فَهَذَا خَبَرٌ، وَتَقُولُ بِعْتُ الدَّارَ لِزَيْدٍ أَوْ بِعْتُكَ الدَّارَ بِكَذَا فَهَذَا إِنْشَاءٌ بِقَرِينَةِ أَنَّهُ جَاءَ لِلْإِشْهَادِ أَوْ بِقَرِينَةِ إِسْنَادِ الْخَبَرِ لِلْمُخَاطَبِ مَعَ أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِهِ، وَالثَّانِي كَنِعْمَ وَعَسَى.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ جُمْلَةَ الْحَمْدُ لِلَّهِ هَلْ هِيَ إِخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ هِيَ إِنْشَاءُ ثَنَاءٍ عَلَيْهِ إِلَى مَذْهَبَيْنِ، فَذَهَبَ فَرِيقٌ إِلَى أَنَّهَا خَبَرٌ، وَهَؤُلَاءِ فَرِيقَانِ مِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا خَبَرٌ بَاقٍ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ وَلَا إِشْعَارَ فِيهِ بِالْإِنْشَائِيَّةِ، وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَا لَا يَكُونُ حَامِدًا لِلَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّ الْقَصْدَ أَنَّهُ يُثْنِي وَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْخَبَرَ بِثُبُوتِ الْحَمْدِ لَهُ تَعَالَى اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْجَمِيلِ إِذِ الْحَمْدُ هُوَ عَيْنُ الْوَصْفِ بِالْجَمِيلِ، وَيَكْفِي أَنْ يَحْصُلَ هَذَا الْوَصْفُ مِنَ النَّاسِ وَيَنْقُلَهُ الْمُتَكَلِّمُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ أَيْضًا بِأَنَّ الْمُخْبِرَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ خَبَرِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْ أَهْلِ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَأُجِيبَ أَيْضًا
بِأَنَّ كَوْنَ الْمُتَكَلِّمِ حَامِدًا قَدْ يَحْصُلُ بِالِالْتِزَامِ مِنَ الْخَبَرِ يُرِيدُونَ أَنَّهُ لَازِمٌ عُرْفِيٌّ لِأَنَّ شَأْنَ الْأَمْرِ الَّذِي تَضَافَرَ عَلَيْهِ النَّاسُ قَدِيمًا أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ مِنْ كُلِّ مَنْ عَلِمَهُ، فَإِخْبَارُ الْمُتَكَلِّمِ بِأَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ يَدُلُّ عُرْفًا عَلَى أَنَّهُ مُقْتَدٍ بِهِمْ فِي ذَلِكَ هَذَا وَجْهُ اللُّزُومِ، وَقَدْ خَفِيَ عَلَى كَثِيرٍ أَيْ فَيَكُونُ مِثْلَ حُصُولِ لَازِمِ الْفَائِدَةِ مِنَ الْخَبَرِ الْمُقَرَّرَةٍ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي، مِثْلَ قَوْلِكَ سَهِرْتَ اللَّيْلَةَ وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنَّكَ عَلِمْتَ بِسَهَرِهِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِنْشَاءٌ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يُخْبِرُ عَنْ كَوْنِهِ حَامِدًا كَمَا يُخْبِرُ عَنْ كَوْنِ جَمِيعِ النَّاسِ حَامِدِينَ فَهِيَ خَبَرٌ لَا إِنْشَاءٌ وَالْمُسْتَفَادُ مِنْهَا بِطَرِيقِ اللُّزُومِ مَعْنًى إِخْبَارِيٌّ أَيْضًا. وَيُرَدُّ على هَذَا التَّقْرِير أَيْضًا أَنَّ حَمْدَ الْمُتَكَلِّمِ يَصِيرُ غَيْرَ مَقْصُودٍ لِذَاتِهِ بَلْ حَاصِلًا بِالتَّبَعِ مَعَ أَنَّ الْمَقَامَ مَقَامَ حَمْدِ الْمُتَكَلِّمِ لَا حَمْدِ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُطَابَقِيَّ قَدْ يُؤْتَى بِهِ لِأَجْلِ الْمَعْنَى الِالْتِزَامِيِّ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ لَهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ طَوِيلُ النَّجَادِ وَالْمُرَادُ طُولُ الْقَامَةِ فَإِنَّ طُولَ النَّجَادِ أَتَى بِهِ لِيَدُلَّ عَلَى مَعْنَى طُولِ الْقَامَةِ.
وَذَهَبَ فَرِيقٌ ثَانٍ إِلَى أَنَّ جُمْلَةَ الْحَمْدُ لِلَّهِ هِيَ خَبَرٌ لَا مَحَالَةَ إِلَّا أَنَّهُ أُرِيدَ مِنْهُ الْإِنْشَاءُ مَعَ اعْتِبَارِ الْخَبَرِيَّةِ كَمَا يُرَادُ مِنَ الْخَبَرِ إِنْشَاءُ التَّحَسُّرِ وَالتَّحَزُّنِ فِي نَحْوِ: إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى [آل عمرَان: ٣٦] وَقَوْلُ جَعْفَرِ بْنِ عُلْبَةَ الْحَارِثِيِّ:
هَوَايَ مَعَ الرَّكْبِ الْيَمَانِيِّنَ مُصْعِدُ
فَيَكُونُ الْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ هُوَ الْإِنْشَاءُ وَلَكِنَّ الْعُدُولَ إِلَى الْإِخْبَارِ لِمَا يَتَأَتَّى بِوَاسِطَةِ الْإِخْبَارِ مِنَ الدّلَالَة على استغراق وَالِاخْتِصَاصِ وَالدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ وَوَجْهُ التَّلَازُمِ بَيْنَ الْإِخْبَارِ عَنْ حَمْدِ النَّاسِ وَبَيْنَ إِنْشَاءِ الْحَمْدِ وَاضِحٌ مِمَّا عَلِمْتَهُ فِي وَجْهِ التَّلَازُمِ عَلَى التَّقْرِيرِ الْأَوَّلِ، بَلْ هُوَ هُنَا أَظْهَرُ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ عَنْ حَمْدِ النَّاسِ
قُلْتُ: شَأْنُ التَّعْلِيمِ الصَّالِحِ أَنْ يَضْبُطَ لِلْمُتَعَلِّمِ قَوَاعِدَ وَأَسَالِيبَ تَبْلُغُ بِهِ إِلَى الثَّمَرَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنَ الْمَعَارِفِ الَّتِي يُزَاوِلُهَا فَإِنَّ مُعَلِّمَ الرِّيَاضَةِ الْبَدَنِيَّة يضْبط للتعلم كَيْفِيَّاتٍ مِنَ الْحَرَكَاتِ بِأَعْضَائِهِ وَتَطَوُّرَ قَامَتِهِ انْتِصَابًا وَرُكُوعًا وَقُرْفُصَاءَ، بَعْضُ ذَلِكَ يُثْمِرُ قُوَّةَ عَضَلَاتِهِ وَبَعْضُهَا يُثْمِرُ اعْتِدَالَ الدَّوْرَةِ الدَّمَوِيَّةِ وَبَعْضُهَا يُثْمِرُ وَظَائِفَ شَرَايِينِهِ، وَهِيَ كَيْفِيَّاتٌ حَدَّدَهَا أَهْلُ تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ وَأَدْنَوْا بِهَا حُصُولَ الثَّمَرَةِ الْمَطْلُوبَةِ، وَلَوْ وَكَّلَ ذَلِكَ لِلطَّالِبِينَ لَذَهَبَتْ أَوْقَاتٌ طَوِيلَةٌ فِي التَّجَارِبِ وَتَعَدَّدَتِ الْكَيْفِيَّاتُ بِتَعَدُّدِ أَفْهَامِ الطَّالِبِينَ وَاخْتِيَارِهِمْ وَهَذَا يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: ١٨٥].
وَالْمُرَادُ بِالْأَيَّامِ من فَقَوله: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ شَهْرُ رَمَضَانَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ رَمَضَانَ بِأَيَّامٍ وَهِيَ جَمْعُ قِلَّةٍ وَوَصَفَ بِمَعْدُودَاتٍ وَهِيَ جَمْعُ قِلَّةٍ أَيْضًا تَهْوِينًا لِأَمْرِهِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ، وَالْمَعْدُودَاتُ كِنَايَةٌ عَنِ الْقِلَّةِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْقَلِيلَ يُعَدُّ عَدًّا وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: الْكَثِيرُ لَا يُعَدُّ، وَلِأَجْلِ هَذَا اخْتِيرَ فِي وَصْفِ الْجَمْعِ مَجِيئُهُ فِي التَّأْنِيثِ عَلَى طَرِيقَةِ الْجَمْعِ بِأَلِفٍ وَتَاءٍ وَإِنْ كَانَ مَجِيئُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْجَمْعِ الْمُكَسَّرِ الَّذِي فِيهِ هَاءُ تَأْنِيثٍ أَكْثَرَ.
قَالَ أَبُو حَيَّانَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى الْآتِي بَعْدَهُ: مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [الْبَقَرَة: ١٨٥] صِفَةُ الْجَمْعِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ تَارَةً تُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَة: ٨٠] وَتَارَةً تُعَامَلُ مُعَامَلَةَ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ نَحْوَ: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَعْدُودَاتٌ جَمْعٌ لِمَعْدُودَةٍ، وَأَنْتَ لَا تَقُولُ يَوْمٌ مَعْدُودَةٌ وَكِلَا الِاسْتِعْمَالَيْنِ فَصِيحٌ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ تُرِكَ فِيهِ تَحْقِيقًا وَذَلِكَ أَنَّ الْوَجْهَ فِي الْوَصْفِ الْجَارِي عَلَى جَمْعٍ مُذَكَّرٍ إِذَا أَنَّثُوهُ أَنْ يَكُونَ مُؤَنَّثًا مُفْرَدًا، لِأَنَّ الْجَمْعَ قَدْ أُوِّلَ بِالْجَمَاعَةِ وَالْجَمَاعَةُ كَلِمَةٌ مُفْرَدَةٌ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ، غَيْرَ أَنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا
التَّنْبِيهَ عَلَى كَثْرَةِ ذَلِكَ الْجَمْعِ أَجْرَوْا وَصْفَهُ عَلَى صِيغَةِ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ لِيَكُونَ فِي مَعْنَى الْجَمَاعَاتِ وَأَنَّ الْجَمْعَ يَنْحَلُّ إِلَى جَمَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلِذَلِكَ فَأَنَا أَرَى أَنَّ مَعْدُودَاتٍ أَكْثَرُ مِنْ مَعْدُودَةٍ وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَة: ٨٠] لِأَنَّهُمْ يُقَلِّلُونَهَا غُرُورًا أَوْ تَغْرِيرًا، وَقَالَ هُنَا مَعْدُوداتٍ لِأَنَّهَا ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [الْبَقَرَة: ١٩٧] وَهَذَا مِثْلَ قَوْلِهِ فِي جمع جمل جِمالَتٌ [المرسلات: ٣٣] عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ جِمَالٍ، وَعَنِ الْمَازِنِيِّ أَنَّ الْجَمْعَ لِمَا لَا يَعْقِلُ يَجِيءُ الْكَثِيرُ مِنْهُ بِصِيغَةِ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ تَقُولُ: الْجُذُوعُ انْكَسَرَتْ وَالْقَلِيلُ مِنْهُ يَجِيءُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ تَقول: الأجذاع انكسرن اهـ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ.
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْأَيَّامِ غَيْرُ رَمَضَانَ بَلْ هِيَ أَيَّامٌ وَجَبَ صَوْمُهَا على الْمُسلمين عِنْد مَا فُرِضَ
كَأُمٍّ لِلْكِتَابِ.
وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنَ الْمُحْكَمَاتِ أُمٌّ لِلْكِتَابِ فِي مَا تَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْمَعْنَى. وَهَذَا كَقَوْلِ النَّابِغَةِ يَذْكُرُ بَنِي أَسَدٍ:
فَهُمْ دِرْعِي الَّتِي اسْتَلْأَمْتُ فِيهَا أَيْ مَجْمُوعُهُمْ كَالدِّرْعِ لِي، وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ بِمَنْزِلَةِ حَلْقَةٍ مِنْ حِلَقِ الدِّرْعِ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [الْفرْقَان: ٧٤].
وَالْكَلَامُ عَلَى (أُخَرُ) تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [الْبَقَرَة: ١٨٤].
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ.
تَفْصِيلٌ لِإِجْمَالٍ اقْتَضَاهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ لِأَنَّهُ لَمَّا قَسَّمَ الْكِتَابَ إِلَى مُحْكَمٍ وَمُتَشَابِهٍ، وَكَانَ ذَلِكَ التَّقْسِيمُ بِاعْتِبَارِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ عَلَى الْمَعَانِي، تَشَوَّفَتِ النَّفْسُ إِلَى مَعْرِفَةِ تَلَقِّي النَّاسِ لِلْمُتَشَابِهِ. أَمَّا الْمُحْكَمُ فَتَلَقِّي النَّاسِ لَهُ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ، وَاقْتَصَرَ فِي التَّفْصِيلِ عَلَى ذِكْرِ قِسْمٍ مِنْ أَقْسَامِهِ: وَهُوَ حَالُ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ كَيْفَ تَلَقِّيهِمْ لِلْمُتَشَابِهَاتِ لِأَنَّ بَيَانَ هَذَا هُوَ الْأَهَمُّ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ، وَهُوَ كَشْفُ شُبْهَةِ الَّذِينَ غَرَّتْهُمُ الْمُتَشَابِهَاتُ وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى حَقِّ تَأْوِيلِهَا، وَيُعْرَفُ حَالُ قَسِيمِهِمْ وَهُمُ
الَّذِينَ لَا زَيْغَ فِي قُلُوبِهِمْ بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ ثُمَّ سَيُصَرِّحُ بِإِجْمَالٍ حَالَ الْمُهْتَدِينَ فِي تلقّي ومتشبهات الْقُرْآنِ.
