عَنِ الْفِعْلِ فَهُوَ يُنَادِي عَلَى تَقْدِيرِ الْفِعْلِ فَلَا يَحْصُلُ الدَّوَامُ. وَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعَهُ اعْتِبَارُ التَّقْدِيمِ فَلَا يَحْصُلُ الِاهْتِمَامُ. وَلِأَنَّهُ وَإِنْ صَحَّ اجْتِمَاعُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ مَعَ النصب كَمَا قرىء بِذَلِكَ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ فَالتَّعْرِيفُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ دَالًّا عَلَى عُمُومِ الْمَحَامِدِ لِأَنَّهُ إِنْ قُدِّرَ الْفِعْلُ أَحْمَدُ بِهَمْزَةِ الْمُتَكَلِّمِ فَلَا يَعُمُّ إِلَّا تَحْمِيدَاتِ الْمُتَكَلِّمِ دُونَ تَحْمِيدَاتِ جَمِيعِ النَّاسِ، وَإِنْ قُدِّرَ الْفِعْلُ نَحْمَدُ وَأُرِيدَ بِالنُّونِ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَرِينَةِ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وَبِقَرِينَةِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ فَإِنَّمَا يَعُمُّ مَحَامِدَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ مَحَامِدَ الْمُوَحِّدِينَ كُلِّهِمْ، كَيْفَ وَقَدْ حَمِدَ أَهْلُ الْكِتَابِ اللَّهَ تَعَالَى وَحَمِدَهُ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ
أَبِي الصَّلْتِ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا لَا انْقِطَاعَ لَهُ | فَلَيْسَ إِحْسَانُهُ عَنَّا بِمَقْطُوعِ |
وَاعْلَمْ أَنَّ قِرَاءَةَ النَّصْبِ وَإِنْ كَانَتْ شَاذَّةً إِلَّا أَنَّهَا مُجْدِيَةٌ هُنَا لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى اعْتِبَارٍ عَرَبِيٍّ فِي تَطَوُّرِ هَذَا التَّرْكِيبِ الْمَشْهُورِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ نَطَقُوا بِهِ فِي حَالِ التَّعْرِيفِ وَلَمْ يَنْسَوْا أَصْلَ الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ. فَقَدْ بَانَ أَنَّ قَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَبْلَغُ مِنَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بِالنَّصْبِ، وَأَنَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ بِالنَّصْبِ وَالتَّعْرِيفِ أَبْلَغُ مِنْ حَمْدًا لِلَّهِ بِالتَّنْكِيرِ. وَإِنَّمَا كَانَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بِالرَّفْعِ أَبْلَغَ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«إِنَّ الْعُدُولَ عَنِ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ الْمَعْنَى وَاسْتِقْرَارِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [الذاريات: ٢٥] رَفْعُ السَّلَامِ الثَّانِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيَّاهُمْ بِتَحِيَّةٍ أَحْسَنَ مِنْ تَحِيَّتِهِمُ» اهـ.
فَإِنْ قُلْتَ وَقَعَ الِاهْتِمَامُ بِالْحَمْدِ مَعَ أَنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَهَمُّ فَكَانَ الشَّأْنُ تَقْدِيمَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِبْقَاءَ الْحَمْدِ غَيْرَ مُهْتَمٍّ بِهِ حَتَّى لَا يَلْجَأَ إِلَى تَغْيِيرِهِ عَنِ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ لِأَجْلِ هَذَا الِاهْتِمَامِ، قُلْتُ قُدِّمَ الْحَمْدُ لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا مَقَامُ الْحَمْدِ إِذْ هُوَ ابْتِدَاءُ أَوْلَى النِّعَمِ بِالْحَمْدِ وَهِيَ نِعْمَةُ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ الَّذِي فِيهِ نَجَاحُ الدَّارَيْنِ، فَتِلْكَ الْمِنَّةُ مِنْ أَكْبَرِ مَا يُحْمَدُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ جَلَائِلِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَا سِيَّمَا وَقَدِ اشْتَمَلَ الْقُرْآنُ عَلَى كَمَالِ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ وَالْغَايَةِ فَكَانَ خُطُورُهُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ سَمَاعِ إِنْزَالِهِ وَابْتِدَاءِ تِلَاوَتِهِ مُذَكِّرًا بِمَا لِمُنْزِلِهِ تَعَالَى مِنَ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ، وَذَلِكَ يُذَكِّرُ بِوُجُوبِ حَمْدِهِ وَأَنْ لَا يُغْفَلَ عَنْهُ فَكَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ الْحَمْدِ لَا مَحَالَةَ، فَلِذَلِكَ قُدِّمَ وَأُزِيلُ عَنْهُ مَا يُؤْذِنُ بِتَأَخُّرِهِ لِمُنَافَاتِهُُِ
وَيُشْرَعُ عِنْدَهُمْ نَذْرُ الصَّوْمِ عِنْدَ التَّوْبَةِ وَغَيْرِهَا، إِلَّا أَنَّهُمْ يَتَوَسَّعُونَ فِي صِفَةِ الصَّوْمِ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ تَرْكُ الْأَقْوَاتِ الْقَوِيَّةِ وَالْمَشْرُوبَاتِ، أَوْ هُوَ تَنَاوُلُ طَعَامٍ وَاحِدٍ فِي الْيَوْمِ يَجُوزُ أَنْ تَلْحَقَهُ أَكْلَةٌ خَفِيفَةٌ.
وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بَيَانٌ لِحِكْمَةِ الصِّيَامِ وَمَا لِأَجْلِهِ شُرِعَ، فَهُوَ فِي قُوَّةِ الْمَفْعُول لأَجله لكتب. وَ (لَعَلَّ) إِمَّا مُسْتَعَارَةٌ لِمَعْنَى كَيِ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً، وَإِمَّا تَمْثِيلِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ شَأْنِ اللَّهِ فِي إِرَادَتِهِ مِنْ تَشْرِيعِ الصَّوْمِ التَّقْوَى بِحَالِ الْمُتَرَجِّي مِنْ غَيْرِهِ فِعْلًا مَا، وَالتَّقْوَى الشَّرْعِيَّةُ هِيَ اتِّقَاءُ الْمَعَاصِي، وَإِنَّمَا كَانَ الصِّيَامُ مُوجِبًا لِاتِّقَاءِ الْمَعَاصِي، لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ قِسْمَانِ، قِسْمٌ يَنْجَعُ فِي تَرْكِهِ التَّفَكُّرُ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ فَتَرْكُهُ يَحْصُلُ بِالْوَعْدِ عَلَى تَرْكِهِ وَالْوَعِيدِ عَلَى فِعْلِهِ وَالْمَوْعِظَةِ بِأَحْوَالِ الْغَيْرِ، وَقِسْمٌ يَنْشَأُ مِنْ دَوَاعٍ طَبِيعِيَّةٍ كَالْأُمُورِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْغَضَبِ وَعَنِ الشَّهْوَةِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي قَدْ يَصْعُبُ تَرْكُهَا بِمُجَرَّدِ التَّفَكُّرِ، فَجَعَلَ الصِّيَامَ وَسِيلَةً لِاتِّقَائِهَا، لِأَنَّهُ يَعْدِلُ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةَ الَّتِي هِيَ دَاعِيَةُ تِلْكَ الْمَعَاصِي، لِيَرْتَقِيَ الْمُسْلِمُ بِهِ عَنْ حَضِيضِ الِانْغِمَاسِ فِي الْمَادَّةِ إِلَى أَوْجِ الْعَالَمِ الرُّوحَانِيِّ، فَهُوَ وَسِيلَةٌ لِلِارْتِيَاضِ بِالصِّفَاتِ الْمَلَكِيَّةِ وَالِانْتِفَاضِ مِنْ غُبَارِ الْكُدُرَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «الصَّوْمُ جُنَّةٌ»
أَيْ وِقَايَةٌ وَلَمَّا تَرَكَ ذِكْرَ مُتَعَلِّقِ جُنَّةٍ تَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ أَصْنَافِ الْوِقَايَةِ الْمَرْغُوبَةِ، فَفِي الصَّوْمِ وِقَايَةٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَآثِمِ وَوِقَايَةٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَوِقَايَةٌ مِنَ الْعِلَلِ وَالْأَدْوَاءِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْإِفْرَاطِ فِي تَنَاوُلِ اللَّذَّاتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ ظَرْفٌ لِلصِّيَامِ مِثْلَ قَوْلِكَ الْخُرُوجُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَا يَضُرُّ وُقُوعُ الْفَصْلِ بَيْنَ الصِّيامُ وَبَيْنَ أَيَّاماً وَهُوَ قَوْلُهُ: كَما كُتِبَ إِلَى تَتَّقُونَ لِأَنَّ الْفَصْلَ لَمْ يَكُنْ بِأَجْنَبِيٍّ عِنْدَ التَّحْقِيقِ، إِذِ الْحَالُ وَالْمَفْعُولُ لِأَجْلِهِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (لَعَلَّ) كُلُّ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ عَامِلِ الْمَفْعُولِ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ صِيَامٌ، وَمِنْ تَمَامِ الْعَامِلِ فِي ذَلِكَ الْعَامِلُ وَهُوَ كُتِبَ فَإِنَّ عَامِلَ الْعَامِلِ فِي الشَّيْءِ عَامِلٌ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ وَلِجَوَازِ الْفَصْلِ بِالْأَجْنَبِيِّ إِذَا كَانَ الْمَعْمُولُ ظَرْفًا، لِاتِّسَاعِهِمْ فِي الظُّرُوفِ وَهَذَا مُخْتَارُ الزَّجَّاجِ وَالزَّمَخْشَرِيِّ وَالرَّضِيِّ، وَمَرْجِعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى تَجَنُّبِ تَشْتِيتِ الْكَلَامِ بِاخْتِلَالِ نِظَامِهِ الْمَعْرُوفِ، تَجَنُّبًا لِلتَّعْقِيدِ الْمُخِلِّ بِالْفَصَاحَةِ.
