الَّذِي أُوتِيتُهُ»
وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ أَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ بِاتِّفَاقِ الْقُرَّاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ وَلَمْ يَشِذَّ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فَقَالَ: هِيَ ثَمَانِ آيَاتٍ، وَإِلَّا الْحُسَيْنُ (١) الْجُعْفِيُّ فَقَالَ: هِيَ سِتُّ آيَاتٍ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: تِسْعُ آيَاتٍ وَيَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ كَوْنُ الْبَسْمَلَةِ لَيْسَتْ مِنَ الْفَاتِحَةِ لِتَكُونَ سَبْعَ آيَاتٍ وَمَنْ عَدَّ الْبَسْمَلَةَ أَدْمَجَ آيَتَيْنِ.
وَأَمَّا وَصْفُهَا بِالْمَثَانِي فَهُوَ مَفَاعِلُ جَمْعُ مُثَنًّى بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، أَوْ مُثْنًى مُخَفَّفُ مُثَنَّى، أَوْ مَثْنَى بِفَتْحِ الْمِيمِ مُخَفَّفُ مَثْنِيٍّ كَمَعْنًى مُخَفَّفُ مَعْنِيٍّ وَيَجُوزُ تَأْنِيثُ الْجَمِيعِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ السَّيِّدُ الْجُرْجَانِيُّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» وَكُلُّ ذَلِكَ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّثْنِيَة وَهِي بِضَم ثَانٍ إِلَى أَوَّلٍ.
وَوَجْهُ الْوَصْفِ بِهِ أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ تُثَنَّى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ كَذَا فِي «الْكَشَّافِ». قِيلَ: وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَهُوَ مُسْتَقِيمٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهَا تُضَمُّ إِلَيْهَا السُّورَةُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَلَعَلَّ التَّسْمِيَةَ بِذَلِكَ كَانَتْ فِي أَوَّلِ فَرْضِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ الصَّلَوَاتِ فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَأُطِيلَتْ صَلَاةُ الْحَضَرِ كَذَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي «الصَّحِيحِ» وَقِيلَ:
الْعَكْسُ.
وَقِيلَ: لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي الصَّلَاةِ أَيْ تُكَرَّرَ فَتَكُونُ التَّثْنِيَةُ بِمَعْنَى التَّكْرِيرِ بِنَاءً عَلَى مَا شَاعَ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُثَنَّى فِي مُطْلَقِ الْمُكَرَّرِ نَحْوَ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الْملك: ٤] وَقَوْلِهِمْ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمَثَانِي هُنَا مِثْلَ الْمُرَادِ بِالْمَثَانِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزمر: ٢٣] أَيْ مُكَرَّرَ الْقِصَصِ وَالْأَغْرَاضِ، وَقِيلَ: سُمِّيَتِ الْمَثَانِي لِأَنَّهَا ثُنِّيَتْ فِي النُّزُولِ فَنَزَلَتْ بِمَكَّةَ ثُمَّ نَزَلَتْ فِي الْمَدِينَةِ وَهَذَا قَوْلٌ بَعِيدٌ جِدًّا وَتَكَرُّرُ النُّزُولِ لَا يُعْتَبَرُ قَائِلُهُ، وَقَدِ اتُّفِقَ عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ فَأَيُّ مَعْنًى لِإِعَادَةِ نُزُولِهَا بِالْمَدِينَةِ.
وَهَذِهِ السُّورَةُ وُضِعَتْ فِي أَوَّلِ السُّوَرِ لِأَنَّهَا تَنْزِلُ مِنْهَا مَنْزِلَ دِيبَاجَةِ الْخُطْبَةِ أَوِ الْكِتَابِ، مَعَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ أُصُولِ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا وَذَلِكَ شَأْنُ الدِّيبَاجَةِ مِنْ
بَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ.
وَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ كَثِيرٌ إِنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَزَلَ قَبْلَهَا: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: ١] وَسُورَةُ الْمُدَّثِّرِ ثُمَّ الْفَاتِحَةُ، وَقِيلَ نَزَلَ قَبْلَهَا أَيْضًا:
ن وَالْقَلَمِ [الْقَلَم: ١] وَسُورَةُ الْمُزَّمِّلِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ كَامِلَةً أَيْ غَيْرَ مُنَجَّمَةٍ، بِخِلَافِ سُورَةِ الْقَلَمِ، وَقَدْ حَقَّقَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا نَزَلَتْ عِنْدَ فَرْضِ الصَّلَاةِ فَقَرَأَ الْمُسْلِمُونَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ فَرْضِهَا، وَقَدْ عُدَّتْ فِي رِوَايَةٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ السُّورَةَ الْخَامِسَةَ فِي تَرْتِيبِ
_________
(١) ستأتي تَرْجَمته قَرِيبا.
فَكَانُوا يُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ لِغَنِيمَةِ أَنْعَامِهِ وَعَبِيدِهِ وَنِسَائِهِ فَيُدَافِعُ الْمُغَارُ عَلَيْهِ وَتَتْلَفُ نُفُوسٌ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ ثُمَّ يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ طَلَبُ الثَّارَاتِ فَيَسْعَى كُلُّ مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فِي
قَتْلِ قَاتِلِ وَلِيِّهِ وَإِنْ أَعْوَزَهُ ذَلِكَ قَتَلَ بِهِ غَيْرَهُ مِنْ وَاحِدٍ كُفْءٍ لَهُ، أَو عدد يَرَاهُمْ لَا يُوَازُونَهُ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ بِالتَّكَايُلِ فِي الدَّمِ أَيْ كَأَنَّ دَمَ الشَّرِيفِ يُكَالُ بِدِمَاءٍ كَثِيرَةٍ فَرُبَّمَا قَدَّرُوهُ بِاثْنَيْنِ أَوْ بِعَشَرَةٍ أَوْ بِمِائَةٍ، وَهَكَذَا يَدُورُ الْأَمْرُ وَيَتَزَايَدُ تَزَايُدًا فَاحِشًا حَتَّى يَصِيرَ تَفَانِيًا قَالَ زُهَيْرٌ:
تَدَارَكْتُمَا عَبْسًا وَذُبْيَانَ بَعَدَ مَا | تَفَانَوْا وَدَقُّوا بَيْنَهُمْ عِطْرَ مَنْشِمِ |
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ... حَتَّى فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [آل عمرَان: ١٠٣] أَيْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً بِأَسْبَابِ الْغَارَاتِ وَالْحُرُوبِ فَأَلَفَّ بَيْنَكُمْ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، وَكُنْتُمْ عَلَى وَشْكِ الْهَلَاكِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهُ فَضَرَبَ مَثَلًا لِلْهَلَاكِ الْعَاجِلِ الَّذِي لَا يُبْقِي شَيْئًا بِحُفْرَةِ النَّارِ فَالْقَائِمُ عَلَى حَافَّتِهَا لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْهَلَاكِ إِلَّا أَقَلُّ حَرَكَةٍ.
فَمَعْنَى كُتِبَ عَلَيْكُمُ أَنَّهُ حَقٌّ لَازِمٌ لِلْأُمَّةِ لَا مَحِيدَ عَنِ الْأَخْذِ بِهِ فَضَمِيرُ عَلَيْكُمُ لِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ لِمَنْ تَوَجَّهَ لَهُ حَقُّ الْقِصَاصِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ الْقِصَاصُ، لِأَنَّ وَلِيَّ الدَّمِ لَهُ الْعَفْوُ عَنْ دَمِ وَلِيِّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَصْلُ الْكِتَابَةِ نَقْشُ الْحُرُوفِ فِي حَجَرٍ أَوْ رَقٍّ أَوْ ثَوْبٍ وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ النَّقْشُ يُرَادُ بِهِ التَّوَثُّق بِمَا نُقِشَ بِهِ دوَام تَذَكُّرِهِ أَطْلَقَ كتب على معنى حَقَّ وَثَبَتَ أَيْ حَقَّ لِأَهْلِ الْقَتِيلِ.
وَالْقِصَاصُ اسْمٌ لِتَعْوِيضِ حَقِّ جِنَايَةٍ أَوْ حَقِّ غُرْمٍ عَلَى أَحَدٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ الْمَحْقُوقِ إِنْصَافًا وَعَدْلًا، فَالْقِصَاصُ يُطْلَقُ عَلَى عُقُوبَةِ الْجَانِي بِمِثْلِ مَا جَنَى، وَعَلَى مُحَاسَبَةِ رَبِّ الدَّيْنِ بِمَا عَلَيْهِ لِلْمَدِينِ مِنْ دَيْنٍ يَفِي بِدَيْنِهِ، فَإِطْلَاقَاتُهُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّعَادُلِ وَالتَّنَاصُفِ فِي الْحُقُوقِ وَالتَّبِعَاتِ الْمَعْرُوضَةِ لِلْغَمْصِ.
وَهُوَ بِوَزْنِ فِعَالٍ وَهُوَ وَزْنُ مَصْدَرِ فَاعَلَ مِنَ الْقَصِّ وَهُوَ الْقَطْعُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: طَائِرٌ مَقْصُوصُ الْجَنَاحِ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمِقَصُّ لِآلَةِ الْقَصِّ أَيِ الْقَطْعِ وَقُصَّةُ الشَّعْرِ بِضَمِّ الْقَافِ مَا يُقَصُّ مِنْهُ لِأَنَّهُ يَجْرِي فِي حَقَّيْنِ مُتَبَادِلَيْنِ بَيْنَ جَانِبَيْنِ يُقَالُ قَاصَّ فُلَانٍ فُلَانًا إِذَا طَرَحَ مِنْ دَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ مِقْدَارًا
فَعَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فَهُوَ نَسْخٌ لِقَوْلِهِ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ وَهَذَا
مَرْوِيٌّ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ (١) أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ وَإِنْ تُبْدُوا مَا
فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [الْبَقَرَة: ٢٨٤] اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ فَأَتَوْهُ وَقَالُوا: لَا نُطِيقُهَا، فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُولُوا: «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا» فَأَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
، وَإِطْلَاقُ النَّسْخِ عَلَى هَذَا اصْطِلَاحٌ لِلْمُتَقَدِّمِينَ، وَالْمُرَادُ الْبَيَانُ وَالتَّخْصِيصُ لِأَنَّ الَّذِي تَطْمَئِنُّ لَهُ النَّفْسُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مُتَتَابِعَةُ النَّظْمِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ مُنَجَّمَةً، فَحَدَثَ بَيْنَ فَتْرَةِ نُزُولِهَا مَا ظَنَّهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ حَرَجًا.
والوسع فِي الْقِرَاءَة بِضَمِّ الْوَاوِ، فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مُثَلَّثُ الْوَاوِ وَهُوَ الطَّاقَةُ وَالِاسْتِطَاعَةُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا يُطَاقُ وَيُسْتَطَاعُ، فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ الْمَفْعُولِ.
وَالْمُسْتَطَاعُ هُوَ مَا اعْتَادَ النَّاسُ قُدْرَتُهُمْ عَلَى أَنْ يَفْعَلُوهُ إِنْ تَوَجَّهَتْ إِرَادَتُهُمْ لِفِعْلِهِ مَعَ السَّلَامَةِ وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ.
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِمَا فَوْقَ الطَّاقَةِ فِي أَدْيَانِ اللَّهِ تَعَالَى لِعُمُومِ (نَفْسًا) فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا شَرَعَ التَّكْلِيفَ إِلَّا لِلْعَمَلِ وَاسْتِقَامَةِ أَحْوَالِ الْخَلْقِ، فَلَا يُكَلِّفُهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ فِعْلَهُ، وَمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ فِي سِيَاقِ الْعُقُوبَاتِ، هَذَا حُكْمٌ عَامٌّ فِي الشَّرَائِعِ كُلِّهَا.
وَامْتَازَتْ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ بِالْيُسْرِ وَالرِّفْقِ، بِشَهَادَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَج: ٧٨] وَقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ قَوَاعِدِ الْفِقْهِ الْعَامَّةِ «الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ». وَكَانَتِ الْمَشَقَّةُ مَظِنَّةَ الرُّخْصَةِ، وَضَبْطُ الْمَشَاقِّ الْمُسْقِطَةِ لِلْعِبَادَةِ مَذْكُورٌ فِي الْأُصُولِ، وَقَدْ أَشْبَعْتُ الْقَوْلَ فِيهِ فِي كِتَابِي الْمُسَمَّى «مَقَاصِدُ الشَّرِيعَةِ» وَمَا وَرَدَ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ فَأَمْرٌ نَادِرٌ، فِي أَوْقَاتِ الضَّرُورَةِ، كَتَكْلِيفِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِالثَّبَاتِ لِلْعَشْرَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الْمُعَنْوَنَةُ فِي كُتُبِ الْأَصْلَيْنِ بِمَسْأَلَةِ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ، وَالتَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أَرَنَّتْ بِهَا كُتُبُ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهَا اخْتِلَافًا
_________
(١) فِي كتاب الْإِيمَان.
