الْمُرَادَ مِنَ التَّعْرِيفِ الْعَهْدُ أَوِ الْجِنْسُ فَكَانَ الْجَمْعُ تَنْصِيصًا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَهَذِهِ سُنَّةُ الْجُمُوعِ مَعَ (الْ) الِاسْتِغْرَاقِيَّةِ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَلَمَّا صَارَتِ الْجَمْعِيَّةُ قَرِينَةً عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ بَطَلَ مِنْهَا مَعْنَى الْجَمَاعَاتِ فَكَانَ اسْتِغْرَاقُ الْجُمُوعِ مُسَاوِيًا لِاسْتِغْرَاقِ الْمُفْرَدَاتِ أَوْ أَشْمَلَ مِنْهُ. وَبَطَلَ مَا شَاعَ عِنْدَ مُتَابِعِي السَّكَّاكِيِّ مِنْ قَوْلِهِمُ اسْتِغْرَاقُ الْمُفْرَدِ أَشْمَلُ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَة: ٣١].
[٣]. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
وَصْفَانِ مُشْتَقَّانِ مِنْ رَحِمَ، وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ عَنِ الْمبرد أَن الرَّحْمَن اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ نُقِلَ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ قَالَ وَأَصْلُهُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ (أَيْ فَأُبْدِلَتْ خَاؤُهُ حَاءً مُهْمَلَةً عِنْدَ أَكْثَرِ الْعَرَبِ كَشَأْنِ التَّغْيِيرِ فِي التَّعْرِيبِ) وَأَنْشَدَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَ جَرِيرٍ يُخَاطِبُ الْأَخْطَلَ:
أَوَ تَتْرُكَنَّ إِلَى الْقِسِّيسِ هِجْرَتَكُمْ | وَمَسْحَكُمْ صُلْبَكُمْ رَخَمَانِ قُرْبَانَا |
أَقْدَمُ مِنَ الْعِبْرَانِيَّةِ وَلَعَلَّ الَّذِي جَرَّأَهُ عَلَى ادِّعَاءِ أَن الرَّحْمَن اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ مَا حَكَاهُ الْقُرْآنُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِ: قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: ٦٠] وَيَقْتَضِي أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ هَذَا الِاسْمَ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا سَيَأْتِي بعض عَرَبِ الْيَمَنِ يَقُولُونَ رَخِمَ رُخْمَةً بِالْمُعْجَمَةِ.
وَاسْمُ الرَّحْمَةِ مَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لِرِقَّةِ الْخَاطِرِ وَانْعِطَافِهِ نَحْوَ حَيٍّ بِحَيْثُ تَحْمِلُ مَنِ اتَّصَفَ بِهَا عَلَى الرِّفْقِ بِالْمَرْحُومِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَدَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُ وَإِعَانَتِهِ عَلَى الْمَشَاقِّ.
فَهِيَ مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ لِأَنَّهَا انْفِعَالٌ، وَلِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ انْدِفَاعٌ يَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى أَفْعَالٍ وُجُودِيَّةٍ بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ وَعَلَى قَدْرِ قُوَّةِ انْفِعَالِهِ، فَأَصْلُ الرَّحْمَةِ مِنْ مَقُولَةِ الِانْفِعَالِ وَآثَارُهَا مِنْ مَقُولَةِ الْفِعْلِ، فَإِذَا وُصِفَ مَوْصُوفٌ بِالرَّحْمَةِ كَانَ مَعْنَاهُ حُصُولُ الِانْفِعَالِ الْمَذْكُورِ فِي نَفْسِهِ، وَإِذَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ رَحِمَ غَيْرَهُ فَهُوَ عَلَى مَعْنَى صَدَرَ عَنْهُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الرَّحْمَةِ، إِذْ لَا تَكُونُ تَعْدِيَةُ فِعْلِ رَحِمَ إِلَى الْمَرْحُومِ إِلَّا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَلَيْسَ لِمَاهِيَّةِ الرَّحْمَةِ جُزْئِيَّاتٌ وُجُودِيَّةٌ وَلَكِنَّهَا جُزْئِيَّاتٌ مِنْ آثَارِهَا. فَوَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِصِفَاتِ الرَّحْمَةِ فِي اللُّغَات ناشىء عَلَى مِقْدَارِ عَقَائِدِ أَهْلِهَا فِيمَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ وَيَسْتَحِيلُ، وَكَانَ أَكْثَرُ الْأُمَمِ مُجَسِّمَةٌ ثُمَّ يَجِيءُ ذَلِكَُُ
مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانِيًّا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [الْبَقَرَة: ١٨٤] يُثِيرُ سُؤَالَ السَّامِعِ عَنْ تَعْيِينِ هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ شَهْرًا بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ أَيَّاماً: بَدَلَ تَفْصِيلٍ.
وَحَذْفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ إِذَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ مَا فِيهِ تَفْصِيلٌ وَتَبْيِينٌ لِأَحْوَالِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فَهُمْ يَحْذِفُونَ ضَمِيرَهُ، وَإِذَا جَوَّزْتَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ نَسْخًا لِصَدْرِ الْآيَةِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ هِيَ شَهْرُ رَمَضَانَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ شَهْرُ رَمَضَان مُبْتَدأ خبرهم قَوْلُهُ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وَاقْتِرَانُ الْخَبَرِ بِالْفَاءِ حِينَئِذٍ مُرَاعَاةٌ لِوَصْفِ الْمُبْتَدَأِ بِالْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ شَبِيهٌ بِالشَّرْطِ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، أَوْ عَلَى زِيَادَةِ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ:
وَقَائِلَةٍ خَوْلَانُ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ (١) أَنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ، وَكِلَا هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ضَعِيفٌ.
وَالشَّهْرُ جُزْءٌ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ تَقْسِيمِ السَّنَةِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [التَّوْبَة: ٣٦] وَالشَّهْرُ يَبْتَدِئُ مِنْ ظُهُورِ الْهِلَالِ إِلَى الْمُحَاقِ ثُمَّ ظُهُورِ الْهِلَالِ مَرَّةً أُخْرَى، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الشُّهْرَةِ لِأَنَّ الْهِلَالَ يَظْهَرُ لَهُمْ فَيُشْهِرُونَهُ لِيَرَاهُ النَّاسُ فَيَثْبُتُ الشَّهْرُ عِنْدَهُمْ.
وَرَمَضَانُ عَلَمٌ وَلَيْسَ مَنْقُولًا إِذْ لَمْ يُسْمَعْ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ الْفَعْلَانِ مِنْ رَمِضَ بِكَسْرِ الْمِيمِ إِذَا احْتَرَقَ لِأَنَّ الْفَعْلَانَ، يَدُلُّ عَلَى الِاضْطِرَابِ وَلَا مَعْنَى لَهُ هُنَا، وَقِيلَ هُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الْمَصْدَرِ. وَرَمَضَانُ عَلَمٌ عَلَى الشَّهْرِ التَّاسِعِ مِنْ أَشْهُرِ السَّنَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْقَمَرِيَّةِ الْمُفْتَتَحَةِ بِالْمُحَرَّمِ فَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَفْتَتِحُونَ أَشْهُرَ الْعَامِ بِالْمُحَرَّمِ لِأَنَّ نِهَايَةَ الْعَامِ عِنْدَهُمْ هِيَ
انْقِضَاءُ الْحَجِّ وَمُدَّةُ الرُّجُوعِ إِلَى آفَاقِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَبَيْدًا جَعَلَ جُمَادَى الثَّانِيَةَ وَهُوَ نِهَايَةُ فَصْلِ الشِّتَاءِ شَهْرًا سَادِسًا إِذْ قَالَ:
حَتَّى إِذَا سَلَخَا جُمَادَى سِتَّةً | جُزْءًا فَطَالَ صِيَامُهُ وَصِيَامُهَا |
_________
(١) تَمَامه:
وأكرومة الحيّين خلو كَمَا هيا
وَزِيدَتْ كَلِمَةُ (عِنْدَ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مِنْ هُنَا لِلِابْتِدَاءِ الْحَقِيقِيِّ دُونَ الْمَجَازِيِّ، أَيْ هُوَ مُنَزَّلٌ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِهِ، وَلَيْسَ كَقَوْلِهِ: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النِّسَاء: ١٩٧].
