وَمِنْ أَعْجَبِ الْآرَاءِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْمَنْهَلِ الْأَصْفَى فِي شَرْحِ الشِّفَاءِ» التِّلْمِسَانِيُّ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْقَوْلُ بِأَنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ يُمْسَكُ عَنِ الْكَلَامِ فِي مَعْنَاهُ نعظيما وَإِجْلَالًا وَلِتَوَقُّفِ الْكَلَامِ فِيهِ عَلَى إِذْنِ الشَّارِعِ.
رَبِّ الْعالَمِينَ.
وَصْفٌ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَسْنَدَ الْحَمْدَ لِاسْمِ ذَاتِهِ تَعَالَى تَنْبِيهًا عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ الذَّاتِيِّ، عَقَّبَ بِالْوَصْفِ وَهُوَ الرَّبُّ لِيَكُونَ الْحَمْدُ مُتَعَلِّقًا بِهِ أَيْضًا لِأَنَّ وَصْفَ الْمُتَعَلَّقِ مُتَعَلِّقٌ أَيْضًا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلِ الْحَمْدُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ كَمَا قَالَ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين: ٦] لِيُؤْذِنَ بِاسْتِحْقَاقِهِ الْوَصْفِيِّ أَيْضًا لِلْحَمْدِ كَمَا اسْتَحَقَّهُ بِذَاتِهِ.
وَقَدْ أَجْرَى عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَوْصَافٍ هِيَ: رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ، الرَّحِيمِ، مَلِكْ يَوْمِ الدِّينِ، لِلْإِيذَانِ بِالِاسْتِحْقَاقِ الْوَصْفِيِّ فَإِنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمُشْعِرَةِ بِالصِّفَاتِ يُؤْذِنُ بِقَصْدِ
مُلَاحَظَةِ مَعَانِيهَا الْأَصْلِيَّةِ، وَهَذَا مِنَ الْمُسْتَفَادَاتِ مِنَ الْكَلَامِ بِطَرِيقِ الِاسْتِتْبَاعِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي ذِكْرِ الْوَصْفِ غُنْيَةٌ عَنْ ذِكْرِ الْمَوْصُوفِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْوَصْفُ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ الِاسْمِ كَأَوْصَافِهِ تَعَالَى وَكَانَ فِي ذِكْرِ لَفْظِ الْمَوْصُوفِ أَيْضًا غُنْيَةٌ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْحَمْدِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْجُمْلَةِ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا إِلَّا وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ كِلَا مَدْلُولَيِ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ جَدِيرٌ بِتَعَلُّقِ الْحَمْدِ لَهُ مَعَ مَا فِي ذِكْرِ أَوْصَافِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ مِنَ التَّذْكِيرِ بِمَا يُمَيِّزُهُ عَنِ الْآلِهَةِ الْمَزْعُومَةِ عِنْدَ الْأُمَمِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ وَالْعَنَاصِرِ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ.
وَالرَّبُّ إِمَّا مَصْدَرٌ وَإِمَّا صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ عَلَى وَزْنِ فَعْلٍ مِنْ رَبَّهَ يَرُبُّهُ بِمَعْنَى رَبَّاهُ وَهُوَ رَبٌّ بِمَعْنَى مُرَبٍّ وَسَائِسٍ. وَالتَّرْبِيَةُ تَبْلِيغُ الشَّيْءِ إِلَى كَمَالِهِ تَدْرِيجًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَبَّهُ بِمَعْنَى مَلَكَهُ، فَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا عَلَى الْوَجْهَيْنِ فَالْوَصْفُ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ صِفَةً مُشَبَّهَةً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فَهِيَ وَارِدَةٌ عَلَى الْقَلِيلِ فِي أَوْزَانِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ عَلَى فَعْلٍ مِنْ فَعَلَ يَفْعُلُ إِلَّا قَلِيلًا، مِنْ ذَلِكَ قَوْلِهِمْ نَمَّ الْحَدِيثَ يَنُمُّهُ فَهُوَ نَمٌّ لِلْحَدِيثِ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ رَبَّهُ بِمَعْنَى رَبَّاهُ وَسَاسَهُ، لَا مِنْ رَبَّهُ بِمَعْنَى مَلَكَهُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ الْأَنْسَبَ بِالْمَقَامِ هُنَا إِذِ الْمُرَادُ أَنَّهُ مُدَبِّرُ الْخَلَائِقِ وَسَائِسُ أُمُورِهَا وَمُبَلِّغُهَا غَايَةَ كَمَالِهَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى مَعْنَى الْمَالِكِ لَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ كَالتَّأْكِيدِ وَالتَّأْكِيدُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَلَا دَاعِيَ
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ (١).
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: عَلَيْكُمُ الصِّيامُ وَالْمَعْطُوفُ بَعْضُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَهُوَ فِي الْمَعْنَى كَبَدَلِ الْبَعْضِ أَيْ وَكُتِبَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ فَإِنَّ الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ بَعْضُ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ.
وَالْمُطِيقُ هُوَ الَّذِي أَطَاقَ الْفِعْلَ أَيْ كَانَ فِي طَوْقِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَالطَّاقَةُ أَقْرَبُ دَرَجَاتِ الْقُدْرَةِ إِلَى مَرْتَبَةِ الْعَجْزِ، وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ فِيمَا فَوْقَ الطَّاقَةِ: هَذَا مَا لَا يُطَاقُ، وَفَسَّرَهَا الْفَرَّاءُ بِالْجَهْدِ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَهُوَ الْمَشَقَّةُ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَرَأَ: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ فَلَا يُطِيقُونَهُ). وَهِيَ تَفْسِيرٌ فِيمَا أَحْسَبُ، وَقَدْ صَدَرَ مِنْهُ نَظَائِرُ مِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَقِيلَ الطَّاقَةُ الْقُدْرَةُ مُطْلَقًا.
فَعَلَى تَفْسِيرِ الْإِطَاقَةِ بِالْجَهْدِ فَالْآيَةُ مُرَادٌ مِنْهَا الرُّخْصَةُ عَلَى مَنْ تَشْتَدُّ بِهِ مَشَقَّةُ الصَّوْمِ فِي الْإِفْطَارِ وَالْفِدْيَةِ.
وَقَدْ سَمَّوْا مِنْ هَؤُلَاءِ الشَّيْخَ الْهَرِمَ وَالْمَرْأَةَ الْمُرْضِعَ وَالْحَامِلَ فَهَؤُلَاءِ يُفْطِرُونَ وَيُطْعِمُونَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ يُفْطِرُونَهُ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، ثُمَّ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْهُمُ الْقَضَاءَ قَضَى وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْهُ لَمْ يَقْضِ مِثْلَ الْهَرِمِ، وَوَافَقَ أَبُو حَنِيفَةُ فِي الْفِطْرِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَرَ الْفِدْيَةَ إِلَّا عَلَى الْهَرِمِ لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي بِخِلَافِ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ، وَمَرْجِعُ الِاخْتِلَافِ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ هَلْ هِيَ لِأَجْلِ الْفِطْرِ أَمْ لِأَجْلِ سُقُوطِ الْقَضَاءِ؟ وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُهُمَا إِلَّا أَنَّهَا فِي الْأَوَّلِ أَظْهَرُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ فِعْلُ السَّلَفِ، فَقَدَ كَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ حِينَ هَرِمَ وَبَلَغَ عَشْرًا بَعْدَ
الْمِائَةِ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا خُبْزًا وَلَحْمًا.
وَعَلَى تَفْسِيرِ الطَّاقَةِ بِالْقُدْرَةِ فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ لَهُ أَنْ يُعَوِّضَهُ بِالْإِطْعَامِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْحُكْمُ غَيْرَ مُسْتَمِرٍّ بِالْإِجْمَاعِ قَالُوا فِي حَمْلِ الْآيَةِ عَلَيْهِ: إِنَّهَا حِينَئِذٍ تَضَمَّنَتْ حُكْمًا كَانَ فِيهِ تَوْسِعَةٌ وَرُخْصَةٌ ثُمَّ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى نَسْخِهِ، وَذَكَرَ أَهْلُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ أَنَّ ذَلِكَ فُرِضَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَمَّا شَقَّ عَلَيْهِمُ الصَّوْمُ ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [الْبَقَرَة: ١٨٥] وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ
_________
(١) فِي المطبوعة (مَسَاكِين) بِصِيغَة الْجمع، وَهِي قِرَاءَة المُصَنّف.
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا قَالَ الْفَخْرُ: لَوْ كَانُوا عَالِمِينَ بِتَأْوِيلِهِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْكَلَامِ فَائِدَةٌ إِذِ
الْإِيمَانُ بِمَا ظَهَرَ مَعْنَاهُ أَمْرٌ غَيْرُ غَرِيبٍ وَسَنُجِيبُ عَنْ هَذَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ.
وَذَكَرَ الْفَخر حجَجًا أخر غَيْرَ مُسْتَقِيمَةٍ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ أَهْلَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا يُثْبِتُونَ مُتَشَابِهًا غَيْرَ مَا خَفِيَ الْمُرَادُ مِنْهُ، وَأَنَّ خَفَاءَ الْمُرَادِ مُتَفَاوِتٌ، وَأَنَّ أَهْلَ الْقَوْلِ الثَّانِي يُثْبِتُونَ مُتَشَابِهًا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَهُوَ أَيْضًا مُتَفَاوِتٌ لِأَنَّ مِنْهُ مَا يَقْبَلُ تَأْوِيلَاتٍ قَرِيبَةً، وَهُوَ مِمَّا يَنْبَغِي أَلَّا يُعَدَّ مِنَ الْمُتَشَابِهِ فِي اصْطِلَاحِهِمْ، لَكِنَّ صَنِيعَهُمْ فِي الْإِمْسَاكِ عَنْ تَأْوِيلِ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ سَهْلٍ تَأْوِيلُهَا مِثْلَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: ٤٨] دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ يَسُدُّونَ بَابَ التَّأْوِيلِ فِي الْمُتَشَابِهِ، قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عَطِيَّةَ «إِنَّ تَأْوِيلَ مَا يُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ- عَلَى الِاسْتِيفَاءِ- إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَمَنْ قَالَ، مِنَ الْعُلَمَاءِ الْحُذَّاقِ: بِأَنَّ الرَّاسِخِينَ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ هَذَا النَّوْعَ، وَخَافُوا أَنْ يَظُنَّ أَحَدٌ أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ الرَّاسِخِينَ بِعِلْمِ التَّأْوِيلِ عَلَى الْكَمَالِ».
وَعَلَى الِاخْتِلَافِ فِي مَحْمَلِ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ انْبَنَى اخْتِلَافٌ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ فِي تَأْوِيلِ مَا كَانَ مُتَشَابِهًا: مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَمِنْ صِحَاحِ الْأَخْبَارِ، عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَكَانَ رَأْيُ فَرِيقٍ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ بِهَا، عَلَى إِبْهَامِهَا وَإِجْمَالِهَا، وَتَفْوِيضَ الْعِلْمِ بِكُنْهِ الْمُرَادِ مِنْهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ سَلَفِ عُلَمَائِنَا، قَبْلَ ظُهُورِ شُكُوكِ الْمُلْحِدِينَ أَوِ الْمُتَعَلِّمِينَ، وَذَلِكَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَبَعْضِ عَصْرِ تَابِعِيهِمْ، وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِطَرِيقَةِ السَّلَفِ، وَيَقُولُونَ: طَرِيقَةُ السَّلَفِ أَسْلَمُ، أَيْ أَشَدُّ سَلَامَةً لَهُمْ مِنْ أَنْ يَتَأَوَّلُوا تَأْوِيلَاتٍ لَا يُدْرَى مَدَى مَا تُفْضِي إِلَيْهِ مِنْ أُمُورٍ لَا تَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَتَّسِقُ مَعَ مَا شَرَعَهُ لِلنَّاسِ مِنَ الشَّرَائِعِ، مَعَ مَا رَأَوْا مِنِ اقْتِنَاعِ أَهْلِ عَصْرِهِمْ بِطَرِيقَتِهِمْ، وَانْصِرَافِهِمْ عَنِ التَّعَمُّقِ فِي طَلَبِ التَّأْوِيلِ.
وَكَانَ رَأْيُ جُمْهُورِ مَنْ جَاءَ بَعْدَ عَصْرِ السَّلَفِ تَأْوِيلَهَا بِمَعَانٍ مِنْ طَرَائِقِ اسْتِعْمَالِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْبَلِيغِ مِنْ مَجَازٍ، وَاسْتِعَارَةٍ، وَتَمْثِيلٍ، مَعَ وُجُودِ الدَّاعِي إِلَى التَّأْوِيلِ، وَهُوَ تَعَطُّشُ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ اعْتَادُوا التَّفَكُّرَ وَالنَّظَرَ وَفَهْمَ الْجَمْعِ بَيْنَ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَيُعَبَّرُ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ بِطَرِيقَةِ الْخَلَفِ، وَيَقُولُونَ: طَريقَة الْخلف أَعم، أَيْ أَنْسَبُ بِقَوَاعِدِ
الْأَجْسَامِ وَجَرَيَانِ الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ، وَنَبَضَاتِ الْقَلْبِ، وَلَا هِيَ حَيَاةُ الْأَرْوَاحِ الثَّابِتَةُ لِأَرْوَاحِ جَمِيعِ النَّاسِ، وَكَذَلِكَ الرِّزْقُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُلَائِمًا لِحَيَاةِ الْأَرْوَاحِ وَهُوَ رِزْقُ النَّعِيمِ فِي الْجَنَّةِ. فَإِنْ عَلَّقْنَا عِنْدَ رَبِّهِمْ بِقَوْلِهِ:
أَحْياءٌ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، وَإِنْ عَلَّقْنَاهُ بِقَوْلِهِ: يُرْزَقُونَ فَكَذَلِكَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ لَمَّا كَانَ الرِّزْقُ النَّاشِئُ عَنْهَا كَائِنًا عِنْدَ اللَّهِ، كَانَتْ حَيَاةً غَيْرَ مَادِّيَّةٍ وَلَا دُنْيَوِيَّةٍ، وَحِينَئِذٍ فَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِلِاهْتِمَامِ بِكَيْنُونَةِ هَذَا الرِّزْقِ. وَقَوْلُهُ: فَرِحِينَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يُرْزَقُونَ.
