طَوَائِفِ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ لِكُلِّ فَرِيقٍ تَشْبِيهٌ: فَمِنْهُمْ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِمُ التَّوَغُّلُ فِي الشِّرْكِ فَلَا يُصَدِّقُونَ بِمَا يُخَالِفُهُ وَلَا يَتَأَثَّرُونَ بِالْقُرْآنِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ فَهَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْوَاتِ أَشْبَاحٌ بِلَا إِدْرَاكٍ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ دَهْمَاؤُهُمْ وَأَغْلَبُهُمْ وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِهِمْ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْرِضُ عَنِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: فِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: ٥] وَيَقُولُونَ: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: ٢٦] وَهَؤُلَاءِ هم ساداتهم ومدبّرو أَمْرَهُمْ يَخَافُونَ إِنْ أَصْغَوْا إِلَى الْقُرْآنِ أَنْ يَمْلِكَ مَشَاعِرَهُمْ فَلِذَلِكَ يَتَبَاعَدُونَ عَنْ سَمَاعِهِ، وَلِهَذَا قُيِّدَ الَّذِي شَبَّهَوَا بِهِ بِوَقْتِ تَوَلِّيهِمْ مُدْبِرِينَ إِعْرَاضًا عَنِ الدَّعْوَةِ، فَهُوَ تَشْبِيهُ تَمْثِيلٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكُوا مَسْلَكَ سَادَاتِهِمْ وَاقْتَفُوا خُطَاهُمْ فَانْحَرَفَتْ أَفْهَامُهُمْ عَنِ الصَّوَابِ فَهُمْ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ الْعَمَلَ بِهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ اعْتَادُوا مُتَابَعَةَ أَهْوَائِهِمْ وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: ٢٢] وَيَحْصُلُ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ تَشْبِيهُ جَمَاعَتِهِمْ بِجَمَاعَةٍ تَجْمَعُ أَمْوَاتًا وَصُمًّا وَعُمْيًا فَلَيْسَ هَذَا مِنْ تَعَدُّدِ
التَّشَبُّهِ لِمُشَبَّهٍ وَاحِدٍ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [الْبَقَرَة: ١٩].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ مَضْمُومَةٍ وَكَسْرِ مِيمٍ تُسْمِعُ وَنَصْبِ الصُّمَّ، عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ بِتَحْتِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ وَبِفَتْحِ مِيمٍ يَسْمَعُ وَرَفَعَ الصُّمُّ على الفاعلية ليسمع. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِهَادِي بِمُوَحَّدَةٍ وَبِأَلِفٍ بَعْدَ الْهَاءِ وَبِإِضَافَةِ هَادِي إِلَى
لَا تَرَى الْكُرَةَ الْأَرْضِيَّةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الْحَشْر: ٢١].
وَقَرِينَةُ الِاسْتِعَارَةِ حَالِيَّةٌ وَهِيَ عَدَمُ صِحَّةِ تَعَلُّقِ الْعَرْضِ وَالْإِبَاءِ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ لِانْتِفَاءِ إِدْرَاكِهَا فَأَنَّى لَهَا أَنْ تَخْتَارَ وَتَرْفُضَ، وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْمُرَادِ مِنْهُ جِنْسَهُ وَمَاهِيَّتَهُ لِأَنَّ الْمَاهِيَّةَ لَا تُفَاوِضُ وَلَا تَخْتَارُ كَمَا يُقَالُ: الطَّبِيعَةُ عَمْيَاءُ، أَيْ لَا اخْتِيَارَ لَهَا، أَيْ لِلْجِبِلَّةِ وَإِنَّمَا تَصْدُرُ عَنْهَا آثَارُهَا قَسْرًا.