وَجُمْلَةُ وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ تَذْيِيلٌ، لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الرَّاسِخِينَ، مَسُوقٌ مَسَاقَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ فِي اهْتِدَائِهِمْ إِلَى صَحِيحِ الْفَهْمِ.
وَالْأَلْبَابُ: الْعُقُولُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبابِ فِي سُورَة الْبَقَرَة [١٩٧].
[٨، ٩]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٨ إِلَى ٩]
رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩)
دُعَاءٌ علّمه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ: لِأَنَّ الْمَوْقِعَ الْمَحْكِيَّ مَوْقِعُ عِبْرَةٍ وَمَثَارٍ لِهَوَاجِسِ الْخَوْفِ مِنْ سُوءِ الْمَصِيرِ إِلَى حَالِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَمَا هُمْ إِلَّا مِنْ عُقَلَاءِ الْبَشَرِ، لَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ، وَلَا فِي سَلَامَةِ الْعُقُولِ وَالْمَشَاعِرِ، فَمَا كَانَ ضلالهم إلّا عَن حِرْمَانِهِمُ التَّوْفِيقَ، وَاللُّطْفَ، وَوَسَائِلَ الِاهْتِدَاءِ.
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ تَعْقِيبِ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ [آل عمرَان: ٧] الْآيَاتِ بِقَوْلِهِ: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا قُصِدَ بِوَصْفِ الْكِتَابِ بِأَنَّ مِنْهُ مُحْكَمًا وَمِنْهُ مُتَشَابِهًا، إِيقَاظَ الْأُمَّةِ إِلَى ذَلِكَ لِتَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي تَدَبُّرِ كِتَابِهَا: تَحْذِيرًا لَهَا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الضَّلَالِ، الَّذِي أَوْقَعَ الْأُمَمَ فِي كَثِيرٍ مِنْهُ وُجُودُ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي كُتُبِهَا، وَتَحْذِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ مِنِ اتِّبَاعِ الْبَوَارِقِ الْبَاطِلَةِ مِثْلَ مَا وَقَعَ فِيهِ بَعْضُ الْعَرَبِ مِنَ الرِّدَّةِ وَالْعِصْيَانِ، بَعْدَ وَفَاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِتَوَهُّمِ أَنَّ التَّدَيُّنَ بِالدِّينِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ وُجُودِ الرَّسُولِ بَيْنَهُمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَدْعُو بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي صَلَاتِهِ مُدَّةَ ارْتِدَادِ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْعَرَبِ، فَفِي «الْمُوَطَّأِ»، عَنِ الصُّنَابِحِيِّ: أَنَّهُ قَالَ: «قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَصَلَّيْتُ
وَهُوَ بَدْرٌ، فَلَمْ يَجِدُوا الْمُشْرِكِينَ وانتظروهم هُنَالك، وَكَانَتْ هُنَالِكَ سُوقٌ فَاتَّجَرُوا وَرَجَعُوا سَالِمِينَ غَيْرَ مَذْمُومِينَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ أَيِ الرَّكْبُ الْعَبْدِيُّونَ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ أَيْ إِنَّ قُرَيْشًا قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ. وَحَذَفَ مَفْعُولَ جَمَعُوا أَيْ جَمَعُوا أَنْفُسَهُمْ وَعَدَدَهُمْ وَأَحْلَافَهُمْ كَمَا فَعَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ الْأَوَّلِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ: إِنَّ لَفْظَ النَّاسَ هُنَا أُطْلِقَ عَلَى نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي سُفْيَانَ، وَجَعَلُوهُ شَاهِدًا عَلَى اسْتِعْمَالِ النَّاسِ بِمَعْنَى الْوَاحِدِ وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُهُ، وَإِطْلَاقُ لَفْظِ النَّاسَ مُرَادًا بِهِ وَاحِدٌ أَوْ نَحْوُهُ مُسْتَعْمَلٌ لِقَصْدِ الْإِبْهَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النِّسَاء: ٥٤] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَعْنِي بِ (النَّاسَ) مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ: فَزادَهُمْ إِيماناً أَيْ زَادَهُمْ قَوْلُ النَّاسِ، فَضَمِيرُ الرَّفْعِ الْمُسْتَتِرِ فِي
فَزادَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْقَوْلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ فِعْلِ قالَ لَهُمُ النَّاسُ أَوْ عَائِدٌ إِلَى النَّاسُ، ولمّا كَانَ ذَاك الْقَوْلُ مُرَادًا بِهِ تَخْوِيفُ الْمُسْلِمِينَ وَرُجُوعِهِمْ عَنْ قَصْدِهِمْ. وَحَصَلَ مِنْهُ خِلَافُ مَا أَرَادَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، جَعَلَ مَا حَصَلَ بِهِ زَائِدًا فِي إِيمَانِ الْمُسْلِمِينَ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِيمَانَ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْعَمَلِ، أَيِ الْعَزْمِ عَلَى النَّصْرِ وَالْجِهَادِ، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وَمَسْأَلَةُ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنَقْصِهِ مَسْأَلَةٌ قَدِيمَةٌ، وَالْخِلَافُ فِيهَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَة: ١٤٣] يَعْنِي صَلَاتَكُمْ. أَمَّا التَّصْدِيقُ الْقَلْبِيُّ وَهُوَ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى إِثْبَاتِ وُجُودِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَبَعْثِهِ الرُّسُلَ وَصِدْقِ الرَّسُولِ، فَلَا يَقْبَلُ النَّقْصَ، وَلَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ، وَلِذَلِكَ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا هُوَ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى اللَّفْظِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأَخْلَاقِ أَنَّ الِاعْتِقَادَ الْجَازِمَ إِذَا تَكَرَّرَتْ أَدِلَّتُهُ، أَوْ طَالَ زَمَانُهُ، أَوْ قَارَنَتْهُ التَّجَارِبُ، يَزْدَادُ جَلَاءً وَانْكِشَافًا، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَلَكَةِ، فَلَعَلَّ هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يُرَادُ بِالزِّيَادَةِ، بِقَرِينَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُطْلِقْ وَصْفَ النَّقْصِ فِي الْإِيمَانِ بَلْ مَا ذَكَرَ إِلَّا الزِّيَادَةَ، وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَة: ٢٦٠].
وَتُخَالِطَ بِشَاشَتُهُ قُلُوبَهُمْ، فَهُمْ يَقْتَحِمُونَهُ عَلَى شَكٍّ وَتَرَدُّدٍ فَيَصِيرُ إِيمَانًا رَاسِخًا، وَمِمَّا يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ ثِقَةُ السَّابِقِينَ فِيهِ بِاللَّاحِقِينَ بِهِمْ.
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَعَادَ اللَّهُ الْأَمْرَ فَقَالَ: فَتَبَيَّنُوا تَأْكِيدًا لِ (تَبَيَّنُوا) الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، وَذَيَّلَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَهُوَ يَجْمَعُ وعيدا ووعدا.
[٩٥، ٩٦]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٩٥ إِلَى ٩٦]
لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦)
وَلَمَّا لَامَ اللَّهُ بَعْضَ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مَنِ التَّعَمُّقِ فِي الْغَايَةِ مِنَ الْجِهَادِ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِبَيَانِ فَضْلِ الْمُجَاهِدِينَ كَيْلَا يَكُونَ ذَلِكَ اللَّوْمُ مُوهِمًا انْحِطَاطَ فَضِيلَتِهِمْ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِمْ، عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ النِّذَارَةِ بِالْبِشَارَةِ دَفْعًا لِلْيَأْسِ مِنَ الرَّحْمَةِ عَنْ أَنْفُسِ الْمُسْلِمِينَ.
يَقُولُ الْعَرَبُ «لَا يَسْتَوِي وَلَيْسَ سَوَاءً» بِمَعْنَى أَنَّ أَحَدَ الْمَذْكُورِينَ أَفْضَلُ مِنَ الْآخَرِ.
وَيَعْتَمِدُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَعْيِينِ الْمُفَضَّلِ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ.
قَالَ السَّمَوْأَلُ أَوْ غَيْرُهُ:
فَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ وَقَالَ تَعَالَى: لَيْسُوا سَواءً [آل عمرَان: ١١٣]، وَقَدْ يُتْبِعُونَهُ بِمَا يُصَرِّحُ بِوَجْهِ نَفْيِ السَّوَائِيَّةِ: إِمَّا لِخَفَائِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا [الْحَدِيد: ١٠]، وَقَدْ يَكُونُ التَّصْرِيحُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ:
نَحْوَ:
«يَا بن آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ»، أَوْ مَجْمُوعًا نَحْوَ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ [الْأَعْرَاف: ٣١].