ذَهَبَتْ بِهِمْ هَوَاجِسُهُمْ إِلَى أَن ظنُّوا بِاللَّهِ ظُنُونًا بَاطِلَةً مِنْ أَوْهَامِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا عَلَى جَاهِلِيَّتِهِمْ لَمْ يُخْلِصُوا الدِّينَ لِلَّهِ، وَقَدْ بَيَّنَ بَعْضَ مَا لَهُمْ الظَّنِّ بِقَوْلِهِ: يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ وَهل لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ بِمَعْنَى النَّفْيِ، بِقَرِينَةِ زِيَادَةِ (مِنْ) قَبْلَ النَّكِرَةِ، وَهِيَ مِنْ خَصَائِصِ النَّفْيِ، وَهُوَ تَبْرِئَةٌ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا سَبَبًا فِي مُقَابَلَةِ
الْعَدُوِّ. حَتَّى نَشَأَ عَنْهُ مَا نَشَأَ، وَتَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْخُرُوجَ لِلْقِتَالِ يَوْمَ أُحُدٍ خَطَأٌ وَغُرُورٌ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِرَسُولٍ إِذْ لَوْ كَانَ لَكَانَ مُؤَيَّدًا بِالنَّصْرِ.
وَالْقَوْلُ فِي هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ كَالْقَوْلِ فِي لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا. وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ هُنَا شَأْنُ الْخُرُوجِ إِلَى الْقِتَالِ. وَالْأَمْرُ بِمَعْنَى السِّيَادَةِ الَّذِي مِنْهُ الْإِمَارَةُ، وَمِنْهُ أُولُو الْأَمْرِ.
وَجُمْلَةُ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ يَظُنُّونَ لِأَنَّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ. وَمَعْنَى لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَيْ مِنْ شَأْنِ الْخُرُوجِ إِلَى الْقِتَالِ، أَو من أَمر تَدْبِيرِ النَّاسِ شَيْءٌ، أَيْ رَأْيٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا، أَيْ مَا قُتِلَ قَوْمُنَا. وَلَيْسَ الْمُرَادُ انْتِفَاءَ الْقَتْلِ مَعَ الْخُرُوجِ إِلَى الْقِتَالِ فِي أُحُدٍ، بَلِ الْمُرَادُ انْتِفَاءُ الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ الَّذِي كَانَ سَبَبًا فِي قَتْلِ مَنْ قُتِلَ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ قَرِينَةُ الْإِشَارَةِ بِقَوْلِهِ: (هَاهُنَا)، فَالْكَلَامُ كِنَايَةٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ لَمَّا أَخْبَرُوهُ بِمَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْخَزْرَجِ يَوْمَئِذٍ، وَهَذَا تَنَصُّلٌ مِنْ أَسْبَابِ الْحَرْبِ وَتَعْرِيضٌ بِالنَّبِيءِ وَمَنْ أَشَارَ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ رَغِبُوا فِي إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ.
وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الظَّنُّ غَيْرَ الْحَقِّ لِأَنَّهُ تَخْلِيطٌ فِي مَعْرِفَةِ صِفَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِ رَسُولِهِ وَمَا يَجُوزُ وَمَا يَسْتَحِيلُ، فَإِنَّ لِلَّهِ أَمْرًا وَهَدْيًا وَلَهُ قَدَرٌ وَتَيْسِيرٌ، وَكَذَلِكَ لِرَسُولِهِ الدَّعْوَةُ وَالتَّشْرِيعُ وَبَذْلُ الْجُهْدَ فِي تَأْيِيدِ الدِّينِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ مَعْصُومٌ، وَلَيْسَ مَعْصُومًا مِنْ جَرَيَانِ الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَيْهِ، وَمِنْ أَنْ يَكُونَ الْحَرْبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ سِجَالًا، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِهِرَقْلَ وَقَدْ سَأَلَهُ: كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ لَهُ؟
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٨٠ إِلَى ٨١]
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٨١)هَذَا كَالتَّكْمِلَةِ لِقَوْلِهِ: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا [النِّسَاء: ٧٩] بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ رَدِّ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ مَصْدَرُ السَّيِّئَاتِ الَّتِي تُصِيبُهُمْ، ثُمَّ مِنْ قَوْلِهِ: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النِّسَاء: ٧٩] إِلَخْ، الْمُؤْذِنُ بِأَنَّ بَيْنَ الْخَالِقِ وَبَيْنَ الْمَخْلُوقِ فَرْقًا فِي التَّأْثِيرِ وَأَنَّ الرِّسَالَةَ مَعْنًى آخَرَ فَاحْتَرَسَ بِقَوْلِهِ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ عَنْ تَوَهُّمِ السَّامِعِينَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي أُمُورِ التَّشْرِيعِ، فَأَثْبَتَ أَنَّ الرَّسُولَ فِي تَبْلِيغِهِ إِنَّمَا يُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ، فَأَمْرُهُ أَمْرُ اللَّهِ، وَنَهْيُهُ نَهْيُ اللَّهِ، وَطَاعَتُهُ طَاعَةُ اللَّهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُهُ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى إِثْبَاتِ كَوْنِهِ رَسُولًا وَاسْتِلْزَامِهَا أَنَّهُ يَأْمُرُ وَيَنْهَى، وَأَنَّ ذَلِكَ تَبْلِيغٌ لِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ ذَلِكَ أَوْ كَانَ فِي غَفْلَةٍ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُ اخْتِلَافَ مَقَامَاتِ الرَّسُولِ، وَمَنْ تَوَلَّى أَوْ أَعْرَضَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى الْمُكَابَرَةِ فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً، أَيْ حارسا لَهُم ومسؤولا عَنْ إِعْرَاضِهِمْ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِهِمْ وَتَهْدِيدٌ لَهُمْ بِأَنْ صَرَفَهُ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِهِمْ، فَيُعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ سَيَتَوَلَّى عِقَابَهُمْ.
وَالتَّوَلِّي حَقِيقَتُهُ الِانْصِرَافُ وَالْإِدْبَارُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها [الْبَقَرَة: ٢٠٥] وَفِي قَوْلِهِ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٢]. وَاسْتُعْمِلَ هُنَا مَجَازًا فِي الْعِصْيَانِ وَعَدَمِ الْإِصْغَاءِ إِلَى الدَّعْوَةِ.
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ لِضَعْفِ نُفُوسِهِمْ لَا يُعْرِضُونَ جَهْرًا بَلْ يُظْهِرُونَ الطَّاعَةَ، فَإِذَا أَمَرَهُمُ الرَّسُولُ أَوْ نَهَاهُمْ يَقُولُونَ لَهُ طاعَةٌ أَيْ: أَمْرُنَا طَاعَةٌ، وَهِيَ كَلِمَةٌ يَدُلُّونَ بِهَا عَلَى الِامْتِثَالِ، وَرُبَّمَا يُقَالُ: سَمْعٌ وَطَاعَةٌ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ،
فِيهَا أَمْرَ الْعَدْلِ فَالشَّهَادَةِ.
فَلِذَلِكَ قَدَّمَ فِيهَا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ [النِّسَاء: ١٣٥] فَالْقِسْطُ فِيهَا هُوَ الْعَدْلُ فِي الْقَضَاءِ، وَلِذَلِكَ عُدِّيَ إِلَيْهِ بِالْبَاءِ، إِذْ قَالَ: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [النِّسَاء: ١٣٥].
وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا فَهِيَ وَارِدَةٌ بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِمِيثَاقِ اللَّهِ، فَكَانَ الْمقَام الأوّل للحصّ عَلَى الْقِيَامِ لِلَّهِ، أَيِ الْوَفَاءِ لَهُ بِعُهُودِهِمْ لَهُ، وَلِذَلِكَ عُدِّيَ قَوْلُهُ: قَوَّامِينَ بِاللَّامِ. وَإِذْ كَانَ الْعَهْدُ شَهَادَةً أَتْبَعَ قَوْلَهُ: قَوَّامِينَ لِلَّهِ بِقَوْلِهِ: شُهَداءَ بِالْقِسْطِ، أَيْ شُهَدَاءَ بِالْعَدْلِ شَهَادَةً لَا حَيْفَ فِيهَا، وَأَوْلَى شَهَادَةٍ بِذَلِكَ شَهَادَتُهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ حَصَلَ
مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَتَيْنِ: وُجُوبُ الْقِيَامِ بِالْعَدْلِ، وَالشَّهَادَةِ بِهِ، وَوُجُوبُ الْقِيَامِ لِلَّهِ، وَالشَّهَادَةِ لَهُ.
وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ قَرِيبًا، وَلَكِنَّهُ هُنَا صَرَّحَ بِحَرْفِ (عَلَى) وَقَدْ بَيَّنَّاهُ هُنَالِكَ. وَالْكَلَامُ عَلَى الْعَدْلِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النِّسَاء: ٥٨].
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: هُوَ أَقْرَبُ عَائِدٌ إِلَى الْعَدْلِ الْمَفْهُومِ مِنْ تَعْدِلُوا، لِأَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ يُكْتَفَى فِيهِ بِكُلِّ مَا يُفْهَمُ حَتَّى قَدْ يَعُودُ عَلَى مَا لَا ذِكْرَ لَهُ، نَحْوُ حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: ٣٢]. عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ تَجْعَلُ الْفِعْلَ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ فِي مَرَاتِبَ:
الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: أَنْ تَدَخُلَ عَلَيْهِ (أَنْ) الْمَصْدَرِيَّةُ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ تُحْذَفَ (أَنْ) الْمَصْدَرِيَّةُ وَيَبْقَى النَّصْبُ بِهَا، كَقَوْلِ طَرَفَةَ:
أَلَا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الْوَغَى | وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي |
وَإِنَّمَا يَنْشَأُ الْإِعْرَاضُ عَنِ اعْتِقَادِ عَدَمِ جَدْوَى النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْرِضَ مُكَذِّبٌ لِلْمُخْبِرِ الْمُعْرِضِ عَنْ سَمَاعِهِ.
وَأَصْلُ الْإِعْرَاضِ صَرْفُ الْوَجْهِ عَنِ النَّظَرِ فِي الشَّيْءِ وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي إِبَاءِ الْمَعْرِفَةِ، فَيَشْمَلُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآيَاتِ الْمُبْصَرَاتِ كَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَيَشْمَلُ تَرْكَ الِاسْتِمَاعِ لِلْقُرْآنِ، وَيَشْمَلُ الْمُكَابَرَةَ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِإِعْجَازِهِ وَكَوْنِهِ حَقًّا بِالنِّسْبَةِ لِلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ وَيُكَابِرُونَهُ، كَمَا يَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[٥]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٥]
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥)
الْفَاءُ فَصِيحَةٌ عَلَى الْأَظْهَرِ أَفْصَحَتْ عَنْ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ، أَيْ إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْإِعْرَاضُ ثَبَتَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْإِعْرَاضَ عَلَامَةٌ عَلَى التَّكْذِيبِ، كَمَا قَدَّمْتُهُ آنِفًا، فَمَا بَعْدَ فَاءِ الْفَصِيحَةِ هُوَ الْجَزَاءُ.
وَمَعْنَاهُ أَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ سُوءَ عَوَاقِبِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ الْآتِي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَمَّا تَقَرَّرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ أَنَّهُمْ أَعْرَضُوا آيَاتِ اللَّهِ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ الْوَارِدِ مِنَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ تَأْكِيدًا لِوَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ وَإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ على الدَّين كلّ وإنذار لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنْ سَيَحُلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ مِمَّنْ عَرَفُوا مِثْلِ عَادٍ وَثَمُودَ وَأَصْحَابِ الرَّسِّ.
وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ إِلَى جَعْلِ الْفَاءِ تَفْرِيعًا مَحْضًا وَجَعْلِ مَا بَعْدَهَا عِلَّةً لِجَزَاءٍ مَحْذُوفٍ مَدْلُولٍ عَلَيْهِ بِعِلَّتِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ «الْكَشَّافِ»، وَهِيَ مَضْمُونُ فَقَدْ كَذَّبُوا بِأَنْ يُقَدَّرَ: فَلَا تَعْجَبْ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ، لِأَنَّ مَنْ قَدَّرَ ذَلِكَ أَوْهَمَهُ أَنَّ تَكْذِيبَهُمُ الْمُرَادَ هُوَ تَكْذِيبُهُمْ بِالْآيَاتِ الَّتِي أَعْرَضُوا عَنْهَا مَا عَدَا آيَةَ الْقُرْآنِ. وَهَذَا تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: مِنْ آيَةٍ بِلَا مُخَصِّصٍ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ مِنْ جُمْلَةِ الْآيَاتِ بَلْ هُوَ الْمَقْصُودُ أَوَّلًا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ فَقَدْ كَذَّبُوا هُوَ الْجَزَاءُ وَأَنَّ لَهُ مَوْقِعًا عَظِيمًا مِنْ بَلَاغَةِ الْإِيجَازِ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّقْدِيرَ يَقْتَضِي
أَيْ فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ
الْإِبْطَالِ وَالْإِنْكَارِ أَنْ يَتَوَجَّهَ سُؤَالٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ مَشُوبٌ بِإِنْكَارٍ. عَمَّنِ اتَّصَفَ بِزِيَادَةِ ظُلْمِ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ لِيُضِلُّوا النَّاسَ، أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَؤُلَاءِ المخاطبين قد افتروا على الله كذبا، ثَبت أنّهم من الْفَرِيق الّذي هُوَ أَظْلَمُ الظَّالِمِينَ.