وَلِذَلِكَ فأفعال عَرَضْنَا، فَأَبَيْنَ، يَحْمِلْنَها، وأَشْفَقْنَ مِنْها، وحَمَلَهَا أَجْزَاءٌ لِلْمُرَكَّبِ
التَّمْثِيلِيِّ. وَهَذِهِ الْأَجْزَاءُ صَالِحَةٌ لِأَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا اسْتِعَارَةً مُفْرَدَةً بِأَنْ يُشَبِّهَ إِيدَاعَ الْأَمَانَةِ فِي الْإِنْسَانِ وَصَرْفَهَا عَنْ غَيْرِهِ بِالْعَرْضِ، وَيُشَبِّهَ عَدَمَ مُصَحِّحِ مَوَاهِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ لِإِيدَاعِ الْأَمَانَةِ فِيهَا بِالْإِبَاءِ، وَيُشَبِّهَ الْإِيدَاعَ بِالتَّحْمِيلِ وَالْحَمْلِ، وَيُشَبِّهَ عَدَمَ التَّلَاؤُمِ بَيْنَ مَوَاهِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ بِالْعَجْزِ عَنْ قَبُولِ تِلْكَ الْكَائِنَاتِ إِيَّاهَا وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْإِشْفَاقِ، وَيُشَبِّهَ التَّلَاؤُمَ وَمُصَحِّحَ الْقَبُولِ لِإِيدَاعِ وَصْفِ الْأَمَانَةِ فِي الْإِنْسَانِ بِالْحَمْلِ لِلثِّقْلِ.
وَمِثْلُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَاتِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ. وَصَلُوحِيَّةُ الْمُرَكَّبِ التَّمْثِيلِيِّ لِلِانْحِلَالِ بِأَجْزَائِهِ إِلَى اسْتِعَارَاتِ مَعْدُودٍ مِنْ كَمَالِ بَلَاغَةِ ذَلِكَ التَّمْثِيلِ.
وَقَدْ عُدَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ مُشْكِلَاتِ الْقُرْآنِ وَتَرَدَّدَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِهَا تَرَدُّدًا دَلَّ عَلَى الْحَيْرَةِ فِي تَقْوِيمِ مَعْنَاهَا. وَمَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى تَقْوِيمِ مَعْنَى الْعَرْضِ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ مَعْنَى الْأَمَانَةِ، وَمَعْرِفَةِ مَعْنَى الْإِبَاءِ وَالْإِشْفَاقِ.
فَأَمَّا الْعَرْضُ فَقَدِ اسْتَبَانَتْ مَعَانِيهِ بِمَا عَلِمْتَ مِنْ طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ. وَأَمَّا الْأَمَانَةُ فَهِيَ مَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ وَيُطَالَبُ بِحِفْظِهِ وَالْوَفَاءِ دُونَ إِضَاعَةٍ وَلَا إِجْحَافٍ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهَا الْمُفَسِّرُونَ عَلَى عِشْرِينَ قَوْلًا وَبَعْضُهَا مُتَدَاخِلٌ فِي بعض، ولنبتدىء بِالْإِلْمَامِ بِهَا ثُمَّ نَعْطِفُ إِلَى تَمْحِيصِهَا وَبَيَانِهَا.
فَقِيلَ: الْأَمَانَةُ الطَّاعَةُ، وَقِيلَ: الصَّلَاةُ، وَقِيلَ: مَجْمُوعُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالِاغْتِسَالِ، وَقِيلَ: جَمِيعُ الْفَرَائِضِ، وَقِيلَ: الِانْقِيَادُ إِلَى الدِّينِ، وَقِيلَ: حِفْظُ الْفَرْجِ، وَقِيلَ: الْأَمَانَةُ التَّوْحِيدُ، أَوْ دَلَائِلُ الْوَحْدَانِيَّةِ، أَوْ تَجَلِّيَاتُ اللَّهِ بِأَسْمَائِهِ،
وَضَمِيرُ عَلَيْها عَائِدٌ إِلَى شَجَرَةُ الزَّقُّومِ بِتَأْوِيلِ ثَمَرِهَا. وَ (عَلَى) بِمَعْنَى (مَعَ)، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ لِلِاسْتِعْلَاءِ لِأَنَّ الْحَمِيمَ يَشْرَبُونَهُ بَعْدَ الْأَكْلِ فَيَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي الْأَمْعَاءِ.
وَالْحَمِيمُ: الْقَيْحُ السَّائِلُ مِنَ الدُّمَّلِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧٠].
وَالْقَوْلُ فِي عَطْفِ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ كَالْقَوْلِ فِي عَطْفِ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ.
وَالْمَرْجِعُ: مَكَانُ الرُّجُوعِ، أَيِ الْمَكَانِ الَّذِي يَعُودُ إِلَيْهِ الْخَارِجُ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ يُفَارِقَهُ.