وَالْقُلُوبُ مَحَالُّ الْإِدْرَاكِ، وَهِيَ الْعُقُولُ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨٣].
وَالزَّيْغُ: الْمَيْلُ وَالِانْحِرَافُ عَنِ الْمَقْصُودِ: مَا زاغَ الْبَصَرُ [النَّجْم: ١٧] وَيُقَالُ: زَاغَتِ الشَّمْسُ. فَالزَّيْغُ أَخَصُّ مِنَ الْمَيْلِ لِأَنَّهُ مَيْلٌ عَنِ الصَّوَابِ وَالْمَقْصُودِ.
وَالِاتِّبَاعُ هُنَا مَجَازٌ عَنِ الْمُلَازَمَةِ وَالْمُعَاوَدَةِ، أَيْ يَعْكُفُونَ عَلَى الْخَوْضِ فِي الْمُتَشَابِهِ، يُحْصُونَهُ، شُبِّهَتْ تِلْكَ الْمُلَازَمَةُ بِمُلَازَمَةِ التَّابِعِ مَتْبُوعَهُ.
(وَلَمَّا) اسْمُ زَمَانٍ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ فَيَدُلُّ عَلَى وُجُودِ جَوَابِهِ لِوُجُودِ شَرْطِهِ، وَهُوَ مُلَازِمُ الْإِضَافَةِ إِلَى جُمْلَةِ شَرْطِهِ، فَالْمَعْنَى: قُلْتُمْ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ: أَنَّى هَذَا،.
وَجُمْلَةُ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها صفة «لمصيبة»، وَمَعْنَى أَصَبْتُمْ غَلَبْتُمُ الْعَدُوَّ وَنِلْتُمْ مِنْهُ مِثْلَيْ مَا أَصَابَكُمْ بِهِ، يُقَالُ: أَصَابَ إِذا غلب، وَأُصِيب إِذَا غَلَبَ، قَالَ قَطَرِيُّ بْنُ الْفُجَاءَةِ:
ثُمَّ انْصَرَفْتُ وَقَدْ أَصَبْتُ وَلَمْ أُصَبْ | جَذَعَ الْبَصِيرَةِ قَارِحَ الْإِقْدَامِ |
وَ (أَنَّى) اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى مِنْ أَيْنَ قَصَدُوا بِهِ التَّعَجُّبَ وَالْإِنْكَارَ، وَجُمْلَةُ قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا جَوَابُ (لمّا)، والاستفهام بأنّى هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعَجُّبِ.
ثُمَّ ذُيِّلَ الْإِنْكَارُ وَالتَّعَجُّبُ بِقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَيْ إِنَّ اللَّهَ قَدِيرٌ عَلَى نَصْرِكُمْ وَعَلَى خِذْلَانِكُمْ، فَلَمَّا عَصَيْتُمْ وَجَرَرْتُمْ لِأَنْفُسِكُمُ الْغَضَبَ قَدَّرَ اللَّهُ لكم الخذلان.
إِلَّا أَنَّ الْقَاتِلَ خَطَأً إِذَا كَانَ وَارِثًا لِلْقَتِيلِ لَا يَرِثُ مِنْ دِيَتِهِ. وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ تَعْوِيضِ الْمُتْلَفَاتِ، جُعِلَتْ عِوَضًا لِحَيَاةِ الَّذِي تَسَبَّبَ الْقَاتِلُ فِي قَتْلِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: تَكَايُلُ الدِّمَاءِ، وَقَالُوا: هُمَا بَوَاءٌ، أَيْ كُفْآنِ فِي الدَّمِ وَزَادُوا فِي دِيَةِ سَادَتِهِمْ.
وَجُعِلَ عَفْوُ أَهْلِ الْقَتِيلِ عَنْ أَخْذِ الدِّيَةِ صَدَقَةً مِنْهُمْ تَرْغِيبًا فِي الْعَفْوِ.
وَقَدْ أَجْمَلَ الْقُرْآنُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ الدِّيَةِ وَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ بِأَنَّهُمُ الْعَاقِلَةُ، وَذَلِكَ تَقْرِيرٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ.
وَالْعَاقِلَةُ: الْقَرَابَةُ مِنَ الْقَبِيلَةِ. تَجِبُ عَلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ بِحَسَبِ التَّقَدُّمِ فِي التَّعْصِيبِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْآيَةَ أَيْ إِنْ كَانَ الْقَتِيلُ مُؤْمِنًا وَكَانَ أَهْلُهُ كُفَّارًا، بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَدَاوَةٌ، يُقْتَصَرُ فِي الْكَفَّارَةِ عَلَى تَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ دُونَ دَفْعِ دِيَةٍ لَهُمْ، لِأَنَّ الدِّيَةَ: إِذَا اعْتَبَرْنَاهَا جَبْرًا لِأَوْلِيَاءِ الدَّمِ، فَلَمَّا كَانُوا أَعْدَاءً لَمْ تَكُنْ حِكْمَةٌ فِي جَبْرِ خَوَاطِرِهِمْ، وَإِذَا اعْتَبَرْنَاهَا عِوَضًا عَنْ مَنَافِعِ قَتِيلِهِمْ، مِثْلَ قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، يَكُونُ مَنْعُهَا مِنَ الْكُفَّارِ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، وَلِأَنَّا لَا نُعْطِيهِمْ مَالَنَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَيْنَا. وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، إِنْ كَانَ الْقَتِيلُ الْمُؤْمِنُ بَاقِيًا فِي دَارِ قَوْمِهِ وَهُمْ كُفَّارٌ فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْقَتِيلُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَكَانَ أَوْلِيَاؤُهُ كُفَّارًا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَسْقُطُ عَنِ الْقَاتِلِ دِيَتُهُ، وَتُدْفَعُ لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ:
تَسْقُطُ الدِّيَةُ لِأَنَّ سَبَبَ سُقُوطِهَا أَنَّ مُسْتَحِقِّيهَا كُفَّارٌ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِأَهْلِ الْقَتِيلِ لَا بِمَكَانِ إِقَامَتِهِ، إِذْ لَا أَثَرَ لِمَكَانِ الْإِقَامَةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ وَلَوْ كَانَتْ إِقَامَتُهُ غَيْرَ مَعْذُورٍ فِيهَا.
وَأَخْبَرَ عَنْ قَوْمٍ بِلَفْظِ عَدُوٍّ وَهُوَ مُفْرَدٌ، لِأَنَّ فَعُولًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ يَكْثُرُ فِي كَلَامِهِمْ أَنْ يَكُونَ مُفْرَدًا مُذَكَّرًا غَيْرَ مُطَابِقٍ لِمَوْصُوفِهِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً [النِّسَاء: ١٠١] لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: ١] وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ [الْأَنْعَام: ١١٢]، وَامْرَأَةٌ عَدُوٌّ وَشَذَّ قَوْلُهُمْ عَدُوَّةٌ. وَفِي كَلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَنَّهُ قَالَ لِلنِّسْوَةِ اللَّاتِي كُنَّ بِحَضْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(٢٢)
عَطْفُ الْقِصَّةِ عَلَى الْقَصَصِ وَالْمَوَاعِظِ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظَائِرِ وَإِذْ قالَ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ فِي الْبَقَرَةِ [٣٠].
وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِ هَذِهِ الْآيَاتِ هُنَا أَنَّ الْقِصَّةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَذْكِيرٍ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَحَثٍّ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا عَاقَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ مِنَ الطَّاعَةِ تَمْهِيدًا لِطَلَبِ امْتِثَالِهِمْ.
وَقَدَّمَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَمْرَهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِحَرْبِ الْكَنْعَانِيِّينَ بِتَذْكِيرِهِمْ بِنِعْمَةِ الله عَلَيْهِم ليهيّىء نُفُوسَهُمْ إِلَى قَبُولِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ عَلَيْهِمْ وَلِيُوثِقَهُمْ بِالنَّصْرِ إِنْ قَاتَلُوا أَعْدَاءَهُمْ، فَذَكَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَعَدَّ لَهُمْ ثَلَاثَ نِعَمٍ عَظِيمَةٍ:
أُولَاهَا: أَنَّ فِيهِمْ أَنْبِيَاءَ، وَمَعْنَى جَعْلِ الْأَنْبِيَاء فيهم فَيجوز أَنْ يَكُونَ فِي عَمُودِ نَسَبِهِمْ فِيمَا مَضَى مِثْلُ يُوسُفَ وَالْأَسْبَاطِ وَمُوسَى وَهَارُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ جَعَلَ فِي الْمُخَاطَبِينَ أَنْبِيَاءَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ نَفْسَهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ هَارُونَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ بَعْدَ مَوْتِ هَارُونَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ أَنْبِياءَ جَمْعًا أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ فَاسْتَوَى انْحَصَرَ فِي فَرْدٍ يَوْمَئِذٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا [الْمَائِدَة: ٤٤] يُرِيدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ أَرَادَ مَنْ ظَهَرَ فِي زَمَنِ مُوسَى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. فَقَدْ كَانَتْ مَرْيَمُ أُخْتُ مُوسَى نَبِيئَةً، كَمَا هُوَ صَرِيحُ التَّوْرَاةِ (إِصْحَاحٌ ١٥ مِنَ الْخُرُوجِ). وَكَذَلِكَ أَلْدَادُ وميداد كَانَا نبيئين فِي زَمَنِ مُوسَى، كَمَا فِي التَّوْرَاةِ (إِصْحَاحٌ ١١ سِفْرُ الْعَدَدِ). وَمُوقِعُ النِّعْمَةِ فِي إِقَامَةِ الْأَنْبِيَاءِ بَيْنَهُمْ أَنَّ فِي ذَلِكَ ضَمَانَ الْهُدَى لَهُمْ وَالْجَرْيَ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمْ، وَفِيهِ أَيْضًا حُسْنُ ذِكْرٍ لَهُمْ بَيْنَ الْأُمَمِ وَفِي تَارِيخِ الْأَجْيَالِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ جَعَلَهُمْ مُلُوكًا، وَهَذَا تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ كَالْمُلُوكِ فِي تَصَرُّفِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَسَلَامَتِهِمْ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ لِلْقِبْطِ، وَجَعَلَهُمْ سَادَةً عَلَى الْأُمَمِ الَّتِي مَرُّوا بهَا، من الآموريين، وَالْعَنَاقِيِّينَ، وَالْحَشْبُونِيِّينَ، وَالرَّفَائِيِّينَ، وَالْعَمَالِقَةِ، وَالْكَنْعَانِيِّينَ، أَوِ اسْتُعْمِلَ فِعْلُ جَعَلَكُمْ فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ مِثْلَ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: ١] قَصْدًا لِتَحْقِيقِ الْخَبَرِ، فَيَكُونُ الْخَبَرُ بِشَارةً لَهُمْ بِمَا سَيَكُونُ لَهُمْ.
وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي أَنَّ الْآمِرَ لَهُ بِأَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَالنَّاهِيَ عَنْ كَوْنِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي الْعُدُولِ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى قَوْلِهِ: رَبِّي إِيمَاءً إِلَى أَنَّ عِصْيَانَهُ أَمْرٌ قَبِيحٌ لِأَنَّهُ رَبُّهُ فَكَيْفَ يَعْصِيهِ.
وَأُضِيفُ الْعَذَابُ إِلَى يَوْمٍ عَظِيمٍ تَهْوِيلًا لَهُ لِأَنَّ فِي مُعْتَادِ الْعَرَبِ أَنْ يُطْلَقَ الْيَوْمُ عَلَى يَوْمِ نَصْرِ فَرِيقٍ وَانْهِزَامِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُحَارِبِينَ، فَيَكُونَ الْيَوْمُ نَكَالًا عَلَى الْمُنْهَزِمِينَ، إِذْ يَكْثُرُ فِيهِمُ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ وَيُسَامُ الْمَغْلُوبُ سُوءَ الْعَذَابِ، فَذِكْرُ يَوْمٍ يُثِيرُ مِنَ الْخَيَالِ مَخَاوِفَ مَأْلُوفَةً، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشُّعَرَاء: ١٨٩] وَلَمْ يَقُلْ عَذَابَ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابًا عَظِيمًا. وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ [٩]، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ حَسُنَ جَعْلُ إِضَافَةِ الْعَذَابِ إِلَى الْيَوْمِ الْعَظِيمِ كِنَايَةً عَنْ عِظَمِ ذَلِكَ الْعَذَابِ، لِأَنَّ عَظَمَةَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ تَسْتَلْزِمُ عِظَمَ مَا يَقَعُ فِيهِ عُرْفًا.
وَقَوْلُهُ: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ جُمْلَةٌ مِنْ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ وَقَعَتْ مَوْقِعَ الصِّفَةِ لِ عَذابَ.
ويُصْرَفْ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ فِي قِرَاءَةِ الْأَكْثَرِ، عَلَى أَنَّهُ رَافِعٌ لِضَمِيرِ الْعَذَابِ أَوْ لِضَمِيرِ مَنْ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْفَاعِلِ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِ «عَنْ» عَائِدٌ إِلَى مَنْ أَيْ يُصْرَفِ الْعَذَابُ عَنْهُ، أَوْ عَائِدٌ إِلَى الْعَذَابِ، أَيْ مِنْ يُصْرَفْ هُوَ عَنِ الْعَذَابِ، وَعَلَى عَكْسِ هَذَا الْعَوْدِ يَكُونُ عَوْدُ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي قَوْلِهِ: يُصْرَفْ.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبَ، وَخَلَفٍ يُصْرَفْ- بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ- عَلَى أَنَّهُ رَافِعٌ لِضَمِيرِ رَبِّي عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ.