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ مُتَعَلِّقًا بِ اتْلُ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْحَقِّ هُنَا الصِّدْقُ مِنْ حَقَّ الشَّيْءُ إِذَا ثَبَتَ، وَالصِّدْقُ هُوَ الثَّابِتُ، وَالْكَذِبُ لَا ثُبُوتَ لَهُ فِي الْوَاقِعِ، كَمَا قَالَ:
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الْكَهْف: ١٣]. وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ ضِدَّ الْبَاطِلِ وَهُوَ الْجِدُّ غَيْرُ الْهَزْلِ، أَيِ اتْلُ هَذَا النَّبَأَ مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ، أَيْ بِالْغَرَضِ الصَّحِيحِ لَا لِمُجَرَّدِ التَّفَكُّهِ وَاللَّهْوِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ بِالْحَقِّ مُشِيرًا إِلَى مَا خفّ بِالْقِصَّةِ مِنْ زِيَادَاتٍ زَادَهَا أَهْلُ الْقَصَصِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أَسْبَابِ قَتْلِ أَحَدِ الْأَخَوَيْنِ أَخَاهُ.
وإِذْ ظَرْفُ زَمَانٍ لِ نَبَأَ، أَيْ خَبَرِهِمَا الْحَاصِلِ وَقْتَ تَقْرِيبِهِمَا قُرْبَانًا، فَيَنْتَصِبُ (إِذْ) عَلَى الْمَفْعُولِ فِيهِ.
وَفِعْلُ قَرَّبا هُنَا مُشْتَقٌّ مِنَ الْقُرْبَانِ الَّذِي صَارَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الْجَامِدِ، وَأَصْلُهُ مَصْدَرٌ كَالشُّكْرَانِ وَالْغُفْرَانِ وَالْكُفْرَانِ، يُسَمَّى بِهِ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْمَرْءُ إِلَى رَبِّهِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ أَوْ صَلَاةٍ، فاشتقّ من الْقُرْآن قَرَّبَ، كَمَا اشْتُقَّ مِنَ النُّسُكِ نَسَكَ، وَمِنَ الْأُضْحِيَّةِ ضَحَّى، وَمِنَ الْعَقِيقَةِ عَقَّ. وَلَيْسَ قَرَّبا هُنَا بِمَعْنَى أَدْنَيَا إِذْ لَا مَعْنَى لِذَلِكَ هُنَا.
وَفِي التَّوْرَاةِ هُمَا (قَايِينُ) - وَالْعَرَبُ يُسَمُّونَهُ قَابِيلَ- وَأَخُوهُ (هَابِيلُ). وَكَانَ قَابِيلُ فَلَّاحًا فِي الْأَرْضِ، وَكَانَ هَابِيلُ رَاعِيًا لِلْغَنَمِ، فَقَرَّبَ قَابِيلُ مِنْ ثِمَارِ حَرْثِهِ قُرْبَانًا وَقَرَّبَ هَابِيلُ مِنْ أَبْكَارِ غَنَمِهِ قُرْبَانًا. وَلَا نَدْرِي هَلْ كَانَ الْقُرْبَانُ عِنْدَهُمْ يُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ وَنَحْوِهِمْ أَوْ كَانَ يُتْرَكُ لِلنَّاسِ عَامَّةً. فَتَقَبَّلَ اللَّهُ قُرْبَانَ هَابِيلَ وَلَمْ يَتَقَبَّلْ قُرْبَانَ قَابِيلَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَبُولَ قُرْبَانِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ حَصَلَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّه لِآدَمَ. وَإِنَّمَا لَمْ يَتَقَبَّلِ اللَّهُ قُرْبَانَ قَابِيلَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَجُلًا صَالِحًا بَلْ كَانَتْ لَهُ خَطَايَا. وَقِيلَ: كَانَ كَافِرًا، وَهَذَا يُنَافِي كَوْنَهُ يُقَرِّبُ قُرْبَانًا.