وَالِاسْتِبْشَارُ: حُصُولُ الْبِشَارَةِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ كَمَا هما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَغْنَى اللَّهُ [التغابن: ٦] وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُمْ بَيْنَ الْمَسَرَّةِ بِأَنْفُسِهِمْ وَالْمَسَرَّةِ بِمَنْ بَقِيَ مِنْ إِخْوَانِهِمْ، لِأَنَّ فِي بَقَائِهِمْ نِكَايَةً لِأَعْدَائِهِمْ، وَهُمْ مَعَ حُصُولِ فَضْلِ الشَّهَادَةِ لَهُمْ عَلَى أَيْدِي الْأَعْدَاءِ يَتَمَنَّوْنَ هَلَاكَ أَعْدَائِهِمْ، لِأَنَّ فِي هَلَاكِهِمْ تَحْقِيقَ أُمْنِيَّةٍ أُخْرَى لَهُمْ وَهِيَ أُمْنِيَّةُ نَصْرِ الدِّينِ.
فَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ رُفَقَاؤُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُجَاهِدُونَ مَعَهُمْ، وَمَعْنَى لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ لَمْ يُسْتَشْهَدُوا فَيَصِيرُوا إِلَى الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ.
ومِنْ خَلْفِهِمْ تَمْثِيلٌ بِمَعْنَى مِنْ بَعْدِهِمْ، وَالتَّقْدِيرُ: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَصِيرُوا إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ مِنْ رِفَاقِهِمْ بِأَمْنِهِمْ وَانْتِفَاءِ مَا يُحْزِنُهُمْ. وَقَوْلُهُ: أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، وَ (لَا) عَامِلَةٌ عَمَلَ لَيْسَ وَمُفِيدَةٌ مَعْنَاهَا، وَلَمْ يُبْنَ اسْمُ (لَا) عَلَى الْفَتْحِ هُنَا لِظُهُورِ أَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ الْجِنْسِ وَلَا احْتِمَالَ لِنَفْيِ الْوَحْدَةِ فَلَا حَاجَةَ لِبِنَاءِ النَّكِرَةِ عَلَى الْفَتْحِ، وَهُوَ كَقَوْلِ إِحْدَى نِسَاءِ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: «زَوجي كليل نهامة، لَا حَرٌّ وَلَا قُرٌّ وَلَا مَخَافَةٌ وَلَا سَآمَهْ» بِرَفْعِ الْأَسْمَاءِ النَّكِرَاتِ الثَّلَاثَةِ.
وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَرْوَاحَ هَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءِ مُنِحَتِ الْكَشْفَ عَلَى مَا يَسُرُّهَا مِنْ أَحْوَالِ الَّذِينَ يَهُمُّهُمْ شَأْنُهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَأَنَّ هَذَا الْكَشْفَ ثَابِتٌ لِجَمِيعِ الشُّهَدَاءِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَدْ يَكُونُ خاصّا الْأَحْوَال السَّارَّةِ لِأَنَّهَا لَذَّةٌ لَهَا. وَقَدْ يَكُونُ عَامًّا لِجَمِيعِ الْأَحْوَالِ لِأَنَّ لَذَّةَ الْأَرْوَاحِ تَحْصُلُ بِالْمَعْرِفَةِ، عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ الرَّازِيَّ حَصَرَ اللَّذَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ فِي الْمَعَارِفِ. وَهِيَ لَذَّةُ الْحُكَمَاءِ بِمَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، وَلَوْ كَانَتْ سَيِّئَةً.
وَفِي الْآيَةِ بِشَارَةٌ لِأَصْحَابِ أُحُدٍ بِأَنَّهُمْ لَا تَلْحَقُهُمْ نَكْبَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
كَلَامٌ مِثْلُ هَذَا، ثُمَّ أَنْ يُطَالَ وَتَتَنَاقَلَهُ النَّاسُ وَتَمُرَّ عَلَيْهِ الْقُرُونُ، فِي حِينِ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي هِيَ وَعِيدٌ لِقَاتِلِ النَّفْسِ وَبَيْنَ آيَاتِ قَبُولِ التَّوْبَةِ. وَذَهَبَ فَرِيقٌ إِلَى الْجَوَابِ بِأَنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةِ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاء: ٤٨]، بِنَاءً عَلَى أنّ عُمُوم لِمَنْ يَشاءُ نَسَخَ خُصُوصَ الْقَتْلِ.
وَذَهَبَ فَرِيقٌ إِلَى الْجَوَابِ بِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مِقْيَسِ بْنِ صُبَابَةَ، وَهُوَ كَافِرٌ- فَالْخُلُودُ لِأَجْلِ الْكُفْرِ، وَهُوَ جَوَابٌ مَبْنِيٌّ عَلَى غَلَطٍ لِأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ عَامٌّ إِذْ هُوَ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ «مَنْ» شَرْطِيَّةٌ وَهِيَ مِنْ صِيغَ الْعُمُومِ فَلَا تُحْمَلُ عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ إِلَّا عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ سَبَبَ الْعَامِّ يُخَصِّصُهُ بِسَبَبِهِ لَا غَيْرُ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ. وَهَذِه كلّها ملاجىء لَا حَاجَةَ إِلَيْهَا، لِأَنَّ آيَاتِ التَّوْبَةِ نَاهِضَةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا مُتَظَاهِرَةٌ ظَوَاهِرُهَا، حَتَّى بَلَغَتْ حَدَّ النَّصِّ الْمَقْطُوعِ بِهِ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا آيَاتُ وَعِيدِ الذُّنُوبِ كُلِّهَا حَتَّى الْكُفْرِ. عَلَى أَنَّ تَأْكِيدَ الْوَعِيدِ فِي الْآيَةِ إِنَّمَا يَرْفَعُ احْتِمَالَ الْمَجَازِ فِي كَوْنِهِ وَعِيدًا لَا فِي تَعْيِينِ الْمُتَوَعَّدِ بِهِ وَهُوَ الْخُلُودُ. إِذِ الْمُؤَكِّدَاتُ هُنَا مُخْتَلِفَةُ الْمَعَانِي فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُعْتَبَرَ أَحَدُهَا مُؤَكِّدًا لِمَدْلُولِ الْآخَرِ بَلْ إِنَّمَا أَكَّدَتِ الْغَرَضَ. وَهُوَ الْوَعِيدُ، لَا أَنْوَاعُهُ. وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الْقَاطِعُ لَهَاتِهِ الْحَيْرَةِ. وَهُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ اللَّجَأُ إِلَيْهِ، والتعويل عَلَيْهِ.
[٩٤]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٩٤]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ خُوطِبَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، اسْتِقْصَاءً لِلتَّحْذِيرِ مِنْ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ بِذِكْرِ أَحْوَالٍ قَدْ يُتَسَاهَلُ فِيهَا وَتَعْرِضُ فِيهَا شُبَهٌ. وَالْمُنَاسَبَةُ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ فَلَحِقَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا غُنَيْمَتَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَلَ دِيَتَهُ إِلَى أَهْلِهِ وَرَدَّ غُنَيْمَتَهُ
وَإِنَّمَا خَاطَبُوا مُوسَى عَقِبَ مَوْعِظَةِ الرَّجُلَيْنِ لَهُمْ، رُجُوعًا إِلَى إِبَايَتِهِمُ الْأُولَى الَّتِي شَافَهُوا بِهَا مُوسَى إِذْ قَالُوا: إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ، أَوْ لِقِلَّةِ اكْتِرَاثِهِمْ بِكَلَامِ الرَّجُلَيْنِ وَأَكَّدُوا الِامْتِنَاعَ الثَّانِيَ مِنَ الدُّخُولِ بَعْدَ الْمُحَاوَرَةِ أَشَدَّ تَوْكِيدٍ دَلَّ عَلَى شِدَّتِهِ فِي العربيّة بِثَلَاث مؤكدات: (إنّ)، و (لن)، وَكَلِمَةُ (أَبَدًا).
وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنْ كَانَ خِطَابًا لِمُوسَى أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ مُعْجِزَةً كَمَا تَعَوَّدُوا مِنَ النَّصْرِ فَطَلَبُوا أَنْ يُهْلِكَ اللَّهُ الْجَبَّارِينَ بِدَعْوَةِ مُوسَى. وَقِيلَ: أَرَادُوا بِهَذَا الْكَلَامِ الِاسْتِخْفَافَ بِمُوسَى، وَهَذَا بِعِيدٌ، لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَشُكُّونَ فِي رِسَالَتِهِ، وَلَوْ أَرَادُوا الِاسْتِخْفَافَ لَكَفَرُوا وَلَيْسَ فِي كَلَامِ مُوسَى الْوَاقِعِ جَوَابًا عَنْ مَقَالَتِهِمْ هَذِهِ إِلَّا وَصْفُهُمْ بِالْفَاسِقِينَ. وَالْفِسْقُ يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ الْكَبِيرَةِ، فَإِنَّ عِصْيَانَ أَمْرِ اللَّهِ فِي الْجِهَادِ كَبِيرَةٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَتَى الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ النَّبِيءَ وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ» فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ الْحَدِيثَ.
فَلَا تَظُنَّنَّ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَانَتْ مَقْرُوءَةً بَيْنَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، لِأَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ الْمِقْدَادُ بِخَبَرٍ كَانُوا يَسْمَعُونَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُحَدِّثُهُمْ بِهِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِذَلِكَ اللَّفْظِ.
«قَالَ» أَيْ مُوسَى، مُنَاجِيًا رَبَّهُ أَوْ بِمَسْمَعٍ مِنْهُمْ لِيُوقِفَهُمْ عَلَى عَدَمِ امْتِثَالِهِمْ أَمْرَ رَبِّهِمْ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَا أَقْدِرُ إِلَّا عَلَى نَفْسِي وَأَخِي، وَإِنَّمَا لَمْ يعدّ الرجلَيْن الَّذين قَالَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ، لِأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَسْتَهْوِيَهُمَا قَوْمُهُمَا. وَالَّذِي فِي كُتُبِ الْيَهُودِ أَنَّ هَارُونَ كَانَ قَدْ تُوَفِّيَ قَبْلَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِأَخِيهِ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ لِأَنَّهُ كَانَ
انْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِثْبَاتِ مَا يَلِيقُ بِاللَّهِ مِنَ الصِّفَاتِ، إِلَى إِثْبَاتِ صِدْقِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى جَعْلِ اللَّهِ حَكَمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُكَذِّبِيهِ، فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابتدائي، ومناسبة
الِانْتِقَال ظَاهِرَةٌ.
رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» عَنِ الْكَلْبِيِّ: أَنَّ رُؤَسَاءَ مَكَّةَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ مَا نَرَى أَحَدًا مُصَدِّقَكَ بِمَا تَقُولُ، وَقَدْ سَأَلْنَا عَنْكَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فَزَعَمُوا أَنْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ ذِكْرُكَ وَلَا صِفَتُكَ فَأَرِنَا مَنْ يَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَقَدِ ابْتُدِئَتِ الْمُحَاوَرَةُ بِأُسْلُوبِ إِلْقَاءِ اسْتِفْهَامٍ مُسْتَعْمَلٍ فِي التَّقْرِيرِ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنْتُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْعَام: ١٢] وَمِثْلُ هَذَا الْأُسْلُوبِ لِإِعْدَادِ السَّامِعِينَ لِتَلَقِّي مَا يَرِدُ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ.
وَ (أَيُّ) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ يُطْلَبُ بِهِ بَيَانُ أَحَدِ الْمُشْتَرَكَاتِ فِيمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ هُنَا هُوَ شَيْءٍ الْمُفَسَّرُ بِأَنَّهُ مِنْ نَوْعِ الشَّهَادَةِ.
وشَيْءٍ اسْمٌ عَامٌّ مِنَ الْأَجْنَاسِ الْعَالِيَةِ ذَاتِ الْعُمُومِ الْكَثِيرِ، قِيلَ: هُوَ الْمَوْجُودُ، وَقِيلَ: هُوَ مَا يُعْلَمُ وَيَصِحُّ وُجُودُهُ. وَالْأَظْهَرُ فِي تَعْرِيفِهِ أَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي يُعْلَمُ. وَيَجْرِي عَلَيْهِ الْإِخْبَارُ سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا أَوْ صِفَةَ مَوْجُودٍ أَوْ مَعْنًى يُتَعَقَّلُ وَيُتَحَاوَرَ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: ٢، ٣].
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَوَاقِعِ حُسْنِ اسْتِعْمَالِ كَلِمَةِ (شَيْءٍ) وَمَوَاقِعِ ضَعْفِهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٥٥].
وأَكْبَرُ هُنَا بِمَعْنَى أَقْوَى وَأَعْدَلُ فِي جِنْسِ الشَّهَادَاتِ، وَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ مَا مَدْلُولُهُ عِظَمُ الذَّاتِ عَلَى عِظَمِ الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَة: ٧٢] وَقَوْلِهِ:
قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٧].