أَمَّا الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي رَحِمَهُ فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى رَبِّي، وَالْمَنْصُوبُ عَائِدٌ إِلَى مَنْ عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ.
وَمَعْنَى وَصْفِ الْعَذَابِ بِمَضْمُونِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، أَيْ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِتَجَنُّبِ أَسْبَابِ ذَلِكَ الْعَذَابِ فَهُوَ قَدْ قَدَّرَ اللَّهُ لَهُ الرَّحْمَةَ وَيَسَّرَ لَهُ أَسْبَابَهَا.
وَوُصِفَتْ بِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ تَأْكِيدًا لِلتَّحْرِيمِ بِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ قَدِيمٌ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ قَتْلَ النَّفْسِ مِنْ عَهْدِ آدَمَ، وَتَعْلِيقُ التَّحْرِيمِ بِالنَّفْسِ: هُوَ عَلَى وَجْهِ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ، أَيْ حَرَّمَ اللَّهُ قَتْلَهَا عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي تَعْلِيقِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ بِأَعْيَانِ الذَّوَاتِ أَنَّهُ يُرَادُ تَعْلِيقُهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي تُسْتَعْمَلُ تِلْكَ الذَّاتُ فِيهِ كَقَوْلِهِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ [الْمَائِدَة: ١] أَيْ، أَكْلُهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى: حَرَّمَ اللَّهُ جَعَلَهَا اللَّهُ حَرَمًا أَيْ شَيْئًا مُحْتَرما لَا يعتدى عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها [النَّمْل: ٩١].
وَفِي الْحَدِيثِ: «وَإِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا»
. وَقَوله: إِلَّا بِالْحَقِّ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ من عُمُوم أَحْوَال مُلَابَسَةَ الْقَتْلِ، أَيْ لَا تَقْتُلُوهَا فِي أَيَّةِ حَالَةٍ أَوْ بِأَيِّ سَبَبٍ تَنْتَحِلُونَهُ إِلَّا بِسَبَبِ الْحَقِّ، فَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ أَوِ السَّبَبِيَّةِ.
وَالْحَقُّ ضِدُّ الْبَاطِلِ، وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي حَقَّ، أَيْ ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ بَاطِلٍ فِي حُكْمِ الشَّرِيعَةِ وَعِنْدَ أَهْلِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ الْبَرِيئَةِ مِنْ هَوًى أَوْ شَهْوَةٍ خَاصَّةٍ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ الَّذِي اتَّفَقَتِ الْعُقُولُ عَلَى قَبُولِهِ، وَهُوَ مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الشَّرَائِعُ، أَوِ الَّذِي اصْطَلَحَ أَهْلُ نَزْعَةٍ خَاصَّةٍ عَلَى أَنَّهُ يَحِقُّ وُقُوعُهُ وَهُوَ مَا اصْطَلَحَتْ عَلَيْهِ شَرِيعَةٌ خَاصَّةٌ بِأُمَّةٍ أَوْ زَمَنٍ.
فَالتَّعْرِيفُ فِي: الْحَقِّ لِلْجِنْسِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَاهِيَّةُ الْحَقِّ الْمُتَقَدِّمِ شَرْحُهَا، وَحَيْثُمَا أُطْلِقَ فِي الْإِسْلَامِ فَالْمُرَادُ بِهِ مَاهِيَّتُهُ فِي نَظَرِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ فَصَّلَ الْإِسْلَامُ حَقَّ قَتْلِ النَّفْسِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ قَتْلُ الْمُحَارِبِ وَالْقِصَاصُ، وَهَذَانِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَقَتْلُ الْمُرْتَدِّ عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ اسْتِتَابَتِهِ، وَقَتْلُ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَقَتْلُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ بَعْدَ إِنْظَارِهِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ وَرَدَتْ بِهَا أَحَادِيثُ عَن النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْهُ الْقَتْلُ النَّاشِئُ عَنْ إِكْرَاهٍ وَدِفَاعٍ مَأْذُونٍ فِيهِ شَرْعًا وَذَلِكَ قَتْلُ مَنْ يُقْتَلُ مِنَ الْبُغَاةِ وَهُوَ بِنَصِّ
الْقُرْآنِ، وَقَتْلُ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ مَانِعِي
وَأُكِّدَ هَذَا الْخَبَرُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَثْبُتُونَ الرُّبُوبِيَّةَ لِلَّهِ، وَالْمُسْلِمُونَ لَا يَمْتَرُونَ فِي ذَلِكَ، لِتَنْزِيلِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي كَوْنِ اللَّهِ رَبًّا لَهُمْ لِكَثْرَةِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ فِي عِبَادَاتِهِمْ وَتَوَجُّهَاتِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ صِفَةٌ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ، وَالصِّلَةُ مُؤْذِنَةٌ بِالْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ لِأَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَكْفِيهِمْ دَلِيلًا عَلَى انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ بِسُورَةِ الْأَنْعَامِ [١].
وَقَوْلُهُ: فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ تَعْلِيمٌ بِعَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وَيَحْصُلُ مِنْهُ لِلْمُشْرِكِينَ زِيَادَةُ شُعُورٍ بِضَلَالِهِمْ فِي تَشْرِيكِ غَيْرِهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، فَلَا يَدُلُّ قَوْلُهُ: فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ عَلَى أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَفِيهِ تَحَدٍّ لِأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاء: ١٩٧] وَلَيْسَ الْقَصْدُ مِنْ قَوْلِهِ:
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ الِاسْتِدْلَال على الواحدانية، إِذْ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مُدَرَّجًا، وَأَنْ لَا يَكُونَ دُفْعَةً، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْعَوَالِمَ مُتَوَلِّدًا بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، لِتَكُونَ أَتْقَنَ صُنْعًا مِمَّا لَوْ خُلِقَتْ دُفْعَةً، وَلِيَكُونَ هَذَا الْخَلْقُ مَظْهَرًا لِصِفَتَيْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ، فَالْقُدْرَةُ صَالِحَةٌ لِخَلْقِهَا دُفْعَةً، لَكِنَّ الْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ أَقْتَضَيَا هَذَا التَّدَرُّجَ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْمُدَّةُ أَقَلَّ زَمَنٍ يَحْصُلُ فِيهِ الْمُرَادُ مِنَ التَّوَلُّدِ بِعَظِيمِ الْقُدْرَةِ. وَلَعَلَّ تَكَرُّرَ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ لِقَصْدِ التَّنْبِيهِ إِلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ الْبَدِيعَةِ، مِنْ كَوْنِهَا مَظْهَرَ سِعَةِ الْعِلْمِ وَسِعَةِ الْقُدْرَةِ.
وَالْعَرَضُ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الرَّاءِ- الْأَمْرُ الَّذِي يَزُولُ وَلَا يَدُومُ. وَيُرَادُ بِهِ الْمَالُ، وَيُرَادُ بِهِ أَيْضًا مَا يَعْرِضُ لِلْمَرْءِ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَالْمَنَافِعِ.
وَالْأَدْنَى الْأَقْرَبُ مِنَ الْمَكَانِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الدُّنْيَا، وَفِي اسْمِ الْإِشَارَةِ إِيمَاءٌ إِلَى تَحْقِيرِ هَذَا الْعَرَضِ الَّذِي رَغِبُوا فِيهِ كَالْإِشَارَةِ فِي قَوْلِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ:
مَتَى يَأْتِ هَذَا الْمَوْتُ لَا يُلْفِ حَاجَةً | لِنَفْسِيَ إِلَّا قَدْ قَضَيْتُ قَضَاءَهَا |
وَالْقَوْلُ فِي: وَيَقُولُونَ هُوَ الْكَلَامُ اللِّسَانِيُّ، يَقُولُونَ لِمَنْ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ مُلَابَسَةَ الذُّنُوبِ وَتَنَاوُلَ الشَّهَوَاتِ، لِأَنَّ (مَا) بَعْدَ يَقُولُونَ يُنَاسِبُهُ الْكَلَامُ اللَّفْظِيُّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامَ النَّفْسَانِيَّ، لِأَنَّهُ فَرْعٌ عَنْهُ، أَيْ قَوْلُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ يُعَلِّلُونَهَا بِهِ حِينَ يَجِيشُ فِيهَا وَازِعُ النَّهْيِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ [المجادلة:
٨] وَذَلِكَ مِنْ غُرُورِهِمْ فِي الدِّينِ.
وَبِنَاءُ فِعْلِ «يُغْفَرُ» عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْفَاعِلَ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ اللَّهُ، إِذْ لَا يَصْدُرُ هَذَا الْفِعْلُ إِلَّا عَنْهُ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ لَا فِي خُصُوصِ الذَّنْبِ الَّذِي أُنْكِرَ عَلَيْهِمْ، أَوِ الَّذِي تَلَبَّسُوا بِهِ حِينَ الْقَوْلِ، وَنَائِبُ الْفَاعِلِ مَحْذُوفٌ لِعِلْمِهِ مِنَ السِّيَاقِ، وَالتَّقْدِيرُ: سَيُغْفَرُ لَنَا ذَلِكَ، أَوْ ذُنُوبُنَا، لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ ذُنُوبَهُمْ كُلَّهَا مَغْفُورَةٌ وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨٠]، أَيْ يُغْفَرُ لَنَا بِدُونِ سَبَبِ الْمَغْفِرَةِ، وَهُوَ التَّوْبَةُ كَمَا يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ، وَهُوَ جَزْمُهُمْ بِذَلِكَ عَقِبَ ذِكْرِ الذَّنْبِ دُونَ ذِكْرِ كَفَّارَةٍ أَوْ نَحْوِهَا.
وَقَوْلُهُ لَنا لَا يَصْلُحُ لِلنِّيَابَةِ عَنِ الْفَاعِلِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ، إِذْ فِعْلُ
مُكَلَّفِينَ بِانْكِفَافِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الِاقْتِرَابِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ بَابِ قَوْلِ الْعَرَبِ: «لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا» فَلَيْسَ النَّهْيُ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى ظَاهِرِهِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ اقْتِرَابِهِمْ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ النَّهْيُ عَنْ حُضُورِهِمُ الْحَجَّ لِأَنَّ مَنَاسِكَ الْحَجِّ كُلَّهَا تَتَقَدَّمُهَا زِيَارَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَتَعْقُبُهَا كَذَلِكَ، وَلِذَلِكَ لَمَّا نَزَلَتْ «بَرَاءَةٌ» أَرْسَلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُنَادَى فِي الْمَوْسِمِ أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَقَرِينَةُ ذَلِكَ تَوْقِيتُ ابْتِدَاءِ النَّهْيِ بِمَا بَعْدَ عَامِهِمُ الْحَاضِرِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى عَمَلٍ يَكْمُلُ مَعَ اقْتِرَابِ اكْتِمَالِ الْعَامِ وَذَلِكَ هُوَ الْحَجُّ. وَلَوْلَا إِرَادَةُ ذَلِكَ لَمَا كَانَ فِي تَوْقِيتِ النَّهْيِ عَنِ اقْتِرَابِ الْمَسْجِدِ بِانْتِهَاءِ الْعَامِ حِكْمَةٌ وَلَكَانَ النَّهْيُ عَلَى الْفَوْرِ.
وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ النَّهْيِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: وَعْدُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ عَنِ الْمَنَافِعِ الَّتِي تَأْتِيهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ حِينَ كَانُوا يَفِدُونَ إِلَى الْحَجِّ فَيُنْفِقُونَ وَيُهْدُونَ الْهَدَايَا فَتَعُودُ مِنْهُمْ مَنَافِعُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا، وَقَدْ أَصْبَحَ أَهْلُهَا مُسْلِمِينَ فَلَا جَرَمَ أَنَّ مَا يَرِدُ إِلَيْهَا مِنْ رِزْقٍ يَعُودُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْعَيْلَةُ: الِاحْتِيَاجُ وَالْفَقْرُ أَيْ إِنَّ خَطَرَ فِي نُفُوسِكُمْ خَوْفُ الْفَقْرِ مِنِ انْقِطَاعِ الْإِمْدَادِ عَنْكُمْ بِمَنْعِ قَبَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْحَجِّ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُغْنِيكُمْ عَنْ ذَلِكَ. وَقَدْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ بِأَنْ هَدَى لِلْإِسْلَامِ أَهْلَ تَبَالَةَ وَجُرَشَ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ، فَأَسْلَمُوا عَقِبَ ذَلِكَ، وَكَانَتْ بِلَادُهُمْ بِلَادَ خَصْبٍ وَزَرْعٍ فَحَمَلُوا إِلَى مَكَّةَ الطَّعَامَ وَالْمِيرَةَ، وَأَسْلَمَ أَيْضًا أَهْلُ جُدَّةَ وَبَلَدِهِمْ مَرْفَأٌ تَرِدُ إِلَيْهِ الْأَقْوَاتُ مِنْ مِصْرَ وَغَيْرِهَا، فَحَمَلُوا الطَّعَامَ إِلَى مَكَّةَ، وَأَسْلَمَ أَهْلُ صَنْعَاءَ مِنَ الْيَمَنِ، وَبَلَدِهِمْ تَأْتِيهِ السُّفُنُ مِنْ أَقَالِيمَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْهِنْدِ وَغَيْرِهَا.