وَالْغَالِبُ عَلَى أَحْوَالِ الْأُمَمِ فِي جَاهِلِيَّتِهَا وَبِخَاصَّةٍ الْعَرَبُ هُوَ الِاسْتِكْثَارُ مِنْ تَنَاوُلِ اللَّذَّاتِ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْخُمُورِ وَلَهْوِ النِّسَاءِ وَالدَّعَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوَفِّرُ الْقُوَى الْجُسْمَانِيَّةَ وَالدَّمَوِيَّةَ
عَلَى أَنَّ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ أَمْرَيْنِ آخَرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا كَوْنُهُ شَرِيعَةً دَائِمَةً، وَذَلِكَ يَقْتَضِي فَتْحَ أَبْوَابِ عِبَارَاتِهِ لِمُخْتَلِفِ اسْتِنْبَاطِ الْمُسْتَنْبِطِينَ، حَتَّى تُؤْخَذَ مِنْهُ أَحْكَامُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، وَثَانِيهِمَا تَعْوِيدُ حَمَلَةِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَعُلَمَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، بِالتَّنْقِيبِ، وَالْبَحْثِ، وَاسْتِخْرَاجِ الْمَقَاصِدِ مِنْ عَوِيصَاتِ الْأَدِلَّةِ، حَتَّى تَكُونَ طَبَقَاتُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ صَالِحَةً- فِي كُلِّ زَمَانٍ- لِفَهْمِ تَشْرِيعِ الشَّارِعِ وَمَقْصِدِهِ مِنَ التَّشْرِيعِ، فَيَكُونُوا قَادِرِينَ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ التَّشْرِيعِيَّةِ، وَلَوْ صِيغَ لَهُمُ التَّشْرِيعُ فِي أُسْلُوبٍ سَهْلِ التَّنَاوُلِ لَاعْتَادُوا الْعُكُوفَ عَلَى مَا بَيْنَ أَنْظَارِهِمْ فِي الْمُطَالَعَةِ الْوَاحِدَةِ. مِنْ أَجْلِ هَذَا كَانَتْ صَلُوحِيَّةُ عِبَارَاتِهِ لِاخْتِلَافِ مَنَازِعِ الْمُجْتَهِدِينَ، قَائِمَةً مَقَامَ تَلَاحُقِ الْمُؤَلِّفِينَ فِي تَدْوِينِ كُتُبِ الْعُلُومِ، تَبَعًا لِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِ الْعُصُورِ.
فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا عَلِمْتَ أَصْلَ السَّبَبِ فِي وُجُودِ مَا يُسَمَّى بِالْمُتَشَابِهِ فِي الْقُرْآنِ. وَبَقِيَ أَنْ نَذْكُرَ لَكَ مَرَاتِبَ التَّشَابُهِ وَتَفَاوُتَ أَسْبَابِهَا. وَأَنَّهَا فِيمَا انْتَهَى إِلَيْهِ اسْتِقْرَاؤُنَا الْآنَ عَشْرُ مَرَاتِبَ:
أُولَاهَا: مَعَانٍ قُصِدَ إِيدَاعُهَا فِي الْقُرْآنِ، وَقُصِدَ إِجْمَالُهَا: إِمَّا لِعَدَمِ قَابِلِيَّةِ الْبَشَرِ لِفَهْمِهَا، وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ، إِنْ قُلْنَا بِوُجُودِ الْمُجْمَلِ، الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَنَحْنُ لَا نَخْتَارُهُ. وَإِمَّا لِعَدَمِ قَابِلِيَّتِهِمْ لِكُنْهِ فَهْمِهَا، فَأُلْقِيَتْ إِلَيْهِمْ عَلَى وَجْهِ الْجُمْلَةِ أَوْ لِعَدَمِ
قَابِلِيَّةِ بَعْضِهِمْ فِي عَصْرٍ، أَوْ جِهَةٍ، لِفَهْمِهَا بِالْكُنْهِ وَمِنْ هَذَا أَحْوَالُ الْقِيَامَة، وَبَعض شؤون الرُّبُوبِيَّةِ كَالْإِتْيَانِ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَالرُّؤْيَةِ، وَالْكَلَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَثَانِيَتُهَا: مَعَانٍ قُصِدَ إِشْعَارُ الْمُسْلِمِينَ بِهَا، وَتَعَيَّنَ إِجْمَالُهَا، مَعَ إِمْكَانِ حَمْلِهَا عَلَى مَعَانٍ مَعْلُومَةٍ لَكِنْ بِتَأْوِيلَاتٍ: كَحُرُوفِ أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَنَحْوِ الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥] ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [الْبَقَرَة: ٢٩] (١).
ثَالِثَتُهَا: مَعَانٍ عَالِيَةٌ ضَاقَتْ عَنْ إِيفَاءِ كُنْهِهَا اللُّغَةُ الْمَوْضُوعَةُ لِأَقْصَى مَا هُوَ مُتَعَارَفُ أَهْلِهَا، فَعُبِّرَ عَنْ تِلْكَ الْمَعَانِي بِأَقْصَى مَا يُقَرِّبُ مَعَانِيَهَا إِلَى الْأَفْهَامِ، وَهَذَا مِثْلُ أَكْثَرِ صِفَاتِ الله نَحْو الرحمان، الرؤوف، المتكبّر، نور السَّمَوَات وَالْأَرْضِ.
_________
(١) لَعَلَّ لفعل اسْتَوَى خُصُوصِيَّة فِي اللُّغَة أدْركهَا أهل اللِّسَان يَوْمئِذٍ كَانَ بهَا أَجْدَر بِالدّلَالَةِ على معنى تمكن الْخَالِق من مخلوقه وَلذَلِك اختير فِي الْآيَتَيْنِ دون فعل غلب أَو تمكن.