وَقُوَّةُ الشَّهَادَةِ بِقُوَّةِ اطْمِئْنَانِ النَّفْسِ إِلَيْهَا وَتَصْدِيقِ مَضْمُونِهَا.
وَقَوْلُهُ: شَهادَةً تَمْيِيزٌ لِنِسْبَةِ الْأَكْبَرِيَّةِ إِلَى الشَّيْء فَصَارَ مَا صدق الشَّيْءِ بِهَذَا التَّمْيِيزِ هُوَ الشَّهَادَةُ. فَالْمَعْنَى: أَيَّةُ شَهَادَةٍ هِيَ أَصْدَقُ الشَّهَادَاتِ، فَالْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ بِ أَيُّ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الشَّهَادَاتِ يُطْلَبُ عِلْمُ أَنَّهُ أَصْدَقُ أَفْرَادِ جِنْسِهِ.
هَذَا الِاحْتِرَاسِ مِنَ الِامْتِنَانِ، فَتَوَلَّى اللَّهُ خِطَابَ النَّاسِ فِيهِ بِطَرِيقِ التَّكَلُّمِ مُبَاشرَة زِيَادَة فِي المنّة، وَتَصْدِيقًا لِلْمُبَلِّغِ، فَالْوِصَايَةُ بِإِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ رَاجِعَةٌ إِلَى حِفْظِ مَال المُشْتَرِي فِي مَظِنَّةِ الْإِضَاعَةِ، لِأَنَّ حَالَةَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ حَالَةُ غَفلَة المُشْتَرِي، إِذِ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمِكْيَالُ أَوِ الْمِيزَانُ، وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لِرَغْبَتِهِ فِي تَحْصِيلِ الْمَكِيلِ أَوِ الْمَوْزُونِ قد يتحمّل التّطفيف، فَأُوصِيَ الْبَائِعُ بِإِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ. وَهَذَا الْأَمْرُ يَدُلُّ بِفَحْوَى الْخِطَابِ عَلَى وُجُوبِ حِفْظِ الْمَالِ فِيمَا هُوَ أشدّ من التّطفيف، فإنّ التّطفيف إِنْ هُوَ إِلَّا مُخَالَسَةُ قَدْرٍ يَسِيرٍ مِنَ الْمَبِيعِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَظْهَرُ حِينَ التَّقْدِيرِ فَأَكْلُ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْمَالِ أَوْلَى بِالْحِفْظِ، وَتَجَنُّبِ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
تَذْيِيلًا لِلْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا، تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا دَعَوْا إِلَيْهِ هُوَ فِي طَاقَتِهِمْ وَمُكْنَتِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨٦].
وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى.
هَذَا جَامِعٌ كُلَّ الْمُعَامَلَاتِ بَيْنَ النَّاسِ بِوَاسِطَةِ الْكَلَامِ وَهِيَ الشَّهَادَةُ، وَالْقَضَاءُ، وَالتَّعْدِيلُ، وَالتَّجْرِيحُ، وَالْمُشَاوَرَةُ، وَالصُّلْحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْأَخْبَارُ الْمُخْبِرَةُ عَنْ صِفَاتِ الْأَشْيَاءِ فِي الْمُعَامَلَاتِ: مِنْ صِفَاتِ الْمَبِيعَاتِ، وَالْمُؤَاجَرَاتِ، وَالْعُيُوبِ وَفِي الْوُعُودِ، وَالْوَصَايَا، وَالْأَيْمَانِ وَكَذَلِكَ الْمَدَائِحُ وَالشَّتَائِمُ كَالْقَذْفِ، فَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِيمَا يَصْدُرُ عَنِ الْقَوْلِ.
وَالْعَدْلُ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْقَوْلِ شَيْءٌ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْحُقُوقِ:
مِنَ السَّمَاوَاتِ وَمَا فِيهِنَّ، مِنْ ذَلِكَ
حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أنّ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ»
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ: «فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحِمَانِ وَمِنْهُ تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ»
وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْعَرْشَ هُوَ الْكُرْسِيُّ وَأَنَّهُ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كَمَا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٥].
وَقَدْ دَلَّتْ (ثُمَّ) فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ أَيْ وَأَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ اسْتِوَاءُهُ عَلَى الْعَرْشِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَمْ يُحْدِثْ تَغْيِيرًا فِي تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ بِزِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، وَلِذَلِكَ ذُكِرَ الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ عَقِبَ ذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلَعَلَّ الْمَقْصِدَ مِنْ ذَلِكَ إِبْطَالُ مَا يَقُولُهُ الْيَهُودُ: إِنَّ اللَّهَ اسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ فَهُوَ كَالْمَقْصِدِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ [ق: ٣٨].
وَجُمْلَةُ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، ذُكِرَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ عُمُومِ تَدْبِيرِهِ تَعَالَى وَتَصَرُّفِهِ الْمُضَمَّنِ فِي الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الِاسْتِوَاءِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بِهِ فِي صُورَةِ الْحَالِ لَا فِي صُورَةِ الْخَبَرِ، كَمَا ذُكِرَ بِوَجْهِ الْعُمُومِ فِي آيَةِ سُورَةِ يُونُسَ [٣] وَسُورَةِ الرَّعْدِ [٢] بِقَوْلِهِ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ وَخَصَّ هَذَا التَّصَرُّفَ بِالذِّكْرِ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ عَظِيمِ الْمَقْدِرَةِ، وَمَا فِيهِ مِنْ عِبْرَةِ التَّغَيُّرِ وَدَلِيلِ الْحُدُوثِ، وَلِكَوْنِهِ مُتَكَرِّرًا حُدُوثُهُ فِي مُشَاهَدَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ. وَالْإِغْشَاءُ وَالتَّغْشِيَةُ: جَعْلُ الشَّيْءِ غَاشِيًا، وَالْغَشْيُ وَالْغَشَيَانُ حَقِيقَتُهُ التَّغْطِيَةُ وَالْغَمُّ.
فَمَعْنَى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ أَحَدَهُمَا غَاشِيًا الْآخَرَ.
الْعَرَبِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ السُّورَةِ ابْتِدَاءً وَنِهَايَةً، فَكَانَ هَذَا الِانْتِقَالُ بِمَنْزِلَةِ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ.
جَاءَ هَذَا الِانْتِقَالُ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي وَصِيَّةِ مُوسَى، وَهُوَ مِيثَاقُ الْكِتَابِ، وَفِي يَوْمِ رَفْعِ الطُّورِ. وَهُوَ عَهْدٌ حَصَلَ بِالْخِطَابِ التَّكْوِينِيِّ أَيْ بِجَعْلِ مَعْنَاهُ فِي جِبِلَّةِ كُلِّ نَسَمَةٍ وَفِطْرَتِهَا، فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ السَّابِقَةِ عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ. وَالْمَقْصُود بِهِ ابتداؤهم الْمُشْرِكُونَ.
وَتَبَدُّلُ أُسْلُوبِ الْقِصَّةِ وَاضِحٌ إِذِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ عَلَى خِطَابٍ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَإِذْ صُرِّحَ فِيهَا بِمُعَادِ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ مِنْ بَنِي آدَمَ فَعُمُومُ الْمَوْعِظَةِ تَابِعٌ لِعُمُومِ الْعِظَةِ. فَهَذَا ابْتِدَاءٌ لِتَقْرِيعِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْإِشْرَاكِ، وَمَا ذُكِرَ بَعْدَهُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ مُنَاسِبٌ لِأَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ.
وإِذْ اسْمٌ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي، وَهُوَ هُنَا مُجَرَّدٌ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ، فَهُوَ مَفْعُولٌ بِهِ لِفِعْلِ «اذْكُرْ»
مَحْذُوفٍ.
وَفِعْلُ أَخَذَ يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَهُوَ مُعَدًّى إِلَى ذُرِّيَّاتِهِمْ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَخَذَ رَبُّكَ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الذُّرِّيَّةِ. مِنْ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ بَنِي آدَمَ، فَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ بَنِي آدَمَ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمَرْبُوبِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَنِي آدَمَ وَقَوْلِهِ: مِنْ ظُهُورِهِمْ ابْتِدَائِيَّةٌ فِيهِمَا.
وَالذُّرِّيَّاتُ جَمْعُ ذُرِّيَّةٍ، وَالذُّرِّيَّةُ اسْمُ جَمْعٍ لِمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَجَمْعُهُ هُنَا لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ.
وَأَخْذُ الْعَهْدِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ الْمُخْرَجِينَ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ يَقْتَضِي أَخذ الْعَهْد عى الذُّرِّيَّةِ الَّذِينَ فِي ظَهْرِ آدَمَ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى، وَإِلَّا لَكَانَ أَبْنَاءُ آدَمَ الْأَدْنَوْنَ لَيْسُوا مَأْخُوذًا عَلَيْهِمُ الْعَهْدُ مَعَ أَنَّهُمْ أَوْلَى بِأَخْذِ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ فِي ظَهْرِ آدَمَ.
وَمِمَّا يُثْبِتُ هَذِهِ الدَّلَالَةَ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ رُوِيَتْ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَن جَمْعٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْقُوَّةِ غَيْرُ خَالٍ وَاحِدٌ مِنْهَا عَنْ مُتَكَلَّمٍ، غَيْرَ أَنَّ كَثْرَتَهَا يُؤَيِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَأَوْضَحُهَا مَا
رَوَى مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» فِي تَرْجَمَةِ
لَا جَرَمَ أَنَّ الَّذِينَ يَسْتَبِيحُونَهُ دَلُّوا عَلَى فَسَادِ عُقُولِهِمْ فَكَانُوا أَهْلًا لِرَدْعِهِمْ عَنْ بَاطِلِهِمْ عَلَى أَنَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ شَامِلٌ لِكُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ الضَّرُورِيَّاتِ كَحِفْظِ النَّفْسِ وَالنَّسَبِ وَالْمَالِ وَالْعِرْضِ وَالْمُشْرِكُونَ لَا يُحَرِّمُونَ ذَلِك.
وَالْمرَاد (بِرَسُولِهِ) مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ مُتَعَارَفُ الْقُرْآنِ وَلَوْ أُرِيدَ غَيْرُهُ مِنَ الرُّسُلِ لَقَالَ وَرُسُلُهُ لِأَنَّ اللَّهَ مَا حَرَّمَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ إِلَّا مَا هُوَ حَقِيقٌ بِالتَّحْرِيمِ.
وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ تَهْيِئَةً لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنْ يَغْزُوا الرُّومَ وَالْفُرْسَ وَمَا بَقِيَ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ الَّذِينَ يَسْتَظِلُّونَ بِنَصْرِ إِحْدَى هَاتَيْنِ الْأُمَّتَيْنِ الَّذِينَ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُمْ مِثْلِ قُضَاعَةَ وَتَغْلِبَ بِتُخُومِ الشَّامِ حَتَّى يُؤْمِنُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ.
وحَتَّى غَايَةٌ لِلْقِتَالِ، أَيْ يَسْتَمِرُّ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُمْ إِلَى أَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ.
وَضَمِيرُ يُعْطُوا عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ.
وَالْجِزْيَةَ اسْمٌ لِمَالٍ يُعْطِيهِ رِجَالُ قَوْمٍ جَزَاءً عَلَى الْإِبْقَاءِ بِالْحَيَاةِ أَوْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْأَرْضِ، بُنِيَتْ عَلَى وَزْنِ اسْمِ الْهَيْئَةِ، وَلَا مُنَاسَبَةَ فِي اعْتِبَارِ الْهَيْئَةِ هُنَا، فَلِذَلِكَ كَانَ الظَّاهِرُ. هَذَا الِاسْمِ أَنَّهُ مُعَرَّبٌ عَنْ كَلِمَةِ (كِزْيَتْ) بِالْفَارِسِيَّةِ بِمَعْنَى الْخَرَاجِ نَقَلَهُ الْمُفَسِّرُونَ عَنِ الْخُوَارَزْمِيِّ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهَا الرَّاغِبُ فِي «مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ». وَلَمْ يَذْكُرُوهَا فِي «مُعَرَّبِ الْقُرْآنِ» لِوُقُوعِ التَّرَدُّدِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا مَادَّةَ الِاشْتِقَاقِ الْعَرَبِيِّ صَالِحَةً فِيهَا وَلَا شَكَّ أَنَّهَا كَانَتْ مَعْرُوفَةَ الْمَعْنَى لِلَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بَيْنَهُمْ وَلِذَلِكَ عُرِّفَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَوْلُهُ: عَنْ يَدٍ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى يُعْطُوا لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْإِعْطَاءِ وعَنْ فِيهِ لِلْمُجَاوَزَةِ. أَيْ يَدْفَعُوهَا بِأَيْدِيهِمْ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِرْسَالُهَا وَلَا الْحَوَالَةُ فِيهَا، وَمَحَلُّ الْمَجْرُورِ الْحَالُ مِنَ الْجِزْيَةِ. وَالْمُرَادُ يَدُ الْمُعْطِي أَيْ يُعْطُوهَا غَيْرَ مُمْتَنِعِينَ وَلَا مُنَازِعِينَ فِي إِعْطَائِهَا وَهَذَا كَقَوْلِ الْعَرَبِ «أَعْطَى بِيَدِهِ» إِذَا انْقَادَ.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ صاغِرُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يُعْطُوا.