وَقَوْلُهُ: إِنْ شاءَ يَفْتَحُ لَهُمْ بَابَ الرَّجَاءِ مَعَ التَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ فِي تَحْقِيقِ وَعْدِهِ لِأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ.
ذَلِكَ الِانْفِرَادِ بَيَّنَ هُنَا أَنَّ آلِهَتَهُمْ مَسْلُوبَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَأَنَّ اللَّهَ مُتَّصِفٌ بِهَا. وَإِنَّمَا لَمْ يُعْطَفْ لِأَنَّهُ غَرَضٌ آخَرُ مُسْتَقِلٌّ، وَمَوْقِعُ التَّكْرِيرِ يَزِيدُهُ اسْتِقْلَالًا.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ وَتَقْرِيرٌ بِإِنْكَارِ ذَلِكَ إِذْ لَيْسَ الْمُتَكَلِّمُ بِطَالِبٍ لِلْجَوَابِ وَلَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الِاعْتِرَافُ بِذَلِكَ فَهُوَ فِي مَعْنَى نَفْيِ أَنْ يَكُونَ مِنْ آلِهَتِهِمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، فَلِذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَرْتَقِيَ مَعَهُمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ بقوله: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَصَارَ مَجْمُوعُ الْجُمْلَتَيْنِ قَصْرًا لِصِفَةِ بَدْءِ الْخَلْقِ وَإِعَادَتِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى قَصْرَ إِفْرَادٍ، أَيْ دُونَ شُرَكَائِكُمْ، أَيْ فَالْأَصْنَامُ لَا تَسْتَحِقُّ الْإِلَهِيَّةَ وَاللَّهُ مُنْفَرِدٌ بِهَا.
وَذِكْرُ إِعَادَةِ الْخَلْقِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَعْتَرِفُونَ بِهَا ضَرْبٌ مِنَ الْإِدْمَاجِ فِي الْحِجَاجِ وَهُوَ فَنٌّ بَدِيعٌ.
وَإِضَافَةُ الشُّرَكَاءِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ تَقَدَّمَ وَجْهُهُ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ [يُونُس: ٢٨].
وَقَوْلُهُ: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كَقَوْلِهِ: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [يُونُس: ٣٢]. وَأَفَكَهُ: قَلَبَهُ.
وَالْمَعْنَى: فَإِلَى أَيِّ مَكَانٍ تُقْلَبُونَ. وَالْقَلْبُ مَجَازِيٌّ وَهُوَ إِفْسَادُ الرَّأْيِ. وَ (أَنَّى) هُنَا اسْتِفْهَامٌ عَنْ مَكَانٍ مَجَازِيٍّ شُبِّهَتْ بِهِ الْحَقَائِقُ الَّتِي يُحَوَّلُ فِيهَا التَّفْكِيرُ. وَاسْتِعَارَةُ الْمَكَانِ إِلَيْهَا مِثْلُ إِطْلَاقِ الْمَوْضُوعِ عَلَيْهَا والمجال أَيْضا.
[٣٥]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ٣٥]
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥)
هَذَا تَكْرِيرٌ آخَرُ بَعْدَ قَوْلِهِ: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [يُونُس:
٣٤]. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِنُقْصَانِ آلِهَتِهِمْ عَنِ الْإِرْشَادِ إِلَى الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ بِنَشْرِ الْحَقِّ، وَبِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
وَجَعَلَ عَذَابَ الدُّنْيَا آيَةً دَالَّةً عَلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ لِأَنَّ الْقُرَى الظَّالِمَةَ تَوَعَّدَهَا اللَّهُ بِعَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ [الطّور: ٤٧] فَلَمَّا عَايَنُوا عَذَابَ الدُّنْيَا كَانَ تَحَقُّقُهُ أَمَارَةً عَلَى تَحَقُّقِ الْعَذَابِ الْآخَرِ.
وَجُمْلَةُ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ مُعْتَرِضَةٌ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ هَذَا الْيَوْمِ حَتَّى أنّ المتكلّم يبتدىء كَلَامًا لِأَجْلِ وَصفه.
وَالْإِشَارَة ب ذلِكَ إِلَى الْآخِرَة لأنّ مَا صدقهَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَتَذْكِيرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ مُرَاعَاةٌ لِمَعْنَى الْآخِرَةِ.
وَاللَّامُ فِي مَجْمُوعٌ لَهُ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ مَجْمُوعٌ النَّاسُ لِأَجْلِهِ.
وَمَجِيءُ الْخَبَرِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْيَوْمِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الثَّبَاتِ، أَيْ ثَابِتٌ جَمْعُ اللَّهِ النَّاسَ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَيَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِ تَعَلُّقِ الْجَمْعِ بِالنَّاسِ وَتَمَكُّنِ كَوْنِ ذَلِكَ الْجَمْعِ لِأَجْلِ الْيَوْمِ حَتَّى لُقِّبَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [التغابن: ٩].
وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ عَلَى جُمْلَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ لِزِيَادَةِ التَّهْوِيلِ لِلْيَوْمِ بِأَنَّهُ يُشْهَدُ. وَطُوِيَ ذِكْرُ الْفَاعِلِ إِذِ الْمُرَادُ يَشْهَدُهُ الشَّاهِدُونَ، إِذْ لَيْسَ الْقَصْدُ إِلَى شَاهِدِينَ مُعَيَّنِينَ. وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَهُ شُهُودًا خَاصًّا وَهُوَ شُهُودُ الشَّيْءِ الْمَهُولِ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنْ لَا يَقْصِدَ الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مَرْئِيًّا لَكِنَّ الْمُرَادَ كَوْنُهُ مَرْئِيًّا رُؤْيَةً خَاصَّةً.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِمَعْنَى الْمُحَقَّقِ أَيْ مَشْهُودٌ بِوُقُوعِهِ، كَمَا يُقَالُ: حَقٌّ مَشْهُودٌ، أَيْ عَلَيْهِ شُهُودٌ لَا يُسْتَطَاعُ إِنْكَارُهُ، وَاضِحٌ لِلْعَيَانِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِمَعْنَى كَثِيرِ الشَّاهِدِينَ إِيَّاهُ لِشُهْرَتِهِ، كَقَوْلِهِمْ: لِفُلَانٍ مَجْلِسٌ مَشْهُودٌ، كَقَوْلِ أُمِّ قَيْسٍ الضَّبِيَّةِ:
وَمَعْنَى مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا بَلَغَكَ وَعُلِّمْتَهُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَوْصُولِ الْقُرْآنُ تَنْوِيهًا بِهِ، أَيْ لَئِنْ شَايَعْتَهُمْ فسألتنا آيَة ير الْقُرْآنِ بَعْدَ أَنْ نُزِّلَ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ، أَوْ بَعْدَ أَنْ أَعْلَمْنَاكَ أَنَّا غَيْرُ مُتَنَازِلِينَ لِإِجَابَةِ مُقْتَرَحَاتِهِمْ. وَيُحْتَمَلُ اتِّبَاعُ دِينِهِمْ فَإِنَّ دِينَهُمْ أَهْوَاءٌ وَيكون مَا صدق مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ.
وَالْوَلِيُّ: النَّصِيرُ. وَالْوَاقِي: الْمُدَافِعُ.
وَجُعِلَ نَفْيُ الْوَلِيِّ وَالنَّصِيرِ جَوَابًا لِلشَّرْطِ كِنَايَةً عَنِ الْجَوَابِ، وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ وَالْعُقُوبَةُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَرْكَنُوا إِلَى تَمْوِيهَاتِ الْمُشْرِكِينَ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى دِينِهِمْ تَهْيِيجًا لِتَصَلُّبِهِمْ فِي دِينِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [سُورَة الزمر: ٦٥]، وَتَأْيِيسُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الطَّمَعِ فِي مَجِيءِ آيَةٍ تُوَافِقُ مُقْتَرَحَاتِهِمْ.
ومِنَ الدَّاخِلَةُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ تَتَعَلَّقُ بِ وَلِيٍّ وواقٍ. ومِنَ الدَّاخِلَةُ عَلَى وَلِيٍّ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ تَنْصِيصًا عَلَى الْعُمُومِ. وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَابْنِ كَثِيرٍ فِي حَذْفِهِمْ يَاءَ واقٍ فِي حَالَتَيِ الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ وَإِثْبَاتِ ابْنِ كَثِيرٍ الْيَاءَ فِي حَالَةِ الْوَقْفِ دُونَ الْوَصْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ فِي هَذِهِ السُّورَة [الرَّعْد: ٧].
[٣٨، ٣٩]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : الْآيَات ٣٨ الى ٣٩]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.
هَذَا عَوْدٌ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي إِنْكَارِهِمْ آيَةَ الْقُرْآنِ وَتَصْمِيمِهِمْ عَلَى الْمُطَالَبَةِ بِآيَةٍ مِنْ مُقْتَرَحَاتِهِمْ تُمَاثِلُ مَا يُؤْثَرُ مِنْ آيَاتِ مُوسَى وَآيَاتِ عِيسَى-
الْكَلَامِ آنِفًا حِكَايَةُ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ تَصْرِيحًا وَتَعْرِيضًا، فَأَقْبَلَ اللَّهُ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخِطَابِ لِمَا فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ تَنْوِيهِ مَنْزِلَتِهِ بِأَنَّهُ فِي مَنْزِلَةِ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ- عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.
وَفِي هَذَا الْخِطَابِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ، وَلِذَلِكَ الْتَفَتَ إِلَى خِطَابِهِمْ بقوله تَعَالَى:
فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ.
وَصِيغَةُ الْقَصْرِ لِقَلْبِ اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ وَقَوْلِهِمْ: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [سُورَة الْإِسْرَاء: ٩٤]، فَقُصِرَ الْإِرْسَالُ عَلَى التَّعَلُّقِ بِرِجَالٍ مَوْصُوفِينَ بِأَنَّهُمْ يُوحَى إِلَيْهِمْ.
ثُمَّ أَشْهَدَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِشَوَاهِدِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ تَوْبِيخًا لَهُمْ لِأَنَّ التَّوْبِيخَ يُنَاسِبُهُ الْخِطَابُ لِكَوْنِهِ أَوْقَعَ فِي نَفْسِ الْمُوَبَّخِ، فَاحْتَجَّ عَلَيْهِم بقوله: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ إِلَخْ. فَهَذَا احْتِجَاجٌ بِأَهْلِ الْأَدْيَانِ السَّابِقِينَ أَهْلِ الْكُتُبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئَةِ.
والذِّكْرِ: كِتَابُ الشَّرِيعَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ فِي أول سُورَة الْحِجْرِ [٦].
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ قَصَدُوا الْمُكَابَرَةَ وَالتَّمْوِيهَ لِتَضْلِيلِ الدَّهْمَاءِ، فَلِذَلِكَ جِيءَ فِي الشَّرْطِ بِحَرْفِ إِنْ الَّتِي تَرِدُ فِي
الشَّرْطِ الْمَظْنُونِ عَدَمَ وجوده.
وَجُمْلَة فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَما أَرْسَلْنا وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ.
وَالْجُمْلَةُ الْمُعْتَرِضَةُ تَقْتَرِنُ بِالْفَاءِ إِذَا كَانَ مَعْنَى الْجُمْلَةِ مُفَرَّعًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَقَدْ جَعَلَهَا فِي «الْكَشَّافِ» مُعْتَرِضَةً عَلَى اعْتِبَارِ وُجُوهٍ ذَكَرَهَا فِي مُتَعَلِّقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بِالْبَيِّناتِ.
وَنُقِلَ عَنْهُ فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ [٢٩] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أَنَّهُ لَا تَقْتَرِنُ الْجُمْلَةُ الْمُعْتَرِضَةُ بِالْفَاءِ. وَتَرَدَّدَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي صِحَّةِ ذَلِكَ عَنْهُ لِمُخَالَفَتِهِ كَلَامَهُ فِي آيَةِ سُورَةِ النَّحْلِ.
الشُّكْرِ ضَلَالًا أَوْ سَهْوًا أَوْ غَفْلَةً لِإِسْنَادِهِ النِّعَمَ إِلَى أَسْبَابِهَا الْمُقَارِنَةِ دُونَ مُنْعِمِهَا وَلِفَرْضِهِ مُنْعِمِينَ وَهْمِيِّينَ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي الْإِنْعَامِ.
وَذِكْرُ فِعْلِ (كَانَ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْكُفْرَانَ مُسْتَقِرٌّ فِي جِبِلَّةِ هَذَا الْإِنْسَانِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَشْعُرُ بِمَا وَرَاءَ عَالَمِ الْحِسِّ فَإِنَّ الْحَوَاسَّ تَشْغَلُهُ بِمُدْرِكَاتِهَا عَنْ التَّفَكُّرِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الْمُسْتَقِرَّةِ فِي الْحَافِظَةِ وَالْمُسْتَنْبَطَةِ بِالْفِكْرِ.
