وَقَوْلِ شَاعِرِهِمْ:
أَحْلَامُ عَادٍ وَأَجْسَامٌ مُطَهَّرَةٌ... وَقَوْلِ آخَرَ:

تَرَاهُ يَطُوفُ الْآفَاقَ حِرْصًا لِيَأْكُلَ رَأْسَ لُقْمَانَ بْنِ عَادِ
وَلَكِنَّهُمْ لَا يَأْبَهُونَ بِذِكْرِ قِصَصِ الْأُمَمِ الَّتِي هِيَ مَوَاضِعُ الْعِبْرَةِ، فَجَاءَ الْقُرْآنُ بِالْكَثِيرِ مِنْ ذَلِكَ تَفْصِيلًا كَقَوْلِهِ: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ [الْأَحْقَاف: ٢١] وَكَقَوْلِهِ:
فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: ١٣] وَلِهَذَا يَقِلُّ فِي الْقُرْآنِ التَّعَرُّضُ إِلَى تَفَاصِيلِ أَخْبَارِ الْعَرَبِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ عِنْدَهُمْ مَعْلُومٌ لَدَيْهِمْ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ قَلِيلٌ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ عَلَى مَعْنَى الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ بِخَبَرِ عَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ تُبَّعٍ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّابِعَةِ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ إِعْجَازِهِ الْعِلْمِيِّ فَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَكْفِي لِإِدْرَاكِهِ فَهْمُهُ وَسَمْعُهُ، وَقِسْمٌ يُحْتَاجُ إِدْرَاكُ وَجْهِ إِعْجَازِهِ إِلَى الْعِلْمِ بِقَوَاعِدِ الْعُلُومِ فَيَنْبَلِجُ لِلنَّاسِ شَيْئًا فَشَيْئًا انْبِلَاجَ أَضْوَاءِ الْفَجْرِ عَلَى حَسَبِ مَبَالِغِ الْفُهُومِ وَتَطَوُّرَاتِ الْعُلُومِ، وَكِلَا الْقِسْمَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّهُ جَاءَ بِهِ أُمِّيٌّ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يُعَالِجْ أَهْلُهُ دَقَائِقَ الْعُلُومِ، وَالْجَائِي بِهِ ثَاوٍ بَيْنَهُمْ لَمْ يُفَارِقْهُمْ. وَقَدْ أَشَارَ الْقُرْآنُ إِلَى هَذِهِ الْجِهَةِ مِنَ الْإِعْجَازِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: [٤٩- ٥٠] قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ ثُمَّ إِنَّهُ مَا كَانَ قَصَارَاهُ مُشَارَكَةَ أَهْلِ الْعُلُومِ فِي عُلُومِهِمُ الْحَاضِرَةِ، حَتَّى ارْتَقَى إِلَى مَا لَمْ يَأْلَفُوهُ وَتَجَاوَزَ مَا دَرَسُوهُ وَأَلَّفُوهُ.
قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٢٧] :
«كَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ إِنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَلْفَاظٍ يَفْهَمُهَا الْعَوَامُّ وَأَلْفَاظٍ يَفْهَمُهَا الْخَوَاصُّ وَعَلَى مَا يَفْهَمُهُ الْفَرِيقَانِ وَمِنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّ الْإِيلَاجَ يَشْمَلُ الْأَيَّامَ الَّتِي لَا يُدْرِكُهَا إِلَّا الْخَوَاصُّ وَالْفُصُولَ الَّتِي يُدْرِكُهَا سَائِرُ الْعَوَامِّ» أَقُولُ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الْأَنْبِيَاء: ٣٠].
فَمِنْ طُرُقِ إِعْجَازِهِ الْعِلْمِيَّةِ أَنَّهُ دَعَا لِلنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، قَالَ فِي «الشِّفَاءِ» :«وَمِنْهَا جَمْعُهُ لِعُلُومٍ وَمَعَارِفَ لَمْ تُعْهَدْ لِلْعَرَبِ، وَلَا يُحِيطُ بِهَا أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَمِ، وَلَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا كِتَابٌ مِنْ كُتُبِهِمْ فَجَمَعَ فِيهِ مِنْ بَيَانِ عَلَمِ الشَّرَائِعِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى طَرْقِ الْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالرَّدِّ عَلَى فِرَقُُِ
وَالْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ الْمَجْرُورِ بِفِي يُحْتَمَلُ أَنَّهُ الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ: نَزَّلَ الْكِتابَ فَهُوَ الْقُرْآنُ فَيَكُونُ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِيُنَاسِبَ اسْتِقْلَالَ جُمْلَةِ التَّذْيِيلِ بِذَاتِهَا وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِاخْتَلَفُوا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا مَعَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَوِ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَصِفُونَ بِهِ الْقُرْآنَ مِنْ تَكْذِيبٍ بِهِ كُلِّهِ أَوْ تَكْذِيبِ مَا لَا يُوَافِقُ هَوَاهُمْ وَتَصْدِيقِ مَا يُؤَيِّدُ كُتُبَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكِتَابِ الْمَجْرُورِ بِفِي هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَنْصُوبِ فِي قَوْلِهِ:
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ [الْبَقَرَة: ١٧٤] يَعْنِي التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ أَيِ اخْتَلَفُوا فِي الَّذِي يقرّونه وَالَّذِي يُغَيِّرُونَهُ وَفِي الْإِيمَانِ بِالْإِنْجِيلِ وَالْإِيمَانِ بِالتَّوْرَاةِ، وَمِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ مَا يَشْمَلُ الْمُشْرِكِينَ وَأَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ هُوَ اخْتِلَافَ مَعَاذِيرِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ إِذْ قَالُوا: سِحْرٌ أَوْ شِعْرٌ أَوْ كِهَانَةٌ أَوْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. لَكِنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمِنَ الْمُحْتَمَلِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْجِنْسَ أَيِ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي كُتُبِ اللَّهِ فَآمَنُوا بِبَعْضِهَا وَكَفَرُوا بِالْقُرْآنِ.
وَفَائِدَةُ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ فِي قَوْلِهِ: الْكِتابَ أَنْ يَكُونَ التَّذْيِيلُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ لِجَرَيَانِهِ مَجْرَى الْمَثَلِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ
مُتَفَاوِتَةُ الْبُعْدِ.
وَوَصْفُ الشِّقَاقِ بِالْبَعِيدِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ أَيْ بِعِيدٌ صَاحِبُهُ عَنِ الْوِفَاقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ [هود: ١١٨].
[١٧٧]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٧٧]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَمَا رَوَاهُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ حَدِيثٌ وَاحِدٌ، سَمِعَهُ كِلَاهُمَا، وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَتُهُمَا فِي حِكَايَتِهِ فَيَكُونُ لَفْظُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مُبَيِّنًا لَفْظَ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا دُونَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا، أَيْ دُونَ أَنْ يَسْتَشْهِدَهُمْ مُشْهِدٌ، أَيْ أَنْ يَحْمِلُوا شَهَادَةً أَيْ يَشْهَدُونَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ، وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ الْمَازِرِيُّ بِقَوْلِهِ: وَحَمَلُوا مَا فِي الْحَدِيثِ- أَيْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- عَلَى مَا إِذَا شَهِدَ كَاذِبًا. فَهَذَا طَرِيقٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ
الرِّوَايَتَيْنِ، وَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى حَمْلِ الْمُجْمَلِ عَلَى الْمُبَيَّنِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: تَأَوَّلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ ذَمَّ الشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا الشَّاهِدُ هُوَ فِي الشَّهَادَةِ بِحُقُوقِ النَّاسِ بِخِلَافِ مَا فِيهِ حَقُّ اللَّهِ قَالَ النَّوَوِيُّ: «وَهَذَا الْجَمْعُ هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا» وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ تَرْجِعُ إِلَى إِعْمَالِ كُلٍّ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ فِي بَابٍ، بِتَأْوِيلِ كُلٍّ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ لِئَلَّا يُلْغَى أَحَدُهُمَا.
قُلْتُ: وَبَنَى عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ فَرْعًا بِرَدِّ الشَّهَادَةِ الَّتِي يُؤَدِّيهَا الشَّاهِدُ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا، ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي «الْوَجِيزِ»، وَالَّذِي نَقَلَ ابْنُ مَرْزُوقٍ فِي «شَرْحِ مُخْتَصر خَلِيل عَن الْوَجِيزِ» «الْحِرْصُ عَلَى الشَّهَادَةِ بِالْمُبَادَرَةِ قَبْلَ الدَّعْوَى لَا تُقْبَلُ، وَبَعْدَ الدَّعْوَى وَقَبْلَ الِاسْتِشْهَادِ وَجْهَانِ فَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ فَهَلْ يَصِيرُ مَجْرُوحًا وَجْهَانِ».
فَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدِ اخْتَلَفَ كَلَامُهُمْ.
فَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ عِيَاضٌ وَابْنُ مَرْزُوقٍ أَنَّ أَدَاءَ الشَّاهِدِ شَهَادَتَهُ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا مَقْبُولٌ
لِحَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» «خَيْرُ الشُّهَدَاءِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا»
وَنَقَلَ الْبَاجِيُّ عَنْ مَالِكٍ: «أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الشَّاهِدِ شَهَادَةٌ لِرَجُلٍ لَا يَعْلَمُ بِهَا، فَيُخْبِرُهُ بِهَا، وَيُؤَدِّيهَا لَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ» فَإِنَّ مَالِكًا ذَكَرَهُ فِي «الْمُوَطَّأِ» وَلَمْ يُذَيِّلْهُ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا عَمَلَ عَلَيْهِ- وَتَبِعَ الْبَاجِيَّ ابْنُ مَرْزُوقٍ فِي «شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ خَلِيلٍ»، وَادَّعَى أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي الْمَذْهَبِ مَا يُخَالِفُهُ وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَخَلِيلٌ، وَشَارِحُو مُخْتَصَرَيْهِمَا: أَنَّ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُطْلَبَ مِنَ الشَّاهِدِ أَدَاؤُهَا مَانِعٌ مِنْ قَبُولِهَا: قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ «وَفِي الْأَدَاءِ يُبْدَأُ بِهِ دُونَ طَلَبٍ فِيمَا تَمَحَّضَ مِنْ حَقِّ الْآدَمِيِّ قَادِحَةٌ» وَقَالَ خَلِيلٌ- عَاطِفًا عَلَى مَوَانِعِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ-: «أَوْ رَفَعَ قَبْلَ الطَّلَبِ فِي مَحْضِ حَقِّ الْآدَمِيِّ».
بِذَلِكَ إِلَى إِلْقَاءِ تَبِعَةِ الْهَزِيمَةِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُخْلِفْهُمْ وَعْدَهُ، وَلَكِنَّ سُوءَ صَنِيعِهِمْ أَوْقَعَهُمْ فِي الْمُصِيبَةِ كَقَوْلِهِ: وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النِّسَاء: ٧٩].
وَصِدْقُ الْوَعْدِ: تَحْقِيقُهُ وَالْوَفَاءُ بِهِ، لِأَنَّ مَعْنَى الصِّدْقِ مُطَابَقَةُ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ، وَقَدْ عُدِّيَ صَدَقَ هُنَا إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَحَقُّهُ أَنْ لَا يَتَعَدَّى إِلَّا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى- فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [٢٣]-: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ- يُقَالُ: صَدَقَنِي أَخُوكَ وَكَذَبَنِي إِذَا قَالَ لَكَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَأَمَّا الْمَثَلُ (صَدَقَنِي سِنَّ بَكْرِهِ) فَمَعْنَاهُ صَدَقَنِي فِي سِنِّ بَكْرِهِ بِطَرْحِ الْجَارِّ وَإِيصَالِ الْفِعْلِ. فَنُصِبَ وَعْدَهُ هُنَا عَلَى الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، وَأَصْلُ الْكَلَامِ صَدَقَكُمْ فِي وَعْدِهِ، أَوْ عَلَى تَضْمِينِ صَدَقَ مَعْنَى أَعْطَى.
وَالْوَعْدُ هُنَا وَعْدُ النَّصْرِ الْوَاقِعِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [مُحَمَّد: ٧] أَوْ بِخَبَرٍ خَاصٍّ فِي يَوْمِ أُحُدٍ.
وَإِذْنُ اللَّهِ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ وتيسير الْأَسْبَاب.
و (إِذْ) فِي قَوْلِهِ: إِذْ تَحُسُّونَهُمْ نَصْبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِقَوْلِهِ: صَدَقَكُمُ أَيْ: صَدَقَكُمُ اللَّهُ الْوَعْدَ حِينَ كُنْتُمْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْحِسَّ تَحْقِيقٌ لِوَعْدِ اللَّهِ إيّاهم بالنّصر، و (إِذْ) فِيهِ لِلْمُضِيِّ، وَأُتِيَ بَعْدَهَا بِالْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ التَّجَدُّدِ أَيْ لِحِكَايَةِ تَجَدُّدِ الْحَسِّ فِي الْمَاضِي.