وَالظَّنُّ كَثُرَ إِطْلَاقُهُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْعِلْمِ الْمُخْطِئِ أَوِ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ وَالتَّخَيُّلَاتِ الْبَاطِلَةِ،
قَالَ النَّبِيءُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ»
. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الظَّنِّ الْحُصَيْبِيِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً [النُّور: ١٢] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: ١٢]. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ عِنْدَ عُلَمَاءِ أُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ. وَهُوَ الْعِلْمُ الْمُسْتَنِدُ إِلَى دَلِيل رَاجع مَعَ احْتِمَالِ الْخَطَأِ احْتِمَالًا ضَعِيفًا. وَهَذَا الظَّنُّ هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ.
فَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْمُتَعَارِضَاتِ إِعْمَالُ كُلٍّ فِي مَوْرِدِهِ اللَّائِقِ بِهِ بِحَسَبِ مَقَامَاتِ الْكَلَامِ وَسِيَاقِهِ، فَمَحْمَلُ قَوْلِهِ هُنَا: إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أَنَّ الْعِلْمَ الْمَشُوبَ بِشَكٍّ لَا يُغْنِي شَيْئًا فِي إِثْبَاتِ الْحَقِّ الْمَطْلُوبِ وَذَلِكَ مَا يُطْلَبُ فِيهِ الْجَزْمُ وَالْيَقِينُ مِنَ الْعُلُومِ الْحَاصِلَةِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّ الْجَزْمَ فِيهَا مُمْكِنٌ لِمَنْ أَعْمَلَ رَأْيَهُ إِعْمَالًا صَائِبًا إِذِ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ يَحْصُلُ مِنْهَا الْيَقِينُ، فَأَمَّا مَا طَرِيقُ تَحْصِيلِهِ الْأَدِلَّةُ الظَّاهِرَةُ الَّتِي لَا يَتَأَتَّى الْيَقِينُ بِهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَذَلِكَ يُكْتَفَى فِيهِ بِالظَّنِّ الرَّاجِحِ بَعْدَ إِعْمَالِ النَّظَرِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالِاجْتِهَادِ.
وظَنًّا مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِهِ لِ يَتَّبِعُ. وَلَمَّا كَانَ الظَّنُّ يَقْتَضِي مَظْنُونًا كَانَ اتِّبَاعُ الظَّنِّ اتِّبَاعًا لِلْمَظْنُونِ أَيْ يَتَّبِعُونَ شَيْئًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ إِلَّا الظَّنُّ، أَيِ الِاعْتِقَادُ الْبَاطِلُ.
وَتَنْكِيرُ ظَنًّا لِلتَّحْقِيرِ، أَيْ ظَنًّا وَاهِيًا. وَدَلَّتْ صِيغَةُ الْقَصْرِ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا فِي عَقَائِدِهِمُ الْمُنَافِيَةِ لِلتَّوْحِيدِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ رَدًّا عَلَى اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً تَعْلِيلٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقَصْرُ مِنْ كَوْنِهِمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ فَكَيْفَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ.
وَالْحَقُّ: هُوَ الثَّابِتُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهَا الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ مِثْلُ وُجُودِهِ وَحَيَاتِهِ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهَا فِعْلُ اللَّهِ مِثْلُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ.
وشَيْئاً مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُؤَكِّدٌ لِعَامِلِهِ، أَيْ لَا يُغْنِي شَيْئًا مِنَ الْإِغْنَاءِ.
ومِنَ لِلْبَدَلِيَّةِ، أَيْ عِوَضًا عَنِ الْحَقِّ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ اسْتِئْنَافٌ للتهديد بالوعيد.
أَحَدُهُمَا أَنْ يُرَادَ: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ فِي أَوَّلِ أَزْمِنَةِ الْقِيَامَةِ، وَهِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا عُصَاةُ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ التَّائِبِينَ فِي الْعَذَابِ إِلَى أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِفَضْلِهِ بِدُونِ شَفَاعَةٍ، أَوْ بِشَفَاعَةٍ كَمَا
فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: «يَدْخُلُ نَاسٌ جَهَنَّمَ حَتَّى إِذَا صَارُوا كَالْحُمَمَةِ أُخْرِجُوا وَأُدْخِلُوا الْجَنَّةَ فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ الْجُهَنَّمِيُّونَ»
. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقْصَدَ مِنْهُ التَّحْذِيرُ مِنْ تَوَهُّمُ اسْتِحْقَاقِ أَحَدٍ ذَلِكَ النَّعِيمَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ بَلْ هُوَ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ.
وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُعَلَّقِ عَلَى الْمَشِيئَةِ وُقُوعُ الْمَشِيئَةِ بَلْ إِنَّمَا يَقْتَضِي أَنَّهَا لَوْ تَعَلَّقَتِ الْمَشِيئَةُ لَوَقَعَ الْمُسْتَثْنَى، وَقَدْ دَلَّتِ الْوُعُودُ الْإِلَهِيَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَشَاءُ إِخْرَاجَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْهَا. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُمْ إِذَا أُدْخِلُوا الْجَنَّةَ كَانُوا خَالِدِينَ فِيهَا فَلَا يَنْقَطِعُ عَنْهُمْ نَعِيمُهَا.
وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ.
وَالْمَجْذُوذُ: الْمَقْطُوعُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سُعِدُوا- بِفَتْحِ السِّينِ-، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ- بِضَمِّ السِّينِ- عَلَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ لِلنَّائِبِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ فِعْلِهِ قَاصِرًا لَا مَفْعُولَ لَهُ لَكِنَّهُ عَلَى مُعَامَلَةِ الْقَاصِرِ مُعَامَلَةَ الْمُتَعَدِّي فِي مَعْنَى فُعِلَ بِهِ مَا صَيَّرَهُ صَاحِبَ ذَلِكَ الْفِعْلِ، كَقَوْلِهِمْ: جُنَّ فُلَانٌ، إِذَا فُعِلَ بِهِ مَا صَارَ بِهِ ذَا جُنُونٍ فَ سُعِدُوا بِمَعْنَى أُسْعِدُوا.
وَقِيلَ: سَعِدَ مُتَعَدٍّ فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ وَتَمِيمٍ، يَقُولُونَ: سَعِدَهُ اللَّهُ بِمَعْنَى أَسْعَدَهُ. وَخَرَجَ أَيْضًا عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ أُسْعِدُوا، فَحُذِفَ هَمْزُ الزِّيَادَةِ كَمَا قَالُوا مَجْنُوبٌ (بِمُوَحَّدَةٍ فِي آخِرِهِ)، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: رجل مَسْعُود.
أَحَدًا مَغْضُوبًا عَلَيْهِ مَضْرُوبًا عَلَيْهِ الْمَذَلَّةُ لِانْغِمَاسِهِ فِي الْمَعَاصِي إِذَا بِكَ تَرَاهُ قَدْ أَقْلَعَ وَتَابَ فَأَعَزَّهُ اللَّهُ وَنَصَرَهُ.
وَمِنْ آثَارِ ذَلِكَ أَيْضًا تَقْلِيبُ الْقُلُوبِ بِأَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ الْبَغْضَاءَ مَحَبَّةً، كَمَا قَالَتْ هِنْدُ بنت عتبَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَتْ: «مَا كَانَ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يُذِلِّوُا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ وَالْيَوْمَ أَصْبَحْتُ وَمَا أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يُعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ».
وَقَدْ مَحَا اللَّهُ وَعِيدَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَرَفَعَ عَنْهُمُ السَّيْفَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوا مُسْلِمِينَ، وَلَوْ شَاءَ لَأَمَرَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْتِئْصَالِهِمْ حِينَ دُخُولِهِ مَكَّةَ فَاتِحًا.
وَبِهَذَا يَتَحَصَّلُ أَنَّ لَفْظَ مَا يَشاءُ عَامٌّ يَشْمَلُ كُلَّ مَا يَشَاؤُهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَكِنَّهُ مُجْمَلٌ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ بِالْمَحْوِ وَالْإِثْبَاتِ، وَذَلِكَ لَا تَصِلُ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ إِلَى بَيَانِهِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي الْأَخْبَارِ الْمَأْثُورَةِ مَا يُبَيِّنُهُ إِلَّا الْقَلِيلُ عَلَى تَفَاوُتٍ فِي صِحَّةِ أَسَانِيدِهِ. وَمِنَ الصَّحِيحِ فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا. وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا»
. وَالَّذِي يَلُوحُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ مَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَا يَقْبَلُ مَحْوًا، فَهُوَ ثَابِتٌ وَهُوَ قَسِيمٌ لِمَا يَشَاءُ اللَّهُ مَحْوَهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ هُوَ عَيْنُ مَا يَشَاءُ اللَّهُ مَحْوَهُ أَوْ إِثْبَاتَهُ سَوَاءً كَانَ تَعْيِينًا بِالْأَشْخَاصِ أَوْ بِالذَّوَاتِ أَوْ بِالْأَنْوَاعِ وَسَوَاءً كَانَتِ الْأَنْوَاعُ مِنَ الذَّوَاتِ أَوْ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَأَنَّ جُمْلَةَ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أَفَادَتْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ.
وَ (مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) مِنْ مَكَانٍ لَا يَتَرَقَّبُونَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ مِنْهُ ضُرٌّ. فَمَعْنَى مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُ يَأْتِيهِمْ بَغْتَةً لَا يَسْتَطِيعُونَ دَفْعَهُ، لِأَنَّهُمْ لِبَأْسِهِمْ وَمَنَعَتِهِمْ لَا يَبْغَتُهُمْ مَا يَحْذَرُونَهُ إِذْ قَدْ أَعَدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ، فَكَانَ الْآتِي مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ عَذَابًا غَيْرَ مَعْهُودٍ. فَوَقَعَ قَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ كِنَايَةً عَنْ عَذَابٍ لَا يُطِيقُونَ دَفْعَهُ بِحَسَبِ اللُّزُومِ الْعُرْفِيِّ، وَإِلَّا فَقَدَ جَاءَ الْعَذَابُ عَادًا مِنْ مَكَانٍ يَشْعُرُونَ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا [سُورَة الْأَحْقَاف: ٢٤]. وَحَلَّ بِقَوْمِ نُوحٍ عَذَابُ الطُّوفَانِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَكَذَلِكَ عَذَابُ الْغَرَقِ لفرعون وَقَومه.
[٤٦، ٤٧]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٤٦ إِلَى ٤٧]
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧)
الْأَخْذُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِهْلَاكِ قَالَ تَعَالَى: فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً [سُورَة الحاقة: ١٠].
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٤].
وَالتَّقَلُّبُ: السَّعْي فِي شؤون الْحَيَاةِ مِنْ مُتَاجَرَةٍ وَمُعَامَلَةٍ وَسَفَرٍ وَمُحَادَثَةٍ وَمُزَاحَمَةٍ.
وَأَصْلُهُ: الْحَرَكَةُ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا، وَالْمَعْنَى: أَنْ يُهْلِكَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ شَاعِرُونَ بِمَجِيءِ الْعَذَابِ.
وَهَذَا قَسِيمُ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ [سُورَة النَّحْل:
٤٥]. وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [سُورَة الْأَعْرَاف: ٩٨].
وَتَفْرِيعُ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ اعْتِرَاضٌ، أَيْ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ أَخْذِهِ إِيَّاهُمْ تَقَلُّبُهُمْ شَيْءٌ إِذْ لَا يُعْجِزُهُ اجْتِمَاعُهُمْ وَتَعَاوُنُهُمْ.
وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، أَيِ الْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي يَأْخُذَهُمْ.
وَأَمَّا التَّفْضِيلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَالْمُرَادُ بِهِ التَّفْضِيلُ الْمُشَاهَدُ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الِامْتِنَانِ. وَذَلِكَ الَّذِي جِمَاعُهُ تَمْكِينُ الْإِنْسَانِ مِنَ التَّسَلُّطِ عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِيَّةِ بِرَأْيِهِ وَحِيلَتِهِ، وَكَفَى بِذَلِكَ تَفْضِيلًا عَلَى الْبَقِيَّةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّفْضِيلِ وَالتَّكْرِيمِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَالتَّكْرِيمُ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى تَكْرِيمِهِ فِي ذَاتِهِ، وَالتَّفْضِيلُ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى تَشْرِيفِهِ فَوْقَ غَيْرِهِ، عَلَى أَنَّهُ فَضَّلَهُ بِالْعَقْلِ الَّذِي بِهِ استصلاح شؤونه وَدَفْعُ الْأَضْرَارِ عَنْهُ وَبِأَنْوَاعِ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ، هَذَا هُوَ التَّفْضِيلُ الْمُرَادُ.
وَأَمَّا نِسْبَةُ التَّفَاضُلِ بَيْنَ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَأَنْوَاعٍ من الموجودات الْخفية عَنَّا كَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنّ فَلَيْسَتْ بمقصودة هُنَا وَإِنَّمَا تُعْرَفُ بِأَدِلَّةٍ تَوْقِيفِيَّةٍ مِنْ قِبَلِ الشَّرِيعَةِ. فَلَا تُفْرَضُ هُنَا
مَسْأَلَةُ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْبَشَرِ وَالْمَلَائِكَةِ الْمُخْتَلَفِ فِي تَفَاصِيلِهَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَدْ فَرَضَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا عَلَى عَادَتِهِ مِنْ التَّحَكُّكِ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالتَّعَسُّفِ لِإِرْغَامِ الْقُرْآنِ عَلَى تَأْيِيدِ مَذْهَبِهِ، وَقَدْ تَجَاوَزَ حَدَّ الْأَدَبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَاسْتَوْجَبَ الْغَضَاضَةَ وَالْمَلَامَ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ إِقْحَامَ لَفْظِ كَثِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا مُرَاد مِنْهُ التَّقْيِيد وَالِاحْتِرَازُ وَالتَّعْلِيمُ الَّذِي لَا غُرُورَ فِيهِ، فَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ ثَمَّ مَخْلُوقَاتٍ غَيْرَ مُفَضَّلٍ عَلَيْهَا بَنُو آدَمَ تَكُونُ مُسَاوِيَةً أَوْ أَفْضَلَ إِجْمَالًا أَوْ تَفْصِيلًا، وَتَبْيِينُهُ يُتَلَقَّى مِنَ الشَّرِيعَةِ فِيمَا بَيَّنَتْهُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا سَكَتَتْ فَلَا نَبْحَثُ عَنْهُ.