وَلَمَّا كَانَ الشُّكْرُ عَلَى النِّعْمَةِ مُتَوَقِّفًا عَلَى تَذَكُّرِ النِّعْمَةِ كَانَتْ شَوَاغِلُهُ عَنْ تَذَكُّرِ النِّعَمِ الْمَاضِيَةِ مُغَطِّيَةً عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ مُدْرَكَاتِ الْحَوَاسِّ مِنْهَا الْمُلَائِمُ لِلنَّفْسِ وَهُوَ الْغَالِبُ، وَمِنْهَا الْمُنَافِرُ لَهَا. فَالْإِنْسَانُ إِذَا أَدْرَكَ الْمُلَائِمَ لَمْ يَشْعُرْ بِقُدْرَةٍ عِنْدَهُ لِكَثْرَةِ تَكَرُّرِهِ حَتَّى صَارَ عَادَةً فَذُهِلَ عَمَّا فِيهِ مِنْ نَفْعٍ، فَإِذَا أَدْرَكَ الْمُنَافِرَ اسْتَذْكَرَ فُقْدَانَ الْمُلَائِمِ فَضَجَّ وَضَجِرَ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: ٥١]. وَلِهَذَا قَالَ الْحُكَمَاءُ: الْعَافِيَةُ تَاج على رُؤُوس الْأَصِحَّاءِ لَا يَرَاهُ إِلَّا الْمَرْضَى فَهَذَا الِاعْتِبَارُ هُوَ الَّذِي أَشَارَتْ لَهُ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ [الْإِسْرَاء: ٦٨] الْآيَةَ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ مِنْ آدَابِ النَّفْسِ فِي الشَّرِيعَةِ تَذْكِيرُهَا بِنِعَمِ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إِبْرَاهِيم: ٥] لِيَقُومَ ذِكْرُ النِّعْمَةِ مقَام معاهدتها.
[٦٨، ٦٩]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : الْآيَات ٦٨ إِلَى ٦٩]
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩)
تَفْرِيعٌ عَلَى جملَة أَعْرَضْتُمْ [الْإِسْرَاء: ٦٧]، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَفُرِّعَ الِاسْتِفْهَامُ التَّوْبِيخِيُّ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الشُّكْرِ وَعَوْدِهِمْ إِلَى الْكُفْرِ.
لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا إِذَا أَرَادُوا تَوْثِيقَ مَا يَتَعَاهَدُونَ عَلَيْهِ كَتَبُوهُ فِي صَحِيفَةٍ وَوَضَعُوهَا فِي مَكَانٍ حَصِينٍ مَشْهُورٍ كَمَا كَتَبَ الْمُشْرِكُونَ صَحِيفَةَ الْقَطِيعَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَوَضَعُوهَا فِي الْكَعْبَةِ. وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
حَذَرَ الْجَوْرِ والتَّطَاخِي وَهَلْ يَنْقُضُ | مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ |
وَاخْتِيرَ هُنَا من أَسْمَائِهِ الرَّحْمنِ، لِأَنَّ اسْتِحْضَارَ مَدْلُولِهِ أَجْدَرُ فِي وَفَائِهِ بِمَا عَهِدَ بِهِ مِنْ النِّعْمَةِ الْمَزْعُومَةِ لِهَذَا الْكَافِرِ، وَلِأَنَّ فِي ذِكْرِ هَذَا الِاسْمِ تَوَرُّكًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: ٦٠].
وكَلَّا حَرْفُ رَدْعٍ وَزَجْرٍ عَنْ مَضْمُونِ كَلَامٍ سَابِقٍ مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ، أَوْ مِنْ كَلَامٍ يُحْكَى عَنْ مُتَكَلِّمٍ آخَرَ أَوْ مَسْمُوعٍ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي [الشُّعَرَاء: ٦١، ٦٢].
وَالْأَكْثَرُ أَنْ تَكُونَ عَقِبَ آخِرِ الْكَلَامِ الْمُبْطَلِ بِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَلَى الْكَلَامِ الْمُبْطَلِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْإِبْطَالِ وَتَعْجِيلِهِ وَالتَّشْوِيقِ إِلَى سَمَاعِ الْكَلَامِ الَّذِي سَيَرِدُ بَعْدَهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ [المدثر: ٣٢- ٣٥] على أَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ، وَلِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْإِبْطَالِ كَانَتْ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، فَهِيَ نَقِيضُ إِي وَأجل وَنَحْوِهِمَا مِنْ أَحْرُفِ الْجَوَابِ بِتَقْدِيرِ الْكَلَامِ السَّابِقِ.
وَالْمَعْنَى: لَا يَقَعُ مَا حَكَى عَنْهُ مِنْ زَعْمِهِ وَلَا مِنْ غُرُورِهِ، وَالْغَالِبُ أَنْ تَكُونَ مُتْبَعَةً بِكَلَامٍ بَعْدَهَا، فَلَا يُعْهَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ فِي رَدِّ كَلَامٍ: كَلَّا، وَيَسْكُتُ.
عَلَى أَنَّ التَّشْبِيه صَالح للمماثلة فِي غَيْرِ ذَلِكَ.
رَوَى مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ بِمَوْعِظَةٍ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ
الْحَدِيثَ. فَهَذَا تَفْسِيرٌ لِبَعْضِ مَا أَفَادَهُ التَّشْبِيهُ وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ وَاللَّفْظُ لَا يَأْبَاهُ فَيَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ مَعْنًى لِلْكَافِ مَعَ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ بِظَاهِرِ السِّيَاقِ. وَهَذَا مِنْ تَفَارِيعِ الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ تَفْسِيرِنَا هَذَا.
وَانْتَصَبَ وَعْداً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِ نُعِيدُهُ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِالْإِعَادَةِ فِي مَعْنَى الْوَعْدِ بِذَلِكَ فَانْتَصَبَ عَلَى بَيَانِ النَّوْعِ لِلْإِعَادَةِ. وَيَجُوزُ كَوْنُهُ مَفْعُولًا مُطْلَقًا مُؤَكِّدًا لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ.
[١٠٥، ١٠٦]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : الْآيَات ١٠٥ إِلَى ١٠٦]
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦)
إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَرْضِ أَرْضَ الْجَنَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي [سُورَةِ الزُّمَرِ: ٧٣- ٧٤] وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الَّتِي تَقَدَّمَتْهَا ظَاهِرَةٌ. وَلَهَا ارْتِبَاطٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: افلا ترَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الْأَنْبِيَاء: ٤٤].
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَرْضًا مِنَ الدُّنْيَا، أَيْ مَصِيرَهَا بِيَدِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَسُوقَةً لِوَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ بِمِيرَاثِ الْأَرْضِ الَّتِي لَقُوا فِيهَا الْأَذَى، وَهِيَ أَرْضُ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا، فَتَكُونُ بِشَارَةً بِصَلَاحِ حَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ بِشَارَتِهِمْ بِحُسْنِ مَآلِهِمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيّ: حق للمقذوف. وَيَتَرَتَّب عَلَى الْخِلَافِ سُقُوطُهُ بِالْعَفْوِ مِنَ الْمَقْذُوفِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي حَدِّ الْفِرْيَةِ وَالْقَذْفِ الَّذِي كَانَ أَوَّلُ ظُهُورِهِ فِي رَمْيِ الْمُحْصَنَاتِ بِالزِّنَى. فَكُلُّ رَمْيٍ بِمَا فِيهِ مَعَرَّةٌ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ بِالْإِجْمَاعِ الْمُسْتَند للْقِيَاس.
[٦- ٩]
[سُورَة النُّور (٢٤) : الْآيَات ٦ إِلَى ٩]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩)
هَذَا تَخْصِيصٌ للعمومين الَّذين فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النُّور: ٤] فَإِنَّ مِنَ الْمُحْصَنَاتِ مَنْ هُنَّ أَزْوَاجٌ لِمَنْ يَرْمِيهِنَّ، فَخُصَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ مِنْ حُكْمِ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ إِلَخْ إِذْ عُذِرَ الْأَزْوَاجُ خَاصَّةً فِي إِقْدَامِهِمْ عَلَى الْقَوْلِ فِي أَزْوَاجِهِمْ بِالزِّنَى إِذَا لَمْ يَسْتَطِيعُوا إِثْبَاتَهُ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ.
وَوَجْهُ عُذْرِهِمْ فِي ذَلِكَ مَا فِي نُفُوسِ النَّاسِ مِنْ سَجِيَّةِ الْغَيْرَةِ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ وَعَدَمِ احْتِمَالِ رُؤْيَةِ الزِّنَى بِهِنَّ فَدَفَعَ عَنْهُمْ حَدَّ الْقَذْفِ بِمَا شَرَعَ لَهُمْ مِنَ الْمُلَاعَنَةِ.
وَفِي هَذَا الْحُكْمِ قَبُولٌ لِقَوْلِ الزَّوْجِ فِي امْرَأَتِهِ فِي الْجُمْلَةِ إِذَا كَانَ مُتَثَبِّتًا حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ بَعْدَ أَيْمَانِ زَوْجِهَا تُكَلَّفُ بِدَفْعِ ذَلِكَ بِأَيْمَانِهَا وَإِلَّا قُبِلَ قَوْلُهُ
وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ حَتَّى أَشْتَغِلَ بِتَحْصِيلِ عِلْمِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَعْمَالِهِمْ بِمَا يُنَاسِبُ مَرَاتِبَهُمْ فَأَنَا لَا أَهْتَمُّ بِمَا قَبْلَ إِيمَانِهِمْ.
وَضُمِّنَ عِلْمِي مَعْنَى اشْتِغَالِي وَاهْتِمَامِي فعدّي بِالْبَاء.
وبِما كانُوا يَعْمَلُونَ مَوْصُول مَا صدقه الْحَالَةُ لِأَنَّ الْحَالَةَ لَا تَخْلُو مِنْ عَمَلٍ.
فَالْمَعْنَى: وَمَا عِلْمِي بِأَعْمَالِهِمْ. وَهَذَا كَمَا يُقَالُ فِي السُّؤَالِ عَنْ أَحَدٍ: مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ أَيْ مَا خَبَرُهُ وَمَا حَالُهُ؟ وَمِنْهُ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّبِيِّ الْأَنْصَارِيِّ: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ»
لِطَائِرٍ يُسَمَّى النُّغَرَ (بِوَزْنِ صُرَدٍ) وَهُوَ مِنْ نَوْعِ الْبُلْبُلِ كَانَ عِنْدَ الصَّبِيِّ يَلْعَبُ بِهِ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنِ الَّذِينَ مَاتُوا مِنْ صِبْيَانِ الْمُشْرِكِينَ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ»
أَيْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِمْ، فَهُوَ إِمْسَاكٌ عَنِ الْجَوَابِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: مَا بَالُهُ، أَيْ مَا حَالُهُ؟.
وَفِعْلُ كانُوا مَزِيدٌ بَيْنَ (مَا) الْمَوْصُولَةِ وَصِلَتِهَا لِإِفَادَةِ التَّأْكِيدِ، أَيْ تَأْكِيدِ مَدْلُولِ «مَا عِلْمِي بِمَا يَعْمَلُونَ». وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ عِلْمِي بِمَا يَعْمَلُونَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِمَا كَانُوا عَمِلُوهُ مِنْ قَبْلُ. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: بِما كانُوا فَاعِلٌ وَلَيْسَتِ اسْمًا لِ (كَانَ) لِأَنَّ (كَانَ) الزَّائِدَةَ لَا تَنْصُبُ الْخَبَرَ.
وَشَمَلَ قَوْلُهُ: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ جَمِيعَ أَحْوَالِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ وَالْمُسْتَقْبَلِ وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن.
و (الْحساب) حَقِيقَتُهُ: العدّ، وَاسْتعْمل فِي معنى تمحيص الْأَعْمَال وَتَحْقِيق ظواهرها وبواطنها بِحَيْثُ لَا يفوت مِنْهَا شَيْء أَو يشْتَبه.
وَالْمعْنَى: أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى مُعَامَلَتَهُمْ بِمَا أَسْلَفُوا وَمَا يَعْمَلُونَ وَبِحَقَائِقِ أَعْمَالِهِمْ. وَهَذَا الْمَقَالُ اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ شُمُولِهِ جَمِيعَ أَعْمَالِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ الَّتِي مِنْهَا مَا يُحَاسَبُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَهَمُّ عِنْدَ الرَّسُولِ الْمُشَرِّعِ، فَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْإِرْشَادِ فِي عَدَمِ إِهْمَالِ فُرْصَتِهِ. وَهَذَا
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا قَالُوهَا (أَيْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»
، أَيْ تَحْقِيقُ مُطَابَقَةِ بَاطِنِهِمْ لِظَاهِرِهِمْ عَلَى اللَّهِ.
صَنَعُوا حِينَ تَحَقَّقُوا أَنَّهُمْ مُعَذَّبُونَ؟ فَأُجِيبُ بِأَنَّهُمْ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا لَسَلَكُوهُ وَلَكِنَّهُمْ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى النَّجَاةِ.
وَعَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ تَكُونُ لَوْ حَرْفَ شَرْطٍ وَجَوَابُهَا مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ حَذْفُ مَفْعُولِ يَهْتَدُونَ أَيْ يَهْتَدُونَ خَلَاصًا أَوْ سَبِيلًا. وَالتَّقْدِيرُ: لَتَخَلَّصُوا مِنْهُ. وَعَلَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ فَفِعْلُ كانُوا مَزِيدٌ فِي الْكَلَامِ لِتَوْكِيدِ خَبَرِ (أَنَّ) أَيْ لَوْ أَنَّهُمْ يَهْتَدُونَ اهْتِدَاءً مُتَمَكِّنًا مِنْ نُفُوسِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ أَنَّهُمْ حِينَئِذٍ لَا قَرَارَةَ لِنُفُوسِهِمْ. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يَهْتَدُونَ دَالَّةٌ عَلَى التَّجَدُّدِ فالاهتداء مُنْقَطع عَنْهُم وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ مِنْ أَصْلِهِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ لَوْ لِلتَّمَنِّي الْمُسْتَعْمَلِ فِي التَّحَسُّرِ عَلَيْهِمْ. وَالْمُرَادُ اهْتِدَاؤُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا كَيْلَا يَقَعُوا فِي هَذَا الْعَذَابِ، وَفِعْلُ كانُوا حِينَئِذٍ فِي مَوْقِعِهِ الدَّالِّ عَلَى الِاتِّصَافِ بِالْخَبَرِ فِي الْمَاضِي، وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يَهْتَدُونَ لِقَصْدِ تَجَدُّدِ الْهُدَى الْمُتَحَسَّرِ عَلَى فَوَاتِهِ عَنْهُمْ فَإِنَّ الْهُدَى لَا يَنْفَعُ صَاحِبَهُ إِلَّا إِذَا اسْتَمَرَّ إِلَى آخِرِ حَيَاتِهِ.