وَقَدْ يُسْتَعَارُ لِلِانْتِقَالِ مِنْ حَالَةٍ طَارِئَةٍ إِلَى حَالَةٍ أَصْلِيَّةٍ تَشْبِيهًا بِمُغَادَرَةِ الْمَكَانِ ثُمَّ الْعُودُ إِلَيْهِ كَقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي كَلَامه مَعَ هنيىء صَاحِبِ الْحِمَى «فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلَكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ»، يَعْنِي عُثْمَانَ بْنَ عَفَّان وَعبد الرحمان بْنَ عَوْفٍ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا عَنَى أَنَّهُمَا يَنْتَقِلَانِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْمَاشِيَةِ إِلَى الِانْتِفَاعِ بِالنَّخْلِ وَالزَّرْعِ وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرَ الرُّجُوعُ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ حِينَ يَطْعَمُونَ مِنْ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ وَيَشْرَبُونَ الْحَمِيمَ لَمْ يُفَارِقُوا الْجَحِيمَ فَأُرِيدَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ عَذَابَ الْأَكْلِ مِنَ الزَّقُّومِ وَالشَّرَابِ مِنَ الْحَمِيمِ زِيَادَةٌ عَلَى عَذَابِ الْجَحِيمِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ فَلَيْسَ ثَمَّةَ مُغَادَرَةٍ لِلْجَحِيمِ حَتَّى يَكُونَ الرُّجُوعُ حَقِيقَةً، مِثْلُهُ
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رُجُوعِهِ مِنْ إِحْدَى مَغَازِيهِ «رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ»
يُرِيدُ مُجَاهَدَةَ النَّفْسِ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْنِ أَنَّهُمْ حِينَ اشْتِغَالِهِمْ بِالْجِهَادِ قَدْ تَرَكُوا مُجَاهَدَةَ أَنْفُسِهِمْ وَإِنَّمَا عَنَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي جِهَادٍ زَائِدٍ فَصَارُوا إِلَى الْجِهَاد السَّابِق.
[٦٩- ٧٠]
[سُورَة الصافات (٣٧) : الْآيَات ٦٩ إِلَى ٧٠]
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠)
تَعْلِيلٌ لِمَا جَازَاهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَإِبْدَاءٌ لِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جُرْمِهِمْ، فَإِنَّ جُرْمَهُمْ كَانَ تَلَقِّيًا لِمَا وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَشُعَبِهِ بِدُونِ نَظَرٍ وَلَا اخْتِيَارٍ لِمَا
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامر وَأَبُو عَمْرو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأَنْ بِوَاوِ الْعَطْفِ. وَقَرَأَ غَيْرُهُمْ أَوْ أَنْ بِ (أَوِ) الَّتِي لِلتَّرْدِيدِ، أَيْ لَا يَخْلُو سَعْيُ مُوسَى عَنْ حُصُول أحد هاذين.
وَقَرَأَ نَافِع وَأَبُو عَمْرو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ يَاءِ يُظْهِرَ وَنَصْبِ الْفَسادَ أَي يُبدل دينكُمْ وَيَكُونُ سَبَبًا فِي ظُهُورِ الْفَسَادِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصُ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَبِرَفْعِ الْفَسَادُ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْفَسَادَ يَظْهَرُ بِسَبَبِ ظُهُورِ أَتْبَاعِ مُوسَى، أَو بِأَن يجترىء غَيْرُهُ عَلَى مِثْلِ دَعْوَاهُ بِأَنْ تَزُولَ حُرْمَةُ الدَّوْلَةِ، لِأَنَّ شَأْنَ أَهْلِ الْخَوْفِ عَنْ عَمَلٍ أَنْ يَنْقَلِبَ جُبْنُهُمْ شَجَاعَةً إِذَا رَأَوْا نَجَاحَ مَنِ اجْتَرَأَ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي يُرِيدُونَ مثله.