وَالْحَسُّ- بِفَتْحِ الْحَاءِ- الْقَتْلُ أَطْلَقَهُ أَكْثَرُ اللُّغَوِيِّينَ، وَقَيَّدَهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِالْقَتْلِ الذَّرِيعِ، وَهُوَ أَصْوَبُ.
وَقَوْلُهُ: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ (حَتَّى) حَرْفُ انْتِهَاءٍ وَغَايَةٍ، يُفِيدُ أَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا غَايَةٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَالْمَعْنَى: إِذْ تَقْتُلُونَهُمْ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ، وَاسْتَمَرَّ قَتْلُكُمْ إِيَّاهُمْ إِلَى حُصُولِ الْفَشَلِ لَكُمْ والتنازع بَيْنكُم.
و (حتّى) هُنَا جارّة و (إِذا) مجرور بهَا.
وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَعَلَيْهِ تَكُونُ الْآيَةُ مِثَالًا ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ، تَحْذِيرًا لَهُمْ فِي الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٦].
وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ، وَهِيَ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ الْمَرْوِيَّةِ بَصَرِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَعَلَى بَعْضِهَا بَصَرِيَّةٌ تَنْزِيلِيَّةٌ، لِلْمُبَالَغَةِ فِي اشْتِهَارِ ذَلِكَ.
وَانْتَصَبَ خَشْيَةً عَلَى التَّمْيِيزِ لِنِسْبَةِ أَشَدَّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً وَقَدْ مَرَّ مَا فِيهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠٠].
وَالْجَوَابُ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ سَوَاءٌ كَانَ قَوْلُهُمْ لِسَانِيًّا وَهُوَ بَيِّنٌ، أَمْ كَانَ نَفْسِيًّا، لِيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَ رَسُولَهُ عَلَى مَا تُضْمِرُهُ نُفُوسُهُمْ، أَيْ أَنَّ التَّأْخِيرَ لَا يُفِيدُ وَالتَّعَلُّقَ بِالتَّأْخِيرِ لِاسْتِبْقَاءِ الْحَيَاةِ لَا يُوَازِي حَظَّ الْآخِرَةِ، وَبِذَلِكَ يَبْطُلُ مَا أَرَادُوا مِنَ الْفِتْنَةِ بِقَوْلِهِمْ: لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ.
وَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا مَوْقِعُ زِيَادَةِ التَّوْبِيخِ الَّذِي اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ، أَيْ وَلَا تُنْقَصُونَ شَيْئًا مِنْ أَعْمَارِكُمُ الْمَكْتُوبَةِ، فَلَا وَجْهَ لِلْخَوْفِ وَطَلَبِ تَأْخِيرِ فَرْضِ الْقِتَالِ وَعَلَى تَفْسِيرِ الْأَجَلِ فِي: لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ بِأَجَلِ الْعُمْرِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الْمُسْتَبْعَدُ، يَكُونُ مَعْنَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا تَغْلِيطَهُمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْقَتْلَ يُعَجِّلُ الْأَجَلَ، فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَقِيدَةً لِلْمُؤْمِنِينَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْمُخَاطَبِينَ قَبْلَ رُسُوخِ تَفَاصِيلِ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ عَقِيدَةَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْمُخَاطَبِينَ.
وَقِيلَ مَعْنَى نَفْيِ الظُّلْمِ هُنَا أَنَّهُمْ لَا يُظْلَمُونَ بِنَقْصِ ثَوَابِ جِهَادِهِمْ، فَيَكُونُ مَوْقِعُهُ مَوْقِعَ التَّشْجِيعِ لِإِزَالَةِ الْخَوْفِ، وَيَكُونُ نَصْبُهُ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يُظْلَمُونَ بِنَقْصِ أَقَلِّ زَمَنٍ مِنْ آجَالِهِمْ، وَيَجِيءُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَنْ يُجْعَلَ تُظْلَمُونَ بِمَعْنَى تُنْقَصُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الْكَهْف: ٣٣]، أَيْ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ مِنْ أُكُلِهَا، وَيَكُونُ فَتِيلًا مَفْعُولًا بِهِ، أَيْ لَا تُنْقَصُونَ مِنْ أَعْمَارِكُمْ سَاعَةً، فَلَا مُوجِبَ لِلْجُبْنِ.
فَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أُرِيدَ مِنْهَا تَأْكِيدُ شَرْعِ الْوُضُوءِ وَشَرْعِ التَّيَمُّمِ خَلَفًا عَنِ الْوُضُوءِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَسْبِقْ نُزُولُ قُرْآنٍ فِيهِ وَلَكِنَّهُ كَانَ مَشْرُوعًا بِالسُّنَّةِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوُضُوءَ كَانَ مَشْرُوعًا مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، فَقَدْ ثَبَتَ أنّ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ صَلَاةً إِلَّا بِوُضُوءٍ.
قَالَ أَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» «لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ، كَمَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْوُضُوءَ كَانَ مَفْعُولًا قَبْلَ نُزُولِهَا غَيْرَ مَتْلُوٍّ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّ الْوُضُوءَ كَانَ بِمَكَّةَ سُنَّةً، مَعْنَاهُ كَانَ بِالسُّنَّةِ. فَأَمَّا حُكْمُهُ فَلَمْ يَكُنْ قَطُّ إِلَّا فَرْضًا» وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ أنّ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَنَزَلَ جِبْرِيلُ ظُهْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ فَهَمَزَ بِعَقِبِهِ فَانْبَعَثَ مَاءٌ وَتَوَضَّأَ مُعَلِّمًا لَهُ وَتَوَضَّأَ هُوَ مَعَهُ فَصَلَّى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَرْوِهِ أَهْلُ الصَّحِيحِ وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْتَاجُوا إِلَيْهِ اه.
وَفِي «سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ» ثُمَّ انْصَرَفَ جِبْرِيلُ فَجَاءَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدِيجَةَ فَتَوَضَّأَ لَهَا لِيُرِيَهَا كَيْفَ الطُّهُورُ لِلصَّلَاةِ كَمَا أَرَاهُ جِبْرِيلُ اه. وَقَوْلُهُمْ: الْوُضُوءُ سُنَّةٌ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. وَقَدْ تَأَوَّلَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ وَلَمْ يَقُولُوا: آيَةُ الْوُضُوءِ لِمَعْرِفَتِهِمْ إِيَّاهُ قَبْلَ الْآيَةِ.
فَالْوُضُوءُ مَشْرُوعٌ مَعَ الصَّلَاةِ لَا مَحَالَةَ، إِذْ لَمْ يَذْكُرِ الْعُلَمَاءُ إِلَّا شَرْعَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَذْكُرُوا شَرْعَ الْوُضُوءِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَذِهِ الْآيَةُ قَرَّرَتْ حُكْمَ الْوُضُوءِ لِيَكُونَ ثُبُوتُهُ بِالْقُرْآنِ.
وَكَذَلِكَ الِاغْتِسَالُ فَهُوَ مَشْرُوعٌ مِنْ قَبْلُ، كَمَا شُرِعَ الْوُضُوءُ بَلْ هُوَ أَسْبَقُ مِنَ الْوُضُوءِ لِأَنَّهُ مِنْ بَقَايَا الْحَنِيفِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَعْرُوفَةً حَتَّى أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ وَضَّحْنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَلِذَلِكَ أُجْمِلَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ هُنَا وَهُنَالِكَ بِقَوْلِهِ هُنَا فَاطَّهَّرُوا، وَقَوله هُنَالك تَغْتَسِلُوا [النِّسَاء: ٤٣]، فَتَمَحَّضَتِ الْآيَةُ لِشَرْعِ التَّيَمُّمِ عِوَضًا عَنِ الْوُضُوءِ.
وَالنُّورِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الْأَعْرَاف: ١٨٩] فَإِنَّ الزَّوْجَ وَهُوَ الْأُنْثَى مُرَاعًى فِي إِيجَادِهِ أَنْ يَكُونَ تَكْمِلَةً لِخَلْقِ الذِّكْرِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: لِيَسْكُنَ إِلَيْها [الْأَعْرَاف: ١٨٩] وَالْخَلْقُ أَعَمُّ فِي الْإِطْلَاقِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النِّسَاء: ١] لِأَنَّ كُلَّ تَكْوِينٍ لَا يَخْلُو مِنْ تَقْدِيرٍ وَنِظَامٍ.
وَخَصَّ بِالذِّكْرِ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ عَرَضَيْنِ عَظِيمَيْنِ، وَهُمَا: الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ فَقَالَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ لِاسْتِوَاءِ جَمِيعِ النَّاسِ فِي إِدْرَاكِهِمَا وَالشُّعُورِ بِهِمَا. وَبِذِكْرِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ حَصَلَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى جِنْسَيِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ جَوَاهِرَ وَأَعْرَاضٍ. فَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ فِعْلِ (خَلَقَ) وَفِعْلِ (جَعَلَ) هُنَا مَعْدُودٌ مِنْ فَصَاحَةِ الْكَلِمَاتِ. وَإِنَّ لِكُلِّ كَلِمَةٍ مَعَ صَاحِبَتِهَا مَقَامًا، وَهُوَ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ الْأُدَبَاءِ بِرَشَاقَةِ الْكَلِمَةِ فَفِعْلُ (خَلَقَ) أَلْيَقُ بِإِيجَادِ الذَّوَاتِ، وَفِعْلُ (جَعَلَ) أَلْيَقُ بِإِيجَادِ أَعْرَاضِ الذَّوَاتِ وَأَحْوَالِهَا وَنِظَامِهَا.
وَالِاقْتِصَارُ فِي ذِكْرِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ تَعْرِيضٌ بِإِبْطَالِ عَقَائِدِ كُفَّارِ الْعَرَبِ فَإِنَّهُمْ بَيْنَ مُشْرِكِينَ وَصَابِئَةٍ وَمَجُوسٍ وَنَصَارَى، وَكُلُّهُمْ قَدْ أَثْبَتُوا آلِهَةً غَيْرَ اللَّهِ فَالْمُشْرِكُونَ أَثْبَتُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ، وَالصَّابِئَةُ أَثْبَتُوا آلِهَةً مِنَ الْكَوَاكِبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَالنَّصَارَى أَثْبَتُوا إِلَهِيَّةَ عِيسَى أَوْ عِيسَى وَمَرْيَمَ وَهُمَا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الْأَرْضِيَّةِ، وَالْمَجُوسُ وَهُمُ الْمَانَوِيَّةُ أَلَّهُوا النُّورَ وَالظُّلْمَةَ، فَالنُّورُ إِلَهُ الْخَيْرِ وَالظُّلْمَةُ إِلَهُ الشَّرِّ عِنْدَهُمْ. فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ خَالِقُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَي بِمَا فيهم، وَخَالِقُ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ.
ثُمَّ إِنَّ فِي إِيثَارِ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَعْرَاضِ إِيمَاءً وَتَعْرِيضًا بِحَالَيِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْآيَةِ مِنْ كُفْرِ فَرِيقٍ وَإِيمَانِ فَرِيقٍ، فَإِنَّ الْكُفْرَ يُشْبِهُ الظُّلْمَةَ لِأَنَّهُ انْغِمَاسٌ فِي جَهَالَةٍ وَحَيْرَةٍ، وَالْإِيمَانُ يُشْبِهُ النُّورَ لِأَنَّهُ اسْتِبَانَةُ الْهُدَى وَالْحَقِّ. قَالَ تَعَالَى: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الْبَقَرَة: ٢٥٧]. وَقَدَّمَ ذِكْرَ الظُّلُمَاتِ مُرَاعَاةً لِلتَّرَتُّبِ فِي الْوُجُودِ لِأَنَّ الظُّلْمَةَ سَابِقَةٌ النُّورَ، فَإِنَّ النُّورَ حَصَلَ بَعْدَ خَلْقِ الذَّوَاتِ الْمُضِيئَةِ، وَكَانَتِ الظُّلْمَةُ عَامَّةً.
وَإِنَّمَا جَمَعَ الظُّلُماتِ وَأَفْرَدَ النُّورَ اتِّبَاعًا لِلِاسْتِعْمَالِ، لِأَنَّ لَفْظَ (الظُّلُمَاتِ) بِالْجَمْعِ أَخَفُّ، وَلَفْظَ (النُّورِ) بِالْإِفْرَادِ أَخَفُّ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَرِدْ لَفْظُ (الظُّلُمَاتِ) فِي الْقُرْآنِ إِلَّا جَمْعًا
مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ لِمَا فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى تَضْلِيلِ الَّذِينَ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، أَوْ عَلَى بَعْضِهِمُ، الْأَكْلَ مِنْ بَعْضِهَا، فَعَطَّلُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بَعْضًا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ.