وَوَجْهٌ خَامِسٌ عِنْدِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعَذَابِ عَذَابَ الدُّنْيَا، وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: وَرَأَوْا آثَارَ الْعَذَابِ. وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ، أَيْ وَهُمْ رَأَوُا الْعَذَابَ فِي حَيَاتِهِمْ أَيْ رَأَوْا آثَارَ عَذَابِ الْأُمَمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [٤٥ وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَجُمْلَةُ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ شَرْطٌ جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ أَيْ بِالِاتِّعَاظِ وَبِالِاسْتِدْلَالِ بِحُلُولِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَنَّ وَرَاءَهُ عَذَابًا أَعْظَمَ مِنْهُ لَاهْتَدَوْا فَأَقْلَعُوا عَنِ الشِّرْكِ وَصَدَّقُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا لِأَنَّهُ يُفِيدُ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى مَا أَفَادَتْهُ جُمْلَةُ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ. فَهَذِهِ عِدَّةُ مَعَانٍ يُفِيدُهَا لَفْظُ الْآيَةِ، وَكُلُّهَا مَقْصُودَةٌ، فَالْآيَةُ مِنْ جَوَامِع الْكَلم.
[٦٥- ٦٦]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : الْآيَات ٦٥ إِلَى ٦٦]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَساءَلُونَ (٦٦)
هُوَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الْقَصَص: ٦٢]. كَرَّرَ
الْحَدِيثَ عَنْهُ
وَالْمَعْرُوفُ: الشَّيْءُ الْمُتَعَارَفُ الْمَأْلُوفُ الَّذِي لَا يُنْكَرُ فَهُوَ الشَّيْءُ الْحَسَنُ، أَيْ صَاحِبْ وَالِدَيْكَ صُحْبَةً حَسَنَةً، وَانْتَصَبَ مَعْرُوفاً عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ لِ صاحِبْهُما، أَيْ صِحَابًا مَعْرُوفًا لِأَمْثَالِهِمَا. وَفُهِمَ مِنْهُ اجْتِنَابُ مَا يُنْكَرُ فِي
مُصَاحَبَتِهِمَا، فَشَمَلَ ذَلِكَ مُعَامَلَةَ الِابْنِ أَبَوَيْهِ بِالْمُنْكَرِ، وَشَمَلَ ذَلِكَ أَنْ يَدْعُوَ الْوَالِدُ إِلَى مَا يُنْكِرُهُ اللَّهُ وَلَا يَرْضَى بِهِ وَلِذَلِكَ لَا يُطَاعَانِ إِذَا أَمَرَا بِمَعْصِيَةٍ. وَفُهِمَ مِنْ ذِكْرِ وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً أَثَرَ قَوْلِهِ وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي إِلَخْ... أَنَّ الْأَمْرَ بِمُعَاشَرَتِهِمَا بِالْمَعْرُوفِ شَامِلٌ لِحَالَةِ كَوْنِ الْأَبَوَيْنِ مُشْرِكَيْنِ فَإِنَّ عَلَى الِابْنِ مُعَاشَرَتَهُمَا بِالْمَعْرُوفِ كَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا وَصِلَتِهِمَا.
وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّ أُمِّي جَاءَتْ رَاغِبَةً أَفَأَصِلُهَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ،
وَكَانَتْ مُشْرِكَةً وَهِيَ قُتَيْلَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى. وَشَمَلَ الْمَعْرُوفُ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ لَهُمَا أَنْ يَفْعَلَاهُ فِي أَنْفُسِهِمَا، وَإِنْ كَانَ مُنْكَرًا لِلْمُسْلِمِ فَلِذَلِكَ قَالَ فُقَهَاؤُنَا: إِذَا أَنْفَقَ الْوَلَدُ عَلَى أَبَوَيْهِ الْكَافِرَيْنِ الْفَقِيرَيْنِ وَكَانَ عَادَتُهُمَا شُرْبَ الْخَمْرِ اشْتَرَى لَهُمَا الْخَمْرَ لِأَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ لَيْسَ بِمُنْكَرٍ لِلْكَافِرِ، فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُنْكَرًا فِي الدِّينَيْنِ فَلَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُشَايِعَ أَحَدَ أَبَوَيْهِ عَلَيْهِ. وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ مَنْ أَنَابَ هُوَ الِاقْتِدَاءُ بِسِيرَةِ الْمُنِيبِينَ لِلَّهِ، أَيِ الرَّاجِعِينَ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْإِنَابَةِ فِي سُورَةِ الرُّومِ [٣٣] عِنْدَ قَوْلِهِ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَفِي سُورَةِ هُودٍ [٨٨]. فَالْمُرَادُ بِمَنْ أَنَابَ: الْمُقْلِعُونَ عَنِ الشِّرْكِ وَعَنِ الْمَنْهِيَّاتِ الَّتِي مِنْهَا عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَهُمُ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَمَنِ اتَّبَعُوهُمْ فِي ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ السَّابِقَةِ وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ الْمُفِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا بَعْدَهَا، أَيْ وَعِلَاوَةً عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنْبِئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَضَمِيرُ الْجَمْعِ لِلْإِنْسَانِ وَالْوَالِدَيْنِ، أَيْ مَرْجِعُ الْجَمِيعِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الرُّجُوعِ أَوْ هُوَ لِلتَّخْصِيصِ، أَيْ لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْءٌ مِمَّا تَأْمَلُونَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ. وَفَرَّعَ عَلَى هَذَا فَأُنَبِّئُكُمْ إِلَخْ... وَالْإِنْبَاءُ كِنَايَةٌ عَنْ إِظْهَارِ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ لِأَنَّ الْمُلَازَمَةَ بَيْنَ إِظْهَارِ الشَّيْءِ وَبَيْنَ الْعِلْمِ بِهِ ظَاهِرَةٌ.
رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تَنَزَّهَ عَنِ الْجُلُوسِ فِي الْمَحَارِيبِ وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ الطَّاقَ أَوِ الطَّاقَةَ، وَرُبَّمَا سَمَّوْهُ الْمَذْبَحَ، وَلَمْ أَرَ أَنَّهُمْ سَمَّوْهُ أَيَّامَئِذٍ مِحْرَابًا، وَإِنَّمَا كَانُوا يُسَمُّونَ بِالْمِحْرَابِ مَوْضِعَ ذَبْحِ الْقُرْبَانِ فِي الْكَنِيسَةِ، قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ:
دُمْيَةٌ عِنْدَ رَاهِبٍ قِسِّيسٍ | صَوَّرُوهَا فِي مَذَابِحِ الْمِحْرَابِ |
وَمَا حُكِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إِنْ صَحَّ فَإِنَّمَا يُعْنَى بِهِ بَيْتٌ لِلصَّلَاةِ خَاصٌّ. وَرَأَيْتُ إِطْلَاقَ الْمِحْرَابِ عَلَى الطَّاقَةِ الَّتِي فِي الْمَسْجِدِ فِي كَلَامِ الْفَرَّاءِ، أَيْ فِي مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الثَّانِي، نَقَلَ الْجَوْهَرِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْمَحَارِيبُ صُدُورُ الْمَجَالِسِ وَمِنْهُ سُمِّيَ مِحْرَابُ الْمَسْجِدِ، لِأَنَّ الْمِحْرَابَ لَمْ يَبْقَ حِينَئِذٍ مُطْلَقًا عَلَى مَكَانِ الْعِبَادَةِ.
وَمِنَ الْغَلَطِ أَنْ جَعَلُوا فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَقْرُبُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِيهِ صُورَةَ مِحْرَابٍ مُنْفَصِلٍ يُسَمُّونَهُ مِحْرَابَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَامَةٌ عَلَى تَحَرِّي مَوْقِفِهِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ ابْتَدَأُوا فَجَعَلُوا طاقات صَغِيرَة عَلامَة عَلَى الْقِبْلَةِ لِئَلَّا يَضِلَّ الدَّاخِلُ إِلَى الْمَسْجِدِ يُرِيدُ الصَّلَاةَ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقَعُ كَثِيرًا، ثُمَّ وَسَّعُوهَا شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى صَيَّرُوهَا فِي صُورَةِ نِصْفِ دِهْلِيزٍ صَغِيرٍ فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ يَسَعُ مَوْقِفَ الْإِمَامِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ أَوَّلَ وَضْعِهِ كَانَ عِنْدَ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ الْأُمَوِيِّ فِي دِمَشْقَ، ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيفَةَ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمَرَ بِجَعْلِهِ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ حِينَ وَسَّعَهُ وَأَعَادَ بِنَاءَهُ، وَذَلِكَ فِي مُدَّةِ إِمَارَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى الْمَدِينَةِ حَسْبَمَا ذَكَرَ السَّمْهُودِيُّ فِي كِتَابِ «خُلَاصَةِ الْوَفَا بِأَخْبَارِ دَارِ الْمُصْطَفَى».
وَالتَّمَاثِيلُ: جَمْعُ تِمْثَالٍ بِكَسْرِ التَّاءِ، وَوَزْنُهُ تِفْعَالٌ لِأَنَّ التَّاءَ مَزِيدَةٌ وَهُوَ أَحَدُ أَسْمَاءٍ مَعْدُودَةٍ جَاءَتْ عَلَى وَزْنِ تِفْعَالٍ بِكَسْرِ التَّاءِ، وَأَمَّا قِيَاسُ هَذَا الْبَابِ وَأَكْثَرُهُ فَهُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ.
وَالْأَسْمَاءُ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ مِنْهَا مَصَادِرُ وَمِنْهَا أَسْمَاءٌ، فَأَمَّا الْمَصَادِرُ فَأَكْثَرُهَا بِفَتْحِ التَّاءِ إِلَّا مَصْدَرَيْنِ: تِبْيَانٌ، وَتِلْقَاءٌ بِمَعْنَى اللِّقَاءِ. وَأَمَّا الْأَسْمَاءُ فورد مِنْهَا عَلَى الْكَسْرِ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ اسْمًا مِنْهَا: تِمْثَالٌ، أَحْصَاهَا ابْنُ
[١١٢- ١١٣]
[سُورَة الصافات (٣٧) : الْآيَات ١١٢ الى ١١٣]وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣)
هَذِهِ بِشَارَةٌ أُخْرَى لِإِبْرَاهِيمَ وَمَكْرَمَةٌ لَهُ، وَهِيَ غَيْرُ الْبِشَارَةِ بِالْغُلَامِ الْحَلِيمِ، فَإِسْحَاقُ غَيْرُ الْغُلَامِ الْحَلِيمِ. وَهَذِهِ الْبِشَارَةُ هِيَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَشَّرْناها
بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ
[هود: ٧١]. وَتَسْمِيَةُ الْمُبَشَّرِ بِهِ إِسْحَاقَ تَحْتَمِلُ أَنَّ اللَّهَ عَيَّنَ لَهُ اسْمًا يُسَمِّيهِ بِهِ وَهُوَ مُقْتَضَى مَا فِي الْإِصْحَاحِ السَّابِعِ عشر من «سفر التَّكْوِينِ» «سَارَةُ امْرَأَتُكَ تَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ إِسْحَاقَ».
وَتَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ: بَشَّرْنَاهُ بِوَلَدٍ الَّذِي سُمِّيَ إِسْحَاقُ، وَهُوَ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْغُلَامَ الْمُبَشَّرَ بِهِ فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ لَيْسَ هُوَ الَّذِي اسْمُهُ إِسْحَاقُ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ الَّذِي سُمِّيَ إِسْمَاعِيلَ. وَمَعْنَى الْبِشَارَةِ بِهِ الْبِشَارَةُ بِوِلَادَتِهِ لَهُ لِأَنَّ الْبِشَارَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالذَّوَاتِ بَلْ تَتَعَلَّقُ بِالْمَعَانِي.
وَانْتَصَبَ نَبِيئًا عَلَى الْحَالِ مِنْ إِسْحَاقَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِلْبِشَارَةِ فَيَكُونُ الْحَالُ حَالًا مُقَدَّرًا لِأَنَّ اتِّصَافَ إِسْحَاقَ بِالنُّبُوءَةِ بَعْدَ زَمَنِ الْبِشَارَةِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ بَلْ هُوَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا، فَالْمَعْنَى: وَبَشَّرْنَاهُ بِوِلَادَةِ وَلَدٍ اسْمُهُ إِسْحَاقُ مُقَدَّرًا حَالُهُ أَنَّهُ نَبِيءٌ، وَعَدَمُ وُجُودِ صَاحِبِ الْحَالِ فِي وَقْتِ الْوَصْفِ بِالْحَالِ لَا يُنَافِي اتصافه بِالْحَالِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ لِأَنَّ وُجُودَ صَاحِبِ الْحَالِ غَيْرُ شَرْطٍ فِي وَصْفِهِ بِالْحَالِ بَلِ الشَّرْطُ مُقَارَنَةُ تَعَلُّقِ الْفِعْلِ بِهِ مَعَ اعْتِبَارِ مَعْنَى الْحَالِ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ مِنَ اسْتِعْمَالِ اسْمِ الْفَاعِلِ فِي زَمَانِ الِاسْتِقْبَالِ بِالْقَرِينَةِ وَلَا تَكُونُ الْحَالُ الْمُقَدَّرَةُ إِلَّا كَذَلِكَ، وَطُولُ زَمَانِ الِاسْتِقْبَالِ لَا يَتَحَدَّدُ، وَمِنْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَأْتِينا فَرْداً فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٨٠].
وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ أَنَّهَا مُقَدَّرٌ حُصُولُهَا غَيْرَ حَاصِلَةٍ الْآنَ وَالْمُقَدَّرُ هُوَ النَّاطِقُ بِهَا، وَهِيَ وَصْفٌ لِصَاحِبِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَقَيْدٌ لِعَامِلِهَا كَيْفَمَا كَانَ، فَلَا
اسْتَكْبَرُوا:
سَادَةُ الْقَوْمِ، أَيِ الَّذِينَ تَكَبَّرُوا كِبَرًا شَدِيدًا، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَوْلُ الضُّعَفَاءِ لِلْكُبَرَاءِ هَذَا الْكَلَامَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَى حَقِيقَته فَهُوَ ناشىء عَمَّا اعْتَادُوهُ مِنَ اللَّجَأِ إِلَيْهِمْ فِي مُهِمِّهِمْ حِينَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا فَخَالُوا أَنَّهُمْ يَتَوَلَّوْنَ تَدْبِيرَ أُمُورِهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَلِهَذَا أَجَابَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بِمَا يُفِيدُ أَنَّهُمُ الْيَوْمَ سَوَاءٌ فِي الْعَجْزِ وَعَدَمِ الْحِيلَةِ فَقَالُوا: إِنَّا كُلٌّ فِيها أَيْ لَوْ أَغْنَيْنَا عَنْكُمْ لَأَغْنَيْنَا عَنْ أَنْفُسِنَا.
وَتَقْدِيمُ قَوْلِهِمْ: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً عَلَى طَلَبِ التَّخْفِيفِ عَنْهُمْ مِنَ النَّارِ، مُقَدِّمَةٌ لِلطَّلَبِ لِقَصْدِ تَوْجِيهِهِ وَتَعْلِيلِهِ وَتَذْكِيرِهِمْ بِالْوَلَاءِ الَّذِي بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، يُلْهِمُهُمُ اللَّهُ هَذَا الْقَوْلَ لِافْتِضَاحِ عَجْزِ الْمُسْتَكْبِرِينَ أَنْ يَنْفَعُوا أَتْبَاعَهُمْ تَحْقِيرًا لَهُمْ جَزَاءً عَلَى تَعَاظُمِهِمُ الَّذِي كَانُوا يَتَعَاظَمُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ قَوْلَ الضُّعَفَاءِ لَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَةِ الْحَثِّ عَلَى التَّخْفِيفِ عَنْهُمْ وَلَكِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ، أَيْ كُنْتُمْ تَدْعُونَنَا إِلَى دِينِ الشِّرْكِ فَكَانَتْ عَاقِبَةُ ذَلِك أَنا صِرْنَا فِي هَذَا الْعَذَابِ فَهَلْ تَسْتَطِيعُونَ الدَّفْعَ عَنَّا. وَتَأْكِيدُ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً بِ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَلَيْسَ لِرَدِّ إِنْكَارٍ.
وَالتَّبَعُ: اسْمٌ لِمَنْ يَتْبَعُ غَيْرَهُ، يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، وَهُوَ مِثْلُ خَدَمٍ وَحَشَمٍ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَصْدَرٌ، فَلِذَلِكَ اسْتَوَى فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، وَقِيلَ التَّبَعُ: جَمْعٌ لَا يَجْرِي عَلَى الْوَاحِدِ، فَهُوَ إِذَنْ مِنَ الْجُمُوعِ النَّادِرَةِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْحَثِّ وَاللَّوْمِ عَلَى خِذْلَانِهِمْ وَتُرْكِ الِاهْتِمَامِ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ عَذَابٍ.
وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الثَّبَاتِ، أَيْ هَلْ مِنْ شَأْنِكُمْ أَنَّكُمْ مُغْنُونَ عَنَّا.
ومُغْنُونَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَغْنَى غَنَاءً بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَالْمَدِّ، أَيْ فَائِدَةٌ وَإِجْزَاءٌ.
وَالنَّصِيبُ: الْحَظُّ وَالْحِصَّةُ مِنَ الشَّيْءِ، قَالَ تَعَالَى:
وَ (عَرَبِيًّا) نِسْبَةً إِلَى الْعَرَبِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمَنْسُوبُ كِتَابًا وَمَقْرُوءًا فَقَدِ اقْتَضَى أَنَّ نِسْبَتَهُ إِلَى الْعَرَبِ نِسْبَةُ الْكَلَامِ وَاللُّغَةِ إِلَى أَهْلِهَا، أَيْ هُوَ مِمَّا يَنْطِقُ الْعَرَبُ بِمِثْلِ أَلْفَاظِهِ، وَبِأَنْوَاعِ تَرَاكِيبِهِ.
وَانْتَصَبَ قُرْآناً عَلَى الْحَالِ مِنْ مَفْعُولِ جَعَلْناهُ.
وَمَعْنَى جَعْلِهِ قُرْآناً عَرَبِيًّا تَكْوِينُهُ عَلَى مَا كُوِّنَتْ عَلَيْهِ لُغَةُ الْعَرَبِ، وَأَنَّ اللَّهَ بِبَاهِرِ حِكْمَتِهِ جَعَلَ هَذَا الْكِتَابَ قُرْآنًا بِلُغَةِ الْعَرَبِ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ اللُّغَاتِ وَأَوْسَعُهَا دَلَالَةً عَلَى عَدِيدِ الْمَعَانِي، وَأَنْزَلَهُ بَيْنَ أَهْلِ تِلْكَ اللُّغَةِ لِأَنَّهُمْ أَفْهَمُ لِدَقَائِقِهَا، وَلِذَلِكَ اصْطَفَى رَسُولَهُ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ اللُّغَةِ لِتَتَظَاهَرَ وَسَائِلُ الدَّلَالَةِ وَالْفَهْمِ فَيَكُونُوا الْمُبَلِّغِينَ مُرَادَ اللَّهِ إِلَى الْأُمَمِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ بِهَاتِهِ الْمَثَابَةِ فَلَا يَأْبَى مِنْ قَبُولِهِ إِلَّا قَوْمٌ مُسْرِفُونَ فِي الْبَاطِلِ بُعَدَاءُ عَنِ الْإِنْصَافِ وَالرُّشْدِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ هَدْيَهُمْ فَلَا يُقْطَعُ عَنْهُمْ ذِكْرُهُ حَتَّى يَتِمَّ مُرَادُهُ وَيَكْمُلَ انْتِشَارُ دِينِهِ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُرَاجِعُوا عُقُولَهُمْ وَيَتَدَبَّرُوا إِخْلَاصَهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ غَيْرُ مُؤَاخِذِهِمْ بِمَا سَلَفَ مِنْ إِسْرَافِهِمْ إِنْ هُمْ ثَابُوا إِلَى رُشْدِهِمْ.
وَالْمَقْصُودُ بِوَصْفِ الْكِتَابِ بِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ غَرَضَانِ: أَحَدُهُمَا التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ، وَمَدْحُهُ بِأَنَّهُ مَنْسُوجٌ عَلَى مِنْوَالِ أَفْصَحِ لُغَةٍ، وَثَانِيهِمَا التَّوَرُّكُ عَلَى الْمُعَانِدِينَ مِنَ الْعَرَبِ حِينَ لَمْ يَتَأَثَّرُوا بِمَعَانِيهِ بِأَنَّهُمْ كَمَنْ يَسْمَعُ كَلَامًا بِلُغَةٍ غَيْرِ لُغَتِهِ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْحَرْفَانِ الْمُقَطَّعَانِ الْمُفْتَتَحَةُ بِهِمَا السُّورَةُ مِنْ مَعْنَى التَّحَدِّي بِأَنَّ هَذَا كِتَابٌ بِلُغَتِكُمْ وَقَدْ عَجَزْتُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ.
وَحَرْفُ (لَعَلَّ) مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْإِرَادَةِ وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧٣].
وَالْعَقْلُ الْفَهْمُ. وَالْغَرَضُ: التَّعْرِيضُ بِأَنَّهُمْ أَهْمَلُوا التَّدَبُّرَ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَأَنَّ كَمَالَهُ فِي الْبَيَانِ وَالْإِفْصَاحِ نَسْتَأْهِلُ الْعِنَايَةَ بِهِ لَا الْإِعْرَاضَ عَنْهُ فَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ مُشْعِرٌ
بِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْقِلُوا.
وَالْمَعْنَى: أَنَّا يَسَّرْنَا فَهْمَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فَأَعْرَضْتُمْ وَلَمْ تَعْقِلُوا مَعَانِيَهُ،
لَمَّا أَرَادَ الْمَسِيرَ إِلَى الْعُمْرَةِ اسْتَنْفَرَ مِنْ حَوْلِ الْمَدِينَةِ مِنْهُمْ لِيَخْرُجُوا مَعَهُ فَيَرْهَبَهُ أَهْلُ مَكَّةَ فَلَا يَصُدُّوهُ عَنْ عُمْرَتِهِ فَتَثَاقَلَ أَكْثَرُهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَهُ.
وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْعَةِ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ مَنْ جُهَيْنَةَ وَخَرَجَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَسْلَمَ مِائَةُ رَجُلٍ مِنْهُمْ مِرْدَاسُ بْنُ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيُّ وَالِدُ عَبَّاسٍ الشَّاعِرِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى وَزَاهِرُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأُهْبَانُ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ- بْنُ أَوْسٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ الْأَسْلَمِيُّ، وَمن غفار خفات- بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ- بْنُ أَيْمَاءَ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ- بَعْدَهَا تَحْتِيَّةً سَاكِنَةً، وَمَنْ مُزَيَّنَةَ عَائِذُ بْنُ عَمْرٍو. وَتَخَلَّفَ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَهُ مُعْظَمُهُمْ وَكَانُوا يَوْمَئِذٍ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْإِيمَانُ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ، وَأَعَدُّوا لِلْمَعْذِرَةِ بَعْدَ رُجُوع النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ شَغَلَتْهُمْ أَمْوَالُهُمْ
وَأَهْلُوهُمْ، فَأَخْبَرَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا بَيَّتُوهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَفَضَحَ أَمْرَهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَعْتَذِرُوا.
وَهَذِهِ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ بِالْأَخْبَارِ الَّتِي قَبْلَ وُقُوعِهِ.
فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْإِيفَاءِ وَالنَّكْثِ، فَكُمِّلَ بِذِكْرِ مَنْ تَخَلَّفُوا عَنِ الدَّاعِي لِلْعَهْدِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ عِنْدَ مرجع النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُعْتَذِرِينَ كَاذِبِينَ فِي اعْتِذَارِهِمْ.
والمخلّفون بِفَتْحِ اللَّامِ هُمُ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا. وَأُطْلِقَ عَلَيْهِمُ الْمُخَلَّفُونَ أَيْ غَيْرُهُمْ خَلَّفَهُمْ وَرَاءَهُ، أَيْ تَرَكَهُمْ خَلْفَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُقْتَضٍ أَنَّهُمْ مَأْذُونٌ لَهُمْ بَلِ الْمُخَلَّفُ هُوَ الْمَتْرُوكُ مُطْلَقًا. يُقَالُ: خَلَّفْنَا فَلَانًا، إِذَا مَرُّوا بِهِ وَتَرَكُوهُ لِأَنَّهُمُ اعْتَذَرُوا مِنْ قَبْلِ خُرُوج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَذَرَهُمْ بِخِلَافِ الْأَعْرَابِ فَإِنَّهُمْ تَخَلَّفَ أَكْثَرُهُمْ بَعْدَ أَنِ اسْتُنْفِرُوا وَلَمْ يَعْتَذِرُوا حِينَئِذٍ.
وَالْأَمْوَالُ: الْإِبِلُ.
وَأَهْلُونَ: جَمْعُ أَهْلٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِأَنَّهُ غير مُسْتَوْفِي لِشُرُوطِ الْجَمْعِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ أَوِ الْيَاءِ وَالنُّونِ، فَعُدَّ مِمَّا أُلْحِقَ بِجَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ.
وَمَعْنَى فَاسْتَغْفِرْ لَنَا: اسْأَلْ لَنَا الْمَغْفِرَةَ مِنَ اللَّهِ إِذْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَهُوَ طَلَبٌ
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلْقَصْرِ، أَيْ هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ أَهْلًا لِأَنْ تُقَابِلُوهُ بِالضَّحِكِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّكْذِيبِ وَلَا لِأَنْ لَا يَتُوبَ سَامِعُهُ، أَيْ لَوْ قَابَلْتُمْ بِفِعْلِكُمْ كَلَامًا غَيْرَهُ لَكَانَ لَكُمْ شُبْهَةٌ فِي فِعْلِكُمْ، فَأَمَّا مُقَابَلَتُكُمْ هَذَا الْحَدِيثَ بِمَا فَعَلْتُمْ فَلَا عُذْرَ لكم فِيهَا.