[٢٧]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٢٧]
وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧)
هَذَا حِكَايَةُ كَلَامٍ صَدَرَ مِنْ مُوسَى فِي غَيْرِ حَضْرَةِ فِرْعَوْنَ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَضُمُّهُ مَلَأُ اسْتِشَارَةِ فِرْعَوْنَ حِينَ قَالَ لِقَوْمِهِ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى [غَافِر: ٢٦] وَلَكِنَّ مُوسَى لَمَّا بَلَغَهُ مَا قَالَهُ فِرْعَوْن فِي ملائه قَالَ مُوسَى فِي قَوْمِهِ: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ، وَلِذَلِكَ حُكِيَ فِعْلُ قَوْلِهِ مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ لَمْ يَقَعْ فِي مُحَاوَرَةٍ مَعَ مَقَالِ فِرْعَوْنَ بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ الْمَحْكِيَّةِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٨- ٣١] مِنْ قَوْلِهِ: قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً إِلَى قَوْلِهِ: قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
وَقَوْلُهُ: عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ خِطَابٌ لِقَوْمِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَطْمِينًا لَهُمْ وَتَسْكِينًا لِإِشْفَاقِهِمْ عَلَيْهِ مِنْ بَطْشِ فِرْعَوْنَ. وَالْمَعْنَى: إِنِّي أَعْدَدْتُ الْعُدَّةَ لِدَفْعِ بَطْشِ فِرْعَوْنَ الْعَوْذَ بِاللَّهِ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ وَفِي مُقَدِّمَةِ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَبِّرِينَ فِرْعَوْنُ.
وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ مُوسَى عَلِمَ أَنَّهُ سَيَجِدُ مُنَاوِينَ مُتَكَبِّرِينَ يَكْرَهُونَ مَا أَرْسَلَهُ اللَّهُ بِهِ إِلَيْهِمْ، فَدَعَا رَبَّهُ وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لَهُ الْحِفْظَ وَكَفَاهُ ضَيْرَ كُلِّ مُعَانِدٍ، وَذَلِكَ مَا حُكِيَ فِي سُورَةِ طه [٤٥، ٤٦] : قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى قالَ لَا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى
وَالْعَرْضُ: أَصْلُهُ إِظْهَارُ الشَّيْءِ وَإِرَاءَتُهُ لِلْغَيْرِ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُ الْعَرَبِ: عَرَضْتُ الْبَعِيرَ عَلَى الْحَوْضِ مَعْدُودًا عِنْدَ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ وَعُلَمَاءِ الْمَعَانِي مِنْ قَبِيلِ الْقَلْبِ فِي التَّرْكِيبِ، ثُمَّ تَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ إِطْلَاقَاتٌ عَدِيدَةٌ مُتَقَارِبَةٌ دَقِيقَةٌ تَحْتَاجُ إِلَى تَدْقِيقٍ.
وَمِنْ إِطْلَاقَاتِهِ قَوْلُهُمْ: عَرْضُ الْجُنْدِ عَلَى الْأَمِيرِ، وَعَرْضُ الْأَسْرَى عَلَى الْأَمِيرِ، وَهُوَ إِمْرَارُهُمْ لِيَرَى رَأْيَهُ فِي حَالِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ، وَهُوَ إِطْلَاقُهُ هُنَا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ، اسْتُعِيرَ لَفْظُ يُعْرَضُونَ لِمَعْنَى: يَمُرُّ بِهِمْ مَرَّا عَاقِبَتُهُ التَّمَكُّنُ مِنْهُمْ وَالْحُكْمُ فِيهِمْ فَكَأَنَّ جَهَنَّمَ إِذَا عُرِضُوا عَلَيْهَا تَحْكُمُ بِمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ حَرِيقِهَا، وَيُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ [٢٠] وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها الْآيَةَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ إِطْلَاقٌ لَهُ آخَرُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣١].
وَبُنِيَ فِعْلُ يُعْرَضُونَ لِلْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُ الْفِعْلِ لَا تَعْيِينُ فَاعِلِهِ.
وَالَّذِينَ يَعْرِضُونَ الْكَافِرِينَ عَلَى النَّارِ هُمُ الْمَلَائِكَةُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخْرَى.
وَضَمِيرُ عَلَيْها عَائِدٌ إِلَى الْعَذَابِ بِتَأْوِيلِ أَنَّهُ النَّارُ أَوْ جَهَنَّمُ أَوْ عَائِدٌ إِلَى جَهَنَّمَ الْمَعْلُومَةِ مِنَ الْمَقَامِ.
وَانْتَصَبَ خاشِعِينَ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فِي تَراهُمْ لِأَنَّهَا رُؤْيَةٌ بَصَرِيَّةٌ.