وَالْمُشْرِكُونَ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ وَضَعَ الشِّرْكَ وَهُمْ كُبَرَاءُ الْمُشْرِكِينَ: مِثْلُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ، وَاضِعُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَأَوَّلُ مَنْ جَعَلَ الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ وَالْوَصِيلَةَ وَالْحَامِيَ، وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ طَوَاغِيتِ أَهْلِ الشِّرْكِ الَّذِينَ سَنُّوا لَهُمْ جَعْلَ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ لِبُيُوتِ الْأَصْنَامِ وَسَدَنَتِهَا، فَهَؤُلَاءِ مُفْتَرُونَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا مِمَّنِ اتَّبَعَ أُولَئِكَ بِعَزْمٍ وَتَصَلُّبٍ وَشَارَكُوهُمْ فَهُمُ اتَّبَعُوا أُنَاسًا لَيْسُوا بِأَهْلٍ لِأَنْ يُبَلِّغُوا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ حَقُّهُمْ أَنْ يَتَوَخَّوْا مَنْ يَتَّبِعُونَ وَمَنْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ وَهُمُ الرُّسُلُ، فَمِنْ ضَلَالِهِمْ أَنَّهُمْ لَمَّا جَاءَهُمُ الرَّسُولُ الْحَقُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَذَّبُوهُ، وَقَدْ صَدَّقُوا الْكَذَبَةَ وَأَيَّدُوهُمْ وَنَصَرُوهُمْ.
وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ مِنَ الظُّلْمِ أَنْ يُقْدِمَ أَحَدٌ عَلَى الْإِفْتَاءِ فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَكُنْ قَدْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يُفْتِي بِالصَّوَابِ الَّذِي يُرْضِي اللَّهَ، وَذَلِكَ إِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا فَبِالِاسْتِنَادِ إِلَى الدَّلِيلِ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ مُصَادَفَتُهُ لِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا فَبِالِاسْتِنَادِ إِلَى مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مَذْهَبُ إِمَامِهِ الَّذِي قَلَّدَهُ.
وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ عِلْمٍ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ آنِفًا.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِكَوْنِهِمْ مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ، لِأَنَّ مَعْنَى الزِّيَادَةِ فِي الظُّلْمِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا كَانَ ظُلْمُهُمْ لَا إِقْلَاعَ عَنْهُ، لِأَنَّ الضَلَالَ يَزْدَادُ رُسُوخًا فِي النَّفْسِ بِتَكَرُّرِ أَحْوَالِهِ وَمَظَاهِرِهِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا تَعَمَّدُوا الْإِضْلَالَ أَوِ اتَّبَعُوا مُتَعَمِّدِيهِ عَنْ تَصَلُّبٍ، فَهُمْ بِمَعْزِلٍ عَنْ تَطَلُّبِ الْهُدَى وَإِعَادَةِ النَّظَرِ فِي حَالِ أَنْفُسِهِمْ، وَذَلِكَ يُغْرِيهِمْ
إِلَّا نَجَاتَهُ مِنَ الْعِقَابِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى الْكُفْرَانِ وَالْعِصْيَانِ، وَإِلَّا حُصُولَ رِضَى رَبِّهِ عَنْهُ، وَلَا يُوجِبُ جَزَاءً وَلَا عَطَاءً، لِأَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ وَاجِبٌ، فَهَذَا الْجَزَاءُ وَعَظَمَتُهُ مُجَرَّدُ فَضْلٍ مِنَ الرَّبِّ عَلَى عَبْدِهِ شُكْرًا لِإِيمَانِهِ بِهِ وَطَاعَتِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ سَبَبُ هَذَا الشُّكْرِ عِنْدَ الرَّبِّ الشَّاكِرِ هُوَ عَمَلُ عَبْدِهِ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ، وَقَدْ تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهِ فَوَعَدَ بِهِ مِنْ قَبْلِ حُصُولِهِ. فَمِنَ
الْعَجَبِ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بِوُجُوبِ الثَّوَابِ عَقْلًا، وَلَعَلَّهُمْ أَوْقَعَهُمْ فِيهِ اشْتِبَاهُ حُصُولِ الثَّوَابِ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْعِقَابِ، مَعَ أَنَّ الْوَاسِطَةَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ بَيِّنَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. وَهَذَا أَحْسَنُ مِمَّا يُطِيلُ بِهِ أَصْحَابُنَا مَعَهُمْ فِي الْجَوَابِ.
وَبَاءُ السَّبَبِيَّةِ اقْتَضَتِ الَّذِي أَعْطَاهُمْ مَنَازِلَ الْجَنَّةِ أَرَادَ بِهِ شُكْرَ أَعْمَالِهِمْ وَثَوَابِهَا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ تَعَاوُضٍ وَلَا تَقَابُلٍ فَجَعَلَهَا كَالشَّيْءِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ الْعَامِلُ عِوَضًا عَنْ عَمَلِهِ فَاسْتَعَارَ لَهَا بَاء السّببيّة.
[٤٤، ٤٥]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ٤٤ إِلَى ٤٥]
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥)
جُمْلَةُ: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الْأَعْرَاف: ٤٣] إِلَخْ، عَطْفَ الْقَوْلِ عَلَى الْقَوْلِ، إِذْ حُكِيَ قَوْلُهُمْ الْمُنْبِئُ عَنْ بَهْجَتِهِمْ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، ثُمَّ حُكِيَ مَا يَقُولُونَهُ لِأَهْلِ النَّارِ حِينَمَا يُشَاهِدُونَهُمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةٍ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها [الْأَعْرَاف: ٤٣] عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ بِمُنَاسَبَةِ الِانْتِقَالِ مِنْ ذِكْرِ نِدَاءٍ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ إِلَى ذِكْرِ مُنَادَاةِ أَهْلِ الْآخِرَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ التَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِأَصْحَابِ
فَالْمَعْرُوفُ شَامِلٌ لِكُلِّ مَا تَقْبَلُهُ الْعُقُولُ وَالْفِطَرُ السَّلِيمَةُ، وَالْمُنْكَرُ ضِدُّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٠٤].
وَيَجْمَعُهَا مَعْنَى: الْفِطْرَةِ، الَّتِي هِيَ قِوَامُ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الرّوم: ٣٠]، وَهَذِهِ أَوْضَحُ عَلَامَةٍ لِتَعَرُّفِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ.
وَالطَّيِّبَاتُ: جَمْعُ طَيِّبَةٍ، وَقَدْ رُوعِيَ فِي التَّأْنِيثِ مَعْنَى الْأَكِيلَةِ، أَوْ مَعْنَى الطُّعْمَةِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الطَّيِّبَاتُ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي نَظَائِرِهَا نَحْوَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً فِي الْبَقَرَة [١٦٨] وَقَوله: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٤]، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْأَفْعَالَ الْحَسَنَةَ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ عُرِّفَتْ بِوَصْفِ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ. وَالْمَأْكُولَاتُ لَا تَدْخُلُ فِي الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ، إِذْ لَيْسَ لِلْعَقْلِ حَظٌّ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ مَقْبُولِهَا وَمَرْفُوضِهَا، وَإِنَمَا تَمْتَلِكُ النَّاسَ فِيهَا عَوَائِدُهُمْ، وَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ دِينَ الْفِطْرَةِ وَلَا اعْتِدَادَ بِالْعَوَائِدِ فِيهِ، نَاطَ حَالَ الْمَأْكُولَاتِ بِالطَّيِّبِ وَحُرْمَتَهَا بِالْخُبْثِ، فَالطَّيِّبُ مَا لَا ضُرَّ فِيهِ وَلَا وَخَامَةَ وَلَا قَذَارَةَ، وَالْخَبِيثُ مَا أَضَرَّ، أَوْ كَانَ وَخِيمَ الْعَاقِبَةِ، أَوْ كَانَ مُسْتَقْذَرًا لَا يَقْبَلُهُ الْعُقَلَاءُ، كَالنَّجَاسَةِ، وَهَذَا مِلَاكُ الْمُبَاحِ وَالْمُحَرَّمِ مِنَ الْمَآكِلِ، فَلَا تَدْخُلُ الْعَادَاتُ إِلَّا فِي اخْتِيَارِ أَهْلِهَا مَا شَاءُوا مِنَ الْمُبَاحِ، فَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تَأْكُلُ الضَّبَّ، وَقَدْ وُضِعَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَرِهَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ،
وَقَالَ: «مَا هُوَ بِحَرَامٍ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ طَعَامِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ»
وَلِهَذَا فَالْوَجْهُ: أَنَّ كُلَّ مَا لَا ضُرَّ فِيهِ وَلَا فَسَادَ وَلَا قَذَارَةَ فَهُوَ مُبَاحٌ، وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا اعْتِبَارًا بِمَضَرَّةٍ خَفِيفَةٍ، فَلِذَلِكَ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَمَحْمَلُهُ عِنْدَ مَالِكٍ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي التَّرَدُّدُ فِيهِ، وَأَيُّ ضُرٍّ فِي أَكْلِ لَحْمِ الْأَسَدِ، وَكَذَلِكَ إِبَاحَةُ أَكْلِ الْخِشَاشِ وَالْحَشَرَاتِ وَالزَّوَاحِفِ الْبَرِّيَّةِ وَالْبَحْرِيَّةِ، لِاخْتِلَافِ عَوَائِدِ النَّاسِ فِي أَكْلِهَا وَعَدَمِهِ، فَقَدْ كَانَتْ جَرْمٌ لَا يَأْكُلُونَ الدَّجَاجَ، وَفَقْعَسٌ يَأْكُلُونَ الْكَلْبَ، فَلَا يُحْجَرُ عَلَى قَوْمٍ لِأَجْلِ كَرَاهِيَةِ غَيْرِهِمْ مِمَّا كَرِهَهُ ذَوْقُهُ أَوْ عَادَةُ قَوْمِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، فَعَلَى الْفَقِيهِ أَنْ يَقْصُرَ النَّظَرَ عَلَى طَبَائِعِ
[١٤، ١٥]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : الْآيَات ١٤ الى ١٥]قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)
قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلْعَوْدِ مِنْ غَرَضِ التَّحْذِيرِ، إِلَى صَرِيحِ الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ:
فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ [التَّوْبَة: ١٢] وَشَأْنُ مِثْلِ هَذَا الْعَوْدِ فِي الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ بِاسْتِئْنَافٍ كَمَا وَقَعَ هُنَا.
وَجُزِمَ يُعَذِّبْهُمُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ. وَفِي جَعْلِهِ جَوَابًا وَجَزَاءً أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ تِلْكَ الْمُقَاتَلَةِ خَمْسَ فَوَائِدَ تَنْحَلُّ إِلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ إِذْ تَشْتَمِلُ كُلُّ فَائِدَةٍ مِنْهَا عَلَى كَرَامَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِهَانَةٍ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَرُوعِيَ فِي كُلِّ فَائِدَةٍ مِنْهَا الْغَرَضُ الْأَهَمُّ فَصَرَّحَ بِهِ وَجَعَلَ مَا عَدَاهُ حَاصِلًا بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ.
الْفَائِدَةُ الْأَوْلَى تَعْذِيبُ الْمُشْرِكِينَ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ وَهَذِهِ إِهَانَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَكَرَامَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ.
الثَّانِيَةُ: خِزْيُ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ عِزَّةَ الْمُسْلِمِينَ.
الثَّالِثَةُ: نَصْرُ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذِهِ كَرَامَةٌ صَرِيحَةٌ لَهُمْ وَتَسْتَلْزِمُ هَزِيمَةَ الْمُشْرِكِينَ وَهِيَ إِهَانَةٌ لَهُمْ.
الرَّابِعَةُ: شِفَاءُ صُدُورِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذِهِ صَرِيحَةٌ فِي شِفَاءِ صُدُورِ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ خُزَاعَةُ، وَتَسْتَلْزِمُ شِفَاءَ صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ، وَتَسْتَلْزِمُ حَرَجَ صُدُورِ أَعْدَائِهِمْ
فَهَذِهِ ثَلَاثُ فَوَائِدَ فِي فَائِدَةٍ.
الْخَامِسَةُ: إِذْهَابُ غَيْظِ قُلُوبِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَوِ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ، وَهَذِهِ تَسْتَلْزِمُ ذَهَابَ غَيْظِ بَقِيَّةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي تَحَمَّلُوهُ مِنْ إِغَاظَةِ أَحْلَامِهِمْ وَتَسْتَلْزِمُ غَيْظَ قُلُوبِ أَعْدَائِهِمْ، فَهَذِهِ ثَلَاثُ فَوَائِدَ فِي فَائِدَةٍ.
وَالتَّعْذِيبُ تَعْذِيبُ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحَةِ. وَأُسْنِدَ التَّعْذِيبُ إِلَى اللَّهِ وَجُعِلَتْ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ آلَةً لَهُ تَشْرِيفًا لِلْمُسْلِمِينَ.
وَالْإِخْزَاءُ: الْإِذْلَالُ، وَتَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ. وَهُوَ هُنَا الْإِذْلَالُ بِالْأَسْرِ.
فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ وَمَا سِوَاهُ تَمْهِيدٌ وَإِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ. أَعْقَبَ التَّهْدِيدَ عَلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ بِذِكْرِ بَعْضِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ثُمَّ ضَرَّاءَ تَعْقُبَ النِّعْمَةَ لِلِابْتِلَاءِ وَالتَّذْكِيرِ بِخَالِقِهِمْ، ثُمَّ كَيْفَ تُفْرَجُ عَنْهُمْ رَحْمَةً بِهِمْ فَيَكْفُرُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ كِلْتَا النِّعْمَتَيْنِ وَلَا يَتَذَكَّرُ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ أَنَّ فِي ذَلِكَ أَعْظَمَ الْآيَاتِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ فَكَيْفَ يَقُولُونَ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [يُونُس: ٢٠] وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ امْتِنَانٌ عَلَيْهِمْ بِالنِّعْمَةِ وَتَسْجِيلٌ لِكُفْرَانِهَا وَلِتَوَارُدِ الْآيَاتِ عَلَيْهِمْ وَلِكَيْلَا يَغْتَرُّوا بِالْإِمْهَالِ فَيَحْسَبُوهُ رِضًى بِكُفْرِهِمْ أَوْ عَجْزًا عَنْ أَخْذِهِمْ، وَهَذَا مَوْقِعٌ رَشِيقٌ جِدُّ الرَّشَاقَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ الْقُرْآنِيَّةِ.