وَأُفْرِدَ الْقُرْبَانُ فِي الْآيَةِ لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ، وَإِنَّمَا قَرَّبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
فَهِيَ اسْتِئْنَافٌ بَعْدَ جُمْلَةِ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً. خَصَّ هَذَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ نَفْيَ الشَّرِيكِ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ هُوَ أَصْلُ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَبَعْدَ أَنْ قَرَّرَهُمْ أَنَّ شَهَادَةَ اللَّهِ أَكْبَرُ شَهَادَةً وَأَشْهَدَ اللَّهَ عَلَى نَفْسِهِ فِيمَا بَلَّغَ، وَعَلَيْهِمْ فِيمَا أَعْرَضُوا وَكَابَرُوا اسْتَأْنَفَ اسْتِفْهَامًا عَلَى طَرِيقَةِ الْإِنْكَارِ اسْتِقْصَاءً فِي الْإِعْذَارِ لَهُمْ فَقَالَ: أَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ عَلَى مَا أَصْرَرْتُمْ عَلَيْهِ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى كَمَا شَهِدْتُ أَنَا عَلَى مَا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ، وَالْمُقَرَّرُ عَلَيْهِ هُنَا أَمْرٌ يُنْكِرُونَهُ بِدَلَالَةِ الْمَقَامِ.
وَإِنَّمَا جَعَلَ الِاسْتِفْهَامَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي الْإِنْكَارِ عَنِ الْخَبَرِ الْمُوَكَّدِ بِ (إِنَّ) وَلَامِ الِابْتِدَاءِ لِيُفِيدَ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ هَذِهِ مِمَّا لَا يَكَادُ يُصَدِّقُ السَّامِعُونَ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَهَا لِاسْتِبْعَادِ صُدُورِهَا مِنْ عُقَلَاءَ، فَيَحْتَاجُ الْمُخْبِرُ عَنْهُمْ بِهَا إِلَى تَأْكِيدِ خَبَرِهِ بِمُؤَكِّدَيْنِ فَيَقُولُ: إِنَّهُمْ لَيَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى، فَهُنَالِكَ يَحْتَاجُ مُخَاطِبُهُمْ بِالْإِنْكَارِ إِلَى إِدْخَالِ أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُحْكَى بِهَا خَبَرُهُمْ، فَيُفِيدُ مِثْلُ هَذَا التَّرْكِيبِ إِنْكَارَيْنِ: أَحَدُهُمَا صَرِيحٌ بِأَدَاةِ الْإِنْكَارِ، وَالْآخَرُ كَنَائِيٌّ بِلَازِمِ تَأْكِيدِ الْإِخْبَارِ لِغَرَابَةِ هَذَا الزَّعْمِ بِحَيْثُ يَشُكُّ السَّامِعُ فِي صُدُورِهِ مِنْهُمْ.
وَمعنى لَتَشْهَدُونَ لتدّعونا دَعْوَى تُحَقِّقُونَهَا تَحْقِيقًا يُشْبِهُ الشَّهَادَةَ عَلَى أَمْرٍ مُحَقَّقِ الْوُقُوع، فإطلاق لَتَشْهَدُونَ مُشَاكَلَةٌ لِقَوْلِهِ قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.
وَالْآلِهَةُ جَمْعُ إِلَهٍ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ الْوَصْفُ بِالتَّأْنِيثِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا لَا تَعْقِلُ فَإِنَّ جَمْعَ غَيْرِ الْعَاقِلِ يَكُونُ وَصْفُهُ كَوَصْفِ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ.
وَقَوْلُهُ: قُلْ لَا أَشْهَدُ جَوَابٌ لِلِاسْتِفْهَامِ الَّذِي فِي قَوْله: أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ لِأَنَّهُ بِتَقْدِيرِ: قُلْ أَإِنَّكُمْ، وَوَقَعَتِ الْمُبَادرَة بِالْجَوَابِ بتبرّي الْمُتَكَلِّمِ مِنْ أَنْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ لِأَنَّ جَوَابَ الْمُخَاطَبِينَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مَعْلُومٌ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِهِ فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ بَعْدَ سُؤَالِهِمْ كَأَنَّهُ يَقُولُ: دَعْنَا مِنْ شَهَادَتِكُمْ وَخُذُوا شَهَادَتِي فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ بِذَلِكَ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ [الْأَنْعَام: ١٥].