وَالْإِتْيَانُ بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ فِي قَوْلِهِ: تَفْضِيلًا لِإِفَادَةِ مَا فِي التَّنْكِيرِ مِنَ التَّعْظِيمِ، أَيْ تَفْضِيلًا كَبِيرًا
مَوَاعِظِ الْوَحْيِ. وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى عَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ فِي قَوْلِهِ عَلَى الْكافِرِينَ. وَجَعَلَ تَؤُزُّهُمْ حَالًا مُقَيَّدًا لِلْإِرْسَالِ لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ مُرْسَلَةٌ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَحْفَظُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كَيْدِ الشَّيَاطِينَ عَلَى حَسْبِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَصَلَاحِ الْعَمَلِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الْحجر: ٤٢].
وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا الِاسْتِئْنَافِ وَهَذِهِ التَّسْلِيَةِ قَوْلُهُ: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ أَيْ فَلَا تَسْتَعْجِلِ
الْعَذَابَ لَهُمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا، وَعُبِّرَ بِ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ مُعَدًّى بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ إِكْرَامًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الَّذِي هَلَاكُهُمْ بِيَدِهِ. فَنَهَى عَنْ تَعْجِيلِهِ بِهَلَاكِهِمْ. وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قَبُولِ دُعَائِهِ عِنْدَ رَبِّهِ، فَلَوْ دَعَا عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ لِأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ كَيْلَا يَرُدَّ دَعْوَةَ نَبِيئِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ يُقَالُ: عَجِلَ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا، أَيْ أَسْرَعَ بِتَسْلِيطِهِ عَلَيْهِ، كَمَا يُقَالُ: عَجِلَ إِلَيْهِ إِذَا أَسْرَعَ بِالذَّهَابِ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى [طه: ٨٤]، فَاخْتِلَافُ حُرُوفِ تَعْدِيَةِ فعل عجل ينبىء عَنِ اخْتِلَافِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِالتَّعْجِيلِ.
وَلَعَلَّ سَبَبَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْله تَعَالَى: وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ [٣٥] أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا اسْتِعْجَالُ الِاسْتِئْصَالِ وَالْإِهْلَاكِ وَهُوَ مُقَدَّرٌ كَوْنُهُ عَلَى يَدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلِذَلِكَ قِيلَ هُنَا: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ، أَيِ انْتَظِرْ يَوْمَهُمُ الْمَوْعُودَ، وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَلِذَلِكَ عُقِّبَ بِقَوْلِهِ: إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا، أَيْ نُنْظِرُهُمْ وَنُؤَجِّلُهُمْ، وَأَنَّ الْعَذَابَ الْمَقْصُودَ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ لِوُقُوعِهِ فِي خِلَالِ الْوَعِيدِ لَهُمْ بِعَذَابِ النَّارِ لِقَوْلِهِ هُنَالِكَ: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ [الْأَحْقَاف: ٣٤، ٣٥].
لِإِيثَارِ التَّنْكِيرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ غَيْرُ إِرَادَةِ التَّعْظِيمِ وَإِلَّا لَقِيلَ: إِلَّا لِنَرْحَمَ الْعَالَمِينَ، أَوْ إِلَّا أَنَّكَ الرَّحْمَةُ لِلْعَالَمِينَ. وَلَيْسَ التَّنْكِيرُ لِلْإِفْرَادِ قَطْعًا لِظُهُورِ أَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ الرَّحْمَةِ وَتَنْكِيرُ الْجِنْسِ هُوَ الَّذِي يَعْرِضُ لَهُ قَصْدُ إِرَادَةِ التَّعْظِيمِ. فَهَذِهِ اثْنَا عَشَرَ مَعْنًى خُصُوصِيًّا، فَقَدْ فَاقَتْ أَجَمْعَ كَلِمَةٍ لِبُلَغَاءِ الْعَرَبِ، وَهِيَ:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ إِذْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ قُصَارَاهَا كَمَا قَالُوا: «أَنَّهُ وَقَفَ وَاسْتَوْقَفَ وَبَكَى وَاسْتَبْكَى وَذَكَرَ الْحَبِيبَ وَالْمَنْزِلَ» دُونَ خُصُوصِيَّةٍ أَزْيَدَ مِنْ ذَلِكَ فَجَمَعَ سِتَّةَ مَعَانٍ لَا غَيْرَ. وَهِيَ غَيْرُ خُصُوصِيَّةٍ إِنَّمَا هِيَ وَفْرَةُ مَعَانٍ. وَلَيْسَ تَنْكِيرُ «حَبِيبٍ وَمَنْزِلٍ» إِلَّا لِلْوَحْدَةِ لِأَنَّهُ أَرَادَ فَرْدًا مُعَيَّنًا مِنْ جِنْسِ الْأَحْبَابِ وَفَرْدًا مُعَيَّنًا مِنْ جِنْسِ الْمَنَازِلِ، وَهُمَا حَبِيبُهُ صَاحِبُ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ، وَمَنْزِلُهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ انْتِصَابَ رَحْمَةً عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ يَجْعَلُهُ وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِهِ فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ انْحِصَارُ الْمَوْصُوفِ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ صَارَ مِنْ قَصْرِ الْمَوْصُوفِ عَلَى الصِّفَةِ. فَفِيهِ إِيمَاءٌ لَطِيفٌ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ اتَّحَدَ بِالرَّحْمَةِ وَانْحَصَرَ فِيهَا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ عُنْوَانَ الرَّسُولِيَّةِ مُلَازِمٌ لَهُ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ، فَصَارَ وُجُودُهُ رَحْمَةً وَسَائِرُ أَكْوَانِهِ رَحْمَةً.
وَوُقُوعُ الْوَصْفِ مَصْدَرًا يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي هَذَا الِاتِّحَادِ بِحَيْثُ تَكُونُ الرَّحْمَةُ صِفَةً مُتَمَكِّنَةً مِنْ إِرْسَالِهِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى مَا أَشَارَ إِلَى شَرْحِهِ
النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ»
(١).
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يَظْهَرُ فِي مَظْهَرَيْنِ: الْأَوَّلُ تَخَلُّقُ نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ بِخُلُقِ الرَّحْمَةِ، وَالثَّانِي إِحَاطَةُ الرَّحْمَةِ بِتَصَارِيفِ شَرِيعَتِهِ.
فَأَمَّا الْمَظْهَرُ الْأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ الْقَيْسِيُّ الإشبيلي أحد تلاميذه أَبِي عَلِيٍّ الْغَسَّانِيِّ وَمِمَّنْ أَجَازَ لَهُمْ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ مِنْ رِجَالِ الْقَرْنِ الْخَامِسِ:
«زَيَّنَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
_________
(١) رَوَاهُ مُحَمَّد بن طَاهِر الْمَقْدِسِي فِي كتاب «ذخيرة الْحفاظ»
عَن أبي هُرَيْرَة يصفه بالضعف.
عَاصِمٍ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى أَرْبَعُ شَهاداتٍ الثَّانِي وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُور: أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ وأَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها بِتَشْدِيدِ نُونِ (أَنَّ) وبلفظ الْمصدر فِي أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ وَجَرِّ اسْمِ الْجَلَالَةِ بِإِضَافَةِ (غَضَبَ) إِلَيْهِ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ تُقَدَّرَ بَاءُ الْجَرِّ دَاخِلَةً عَلَى أَنَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُتَعَلقَة ب الْخامِسَةُ لِأَنَّهَا صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَالشَّهَادَةُ الْخَامِسَةُ، لِيَتَّجِهَ فَتْحُ هَمْزَةِ (أَنَّ) فِيهِمَا. وَالْمَعْنَى: أَنْ يَشْهَدَ الرَّجُلُ أَوْ تَشْهَدَ الْمَرْأَةُ بِأَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ أَوْ بِأَنَّ غَضَبَ اللَّهِ، أَيْ بِمَا يُطَابِقُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ بِتَخْفِيفِ نُونِ (أَنْ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ وغَضَبَ اللَّهِ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمُضِيِّ، وَرَفْعِ اسْمِ الْجَلَالَةِ الَّذِي بَعْدَ غَضَبَ. وَخُرِّجَتْ قِرَاءَتُهُ عَلَى جَعْلِ (أَنْ) مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ مُهْمَلَةَ الْعَمَلِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ مَحْذُوفٌ أَيْ تَهْوِيلًا لِشَأْنِ الشَّهَادَةِ الْخَامِسَةِ. وَرُدَّ بِمَا تَقَرَّرَ مِنْ عَدَمِ خُلُوِّ جُمْلَةِ خَبَرِ (أَنْ) الْمُخَفَّفَةِ مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: قَدْ، وَحَرْفُ النَّفْيِ، وَحَرْفُ التَّنْفِيسِ، وَلَوْلَا. وَالَّذِي أَرَى أَنْ تُجْعَلَ (أَنْ) عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ تَفْسِيرِيَّةً لِأَنَّ الْخَامِسَةَ يَمِينٌ فَفِيهَا مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ فَيُنَاسِبُهَا التَّفْسِيرُ.
وَقَرَأَ يَعْقُوبُ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ بِتَخْفِيفِ (أَن) وَرفع لَعْنَتَ وَجَرِّ اسْمِ الْجَلَالَةِ مِثْلَ قِرَاءَةِ نَافِعٍ. وَقَرَأَ وَحْدَهُ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها بِتَخْفِيفِ (أَنْ) وَفَتْحِ ضَادِ غَضَبَ وَرَفْعِ الْبَاءِ
عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ وَيُجَرُّ اسْمُ الْجَلَالَةِ بِالْإِضَافَةِ.
وَعَلَى كُلِّ الْقِرَاءَاتِ لَا يَذْكُرُ الْمُتَلَاعِنَانِ فِي الْخَامِسَةِ مِنْ يَمِينِ اللِّعَانِ لَفْظَ (أَنَّ) فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي وَصْفِ أَيْمَانِ اللِّعَانِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ.
وَالْقَوْلُ فِي صِيغَةِ الْخَامِسَةِ مِثْلُ الْقَوْلِ فِي صِيَغِ الْأَيْمَانِ الْأَرْبَعِ. وَعَيَّنَ لَهُ فِي الدُّعَاءِ خُصُوصَ اللَّعْنَةِ لِأَنَّهُ وَإِن كَانَ كَاذِبًا فَقَدْ عَرَّضَ بِامْرَأَتِهِ لِلَعْنَةِ النَّاسِ وَنَبْذِ الْأَزْوَاجِ إِيَّاهَا فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ جَزَاؤُهُ اللَّعْنَةَ.
السَّائِرُونَ فِي تِلْكَ الرِّمَالِ الْمُتَنَقِّلَةِ الَّتِي لَا تَبْقَى فِيهَا آثَارُ السَّائِرِينَ وَاحْتَفَرُوا وَشَيَّدُوا مَصَانِعَ لِلْمِيَاهِ وَهِيَ الصَّهَارِيجُ تَجْمَعُ مَاءَ الْمَطَرِ فِي الشِّتَاءِ لِيَشْرَبَ مِنْهَا الْمُسَافِرُونَ وَيَنْتَفِعَ بِهَا الْحَاضِرُونَ فِي زَمَنِ قِلَّةِ الْأَمْطَارِ، وَبَنَوْا حُصُونًا وَقُصُورًا عَلَى أَشْرَافٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَهَذَا مِنَ الْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ فِي ذَاتِهَا لِأَنَّ فِيهَا حِفْظَ النَّاسِ مِنَ الْهَلَاكِ فِي الْفَيَافِي بِضَلَالِ الطُّرُقِ، وَمِنَ الْهَلَكَةِ عَطَشًا إِذَا فَقَدُوا الْمَاءَ وَقْتَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَمَتَى أُرِيدَ بِهَا رِضَى اللَّهِ تَعَالَى بِنَفْعِ عَبِيدِهِ كَانَتْ جَدِيرَةً بِالثَّنَاءِ عَاجِلًا وَالثَّوَابِ آجِلًا.
فَأَمَّا إِذَا أُهْمِلَ إِرْضَاءُ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا وَاتُّخِذَتْ لِلرِّيَاءِ وَالْغُرُورِ بِالْعَظَمَةِ وَكَانُوا مُعْرِضِينَ عَنِ التَّوْحِيدِ وَعَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ انْقَلَبَتْ عَظَمَةً دُنْيَوِيَّةً مَحْضَةً لَا يُنْظَرُ فِيهَا إِلَى جَانِبِ النَّفْعِ وَلَا تَحُثُّ النَّاسَ عَلَى الِاقْتِدَاءِ فِي تَأْسِيسِ أَمْثَالِهَا وَقُصَارَاهَا التَّمَدُّحُ بِمَا وَجَدُوهُ مِنْهَا. فَصَارَ وُجُودُهَا شَبِيهًا بِالْعَبَثِ لِأَنَّهَا خَلَتْ عَنْ رُوحِ الْمَقَاصِدِ الْحَسَنَةِ فَلَا عِبْرَةَ عِنْدَ اللَّهِ بِهَا لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ لِيَكُونَ مَظْهَرَ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ. وَكَانُوا أَيْضًا فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْآخِرَةِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى التَّزَوُّدِ لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَحْسَبُونَ أَنْفُسَهُمْ خَالِدِينَ فِي الدُّنْيَا.