وَإِسْنَادُ التَّسْيِيرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ سَبَبُهُ لِأَنَّهُ خَالِقُ إِلْهَامِ التَّفْكِيرِ وَقُوَى الْحَرَكَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ، فَالْإِسْنَادُ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، فَالْقَصْرُ الْمُفَادُ مِنْ جُمْلَةِ: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ. وَالْكَلَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِامْتِنَانِ وَالتَّعْرِيضِ بِإِخْلَالِهِمْ بِوَاجِبِ الشُّكْرِ.
وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ، وَهِيَ غَايَةٌ لِلتَّسْيِيرِ فِي الْبِحَارِ خَاصَّةً. وَإِنَّمَا كَانَتْ غَايَةً بِاعْتِبَارِ مَا عُطِفَ عَلَى مَدْخُولِهَا مِنْ قَوْلِهِ: دَعَوُا اللَّهَ- إِلَى قَوْلِهِ- بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَالْمُغَيَّا هُوَ مَا فِي قَوْلِهِ يُسَيِّرُكُمْ مِنَ الْمِنَّةِ الْمُؤْذِنَةِ بِأَنَّهُ تَسْيِيرُ رِفْقٍ مُلَائِمٍ لِلنَّاسِ، فَكَانَ مَا بَعْدَ (حَتَّى) وَمَعْطُوفَاتِهَا نِهَايَةَ ذَلِكَ الرِّفْقِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ الَّتِي بَعْدَ (حَتَّى) يَنْتَهِي عِنْدَهَا السَّيْرُ الْمُنْعَمُ بِهِ وَيَدْخُلُونَ فِي حَالَةِ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَهَذَا النَّظْمُ نَسْجٌ بَدِيعٌ فِي أَفَانِينِ الْكَلَامِ.
وَمِنْ بَدِيعِ الْأُسْلُوبِ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ بِصَدَدِ ذِكْرِ النِّعْمَةِ جَاءَتْ بِضَمَائِرِ
الْخِطَابِ الصَّالِحَةِ لِجَمِيعِ السَّامِعِينَ، فَلَمَّا تَهَيَّأَتْ لِلِانْتِقَالِ إِلَى ذِكْرِ الضَّرَّاءِ وَقَعَ الِانْتِقَالُ مِنْ ضَمَائِرِ الْخِطَابِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ لِتَلْوِينِ الْأُسْلُوبِ بِمَا يُخَلِّصُهُ إِلَى الْإِفْضَاءِ إِلَى مَا يَخُصُّ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: وَجَرَيْنَ بِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، أَيْ وَجَرَيْنَ بِكُمْ. وَهَكَذَا أُجْرِيَتِ الضَّمَائِرُ جَامِعَةً لِلْفَرِيقَيْنِ إِلَى أَنْ قَالَ: فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ شِيَمِ الْمُؤْمِنِينَ فَتَمَحَّضَ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ هَذَا لِلْمُشْرِكِينَ، فَقَدْ أَخْرَجَ مِنَ الْخَبَرِ مَنْ عَدَا الَّذِينَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ تَعْوِيلًا عَلَى الْقَرِينَةِ لِأَنَّ الَّذِينَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ لَا يَشْمَلُ الْمُسْلِمِينَ.
وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الِالْتِفَاتِ لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَعَانِي وَهُوَ كَالتَّخْصِيصِ بِطَرِيقِ الرَّمْزِ.
الْمَكَانِ بِحَوَادِثَ تَعَاقَبَتْ فِي الْقُرُونِ، أَوْ طَمَى عَلَيْهِ الْبَحْرُ وَبَقِيَ أَثَرُ الْبَحْرِ عَلَيْهَا حَتَّى الْآنَ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بُحَيْرَةَ لُوطٍ أَوِ الْبَحْرَ الْمَيِّتَ.
وَقِيلَ: سِجِّيلٌ مُعَرَّبُ (سَنْكَ جِيلَ) عَنِ الْفَارِسِيَّةِ أَيْ حَجَرٌ مَخْلُوطٌ بِطِينٍ.
وَالْمَنْضُودُ: الْمَوْضُوعُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ. وَالْمَعْنَى هُنَا أَنَّهَا مُتَتَابِعَةٌ مُتَتَالِيَةٌ فِي النُّزُولِ لَيْسَ بَيْنَهَا فَتْرَةٌ. وَالْمُرَادُ وَصْفُ الْحِجَارَةِ بِذَلِكَ إِلَّا أَنَّ الْحِجَارَةَ لَمَّا جُعِلَتْ مِنْ سِجِّيلٍ، أُجْرِيَ الْوَصْفُ عَلَى سِجِّيلٍ وَهُوَ يُفْضِي إِلَى وَصْفِ الْحِجَارَةِ لِأَنَّهَا مِنْهُ.
وَالْمُسَوَّمَةُ: الَّتِي لَهَا سِيمَا، وَهِيَ الْعَلَامَةُ. وَالْعَلَامَاتُ تُوضَعُ لِأَغْرَاضٍ، مِنْهَا عَدَمُ الِاشْتِبَاهِ، وَمِنْهَا سُهُولَةُ الْإِحْضَارِ، وَهُوَ هُنَا مُكَنَّى بِهِ عَنِ الْمُعَدَّةِ الْمُهَيَّئَةِ لِأَنَّ الْإِعْدَادَ مِنْ لَوَازِمَ التَّوْسِيمِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: عِنْدَ رَبِّكَ لِأَنَّ تَسْوِيمَهَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ تَقْدِيرُهُ إِيَّاهَا لَهُمْ.
وَضَمِيرُ وَما هِيَ يَصْلُحُ لِأَنْ يَعُودَ إِلَى مَا عَادَتْ إِلَيْهِ الضَّمَائِرُ الْمَجْرُورَةُ قَبْلَهُ وَهِيَ الْمَدِينَةُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى وَمَا تِلْكَ الْقرْيَة بِبَعِيد من الْمُشْرِكِينَ، أَيِ الْعَرَبِ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَذْهَبْ إِلَيْهَا فَيَنْظُرُ مَصِيرَهَا، فَالْمُرَادُ الْبُعْدُ الْمَكَانِيُّ. وَيَصْلُحُ لِأَنْ يَعُودَ إِلَى الْحِجَارَةِ، أَيْ وَمَا تِلْكَ الْحِجَارَةُ بِبَعِيدٍ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَرْمِيَ الْمُشْرِكِينَ بِمِثْلِهَا. وَالْبُعْدُ بِمَعْنَى تَعَذُّرِ الْحُصُولِ وَنَفْيِهِ بِإِمْكَانِ حُصُولِهِ. وَهَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ مَعَ صِحَّةِ الْمَعْنَيَيْنِ وَهُوَ بَعِيدٌ.
وَجُرِّدَ بَعِيدٍ عَنْ تَاءِ التَّأْنِيثِ مَعَ كَوْنِهِ خَبَرًا عَنِ الْحِجَارَةِ وَهِيَ مُؤَنَّثٌ لَفْظًا، وَمَعَ كَوْنِ بَعِيدٍ هُنَا بِمَعْنَى فَاعِلٍ لَا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَالشَّأْنُ أَنْ يُطَابِقَ مَوْصُوفَهُ فِي تَأْنِيثِهِ، وَلَكِنَّ الْعَرَبَ قَدْ يُجْرُونَ فَعِيلًا الَّذِي بِمَعْنَى فَاعِلٍ مَجْرَى الَّذِي بِمَعْنَى مَفْعُولٍ إِذَا جَرَى عَلَى مُؤَنَّثٍ غَيْرِ حَقِيقِيِّ التَّأْنِيثِ زِيَادَةً فِي التَّخْفِيفِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَاف [٥٦] إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وَقَوْلِهِ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الْأَحْزَاب:
٦٣] وَقَوْلِهِ: قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: ٧٨]. وَقِيلَ:
وَالْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَبِالْآخِرَةِ نَعِيمُهُمَا بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ، فَالْكَلَامُ مِنْ إِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَى الذَّاتِ وَالْمُرَادُ أَحْوَالُهَا.
وفِي ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ حَالٌ مِنَ الْحَياةُ الدُّنْيا. وَمَعْنَى فِي الظَّرْفِيَّةُ الْمَجَازِيَّةُ بِمَعْنَى الْمُقَايَسَةِ، أَيْ إِذَا نُسِبَتْ أَحْوَالُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ ظَهَرَ أَنَّ أَحْوَالَ الدُّنْيَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [٣٨].
وَالْمَتَاعُ: مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ وَيَنْقَضِي. وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّقْلِيلِ كَقَوْلِهِ: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ [سُورَة آل عمرَان: ١٩٦- ١٩٧].
[٢٧]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٢٧]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧)
عُطِفَ غَرَضٌ عَلَى غَرَضٍ وَقِصَّةٌ عَلَى قِصَّةٍ. وَالْمُنَاسَبَةُ ذِكْرُ فَرَحِهِمْ بِحَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا وَقَدِ اغْتَرُّوا بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الرِّزْقِ فَسَأَلُوا تَعْجِيلَ الضُّرِّ فِي قَوْلِهِمُ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [سُورَة الْأَنْفَال:
٣٢]. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَكْرِيرٌ لِنَظِيرَتِهَا السَّابِقَةِ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ [سُورَة الرَّعْد: ٧]. فَأُعِيدَتْ تِلْكَ الْجُمْلَةُ إِعَادَةَ الْخَطِيبِ كَلِمَةً مِنْ خُطْبَتِهِ لِيَأْتِيَ بِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْغَرَضِ بَعْدَ أَنْ يَفْصِلَ بِمَا اقْتَضَى الْمَقَامُ الْفَصْلَ بِهِ ثُمَّ يَتَفَرَّغُ إِلَى مَا تَرَكَهُ مِنْ قَبْلُ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعَجِّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ وَلَكِنَّ حِكْمَتَهُ اقْتَضَتْ عَدَمَ التَّنَازُلِ لِيَتَحَدَّى عَبِيدَهُ فَتَبَيَّنَ ذَلِكَ كُلُّهُ كَمَالَ التَّبْيِينِ. وكل ذَلِك لَا حق بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سُورَة الرَّعْد: ٥]، وَعَوْدٌ إِلَى الْمُهِمِّ مِنْ غَرَضِ التَّنْوِيهِ بِآيَةِ الْقُرْآنِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا أُطِيلَ الْكَلَامُ عَلَى هَدْيِ الْقُرْآنِ عَقِبَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ.
والسَّقْفُ: حَقِيقَتُهُ غِطَاءُ الْفَرَاغِ الَّذِي بَيْنَ جُدْرَانِ الْبَيْتِ، يُجْعَلُ على الجدران وَيكون مِنْ حَجَرٍ وَمِنْ أَعْوَادٍ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِمَا اسْتُعِيرَ لَهُ الْبِنَاءُ.
ومِنْ فَوْقِهِمْ تَأْكِيد لجملة فَسخرَ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ.
وَمِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَاتِ تَتَرَكَّبُ الِاسْتِعَارَةُ التَّمْثِيلِيَّةُ. وَهِيَ تَشْبِيهُ هَيْئَةِ الْقَوْمِ الَّذِينَ مَكَرُوا فِي الْمَنَعَةِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِسُرْعَةٍ وَأَزَالَ تِلْكَ الْعِزَّةَ بِهَيْئَةِ قَوْمٍ أَقَامُوا بُنْيَانًا عَظِيمًا ذَا دَعَائِمَ وَآوَوْا إِلَيْهِ فَاسْتَأْصَلَهُ اللَّهُ مِنْ قَوَاعِدِهِ فَخَرَّ سَقْفُ الْبِنَاءِ دُفْعَةً عَلَى أَصْحَابِهِ فَهَلَكُوا جَمِيعًا. فَهَذَا من أبدع التَّمْثِيلِيَّةِ لِأَنَّهَا تَنْحَلُّ إِلَى عِدَّةِ اسْتِعَارَاتٍ.
وَجُمْلَةُ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ. وأل فِي الْعَذابُ لِلْعَهْدِ فَهِيَ مُفِيدَةٌ مَضْمُونَ قَوْلِهِ مِنْ فَوْقِهِمْ مَعَ زِيَادَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. فَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَرَدَتْ مَعْطُوفَةً لِحُصُولِ الْمُغَايَرَةِ وَإِلَّا فَإِن شَأْن الموكدة أَنْ لَا تُعْطَفَ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعَذَابَ الْمَذْكُورَ حَلَّ بِهِمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَإِن الْأَخْذ فجأ أَشَدُّ نِكَايَةً لِمَا يَصْحَبُهُ مِنَ الرُّعْبِ الشَّدِيدِ بِخِلَافِ الشَّيْءِ الْوَارِدِ تَدْرِيجًا فَإِنَّ
النَّفْسَ تَتَلَقَّاهُ بِصَبْرٍ.