شَاعَ تَصْبِيرُ الْمَحْزُونِ وَتَعْزِيَتُهُ بِتَذْكِيرِهِ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ، وَلَهُ مَزِيدُ ارْتِبَاطٍ بِقَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمرَان: ١٥٩]، وَكَذَلِكَ جَاءَتْ آيُ هَذَا الْغَرَضِ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ نَاشِئًا بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، مُتَفَنِّنَةً فِي مَوَاقِعِهَا بِحَسَبِ مَا سَمَحَتْ بِهِ فُرَصُ الْفَرَاغِ مِنْ غَرَضٍ وَالشُّرُوعِ فِي غَيْرِهِ فَمَا تَجِدُ طَرَّادَ الْكَلَامِ يَغْدُو طَلْقًا فِي حَلْبَةِ الِاسْتِطْرَادِ إِلَّا وَتَجِدُ لَهُ رَوَاحًا إِلَى مُنْبَعَثِهِ.
وَالْمَنُّ هُنَا: إِسْدَاءُ الْمِنَّةِ أَيِ النِّعْمَةِ، وَلَيْسَ هُوَ تَعْدَادُ النِّعْمَةِ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ مِثْلُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦٤]، وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ هَذَا الْمَنِّ مَنًّا بِالْمَعْنَى الْآخَرِ. وَالْكُلُّ مَحْمُودٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمَنَّ إِنَّمَا كَانَ مَذْمُومًا لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْدَاءِ التَّطَاوُلِ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ، وَطَوْلُ اللَّهِ لَيْسَ بمجحود.
وَالْمرَاد بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَئِذٍ وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَي من أُمَّتِهِمُ الْعَرَبِيَّةِ.
وَ (إِذْ) ظَرْفٌ لِ (مَنَّ) لِأَنَّ الْإِنْعَامَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ حَصَلَ أَوْقَاتَ الْبَعْثِ.
وَمَعْنَى مِنْ أَنْفُسِهِمْ الْمُمَاثَلَةُ لَهُمْ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَكُونُ الْمُمَاثَلَةُ فِيهَا سَبَبًا لِقُوَّةِ التَّوَاصُلِ، وَهِيَ هُنَا النَّسَبُ، وَاللُّغَةُ، وَالْوَطَنُ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: فُلَانٌ مِنْ بَنِي فُلَانٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ مِنْ صَمِيمِهِمْ لَيْسَ انْتِسَابُهُ إِلَيْهِمْ بِوَلَاءٍ أَو لصق، وكأنّه هَذَا وَجْهُ إِطْلَاقِ النَّفْسِ عَلَيْهِ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْمُمَاثَلَةِ، فَكَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ نَسَبِهِمْ أَيْ كَوْنُهُ عَرَبِيًّا يُوجِبُ أُنْسَهُمْ بِهِ وَالرُّكُونَ إِلَيْهِ وَعَدَمَ الِاسْتِيحَاشِ مِنْهُ، وَكَوْنُهُ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِهِمْ يَجْعَلُهُمْ سَرِيعِينَ إِلَى فَهْمِ مَا يَجِيءُ بِهِ، وَكَوْنُهُ جَارًا لَهُمْ وَرَبِيًّا فِيهِمْ يُعَجِّلُ لَهُمُ التَّصْدِيقَ بِرِسَالَتِهِ، إِذْ يَكُونُونَ قَدْ خَبَرُوا أَمْرَهُ، وَعَلِمُوا فَضْلَهُ، وَشَاهَدُوا اسْتِقَامَتَهُ وَمُعْجِزَاتِهِ. وَعَنِ النِّقَاشِ: قِيلَ لَيْسَ فِي الْعَرَبِ قَبِيلَةٌ إِلَّا وَلَهَا وِلَادَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا تَغْلِبَ، وَبِذَلِكَ فُسِّرَ: «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى».
حَتَّى خَرَجَ يَوْمَ الْفَتْحِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَقِيَ الْحَارِثَ بْنَ زَيْدٍ بِقُبَاءٍ، وَكَانَ الْحَارِثُ قَدْ أَسْلَمَ وَلَمْ يَعْلَمْ عَيَّاشٌ بِإِسْلَامِهِ، فَضَرَبَهُ عَيَّاشٌ فَقَتَلَهُ، وَلَمَّا أُعْلِمَ بِأَنَّهُ مُسْلِمٌ رَجَعَ عَيَّاشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي صَنَعَ فَنَزَلَتْ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ.
وَفِي ابْنِ عَطِيَّةَ: قِيلَ نَزَلَتْ فِي الْيَمَانِ، وَالِدِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، حِينَ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ خَطَأً.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرِيِّ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ حِينَ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ، فَعَدَلَ إِلَى شِعْبٍ فَوَجَدَ رَجُلًا فِي غَنَمٍ لَهُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو الدَّرْدَاءِ بِالسَّيْفِ، فَقَالَ الرَّجُلُ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ وَجَاءَ بِغَنَمِهِ إِلَى السَّرِيَّةِ، ثُمَّ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا فَأَتَى إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ.
وَقَوْلُهُ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ الْفَاءُ رَابِطَةٌ لِجَوَابِ الشَّرْطِ، وَ (تَحْرِير) مَرْفُوعٌ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ مِنْ جُمْلَةِ الْجَوَابِ: لِظُهُورِ أَنَّ الْمَعْنَى: فَحُكْمُهُ أَوْ فَشَأْنُهُ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ كَقَوْلِهِ:
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يُوسُف: ١٨]. وَالتَّحْرِيرُ تَفْعِيلٌ مِنَ الْحُرِّيَّةِ، أَيْ جَعْلُ الرَّقَبَةِ حُرَّةً. وَالرَّقَبَةُ أُطْلِقَتْ عَلَى الذَّاتِ مِنْ إِطْلَاقِ الْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ، كَمَا يَقُولُونَ، الْجِزْيَة على الرؤوس عَلَى كُلِّ رَأْسٍ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ.
وَمِنْ أَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ حِرْصُهَا عَلَى تَعْمِيمِ الْحُرِّيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ بِكَيْفِيَّةٍ مُنْتَظِمَةٍ،
فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا بَعَثَ رَسُولَهُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ كَانَتِ الْعُبُودِيَّةُ مُتَفَشِّيَةً فِي الْبَشَرِ، وَأُقِيمَتْ عَلَيْهَا ثَرَوَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَتْ أَسْبَابُهَا مُتَكَاثِرَةً: وَهِيَ الْأَسْرُ فِي الْحُرُوبِ، والتصيير فِي الدِّيوَان، وَالتَّخَطُّفُ فِي الْغَارَاتِ، وَبَيْعُ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ أَبْنَاءَهُمْ، وَالرَّهَائِنُ فِي الْخَوْفِ، وَالتَّدَايُنُ.