وَالْأَعْمَالُ إِذَا خَلَتْ عَنْ مُرَاعَاةِ الْمَقَاصِدِ الَّتِي تُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى اخْتَلَفَتْ مَشَارِبُ عَامِلِيهَا طَرَائِقَ قِدَدًا عَلَى اخْتِلَافِ الْهِمَمِ وَاجْتِلَابِ الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ، فَلِذَلِكَ أَنْكَرَهَا عَلَيْهِمْ رَسُولُهُمْ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَلَى سُنَّةِ الْمَوَاعِظِ فَإِنَّهَا تُبْنَى عَلَى مُرَاعَاةِ مَا فِي الْأَعْمَالِ مِنَ الضُّرِّ الرَّاجِحِ عَلَى النَّفْعِ، فَلَا يَلْفِتُ الْوَاعِظُ إِلَى مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ فِي الْأَعْمَالِ مِنْ مَرْجُوحٍ إِذَا كَانَ ذَلِكَ النَّفْعُ مَرْغُوبًا لِلنَّاسِ، فَإِنَّ بَاعِثَ الرَّغْبَةِ الْمُنْبَثَّ فِي النَّاسِ مُغْنٍ عَنْ تَرْغِيبِهِمْ فِيهِ، وَتَصَدِّي الْوَاعِظِ لِذَلِكَ فُضُولٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الْمَقْصِدِ بِتَحْذِيرِهِمْ أَوْ تَحْرِيضِهِمْ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، إِذا كَانَ الْبَاعِثُ عَلَى الْخَيْرِ مَفْقُودًا أَوْ ضَئِيلًا. وَقَدْ كَانَ هَذَا الْمَقَامُ مَقَامَ مَوْعِظَةٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ [الشُّعَرَاء:
١٣٦]. وَمَقَامُ الْمَوْعِظَةِ أَوْسَعُ مِنْ مَقَامِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ، فَمَوْعِظَةُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُتَوَجِّهَةٌ إِلَى مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الْأَدْوَاءِ الرُّوحِيَّةِ، وَلَيْسَ فِي مَوْعِظَتِهِ أَمْرٌ بِتَغْيِيرِ مَا بَنَوْهُ مِنَ الْعَلَامَاتِ وَلَا مَا اتَّخَذُوهُ مِنَ الْمَصَانِعِ.
وَلَمَّا صَارَ أَثَرُ الْبِنَاءِ شَاغِلًا عَنِ الْمَقْصِدِ النَّافِعِ لِلْحَيَاةِ فِي الْآخِرَةِ نُزِّلَ فِعْلُهُمْ
جَمِيعِ الْمَحَامِدِ مِمَّا تَضَمَّنَهُ اسْمُ الْجَلَالَةِ فِي أَصْلِ مَعْنَاهُ قَبْلَ نَقْلِهِ إِلَى الْعَلَمِيَّةِ.
وَالْمَجْرُورُ يَتَنَازَعُهُ كِلَا الْفِعْلَيْنِ. وَوَجْهُ تَقْيِيدِ التَّنْزِيهِ وَالتَّرْفِيعِ بِ (مَا يُشْرِكُونَ) أَنه لم يجترىء أَحَدٌ أَنْ يَصِفَ اللَّهَ تَعَالَى بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ إِلَّا أَهْلُ الشِّرْكِ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ مَا نَسَبُوهُ إِلَى اللَّهِ إِنَّمَا هُوَ كَمَالٌ مِثْلَ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ أَوْ هُوَ مِمَّا أَنْبَأَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الْأَعْرَاف: ٢٨]. وَزَعَمُوا أَنَّ الْآلِهَةَ شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَقَالُوا فِي التَّلْبِيَةِ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِالْكَمَالِ لِلَّهِ، قَالَ تَعَالَى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَان: ٢٥]. وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَن إشراكهم.
[٦٩]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٦٩]
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩)
عَطْفٌ عَلَى وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ [الْقَصَص: ٦٨] أَيْ هُوَ خَالِقُهُمْ وَمُرَكِّبُهُمْ عَلَى النِّظَامِ الَّذِي تَصْدُرُ عَنْهُ الْأَفْعَالُ وَالِاعْتِقَادَاتُ فَيَكُونُونَ مُسْتَعِدِّينَ لِقَبُولِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَتَغْلِيبِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا تُخْفِيهِ صُدُورُهُمْ، أَيْ نُفُوسُهُمْ
وَمَا يُعْلِنُونَهُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ. فَضَمِيرُ صُدُورُهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ [الْقَصَص: ٦٨] بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا، أَيْ مَا تُكِنُّ صُدُورُ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَا يُعْلِنُونَ. وَحَيْثُ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمْ ضَمَائِرُ الْعُقَلَاءِ فَقَدْ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْبَشَرُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْعُمُومِ فِي مَا يَشاءُ [الْقَصَص: ٦٨] فَبِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ مِنْهُمْ يَخْتَارُهُمْ وَيُجَازِيهِمْ فَحَصَلَ بِهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى عِلَّةِ الِاخْتِيَارِ وَإِلَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَهَذَا مُنْتَهَى الْإِيجَازِ.
وَفِي إِحْضَارِ الْجَلَالَةِ بِعُنْوَانِ وَرَبُّكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مِمَّا تُكِنُّهُ صُدُورُهُمْ بُغْضُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَقَدَّمَ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ آخر النَّمْل [٧٤].
[٧٠]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٧٠]
وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ [الْقَصَص: ٦٨] الْآيَةَ. وَالْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلُهُ
وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالصَّبْرِ عَلَى مَا أَصَابَ. وَالتَّأْكِيدُ لِلِاهْتِمَامِ.
وَالْعَزْمُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى: الْجَزْمِ وَالْإِلْزَامِ. وَالْعَزِيمَةُ: الْإِرَادَةُ الَّتِي لَا تَرَدُّدَ فِيهَا.
وعَزْمِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ مِنْ مَعْزُومِ الْأُمُورِ، أَيِ الَّتِي عَزَمَهَا الله وأوجبها.
[١٨]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ١٨]
وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨)
انْتَقَلَ لُقْمَانُ بِابْنِهِ إِلَى الْآدَابِ فِي مُعَامَلَةِ النَّاسِ فَنَهَاهُ عَنِ احْتِقَارِ النَّاسَ وَعَنِ التَّفَخُّرِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَمْرَهُ بِإِظْهَارِ مُسَاوَاتِهِ مَعَ النَّاسِ وَعَدِّ نَفْسِهِ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلَا تُصَاعِرْ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ وَلا تُصَعِّرْ. يُقَالُ: صَاعَرَ وَصَعَّرَ، إِذَا أَمَالَ عُنُقَهُ إِلَى جَانِبٍ لِيُعْرِضَ عَنْ جَانِبٍ آخَرَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الصَّعَرِ بِالتَّحْرِيكِ لِدَاءٍ يُصِيبُ الْبَعِيرَ فَيَلْوِي مِنْهُ عُنُقَهُ فَكَأَنَّهُ صِيغَ لَهُ صِيغَةَ تَكَلُّفٍ بِمَعْنَى تَكَلُّفِ إِظْهَارِ الصَّعَرِ وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِلِاحْتِقَارِ لِأَنَّ مُصَاعَرَةَ الْخَدِّ هَيْئَةُ الْمُحْتَقِرِ الْمُسْتَخِفِّ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ. قَالَ عَمْرُو بْنُ حُنَيٍّ التَّغْلِبِيُّ يُخَاطِبُ بَعْضَ مُلُوكِهِمْ:

وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمَ
وَالْمَعْنَى: لَا تَحْتَقِرِ النَّاسَ فَالنَّهْيُ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمُ احْتِقَارًا لَهُمْ لَا عَنْ خُصُوصِ مُصَاعَرَةِ الْخَدِّ فَيَشْمَلُ الِاحْتِقَارَ بِالْقَوْلِ وَالشَّتْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الْإِسْرَاء: ٢٣] إِلَّا أَنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ كَنَائِيٌّ وَالْآخَرُ كِنَايَةٌ لَا تَمْثِيلَ فِيهَا.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً تَمْثِيلٌ كَنَائِيٌّ عَنِ النَّهْيِ عَنِ التَّكَبُّرِ
وَالْآيَةُ هُنَا: الْأَمَارَةُ وَالدَّلَالَةُ بِتَبَدُّلِ الْأَحْوَالِ وَتَقَلُّبِ الْأَزْمَانِ، فَهِيَ آيَةٌ عَلَى تَصَرُّفِ اللَّهِ وَنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَهْتَدُوا بِتِلْكَ الْآيَةِ فَأَشْرَكُوا بِهِ، وَقَدْ كَانَ فِي إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِهِ ثُمَّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ.
وَالتَّأْكِيدُ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ بِالتَّعْرِيضِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ لِعَدَمِ اتِّعَاظِهِمْ بِحَالِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ بِلَادِهِمْ، وَتَجْرِيدُ كانَ مِنْ تَأْنِيثِ الْفِعْلِ لِأَنَّ اسْمَهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ لِلتَّأْنِيثِ ولوقوع الْفَصْل بالمجرور.
وَاللَّامُ فِي لِسَبَإٍ مُتَعَلِّقٌ بِ آيَةٌ. وَالْمَسَاكِنُ: الْبِلَادُ الَّتِي يَسْكُنُونَهَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ:
جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ وَالْمَسَاكِنُ: دِيَارُ السُّكْنَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سَبَأٍ عِنْدَ قَوْلِهِ:
وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٢٢].
وَاسْمُ سَبَأٍ يُطْلَقُ عَلَى الْأُمَّةِ كَمَا هُنَا وَعَلَى بِلَادِهِمْ كَمَا فِي آيَةِ النَّمْلِ وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي مَسَاكِنِهِمْ بِصِيغَةِ جَمْعِ مَسْكَنٍ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَخَلَفٌ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ فِي مَسْكَنِهِمْ إِلَّا أَنَّ حَمْزَةَ وَحَفْصًا فَتَحَا الْكَاف، وَالْكسَائِيّ وَخلف كَسَرَا الْكَافَ وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ مُضَارِعٌ غَيْرُ مَكْسُورِ الْعَيْنِ فَحَقُّ اسْمِ الْمَكَانِ مِنْهُ فَتْحُ الْعَيْنِ. وَشَذَّ نَحْوُ قَوْلِهِمْ: مَسْجِدٌ لِبَيْتِ الصَّلَاةِ.
وجَنَّتانِ بَدَلٌ مِنْ آيَةٌ بِاعْتِبَارِ تَكْمِلَتِهِ بِمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الْمُتَعَلِّقِ وَالْقَوْلُ الْمُقَدَّرُ.
وجَنَّتانِ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ فِي مَسَاكِنِهِمْ شَبِيهُ جَنَّتَيْنِ فِي أَنه مغترس أشجارا ذَاتِ ثَمَر مُتَّصِل بَعْضهَا بِبَعْضٍ مِثْلَ مَا يُعْرَفُ مِنْ حَالِ الْجَنَّاتِ، وَتَثْنِيَةُ جَنَّتَيْنِ بِاعْتِبَارٍ أَنَّ مَا عَلَى يَمِينِ السَّائِرِ كَجَنَّةٍ، وَمَا عَلَى يَسَارِهِ كَجَنَّةٍ. وَقِيلَ: كَانَ لكل رجل مِنْهُم فِي مَسْكَنِهِ، أَيْ دَارِهِ جَنَّتَانِ جَنَّةٌ عَنْ يَمِينِ الْمَسْكَنِ وَجَنَّةٌ عَنْ شِمَاله فَكَانُوا يتفيؤون ظِلَالَهُمَا فِي الصَّبَاحِ والمساء ويجتنون ثمارهما مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَغَيْرِهَا، فَيَكُونُ مَعْنَى التَّرْكِيبِ عَلَى التَّوْزِيعِ،
أَيْ: لِكُلِّ مَسْكَنٍ جَنَّتَانِ، كَقَوْلِهِمْ: رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ: فِي مَسَاكِنِهِمْ دُونَ أَنْ يَقُولَ فِي بِلَادِهِمْ، أَوْ دِيَارِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ مَدِينَتَهُمْ وَهِيَ مَأْرِبُ كَانَتْ مَحْفُوفَةً
مَرْتَبَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى دِينِ اللَّهِ، وَفِي أَنَّهُمْ لَا شَرَائِعَ لَهُمْ. وَتَأْكِيدُ إِرْسَالِهِمْ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِأَنَّهُ قَدْ يُغْفَلُ عَنْهُ إِذْ لَمْ تَكُنْ لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ شَرِيعَةٌ خَاصَّةٌ.
وإِلْياسَ هُوَ (إِيلْيَاءُ) مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ التَّابِعِينَ لِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ وَصْفُ الرَّسُولِ لِأَنَّهُ أُمِرَ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَبْلِيغِ مُلُوكِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ اللَّهَ غَضِبَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَإِطْلَاقُ وَصْفِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ مِثْلُ إِطْلَاقِهِ عَلَى الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ أَنْطَاكِيَّةَ الْمَذْكُورِينَ فِي سُورَةِ يس.