[٢٧]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٢٧]
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧)
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ.
عَطْفٌ عَلَى لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ [سُورَة النَّحْل: ٢٥]، لِأَنَّ ذَلِكَ وَعِيدٌ لَهُمْ وَهَذَا تَكْمِلَةٌ لَهُ.
وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُخْزِيهِمْ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ [سُورَة النَّحْل: ٢٤]. وَذَلِكَ عَائِد إِلَى فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [سُورَة النَّحْل: ٢٢].
وَذِكْرُ شَرْطِ الْمَشِيئَةِ هُنَا فَائِدَتُهُ التَّعْلِيمُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا مُكْرِهَ لَهُ، فَجَمَعَتِ الْآيَةُ الْإِشَارَةَ إِلَى صِفَةِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَإِلَى صِفَةِ الْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ.
وَإِعَادَةُ شَرْطِ الْمَشِيئَةِ فِي الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ لِتَأْكِيدِ تَسَلُّطِ الْمَشِيئَةِ عَلَى الْحَالَتَيْنِ.
وَجُمْلَةُ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا زِيَادَةٌ لِبَيَانِ أَنَّ الْهِدَايَةَ وَالضَّلَالَ مِنْ جَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ النبيء غير مسؤول عَنِ اسْتِمْرَارِ مَنِ اسْتَمَرَّ فِي الضَّلَالَةِ. إِزَالَةً لِلْحَرَجِ عَنْهُ فِيمَا يَجِدُهُ مِنْ عَدَمِ اهْتِدَاءِ مَنْ يَدْعُوهُمْ، أَيْ مَا أَرْسَلْنَاكَ لِتُجْبِرَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَإِنَّمَا أَرْسَلْنَاكَ دَاعِيًا.
وَالْوَكِيلُ عَلَى الشَّيْءِ: هُوَ الْمَسْئُولُ بِهِ. وَالْمَعْنَى: أَرْسَلْنَاكَ نَذِيرًا وَدَاعِيًا لَهُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا، فَيُفِيدُ مَعْنَى الْقَصْرِ لِأَنَّ كَوْنَهُ دَاعِيًا وَنَذِيرًا مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ فَإِذَا نُفِيَ عَنْهُ أَنْ يكون وَكيلا وملجئا آلَ إِلَى مَعْنَى: مَا أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ.
وَضَمِيرُ عَلَيْهِمْ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، كَمَا عَادَتْ إِلَيْهِمْ ضَمَائِرُ عَلى قُلُوبِهِمْ [الْإِسْرَاء: ٤٦] وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الضَّمَائِرِ اللَّائِقَةِ بِهِمْ.
وعَلَيْهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ وَكِيلًا. وَقُدِّمَ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ وَلِلرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[٥٥]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٥٥]
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥)
تَمَاثُلُ الْقَرِينَتَيْنِ فِي فَاصْلِتَيْ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كَلِمَةِ وَالْأَرْضِ وَكَلِمَةِ عَلى بَعْضٍ، يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّهُمَا كَلَامٌ مُرْتَبِطٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَأَنْ لَيْسَ قَوْلُهُ: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تَكْمِلَةً لِآيَةِ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ [الْإِسْرَاء: ٥٤] الْآيَةَ.
وَلَفْظُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَشْمَلُ طَبَقَاتٍ وَقُرُونًا كَثِيرَةً، لَيْسَ قَيْدًا لِأَنَّ الْخَلَفَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَصْلِهِ وَإِنَّمَا ذُكِرَ لِاسْتِحْضَارِ ذَهَابِ الصَّالِحِينَ.
وَالْإِضَاعَةُ: مَجَازٌ فِي التَّفْرِيطِ بِتَشْبِيهِهِ بِإِهْمَالِ الْعَرَضِ النَّفِيسِ، فَرَّطُوا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَاتَّبَعُوا شَهَوَاتِهِمْ فَلَمْ يُخَالِفُوا مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ مِمَّا هُوَ فَسَادٌ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا فِي سُورَة الْكَهْفِ [٣٠].
وَالصَّلَاةُ: عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ.
وَهَذَانِ وَصْفَانِ جَامِعَانِ لِأَصْنَافِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ، فَالشِّرْكُ إِضَاعَةٌ لِلصَّلَاةِ لِأَنَّهُ انْصِرَافٌ عَنِ الْخُضُوعِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَالْمُشْرِكُونَ أَضَاعُوُا الصَّلَاةَ تَمَامًا، قَالَ تَعَالَى: قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر: ٤٣]. وَالشِّرْكُ: اتِّبَاعٌ لِلشَّهَوَاتِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ اتَّبَعُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ لِمُجَرَّدِ الشَّهْوَةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَهَؤُلَاء هم الْمَقْصُود هُنَا، وَغَيْرُ الْمُشْرِكِينَ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَرَّطُوا فِي صَلَوَاتٍ وَاتَّبَعُوا شَهَوَاتٍ ابْتَدَعُوهَا، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ اسْمُ الْغَيِّ.
وَالْغَيُّ: الضَّلَالُ، وَيُطْلَقُ عَلَىِ الشَّرِّ، كَمَا أُطْلِقَ ضِدُّهُ وَهُوَ الرُّشْدُ عَلَىِ الْخَيْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجنّ: ١٠] وَقَوْلِهِ قُلْ إِنِّي لَا
أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً
[الجنّ: ٢١]. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ جَزَاءَ غَيِّهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً [الْفرْقَان: ٦٨] أَي جَزَاءِ الْآثَامِ. وَتَقَدَّمَ الْغَيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ وَقَوْلِهِ وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا كِلَاهُمَا فِي سُورَة الْأَعْرَاف [٢٠٢ و١٤٦]. وَقَرِينَةُ ذَلِكَ مُقَابَلَتُهُ فِي ضِدِّهِمْ بِقَوْلِهِ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ.
[٨٩، ٩٠]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : الْآيَات ٨٩ الى ٩٠]وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ كَانَ أَمْرُ زَكَرِيَّاءَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: إِذْ نَادَى رَبَّهُ آيَةً مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فِي عِنَايَتِهِ
بِأَوْلِيَائِهِ الْمُنْقَطِعِينَ لِعِبَادَتِهِ فَخُصَّ بِالذِّكْرِ لِذَلِكَ. وَالْقَوْلُ فِي عَطْفِ وَزَكَرِيَّاءَ كَالْقَوْلِ فِي نَظَائِرِهِ السَّابِقَةِ.
وَجُمْلَةُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ نَادَى رَبَّهُ. وَأُطْلِقَ الْفَرْدُ عَلَى مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْمُنْفَرِدِ الَّذِي لَا قَرِينَ لَهُ. قَالَ تَعَالَى: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [مَرْيَم: ٩٥]، وَيُقَالُ مِثْلَهُ الْوَاحِدُ لِلَّذِي لَا رَفِيقَ لَهُ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ:
وَعَلِمْتُ أَنِّي إِنْ أُقَاتِلْ وَاحِدًا | أُقْتَلْ وَلَا يَضْرُرْ عَدُوِّيَ مَشْهَدِي |
وَجُمْلَةُ وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ ثَنَاءٌ لِتَمْهِيدِ الْإِجَابَةِ، أَيْ أَنْتَ الْوَارِثُ الْحَقُّ فَاقْضِ عَلَيَّ مِنْ صِفَتِكَ الْعَلِيَّةِ شَيْئًا. وَقَدْ شَاعَ فِي الْكِتَابِ وَالسُنَّةِ ذِكْرُ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عِنْدَ سُؤَالِهِ إِعْطَاءَ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهَا، كَمَا قَالَ أَيُّوبُ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الْأَنْبِيَاء: ٨٣]، وَدَلَّ ذِكْرُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَ الْوَلَدَ لِأَجْلِ أَنْ يَرِثَهُ كَمَا فِي آيَةِ [سُورَةِ مَرْيَمَ: ٦] يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ. حُذِفَتْ هَاتِهِ الْجُمْلَةُ لِدَلَالَةِ الْمَحْكِيِّ هُنَا عَلَيْهَا. وَالتَّقْدِيرُ: يَرِثُنِي الْإِرْثَ الَّذِي لَا يُدَانِي إِرْثَكَ عِبَادَكَ، أَيْ بَقَاءَ مَا تَرَكُوهُ فِي الدُّنْيَا لِتَصَرُّفِ قُدْرَتِكَ، أَوْ يَرِثُنِي مَالِي وَعِلْمِي وَأَنْتَ تَرِثُ نَفْسِي
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ فَهُمْ قَدْ حَسِبُوا ذَلِكَ حَقِيقَةً بِلَا تَنْزِيلٍ وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْإِنْكَارِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُرْجَعُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ يُرْجِعُهُمْ قَهْرًا. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، أَيْ يَرْجِعُونَ طَوْعًا أَو كرها.
[١١٦]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ١١٦]
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦)
تَفَرَّعَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ ظُهُورُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَلِكُ الَّذِي لَيْسَ فِي اتِّصَافِهِ بِالْمُلْكِ شَائِبَةٌ مِنْ مَعْنَى الْمُلْكِ. فَمُلْكُهُ الْمُلْكُ الْكَامِلُ فِي حَقِيقَتِهِ. الشَّامِلُ فِي نَفَاذِهِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمَلِكُ لِلْجِنْسِ.
وَالْحَقُّ: مَا قَابَلَ الْبَاطِلَ، وَمَفْهُومُ الصِّفَةِ يَقْتَضِي أَنَّ مُلْكَ غَيْرِهِ بَاطِلٌ، أَيْ فِيهِ شَائِبَةُ الْبَاطِلِ لَا مِنْ جِهَة الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ مُلْكٌ لَا جَوْرَ فِيهِ وَلَا ظُلْمٌ كَمُلْكِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَأَصْحَابِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُلْكٌ غَيْرُ مُسْتَكْمِلٍ حَقِيقَةَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْمُلْكُ عَدَا اللَّهِ تَعَالَى هُوَ مَالِكٌ مِنْ جِهَةٍ وَمَمْلُوكٌ مِنْ جِهَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ نَقْصٍ وَاحْتِيَاجٍ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِمَا يَتَطَلَّبُهُ مِنْ تَسْدِيدِ نَقْصِهِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَمِنَ اسْتِعَانَةٍ بِالْغَيْرِ لِجَبْرِ احْتِيَاجِهِ فَذَلِكَ مُلْكٌ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ ادِّعَاءُ مُلْكٍ غَيْرِ تَامّ.
وَجُمْلَة: فَتَعالَى يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَبَرًا قُصِدَ مِنْهُ التَّذْكِيرُ وَالِاسْتِنْتَاجُ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلَائِلِ الْمُبَيِّنَةِ لِمَعْنَى تَعَالِيهِ وَأَنْ تَكُونَ إِنْشَاءُ ثَنَاءٍ عَلَيْهِ بِالْعُلُوِّ.
وَالتَّعَالِي: مُبَالَغَةٌ فِي الْعُلُوِّ. وَأُتْبِعَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَهُوَ انْفِرَادُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَذَلِكَ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ، وَبِأَنَّهُ مَالِكُ أَعْظَمِ الْمَخْلُوقَاتِ أَعْنِي الْعَرْشَ وَذَلِكَ دَلِيلُ عَظَمَةِ الْقُدْرَةِ.
[٦١- ٦٦]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٦١ الى ٦٦]فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦)
أَيْ لَمَّا بَلَغَ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ قَرِيبًا مِنْ مَكَانِ جُمُوعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِحَيْثُ يَرَى كُلُّ فَرِيقٍ
مِنْهُمَا الْفَرِيقَ الْآخَرَ. فَالتَّرَائِي تَفَاعُلٌ لِأَنَّهُ حُصُولُ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ.
وَقَوْلُهُمْ: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ بِالتَّأْكِيدِ لِشِدَّةِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْجَزَعِ. وكَلَّا رَدْعٌ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٧٩] كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ رَدَعَ بِهِ مُوسَى ظَنَّهُمْ أَنَّهُمْ يُدْرِكُهُمْ فِرْعَوْنُ، وَعَلَّلَ رَدْعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِجُمْلَةِ: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ.
وَإِسْنَادُ الْمَعِيَّةِ إِلَى الرَّبِّ فِي إِنَّ مَعِي رَبِّي عَلَى مَعْنَى مُصَاحَبَةِ لُطْفِ اللَّهِ بِهِ وَعِنَايَتِهِ بِتَقْدِيرِ أَسْبَابِ نَجَاتِهِ مِنْ عَدُوِّهِ. وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى وَاثِقٌ بِأَنَّ اللَّهَ مُنْجِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ [الشُّعَرَاء: ١٥]، وَقَوْلِهِ: أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الشُّعَرَاء: ٥٢] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا أَنَّهُ وَعْدٌ بِضَمَانِ النَّجَاةِ.
وَجُمْلَةُ: سَيَهْدِينِ مُسْتَأْنَفَةٌ أَوْ حَالٌ مِنْ رَبِّي. وَلَا يَضُرُّ وُجُودُ حَرْفِ الِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّ الْحَالَ مُقَدَّرَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: ٩٩]. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سَيُبَيِّنُ لِي سَبِيلَ سَلَامَتِنَا مِنْ فِرْعَوْنَ وَجُنْدِهِ. وَاقْتَصَرَ مُوسَى عَلَى نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِمَا ضَمِنَ اللَّهُ لَهُ مِنْ مَعِيَّةِ الْعِنَايَةِ فَإِذَا عَلِمُوا ذَلِكَ عَلِمُوا أَنَّ هِدَايَتَهُ تَنْفَعُهُمْ لِأَنَّهُ قَائِدُهُمْ وَالْمُرْسَلُ لِفَائِدَتِهِمْ.