وَمَعْنَى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ النّهي عَن شؤون الشِّرْكِ فَإِنَّ أَوَّلَ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فِي هَذَا الْغَرَضِ هِيَ تَسْوِيلُهُ لَهُمْ تَحْرِيمَ بَعْضِ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
وَخُطُوَاتُ الشَّيْطَانِ تَمْثِيلٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٨].
وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، وَمَوْقِعُ (إِنَّ) فِيهِ يُغْنِي عَنْ فَاءِ التَّفْرِيعِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي آيَة الْبَقَرَة.
[١٤٣، ١٤٤]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : الْآيَات ١٤٣ إِلَى ١٤٤]
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
اللَّهِ الْجُثْمَانِيَّةِ مَا يَنَالُهُ غَيْرُهُمْ، فَيُغَاثُونَ بِالْمَطَرِ، وَيَأْتِيهِمُ الرِّزْقُ مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا بَيَانٌ لِحَالِ خُذْلَانِهِمْ فِي الدُّنْيَا الْحَائِلِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ وَسَائِلِ دُخُولِ الْجَنَّةِ. كَمَا
قَالَ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»
وَقَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى [اللَّيْل: ٥- ١٠].
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ: لَا تُفَتَّحُ- بِضَمِّ التَّاءِ الْأُولَى وَفَتْحِ الْفَاءِ وَالتَّاءُ الثَّانِيَةُ مُشَدَّدَةٌ- وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي فَتْحٍ، فَيُفِيدُ تَحْقِيقَ نَفْيِ الْفَتْحِ لَهُمْ، أَوْ أُشِيرَ بِتِلْكَ الْمُبَالَغَةِ إِلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ فَتْحٌ مَخْصُوصٌ وَهُوَ الْفَتْحُ الَّذِي يُفْتَحُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ فَتْحٌ قَوِيٌّ، فَتَكُونُ تِلْكَ الْإِشَارَةُ زِيَادَةً فِي نِكَايَتِهِمْ.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو- بِضَمِّ التَّاءِ الْأُولَى وَسُكُونِ الْفَاءِ وَفَتْحِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ مُخَفَّفَةً-. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ لَا يَفْتَحُ- بِمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ مَعَ تَخْفِيفِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ مَفْتُوحَةً- عَلَى اعْتِبَارِ تَذْكِيرِ الْفِعْلِ لِأَجْلِ كَوْنِ الْفَاعِلِ جَمْعًا لِمُذَكَّرٍ.
وَقَوْلُهُ: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَتَحْقِيقٌ لِخُلُودِهِمْ فِي النَّارِ.
وَبَعْدَ أَنْ حَقَّقَ ذَلِكَ بِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ كُلِّهِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ، زِيدَ تَأْكِيدًا بِطَرِيقِ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ، الْمُشْتَهَرِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَيَانِ بِتَأْكِيدِ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ فَقَدْ جَعَلَ لِانْتِفَاءِ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ امْتِدَادًا مُسْتَمِرًّا، إِذْ جَعَلَ غَايَتَهُ شَيْئًا مُسْتَحِيلًا، وَهُوَ أَنْ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، أَيْ لَوْ كَانَتْ لِانْتِفَاءِ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ غَايَةٌ لَكَانَتْ غَايَتُهُ وُلُوجَ الْجَمَلِ- وَهُوَ الْبَعِيرُ- فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، وَهُوَ أَمْرٌ لَا يَكُونُ أَبَدًا.
وَالْجَمَلُ: الْبَعِيرُ الْمَعْرُوفُ لِلْعَرَبِ، ضُرِبَ بِهِ الْمَثَلُ لِأَنَّهُ أَشْهَرُ الْأَجْسَامِ فِي الضَّخَامَةِ فِي عُرْفِ الْعَرَبِ. وَالْخِيَاطُ هُوَ الْمِخْيَطُ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- وَهُوَ
الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَالتَّعْرِيضِ بِطَلَبِ اسْتِبْقَائِهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ، وَلَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِي الِاعْتِذَارِ لِقَوْمِهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ الَّذِي هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ فِتْنَتُكَ فَالْإِضْلَالُ بِهَا حَالٌ مِنْ أَحْوَالِهَا.
ثُمَّ عَرَّضَ بِطَلَبِ الْهِدَايَةِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ وَالْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ بِها مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ تُضِلُّ وَحْدَهُ وَلَا يَتَنَازَعُهُ مَعَهُ فِعْلُ تَهْدِي لِأَنَّ الْفِتْنَةَ لَا تَكُونُ سَبَبَ هِدَايَةٍ بِقَرِينَةِ تَسْمِيَتِهَا فِتْنَةً، فَمَنْ قَدَّرَ فِي التَّفْسِيرِ: وَتَهْدِي بِهَا أَوْ نَحْوَهُ، فَقَدْ غَفَلَ.
وَالْبَاءُ: إِمَّا لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ تُضِلُّ مَنْ تَشَاءُ مُلَابِسًا لَهَا، وَإِمَّا لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ تُضِلُّ بِسَبَبِ تِلْكَ الْفِتْنَةِ، فَهِيَ مِنْ جِهَةٍ فِتْنَةٌ، وَمِنْ جِهَةٍ سَبَبُ ضَلَالٍ.
وَالْفِتْنَةُ مَا يَقَعُ بِهِ اضْطِرَابُ الْأَحْوالِ، وَمَرَجُهَا، وَتَشَتُّتُ الْبَالِ، وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠٢]. وَقَوْلِهِ: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٧١] وَقَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٢٣].
وَالْقَصْدُ مِنْ جُمْلَةِ: أَنْتَ وَلِيُّنا الِاعْتِرَافُ بِالِانْقِطَاعِ لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، تَمْهِيدًا لِمَطْلَبِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْوَلِيِّ أَنْ يَرْحَمَ مَوْلَاهُ وَيَنْصُرَهُ.
وَالْوَلِيُّ: الَّذِي لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى أَحَدٍ، وَالْوِلَايَةُ حَلْفٌ أَوْ عِتْقٌ يَقْتَضِي النُّصْرَةَ وَالْإِعَانَةَ، فَإِنْ كَانَ مِنْ جَانِبَيْنِ مُتَكَافِئَيْنِ فَكِلَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ يُقَالُ لَهُ مَوْلًى، وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ أَقْوَى قِيلَ لِلْقَوِيِّ (وَلِيٌّ) وَلِلضَّعِيفِ (مَوْلًى) وَإِذْ قَدْ كَانَتِ الْوِلَايَةُ غَيْرَ قَابِلَةٍ لِلتَّعَدُّدِ، لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَتَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ، كَانَ قَوْلُهُ: أَنْتَ وَلِيُّنا مُقْتَضِيًا عَدَمَ الِانْتِصَارِ بِغَيْرِ اللَّهِ. وَفِي صَرِيحِهِ صِيغَةُ قَصْرٍ.
وَالتَّفْرِيعُ عَنِ الْوِلَايَةِ فِي قَوْلِهِ: فَاغْفِرْ لَنا تَفْرِيعُ كَلَامٍ عَلَى كَلَامٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْوَلِيَّ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْغُفْرَانُ.
وَقَدَّمَ الْمَغْفِرَةَ عَلَى الرَّحْمَةِ لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ سَبَبٌ لِرَحَمَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ تَنْهِيةٌ لِغَضَبِ اللَّهِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الذَّنْبِ، فَإِذَا انْتَهَى الْغَضَبُ تَسَنَّى أَنْ يَخْلُفَهُ الرِّضَا. وَالرِّضَا يَقْتَضِي الْإِحْسَانَ.
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ إِثْبَاتَ الِاعْتِدَاءِ الْعَظِيمِ لَهُمْ، نَشَأَ عَنِ الْحِقْدِ، الشَّيْءِ الَّذِي أَضْمَرُوهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، لَا لِشَيْءٍ إِلَّا لِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج: ٨].
وَالْقَصْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي اعْتِدَائِهِمْ، لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَظِيمٌ بَاطِنِيٌّ عَلَى قَوْمٍ حَالَفُوهُمْ وَعَاهَدُوهُمْ، وَلَمْ يلْحقُوا بهم ضرّ مَعَ تَمَكُّنِهِمْ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَصْرَ قَلْبٍ، أَيْ: هُمُ الْمُعْتَدُونَ لَا أَنْتُم لأنّهم بدأوكم بِنَقْضِ الْعَهْدِ فِي قَضِيَّةِ خُزَاعَةَ وَبَنِي الدِّيلِ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ مِمَّا كَانَ سَبَبًا فِي غَزْوَة الْفَتْح.
[١١]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ١١]
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١)
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ.
تَفْرِيعُ حُكْمٍ عَلَى حُكْمٍ لِتَعْقِيبِ الشِّدَّةِ بِاللِّينِ إِنْ هُمْ أَقْلَعُوا عَنْ عَدَاوَةِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ لِقَصْدِ مَحْوِ أَثَرِ الْحَنَقِ عَلَيْهِمْ إِذَا هُمْ أَسْلَمُوا أَعْقَبَ بِهِ جُمْلَةَ: إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ- إِلَى قَوْلِهِ- الْمُعْتَدُونَ [التَّوْبَة: ٩، ١٠] تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى أَنَّ تَدَارُكَهُمْ أَمْرَهُمْ هَيِّنٌ عَلَيْهِمْ، وَفَرَّعَ عَلَى التَّوْبَةِ أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ إِخْوَانًا لِلْمُؤْمِنِينَ. وَلَمَّا كَانَ الْمَقَامُ هُنَا لِذِكْرِ عَدَاوَتِهِمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ جُعِلَتْ تَوْبَتُهُمْ سَبَبًا لِلْأُخُوَّةِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، بِخِلَافِ مَقَامِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التَّوْبَة: ٥] حَيْثُ إِنَّ الْمُعَقَّبَ بِالتَّوْبَةِ هُنَالِكَ هُوَ الْأَمْرُ بِقِتَالِهِمْ وَالتَّرَصُّدِ لَهُمْ، فَنَاسَبَ أَنْ يُفَرَّعَ عَلَى تَوْبَتِهِمْ عَدَمُ التَّعَرُّضِ لَهُمْ بِسُوءٍ. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ تَوْبَتَهُمْ تُوجِبُ أَمْنَهُمْ وَأُخُوَّتَهُمْ.
وَمِنْ لَطَائِفِ الْآيَتَيْنِ أَنْ جُعِلَتِ الْأُخُوَّةُ مَذْكُورَةً ثَانِيًا لِأَنَّهَا أَخَصُّ الْفَائِدَتَيْنِ مِنْ تَوْبَتِهِمْ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُؤَكِّدَةً لِأُخْتِهَا فِي أَصْلِ الْحُكْمِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِخْوانُكُمْ خَبَرٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ: فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ. وَصِيغَ هَذَا الْخَبَرُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ: لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ يَقْتَضِي ثَبَاتَ الْأُخُوَّةِ وَدَوَامَهَا، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ يَعُودُونَ كَالْمُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ مِنْ قَبْلُ فِي أَصْلِ الْأُخُوَّةِ الدِّينِيَّةِ.
(١٩)
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جملَة يَعْبُدُونَ [يُونُس: ١٨] وَجُمْلَة: وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [يُونُس: ٢٠]. وَمُنَاسَبَةُ الِاعْتِرَاضِ قَوْلُهُ: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لَا يَعْلَمُ لِأَنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَاخْتِرَاعَ صِفَةِ الشَّفَاعَةِ لَهَا هُوَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الَّذِي أَحْدَثَهُ ضُلَّالُ الْبَشَرِ فِي الْعَقِيدَةِ السَّلِيمَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَيْهَا فِي أَوَّلِ النَّشْأَةِ، فَهِيَ مِمَّا يَشْمَلُهُ التَّوْبِيخُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ:
أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لَا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [يُونُس: ١٨].
وَصِيغَةُ الْقَصْرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَأْكِيدِ الْخَبَرِ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُهِمٌّ عَجِيبٌ هُوَ مِنَ الْحِكَمِ الْعُمْرَانِيَّةِ وَالْحَقَائِقِ التَّارِيخِيَّةِ بِالْمَكَانِ الْأَسْمَى، إِذِ الْقَصْرُ تَأْكِيدٌ عَلَى تَأْكِيدٍ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى صِيغَتَيْ إِثْبَاتٍ لِلْمُثْبَتِ وَنَفْيٍ عَمَّا عَدَاهُ، فَهُوَ أَقْوَى مِنْ تَأْكِيدِ رَدِّ الْإِنْكَارِ، وَلِذَلِكَ يُؤْذِنُ بِرَدِّ إِنْكَارٍ شَدِيدٍ.