وَالْخُشُوعُ: التَّطَامُنُ وَأَثَرُ انْكِسَارِ النَّفْسِ مِنِ اسْتِسْلَامٍ وَاسْتِكَانَةٍ فَيَكُونُ لِلْمَخَافَةِ، وَلِلْمَهَابَةِ، وَلِلطَّاعَةِ، وَلِلْعَجْزِ عَنِ الْمُقَاوَمَةِ.
وَالْخُشُوعُ مِثْلُ الْخُضُوعِ إِلَّا أَنَّ الْخُضُوعَ لَا يُسْنَدُ إِلَّا إِلَى الْبَدَنِ فَيُقَالُ: خَضَعَ فُلَانٌ، وَلَا يُقَالُ: خَضَعَ بَصَرُهُ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ [الْأَحْزَاب: ٣٢]، وَأَمَّا الْخُشُوعُ فَيُسْنَدُ إِلَى الْبَدَنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خاشِعِينَ لِلَّهِ فِي آخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٩٩]. وَيُسْنَدُ إِلَى بَعْضِ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
يَرْدَعْهُمْ ذَلِكَ عَنْ مُحَاوَلَةِ الْإِضْرَار بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الرَّعْد: ٤١]. فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ أَن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ.
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَهُودُ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرُ، وَعَلَيْهِ فمشاقتهم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشَاقَّةٌ خَفِيَّةٌ مُشَاقَّةُ كَيْدٍ وَمَكْرٍ، وَتَبَيُّنُ الْهُدَى لَهُمْ ظُهُورُ أَن مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمَوْعُودُ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ وَكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ تَمْهِيدًا لِغَزْوِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ.
وَانْتَصَبَ شَيْئاً عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِ يَضُرُّوا وَالتَّنْوِينُ لِلتَّقْلِيلِ، أَيْ لَا يَضُرُّونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ اللَّهَ أَقَلَّ ضُرٍّ. وَإِضْرَارُ اللَّهِ أُرِيدَ بِهِ إِضْرَارُ دِينِهِ لِقَصْدِ التَّنْوِيهِ وَالتَّشْرِيفِ لِهَذَا الدِّينِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى.
وَالْإِحْبَاطُ: الْإِبْطَالُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَمَعْنَى إِبْطَالُ أَعْمَالِهِمْ بِالنِّسْبَةِ لِأَعْمَالِهِمْ فِي مُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ اللَّهَ يلطف بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ بِتَيْسِيرِ أَسْبَابِ نَصْرِهِمْ وَانْتِشَارِ دِينِهِ، فَلَا يَحْصُلُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ لِلصَّدِّ وَالْمُشَاقَّةِ عَلَى طَائِلٍ. وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّد: ١].
وَحَرْفُ الِاسْتِقْبَالِ هُنَا لِتَحْقِيقِ حُصُولِ الْإِحْبَاطِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُحْبِطُ أَعْمَالِهِمْ مِنَ الْآنِ إِذْ لَا يُعْجِزُهُ ذَلِكَ حَتَّى يَتَرَصَّدَ بِهِ الْمُسْتَقْبَلَ، وَهَذَا التَّحْقِيقُ مِثْلُ مَا فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يُوسُف: ٩٨].
[٣٣]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ٣٣]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣)
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ [مُحَمَّد:
٣٢]، وَبَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [مُحَمَّد: ٣٤] وُجِّهَ بِهِ
اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ (كُنْيَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ) فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمُهُ، فَقَالَتْ: إِذَا لَمْ يُكْرِمْهُ اللَّهُ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَإِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي»
. قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: فَلَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَ مَا سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ شَاعَ مِنْ آدَابِ عَصْرِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ التَّحَرُّزُ مِنَ التَّزْكِيَةِ وَكَانُوا يَقُولُونَ إِذَا أَثْنَوْا عَلَى أَحَدٍ لَا أَعْلَمُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا.