وَوَجْهُ اقْتِصَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَيْضًا أَنَّ طَرِيقَ نَجَاتِهِمْ بَعْدَ أَنْ أَدْرَكَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنْدُهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِفِعْلٍ يَقْطَعُ دَابِرَ الْعَدُوِّ، وَهَذَا الْفِعْلُ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ فَلَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى يَدِ الرَّسُولِ. وَهَذَا وَجْهُ اخْتِلَافِ الْمَعِيَّةِ بَيْنَ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التَّوْبَة: ٤٠] لِأَنَّ تِلْكَ مَعِيَّةُ حِفْظِهِمَا كِلَيْهِمَا بِصَرْفِ أَعْيُنِ الْأَعْدَاءِ عَنْهُمَا، وَقَدْ أَمَرَهُ اللَّهُ
[٤٧]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٤٧]وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)
هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الْقَصَص:
٤٦]، لِأَنَّ الْإِنْذَارَ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ.
ولَوْلا الْأُولَى حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، أَيِ انْتِفَاءُ جَوَابِهَا لِأَجْلِ وُجُودِ شَرْطِهَا وَهُوَ حَرْفٌ يَلْزَمُ الِابْتِدَاءَ فَالْوَاقِعُ بَعْدَهُ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ عَنِ الْمُبْتَدَإِ الْوَاقِعِ بَعْدَ لَوْلا وَاجِبُ الْحَذْفِ وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِكَوْنٍ عَامٍّ. وَالْمُبْتَدَأُ هُنَا هُوَ الْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ أَنْ وَفِعْلِ تُصِيبَهُمْ وَالتَّقْدِيرُ: لَوْلَا إِصَابَتُهُمْ بِمُصِيبَةٍ، وَقَدْ عُقِبَ الْفِعْلُ الْمَسْبُوكُ بِمَصْدَرٍ بِفِعْلٍ آخَرَ وَهُوَ فَيَقُولُوا، فَوَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ هَذَا الْفِعْلُ الْمَعْطُوفُ فِي الِانْسِبَاكِ بِمَصْدَرٍ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ. فَهَذَا الْمَعْطُوفُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى [الْبَقَرَة: ٢٨٢] فَالْمَقْصُودُ هُوَ «أَنْ تُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى».
وَإِنَّمَا حِيكَ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ وَلَمْ يَقُلْ: وَلَوْلَا أَنْ يَقُولُوا رَبَّنَا إِلَخْ حِينَ تُصِيبُهُمْ مُصِيبَةٌ إِلَى آخِرِهِ، لِنُكْتَةِ الِاهْتِمَامِ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ إِصَابَةِ الْمُصِيبَةِ فَوُضِعَتْ فِي مَوْضِعِ الْمُبْتَدَإِ دُونَ مَوْضِعِ الظَّرْفِ لِتُسَاوِيَ الْمُبْتَدَأَ الْمَقْصُودَ مِنْ جُمْلَةِ شَرْطِ لَوْلا فَيُصْبِحَ هُوَ
وَظَرْفُهُ عُمْدَتَيْنِ فِي الْكَلَامِ، فَالتَّقْدِيرُ هُنَا: وَلَوْلَا إِصَابَتُهُمْ بِمُصِيبَةٍ يَعْقُبُهَا قَوْلُهُمْ رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَخْ لَمَا عَبَأْنَا بِإِرْسَالِكَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ عِنَادٍ وتصميم على الْكفْر.
فَجَوَابُ لَوْلا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِلَى قَوْلِهِ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ [الْقَصَص: ٤٤- ٤٦]، أَيْ وَلَكِنَّا أَعْذَرْنَا إِلَيْهِمْ بِإِرْسَالِكَ لِنَقْطَعَ مَعْذِرَتَهُمْ. وَجَوَابُ لَوْلا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ، أَيْ لَوْلَا الرَّحْمَةُ بِهِمْ بِتَذْكِيرِهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ لَكَانُوا مُسْتَحِقِّينَ حُلُولَ الْمُصِيبَةِ بِهِمْ.
ولَوْلا الثَّانِيَةُ حَرْفُ تحضيض، أَي هلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا قَبْلَ أَنْ تَأْخُذَنَا بِعَذَابٍ فَتُصْلِحَ أَحْوَالَنَا وَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِنَا. وَانْتَصَبَ فَنَتَّبِعَ (بِأَنْ) مُضْمَرَةٍ وُجُوبًا فِي جَوَابِ التَّحْضِيضِ.
[سُورَة الرّوم (٣٠) : آيَة ٦٠]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (٦٠)الْأَمْرُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ تَفَرَّعَ عَلَى جُمْلَةِ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ [الرّوم: ٥٨] لِتَضَمُّنِهَا تَأْيِيسَهُ مِنْ إِيمَانِهِمْ. وَحَذْفُ مُتَعَلِّقِ الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، أَيِ اصْبِرْ عَلَى تَعَنُّتِهِمْ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالصَّبْرِ وَهُوَ تَأْنِيسٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْقِيقِ وَعْدِ اللَّهِ مِنَ الِانْتِقَامِ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ وَمِنْ نَصْرِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَالْحَقُّ: مَصْدَرُ حَقَّ يُحِقُّ بِمَعْنَى ثَبَتَ، فَالْحَقُّ: الثَّابِتُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَا مُبَالَغَةَ.
وَالِاسْتِخْفَافُ: مُبَالَغَةٌ فِي جَعْلِهِ خَفِيفًا فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّقْوِيَةِ مِثْلُهَا فِي نَحْو: اسْتَجَابَ وَاسْتَمْسَكَ، وَهُوَ ضِدُّ الصَّبْرِ. وَالْمَعْنَى: لَا يَحْمِلَنَّكَ عَلَى تَرْكِ الصَّبْرِ. وَالْخِفَّةُ مُسْتَعَارَةٌ
لِحَالَةِ الْجَزَعِ وَظُهُورِ آثَارِ الْغَضَبِ. وَهِيَ مِثْلُ الْقَلَقِ الْمُسْتَعَارِ مِنِ اضْطِرَابِ الشَّيْءِ لِأَنَّ آثَارَ الْجَزَعِ وَالْغَضَبِ تُشْبِهُ تَقَلْقُلَ الشَّيْءِ الْخَفِيفِ، فَالشَّيْءُ الْخَفِيفُ يَتَقَلْقَلُ بِأَدْنَى تَحْرِيكٍ، وَفِي ضِدِّهِ يُسْتَعَارُ الرُّسُوخُ وَالتَّثَاقُلُ. وَشَاعَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَاتُ حَتَّى سَاوَتِ الْحَقِيقَةَ فِي الِاسْتِعْمَالِ.
وَنَهْيُ الرَّسُولِ عَنْ أَنْ يَسْتَخِفَّهُ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ نَهْيٌ عَنِ الْخِفَّةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَحْدُثَ لِلْعَاقِلِ إِذَا رَأَى عِنَادَ مَنْ هُوَ يُرْشِدُهُ إِلَى الصَّلَاحِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَسْتَفِزُّ غَضَبَ الْحَلِيمِ، فَالِاسْتِخْفَافُ هُنَا هُوَ أَنْ يُؤَثِّرُوا فِي نَفْسِهِ ضِدَّ الصَّبْرِ، وَيَأْتِي قَوْلُهُ تَعَالَى فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [٥٤]، فَانْظُرْهُ إِكْمَالًا لِمَا هُنَا. وَأَسْنَدَ الِاسْتِخْفَافَ إِلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّهُمْ سَبَبُهُ بِمَا يَصْدُرُ مِنْ عِنَادِهِمْ.
والَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمُ الصِّفَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنَ
الْمَثَلَ بِمَنْ شَكَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ وَاتَّقَوْهُ فَأُوتُوا خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَسُخِّرَتْ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ مِثْلُ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، وَبِمَنْ كَفَرُوا بِاللَّهِ فَسُلِّطَتْ عَلَيْهِ الْأَرْزَاءُ فِي الدُّنْيَا وَأُعِدَّ لَهُمُ الْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ مَثْلُ سَبَأٍ، وَحُذِّرُوا مِنَ الشَّيْطَانِ، وَذُكِّرُوا بِأَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ قُرَّةِ الْعَيْنِ يُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَأُنْذِرُوا بِمَا
سَيَلْقَوْنَ يَوْمَ الْجَزَاءِ مِنْ خِزْيٍ وَتَكْذِيبٍ وَنَدَامَةٍ وَعَدَمِ النَّصِيرِ وَخُلُودٍ فِي الْعَذَابِ، وَبُشِّرَ الْمُؤْمِنُونَ بالنعيم الْمُقِيم.
[سُورَة سبإ (٣٤) : آيَة ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١)أُفْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِ الْحَمْدُ لِلَّهِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ السُّورَةَ تَتَضَمَّنُ مِنْ دَلَائِلِ تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَاتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْعَظَمَةِ مَا يَقْتَضِي إِنْشَاءَ الْحَمْدِ لَهُ وَالْإِخْبَارَ بِاخْتِصَاصِهِ بِهِ. فَجُمْلَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ هُنَا يَجُوزُ كَوْنُهَا إِخْبَارًا بِأَنَّ جِنْسَ الْحَمْدِ مُسْتَحَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَتَكُونُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّهِ لَامَ الْمِلْكِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِنْشَاءَ ثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ عَلَى وَجْهِ تَعْلِيمِ النَّاسِ أَنْ يَخُصُّوهُ بِالْحَمْدِ فَتَكُونُ اللَّامُ لِلتَّبْيِينِ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: أَحْمَدُ اللَّهَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [٢]، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَعْقِيبِهِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَأَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ.
وَهَذِهِ إِحْدَى سُوَرٍ خَمْسٍ مُفْتَتَحَةٍ بِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَهُنَّ كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ وَقَدْ وُضِعَتْ فِي تَرْتِيبِ الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِهِ وَوَسَطِهِ، وَالرُّبُعِ الْأَخِيرِ، فَكَانَتْ أَرْبَاعُ الْقُرْآنِ مُفْتَتَحَةً بِالْحَمْدِ لِلَّهِ كَانَ ذَلِكَ بِتَوْفِيقٍ مِنَ اللَّهِ أَوْ تَوْقِيفٍ.
وَاقْتِضَاءُ صِلَةِ الْمَوْصُولِ أَنَّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى يَجْعَلُ هَذِهِ الصِّلَةَ صَالِحَةً لِتَكَوُنَ عِلَّةً لِإِنْشَاءِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّ مِلْكَهُ لِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِلْكٌ حَقِيقِيٌّ لِأَنَّ سَبَبَهُ إِيجَادُ تِلْكَ الْمَمْلُوكَاتِ وَذَلِكَ الْإِيجَادُ عَمَلٌ جَمِيلٌ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْحَمْدُ، وَأَيْضًا هُوَ يَتَضَمَّنُ نِعَمًا جَمَّةً. وَهِيَ أَيْضًا تَقْتَضِي حَمْدَ الْمُنْعِمِ، لِأَنَّ الْحَمْدَ يكون للفضائل وللفواضل فَمَا فِي السَّمَوَات فَإِنَّ مِنْهُ مَهَابِطَ أَنْوَارٍ حَقِيقِيَّةٍ وَمَعْنَوِيَّةٍ، فِيهَا هُدًى حِسِّيٌّ وَنَفْسَانِيٌّ، وَإِلَيْهِ مَعَارِجَ لِلنُّفُوسِ فِي مَرَاتِبِ
الدَّرَجَةِ، اقْتَصَرَ عَلَى وَصْفِ الْعِبَادِ بِالْمُؤْمِنِينَ تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الْإِيمَانِ لِيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَيُقْلِعَ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الشِّرْكِ. وَهَذِهِ نِعْمَةٌ تَاسِعَةٌ. وَأُقْحِمَ مَعَهَا مِنْ عِبادِنَا لِتَشْرِيفِهِ بِتِلْكَ الْإِضَافَةِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ [الصافات: ٤٠- ٤١] وَهَذِهِ نِعْمَةٌ عَاشِرَةٌ، وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى عَظِيمِ قَدْرِ الْإِيمَانِ.
وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عِبْرَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِمَا حَلَّ بِقَوْمِ نوح وتسلية للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعْلُ نُوحٍ قُدْوَةً لَهُ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُ كَمَا نَصَرَ نُوحًا عَلَى قَوْمِهِ وَيُنْجِيهِ مِنْ أَذَاهُمْ وَتَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ. وثُمَّ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ لِلتَّرْتِيبِ وَالتَّرَاخِي الرَّتْبِيَّيْنِ لِأَنَّ بَعْضَ مَا ذُكِرَ قَبْلَهَا فِي الْكَلَامِ هُوَ مِمَّا حَصَلَ بَعْدَ مَضْمُونِ جُمْلَتِهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَمَا هُوَ بَيِّنٌ، وَمَعْنَى التَّرَاخِي الرَّتْبِيِّ هُنَا أَنَّ إِغْرَاقَ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ مَعَ نَجَاتِهِ وَنَجَاةِ أَهْلِهِ، أَعْظَمُ رُتْبَةً فِي الِانْتِصَارِ لَهُ وَالدَّلَالَةِ عَلَى وَجَاهَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلُطْفِهِ.