وَحَسَّنَ الْقَصْرَ هُنَا وُقُوعُهُ عَقِبَ الْجِدَالِ مَعَ الَّذِينَ غَيَّرُوا الدِّينَ الْحَقَّ وَرَوَّجُوا نِحْلَتَهُمْ بِالْمَعَاذِيرِ الْبَاطِلَةِ كَقَوْلِهِمْ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: ١٨]، وَقَوله: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣]، بِخِلَافِ آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٣] كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَإِنَّهَا وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ الْمُجَادَلَةِ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ لِقَوْلِهِ: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ [الْبَقَرَة: ٢١١] وَأَهْلُ الْكِتَابِ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً. فَآيَةُ هَذِهِ السُّورَةِ تُشِيرُ إِلَى الْوَحْدَةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنِ التَّفَرُّقِ الطَّارِئِ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارِ الِاخْتِلَافِ الْمُشْعِرِ بِالْمَذَمَّةِ وَالْمُعَقَّبِ بِالتَّخْوِيفِ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ إِلَى آخِرِهِ، وَآيَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ تُشِيرُ إِلَى الْوَحْدَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي تَجْمَعُهَا الْحَنِيفِيَّةُ الْفِطْرِيَّةُ، وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنِ التَّفَرُّقِ الَّذِي طَرَأَ عَلَيْهَا بِأَنَّ اللَّهَ بَعَثَ النَّبِيئِينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، ثُمَّ جَاءَ ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ عَرَضًا عَقِبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ
[الْبَقَرَة: ٢١٣]. وَأُرِيدَ بِهِ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَتْبَاعِ الشَّرَائِعِ لِقَوْلِهِ: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ [الْبَقَرَة: ٢١٣].
وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٣].
وَالنَّاسُ: اسْمُ جَمْعٍ لِلْبَشَرِ. وَتَعْرِيفُهُ لِلِاسْتِغْرَاقِ. وَالْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي لَهَا حَالٌ وَاحِدٌ فِي شَيْءٍ مَا.
وَالْإِشَارَةُ بِ هؤُلاءِ إِلَى بَناتِي. وبَناتِي بَدَلٌ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَالْإِشَارَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْعَرْضِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَخُذُوهُنَّ.
وَجُمْلَةُ هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ تَعْلِيلٌ لِلْعَرْضِ. وَمَعْنَى هُنَّ أَطْهَرُ أَنَّهُنَّ حَلَالٌ لَكُمْ يَحُلْنَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْفَاحِشَةِ، فَاسْمُ التَّفْضِيلِ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ قُصِدَ بِهِ قُوَّةُ الطَّهَارَةِ.
وهؤُلاءِ إِشَارَةٌ إِلَى جَمْعٍ، إِذْ بُيِّنَ بِقَولِهِ: بَناتِي.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا ابْنَتَانِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ إِطْلَاقَ الْبَنَاتِ هُنَا مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ هَؤُلَاءِ نِسَاؤُهُنَّ كَبَنَاتِي. وَأَرَادَ نِسَاءً مِنْ قَوْمِهِ بِعَدَدِ الْقَوْمِ الَّذِينَ جَاءُوا يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ. وَهَذَا مَعْنَى مَا فَسَّرَ بِهِ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِجَعْلِهِنَّ لِقَوْمِهِ إِذْ قَالَ: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ، فَإِنَّ قَوْمَهُ الَّذِينَ حَضَرُوا عِنْدَهُ كَثِيرُونَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: هَؤُلَاءِ النِّسَاءُ فَتَزَوَّجُوهُنَّ. وَهَذَا أَحْسَنُ الْمَحَامِلِ.
وَقِيلَ: أَرَادَ بَنَاتِ صُلْبِهِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ قَتَادَةَ. وَإِذْ كَانَ الْمَشْهُورُ أَنَّ لُوطًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَهُ ابْنَتَانِ صَارَ الْجَمْعُ مُسْتَعْمَلًا فِي الِاثْنَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاثْنَيْنِ تُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْجَمْعِ فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيم: ٤].
وَقِيلَ: كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ.
وَتَعْتَرِضُ هَذَا الْمَحْمَلَ عَقَبَتَانِ:
الْأُولَى: أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا عَدَدًا كَثِيرًا فَكَيْفَ تَكْفِيهِمْ بِنْتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ؟!.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ: هؤُلاءِ بَناتِي عَرْضٌ عَلَيْهِمْ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا، فَكَيْفَ كَانَتْ صِفَةُ هَذِهِ التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ الْبَنَاتِ وَهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ، فَإِنْ كَانَ تَزْوِيجًا لَمْ يَكْفِينَ الْقَوْمَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ تَزْوِيجٍ فَمَا هُوَ؟.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الْقَوْم الَّذين جاؤوه بِقَدْرِ عَدَدِ بَنَاتِهِ أَوْ أَنْ يَكُونَ مَعَ بَنَاتِهِ حَتَّى مِنْ قَوْمِهِ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفَ
فَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ مَا يَصْدُقُ عَلَى الْفَرِيقِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ.
وَمُنَاسَبَةُ عَطْفِهِ أَنَّ وَصْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ وَهُوَ عَهْدُ الطَّاعَةِ الدَّاخِلُ فِي قَوْلِهِ: وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ فِي سُورَةِ يس [٦١].
وَالْوَصْلُ: ضَمُّ شَيْءٍ لِشَيْءٍ. وَضِدُّهُ الْقَطْعُ. وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الْقُرْبِ وَضِدُّهُ الْهَجْرُ.
وَاشْتُهِرَ مَجَازًا أَيْضًا فِي الْإِحْسَانِ وَالْإِكْرَامِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ، صِلَةُ الرَّحِمِ، أَيِ الْإِحْسَانُ لِأَجْلِ الرَّحِمِ، أَيْ لِأَجْلِ الْقَرَابَةِ الْآتِيَةِ مِنَ الْأَرْحَامِ مُبَاشرَة أَو بواسط، وَذَلِكَ النَّسَبُ الْجَائِي مِنَ الْأُمَّهَاتِ. وَأُطْلِقَتْ عَلَى قَرَابَةِ النَّسَبِ مِنْ جَانِبِ الْآبَاءِ أَيْضًا لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو غَالِبًا مِنِ اشْتَرَاكٍ فِي الْأُمَّهَاتِ وَلَوْ بَعُدْنَ.
وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَوَاصِرِ وَالْعَلَائِقِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِالْمَوَدَّةِ وَالْإِحْسَانِ لِأَصْحَابِهَا. فَمِنْهَا آصِرَةُ الْإِيمَانِ، وَمِنْهَا آصِرَةُ الْقَرَابَةِ وَهِيَ صِلَةُ الرَّحِمِ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهَا مُرَادُ اللَّهِ هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦، ٢٧].
وَإِنَّمَا أُطْنِبَ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهَا بِطَرِيقَةِ اسْمِ الْمَوْصُولِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّ وَاصِلَهَا آتٍ بِمَا يُرْضِي اللَّهَ لِيَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى التَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَطَعُوا أَوَاصِرَ الْقَرَابَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَسَاءُوا إِلَيْهِمْ فِي كُلِّ حَالٍ وَكَتَبُوا صَحِيفَةَ الْقَطِيعَةِ مَعَ بَنِي هَاشِمٍ.
وَفِيهَا الثَّنَاءُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ يَصِلُونَ الْأَرْحَامَ وَلَمْ يُقَطِّعُوا أَرْحَامَ قَوْمِهِمُ الْمُشْركين إِلَّا عِنْد مَا حاربوهم وناووهم.
وَالْبَعْثُ: حَقِيقَتُهُ الْإِرْسَالُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ. وَيُطْلَقُ عَلَى إِثَارَةِ الْجَاثِمِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: بَعَثْتُ الْبَعِيرَ، إِذَا أَثَرْتُهُ مِنْ مَبْرَكِهِ. وَلَعَلَّهُ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الشَّيْءِ عَلَى سَبَبِهِ. وَقَدْ غَلَبَ الْبَعْثُ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ عَلَى إِحْضَارِ النَّاسِ إِلَى الْحِسَابِ بَعْدَ الْمَوْتِ. فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَيِّتًا فَبَعْثُهُ مِنْ جَدَثِهِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ حَيًّا فَصَادَفَتْهُ سَاعَةُ انْتِهَاءِ الدُّنْيَا فَمَاتَ سَاعَتَئِذٍ فَبَعْثُهُ هُوَ إِحْيَاؤُهُ عَقِبَ الْمَوْتِ، وَبِذَلِكَ لَا يُعَكَّرُ إِسْنَادُ نَفْيِ الشُّعُورِ بِوَقْتِ الْبَعْثِ عَنِ الْكُفَّارِ الْأَحْيَاءِ الْمُهَدَّدِينَ. وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ يَشْعُرُونَ عَائِدًا إِلَى الَّذِينَ تَدْعُونَ، أَيِ الْأَصْنَامِ.
وأَيَّانَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الزَّمَانِ. مُرَكَّبَةٌ مِنْ (أَيٍّ) وَ (آنٍ) بِمَعْنَى أَيُّ زَمَنٍ، وَهِيَ مُعَلِّقَةٌ لِفِعْلِ يَشْعُرُونَ عَنِ الْعَمَلِ بِالِاسْتِفْهَامِ، وَالْمَعْنَى: وَمَا يَشْعُرُونَ بِزَمَنِ بَعْثِهِمْ. وَتَقَدَّمَ أَيَّانَ فِي قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها فِي سُورَة الْأَعْرَاف [١٨٧].
[٢٢، ٢٣]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٢٢ إِلَى ٢٣]
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣)
اسْتِئْنَافُ نَتِيجَةٍ لِحَاصِلِ الْمُحَاجَّةِ الْمَاضِيَةِ، أَيْ قَدْ ثَبَتَ بِمَا تَقَدَّمَ إِبْطَالُ إِلَهِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ، فَثَبَتَ أَنَّ لَكُمْ إِلَهًا وَاحِدًا لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلِكَوْنِ مَا مَضَى كَافِيًا فِي إِبْطَالِ إِنْكَارِهِمُ الْوَحْدَانِيَّةِ عَرِيَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الْمُؤَكِّدِ تَنْزِيلًا لحَال الْمُشْركين بعد مَا سَمِعُوا مِنَ الْأَدِلَّةِ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ يَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى: ِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ دَلِيلٌ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٣] خِطَابٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ.
مَعَادِنُ مِنَ الْحَدِيدِ.
وَكَانَ اسْتِعْمَالُ الْحَدِيدِ مِنَ الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ فَإِنَّ الطَّوْرَ الثَّانِي من أطور التَّارِيخِ يُعْرَفُ بِالْعَصْرِ الْحَدِيدِيِّ، أَيِ الَّذِي كَانَ الْبَشَرُ يَسْتَعْمِلُ فِيهِ آلَاتٍ مُتَّخَذَةً مِنَ الْحَدِيدِ، وَذَلِكَ مِنْ أَثَرِ صَنْعَةِ الْحَدِيدِ، وَذَلِكَ قَبْلَ عَصْرِ تَدْوِينِ التَّارِيخِ. وَالْعَصْرُ الَّذِي قَبْلَهُ يُعْرَفُ بِالْعَصْرِ الْحَجَرِيِّ.
وَقَدِ اتَّصَلَتْ بِتَعْيِينِ الزَّمَنِ الَّذِي ابْتُدِئَ فِيهِ صُنْعُ الْحَدِيدِ أَسَاطِيرُ وَاهِيَةٌ لَا يَنْضَبِطُ بِهَا تَارِيخُهُ. وَالْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ الْحَدِيدَ مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَ الْبَشَرِ قَبْلَ ابْتِدَاءِ كِتَابَةِ التَّارِيخِ وَلِكَوْنِهِ يَأْكُلُهُ الصَّدَأُ عِنْدَ تَعَرُّضِهِ لِلْهَوَاءِ وَالرُّطُوبَةِ لَمْ يَبْقَ مِنْ آلَاتِهِ الْقَدِيمَةِ إِلَّا شَيْءٌ قَلِيلٌ.
وَقَدْ وُجِدَتْ فِي (طِيبَةَ) : وَمَدَافِنِ الْفَرَاعِنَةِ فِي (مَنْفِيسَ) بِمِصْرَ صُوَرٌ عَلَى الْآثَارِ مَرْسُومٌ عَلَيْهَا: صُوَرُ خَزَائِنَ شَاحِذِينَ مُدَاهُمْ وَقَدْ صَبَغُوهَا فِي الصُّوَرِ بِاللَّوْنِ الْأَزْرَقِ لَوْنِ الْفُولَاذِ، وَذَلِكَ فِي الْقَرْنِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ قَبْلَ التَّارِيخِ الْمَسِيحِيِّ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي التَّوْرَاةِ وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةُ الذَّبِيحِ، وَقِصَّةُ اخْتِتَانِ إِبْرَاهِيمَ بِالْقَدُومِ. وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ السِّكِّينَ وَلَا الْقَدُّومَ كَانَتَا
مِنْ حَجَرِ الصَّوَّانِ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ بِآلَةِ الْحَدِيدِ، وَمِنَ الْحَدِيدِ تُتَّخَذُ السَّلَاسِلُ لِلْقَيْدِ، وَالْمَقَامِعُ لِلضَّرْبِ، وَسَيَأْتِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ فِي سُورَةِ الْحَج [٢١].