فَأَبْطَلَ الْإِسْلَامُ جَمِيعَ أَسْبَابِهَا عَدَا الْأَسْرِ، وَأَبْقَى الْأَسْرَ لِمَصْلَحَةِ تَشْجِيعِ الْأَبْطَالِ، وَتَخْوِيفِ أَهْلِ الدَّعَارَةِ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْعَرَبِيَّ مَا كَانَ يَتَّقِي شَيْئًا مِنْ عَوَاقِبِ الْحُرُوبِ مِثْلَ الْأَسْرِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
حِذَارًا عَلَى أَنْ لَا تُنَالَ مقادتي | وَلَا نسوتهي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرَا |
إِذَا تَذَكَّرْتُ بِنْتِي حِينَ تَنْدُبُنِي | فَاضَتْ لِعَبْرَةِ بِنْتِي عَبْرَتِي بِدَمِ |
أُحَاذِرُ الْفَقْرَ يَوْمًا أَنْ يُلِمَّ بِهَا | فَيُكْشَفُ السِّتْرُ عَنْ لَحْمٍ عَلَى وَضَمِ |
فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ | تَخْشَى بَوَادِرَهُ عَلَى الْأَقْرَانِ |
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ لَمْ يُفِدِ الْقَوْلُ شَيْئًا، لِأَنَّهُ كَقَوْلِكَ: الَّذِي ضَرَبْتُهُ ضَرْبَتُهُ، وَالَّتِي أَكْرَمْتُهَا أَكْرَمْتُهَا، وَلَكِنْ لَمَّا اتَّصَلَ بِ أَغْوَيْناهُمْ الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ كَما غَوَيْنا أَفَادَ الْكَلَامُ كَقَوْلِكَ: الَّذِي ضَرَبْتُهُ ضَرْبَتُهُ لِأَنَّهُ جَاهِلٌ. وَقَدْ كَانَ أَبُو عَلِيٍّ امْتَنَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا اخْتَرْنَاهُ غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا عِنْدِي عَلَى مَا عَرَّفْتُكَ» اه. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ كَلَامِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٧]، وَقَوْلِهِ وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٣٠]، وَقَوْلِهِ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٧٢]، فَإِنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ تُطَابِقُ بَيْتَ الْأَحْوَصِ لِاشْتِمَالِهِنَّ عَلَى (إِذَا).
وكَما غَوَيْنا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ، أَيْ إِغْوَاءً يُوقِعُ فِي نُفُوسِهِمْ غَيًّا مِثْلَ الْغَيِّ الَّذِي فِي قُلُوبِنَا. وَوَجْهُ الشَّبَهِ فِي أَنَّهُمْ تَلَقَّوُا الْغَوَايَةَ مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَفَادَ التَّشْبِيهُ أَنَّ الْمُجِيبِينَ أَغْوَاهُمْ مُغْوُونَ قَبْلَهُمْ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ هَذَا الْجَوَابَ يَدْفَعُ التَّبِعَةَ عَنْهُمْ وَيَتَوَهَّمُونَ أَنَّ
دَمِّهَا إِلَى تَغْذِيَةِ الْجَنِينِ، وَلَا يَزَالُ ذَلِكَ الضَّعْفُ يَتَزَايَدُ بِامْتِدَادِ زَمَنِ الْحَمْلِ فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ وَهْنٌ عَلَى وَهْنٍ.
وَجُمْلَةُ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِلْوِصَايَةِ بِالْوَالِدَيْنِ قَصْدًا لِتَأْكِيدِ تِلْكَ الْوِصَايَةِ لِأَنَّ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ يُفِيدُهُ تَأْكِيدًا، وَلِأَنَّ فِي مَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا يُثِيرُ الْبَاعِثَ فِي نَفْسِ الْوَلَدِ عَلَى أَنْ يَبَرَّ بِأُمِّهِ وَيَسْتَتْبِعَ الْبِرَّ بِأَبِيهِ. وَإِنَّمَا وَقَعَ تَعْلِيلُ الْوِصَايَةِ بِالْوَالِدَيْنِ بِذِكْرِ أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ بِأَحَدِهِمَا وَهِيَ الْأُمُّ اكْتِفَاءً بِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ تَقْتَضِي الْوِصَايَةَ بِالْأَبِ أَيْضًا لِلْقِيَاسِ فَإِنَّ الْأَبَ يُلَاقِي مَشَاقَّ وَتَعَبًا فِي الْقِيَامِ عَلَى الْأُمِّ لِتَتَمَكَّنَ مِنَ الشُّغْلِ بِالطِّفْلِ فِي مُدَّةِ حَضَانَتِهِ ثُمَّ هُوَ يَتَوَلَّى تَرْبِيَتَهُ وَالذَّبَّ عَنْهُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَيَسْتَغْنِيَ عَنِ الْإِسْعَافِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً [الْإِسْرَاء: ٢٤]، فَجَمَعَهُمَا فِي التَّرْبِيَةِ فِي حَالِ الصِّغَرِ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى حِفْظِهِ وَإِكْمَالِ نَشْأَتِهِ، فَلَمَّا ذُكِرَتْ هُنَا الْحَالَةُ الَّتِي تَقْتَضِي الْبِرَّ بِالْأُمِّ مِنَ الْحَمْلِ وَالْإِرْضَاعِ كَانَتْ مُنَبِّهَةً إِلَى مَا لِلْأَبِ مِنْ حَالَةٍ تَقْتَضِي الْبِرَّ بِهِ عَلَى حِسَابِ مَا تَقْتَضِيهِ تِلْكَ الْعِلَّةُ فِي كِلَيْهِمَا قُوَّةً وَضَعْفًا. وَلَا يَقْدَحُ فِي الْقِيَاسِ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْمَقِيسِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ فِي قُوَّةِ الْوَصْفِ الْمُوجِبِ لِلْإِلْحَاقِ. وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ تَشْرِيكُهُمَا فِي التَّحَكُّمِ عَقِبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ
وَقَوْلِهِ وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً. وَحَصَلَ مِنْ هَذَا النَّظْمِ الْبَدِيعِ قَضَاءُ حَقِّ الْإِيجَازِ.
وَأَمَّا رُجْحَانُ الْأُمِّ فِي هَذَا الْبَابِ عِنْدَ التَّعَارُضِ فِي مُقْتَضَيَاتِ الْبُرُورِ تَعَارُضًا لَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْجَمْعُ فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي «تَفْسِيرِهِ» : شَرَكَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأُمَّ وَالْأَبَ فِي رُتْبَةِ الْوَصِيَّةِ بِهِمَا ثُمَّ خَصَّصَ الْأُمَّ بِذِكْرِ دَرَجَةِ الْحَمْلِ وَدَرَجَةِ الرَّضَاعِ فَتَحْصُلُ لِلْأُمِّ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ
وَلِلْأَبِ وَاحِدَةٌ، وَأَشْبَهَ ذَلِكَ
قَوْلَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: أُمَّكَ.
قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أَبَاكَ.
فَجُعِلَ لَهُ الرُّبْعُ مِنَ الْمَبَرَّةِ. وَهَذَا كَلَامٌ مَنْسُوبٌ مِثْلُهُ لِابْنِ بَطَّالٍ فِي شَرْحِ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ». وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَسَاقَ الْحَدِيثِ لِتَأْكِيدِ الْبِرِّ بِالْأُمِّ إِذْ قَدْ يَقَعُ التَّفْرِيطُ فِي الْوَفَاءِ بِالْوَاجِبِ لِلْأُمِّ مِنَ الِابْنِ اعْتِمَادًا عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنَ اللِّينِ مِنْهَا بِخِلَافِ جَانِبِ الْأَبِ فَإِنَّهُ قَوِيٌّ وَلِأَبْنَائِهِ تَوَقٍّ مِنْ شِدَّتِهِ عَلَيْهِمْ، فَهَذَا
كَرَامَةً لِأَبِيهِ عَلَى إِنَابَتِهِ وَلِسُلَيْمَانَ عَلَى نَشْأَتِهِ الصَّالِحَةِ عِنْدَ أَبِيهِ، فَالْعَطْفُ عَلَى لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا [سبأ: ١٠] وَالْمُنَاسَبَةُ مِثْلُ مُنَاسَبَةِ ذِكْرِ دَاوُدَ فَإِنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ مَوْصُوفًا بِالْإِنَابَةِ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَنابَ فِي سُورَةِ ص [٣٤].