وإِذْ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ الْمُرْسَلِينَ، أَيْ أَنَّهُ مِنْ حِينِ ذَلِكَ الْقَوْلِ كَانَ مُبَلِّغًا رِسَالَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى قَوْمِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ إلْيَاْسَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْمِهِ: بَنُو إِسْرَائِيلَ وَكَانُوا قَدْ عَبَدُوا بَعْلًا مَعْبُودَ الْكَنْعَانِيِّينَ بِسَبَبِ مُصَاهَرَةِ بَعْضِ مُلُوكِ يَهُوذَا لِلْكَنْعَانِيِّينَ وَلِذَلِكَ قَامَ إلْيَاسُ دَاعِيًا قَوْمَهَ إِلَى نَبْذِ عِبَادَةِ بَعْلِ الصَّنَمِ وَإِفْرَادِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ.
وَقَوْلُهُ: أَلا كَلِمَتَانِ: هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ لِلْإِنْكَارِ، وَلَا النَّافِيَةُ، إِنْكَارٌ لِعَدَمِ تَقْوَاهُمْ، وَحَذْفُ مَفْعُولِ تَتَّقُونَ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ.
وَ (بَعْلٌ) اسْمُ صَنَمِ الْكَنْعَانِيِّينَ وَهُوَ أَعْظَمُ أَصْنَامِهِمْ لِأَنَّ كَلِمَةَ بَعْلٍ فِي لُغَتِهِمْ تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الذُّكُورَةِ. ثُمَّ دَلَّتْ عَلَى مَعْنَى السِّيَادَةِ فَلَفْظُ الْبَعْلِ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ رَمْزٌ عَلَى الشَّمْسِ وَيُقَابِلُهُ كَلِمَةُ (تَانِيتْ) بِمُثَنَّاتَيْنِ، أَيِ الْأُنْثَى وَكَانَت لَهُم صنمة تُسَمَّى عِنْدَ الْفِينِيقِيِّينَ بِقُرْطَاجَنَّةَ (تَانِيتْ) وَهِيَ عِنْدَهُمْ رَمْزُ الْقَمَرِ وَعِنْدَ فِينِيقِيِّيِ أَرْضِ فِينِيقِيَّةَ الْوَطَنُ الْأَصْلِيُّ لِلْكَنْعَانِيِّينَ تُسَمَّى هَذِهِ الصَّنَمَةُ (الْعَشْتَارُوثْ). وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى بَعْلٍ فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْمُ «مُولَكْ» أَيْضًا، وَقَدْ مَثَّلُوهُ بِصُورَةِ إِنْسَانٍ لَهُ رَأْسُ عِجْلٍ وَلَهُ قَرْنَانِ وَعَلَيْهِ إِكْلِيلٌ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ مَادًّا يَدَيْهِ كَمَنْ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا وَكَانَتْ صُورَتُهُ مِنْ نُحَاسٍ وَدَاخِلُهَا مُجَوَّفٌ وَقَدْ وَضَعُوهَا عَلَى قَاعِدَةٍ مِنْ بِنَاءٍ كَالتَّنُّورِ فَكَانُوا يُوقِدُونَ النَّارَ فِي ذَلِكَ التَّنُّورِ حَتَّى يُحْمَى النُّحَاسُ وَيَأْتُونَ بِالْقَرَابِينِ فَيَضَعُونَهَا عَلَى ذِرَاعَيْهِ فَتَحْتَرِقُ بِالْحَرَارَةِ فَيَحْسَبُونَ لِجَهْلِهِمُ الصَّنَمَ تَقَبَّلَهَا وَأَكَلَهَا مِنْ يَدَيْهِ، وَكَانُوا يُقَرِّبُونَ لَهُ أَطْفَالًا مِنْ أَطْفَالِ مُلُوكِهِمْ وَعُظَمَاءِ مِلَّتِهِمْ، وَقَدْ عَبَدَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ غَيْرَ مَرَّةٍ تَبَعًا لِلْكَنْعَانِيِّينَ، وَالْعَمُونِيِّينَ،
وَمَعْنَى تَفْرِيعِهِ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّهُ مُفَرَّعٌ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ الَّذِي هُوَ التَّنَصُّلُ مِنْ أَنْ يَدْعُوَا لَهُمْ، أَيْ كَمَا تَوَلَّيْتُمُ الْإِعْرَاضَ عَنِ الرُّسُلِ اسْتِبْدَادًا بِآرَائِكُمْ فَتَوَلُّوا الْيَوْمَ أَمْرَ أَنْفُسِكُمْ فَادْعُوا أَنْتُمْ، فَإِنَّ «مَنْ تَوَلَّى قُرَّهَا يَتَوَلَّى حَرَّهَا»، فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَادْعُوا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِبَاحَةِ أَوْ فِي التَّسْوِيَةِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى خَطَأِ السَّائِلِينَ فِي سُؤَالِهِمْ.
وَزِيَادَةُ فِعْلِ الْكَوْنِ فِي أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَجِيءَ الرُّسُلِ إِلَى الْأُمَمِ أَمْرٌ مُتَقَرِّرٌ مُحَقَّقٌ، لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ الْكَوْنِ مِنَ الْوُجُودِ بِمَعْنَى التَّحَقُّقِ، وَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْإِتْيَانِ كَانَ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي فَهُوَ مُسْتَفَادٌ مَنْ (لَمِ) النَّافِيَةِ فِي الْمَاضِي.
وَالضَّلَالُ: الضَّيَاعُ، وَأَصْلُهُ: خَطَّأُ الطَّرِيقِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة: ١٠].
وَالْمَعْنَى: أَنَّ دُعَاءَهُمْ لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَوْلُهُ: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مُقْتَضٍ عُمُومَ دُعَائِهِمْ
لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُضَافَ مَنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَيَقْتَضِي أَنَّ دُعَاءَ الْكَافِرِينَ غَيْرُ مُتَقَبَّلٍ فِي الْآخِرَةِ وَفِي الدُّنْيَا لِأَنَّ عُمُومَ الذَّوَاتِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ.
وَأَمَّا مَا يُوهِمُ اسْتِجَابَةَ دُعَاءِ الْكَافِرِينَ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها [الْأَنْعَام: ٦٣، ٦٤] وَقَوْلِهِ: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يُونُس: ٢٢، ٢٣]، فَظَاهِرٌ أَنَّ هَذِهِ لَا تَدُلُّ عَلَى اسْتِجَابَةِ كَرَامَةٍ وَلَكِنَّهَا لِتَسْجِيلِ كَفْرِهِمْ وَنُكْرَانِهِمْ، وَقَدْ يُتَوَهَّمُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَنْ يَدْعُوَ الْكَافِرُ فَيَقَعُ مَا طَلَبَهُ وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِمُصَادَفَةِ دُعَائِهِ وَقْتَ إِجَابَةِ دُعَاءِ غَيْرِهِ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَكَيْفَ يُسْتَجَابُ دُعَاءُ الْكَافِرِ وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِبْعَادُ اسْتِجَابَةِ دُعَاءِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَأْكُلُ الْحَرَامَ وَيَلْبَسُ الْحَرَامَ
فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثُ أَغْبَرُ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ
نَبِيءٌ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ إِلَّا يُقَارِنُ اسْتِهْزَاؤُهُمْ إِتْيَانَ ذَلِكَ النَّبِيءِ إِلَيْهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نبيء إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَهَذَا الْحَالُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ. وَجُمْلَةُ فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً تَفْرِيعٌ وَتَسَبُّبٌ عَنْ جُمْلَةِ وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نبيء فِي الْأَوَّلِينَ.
وَضَمِيرُ أَشَدَّ مِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى قَوْمٍ مُسْرِفِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ خِطَابُهُمْ فَعَدَلَ عَنِ اسْتِرْسَالِ خِطَابِهِمْ إِلَى تَوْجِيهِهِ إِلَى الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَهَمَّ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ هُوَ تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ وَوَعْدُهُ بِالنَّصْرِ. وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ التَّعْرِيضُ بِالَّذِينِ كَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ يَبْلُغُهُمْ هَذَا الْكَلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَيَظْهَرُ أَنَّ تَغْيِيرَ أُسْلُوبِ الْإِضْمَارِ تَبَعًا لِتَغْيِيرِ الْمُوَاجَهَةِ بِالْكَلَامِ لَا يُنَافِي اعْتِبَارَ الِالْتِفَاتِ فِي الضَّمِيرِ لِأَنَّ مَنَاطَ الِالْتِفَاتِ هُوَ اتِّحَادُ مَرْجِعِ الضَّمِيرَيْنِ مَعَ تَأَتِّي الِاقْتِصَارِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِضْمَارِ الْأُولَى، وَهَلْ تَغْيِيرُ تَوْجِيهِ الْكَلَامِ إِلَّا تَقْوِيَةٌ لِمُقْتَضَى نَقْلِ الْإِضْمَارِ، وَلَا تَفُوتُ النُّكْتَةُ الَّتِي تَحْصُلُ مِنْ الِالْتِفَاتِ وَهِيَ تَجْدِيدُ نَشَاطِ السَّامِعِ بَلْ تَزْدَادُ قُوَّةً بِازْدِيَادِ مُقْتَضَيَاتِهَا.
وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» ظَاهِرٌ فِي أَنَّ نَقْلَ الضَّمِيرِ هُنَا الْتِفَاتٌ وَعَلَى ذَلِكَ قَرَّرَهُ شَارِحُوهُ، وَلَكِن الْعَلامَة التفتازانيّ قَالَ: وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ مِنْ الِالْتِفَاتِ فِي شَيْءٍ اهـ. وَلَعَلَّهُ يَرَى أَنَّ اخْتِلَافَ الْمُوَاجَهَةِ بِالْكَلَامِ الْوَاقِعِ فِيهِ الضَّمِيرَانِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى غَيْرُ طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» فِيهِ احْتِمَالٌ، وَخُصُوصِيَّاتُ الْبَلَاغَةِ وَاسِعَةُ الْأَطْرَافِ. وَالَّذِينَ هُمْ أَشَدُّ بَطْشًا مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ: هُمُ الَّذِينَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِ الْأَوَّلِينَ وَوُصِفُوا بِأَنَّهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِمَنْ يَأْتِيهم من نبيء. وَهَذَا تَرْتِيب بَدِيعٌ فِي الْإِيجَازِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً يَقْتَضِي كَلَامًا مَطْوِيًّا تَقْدِيرُهُ: فَلَا نَعْجِزُ عَن إهلاك هَؤُلَاءِ الْمُسْرِفِينَ وَهُمْ أَقَلُّ بَطْشًا.
وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ
أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ
[مُحَمَّد: ١٣].

[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ١٤]

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [الْفَتْح: ١١] فَهُوَ مِنْ أَجْزَاءِ الْقَوْلِ، وَهَذَا انْتِقَالٌ مِنَ التخويف الَّذِي أَو همه فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِلَى إِطْمَاعِهِمْ بِالْمَغْفِرَةِ الَّتِي سَأَلُوهَا، وَلِذَلِكَ قُدِّمَ الضُّرُّ عَلَى النَّفْعِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى فَقِيلَ إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً [الْفَتْح: ١١] لِيَكُونَ احْتِمَالُ إِرَادَةِ الضُّرِّ بِهِمْ أَسْبَقَ فِي نُفُوسِهِمْ.
وَقُدِّمَتِ الْمَغْفِرَةُ هُنَا بِقَوْلِهِ: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ لِيَتَقَرَّرَ مَعْنَى الْإِطْمَاعِ فِي نُفُوسِهِمْ فَيَبْتَدِرُوا إِلَى اسْتِدْرَاكِ مَا فَاتَهُمْ. وَهَذَا تَمْهِيدٌ لِوَعْدِهِمُ الْآتِي فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً [الْفَتْح: ١٦].
وَزَادَ رَجَاءَ الْمَغْفِرَةِ تَأْكِيدًا بِقَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أَيِ الرَّحْمَةُ وَالْمَغْفِرَةُ أَقْرَبُ مِنَ الْعِقَابِ، وَلِلْأَمْرَيْنِ مَوَاضِعُ وَمَرَاتِبُ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، وَالنَّوَايَا وَالْعَوَارِضِ، وَقِيمَةُ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَقَدَّرَهَا تَقْدِيرًا.
وَلَفْظُ مَنْ يَشاءُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِجْمَالٌ لِلْمَشِيئَةِ وَأَسْبَابِهَا وَقَدْ بُيِّنَتْ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي تَضَاعِيفِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاء: ٤٨].
[١٥]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ١٥]
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥)
هَذَا اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا [الْفَتْح: ١١]. وَهُوَ أَيْضًا إِعْلَام للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا سَيَقُولُهُ الْمُخَلَّفُونَ عَنِ الْحُدَيْبِيَةِ يَتَعَلَّقُ بِتَخَلُّفِهِمْ عَنِ الْحُدَيْبِيَةِ وَعُذْرِهِمُ الْكَاذِبِ، وَأَنَّهُمْ سَيَنْدَمُونَ عَلَى تَخَلُّفِهِمْ حِينَ يَرَوْنَ اجْتِنَاءَ أَهْلِ
وَكَانَ نُزُولُهَا فِي حُدُودِ سَنَةِ خَمْسٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَفِي «الصَّحِيحِ» «أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ:
أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ بِمَكَّةَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [الْقَمَر: ٤٦].
وَكَانَتْ عُقِدَ عَلَيْهَا فِي شَوَّالٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، أَيْ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ أَرْبَعٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِمَكَّةَ، وَعَائِشَةُ يَوْمَئِذٍ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ كَانَ سَنَةَ خَمْسٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ بَيْنَ نُزُولِ آيَةِ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [الْقَمَر: ٤٥] وَبَيْنَ بَدْرٍ سبع سِنِين.
أغراض هَذِه السُّورَة
تَسْجِيلُ مُكَابَرَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْآيَاتِ الْبَيِّنَةِ، وَأَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ مُكَابَرَتِهِمْ.