والخلق: يعْنى الْمَخْلُوقِ، أَيْ أَوْ خَلْقًا آخَرَ مِمَّا يُعَظِّمُ فِي نُفُوسِكُمْ عَنْ قَبُولِهِ الْحَيَاةَ وَيَسْتَحِيلُ عِنْدَكُمْ عَلَى اللَّهِ إِحْيَاؤُهُ مِثْلَ الْفُولَاذِ وَالنُّحَاسِ.
وَقَوْلُهُ: مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ صِفَةٌ خَلْقاً.
وَمَعْنَى يَكْبُرُ يَعْظُمُ وَهُوَ عِظَمٌ مَجَازِيٌّ بِمَعْنَى الْقَوِيِّ فِي نَوْعِهِ وَصِفَاتِهِ، وَالصُّدُورُ:
الْعُقُولُ، أَيْ مِمَّا تَعُدُّونَهُ عَظِيمًا لَا يَتَغَيَّرُ.
وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ الْمَرْدُودُ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الْإِسْرَاء: ٤٩]. وَالتَّقْدِيرُ: كُونُوا أَشْيَاءَ أَبْعَدَ عَنْ قَبُولِ الْحَيَاةِ مِنَ الْعِظَامِ وَالرُّفَاتِ.
وَخُصَّ مُوسَى بِعُنْوَانِ (الْمُخْلِصِ) عَلَى الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَزِيَّتُهُ، فَإِنَّهُ أَخْلَصَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ فَاسْتَخَفَّ بِأَعْظَمِ جَبَّارٍ وَهُوَ فِرْعَوْنُ، وَجَادَلَهُ مُجَادَلَةَ الْأَكْفَاءِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٨، ١٩] : قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ إِلَى قَوْله: قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ [الْقَصَص: ١٧]، فَكَانَ الْإِخْلَاصُ فِي أَدَاءِ أَمَانَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِيزَتَهُ. وَلِأَنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ لِكَلَامِهِ مُبَاشَرَةً قَبْلَ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ الْمَلَكَ بِالْوَحْيِ، فَكَانَ مُخْلَصًا بِذَلِكَ، أَيْ مُصْطَفًى، لِأَنَّ ذَلِكَ مَزِيَّتُهُ قَالَ تَعَالَى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه: ٤١].
وَالْجَمْعُ بَيْنَ وَصْفِ مُوسَى لِأَنَّهُ رَسُولٌ وَنَبِيءٌ. وَعُطِفَ نَبِيئًا عَلَى رَسُولًا مَعَ أَنَّ الرَّسُولَ بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ أَخَصُّ مِنَ النَّبِيءِ، فَلِأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الْمُرْسَلُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ لِيُبَلِّغَ إِلَى النَّاسِ فَلَا يَكُونُ الرَّسُولُ إِلَّا نَبِيئًا، وَأَمَّا النَّبِيءُ فَهُوَ الْمُنَبَّأُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ، فَإِذَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالتَّبْلِيغِ فَهُوَ نَبِيءٌ وَلَيْسَ رَسُولًا، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا هُنَا لِتَأْكِيدِ الْوَصْفِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ رِسَالَتَهُ بَلَغَتْ مَبْلَغًا قَوِيًّا، فَقَوْلُهُ نَبِيئًا تَأْكِيدٌ لَوَصْفِ رَسُولًا.
وَتَقَدَّمَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي لَفْظِ نَبِيئًا عِنْدَ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ.
وَجُمْلَةُ وَنادَيْناهُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً فَهِيَ مِثْلُهَا مُسْتَأْنَفَةٌ.
وَالنِّدَاءُ: الْكَلَامُ الدَّالُّ عَلَى طَلَبِ الْإِقْبَالِ، وَأَصْلُهُ: جَهْرُ الصَّوْتِ لِإِسْمَاعِ الْبَعِيدِ، فَأُطْلِقَ عَلَى طَلَبِ إِقْبَالِ أَحَدٍ مَجَازًا مُرْسَلًا، وَمِنْهُ
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ التَّعْرِيضُ بِطَلَبِ كَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُ بِدُونِ سُؤَالٍ فَجَعَلَ وَصْفَ نَفْسِهِ بِمَا يَقْتَضِي الرَّحْمَةَ لَهُ، وَوَصْفَ رَبِّهِ بِالْأَرْحَمِيَّةِ تَعْرِيضًا بِسُؤَالِهِ، كَمَا قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا كَفَاهُ عَنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ
وَكَوْنُ اللَّهِ تَعَالَى أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ لِأَنَّ رَحْمَتَهُ أَكْمَلُ الرَّحَمَاتِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ رَحِمَ غَيْرَهُ فَإِمَّا أَنْ يَرْحَمَهُ طَلَبًا لِلثَّنَاءِ فِي الدُّنْيَا أَوْ لِلثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ أَوْ دَفْعًا لِلرِّقَّةِ الْعَارِضَةِ لِلنَّفْسِ مِنْ مُشَاهَدَةِ مَنْ تَحِقُّ الرَّحْمَةُ لَهُ فَلَمْ يَخْلُ مِنْ قَصْدِ نَفْعٍ لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا رَحْمَتُهُ تَعَالَى عِبَادَهُ فَهِيَ خَلِيَّةٌ عَنِ اسْتِجْلَابِ فَائِدَةٍ لِذَاتِهِ الْعَلِيَّةِ.
وَلِكَوْنِ ثَنَاءِ أَيُّوبَ تَعْرِيضًا بِالدُّعَاءِ فَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْإِجَابَةِ، أَيِ اسْتَجَبْنَا دَعْوَتَهُ الْعُرْضِيَّةَ بِإِثْرِ كَلَامِهِ وَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ، إِشَارَةً إِلَى سُرْعَةِ كَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُ، وَالتَّعْقِيبُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، وَهُوَ مَا تَقْتَضِيهِ الْعَادَةُ فِي الْبُرْءِ وَحُصُولِ الرِّزْقِ وَوِلَادَةِ الْأَوْلَادِ.
وَالْكَشْفُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِزَالَةِ السَّرِيعَةِ. شُبِّهَتْ إِزَالَةُ الْأَمْرَاضِ وَالْأَضْرَارِ الْمُتَمَكِّنَةِ الَّتِي يُعْتَادُ أَنَّهَا لَا تَزُولُ إِلَّا بِطُولٍ بِإِزَالَةِ الْغِطَاءِ عَنِ الشَّيْءِ فِي السُّرْعَةِ.
وَالْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ مَقْصُودٌ مِنْهُ الْإِبْهَامُ. ثُمَّ تَفْسِيرُهُ بِ (مِنَ) الْبَيَانِيَّةِ لِقَصْدِ تَهْوِيلِ ذَلِكَ الضُّرِّ لِكَثْرَةِ أَنْوَاعِهِ بِحَيْثُ يَطُولُ عَدُّهَا. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النَّحْل: ٥٣] إِشَارَةً إِلَى تَكْثِيرِهَا. أَلَا تَرَى إِلَى مُقَابَلَتِهِ ضِدَّهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ [النَّحْل: ٥٣]، لِإِفَادَةِ أَنَّهُمْ يُهْرَعُونَ إِلَى اللَّهِ فِي أَقَلِّ ضُرٍّ وَيَنْسَوْنَ شُكْرَهُ عَلَى عَظِيمِ النِّعَمِ، أَيْ كَشَفْنَا مَا حَلَّ بِهِ مِنْ ضُرٍّ فِي جَسَدِهِ وَمَالِهِ فَأُعِيدَتْ صِحَّتُهُ وَثَرْوَتُهُ.
وَالْخَسَارَةُ: نُقْصَانُ مَالِ التِّجَارَةِ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٢]، وَقَوْلِهِ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَعْرَافِ [٩]. وَهِيَ هُنَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ خَيْبَتِهِمْ فِيمَا كَانُوا يَأْمَلُونَهُ مِنْ شَفَاعَةِ أَصْنَامِهِمْ وَأَنَّ لَهُمُ النَّجَاةَ فِي الْآخِرَةِ أَوْ مِنْ أَنَّهُمْ غَيْرُ صَائِرِينَ إِلَى الْبَعْثِ، فَكَذَّبُوا بِمَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ وَحَسِبُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَعَدُّوا لِأَنْفُسِهِمُ الْخَيْرَ فَوَجَدُوا ضِدَّهُ فَكَانَتْ نُفُوسُهُمْ مَخْسُورَةً كَأَنَّهَا تَلِفَتْ مِنْهُمْ. وَلِذَلِكَ نُصِبَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْمَفْعُولِ بِ خَسِرُوا. وَاسْمَا الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِ الْفَرِيقَيْنِ بِصِفَاتِهِمْ.
وَجُمْلَةُ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ.
وَمَعْنَى تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ تَحْرِقُ. وَاللَّفْحُ: شِدَّةُ إِصَابَةِ النَّارِ.
وَالْكَالِحُ: الَّذِي بِهِ الْكُلُوحُ وَهُوَ تَقَلُّصُ الشَّفَتَيْنِ وَظُهُورُ الْأَسْنَانِ مِنْ أَثَرِ تَقَطُّبِ أَعْصَابِ الْوَجْهِ عِنْدَ شدَّة الْأَلَم.
[١٠٥- ١٠٧]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ١٠٥ إِلَى ١٠٧]
أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧)
جُمْلَةُ أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ. وَهَذَا تَعَرُّضٌ لِبَعْضِ مَا يَجْرِي يَوْمَئِذٍ. وَالْآيَاتُ: آيَاتُ الْقُرْآنِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تُتْلى عَلَيْكُمْ وَقَوْلِهِ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ حَمْلًا عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ.
وَالتِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ فِي الْبَقَرَةِ [١٠٢]، وَقَوْلِهِ: إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً فِي سُورَةِ
الْأَنْفَالِ [٢]. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ.
وَالْغَلْبُ حَقِيقَتُهُ: الِاسْتِيلَاءُ وَالْقَهْرُ. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى التَّلَبُّسِ بِالشِّقْوَةِ دُونَ التَّلَبُّسِ بِالسَّعَادَةِ. وَمَفْعُولُ غَلَبَتْ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ شِقْوَتُنا لِأَنَّ الشِّقْوَةَ
الْمُحَاوَرَاتِ لِأَنَّهُ كَانَ الْمَقْصُودَ بِالْمُحَاوَرَةِ إِذْ هُمْ حَضَرُوا لِأَجْلِهِ.
وَوَقَعَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١١٥] قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قالَ أَلْقُوا، وَاخْتُصِرَ هُنَا تَخْيِيرُهُمْ مُوسَى فِي الِابْتِدَاءِ بِالْأَعْمَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ هُنَاكَ، فَقَوْلُ مُوسَى لَهُمْ أَلْقُوا الْمَحْكِيُّ هُنَا هُوَ أَمْرٌ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِمُ الْمُبْتَدِئِينَ بِالْإِلْقَاءِ لِتَعَقُّبِهِ إِبْطَالَ سِحْرِهِمْ بِمَا سَيُلْقِيهِ مُوسَى، كَمَا يَقُولُ صَاحِبُ الْجَدَلِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ
لِلْمُلْحِدِ: قَرِّرْ شُبْهَتَكَ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَدْحَضَهَا لَهُ. وَهَذَا عَضُدُ الدِّينِ فِي كِتَابِ «الْمَوَاقِفِ» يَذْكُرُ شُبَهَ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ قَبْلَ ذِكْرِ الْأَدِلَّةِ النَّاقِضَةِ لَهَا. وَتَقَدَّمَ الْإِلْقَاءُ آنِفًا. وَذُكِرَ هُنَا مَفْعُولُ أَلْقُوا وَاخْتُصِرَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَفِي كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتِخْفَافٌ بِمَا سَيُلْقُونَهُ لِأَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِصِيغَة الْعُمُومِ، أَيْ مَا تَسْتَطِيعُونَ إِلْقَاءَهُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ فِي السِّحْرِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ طه.
وَقُرِنَتْ حِكَايَة قَول السَّحَرَة بِالْوَاوِ خِلَافًا لِلْحِكَايَاتِ الَّتِي سَبَقَتْهَا لِأَنَّ هَذَا قَوْلٌ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْمُحَاوَرَةُ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ ابْتَدَءُوا بِهِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي السِّحْرِ اسْتِعَانَةً وَتَيَمُّنًا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ. فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِمْ بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ كَالْبَاءِ فِي «بِسْمِ اللَّهِ» أَرَادُوا التَّيَمُّنَ بِقُدْرَةِ فِرْعَوْنَ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَقِيلَ الْبَاءُ لِلْقَسَمِ: أَقْسَمُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ عَلَى أَنَّهُمْ يَغْلِبُونَ ثِقَةً مِنْهُمْ بِاعْتِقَادِ ضَلَالِهِمْ أَنَّ إِرَادَةَ فِرْعَوْنَ لَا يَغْلِبُهَا أَحَدٌ لِأَنَّهَا إِرَادَةُ آلِهَتِهِمْ. وَهَذَا الَّذِي نَحَّاهُ الْمُفَسِّرُونَ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَحْسَنُ لِأَنَّ الْجُمْلَتَيْنِ عَلَى مُقْتَضَاهُ تُفِيدَانِ فَائِدَتَيْنِ.