والرِّيحَ عَطْفٌ عَلَى الْحَدِيدَ فِي قَوْلِهِ: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سبأ: ١٠] بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَأَلَنَّا. وَالتَّقْدِيرُ: وَسَخَّرَنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا (١) أَيْ وَحَامِلًا رُمْحًا.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِسُلَيْمانَ لَامُ التَّقْوِيَةِ أَنَّهُ لَمَّا حَذَفَ الْفِعْلَ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ قرن مَفْعُوله الْأَوَّلِ بِلَامِ التَّقْوِيَةِ لِأَنَّ الِاحْتِيَاجَ إِلَى لَامِ التَّقْوِيَةِ عِنْدَ حَذْفِ الْفِعْلِ أَشَدُّ مِنَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهَا عِنْدَ تَأْخِيرِ الْفِعْلِ عَنِ الْمَفْعُولِ. والرِّيحَ مَفْعُولٌ ثَانٍ.
وَمَعْنَى تَسْخِيرِهِ الرِّيحَ: خَلْقُ رِيحٍ تُلَائِمُ سَيْرَ سَفَائِنِهِ لِلْغَزْوِ أَوِ التِّجَارَةِ، فَجَعَلَ اللَّهُ لِمَرَاسِيهِ فِي شُطُوطِ فِلَسْطِينَ رِيَاحًا مَوْسِمِيَّةً تَهُبُّ شَهْرًا مُشْرِقَةً لِتَذْهَبَ فِي ذَلِكَ الْمَوْسِمِ سُفُنُهُ، وَتَهُبُّ شَهْرًا مُغْرِبَةً لِتَرْجِعَ سفنه إِلَى شواطىء فِلَسْطِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٨١].
فَأَطْلَقَ الْغُدُوَّ عَلَى الِانْصِرَافِ وَالِانْطِلَاقِ مِنَ الْمَكَانِ تَشْبِيهًا بِخُرُوجِ الْمَاشِيَةِ لِلرَّعْيِ فِي الصَّبَاحِ وَهُوَ وَقْتُ خُرُوجِهَا، أَوْ تَشْبِيهًا بِغُدُوِّ النَّاسِ فِي الصَّبَاحِ.
وَأَطْلَقَ الرَّوَاحَ عَلَى الرُّجُوعِ مِنَ النَّهْمَةِ الَّتِي يَخْرُجُ لَهَا كَقَوْل ابْن أَبِي رَبِيعَةَ:
أَمِنْ آلِ نُعْمٍ أَنْتَ غَادٍ فَمُبْكِرُ | غَدَاةَ غَدٍ أَمْ رَائِحٌ فَمُؤَخِّرُ |
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ بِلَفْظِ إِفْرَادِ الرِّيحَ وَبِنَصْبِ الرِّيحَ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْحَدِيدَ فِي قَوْلِهِ: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سبأ: ١٠]. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ
_________
(١) أَوله وَرَأَيْت زَوجك فِي الوغى.
بِذَبْحِهِ هُوَ الْمُبَشَّرُ بِهِ اسْتِجَابَةً لِدَعْوَتِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الدَّعْوَةِ أَنْ لَا يَكُونَ عَقِيمًا يَرِثُهُ عَبِيدُ بَيْتِهِ كَمَا جَاءَ فِي «سِفْرِ التَّكْوِينِ» وَتَقَدَّمَ آنِفًا.
الدَّلِيلُ الرَّابِعُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بَنَى بَيْتًا لِلَّهِ بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَبْنِيَ بَيْتًا آخَرَ بِنَحْوِ أَرْبَعِينَ سَنَةً كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ شَأْنِ بُيُوتِ الْعِبَادَةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَنْ تُقَرَّبَ فِيهَا الْقَرَابِينُ فَقُرْبَانُ أَعَزِّ شَيْءٍ عَلَى إِبْرَاهِيمَ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِكَوْنِهِ قُرْبَانًا لِأَشْرَفِ هَيْكَلٍ. وَقَدْ بَقِيَتْ فِي الْعَرَبِ سُنَةُ الْهَدَايَا فِي الْحَجِّ كُلَّ عَامٍ وَمَا تِلْكَ إِلَّا تَذْكِرَةٌ لِأَوَّلِ عَامٍ أُمِرَ فِيهِ إِبْرَاهِيمُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ وَأَنَّهُ الْوَلَدُ الَّذِي بِمَكَّةَ.
الدَّلِيلُ الْخَامِسُ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا ابْنَ الذَّبِيحَيْنِ، فَعَلِمَ مُرَادَهَ وَتَبَسَّمَ، وَلَيْسَ فِي آبَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَبِيحٌ غَيْرَ عَبْدِ اللَّهِ وَإِسْمَاعِيلَ.
الدَّلِيلُ السَّادِسُ: مَا وَقَعَ فِي «سِفْرِ التَّكْوِينِ» فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ أَنَّ اللَّهَ امْتَحَنَ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ لَهُ: «خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ الَّذِي تُحِبُّهُ إِسْحَاقَ وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرَيَّا وَأَصْعِدْهُ هُنَالِكَ مُحْرَقَةٌ عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ الَّذِي أَقُولُ لَكَ» إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. وَلَمْ يَكُنْ إِسْحَاقُ ابْنًا وَحِيدًا لِإِبْرَاهِيمَ فَإِنَّ إِسْمَاعِيلَ وُلِدَ قَبْلَهُ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَلَمْ يَزَلْ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ مُتَوَاصِلَيْنِ وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْإِصْحَاحِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرين من سفر التَّكْوِينِ عِنْدَ ذِكْرِ مَوْتِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «وَدَفَنَهُ إِسْحَاقُ وَإِسْمَاعِيلُ ابْنَاهُ»، فَإِقْحَامُ اسْمِ إِسْحَاقَ بَعْدَ قَوْلِهِ: ابْنَكَ وَحِيدَكَ، مِنْ زِيَادَةِ كَاتِبِ التَّوْرَاةِ.
الدَّلِيلُ السَّابِعُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَيَدُلُّ عَلَيهِ أَنَّ قَرْنَيِ الْكَبْشِ كَانَا مَنُوطَيْنِ فِي الْكَعْبَةَ فِي أَيْدِي بَنِي إِسْمَاعِيلَ إِلَى أَنِ احْتَرَقَ الْبَيْتُ فِي حِصَارِ ابْن الزبير ا. هـ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ كَانَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ رَأْسَ الْكَبْشِ لَمُعَلَّقٌ بِقَرْنَيْهِ مِنْ مِيزَابِ الْكَعْبَةَ وَقَدْ يَبِسَ. قُلْتُ: وَفِي صِحَّةِ كَوْنِ ذَلِكَ الرَّأْسِ رَأْسَ كَبْشِ الْفِدَاءِ
مِنْ زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ نَظَرٌ.
الدَّلِيلُ الثَّامِنُ: أَنَّهُ وَرَدَتْ رِوَايَاتٌ فِي حِكْمَةِ تَشْرِيعِ الرَّمْيِ فِي الْجَمَرَاتِ مِنْ عَهْدِ الْحَنِيفِيَّةِ أَنَّ الشَّيْطَانَ تَعَرَّضَ لِإِبْرَاهِيمَ لِيَصُدَّهُ عَنِ الْمُضِيِّ فِي ذَبْحِ وَلَدِهِ وَذَلِكَ مِنْ مَنَاسِكَ الْحَجِّ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَلَمْ تَكُنْ لِلْيَهُودِ سُنَّةُ ذَبْحٍ مُعَيَّنٍ.
وَمُنَاسَبَةُ فِعْلِ حاقَ لِذَلِكَ الْعَذَابِ أَنَّهُ مِمَّا يَحِيقُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْغَرَقُ سُوءَ عَذَابٍ لِأَنَّ الْغَرِيقَ يُعَذَّبُ بِاحْتِبَاسِ النَّفْسِ مُدَّةً وَهُوَ يَطْفُو عَلَى الْمَاءِ وَيَغُوصُ فِيهِ وَيُرْعِبُهُ هَوْلُ الْأَمْوَاجِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِالْهَلَاكِ ثُمَّ يَكُونُ عُرْضَةً لِأَكْلِ الْحِيتَانِ حَيًّا وَمَيِّتًا وَذَلِكَ أَلَمٌ فِي الْحَيَاةِ وَخِزْيٌ بَعْدَ الْمَمَاتِ يُذْكَرُونَ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ.