وَمَعْنَى الْآخَرِينَ مَنْ عَدَاهُ وَعَدَا أَهْلَهَ، أَيْ بَقِيَّةُ قَوْمِهِ، وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِالْآخَرِينَ ضَرْبٌ مِنَ الِاحْتِقَارِ. وَمِمَّا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: «إِنَّ الْآخَرَ قَدْ زَنَى» يَعْنِي نَفْسَهَ عَلَى رِوَايَةِ الْآخَرِ بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَهِيَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ فِي الْحَدِيثِ.
وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ نُوحٍ وَقِصَّتِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً فِي آلِ عِمْرَانَ [٣٣]، وَفِي الْأَعْرَافِ، وَفِي سُورَةِ هُودٍ، وَذِكْرُ سَفِينَتِهِ فِي أَوَّلِ سُورَة العنكبوت.
[٨٣- ٨٧]
[سُورَة الصافات (٣٧) : الْآيَات ٨٣ إِلَى ٨٧]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧)
تَخَلَّصَ إِلَى حِكَايَةِ مَوْقِفِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قَوْمِهِ فِي دَعْوَتِهِمْ إِلَى التَّوْحِيدِ
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْقِبْطَ كَانُوا عَلَى عِلْمٍ بِمَا حَلَّ بِقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ، فَأَمَّا قَوْمُ نُوحٍ فَكَّانِ طُوفَانُهُمْ مَشْهُورًا، وَأُمًّا عَادٌ وَثَمُودُ فَلِقُرْبِ بِلَادِهِمْ مَنْ الْبِلَادُ الْمِصْرِيَّةِ وَكَانَ عَظِيمًا لَا
يَخْفَى عَلَى مُجَاوِرِيهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ وَهِيَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ كَلَامَيْهِ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، أَيْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ جَزَاءً عَادِلًا مِنَ اللَّهِ وَهُوَ جَزَاءُ الْإِشْرَاكِ.
وَالظُّلْمُ يُطْلَقُ عَلَى الشِّرْكِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: ١٣]، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمُعَامَلَةِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقَدْ جَمَعَ قَوْلُهُ: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ نَفِيَ الظُّلْمِ بِمَعْنَيَيْهِ عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. وَكَذَلِكَ فِعْلُ يُرِيدُ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ كَقَوْلِهِ: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [الْمَائِدَة: ٦] وَيُطْلَقُ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ كَقَوْلِهِ: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ [الذاريات: ٥٧]، فَلَمَّا وَقَعَ فِعْلُ الْإِرَادَةِ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ اقْتَضَى عُمُومَ نَفِيِ الْإِرَادَةِ بِمَعْنَيَيْهَا عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ، فَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُحِبُّ صُدُورَ ظُلْمٍ مِنْ عِبَادِهِ وَلَا يَشَاءُ أَنْ يَظْلِمَ عِبَادَهُ. وَأَوَّلُ الْمَعْنَيَيْنَ فِي الْإِرَادَةِ وَفِي الظُّلْمِ أَعْلَقُ بِمَقَامُ الْإِنْذَارَ، وَالْمَعْنَى الثَّانِيَ تَابِعٌ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَتْرُكُ عِقَابَ أَهْلِ الشِّرْكِ لِأَنَّهُ عَدْلٌ، لِأَنَّ التَّوَعُّدَ بِالْعِقَابِ عَلَى الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي إِقْلَاعِ النَّاسِ عَنْهُ، وَصِدْقُ الْوَعِيدِ مِنْ مُتَمِّمَاتِ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ لِإِقَامَةِ الْعَدْلِ.
وَتَقْدِيمُ اسْمِ اللَّهُ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ قَصْرِ مَدْلُولِ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَإِذْ كَانَ الْمُسْنَدُ وَاقِعًا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ كَانَ الْمَعْنَى: قَصْرُ نَفْيِ إِرَادَةِ الظُّلْمِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى قَصْرَ قَلْبٍ، أَيِ اللَّهُ لَا يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ بَلْ غَيْرُهُ يُرِيدُونَهُ لَهُمْ وَهُمْ قَادَةُ الشِّرْكِ وَأَيِمَّتُهُ إِذْ يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِهِ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الْأَعْرَاف: ٢٨].
هَذَا عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ لِلظُّلْمِ، وَأَمَّا عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي فَالْمَعْنَى: مَا اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ
يُسْلِمُوا بَاقُونَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَدْخَلُ فِي التَّسْلِيَةِ لِأَنَّ اسْمَ الْإِنْسَانِ اسْمُ جِنْسٍ يَتَضَمَّنُ أَوْصَافَ الْجِنْسِ الْمُسَمَّى بِهِ عَلَى تَفَاوُتٍ فِي ذَلِكَ وَذَلِكَ لِغَلَبَةِ الْهَوَى. وَقَدْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ مِرَارًا كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً [المعارج: ١٩] وَقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات:
٦] وَقَوْلِهِ: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الْكَهْف: ٥٤]. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِمُنَاسَبَةِ التَّسْلِيَةِ بِأَنْ نُزِّلَ السَّامِعُ الَّذِي لَا يَشُكُّ فِي وُقُوعِ هَذَا الْخَبَرِ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ فِي ذَلِكَ لِاسْتِعْظَامِهِ إِعْرَاضَهُمْ عَنْ دَعْوَةِ الْخَيْرِ فَشُبِّهَ بِالْمُتَرَدِّدِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَحَرْفُ التَّأْكِيدِ مِنْ رَوَادِفِ الْمُشَبَّهِ بِهِ الْمَحْذُوفِ.
وَالْإِذَاقَةُ: مَجَازٌ فِي الْإِصَابَةِ.
وَالْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ: أَثَرُ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ النِّعْمَةُ. فَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّا إِذَا رَحِمْنَا الْإِنْسَانَ فَأَصَبْنَاهُ بِنِعْمَةٍ، بِقَرِينَةِ مُقَابَلَةِ الرَّحْمَةِ بِالسَّيِّئَةِ كَمَا قُوبِلَتْ بِالضَّرَّاءِ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [٥٠].
وَالْمُرَادُ بِالْفَرَحِ: مَا يَشْمَلُ الْفَرَحَ الْمُجَاوِزَ حَدَّ الْمَسَرَّةِ إِلَى حَدِّ الْبَطَرِ وَالتَّجَبُّرِ، عَلَى نَحْوِ مَا اسْتُعْمِلَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [الْقَصَص: ٧٦] لَا الْفَرَحُ الَّذِي فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمرَان: ١٧٠].
وَتَوْحِيدُ الضَّمِيرِ فِي فَرِحَ لِمُرَاعَاةِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ جَمْعًا، كَقَوْلِهِ:
فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي [الحجرات: ٩] أَيِ الطَّائِفَةَ الَّتِي تَبْغِي، فَاعْتَدَّ بِلَفْظِ طَائِفَةٍ دُونَ مَعْنَاهُ مَعَ
أَنَّهُ قَالَ قبله اقْتَتَلُوا [الحجرات: ٩]. وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بِضَمِيرَيِ الْجَمَاعَةِ ثُمَّ عَادَ فَقَالَ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ.
وَاجْتِلَابُ إِذا فِي هَذَا الشَّرْطِ لِأَنَّ شَأْنَ إِذا أَنْ تَدُلَّ عَلَى تَحَقُّقِ كَثْرَةِ وُقُوعِ شَرْطِهَا، وَشَأْنُ إِنْ أَنْ تَدُلَّ عَلَى نُدْرَةِ وُقُوعِهِ، وَلِذَلِكَ اجْتَلَبَ إِنْ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ لِأَنَّ إِصَابَتَهُمْ بِالسَّيِّئَةِ نَادِرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِإِصَابَتِهِمْ بِالنِّعْمَةِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الْأَعْرَاف:
١٣١].
وَيَجُوزُ أَنْ يُفِيدَ أَيْضًا مَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُطَالِبُكُمْ بِإِعْطَاءِ مَالٍ لِذَاتِهِ فَإِنَّهُ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَإِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ لِصَالِحِكُمْ كَمَا قَالَ: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ [مُحَمَّد: ٣٨]. وَهَذَا تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [مُحَمَّد: ٣٨] أَيْ مَا يَكُونُ طَلَبُ بَذْلِ الْمَالِ إِلَّا لِمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ، وَأَيَّةُ مَصْلَحَةٍ أَعْظَمُ مِنْ دَمْغِهَا الْعَدُوَّ عَنْ نَفْسِهَا لِئَلَّا يُفْسِدَ فِيهَا وَيَسْتَعْبِدَهَا.
وَأَمَّا تَفْسِيرُ سُؤَالِ الْأَمْوَالِ الْمَنْفِيِّ بِطَلَبِ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ فَصَرْفٌ لِلْآيَةِ عَنْ مَهْيَعِهَا فَإِنَّ الزَّكَاةَ مَفْرُوضَةٌ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّ الزَّكَاةَ فُرِضَتْ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ عَلَى الْأَصَحِّ.
وَجُمْلَة إِنْ يَسْئَلْكُمُوها إِلَخْ تَعْلِيلٌ لِنَفْيِ سُؤَالِهِ إِيَّاهُمْ أَمْوَالَهُمْ، أَيْ لِأَنَّهُ إِنْ سَأَلَكُمْ إِعْطَاءَ جَمِيعَ أَمْوَالِكُمْ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ مَنْ يَسْمَحُ بِالْمَالِ لَا تَبْخَلُوا بِالْبَذْلِ وَتَجْعَلُوا تَكْلِيفَكُمْ بِذَلِكَ سَبَبًا لِإِظْهَارِ ضِغْنَكُمْ عَلَى الَّذِينَ لَا يُعْطُونَ فَيَكْثُرُ الِارْتِدَادُ وَالنِّفَاقُ وَذَلِكَ
يُخَالِفُ مُرَادَ اللَّهِ مِنْ تَزْكِيَةِ نُفُوسِ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِيمَانِ.
وَهَذَا مُرَاعَاةٌ لِحَالِ كَثِيرٍ يَوْمَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ وَكَانُوا قَدْ بَذَلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ لِلْمُهَاجِرِينَ فَيَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ لَمْ يَسْأَلْهُمْ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ يَتَرَصَّدُونَ الْفُرَصَ لِفِتْنَتِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المُنَافِقُونَ: ٧]. وَهَذَا يُشِيرُ إِلَيْهِ عَطْفُ قَوْلِهِ: وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ أَيْ تَحْدُثُ فِيكُمْ أَضْغَانٌ فَيَكُونُ سُؤَالُهُ أَمْوَالَكُمْ سَبَبًا فِي ظُهُورِهَا فَكَأَنَّهُ أَظْهَرَهَا.
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي سَدِّ ذَرِيعَةِ الْفَسَادِ.
وَالْإِحْفَاءُ: الْإِكْثَارُ وَبُلُوغُ النِّهَايَةِ فِي الْفِعْلِ، يُقَالُ: أَحْفَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ إِذَا لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِنَ الْإِلْحَاحِ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ: الْإِحْفَاءُ أَنْ تَأْخُذَ كُلَّ شَيْءٍ بِيَدَيْكَ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ غَرِيبٌ. وَعُبِّرَ بِهِ هُنَا عَنِ الْجَزْمِ فِي الطَّلَبِ وَهُوَ الْإِيجَابُ، أَيْ فَيُوجِبُ عَلَيْكُمْ بَذْلَ الْمَالِ وَيَجْعَلُ عَلَى مَنْعِهِ عُقُوبَةً.
وَالْبُخْلُ: مَنْعُ بَذْلِ الْمَالِ.
وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَمَا ثَبَتَ مِنَ الْأَخْبَارِ مَجَالًا لِأَنْظَارِ الْفُقَهَاءِ فِي الْجَمْعِ بَيْنِهُمَا وَالْأَخْذِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَفِي الِاقْتِصَارِ عَلَى نَوْعِ مَا وَرَدَ فِيهِ الْإِذْنُ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ.
وَمِمَّا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ التَّكَالِيفَ الْوَاجِبَةَ عَلَى الْعَيْنِ فَرْضًا أَوْ سُنَّةً مُرَتَّبَةَ الْمَقْصِدِ مِنْ مُطَالَبَةِ الْمُكَلَّفِ بِهَا مَا يَحْصُلُ بِسَبَبِهَا مِنْ تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ لِيَكُونَ جُزْءًا صَالِحًا فَإِذَا قَامَ بِهَا غَيْرُهُ عَنْهُ فَاتَ الْمَقْصُودُ مِنْ مُخَاطَبَةِ أَعْيَانِ الْمُسْلِمِينَ بِهَا، وَكَذَا اجْتِنَابُ الْمَنْهِيَّاتِ لَا تُتَصَوَّرُ فِيهَا النِّيَابَةُ لِأَنَّ الْكَفَّ لَا يَقْبَلُ التَّكَرُّرَ فَهَذَا النَّوْعُ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ فِيهِ إِلَّا مَا سعى وَلَا تجزىء فِيهِ نِيَابَةُ غَيْرِهِ عَنْهُ فِي أَدَائِهَا، فَأَمَّا الْإِيمَانُ فَأَمْرُهُ بَيِّنٌ لِأَنَّ مَاهِيَّةَ الْإِيمَانِ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا التَّعَدُّدُ بِحَيْثُ يُؤْمِنُ أَحَدٌ عَنْ نَفْسِهِ وَيُؤْمِنُ عَنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ إِذَا اعْتَقَدَ اعْتِقَادًا جَازِمًا فَقَدْ صَارَ ذَلِكَ إِيمَانَهُ. قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» :«أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ».