وَالْعِزَّةُ: الْقُدْرَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فِي سُورَة الْبَقَرَةِ [٢٠٦].
وَجُمْلَةُ: إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ اسْتِئْنَافُ إِنْشَاءٍ عَنْ قَوْلِهِمْ: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ: كَأَنَّ السَّامِعَ وَهُوَ مُوسَى أَوْ غَيْرُهُ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: مَاذَا يُؤَثِّرُ قَوْلُهُمْ بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ؟ فَيَقُولُونَ:
إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ، وَأَرَادُوا بِذَلِكَ إِلْقَاءَ الْخَوْفِ فِي نَفْسِ مُوسَى لِيَكُونَ مَا سَيُلْقِيهِ فِي نَوْبَتِهِ عَنْ خَوَرِ نَفْسٍ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْعَزِيمَةَ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ نَجَاحِ السِّحْرِ وَتَأْثِيرِهِ عَلَى النَّاظِرِينَ. وَقَدْ أَفَادَتْ جُمْلَةُ: إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمُؤَكِّدَاتِ مُفَادَ الْقسم.

[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٤٢]

وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢)
إِتْبَاعُهُمْ بِاللَّعْنَةِ فِي الدُّنْيَا جَعْلُ اللَّعْنَةِ مُلَازِمَةً لَهُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدَّرَ لَهُمْ هَلَاكًا لَا رَحْمَةَ فِيهِ، فَعَبَّرَ عَنْ تِلْكَ الْمُلَازَمَةِ بِالْإِتْبَاعِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ التَّابِعَ لَا يُفَارِقُ مَتْبُوعَهُ، وَكَانَت تِلْكَ عَاقِبَةُ تِلْكَ اللَّعْنَةِ إِلْقَاءَهُمْ فِي الْيَمِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِاللَّعْنَةِ لَعْنُ النَّاسِ إِيَّاهُمْ، يَعْنِي أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ يَلْعَنُونَهُمْ.
وَجَزَاؤُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ، وَالْمَقْبُوحُ الْمَشْتُومُ بِكَلِمَةِ (قُبِّحَ)، أَيْ قَبَّحَهُ اللَّهُ أَوِ النَّاسُ، أَيْ جَعَلَهُ قَبِيحًا بَيْنَ النَّاسِ فِي أَعْمَالِهِ أَيْ مَذْمُومًا، يُقَالُ: قَبَحَهُ بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ فَهُوَ مَقْبُوحٌ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَيُقَالُ: قَبَّحَهُ بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ إِذَا نَسَبَهُ إِلَى الْقَبِيحِ فَهُوَ مُقَبَّحٌ، كَمَا فِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ مِمَّا قَالَتِ الْعَاشِرَةُ: «فَعِنْدَهُ أَقُولُ فَلَا أُقَبَّحُ» أَيْ فَلَا يُجْعَلُ قَوْلِي قَبِيحًا عِنْدَهُ غَيْرَ مَرْضِيٍّ.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى الدُّنْيَا بِ هذِهِ لِتَهْوِينِ أَمْرِ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ لِلْآخِرَةِ.
وَالتَّخَالُفُ بَيْنَ صِيغَتَيْ قَوْلِهِ وَأَتْبَعْناهُمْ وَقَوْلِهِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ، لِأَنَّ اللَّعْنَةَ فِي الدُّنْيَا قَدِ انْتَهَى أَمْرُهَا بِإِغْرَاقِهِمْ، أَوْ لِأَنَّ لَعْنَ الْمُؤْمِنِينَ إِيَّاهُمْ فِي الدُّنْيَا يَكُونُ فِي أَحْيَانِ يَذْكُرُونَهُمْ، فَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ لَا يَقْتَضِي الدَّوَامَ فَجِيءَ مَعَهُ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ. وَأَمَّا تَقْبِيحُ حَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهُوَ دَائِمٌ مَعَهُمْ مُلَازِمٌ لَهُمْ فَجِيءَ فِي جَانِبِهِ بِالِاسْمِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ الدَّوَامَ وَالثَّبَاتَ.
وَضَمِيرُ هُمْ فِي قَوْلِهِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ لَيْسَ ضَمِيرَ فَصْلٍ وَلَكِنَّهُ ضَمِيرُ مُبْتَدَأٍ وَبِهِ كَانَتِ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً دَالَّةً عَلَى ثَبَاتِ التَّقْبِيحِ لَهُمْ يَوْم الْقِيَامَة.
[٤٣]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٤٣]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣)
الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ [الْقَصَص: ٣٠] إِلَى هُنَا الِاعْتِبَارُ بِعَاقِبَةِ الْمُكَذِّبِينَ الْقَائِلِينَ مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْقَصَص: ٣٦] لِيُقَاسَ النَّظِيرُ
الْعُمْيِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَحْدَهُ تَهْدِي بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ وَبِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الْهَاءِ عَلَى الْخِطَابِ وَبِنَصْبِ الْعُمْيَ على المفعولية.
[٥٤]
[سُورَة الرّوم (٣٠) : آيَة ٥٤]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤)
هَذَا رَابِعُ اسْتِئْنَافٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ رُجُوعٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ فِي مُخْتَلَفِ الْمَصْنُوعَاتِ مِنَ الْعَوَالِمِ لِتَقْرِيرِ إِمْكَانِيَّةِ الْبَعْثِ وَتَقْرِيبِ حُصُولِهِ إِلَى عُقُولِ مُنْكِرِيهِ لِأَنَّ تَعَدُّدَ صُوَرِ إِيجَادِ الْمَخْلُوقَاتِ وَكَيْفِيَّاتِهِ مِنِ ابْتِدَائِهَا عَنْ عَدَمٍ أَوْ مِنْ إِعَادَتِهَا بعد انعدامها وبتطور وَبِدُونِهِ مِمَّا يَزِيدُ إِمْكَانَ الْبَعْثِ وُضُوحًا عِنْدَ مُنْكِرِيهِ، فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ:
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [الرّوم: ٤٨] وَنَظَائِرُهَا كَمَا تَقَدَّمَ وَلِذَلِكَ جَاءَتْ فَاتِحَتُهَا عَلَى أُسْلُوبِ فَوَاتِحِ نَظَائِرِهَا وَهَذَا مَا يُؤْذِنُ بِهِ تَعْقِيبُهَا بِقَولِهِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ [الرّوم: ٥٥] الْآيَةَ.
ثُمَّ قَوْلُهُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مُبْتَدَأٌ وَصِفَةٌ، وَقَوْلُهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ هُوَ الْخَبَرُ، أَيْ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ وَأَنْتُمْ تُنْكِرُونَ. وَالضُّعْفُ بِضَمِّ الضَّادِ فِي الْآيَةِ وَهُوَ أَفْصَحُ وَهُوَ لُغَةُ قُرَيْشٍ. وَيَجُوزُ فِي ضَادِهِ الْفَتْحُ وَهُوَ لُغَةُ تَمِيمٍ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْن عُمَرَ قَالَ: قَرَأْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ- يَعْنِي بِفَتْح الضَّادِ- فَأَقْرَأَنِي: مِنْ ضُعْفٍ يَعْنِي بِضَمِّ الضَّادِ-. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَلْفَاظَ ضَعْفٍ الثَّلَاثَةَ- بِضَمِّ الضَّادِ- فِي الثَّلَاثَةِ. وَقَرَأَهَا عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِفَتْحِ الضَّادِ، فَلَهُمَا سَنَدٌ لَا مَحَالَةَ يُعَارِضُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَطَقَ بِلُغَةِ الضَّمِّ لِأَنَّهَا لُغَةُ قَوْمِهِ، وَأَنَّ الْفَتْحَ رُخْصَةٌ لِمَنْ يَقْرَأُ بِلُغَةِ قَبِيلَةٍ أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ لُغَةٌ تَخُصُّهُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ. وَالضَّعْفُ: الْوَهْنُ وَاللِّينُ.
ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ: مُبْتَدَأُ خَلْقِهِ مِنْ ضَعْفٍ، أَيْ: مِنْ حَالَةِ ضَعْفٍ، وَهِيَ حَالَةُ كَوْنِهِ جَنِينًا ثُمَّ صَبِيًّا إِلَى أَنْ يَبْلُغَ أَشَدَّهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ
وَقِيلَ: مَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، وَمِنْهُ انْتِفَاء الْغِشّ فِي الْعَمَل، وَقِيلَ: الْأَمَانَةُ الْعَقْلُ، وَقِيلَ: الْخِلَافَةُ، أَيْ خِلَافَةُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي أَوْدَعَهَا الْإِنْسَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: ٣٠] الْآيَةَ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تَرْجِعُ إِلَى أَصْنَافٍ: صِنْفُ الطَّاعَاتِ وَالشَّرَائِعِ، وَصِنْفُ الْعَقَائِدِ، وَصِنْفٌ ضِدَّ الْخِيَانَةِ، وَصِنْفُ الْعَقْلِ، وَصِنْفُ خِلَافَةِ الْأَرْضِ.
وَيَجِبُ أَنْ يُطْرَحَ مِنْهَا صِنْفُ الشَّرَائِعَ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لَازِمَةً لِفِطْرَةِ الْإِنْسَانِ فَطَالَمَا خَلَتْ أُمَمٌ عَنِ التَّكْلِيفِ بِالشَّرَائِعِ وهم أهل الفتر فَتَسْقُطُ سِتَّةُ أَقْوَالِ وَهِيَ مَا فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ.
وَيَبْقَى سَائِرُ الْأَصْنَافِ لِأَنَّهَا مُرْتَكِزَةٌ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ وَفِطْرَتِهِ.
فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَمَانَةُ أَمَانَةَ الْإِيمَانِ، أَيْ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَهِيَ الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى جِنْسِ بَنِي آدَمَ وَهُوَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذرياتهم وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٧٢]. فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَوْدَعَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ دَلَائِلَ الْوَحْدَانِيَّةِ فَهِيَ مُلَازِمَةٌ لِلْفِكْرِ الْبَشَرِيِّ فَكَأَنَّهَا عهد عَهْدُ اللَّهِ لَهُمْ بِهِ وَكَأَنَّهُ أَمَانَةٌ ائْتَمَنَهُمْ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ أَوْدَعَهَا فِي الْجِبِلَّةِ مُلَازِمَةً لَهَا، وَهَذِهِ الْأَمَانَةُ لَمْ تُودَعْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَمَانَةَ مِنْ قَبِيلِ الْمَعَارِفِ وَالْمَعَارِفُ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَتَّصِفُ بِهِ إِلَّا مَنْ قَامَتْ بِهِ صِفَةُ الْحَيَاةِ لِأَنَّهَا مُصَحِّحَةُ الْإِدْرَاكِ لِمَنْ قَامَتْ بِهِ، وَيُنَاسِبُ هَذَا الْمَحْمَلَ قَوْلُهُ: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ [الْأَحْزَاب: ٧٣]، فَإِنَّ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ خَالُونَ مِنَ الْإِيمَانِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَمَانَةُ هِيَ الْعَقْلَ وَتَسْمِيَتُهُ أَمَانَةً تَعْظِيمٌ لِشَأْنِهِ وَلِأَن الْأَشْيَاء النفيسة تُوَدَعُ عِنْدَ مَنْ يَحْتَفِظُ بِهَا.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحِكْمَةَ اقْتَضَتْ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُسْتَوْدَعَ الْعَقْلِ مِنْ بَيْنِ الْمَوْجُودَاتِ الْعَظِيمَةِ لِأَنَّ خِلْقَتَهُ مُلَائِمَةٌ لِأَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَإِنَّ الْعَقْلَ يَبْعَثُ عَلَى التَّغَيُّرِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَمِنْ مَكَانٍ إِلَى غَيْرِهِ، فَلَوْ جُعِلَ ذَلِكَ فِي سَمَاءٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي جَبَلٍ مِنِ الْجِبَالِ أَوْ جَمِيعِهَا لَكَانَ سَبَبًا فِي
يَخْتَارُهُ الْعَاقِلُ، فَكَانَ مِنْ جَزَائِهِمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُطْعَمُونَ طَعَامًا مُؤْلِمًا وَيُسْقَوْنَ شَرَابًا قَذِرًا بِدُونِ اخْتِيَارٍ كَمَا تَلَقَّوْا دِينَ آبَائِهِمْ تَقْلِيدًا وَاعْتِبَاطًا.