وَقَوْلُهُ: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً وَقَعَتْ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ، فَيَجْعَلُ النَّارُ مُبْتَدَأً وَيَجْعَلُ جُمْلَةَ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خَبَّرًا عَنْهُ وَيَكُونُ مَجْمُوعُ الْجُمْلَةِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَخَبَرِهِ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ لِأَنَّ سُوءَ الْعَذَابِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْغَرَقُ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى مَوْتِهِمْ وَمَوْتُهُمْ يَشْتَمِلُ عَلَى عَرْضِهِمْ عَلَى النَّارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا، فَالْمَذْكُورُ عَذَابَانِ: عَذَابُ الدُّنْيَا وَعَذَاب الْغَرَقِ وَمَا يَلْحَقُ بِهِ مِنْ عَذَابٍ قَبْلَ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّارُ بَدَلًا مُفْرَدًا مِنْ سُوءُ الْعَذابِ بَدَلًا مُطَابِقًا وَجُمْلَةُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها حَالًا مِنَ النَّارُ فَيَكُونُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ عَذَابًا وَاحِدًا وَلَمْ يُذْكَرْ عَذَابُ الْغَرَقِ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَالْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ عَذَابٌ قَبْلَ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَذَلِكَ هُوَ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ بُقُولِهِ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ.
وَالْعَرْضُ حَقِيقَتُهُ: إِظْهَارُ شَيْءٍ لِمَنْ يَرَاهُ لترغيب أَو لتحذير وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى الشَّيْءِ الْمُظْهَرِ بِنَفْسِهِ وَإِلَى مَنْ يُظْهَرُ لِأَجْلِهِ بِحَرْفِ (عَلَى)، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمَعْرُوضَ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَنْ يَعْقِلُ ومنزّلا مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْقِلُ، وَقَدْ يُقْلَبُ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِ الْعَرَبِ «عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ»، وَحَقُّهُ: عَرَضْتُ الْحَوْضَ عَلَى النَّاقَةِ، وَهُوَ الِاسْتِعْمَالُ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ [٢٠] وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ. وَقَدْ عَدَّ عُلَمَاءُ الْمَعَانِي الْقَلْبَ مِنْ أَنْوَاعِ تَخْرِيجِ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَمَثَّلُوا لَهُ بِقَوْلِ الْعَرَبِ:
عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ. وَاخْتَلَفُوا فِي عَدِّهِ مِنْ أَفَانِينِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ فَعَدَّهُ مِنْهَا أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَارِسِيُّ وَالسَّكَّاكِيُّ وَلَمْ يَقْبَلْهُ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ الْقَزْوِينِيُّ: إِنَّ تَضَمَّنَ اعْتِبَارًا لَطِيفًا قُبِلَ وَإِلَّا رُدَّ.
أَغْرَاضُهَا
أَعْظَمُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةُ مِنَ الْأَغْرَاضِ:
التَّحَدِّي بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ آيَةُ صدق الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَالتَّنْوِيهُ بِهِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ وَأَنَّهُ أَوْحَى اللَّهُ بِهِ لِتَذْكِيرِهِمْ وَتَكْرِيرِ تَذْكِيرِهِمْ وَإِنْ أَعْرَضُوا كَمَا أَعْرَضَ مَنْ قَبْلَهُمْ عَنْ رُسُلِهِمْ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ بَاعِثُهُمْ عَلَى الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ تَعَلُّقَهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي نَهَاهُمُ الْقُرْآنُ عَنْهَا كَانَ مِنْ أَهَمِّ أَغْرَاضِ السُّورَةِ، التَّعْجِيبُ مِنْ حَالِهِمْ إِذْ جَمَعُوا بَيْنَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُمْ وَالْمُنْعِمُ عَلَيْهِمْ وَخَالِقُ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا وَبَيْنَ اتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً يَعْبُدُونَهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ، حَتَّى إِذَا انْتَقَضَ أَسَاسُ عِنَادِهِمُ اتَّضَحَ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ بَاطِلُهُمْ. وَجَعَلُوا بَنَاتٍ لِلَّهِ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْبَنَاتِ أَحَطُّ قَدْرًا مِنَ الذُّكُورِ فَجَمَعُوا بِذَلِكَ بَيْنَ الْإِشْرَاكِ وَالتَّنْقِيصِ. وَإِبْطَالُ عِبَادَةِ كُلِّ مَا دُونَ اللَّهِ عَلَى تَفَاوُتِ دَرَجَاتِ الْمَعْبُودِينَ فِي الشَّرَفِ فَإِنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ الْإِلَهِيَّةِ لِلْأُلُوهِيَّةِ وَلِبُنُوَّةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَعَرَّجَ عَلَى إِبْطَالِ حُجَجِهِمْ وَمَعَاذِيرِهِمْ، وَسَفَّهَ تَخْيِيلَاتِهِمْ وَتُرَّهَاتِهِمْ.
وَذَكَّرَهُمْ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ السَّابِقِينَ مَعَ رُسُلِهِمْ، وَأَنْذَرَهُمْ بِمِثْلِ عَوَاقِبِهِمْ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ الِاغْتِرَارِ بِإِمْهَالِ اللَّهِ وَخَصَّ بِالذِّكْرِ رِسَالَةَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَخَصَّ إِبْرَاهِيمَ بِأَنَّهُ جَعَلَ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ بَاقِيَةً فِي جَمْعٍ مِنْ عَقِبِهِ وَتَوَعَّدَ الْمُشْرِكِينَ وَأَنْذَرَهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ بَعْدَ الْبَعْثِ الَّذِي كَانَ إِنْكَارُهُمْ وُقُوعَهُ مِنْ مُغَذِّيَاتِ كُفْرِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ فِي مَأْمَنٍ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَقَدْ رُتِّبَتْ هَذِهِ الْأَغْرَاضُ وَتَفَارِيعُهَا عَلَى نَسْجٍ بَدِيعٍ وَأُسْلُوبٍ رَائِعٍ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَالْأَصَالَةِ وَالِاسْتِطْرَادِ عَلَى حَسَبِ دَوَاعِي الْمُنَاسَبَاتِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا الْبَلَاغَةُ، وَتَجْدِيدُ نَشَاطِ السَّامِعِ لِقَبُولِ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ. وَتَخَلَّلَ فِي خِلَالِهِ مِنَ الْحُجَجِ وَالْأَمْثَالِ
وَحَيْثُ كَانَ الْحَصْرُ تَأْكِيدًا عَلَى تَأْكِيدٍ، كَمَا قَالَ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» :«لَمْ أَجْعَلْ (إِنَّ) الَّتِي فِي مُفْتَتَحِ الْجُمْلَةِ لِلتَّأْكِيدِ لِحُصُولِ التَّأْكِيدِ بِغَيْرِهَا فَجَعَلْتُهَا لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ لِيَحْصُلَ بِذَلِكَ غَرَضَانِ».
وَانْتَقَلَ مِنْ هَذَا الِادِّعَاءِ إِلَى تَخَيُّلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبَايِعُهُ الْمُبَايِعُونَ فَأُثْبِتَتْ لَهُ الْيَدُ الَّتِي هِيَ مِنْ رَوَادِفِ الْمُبَايَعِ بِالْفَتْحِ على وَجه التخييلية مِثْلَ إِثْبَاتِ الْأَظْفَارِ لِلْمَنِيَّةِ.