[٦٢]
[سُورَة النَّجْم (٥٣) : آيَة ٦٢]
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢)
تَفْرِيعٌ عَلَى الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ الْمُفَرَّعَيْنِ عَلَى الْإِنْذَارِ بِالْوَعِيدِ، فَرَّعَ عَلَيْهِ أَمْرَهُمْ بِالسِّجُودِ لِلَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّوْبِيخَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعْمُقَ فِي قُلُوبِهِمْ فَيَكُفَّهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْبَطَرِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِالدَّاعِي إِلَى اللَّهِ. وَمُقْتَضَى تَنَاسُقِ الضَّمَائِرِ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَالسُّجُودُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْخَشْيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرَّحْمَن: ٦]. وَالْمَعْنَى: أَمَرَهُمْ بِالْخُضُوعِ إِلَى اللَّهِ وَالْكَفِّ عَنْ تَكْذِيبِ رَسُولِهِ وَعَنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ اسْتِخْفَافٌ بِحَقِّ اللَّهِ وَكَانَ عَلَيْهِمْ لَمَّا دُعُوا إِلَى اللَّهِ أَنْ يَتَدَبَّرُوا وَيَنْظُرُوا فِي دَلَائِلِ صِدْقِ الرَّسُولِ وَالْقُرْآنِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ سُجُودَ الصَّلَاةِ وَالْأَمْرُ بِهِ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَمْرِ بِأَنْ يُسْلِمُوا فَإِنَّ الصَّلَاةَ شِعَارُ الْإِسْلَامِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر: ٤٢، ٤٣]، أَيْ مِنَ الَّذِينَ شَأْنُهُمُ الصَّلَاةُ وَقَدْ جَاءَ نَظِيرُهُ الْأَمْرُ بِالرِّكُوعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ فِي سُورَةِ الْمُرْسَلَاتِ [٤٨] فَيَجُوزُ فِيهِ الْمَحْمَلَانِ.
وَعَطَفَ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ إِذَا خَضَعُوا لَهُ حَقَّ الْخُضُوعِ عَبَدُوهُ وَتَرَكُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ بِالطَّوَافِ حَوْلَهَا وَمُعْرِضِينَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى الْكَعْبَةِ فَوَضَعُوا فِيهَا الْأَصْنَامَ لِيَكُونَ طَوَافُهُمْ بِالْكَعْبَةِ طَوَافًا بِمَا فِيهَا مِنَ الْأَصْنَامِ.
أَوِ الْمُرَادُ: وَاعْبُدُوهُ الْعِبَادَةَ الْكَامِلَةَ وَهِيَ الَّتِي يُفْرَدُ بِهَا لِأَنَّ إِشْرَاكَ غَيْرِهِ فِي
ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
أَيْ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ، وَهُوَ عَدْلٌ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ بِأحد جانبيه وَيتْرك الْآخَرِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَوْلَا الْعَهْدُ لَأُمْسِكَ النِّسَاءُ وَلَمْ يُرَدُّ إِلَى أَزْوَاجِهِمْ صَدَاقٌ. وَجُمْلَةُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَجُوزُ كَوْنُهَا حَالًا مِنَ اسْمِ الْجَلَالَةِ أَوْ حَالًا مِنْ حُكْمُ اللَّهِ مَعَ تَقْدِيرِ ضَمِيرٍ يَرْبِطُ الْجُمْلَةَ بِصَاحِبِ الْحَالِ تَقْدِيرُهُ: يَحْكُمُهُ بَيْنَكُمْ، وَأَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تَذْيِيلٌ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ هَذَا حُكْمٌ يَقْتَضِيهِ عِلْمُ اللَّهِ بِحَاجَاتِ عِبَادِهِ وَتَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ إِذْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.
وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ الَّتِي فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنَ التَّرَادِّ فِي الْمُهُورِ شَرْعًا فِي أَحْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ اقْتَضَاهَا اخْتِلَاطُ الْأَمْرِ بَيْنَ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ مِنْ عَهْدِ الْمُهَادِنَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فِي أَوَائِلِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ خَاصًّا بِذَلِكَ الزَّمَانِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَهُ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَالْقُرْطُبِيُّ وَأَبُو بكر الْجَصَّاص.
[١١]
[سُورَة الممتحنة (٦٠) : آيَة ١١]
وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١)
عَطْفٌ على جملَة وَسْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ [الممتحنة: ١٠] فَإِنَّهَا لَمَّا تَرَتَّبَ عَلَى نُزُولِهَا إِبَاءُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَنْ يَرُدُّوا إِلَى أَزوَاج النِّسَاء اللاء بَقَيْنَ عَلَى الْكفْر بِمَكَّة واللاء فَرَرْنَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَالْتَحَقْنَ بِأَهْلِ الْكفْر بِمَكَّة مهورهن الَّتِي كَانُوا أَعْطَوْهَا نِسَاءَهُمْ، عُقِّبَتْ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِتَشْرِيعِ رَدِّ تِلْكَ الْمُهُورِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ.
رُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَتَبُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ يُعْلِمُونَهُمْ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ التَّرَادِّ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى: وَسْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا [الممتحنة: ١٠].
فَامْتَنَعَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ دَفْعِ مُهُورِ النِّسَاءِ اللَّاتِي ذَهَبَتْ إِلَيْهِمْ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ الْآيَةَ.
وَ (لَوْ) مَصْدَرِيَّةٌ فَمَا بَعْدَهَا فِي حُكْمِ الْمَفْعُولِ لِ يَوَدُّ، أَي يَوَدُّ الِافْتِدَاءِ مِنَ الْعَذَابِ بِبَنِيهِ إِلَى آخِرِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَوْمِئِذٍ بِكَسْرِ مِيمِ (يَوْمِ) مَجْرُورًا بِإِضَافَة (عَذَاب الله). وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى بِنَائِهِ لِإِضَافَةِ (يَوْمٍ) إِلَى (إِذْ)، وَهِيَ اسْمٌ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ وَالْوَجْهَانِ جَائِزَانِ.
وَالِافْتِدَاءُ: إِعْطَاءُ الْفِدَاءِ، وَهُوَ مَا يُعْطَى عِوَضًا لِإِنْقَاذٍ مِنْ تَبِعَةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ فِي الْبَقَرَةِ [٨٥] وَقَوْلُهُ: وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ [٩١]، وَالْمَعْنَى: لَوْ يَفْتَدِي نَفْسَهُ، وَالْبَاءُ بَعْدَ مَادَّةِ الْفِدَاءِ تَدْخُلُ عَلَى الْعِوَضِ الْمَبْذُولِ فَمَعْنَى الْبَاءِ التَّعْوِيضُ.
وَمَعْنَى مِنْ الِابْتِدَاءُ الْمَجَازِيُّ لِتَضْمِينِ فِعْلِ يَفْتَدِي مَعْنَى يَتَخَلَّصُ وصاحِبَتِهِ:
زَوْجُهُ.
وَالْفَصِيلَةُ: الْأَقْرِبَاءُ الْأَدْنَوْنَ مِنَ الْقَبِيلَةِ، وَهُمُ الْأَقْرِبَاءُ الْمَفْصُولُ مِنْهُمْ، أَيِ الْمُسْتَخْرَجُ مِنْهُمْ، فَشَمِلَتِ الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ أَشْهَبُ: سَأَلْتُ مَالِكًا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ فَقَالَ هِيَ أُمُّهُ اهـ، أَيْ وَيُفْهَمُ مِنْهَا الْأَبُ بِطَرِيقِ لَحْنِ الْخِطَابِ فَيَكُونُ قَدِ اسْتَوْفَى ذِكْرَ أَقْرَبِ الْقَرَابَةِ بِالصَّرَاحَةِ وَالْمَفْهُومِ، وَأَمَّا عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَشْهُورِ فَالْفَصِيلَةُ دَلَّتْ عَلَى الْآبَاءِ بِاللَّفْظِ وَتُسْتَفَادُ الْأُمَّهَاتُ بِدَلَالَةِ لَحْنِ الْخِطَابِ.
وَقَدْ رُتِّبَتِ الْأَقْرِبَاءُ عَلَى حَسَبِ شِدَّةِ الْمَيْلِ الطَّبِيعِيِّ فِي الْعُرْفِ الْغَالِبِ لِأَنَّ الْمَيْلَ الطَّبِيعِيَّ يَنْشَأُ عَنِ الْمُلَازَمَةِ وَكَثْرَةِ الْمُخَالَطَةِ.
وَلم يذكر الأبوان لِدُخُولِهِمَا فِي الْفَصِيلَةِ قَصْدًا لِلْإِيجَازِ.
وَالْإِيوَاءُ: الضَّمُّ وَالِانْحِيَازُ. قَالَ تَعَالَى: آوَى إِلَيْهِ أَخاهُ [يُوسُف: ٦٩] وَقَالَ:
سَآوِي إِلى جَبَلٍ [هود: ٤٣].
والَّتِي تُؤْوِيهِ: إِنْ كَانَتِ الْقَبِيلَةُ، فَالْإِيوَاءُ مَجَازٌ فِي الْحِمَايَةِ وَالنَّصْرِ، أَيْ وَمَعَ ذَلِكَ يَفْتَدِي بِهَا لِعِلْمِهِ بِأَنَّهَا لَا تُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا يَوْمَئِذٍ.
وَإِنْ كَانَتِ الْأُمُّ فَالْإِيوَاءُ عَلَى حَقِيقَتِهِ بِاعْتِبَارِ الْمَاضِي، وَصِيغَةِ الْمُضَارِعِ
وَخَلَفٌ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِالضَّادِ السَّاقِطَةِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ حَافَّةِ اللِّسَانِ مِمَّا يَلِي الْأَضْرَاسَ وَهِيَ الْقِرَاءَةُ الْمُوَافِقَةُ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ.
وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالظَّاءِ الْمُشَالَةِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ وَأُصُولِ الثَّنَايَا الْعُلْيَا، وَذُكِرَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِهِمَا، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّنْبِيهِ، لِأَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ مَا كَانَتَا مُتَوَاتِرَتَيْنِ إِلَّا وَقَدْ رُوِيَتَا عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالضَّادُ وَالظَّاءُ حَرْفَانِ مُخْتَلِفَانِ وَالْكَلِمَاتُ الْمُؤَلَّفَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا مُخْتَلِفَةُ الْمَعَانِي غَالِبًا إِلَّا نَحْوَ حُضَضٍ بِضَادَيْنِ سَاقِطَتَيْنِ وحظظ بِظَاءَيْنِ مُشَالَيْنِ وحضظ بِضَادٍ سَاقِطَةٍ بَعْدَهَا ظَاءٌ مُشَالَةٌ وَثَلَاثَتُهَا بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ مَا بَعْدَ الْحَاءِ. فَقَدْ قَالُوا: إِنَّهَا لُغَاتٌ فِي كَلِمَةٍ ذَاتِ مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ اسْمُ صَمْغٍ يُقَالُ لَهُ: خَوْلَانُ.
وَلَا شَكَّ أَن الَّذين قرأوه بِالظَّاءِ الْمُشَالَةِ مِنْ أَهْلِ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ قَدْ رَوَوْهُ مُتَوَاتِرًا عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ فَلَا يَقْدَحُ فِي قِرَاءَتِهِمْ كَوْنُهَا مُخَالِفَةً لِجَمِيعِ نُسَخِ مَصَاحِفِ الْأَمْصَارِ لِأَنَّ تَوَاتُرَ الْقِرَاءَةِ أَقْوَى مِنْ تَوَاتُرِ الْخَطِّ إِنِ اعْتُبِرَ لِلْخَطِّ تَوَاتُرٌ.
وَمَا ذُكِرَ مِنْ شَرْطِ مُوَافَقَةِ الْقِرَاءَةِ لِمَا فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ لِتَكُونَ قِرَاءَةً صَحِيحَةً تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهَا، إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْقِرَاءَاتِ الَّتِي لَمْ تُرْوَ متواترة كَمَا بَيناهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّادِسَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَقَدِ اعْتَذَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَنِ اتِّفَاقِ مَصَاحِفِ الْإِمَامِ عَلَى كِتَابَتِهَا بِالضَّادِ مَعَ وُجُودِ الِاخْتِلَافِ فِيهَا بَيْنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ فِي الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ، بِأَنْ قَالَ: «لَيْسَ هَذَا بِخِلَافِ الْكِتَابِ لِأَنَّ الضَّادَ وَالظَّاءَ لَا يَخْتَلِفُ خَطُّهُمَا فِي الْمَصَاحِفِ إِلَّا بِزِيَادَةِ رَأْسِ إِحْدَاهُمَا عَلَى رَأْسِ الْأُخْرَى فَهَذَا قَدْ يَتَشَابَهُ وَيَتَدَانَى» اهـ.
يُرِيدُ بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّ مَا رُسِمَ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ لَيْسَ مُخَالَفَةً مِنْ كُتَّابِ الْمَصَاحِفِ لِلْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ، أَيْ أَنَّهُمْ يُرَاعُونَ اخْتِلَافَ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَيَكْتُبُونَ بَعْضَ نُسَخِ الْمَصَاحِفِ عَلَى اعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ وَهُوَ الْغَالِب. وَهَاهُنَا اشْتَبَهَ الرَّسْمُ فَجَاءَتِ الظَّاءُ دَقِيقَةَ الرَّأْسِ.
وَلَا أَرَى لِلِاعْتِذَارِ عَنْ ذَلِكَ حَاجَةً لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْقِرَاءَتَانِ مُتَوَاتِرَتَيْنِ عَنِ