وَإِنْذَارُهُمْ بِاقْتِرَابِ الْقِيَامَةِ وَبِمَا يَلْقَوْنَهُ حِينَ الْبَعْثِ مِنَ الشَّدَائِدِ.
وَتَذْكِيرُهُمْ بِمَا لَقِيَتْهُ الْأُمَمُ أَمْثَالُهُمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا لِتَكْذِيبَهُمْ رُسُلَ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ سيلقون مِثْلَمَا لَقِيَ أُولَئِكَ إِذْ لَيْسُوا خَيْرًا مِنْ كُفَّارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ.
وَإِنْذَارُهُمْ بِقِتَالٍ يُهْزَمُونَ فِيهِ، ثُمَّ لَهُمْ عَذَابُ الْآخِرَةِ وَهُوَ أَشَدُّ.
وَإِعْلَامُهُمْ بِإِحَاطَةِ اللَّهِ عِلْمًا بِأَفْعَالِهِمْ وَأَنَّهُ مُجَازِيهِمْ شَرَّ الْجَزَاءِ وَمُجَازٍ الْمُتَّقِينَ خَيْرَ الْجَزَاءِ. وَإِثْبَاتُ الْبَعْثِ، وَوَصْفُ بَعْضِ أَحْوَالِهِ.
وَفِي خِلَالِ ذَلِكَ تَكْرِيرُ التَّنْوِيهِ بِهَدْيِ الْقُرْآن وحكمته.
[١]
[سُورَة الْقَمَر (٥٤) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١)
مِنْ عَادَةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَنْتَهِزَ الْفُرْصَةَ لإعادة الموعظة والتذكير حِينَ يَتَضَاءَلُ تَعَلُّقُ النُّفُوسِ بِالدُّنْيَا، وَتُفَكِّرُ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَتُعِيرُ آذَانَهَا لِدَاعِي الْهُدَى. فَتَتَهَيَّأُ لِقَبُولِ الْحَقِّ فِي مَظَانِّ ذَلِكَ عَلَى تَفَاوُتٍ فِي اسْتِعْدَادِهَا وَكَمْ كَانَ مِثْلُ هَذَا الِانْتِهَازِ سَبَبًا فِي
وَجَلَسَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَأْخُذُ الْبَيْعَةَ مِنَ النِّسَاءِ عَلَى ذَلِكَ، وَمِمَّنْ بَايَعَتْهُ مِنَ النِّسَاءِ يَوْمَئِذٍ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ زَوْجُ أَبِي سُفْيَانَ وَكَبْشَةُ بِنْتُ رَافِعٍ.
وَجُمْلَةُ يُبايِعْنَكَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الْمُؤْمِناتُ عَلَى مَعْنَى: يُرِدْنَ الْمُبَايَعَةَ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَجَوَابُ إِذا فَبايِعْهُنَّ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ يُبايِعْنَكَ جَوَابَ إِذا.
وَمَعْنَى إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ، أَيِ الدَّاخِلَاتُ فِي جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالْإِجْمَالِ، لَا يَعْلَمْنَ أُصُولَ الْإِسْلَامِ وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: يُبايِعْنَكَ فَهُوَ خَبَرٌ مُرَادٌ بِهِ الْأَمْرُ، أَيْ فَلْيُبَايِعْنَكَ وَتَكُونُ جُمْلَةُ فَبايِعْهُنَّ تَفْرِيعًا لِجُمْلَةِ يُبايِعْنَكَ وَلِيُبْنَى عَلَيْهَا قَوْلُهُ: وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ.
وَقَدْ شَمَلَتِ الْآيَةُ التَّخَلِّيَ عَنْ خِصَالٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَتِ السَّرِقَةُ فِيهِنَّ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي الرِّجَالِ. قَالَ الْأَعْرَابِيُّ لَمَّا وَلَدَتْ زَوْجُهُ بِنْتًا: وَاللَّهِ مَا هِيَ بِنِعْمَ الْوَلَدُ بَزُّهَا بُكَاءٌ وَنَصْرُهَا سَرِقَةٌ.
وَالْمُرَادُ بِقَتْلِ الْأَوْلَادِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا الْوَأْدُ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ بِبَنَاتِهِمْ، وَثَانِيهِمَا إِسْقَاطُ الْأَجِنَّةِ وَهُوَ الْإِجْهَاضُ.
وَأُسْنِدَ الْقَتْلُ إِلَى النِّسَاءِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ يَفْعَلُهُ الرِّجَالُ لِأَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَرْضَيْنَ بِهِ أَوْ يَسْكُتْنَ عَلَيْهِ.
وَالْبُهْتَانُ: الْخَبَرُ الْمَكْذُوبُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ لِكَاذِبِهِ فِيهِ لِأَنَّهُ يَبْهَتُ مَنْ يَنْقُلُ عَنْهُ.
وَالِافْتِرَاءُ: اخْتِلَاقُ الْكَذِبِ، أَيْ لَا يَخْتَلِقْنَ أَخْبَارًا بِأَشْيَاءَ لَمْ تَقَعْ.
وَقَوْلُهُ: بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ يَتَعَلَّقُ بِ يَأْتِينَ، وَهَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْجَامِعِ لِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ بِاخْتِلَافِ مَحَامِلِهِ مِنْ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ وَكِنَايَةٍ، فَالْبُهْتَانُ حَقِيقَتُهُ: الْإِخْبَارُ بِالْكَذِبِ وَهُوَ مَصْدَرٌ. وَيُطْلَقُ الْمَصْدَرُ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ.
وَحَقِيقَةُ بَيْنَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ: أَنْ يَكُونَ الْكَذِبُ حَاصِلًا فِي مَكَانٍ يَتَوَسَّطُ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ فَإِنْ كَانَ الْبُهْتَانُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَهُوَ الْخَبَرُ الْكَاذِبُ كَانَ افْتِرَاؤُهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ أَنَّهُ كَذَبَ مُوَاجَهَةً فِي وَجْهِ الْمَكْذُوبِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهَا: يَا فُلَانَةُ زَنَيْتِ
وَالْجَمْعُ وَالْإِيعَاءُ فِي قَوْلِهِ: وَجَمَعَ فَأَوْعى مُرَتَّبٌ ثَانِيهِمَا عَلَى أَولهمَا، فَيدل ترَتّب الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّ مَفْعُولَ جَمَعَ الْمَحْذُوفَ هُوَ شَيْءٌ مِمَّا يُوعَى، أَيْ يُجْعَلُ فِي وِعَاءٍ.
وَالْوِعَاءُ: الظَّرْفُ، أَيْ جَمَعَ الْمَالَ فَكَنَزَهُ وَلَمْ يَنْفَعْ بِهِ الْمَحَاوِيجَ، وَمِنْهُ جَاءَ فعل فَأَوْعى إِذَا شَحَّ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «وَلَا تُوعِي فَيُوعَى عَلَيْكَ»
. وَفِي قَوْلِهِ: جَمَعَ إِشَارَةٌ إِلَى الْحِرْصِ، وَفِي قَوْلِهِ: فَأَوْعى إِشَارَةٌ إِلَى طُولِ الْأَمَلِ. وَعَنْ قَتَادَةَ جَمَعَ فَأَوْعى كَانَ جَمُوعًا لِلْخَبِيثِ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ حَسَنٌ، أَيْ بِأَنْ يُقَدَّرَ لِ جَمَعَ مَفْعُولٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ وَزَادَ عَلَى إِدْبَارِهِ وَتَوَلِّيهِ أَنَّهُ جَمَعَ الْخَبَائِثَ. وَعَلَيْهِ يَكُونُ فَأَوْعى مُسْتَعَارًا لِمُلَازَمَتِهِ مَا فِيهِ مِنْ خِصَالِ الْخَبَائِثِ وَاسْتِمْرَارِهِ عَلَيْهَا فَكَأَنَّهَا مُخْتَزَنَةٌ لَا يفرط فِيهَا.
[١٩- ٢١]
[سُورَة المعارج (٧٠) : الْآيَات ١٩ إِلَى ٢١]
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١)
مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى [المعارج: ١٧- ١٨] وَبَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج: ٢٢] إِلَخْ.
وَهِيَ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ وَجَمَعَ فَأَوْعى تَنْبِيهًا عَلَى خَصْلَةٍ تُخَامِرُ نُفُوسَ الْبَشَرِ فَتَحْمِلُهُمْ عَلَى الْحِرْصِ لِنَيْلِ النَّافِعِ وَعَلَى الِاحْتِفَاظِ بِهِ خشيَة نفاده لِمَا فِيهِمْ مِنْ خُلُقِ الْهَلَعِ. وَهَذَا تَذْيِيلُ لَوْمٍ وَلَيْسَ فِي مَسَاقِهِ عُذْرٌ لِمَنْ جَمَعَ فَأَوْعَى، وَلَا هُوَ تَعْلِيلٌ لِفِعْلِهِ.
وَمَوْقِعُ حَرْفِ التَّوْكِيدِ مَا تَتَضَمَّنُهُ الْجُمْلَةُ مِنَ التَّعْجِيبِ مِنْ هَذِهِ الْخَصْلَةِ الْبَشَرِيَّةِ، فَالتَّأْكِيدُ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَلَفْتِ الْأَنْظَارِ إِلَيْهِ وَالتَّعْرِيضِ بِالْحَذَرِ مِنْهُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّذْيِيلِ هُوَ قَوْلُهُ: وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً فَتَمْهِيدٌ وَتَتْمِيمٌ لِحَالَتَيْهِ.
فَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ: جِنْسُ الْإِنْسَانِ لَا فَرْدٌ مُعَيَّنٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: ٦- ٧] وَقَوْلِهِ: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الْأَنْبِيَاء: ٣٧]، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ.
عَلَى الذِّكْرِ دُونَ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ، فَإِنَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْقِصَصِ وَالْأَخْبَارِ مَقْصُودٌ بِهِ الْمَوْعِظَةُ وَالْعِبْرَةُ كَمَا بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّابِعَةِ.
وَأَمَّا إِعْجَازُهُ فَلَهُ مَدْخَلٌ عَظِيمٌ فِي التَّذْكِيرِ لِأَنَّ إِعْجَازَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ مِنْ صُنْعِ الْبَشَرِ، وَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ وَقَعَ الْيَقِينُ بِأَنَّهُ حَقٌّ.
وَأُبْدِلَ مِنْ لِلْعالَمِينَ قَوْلُهُ: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَأُعِيدَ مَعَ الْبَدَلِ حَرْفُ الْجَرِّ الْعَامِلُ مِثْلُهُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ لِتَأْكِيدِ الْعَامِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ [الْأَنْعَام: ٩٩] وَقَوْلِهِ: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَة الْأَعْرَاف [٧٥]. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ:
مِنْكُمْ لِلَّذِينَ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [التكوير: ٢٦] وَإِذَا كَانَ الْقُرْآنُ ذِكْرًا لَهُمْ وَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْعَالِمَيْنِ كَانَ ذِكْرُ: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ مِنْ بَقِيَّةِ الْعَالَمِينَ أَيْضًا بِحُكْمِ قِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ، فَفِي الْكَلَامِ كِنَايَةٌ عَنْ ذَلِكَ.
وَفَائِدَةُ هَذَا الْإِبْدَالِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ تَذَكَّرُوا بِالْقُرْآنِ وَهُمُ الْمُسلمُونَ قد شاؤوا الِاسْتِقَامَةَ لِأَنْفُسِهِمْ فَنَصَحُوا أَنْفُسَهُمْ، وَهُوَ ثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ.
وَفِي مَفْهُومِ الصِّلَةِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَتَذَكَّرُوا بِالْقُرْآنِ مَا حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ التَّذَكُّرِ بِهِ إِلَّا أَنهم لم يشاؤوا أَنْ يَسْتَقِيمُوا، بَلْ رَضُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِالِاعْوِجَاجِ، أَيْ سُوءِ الْعَمَلِ وَالِاعْتِقَادِ، لِيَعْلَمَ السَّامِعُونَ أَنَّ دَوَامَ أُولَئِكَ عَلَى الضَّلَالِ لَيْسَ لِقُصُورِ الْقُرْآنِ عَنْ هَدْيِهِمْ بَلْ لِأَنَّهُمْ أَبَوْا أَنْ يَهْتَدُوا بِهِ، إِمَّا لِلْمُكَابَرَةِ فَقَدْ كَانُوا يَقُولُونَ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: ٥] وَإِمَّا لِلْإِعْرَاضِ عَنْ تَلَقِّيهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: ٢٦].
وَالِاسْتِقَامَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِصَلَاحِ الْعَمَلِ الْبَاطِنِيِّ، وَهُوَ الِاعْتِقَادُ، وَالظَّاهِرِيِّ وَهُوَ الْأَفْعَالُ وَالْأَقْوَالُ تَشْبِيهًا لِلْعَمَلِ بِخَطٍّ مُسْتَقِيمٍ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ. ثُمَّ إِنَّ الَّذِينَ لَمْ يَشَاءُوا أَنْ
يَسْتَقِيمُوا هُمُ الْكَافِرُونَ بِالْقُرْآنِ وَهُمُ الْمَسُوقُ لَهُمُ الْكَلَامُ، وَيُلْحَقُ بِهِمْ عَلَى مَقَادِيرَ مُتَفَاوِتَةٍ كُلُّ مَنْ فَرَّطَ فِي الِاهْتِدَاءِ بِشَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يَسْتَقِيمَ لِمَا فَرَّطَ مِنْهُ فِي أَحْوَالٍ أَوْ أَزْمَانٍ أَوْ أَمْكِنَةٍ.


الصفحة التالية
Icon