وَقَدْ هُيِّأَتْ صِيغَةُ الْمُبَايَعَةِ لِأَنْ تُذْكَرَ بَعْدَهَا الْأَيْدِي لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ يُقَارِنُهَا وَضْعُ الْمُبَايِعِ يَدَهُ فِي يَدِ الْمُبَايَعِ بِالْفَتْحِ كَمَا قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:
حَتَّى وَضَعَتْ يَمِينِي لَا أُنَازِعُهُ | فِي كَفِّ ذِي يَسَرَاتٍ قِيلُهُ الْقِيلُ |
فَجُمْلَةُ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ الْمُفِيدَةِ أَنَّ بيعتهم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الظَّاهِرِ، هِيَ بَيْعَةٌ مِنْهُمْ لِلَّهِ فِي الْوَاقِعِ فَقَرَّرَتْهُ جُمْلَةُ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وَأَكَّدَتْهُ وَلِذَلِكَ جُرِّدَتْ عَنْ حَرْفِ الْعَطْفِ. وَجُعِلَتِ الْيَدُ الْمُتَخَيَّلَةُ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ: إِمَّا لِأَنَّ إِضَافَتَهَا إِلَى اللَّهِ تَقْتَضِي تَشْرِيفَهَا بِالرِّفْعَةِ عَلَى أَيْدِي النَّاسِ كَمَا وُصِفَتْ فِي الْمُعْطِي بِالْعُلْيَا
فِي قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُعْطِيَةُ وَالْيَدُ السُّفْلَى هِيَ الْآخِذَةُ»
، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ كَانَتْ بِأَنْ يَمُدَّ الْمُبَايِعُ كَفَّهُ أَمَامَ الْمُبَايَعِ بِالْفَتْحِ وَيَضَعَ هَذَا الْمُبَايِعُ يَدَهُ عَلَى يَدِ الْمُبَايَعِ، فَالْوَصْفُ بِالْفَوْقِيَّةِ مِنْ تَمَامِ التَّخْيِيلِيَّةِ.
وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا
فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَايَعَهُ النَّاسُ كَانَ عُمَرُ آخِذًا بِيَدِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
أَيْ كَانَ عُمَرُ يَضَعُ يَدَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَيْدِي النَّاسِ كَيْلَا يَتْعَبَ بِتَحْرِيكِهَا لِكَثْرَةِ الْمُبَايِعِينَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ يَدَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تُوضَعُ عَلَى يَدِ الْمُبَايِعِينَ. وَأَيًّا مَا كَانَ
فَذِكْرُ الْفَوْقِيَّةِ هُنَا تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ وَإِغْرَاقٌ فِي التَّخَيُّلِ.
وَالْمُبَايَعَةُ أَصْلُهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْبَيْعِ فَهِيَ مُفَاعَلَةٌ لِأَنَّ كِلَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَائِعٌ، وَنُقِلَتْ
وَجَمْعُهُ: نُذُرٌ، هَذَا هُوَ الْأَشْهَرُ فِيهِ. وَلِذَلِكَ جَعَلَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَجَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْإِشَارَةَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بَعِيدٌ.
وَيُطْلَقُ النَّذِيرُ عَلَى الْإِنْذَارِ وَهُوَ خَبَرُ الْمُخْبِرِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيُّ: يُطْلَقُ النَّذِيرُ عَلَى الْإِنْذَارِ (يُرِيدُ أَنَّهُ اسْمُ مَصْدَرٍ) وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الْملك: ١٧] أَيْ إِنْذَارِي وَجَمْعُهُ نُذُرٌ أَيْضًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ [الْقَمَر: ٢٣]، أَيْ بِالْمُنْذِرِينَ. وَإِطْلَاقُ نَذِيرٍ عَلَى مَا هُوَ كَلَامٌ وَهُوَ الْقُرْآنُ أَوْ بَعْضُ آيَاتِهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، أَوِ اسْتِعَارَةٌ عَلَى رَأْيِ جُمْهُورِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَهُوَ حَقِيقَةٌ عَلَى رَأْيِ الزَّجَاجِيِّ.
وَالْمُرَادُ بِالنُّذُرِ الْأُولَى: السَّالِفَةُ، أَيْ أَنَّ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ مِنْ مَعَانِي الشَّرَائِع الأولى
كَقَوْلِه النَّبِيءِ: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسَ من كَلَام النبوءة الْأُولَى إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ»
أَيْ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ قبل الْإِسْلَام.
[٥٧، ٥٨]
[سُورَة النَّجْم (٥٣) : الْآيَات ٥٧ إِلَى ٥٨]
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (٥٨)
تَتَنَزَّلُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنَ الَّتِي قَبْلِهَا مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِلْإِنْذَارِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: هَذَا نَذِيرٌ [النَّجْم: ٥٦].
فَالْمَعْنَى: هَذَا نَذِيرٌ بِآزِفَةٍ قَرُبَتْ، وَفِي ذِكْرِ فِعْلِ الْقُرْبِ فَائِدَةٌ أُخْرَى زَائِدَةٌ عَلَى الْبَيَانِ وَهِي أَن هَذَا الْمُنْذَرَ بِهِ دَنَا وَقْتُهُ، فَإِنَّ: أَزِفَ مَعْنَاهُ: قرب وَحَقِيقَته الْقرب الْمَكَانِ، وَاسْتُعِيرَ لِقُرْبِ الزَّمَانِ لِكَثْرَةِ مَا يُعَامِلُونَ الزَّمَانَ مُعَامَلَةَ الْمَكَانِ.
وَالتَّنْبِيهُ عَلَى قُرْبِ الْمُنْذَرِ بِهِ مِنْ كَمَالِ الْإِنْذَارِ لِلْبِدَارِ بِتَجَنُّبِ الْوُقُوعِ فِيمَا يُنْذَرُ بِهِ.
وَجِيءَ لِفِعْلِ أَزِفَتِ بِفَاعِلٍ مِنْ مَادَّةِ الْفِعْلِ لِلتَّهْوِيلِ عَلَى السَّامِعِ لِتَذْهَبَ النَّفْسُ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الْمُحَادَثَةِ الَّتِي أَزِفَتْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمَكْرُوهَةِ لِوُرُودِ ذِكْرِهَا عَقِبَ ذِكْرِ الْإِنْذَارِ.
وَتَأْنِيثُ الْآزِفَةُ بِتَأْوِيلِ الْوَقْعَةِ، أَوِ الْحَادِثَةِ كَمَا يُقَالُ: نَزَلَتْ بِهِ نَازِلَةٌ، أَوْ
إِذْ كَانَ الرِّجَالُ الْكَافِرُونَ يَظُنُّونَ أَنَّ الْعِصْمَةَ الَّتِي لَهُمْ عَلَى أَزْوَاجِهِمُ الْمُؤْمِنَات مثبتة أَنهم حِلٌّ لَهُمْ.
وَعُبِّرَ عَنِ الثَّانِيَةِ بِجُمْلَةِ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ فَعُكِسَ الْإِخْبَارُ بِالْحِلِّ إِذْ جُعِلَ خَبَرًا عَنْ ضَمِيرِ الرِّجَالِ، وَعُدِّيَ الْفِعْلُ إِلَى الْمُحَلَّلِ بِاللَّامِ دَاخِلَةٍ عَلَى ضَمِيرِ النِّسَاء فَأفَاد أَنهم لَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ الْكَافِرُونَ وَلَوْ بَقَى الزَّوْجُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ.
وَلِهَذَا ذُكِرَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ كَالتَّتِمَّةِ لِحُكْمِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَجِيءَ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ بِالْمُسْنَدِ فِعْلًا مُضَارِعًا لِدِلَالَتِهِ عَلَى التَّجَدُّدِ لِإِفَادَةِ نَفْيِ الطَّمَاعِيَةِ فِي التَّحْلِيلِ وَلَوْ بِتَجَدُّدِهِ فِي الْحَالِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ أَوِ اتِّفَاقٍ جَدِيدٍ عَلَى الْبَقَاءِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ إِذْ قَالَ: إِنَّ مُوجِبَ الْفُرْقَةِ هُوَ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ لَا اخْتِلَافُ الدِّينِ.