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بن عَمْرو بْنِ عَطَاءٍ قَالَ: «سَمَّيْتُ ابْنَتِي بَرَّةَ فَقَالَتْ لِي زَيْنَب بنت بن سَلَمَةَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَهَى عَنْ هَذَا الِاسْمِ، وَسُمِّيتُ بَرَّةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِأَهْلِ الْبِرِّ مِنْكُمْ، قَالُوا: بِمَ نُسَمِّيهَا؟ قَالَ: سَمُوُّهَا زَيْنَبَ»
. وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ النَّهْيَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ مَا يُفِيدُ زَكَاءَ النَّفْسِ، أَيْ طَهَارَتَهَا وَصَلَاحَهَا، تَفْوِيضًا بِذَلِكَ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ لِلنَّاسِ بَوَاطِنَ مُخْتَلِفَةَ الْمُوَافَقَةِ لِظَوَاهِرِهِمْ وَبَيْنَ أَنْوَاعِهَا بَوْنٌ. وَهَذَا مِنَ التَّأْدِيبِ عَلَى التَّحَرُّزِ فِي الْحُكْمِ وَالْحِيطَةِ فِي الْخِبْرَةِ وَاتِّهَامِ الْقَرَائِنِ وَالْبَوَارِقِ.
فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا النَّهْيِ الْإِخْبَارُ عَنْ أَحْوَالِ النَّاسِ بِمَا يُعْلَمُ مِنْهُمْ وَجُرِّبُوا فِيهِ مِنْ ثِقَةٍ وَعَدَالَةٍ فِي الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ التَّعْدِيلِ بِالتَّزْكِيَةِ وَهُوَ لَفْظٌ لَا يُرَادُ بِهِ مِثْلَ مَا أُرِيدَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ بَلْ هُوَ لَفْظٌ اصْطَلَحَ عَلَيْهِ النَّاسُ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ
وَمُرَادُهُمْ مِنْهُ وَاضِحٌ.
وَوَقَعَتْ جُمْلَةُ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِسَبَبِ النَّهْيِ أَوْ لِأَهَمِّ أَسْبَابِهِ، أَيْ فَوَّضُوا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ إِذْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى، أَيْ بِحَالِ مَنِ اتَّقَى مِنْ كَمَالِ تَقْوَى أَوْ نَقْصِهَا أَوْ تَزْيِيفِهَا. وَهَذَا مَعْنَى مَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنْ يَقُولَ مَنْ يُخْبِرُ عَنْ أَحَدٍ بِخَيْرٍ: «لَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا»
أَيْ لَا أُزَكِّي أَحَدًا مُعْتَلِيًا حَقَّ اللَّهِ، أَيْ متجاوزا قدري.
وَإِلَى هَذَا الْقِسْمِ تَنْضَوِي صِفَةُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [الْحَشْر: ٢٣] وَهَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ الْأَصْلُ فِي التَّهَيُّؤِ لِلتَّدَبُّرِ وَالنَّظَرِ فِي بَقِيَّةِ الصِّفَاتِ، فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ أَصْلُ الضَّلَالَاتِ، وَالْمُشْرِكُونَ هُمُ الَّذِينَ يُغْرُونَ الْيَهُودَ، وَالْمُنَافِقُونَ بَيْنَ يَهُودٍ وَمُشْرِكِينَ تَسَتَّرُوا بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ، فَالشِّرْكُ هُوَ الَّذِي صَدَّ النَّاسَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى مَسَالِكِ الْهُدَى، قَالَ تَعَالَى: وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: ١٠١].
وَصِفَةُ عالِمُ الْغَيْبِ [الْحَشْر: ٢٢] فَإِنَّ مِنْ أُصُولِ الشِّرْكِ إِنْكَارَ الْغَيْبِ الَّذِي مِنْ آثَارِهِ إِنْكَارُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَعَلَى الِاسْتِرْسَالِ فِي الْغَيِّ وَأَعْمَالِ السَّيِّئَاتِ وَإِنْكَارِ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ. وَهَذَا نَاظِرٌ إِلَى قَوْله تَعَالَى: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
[الْأَنْفَال: ١٣] الْآيَةَ.
وَكَذَلِكَ ذِكْرُ صِفَاتِ «الْمَلِكِ، وَالْعَزِيزِ، وَالْجَبَّارِ، وَالْمُتَكَبِّرِ»، لِأَنَّهَا تُنَاسِبُ مَا أَنْزَلَهُ بِبَنِي النَّضِيرِ مِنَ الرُّعْبِ وَالْخِزْيِ وَالْبَطْشَةِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مُتَعَلِّقٌ بِمَا اجْتَنَاهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ ثَمَرَةِ النَّصْرِ فِي قِصَّةِ بَنِي النَّضِيرِ، وَتِلْكَ صِفَاتُ: السَّلامُ الْمُؤْمِنُ [الْحَشْر: ٢٣] لِقَوْلِهِ: فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ [الْحَشْر: ٦]، أَيْ لَمْ يَتَجَشَّمِ الْمُسْلِمُونَ لِلْغِنَى مَشَقَّةً وَلَا أَذَى وَلَا قِتَالًا.