فَمَوْقِعُ (إِنَّ) مَوْقِعُ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ، وَمَعْنَاهَا مَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ، وَهِيَ لِذَلِكَ مُفِيدَةٌ رَبْطَ الْجُمْلَةِ بِالَّتِي قَبْلَهَا كَمَا تَرْبُطُهَا الْفَاءُ وَلَامُ التَّعْلِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرُ مَرَّةٍ.
وَالْمُرَادُ: الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف: ٢٢].
وَفِي قَوْلِهِ: أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ ضَلَالَهُمْ لَا يَخْفَى عَنِ النَّاظِرِ فِيهِ لَوْ تُرِكُوا عَلَى الْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَلَمْ يُغَشُّوهَا بِغِشَاوَةِ الْعِنَادِ.
وَالْفَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى جُمْلَةِ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ فَاءُ الْعَطْفِ لِلتَّفْرِيعِ وَالتَّسَبُّبِ، أَيْ مُتَفَرِّعٌ على إلفائهم آبَاءَهُم ضَالِّينَ أَنِ اقْتَفَوْا آثَارَهُمْ تَقْلِيدًا بِلَا تَأَمُّلٍ، وَهَذَا ذَمٌّ لَهُمْ.
وَالْآثَارُ: مَا تَتْرُكُهُ خُطَى الماشين من موطىء الْأَقْدَامِ فَيَعْلَمُ السَّائِرُ بُعْدَهُمْ أَنَّ مَوَاقِعَهَا مَسْلُوكَةٌ مُوَصِّلَةٌ إِلَى مَعْمُورٍ، فَمَعْنَى عَلى الِاسْتِعْلَاءُ التَّقْرِيبِيُّ، وَهُوَ مَعْنَى الْمَعِيَّةِ لِأَنَّهُمْ يَسِيرُونَ مَعَهَا وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا مُعْتَلِينَ عَلَيْهَا.
ويُهْرَعُونَ بِفَتْحِ الرَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ مُضَارِعُ: أَهْرَعَهُ، إِذَا جَعَلَهُ هَارِعَا، أَيْ حَمَلَهُ عَلَى الْهَرَعِ وَهُوَ الْإِسْرَاعُ الْمُفْرِطُ فِي السَّيْرِ، عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْمُتَابَعَةِ دُونَ تَأَمُّلٍ، فَشَبَّهَ قَبُولَ الِاعْتِقَادِ بِدُونِ تَأَمُّلٍ بِمُتَابَعَةِ السَّائِرِ مُتَابَعَةً سَرِيعَةً لِقَصْدِ الِالْتِحَاقِ بِهِ.
وَأُسْنِدَ إِلَى الْمَجْهُولِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَن ذَلِك ناشىء عَنْ تَلْقِينِ زُعَمَائِهِمْ وَتَعَالِيمِ الْمُضَلِّلِينَ، فَكَأَنَّهُمْ مَدْفُوعُونَ إِلَى الْهَرَعِ فِي آثَارِ آبَائِهِمْ فَيَحْصُلُ مِنْ قَوْلِهِ: يُهْرَعُونَ تَشْبِيهُ حَالِ الْكَفَرَةِ بِحَالِ مَنْ يُزْجَى وَيُدْفَعُ إِلَى السَّيْرِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يسَار بِهِ.
فَأَخْبَرَ مُوسَى قَوْمَهُ بِأَنَّ رَبَّهُ حَافِظٌ لَهُ لِيَثِقُوا بِاللَّهِ كَمَا كَانَ مقَام النبيء لَا حِينَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْبَعْثَةِ تَحْرُسُهُ أَصْحَابُهُ فِي اللَّيْلِ فَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الْحجر: ٩٤، ٩٥] الْآيَةَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِأَنْ يَتَخَلُّوا عَنْ حِرَاسَتِهِ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ (إِنَّ) مُتَوَجِّهٌ إِلَى لَازِمِ الْخَبَرِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لَهُ السَّلَامَةَ وَأَكَّدَ ذَلِكَ لِتَنْزِيلِ بَعْضِ قَوْمِهِ أَوْ جُلِّهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ لِمَا رَأَى مِنْ إِشْفَاقِهِمْ عَلَيْهِ.
وَالْعَوْذُ: الِالْتِجَاءُ إِلَى الْمَحَلِّ الَّذِي يَسْتَعْصِمُ بِهِ الْعَائِذُ فَيَدْفَعُ عَنْهُ مَنْ يَرُومُ ضُرَّهُ، يُقَالُ: عَاذَ بِالْجَبَلِ، وَعَاذَ بِالْجَيْشِ، وَقَالَ تَعَالَى: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النَّحْل: ٩٨].
وَعَبَّرَ عَنِ الْجَلَالَةِ بِصِفَةِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ لِأَنَّ فِي صِفَةِ الرَّبِّ إِيمَاءً إِلَى تَوْجِيهِ الْعَوْذِ بِهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَعُوذُ بِمَوْلَاهُ. وَزِيَادَةُ وَصْفِهِ بِرَبِّ الْمُخَاطَبِينَ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ
عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَجْزَعُوا مِنْ مُنَاوَاةِ فِرْعَوْنَ لَهُمْ وَأَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعُوذُوا بِاللَّهِ مِنْ كُلِّ مَا يُفْظِعُهُمْ.
وَجُعِلَتْ صِفَةُ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ مُغْنِيَةً عَنْ صِفَةِ الْكُفْرِ أَوِ الْإِشْرَاكِ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْإِشْرَاكَ وَزِيَادَةً، لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ فِي الْمَرْءِ التَّجَبُّرُ وَالتَّكْذِيبُ بِالْجَزَاءِ قَلَّتْ مُبَالَاتُهُ بِعَوَاقِبِ أَعْمَالِهِ فَكَمُلَتْ فِيهِ أَسْبَابُ الْقَسْوَةِ وَالْجُرْأَةِ على النَّاس.
[٢٨]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٢٨]
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨)
عَطْفُ قَوْلِ هَذَا الرَّجُلِ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَالَ قَوْلَهُ هَذَا فِي غَيْرِ مَجْلِسِ شُورَى
خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ [٧]، وَقَوْلِهِ: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً فِي سُورَةِ طه [١٠٨].
وَالْمُرَادُ بِالْخُشُوعِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَبْدُو عَلَيْهِمْ مِنْ أَثَرِ الْمَذَلَّةِ وَالْمَخَافَةِ. فَقَوْلُهُ: مِنَ الذُّلِّ مُتَعَلِّقٌ بِ خاشِعِينَ وَتَعَلُّقُهُ بِهِ يُغْنِي عَنْ تَعْلِيقِهِ بِ يَنْظُرُونَ وَيُفِيدُ مَا لَا يُفِيدُهُ تَعْلِيقُهُ بِهِ.
ومِنَ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ خَاشِعِينَ خُشُوعًا نَاشِئًا عَنِ الذُّلِّ، أَيْ لَيْسَ خُشُوعُهُمْ لِتَعْظِيمِ اللَّهِ وَالِاعْتِرَافِ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ الِاعْتِقَادَ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِمْ فِي الدُّنْيَا.
وَجُمْلَةُ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ خاشِعِينَ لِأَنَّ النَّظَرَ مِنْ طَرَفٍ خَفِيٍّ حَالَةٌ لِلْخَاشِعِ الذَّلِيلِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهَا تَصْوِيرُ حَالَتِهِمُ الْفَظِيعَةِ.
وَفِي قَرِيبٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ النَّابِغَةِ يَصِفُ سَبَايَا:
يَنْظُرْنَ شَزْرًا إِلَى مَنْ جَاءَ عَنْ عُرُضٍ بِأَوْجُهٍ مُنْكِرَاتِ الرِّقِّ أَحْرَارِ
وَقَوْلُ جَرِيرٍ:
فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ فَلَا كَعْبًا بَلَغْتَ وَلَا كِلَابَا
وَالطَّرْفُ: أَصْلُهُ مَصْدَرٌ، وَهُوَ تَحْرِيكُ جَفْنِ الْعَيْنِ، يُقَالُ: طَرَفَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، أَيْ حَرَّكَ جَفْنَهُ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْعَيْنِ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِفِعْلِهِ، وَلِذَلِكَ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ قَالَ تَعَالَى: لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ [إِبْرَاهِيم: ٤٣]. وَوَصْفُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِ خَفِيٍّ يَقْتَضِي أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ حَرَكَةُ الْعَيْنِ، أَيْ يَنْظُرُونَ نَظَرًا خَفِيًّا، أَيْ لَا حِدَّةَ لَهُ فَهُوَ كَمُسَارَقَةِ النَّظَرِ، وَذَلِكَ مِنْ هَوْلِ مَا يَرَوْنَهُ مِنَ الْعَذَابِ، فَهُمْ يُحْجِمُونَ عَنْ مُشَاهَدَتِهِ لِلرَّوْعِ الَّذِي يُصِيبُهُمْ مِنْهَا، وَيَبْعَثُهُمْ مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْ حُبِّ الِاطِّلَاعِ عَلَى أَنْ يَتَطَلَّعُوا لِمَا يُسَاقُونَ إِلَيْهِ كَحَالِ الْهَارِبِ الْخَائِفِ مِمَّنْ يَتْبَعُهُ، فَتَرَاهُ يُمْعِنُ فِي الْجَرْيِ وَيَلْتَفِتُ وَرَاءَهُ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ لِيَنْظُرَ هَلِ اقْتَرَبَ مِنْهُ الَّذِي يَجْرِي وَرَاءَهُ وَهُوَ فِي تِلْكَ الِالْتِفَاتَةِ أَفَاتَ خُطُوَاتٍ مِنْ جَرْيِهِ لَكِنَّ حُبَّ الِاطِّلَاعِ يُغَالِبُهُ.
الْخِطَابُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَمْرِ بِطَاعَةِ الله وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَجَنُّبِ مَا يُبْطِلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ اعْتِبَارًا بِمَا حُكِيَ مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ومشاقة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَوَصْفُ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مُقَابِلُ وَصْفِ الْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [مُحَمَّد: ٣٢]، وَطَاعَةُ اللَّهِ مُقَابِلُ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَطَاعَةُ الرَّسُولِ ضِدُّ مشاقة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّهْيُ عَنْ إِبْطَالِ الْأَعْمَالِ ضِدُّ بُطْلَانِ أَعْمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا. فطاعة
الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا هِيَ امْتِثَالُ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ. وَأَمَّا مَا لَيْسَ دَاخِلًا تَحْتَ التَّشْرِيعِ فَطَاعَةُ أَمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ طَاعَةُ انْتِصَاحٍ وَأَدَبٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَرِيرَةَ لَمْ تُطِعْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُرَاجَعَةِ زَوْجِهَا مُغِيثٍ لَمَّا عَلِمَتْ أَنَّ أَمْرَهُ إِيَّاهَا لَيْسَ بِعَزْمٍ.
وَالْإِبْطَالُ: جَعْلُ الشَّيْءِ بَاطِلًا، أَيْ لَا فَائِدَةَ مِنْهُ، فَالْإِبْطَالُ تَتَّصِفُ بِهِ الْأَشْيَاءُ الْمَوْجُودَةُ.
وَمَعْنَى النَّهْيِ عَنْ إِبْطَالِهِمُ الْأَعْمَالَ: النَّهْيُ عَنْ أَسْبَابِ إِبْطَالِهَا، فَهَذَا مَهْيَعُ قَوْلِهِ:
وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ. وَتَسْمَحُ مَحَامِلُهُ بِأَنْ يَشْمَلَ النَّهْيَ وَالتَّحْذِيرَ عَنْ كُلِّ مَا بَيَّنَ الدِّينُ أَنَّهُ مُبْطِلٌ لِلْعَمَلِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا مِثْلَ الرِّدَّةِ وَمِثْلَ الرِّيَاءِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَإِنَّهُ يُبْطِلُ ثَوَابَهُ.
وَهُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [الْبَقَرَة: ٢٦٤]. وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَخْشَى أَنْ يَكُونَ ارْتِكَابُ الْفَوَاحِشِ مُبْطِلًا لِثَوَابِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَيَحْمِلُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ لَمَّا بَلَغَهَا أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ عَقَدَ عَقْدًا تَرَاهُ عَائِشَةُ حَرَامًا: أَخْبَرُوا زَيْدًا أَنَّهُ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ لَمْ يَتْرُكْ فَعْلَهُ هَذَا وَلَعَلَّهَا أَرَادَتْ بِذَلِكَ التَّحْذِيرَ وَإِلَّا فَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِ الْإِحْبَاطِ بِجِهَادِهِ وَإِنَّمَا عَلِمَتْ أَنَّهُ كَانَ أَنْفَسُ عَمَلٍ عِنْدَهُ.
وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالزُّهْرِيِّ: لَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ بِالْمَعَاصِي الْكَبَائِرِ. ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي «الِاسْتِيعَابِ» :«أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَالَ غَزَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً وَغَزَوْتُ مِنْهَا مَعَهُ سَبْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً. وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَفْهَامِ فِي الْمَعْنِيِّ بِإِبْطَالِ الْأَعْمَالِ وَمَا يُبْطِلُهَا وَأَحْسَنُ

[سُورَة النَّجْم (٥٣) : الْآيَات ٣٣ إِلَى ٣٥]

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥)
الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الِاسْتِفْهَامِ التَّعْجِيبِيِّ عَلَى قَوْلِهِ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النَّجْم: ٣١] إِذْ كَانَ حَالُ هَذَا الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى جَهْلًا بِأَنَّ لِلْإِنْسَانِ مَا سَعَى، وَقَدْ حَصَلَ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَوْ قَبْلَهَا حَادِثٌ أَنْبَأَ عَنْ سُوءِ الْفَهْمِ لِمُرَادِ اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ مَعَ أَنَّهُ وَاضِحٌ لِمَنْ صَرَفَ حَقَّ فَهْمِهِ. فَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ تَعْجِيبٌ مِنِ انْحِرَافِ أَفْهَامِهِمْ.
فَالَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلًا هُوَ هُنَا لَيْسَ فَرِيقًا مِثْلَ الَّذِي عَنَاهُ قَوْلُهُ: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا [النَّجْم: ٢٩] بَلْ هُوَ شَخْصٌ بِعَيْنِهِ. وَاتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ وَالرُّوَاةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا مُعَيَّنٌ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ وَجْهُ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِلَفْظِ الَّذِي دُونَ كَلِمَةِ (مَنْ) لِأَنَّ الَّذِي أَظْهَرُ فِي الْإِطْلَاقِ عَلَى الْوَاحِدِ الْمُعَيَّنِ دُونَ لَفْظِ (مَنْ).
وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ هَذَا الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطى قَلِيلًا،
فَرَوَى الطَّبَرِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ زَيْدٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ قَالُوا: كَانَ يَجْلِسُ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْتَمِعُ إِلَى قِرَاءَتِهِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعِظُهُ فَقَارَبَ أَنْ يُسْلِمَ فَعَاتَبَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (لَمْ يُسَمُّوهُ) وَقَالَ: لِمَ تَرَكْتَ دِينَ الْأَشْيَاخِ وَضَلَّلْتَهُمْ وَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَنْصُرَهُمْ فَكَيْفَ يُفْعَلُ بِآبَائِكَ فَقَالَ: «إِنِّي خَشِيتُ عَذَابَ اللَّهِ» فَقَالَ: «أَعْطِنِي شَيْئًا وَأَنَا أَحْمِلُ عَنْكَ كُلَّ عَذَابٍ كَانَ عَلَيْكَ»
فَأَعْطَاهُ (وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَهُمُ الْتِزَامًا يَلْزَمُ مُلْتَزِمَهُ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِجَزَاءِ الْآخِرَةِ فَلَعَلَّهُ تَفَادَى مِنْ غَضَبِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَرَجَعَ إِلَى الشِّرْكِ) وَلَمَّا سَأَلَهُ الزِّيَادَةَ بَخِلَ عَنْهُ وَتَعَاسَرَ وَأَكْدَى.
وَرَوَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ: نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ.
وَوَقَعَ فِي «أَسْبَابِ النُّزُول» لِلْوَاحِدِيِّ و «الْكَشَّاف» أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ حِينَ صَدَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ عَنْ نَفَقَةٍ فِي الْخَيْرِ كَانَ يَنْفِقُهَا (أَيْ قَبْلَ أَنْ
وَالْمَقْصُودُ: أَنْ لَهُ مَدْلُولَاتِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَة: ٣١]، أَيْ عَرَضَ الْمُسَمَّيَاتِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٨٠].
يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
جُمْلَةُ يُسَبِّحُ لَهُ إِلَخْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يَعْنِي أَنَّ اتِّصَافَهُ بِالصِّفَاتِ الْحُسْنَى يَضْطَرُّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْعُقَلَاءِ عَلَى تَعْظِيمِهِ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّنْزِيهِ عَنِ النَّقَائِصِ فَكُلُّ صِنْفٍ يَبْعَثُهُ عِلْمُهُ بِبَعْضِ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَلَى أَنْ يُنَزِّهَهُ وَيُسَبِّحَهُ بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ. فَالدَّهْرِيُّ أَوِ الطَّبَائِعِيُّ إِذَا نَوَّهَ بِنِظَامِ الْكَائِنَاتِ وَأُعْجِبَ بِانْتِسَاقِهَا فَإِنَّمَا يُسَبِّحُ فِي الْوَاقِعِ لِلْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ وَإِنْ كَانَ هُوَ يَدْعُوهُ دَهْرًا أَوْ طَبِيعَةً، هَذَا إِذَا حُمِلَ التَّسْبِيحُ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ التَّنْزِيهُ بِالْقَوْلِ، فَأَمَّا إِنْ حُمِلَ عَلَى مَا يَشْمَلُ الْمَعْنِيِّينِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ مِنْ دلَالَة على التَّنْزِيه وَلَوْ بِلِسَانِ الْحَالِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ وَالْإِمْدَادِ وَالْقَهْرِ تَدُلُّ عَلَيْهِ شَوَاهِدُ الْمَخْلُوقَاتِ وَانْتِظَامُ وُجُودِهَا.
وَجُمْلَةُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ الْحَالِ وَأُوثِرَ هَاتَانِ الصِّفَتَانِ لِشِدَّةِ مُنَاسَبَتِهِمَا لِنِظَامِ الْخَلْقِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ رَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ لِأَنَّ صَدْرَ السُّورَةِ مُمَاثِلٌ لِآخِرِهَا.
رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ الثَّلَاثَ آيَاتٍ مِنْ آخَرِ سُورَةَ الْحَشْرِ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ [الْحَشْر: ٢٢] إِلَى آخَرِ السُّورَةِ، وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ مَاتَ ذَلِكَ الْيَوْمَ مَاتَ شَهِيدًا.
وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي كَانَ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ»

. فَهَذِهِ فَضِيلَةٌ لِهَذِهِ الْآيَاتِ أُخْرَوِيَّةٌ.
وَحَقِيقَةُ واهِيَةٌ ضَعِيفَةٌ وَمُتَفَرِّقَةٌ، وَيُسْتَعَارُ الْوَهْيُ لِلسُّهُولَةِ وَعَدَمِ الْمُمَانَعَةِ، يُقَالُ:
وَهَى عَزْمُهُ، إِذَا تَسَامَحَ وَتَسَاهَلَ، وَفِي الْمَثَلِ «أَوْهَى مِنْ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ» يُضْرَبُ لِعَدَمِ نُهُوضِ الْحُجَّةِ.
وَتَقْيِيدُهُ بِ يَوْمَئِذٍ أَنَّ الْوَهْيَ طَرَأَ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ صُلْبَةً بِتَمَاسُكِ أَجْزَائِهَا وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ بِالرَّتْقِ كَمَا عَبَّرَ عَنِ الشَّقِّ بِالْفَتْقِ، أَيْ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ مَطْرُوقَةٌ مَسْلُوكَةٌ.
وَالْوَهْيُ: قَرِيبٌ مِنَ الْوَهْنِ، وَالْأَكْثَرُ أَنَّ الْوَهْيَ يُوصَفُ بِهِ الْأَشْيَاءُ غَيْرُ الْعَاقِلَةِ، وَالْوَهْنُ يُوصَفُ بِهِ النَّاسُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهَا صُعُودًا وَنُزُولًا خِلَافًا لِحَالِهَا مِنْ قَبْلُ قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ [الرَّحْمَن: ٣٧].
وَجُمْلَةُ وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها، حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ فَهِيَ، أَيْ ويومئذ الْمَلَكُ عَلَى
أَرْجَائِهَا.
والْمَلَكُ: أَصْلُهُ الْوَاحِدُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَتَعْرِيفُهُ هُنَا تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، أَيْ جِنْسِ الْمَلَكِ، أَيْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ إِذَا أُرِيدَ الْاسْتِغْرَاقُ، وَاسْتِغْرَاقُ الْمُفْرَدِ أَصْرَحُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الشُّمُولِ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْكِتَابُ أَكْثَرُ مِنَ الْكُتُبِ، وَمِنْهُ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مَرْيَم: ٤].
والأرجاء: النواحي بلغَة هُذَيْل، وَاحِدهَا رجا مَقْصُورا وألفه منقلبة عَن الْوَاو.
وَضَمِيرُ أَرْجائِها عَائِدٌ إِلَى السَّماءُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَعْمَلُونَ فِي نَوَاحِي السَّمَاءِ يُنَفِّذُونَ إِنْزَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِالْجَنَّةِ وَسَوْقَ أَهْلِ النَّارِ إِلَى النَّارِ.
وَعَرْشُ الرَّبِّ: اسْمٌ لِمَا يُحِيطُ بِالسَّمَاوَاتِ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنَ السَّمَاوَاتِ.
وَالْمُرَادُ بِالثَّمَانِيَةِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ: ثَمَانِيَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَقِيلَ: ثَمَانِيَةُ شُخُوصٍ، وَقِيلَ: ثَمَانِيَةُ صُفُوفٍ، وَقِيلَ ثَمَانِيَةُ أَعْشَارٍ، أَيْ نَحْوُ ثَمَانِينَ مِنْ مَجْمُوعِ عَدَدِ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهَذَا مِنْ أَحْوَالِ الْغَيْبِ الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ الْغَرَضُ
وَيَعْتَلُّ بِأَنَّهُ لم ينشر أحدا مُنْذُ الْقِدَمِ إِلَى الْآنَ. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْجَارِي عَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ
كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمَوْقِعُ كَلَّا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَوْقِعُ الْجَوَابِ بِالْإِبْطَالِ، وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ: لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ مَوْقِعُ الْعِلَّةِ لِلْإِبْطَالِ، أَيْ لَوْ قَضَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ لَعَلِمَ بُطْلَانَ زَعْمِهِ أَنَّهُ لَا يُنْشَرُ.
وَتَأَوَّلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِأَنَّهُ: «رَدْعٌ لِلْإِنْسَانِ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ» أَيْ مِمَّا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ شِدَّةِ كُفْرِهِ وَاسْتِرْسَالِهِ عَلَيْهِ دُونَ إِقْلَاعٍ، يُرِيدُ أَنه زجر عَن مَضْمُونٍ: مَا أَكْفَرَهُ [عبس: ١٧].
وَمِنْهُم من يَجْعَل الرَّدْعَ مُتَوَجِّهًا إِلَى مَا بَعْدَ كَلَّا مِمَّا يومىء إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُ هَذَا الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ مِنْ أَنَّهُ قَدْ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ الَّذِي نَبَّهَهُ إِلَيْهِ بِدَعْوَةِ الرُّسُلِ وَبِإِيدَاعِ قُوَّةِ التفكير فِيهِ، ويتسروح هَذَا مِنْ كَلَامٍ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَهُوَ أَقْرَبُ لِأَنَّ مَا بَعْدَ كَلَّا لَمَّا كَانَ نَفْيًا نَاسَبَ أَنْ يُجْعَلَ كَلَّا تَمْهِيدًا لِلنَّفْيِ.
وَمَوْقِعُ كَلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهَا جُزْءٌ مِنَ اسْتِئْنَافٍ.
وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ: لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ عَنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ إِلَى قَوْله: أَنْشَرَهُ [عبس: ١٨- ٢٢]، أَيْ إِنَّمَا لَمْ يَهْتَدِ الْكَافِرُ إِلَى دِلَالَةِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ عَلَى إِمْكَانِ الْخَلْقِ الثَّانِي، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْضِ حَقَّ النَّظَرِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ.
وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَلْتَزِمُوا مَعْنَى الزَّجْرِ فِي كَلَّا وَهُمُ الْكِسَائِيُّ الْقَائِلُ: تَكُونُ كَلَّا بِمَعْنَى حَقًّا، وَوَافَقَهُ ثَعْلَبٌ وَأَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ الْقَائِلُ: تَكُونُ كَلَّا بِمَعْنَى (أَلَا) الِاسْتِفْتَاحِيَّةِ.
وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ وَالْفَرَّاءُ الْقَائِلَانِ: تَكُونُ كَلَّا حَرْفَ جَوَابٍ بِمَعْنَى نَعَمْ. فَهَؤُلَاءِ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ عَلَى رَأْيِهِمْ ظَاهِرٌ.
وَعَنِ الْفَرَّاءِ كَلَّا تَكُونُ صِلَةً (أَيْ حَرْفًا زَائِدًا لِلتَّأْكِيدِ) كَقَوْلِكَ: كَلَّا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ اهـ. وَهَذَا وَجْهٌ إِلَيْهِ وَلَا يَتَأَتَّى فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
فَالْوَجْهُ فِي مَوْقِعِ كَلَّا هُنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَجْرًا عَمَّا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ:


الصفحة التالية
Icon