وَأَمَّا مَا عَدَا الْإِيمَانَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الْوَاجِبَةِ فَأَمَّا مَا هُوَ مِنْهَا مِنْ عَمَلِ الْأَبْدَانِ فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى مِنْهُ وَلَا يجزىء عَنْهُ سَعْيُ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الْأُمُور المعيّنة الْمُطَالَبِ بِهَا الْمَرْءُ بِنَفْسِهِ هُوَ مَا فِيهَا مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَارْتِيَاضِهَا عَلَى الْخَيْرِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَمِثْلُ ذَلِكَ الرَّوَاتِبُ مِنَ النَّوَافِلِ وَالْقُرُبَاتِ حَتَّى يَصْلُحَ الْإِنْسَانُ وَيَرْتَاضَ عَلَى مُرَاقَبَةِ رَبِّهِ بِقَلْبِهِ وَعَمَلِهِ وَالْخُضُوعِ لَهُ تَعَالَى لِيَصْلُحَ بِصَلَاحِ الْأَفْرَادِ صَلَاحُ مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ وَالنِّيَابَةُ تُفِيتُ هَذَا الْمَعْنَى.
فَمَا كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ بِالطَّلَبِ كَالْقُرَبِ النَّافِلَةِ فَإِنَّ فِيهِ مَقْصِدَيْنِ مَقْصِدٌ مُلْحَقٌ بِالْمَقْصِدِ الَّذِي فِي الْأَعْمَالِ الْمُعَيَّنَةِ بِالطَّلَبِ، وَمَقْصِدُ تَكْثِيرِ الْخَيْرِ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الصَّالِحَةِ وَهَذَا الِاعْتِبَارُ الثَّانِي لَا تُفِيتُهُ النِّيَابَةُ.
وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَا كَانَ مِنْ عَمَلِ الْإِنْسَانِ بِبَدَنِهِ وَمَا كَانَ مِنْ عَمَلِهِ بِمَالِهِ لَا أَرَاهُ فَرْقًا مُؤَثِّرًا فِي هَذَا الْبَابِ، فَالْوَجْهُ اطِّرَادُ الْقَوْلِ فِي كِلَا النَّوْعَيْنِ بِقُبُولِ النِّيَابَةِ أَوْ بِعَدَمِ قَبُولِهَا:
مِنْ صَدَقَاتٍ وَصِيَامٍ وَنَوَافِلِ الصَّلَوَاتِ وَتَجْهِيزِ الْغُزَاةِ لِلْجِهَادِ غَيْرِ الْمُتَعَيِّنِ عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُجَهِّزِ (بِكَسْرِ الْهَاءِ) وَلَا عَلَى الْمُجَهَّزِ (بِفَتْحِ الْهَاءِ)، وَالْكَلِمَاتِ
وَتَعْدِيَةُ جَاءَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا لِأَنَّهُمِ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِذِلِكَ الْحَقِّ وَتَقَبَّلُوهُ فَكَأَنَّهُ جَاءَ إِلَيْهِمْ لَا إِلَى غَيْرِهِمْ وَإِلَّا فَإِنَّهُ جَاءَ لِدَعْوَةِ الَّذِينَ آمَنُوا وَالْمُشْرِكِينَ فَقَبِلَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَنَبَذَهُ الْمُشْرِكُونَ.
وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ كُفْرَ الْكَافرين بِهِ ناشىء عَنْ حَسَدِهِمُ الَّذِينَ آمَنُوا قَبْلَهُمْ.
وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا إِلْهَابٌ لِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَحْذَرُوا مِنْ مُوَالَاةِ الْمُشْرِكِينَ.
وَجُمْلَةُ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ كَفَرُوا، أَيْ لَمْ يَكْتَفُوا بِكُفْرِهِمْ بِمَا جَاءَ مِنَ الْحَقِّ فَتَلَبَّسُوا مَعَهُ بِإِخْرَاج الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِخْرَاجِكُمْ مِنْ بَلَدِكُمْ لِأَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ، أَيْ هُوَ اعْتِدَاءٌ حَمَلَهُمْ عَلَيْهِ أَنَّكُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ. وَأَنَّ ذَلِكَ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِيهِ لِأَنَّ إِيمَانَكُمْ لَا يَضِيرُهُمْ. وَلِذَلِكَ أُجْرِيَ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ وَصْفُ رَبِّكُمْ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الْكَافِرُونَ: ١- ٣] ثُمَّ قَالَ: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الْكَافِرُونَ: ٦].
وَحُكِيَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِتَصْوِيرِ الْحَالَةِ لَأَنَّ الْجُمْلَةَ لَمَّا وَقَعَتْ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ وَقَدْ كَفَرُوا كَانَ إِخْرَاج الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ عَمَلًا فَظِيعًا، فَأُرِيدَ اسْتِحْضَارُ صُورَةِ ذَلِكَ الْإِخْرَاجِ الْعَظِيمِ فَظَاعَةَ اعْتِلَالِهِمْ لَهُ.
وَالْإِخْرَاجُ أُرِيدَ بِهِ: الْحَمْلُ عَلَى الْخُرُوجِ بِإِتْيَانِ أَسْبَابِ الْخُرُوجِ مِنْ تَضْيِيقٍ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ وَأَذًى لَهُمْ.
وَأُسْنِدَ الْإِخْرَاجُ إِلَى ضَمِيرِ الْعَدُوِّ كُلِّهِمْ لَأَنَّ جَمِيعَهُمْ كَانُوا رَاضِينَ بِمَا يَصْدُرُ مِنْ بَعْضِهِمْ مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ. وَرُبَّمَا أَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ، وَلِذَلِكَ فَالْإِخْرَاجُ مَجَازٌ فِي أَسْبَابِهِ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ إِسْنَادٌ حَقِيقِيٌّ.
وَهَذِهِ الصِّفَاتُ بِمَجْمُوعِهَا لَا تَنْطَبِقُ إِلَّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَجْمُوعُهَا هُوَ عِلَّةُ النَّهْيِ عَنْ مُوَادَّتِهِمْ.
وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تُؤْمِنُوا، لِإِفَادَةِ اسْتِمْرَارِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى الثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِثَبَاتِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَصُدُّهُمْ عَنْهُ مَا سَبَّبَ لَهُمُ الْخُرُوجَ مِنْ بِلَادِهِمْ.
وَالْمُرَادُ أَنَّهُ مُقَدَّمٌ سَابِقٌ لِإِبَّانِهِ لِيُنْتَفَعَ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ اشْتُقَّ السَّلَفُ لِلْقَرْضِ، وَالْإِسْلَافُ لِلْإِقْرَاضُ، وَالسُّلْفَةُ لِلسَّلَمِ.
والْأَيَّامِ الْخالِيَةِ: الْمَاضِيَةُ الْبَعِيدَةُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخُلُوِّ وَهُوَ الشغور والبعد.
[٢٥- ٢٩]
[سُورَة الحاقة (٦٩) : الْآيَات ٢٥ إِلَى ٢٩]
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ (٢٦) يَا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩)
هَذَا قَسِيمُ مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ [الحاقة: ١٩]، فَالْقَوْلُ فِي إِيتَائِهِ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ قَدْ عُرِفَ وَجْهُهُ مِمَّا تَقَدَّمَ.
وَتَمَنِّي كُلِّ مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ أَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ كِتَابَهُ، لِأَنَّهُ عَلِمَ مِنَ الْاطِّلَاعِ عَلَى كِتَابِهِ أَنَّهُ صَائِرٌ إِلَى الْعَذَابِ فَيَتَمَنَّى أَنْ لَا يَكُونَ عَلِمَ بِذَلِكَ إِبْقَاءً عَلَى نَفْسِهِ مِنْ حُزْنِهَا زَمَنًا فَإِنَّ تَرَقُّبَ السُّوءِ عَذَابٌ.
وَجُمْلَةُ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَيْتَنِي.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ كَانَ مُكَذِّبًا بِالْحِسَابِ وَهُوَ مُقَابِلُ قَوْلِ الَّذِي أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ [الحاقة: ٢٠].
وَجُمْلَةُ الْحَالِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَتَيِ التَّمَنِّي.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى التَّمَنِّي، أَيْ يَا لَيْتَنِي لَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ، أَيْ لَمْ أَعْرِفْ كُنْهَ حِسَابِي، أَيْ نَتِيجَتَهُ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى التَّمَنِّي الَّذِي قَبْلَهُ فَإِعَادَتُهُ تَكْرِيرٌ لِأَجْلِ التَّحَسُّرِ وَالتَّحَزُّنِ.
وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالْاسْتِفْهَامُ بِهَا هُوَ الَّذِي عَلَّقَ فِعْلَ أَدْرِ عَنِ الْعَمَلِ، وَيَا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ تَمَنٍّ آخَرَ وَلَمْ يُعْطَفْ عَلَى التَّمَنِّي الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّحَسُّرُ وَالتَّنَدُّمُ.
هَذَا الْعَالَمِ، وَتَحْصُلُ صَيْحَاتٌ مِنْهَا أَصْوَاتٌ تُزَلْزِلُ الْأَرْضَ وَاصْطِدَامُ بَعْضِ الْكَوَاكِبِ بِالْأَرْضِ مَثَلًا، وَنَفْخَةُ الصُّورِ الَّتِي تُبْعَثُ عِنْدَهَا النَّاسُ.
وَ (إِذَا) ظَرْفٌ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ جاءَتِ الصَّاخَّةُ وَجَوَابُهُ قَوْلُهُ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ الْآيَاتِ.
وَالْمَجِيءُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْحُصُولِ مَجَازًا، شُبِّهَ حُصُولُ يَوْمِ الْجَزَاءِ بِشَخْصٍ جَاءَ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ.
ويَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ بَدَلٌ مِنْ إِذَا جاءَتِ الصَّاخَّةُ بَدَلًا مُطَابِقًا.
وَالْفِرَارُ: الْهُرُوبُ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ مُخِيفٍ.
وَحَرْفُ (مِنْ) هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى التَّعْلِيلِ الَّذِي يُعَدَّى بِهِ فِعْلُ الْفِرَارِ إِلَى سَبَبِ الْفِرَارِ حِينَ يُقَالُ: فَرَّ مِنَ الْأَسَدِ، وَفَرَّ مِنَ الْعَدُوِّ، وَفَرَّ مِنَ الْمَوْتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُجَاوَزَةِ مِثْلَ (عَنْ).
وَكَوْنُ أَقْرَبِ النَّاسِ لِلْإِنْسَانِ يَفِرُّ مِنْهُمْ يَقْتَضِي هَوْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِحَيْثُ إِذَا رَأَى مَا يَحِلُّ مِنَ الْعَذَابِ بِأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ تَوَهَّمَ أَنَّ الْفِرَارَ مِنْهُ يُنْجِيهِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِهِ، إِذْ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مُمَاثِلًا لَهُمْ فِيمَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْأَعْمَالِ فَذُكِرَتْ هُنَا أَصْنَافٌ مِنَ الْقَرَابَةِ، فَإِنَّ الْقَرَابَةَ آصِرَةٌ تَكُونُ لَهَا فِي النَّفْسِ مَعَزَّةٌ وَحِرْصٌ عَلَى سَلَامَةِ صَاحِبِهَا وَكَرَامَتِهِ. وَالْإِلْفُ يُحْدِثُ فِي النَّفْسِ حِرْصًا عَلَى الْمُلَازَمَةِ وَالْمُقَارَنَةِ. وَكِلَا هَذَيْنِ الْوِجْدَانَيْنِ يَصُدُّ صَاحِبَهُ عَنِ الْمُفَارَقَةِ فَمَا ظَنُّكَ بِهَوْلٍ يَغْشَى على هذَيْن الواجدين فَلَا يَتْرُكُ لَهُمَا مَجَالًا فِي النَّفْسِ.
وَرُتِّبَتْ أَصْنَافُ الْقَرَابَةِ فِي الْآيَةِ حَسَبَ الصُّعُودِ مِنَ الصِّنْفِ إِلَى مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ تَدَرُّجًا فِي تَهْوِيلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
فَابْتُدِئَ بِالْأَخِ لِشِدَّةِ اتِّصَالِهِ بِأَخِيهِ مِنْ زَمَنِ الصِّبَا فَيَنْشَأُ بِذَلِكَ إِلْفٌ بَيْنَهُمَا يَسْتَمِرُّ طُولَ الْحَيَاةِ، ثُمَّ ارْتُقِيَ مِنَ الْأَخِ إِلَى الْأَبَوَيْنِ وَهُمَا أَشَدُّ قُرْبًا لِابْنَيْهِمَا، وَقُدِّمَتِ الْأُمُّ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّ إِلْفَ ابْنِهَا بِهَا أَقْوَى مِنْهُ بِأَبِيهِ وَلِلرَّعْيِ عَلَى الْفَاصِلَةِ، وَانْتُقِلَ إِلَى الزَّوْجَةِ وَالْبَنِينَ وَهُمَا مُجْتَمَعُ عَائِلَةِ الْإِنْسَانِ وَأَشَدُّ النَّاسِ قُرْبًا بِهِ وَمُلَازَمَةً.