وَكَذَلِكَ صفتا الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ [الْحَشْر: ٢٢] لِمُنَاسَبَتِهِمَا لِإِعْطَاءِ حَظٍّ فِي الْفَيْءِ لِلضُّعَفَاءِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مُتَعَلِّقٌ بِمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْفَرِيقَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَيَأْخُذُ كُلُّ فَرِيقٍ حَظَّهُ مِنْهَا، وَهِيَ صِفَاتُ: «الْقُدُّوسِ، الْمُهَيْمِن، الْخَالِق، البارئ، الْمُصَوِّرِ».
لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى.
تَذْيِيلٌ لِمَا عُدِّدَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ لَهُ جَمِيعُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى الَّتِي بَعْضُهَا الصِّفَاتُ الْمَذْكُورَةُ آنِفًا.
وَالْمُرَادُ بِالْأَسْمَاءِ الصِّفَاتِ، عَبَّرَ عَنْهَا بِالْأَسْمَاءِ لِأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِهَا عَلَى أَلْسِنَةِ خَلْقِهِ وَلِكَوْنِهَا بَالِغَةً مُنْتَهَى حَقَائِقِهَا بِالنِّسْبَةِ لِوَصْفِهِ تَعَالَى بِهَا فَصَارَتْ كَالْأَعْلَامِ عَلَى ذَاتِهِ تَعَالَى.
وَجُمْلَةُ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى جَوَابِ (إِذَا)، أَعْنِي قَوْلَهُ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَيَوْمَئِذٍ فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ إِلَخْ لِأَنَّ تَنْوِينَ (يَوْمَئِذٍ) عِوَضٌ عَنْ جُمْلَةٍ تَدَلُّ عَلَيْهَا جُمْلَةُ نُفِخَ فِي الصُّورِ إِلَى قَوْلِهِ دَكَّةً واحِدَةً، أَيْ فَيَوْمُ إِذْ نُفِخَ فِي الصُّورِ إِلَى آخِرِهِ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَهُوَ تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ بِمُرَادِفِ الْمُؤَكَّدِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِ (يَوْمَ) مِنْ قَوْلِهِ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، مُطْلَقُ الزَّمَانِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي وُقُوعِهِ مُضَافًا إِلَى (إِذَا).
وَمَعْنَى وَقَعَتِ الْواقِعَةُ تَحَقُّقُ مَا كَانَ مُتَوَقَّعًا وُقُوعُهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُتَوَعَّدُونَ بِوَاقِعَةٍ عَظِيمَةٍ فَيَوْمَئِذٍ يَتَحَقَّقُ مَا كَانُوا يُتَوَعَّدُونَ بِهِ.
فَعَبَّرَ عَنْهُ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ حُصُولِهِ.
وَالْمَعْنَى: فَحِينَئِذٍ تَقَعُ الْوَاقِعَةُ.
والْواقِعَةُ: مُرَادِفَةٌ لِلْحَاقَّةِ وَالْقَارِعَةِ، فَذِكْرُهَا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ التَّهْوِيلِ وَإِفَادَةِ مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْوَال الَّتِي تنبىء عَنْهَا مَوَارِدُ اشْتِقَاقِ أَوْصَافِ الْحَاقَّةِ وَالْقَارِعَةِ وَالْوَاقِعَةِ.
والْواقِعَةُ صَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْبَعْثِ قَالَ تَعَالَى: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [الْوَاقِعَة: ١- ٢].
وَفِعْلُ انْشَقَّتِ السَّماءُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِشَرْطِ (إِذَا)، وَتَأْخِيرُ عَطْفِهِ لِأَجْلِ مَا اتَّصَلَ بِهَذَا الْانْشِقَاقِ مَنْ وَصْفِ الْمَلَائِكَةِ الْمُحِيطِينَ بِهَا، وَمِنْ ذِكْرِ الْعَرْشِ الَّذِي يُحِيطُ بِالسَّمَاوَاتِ وَذِكْرِ حَمَلَتِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ بِتَقْدِيرِ: وَقَدِ انْشَقَّتِ السَّمَاءُ.