وَيَجُوزُ فِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَأْكِيدَ نَفْيِ الْحَالِ فَبَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَهُوَ الْأَصْلُ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا أَكَّدَ بِجُمْلَةِ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ أَيْ أَنَّ انْتِفَاءَ الْحِلِّ حَاصِلٌ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ كَمَا يُقَالُ: لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي.
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٨٧] تَأْكِيدًا لِشِدَّةِ التَّلَبُّسِ وَالِاتِّصَالِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ.
وَفِي الْكَلَامِ مُحَسِّنُ الْعَكْسِ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ مَعَ تَغْيِيرٍ يَسِيرٍ بَيْنَ حِلٌّ ويَحِلُّونَ اقْتَضَاهُ الْمَقَامُ، وَإِنَّمَا يُوَفَّرُ حَظُّ التَّحْسِينِ بِمِقْدَارِ مَا يَسْمَحُ لَهُ بِهِ مُقْتَضَى حَالُ الْبَلَاغَةِ.
وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا.
الْمُرَادُ بِ مَا أَنْفَقُوا مَا أَعْطَوْهُ مِنَ الْمُهُورِ، وَالْعُدُولُ عَنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمُهُورِ وَالْأُجُورِ عَلَى مَا دَفَعَهُ الْمُشْركُونَ لنسائهم اللاء أَسْلَمْنَ مِنْ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ أُولَئِكَ النِّسَاءَ أَصْبَحْنَ غَيْرَ زَوْجَاتٍ. فَأُلْغِيَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْمُهُورِ عَلَى مَا يُدْفَعُ لَهُمْ.
فَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ عَلَى جُمْلَةِ سَأَلَ سائِلٌ إِذَا كَانَ ذَلِكَ السُّؤَالُ بِمَعْنَيَيْهِ اسْتِهْزَاءً وَتَعْرِيضًا بِالتَّكْذِيبِ فَشَأْنُهُ أَنْ لَا تَصْبِرَ عَلَيْهِ النُّفُوسُ فِي الْعُرْفِ.
وَالصَّبْرُ الْجَمِيلُ: الصَّبْرُ الْحَسَنُ فِي نَوْعِهِ وَهُوَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ مِمَّا يُنَافِي حَقِيقَةَ الصَّبْرِ، أَيِ اصْبِرْ صَبْرًا مَحْضًا، فَإِنَّ جَمَالَ الْحَقَائِقِ الْكَامِلَةِ بِخُلُوصِهَا عَمَّا يُعَكِّرُ مَعْنَاهَا مِنْ بَقَايَا أَضْدَادِهَا، وَقَدْ مَضَى قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ يَعْقُوبَ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [١٨] وَسَيَجِيءُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا فِي المزمل [١٠].
[٦- ٧]
[سُورَة المعارج (٧٠) : الْآيَات ٦ إِلَى ٧]
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧)
تَعْلِيلٌ لِجُمْلَتَيْ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ [المعارج: ١] وَلِجُمْلَةِ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا [المعارج: ٥]، أَيْ سَأَلُوا اسْتِهْزَاءً لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ مُحَالًا وَعَلَيْكَ بِالصَّبْرِ لِأَنَّا نَعْلَمُ تَحَقُّقَهُ، أَيْ وَأَنْتَ تَثِقُ بِأَنَّهُ قَرِيبٌ، أَيْ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ، وَأَيْضًا هُوَ تَجْهِيلٌ لَهُمْ إِذِ اغْتَرُّوا بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْأَمْنِ وَمُسَالَمَةِ الْعَرَبِ لَهُمْ وَمِنَ الْحَيَاةِ النَّاعِمَةِ فَرَأَوُا الْعَذَابَ الْمَوْعُودَ بَعِيدًا، إِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا فَلِأَمْنِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِي الْآخِرَةِ فَلِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ، وَالْمَعْنَى: وَأَنْتَ لَا تُشْبِهُ حَالَهُمْ
وَذَلِكَ يُهَوِّنُ الصَّبْرَ عَلَيْكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ [الْمَائِدَة: ٤٨]، وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ [الْكَهْف: ٢٨].
وبَعِيداً هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ مَعْنَى الْإِحَالَةِ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِوُقُوعِ الْعَذَابِ الْمَوْعُودِ بِهِ، وَلَكِنَّهُمْ عَبَّرُوا عَنْهُ بِبَعِيدٍ تَشْكِيكًا لِلْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: ٣].
وَاسْتُعْمِلَ قَرِيباً كِنَايَةً عَنْ تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ عَلَى طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ التَّقْدِيرِيَّةِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّحَقُّقِ. وَبَيْنَ بَعِيداً وقَرِيباً محسن الطباق.
وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ: يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ [يُوسُف: ٣٩]، وَقَالَ الْحَرِيرِيُّ فِي «الْمَقَامَةِ الْحَادِيَةِ وَالْعِشْرِينَ» :«وَلَا لَكُمْ مِنِّي إِلَّا صُحْبَةُ السَّفِينَةِ».
وَقَدْ يَتَوَسَّعُونَ فِي إِطْلَاقِهِ عَلَى الْمُخَالِطِ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ وَلَوْ فِي الشَّرِّ، كَقَوْلِ الْحَجَّاجِ يُخَاطِبُ الْخَوَارِجَ: «أَلَسْتُمْ أَصْحَابِي بِالْأَهْوَازِ حِينَ رُمْتُمُ الْغَدْرَ، وَاسْتَبْطَنْتُمُ الْكُفْرَ».
وَقَوْلِ الْفَضْلِ اللَّهَبِيِّ:
كُلٌّ لَهُ نِيَّةٌ فِي بُغْضِ صَاحِبِهِ | بِنِعْمَةِ اللَّهِ نَقْلِيكُمْ وَتَقْلُونَا |
فَهَذَا مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، وَالْقَصْدُ مِنْ ذَلِكَ إِثْبَاتُ صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّهَا مَسُوقَةٌ فِي مَعْرِضِ الْمُوَازَنَةِ وَالْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَالشَّهَادَةُ لَهُمَا بِمَزَايَاهُمَا حَتَّى يُشَمَّ مِنْ وَفْرَةِ الصِّفَاتِ الْمُجْرَاةِ عَلَى جِبْرِيلَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلَا أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي أَوْصَافِ جِبْرِيلَ مَعَ الِاقْتِصَادِ فِي أَوْصَافِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُؤْذِنُ بِتَفْضِيلِ أَوَّلِهِمَا عَلَى الثَّانِي.
وَمِنْ أَسْمَجِ الْكَلَامِ وَأَضْعَفِ الِاسْتِدْلَالِ قَوْلُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» :«وَنَاهِيكَ بِهَذَا دَلِيلًا عَلَى جَلَالَةِ مَكَانَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمُبَايَنَةِ مَنْزِلَتِهِ لِمَنْزِلَةِ أَفْضَلِ الْإِنْسِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا وَازَنْتَ بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ وَقَايَسْتَ بَيْنَ قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير: ١٩، ٢٠]، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ اهـ.
وَكَيْفَ انْصَرَفَ نَظَرُهُ عَنْ سِيَاقِ الْآيَةِ فِي الرَّدِّ عَلَى أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقُولُوا فِي جِبْرِيلَ شَيْئًا لِأَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ رَامَ أَنْ يَنْتَزِعَ مِنَ الْآيَةِ دَلِيلًا لِمَذْهَبِ أَصْحَابِ الِاعْتِزَالِ مِنْ تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ لَهَا مَجَالٌ آخَرُ، عَلَى أَنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى رَسُولٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ
إِلَى قَوْله: أَمِينٍ [التكوير: ١٩- ٢١]، غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ انْصِرَافُهَا إِلَى جِبْرِيلَ
الصفحة التالية