وَانْشِقَاقُ السَّمَاءِ: مُطَاوَعَتُهَا لِفِعْلِ الشَّقِّ، وَالشَّقُّ: فَتْحُ مَنَافِذَ فِي مُحِيطِهَا، قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً [الْفرْقَان: ٢٥، ٢٦].
ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ غَيْرُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ [الرَّحْمَن: ٣٧] وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَيْنُهُ.
وأَنْشَرَهُ بَعَثَهُ مِنَ الْأَرْضِ وَأَصْلُ النَّشْرِ إِخْرَاجُ الشَّيْءِ الْمُخَبَّأِ يُقَالُ: نَشَرَ الثَّوْبَ، إِذْ أَزَالَ طَيَّهُ، وَنَشَرَ الصَّحِيفَةَ، إِذَا فَتَحَهَا لِيَقْرَأَهَا. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «فَنَشَرُوا التَّوْرَاةَ».
وَأما الإنشار بِالْهَمْز فَهُوَ خَاصٌّ بِإِخْرَاجِ الْمَيِّتِ مِنَ الْأَرْضِ حَيًّا وَهُوَ الْبَعْثُ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: نُشِرَ الْمَيِّتُ، وَالْعَرَبُ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ إِحْيَاءَ الْأَمْوَاتِ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ قَالُوهُ فِي تَخَيُّلَاتِهِمُ التَّوَهُّمِيَّةِ. فَيَكُونُ مِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا يَا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ
وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [هود: ٧].
وَفِي قَوْلِهِ: إِذا شاءَ رَدٌّ لِشُبْهَتِهِمْ إِذْ كَانُوا يَطْلُبُونَ تَعْجِيلَ الْبَعْثِ تَحَدِّيًا وَتَهَكُّمًا لِيَجْعَلُوا عَدَمَ الِاسْتِجَابَةِ بِتَعْجِيلِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنه يَقع عِنْد مَا يَشَاءُ اللَّهُ وُقُوعَهُ لَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَسْأَلُونَهُ لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى حِكْمَةِ اللَّهِ، وَاسْتِفَادَةِ إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ مِنْ طَرِيق الْكِنَايَة.
[٢٣]
[سُورَة عبس (٨٠) : آيَة ٢٣]
كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (٢٣)
تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مُعْضِلٌ وَكَلِمَاتُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُتَأَوِّلِينَ فِيهَا بَعْضُهَا جَافُّ الْمَنَالِ، وَبَعْضُهَا جَافٍ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ. ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي كَلَّا أَنَّهُ حَرْفُ رَدْعٍ وَزَجْرٍ عَنْ كَلَامٍ سَابِقٍ أَوْ لَاحِقٍ، وَلَيْسَ فِيمَا تَضَمَّنَهُ مَا سَبَقَهَا وَلَا فِيمَا بَعْدَهَا مَا ظَاهِرُهُ أَنْ يُزْجَرَ عَنْهُ وَلَا أَنْ يُبْطَلَ، فَتَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إِلَى تَأْوِيلِ مَوْرِدِ كَلَّا فَأَمَّا الَّذِينَ الْتَزَمُوا أَنْ يَكُونَ حَرْفُ كَلَّا لِلرَّدْعِ وَالزَّجْرِ وَهُمُ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورُ نُحَاةِ الْبَصْرَة ويجيزون الْوَقْف عَلَيْهَا كَمَا يُجِيزُونَ الِابْتِدَاءَ بِهَا، فَقَدَ تَأَوَّلُوا هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا أَشْبَهَهَا بِتَوْجِيهِ الْإِنْكَارِ إِلَى مَا يومىء إِلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ أَوِ اللَّاحِقُ دُونَ صَرِيحِهِ وَلَا مَضْمُونِهِ.
فَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الرَّدْعَ مُتَوَجِّهًا إِلَى مَا قَبْلَ كَلَّا ممّا يومىء إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ [عبس: ٢٢]، أَيْ إِذَا شَاءَ الله، إِذْ يومىء إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ يُنْكِرُ أَنْ يَنْشُرَهُ اللَّهُ


الصفحة التالية
Icon