اقْتَضَتْهُ الْإِضَافَةُ، إِذِ الْإِضَافَةُ هُنَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ إِلَى الْفَاعِلِ، أَيْ مَا عَهِدَ اللَّهُ بِهِ إِلَيْكُمْ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَيَصِحُّ أَن تكون إِضَافَة الْمصدر إِلَى مَفْعُولِهِ، أَيْ مَا عَاهَدْتُمُ اللَّهَ أَنْ تَفْعَلُوهُ، وَالْتَزَمْتُمُوهُ وَتَقَلَّدْتُمُوهُ، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، أَيِ الْعَهْدُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِحِفْظِهِ، وَحَذَّرَ مِنْ خَتْرِهِ، وَهُوَ الْعُهُودُ الَّتِي تَنْعَقِدُ بَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ سَوَاءٌ كَانَ بَيْنَ الْقَبَائِلِ أَمْ كَانَ بَيْنَ الْآحَادِ. وَلِأَجْلِ مُرَاعَاةِ هَذِهِ الْمَعَانِي النَّاشِئَةِ عَنْ صَلَاحِيَةِ الْإِضَافَةِ لِإِفَادَتِهَا عُدِلَ إِلَى طَرِيقِ إِسْنَادِ اسْمِ الْعَهْدِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ دُونَ طَرِيقِ الْفِعْلِ، بِأَنْ يُقَالَ: وَبِمَا عَاهَدْتُمُ اللَّهَ عَلَيْهِ، أَو نَحن ذَلِكَ مَا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا. وَإِذْ كَانَ الْخِطَابُ بقوله: تَعالَوْا [الْأَنْعَام: ١٥١] لِلْمُشْرِكِينَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْعَهْدُ شَيْئًا قَدْ تَقَرَّرَتْ مَعْرِفَتُهُ بَيْنَهُمْ، وَهُوَ الْعُهُودُ الَّتِي يَعْقِدُونَهَا بِالْمُوَالَاةِ وَالصُّلْحِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْوَفَاءِ بِمَا عَاقَدُوا عَلَيْهِ. وَأُضِيفَ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَالَفُونَ عِنْدَ التَّعَاقُدِ وَلِذَلِكَ يُسَمُّونَ الْعَهْدَ حِلْفًا، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
وَاذْكُرُوا حِلْفَ ذِي الْمَجَازِ وَمَا | قُدِّمَ فِيهِ الْعُهُودُ وَالْكُفَلَاءُ |
وَنُوجَدُ نَحْنُ أَمْنَعَهُمْ ذِمَارًا | وَأَوْفَاهُمْ إِذَا عَقَدُوا يَمِينَا |
حِلْفُ الْفُضُولِ، وَحِلْفُ الْمُطَيَّبِينَ، وَكِلَاهُمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى نَفْيِ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ عَنِ الْقَاطِنِينَ بِمَكَّةَ، وَذَلِكَ تَحْقِيقٌ لِعَهْدِ اللَّهِ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَجْعَلَ مَكَّةَ بَلَدًا آمِنًا وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، وَقَدِ اعْتَدَى الْمُشْرِكُونَ عَلَى ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَظَلَمُوهُمْ مِثْلَ عَمَّارٍ، وَبِلَالٍ، وَعَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ، وَنَحْوِهِمْ، فَهُوَ يَقُولُ لَهُمْ فِيمَا يَتْلُو عَلَيْهِمْ أَنَّ خَفْرَ عَهْدِ اللَّهِ بِأَمَانِ مَكَّةَ، وَخَفْرَ عُهُودِكُمْ بِذَلِكَ، أَوْلَى بِأَنْ تُحَرِّمُوهُ
مِنِ اجْتِنَائِهِ مِثْلَ الشَّوْكِ الشَّدِيدِ، فَالْأَسَدُ غَيْرُ مُسَخَّرٍ بِهَذَا الْمَعْنَى وَلَكِنَّهُ بِحَيْثُ يُسَخَّرُ إِذَا شَاءَ الْإِنْسَانُ الِانْتِفَاعَ بِلَحْمِهِ أَوْ جِلْدِهِ بِحِيلَةٍ لِصَيْدِهِ بِزُبْيَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية: ١٣] بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَجَازِ عَلَى تَفَاوُتٍ فِي قُوَّةِ الْعَلَاقَةِ. فَقَوْلُهُ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أُطْلِقَ التَّسْخِيرُ فِيهِ مَجَازًا عَلَى جَعْلِهَا خَاضِعَةً لِلنِّظَامِ الَّذِي خَلَقَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ بِدُونِ تَغْيِيرٍ، مَعَ أَنَّ شَأْنَ عِظَمِهَا أَنْ لَا يَسْتَطِيعَ غَيْرُهُ تَعَالَى وَضْعَهَا عَلَى نِظَامٍ مَحْدُودٍ مُنْضَبِطٍ.
وَلَفْظُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: بِأَمْرِهِ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي التَّصْرِيفِ بِحَسْبِ الْقُدْرَةِ الْجَارِيَةِ عَلَى وَفْقِ الْإِرَادَةِ. وَمِنْهُ أَمْرُ التَّكْوِينِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: ٨٢] لِأَنَّ (كُنْ) تَقْرِيبٌ لِنَفَاذِ الْقُدْرَةِ الْمُسَمَّى بِالتَّعَلُّقِ التَّسْخِيرِيِّ عِنْدَ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ التَّنْجِيزِيِّ أَيْضًا فَالْأَمْرُ هُنَا مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ تَصْرِيفُ نِظَامِ
الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا.
وَجُمْلَةُ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافَ التَّذْيِيلِ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ:
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لِإِفَادَةِ تَعْمِيمِ الْخَلْقِ. وَالتَّقْدِيرُ: لِمَا ذُكِرَ آنِفًا وَلِغَيْرِهِ.
فَالْخَلْقُ: إِيجَادُ الْمَوْجُودَاتِ، وَالْأَمْرُ تَسْخِيرُهَا لِلْعَمَلِ الَّذِي خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ.
وَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ لِتَعِيَ نُفُوسُ السَّامِعِينَ هَذَا الْكَلَامَ الْجَامِعَ.
وَاللَّامُ الْجَارَّةُ لِضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لَامُ الْمِلْكِ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ هُنَا لِتَخْصِيصِهِ بِالْمُسْنِدِ إِلَيْهِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، فَتُفِيدُ الْجُمْلَةُ قَصْرَ جِنْسِ الْخَلْقِ وَجِنْسِ الْأَمْرِ عَلَى الْكَوْنِ فِي مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ شَيْء من هدا الْجِنْسِ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ مَعْنَاهُ: لَيْسَ لِآلِهَتِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْخَلْقِ وَلَا مِنَ الْأَمْرِ، وَأَمَّا قَصْرُ الْجِنْسِ فِي الْوَاقِعِ عَلَى الْكَوْنِ فِي مُلْكِ الله تَعَالَى فَذَلِك يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْقَرَائِنِ، فَالْخَلْقُ مَقْصُورٌ حَقِيقَةً عَلَى الْكَوْنِ فِي مُلْكِهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الْأَمْرُ
: «لَوْ قَالُوا نَعَمْ لَكَفَرُوا» أَيْ لَكَانَ جَوَابُهُمْ مُحْتَمِلًا لِلْكُفْرِ، وَلَمَّا كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ إِقْرَارٍ كَانَ الِاحْتِمَالُ فِيهِ تَفَصِّيًا مِنَ الِاعْتِرَافِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ: ذُرِّيَّاتِهِمْ، بِالْجَمْعِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ ذُرِّيَّتَهُمْ، بِالْإِفْرَادِ.
وَقَوْلُهُمْ: شَهِدْنا تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ بَلى وَالشَّهَادَةُ هُنَا أَيْضًا بِمَعْنَى الْإِقْرَارِ.
وَوَقَعَ أَنْ تَقُولُوا فِي مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ لِفِعْلِ الْأَخْذِ وَالْإِشْهَادِ، فَهُوَ على تَقْرِير لَامِ التَّعْلِيلِ الْجَارَةِ، وَحَذْفُهَا مَعَ أَنْ جَارٍ عَلَى الْمُطَّرِدِ الشَّائِعِ. وَالْمَقْصُودُ التَّعْلِيلُ بِنَفْيِ أَنْ يَقُولُوا إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ لَا بِإِيقَاعِ الْقَوْلِ، فَحُذِفَ حَرْفُ النَّفْيِ جَريا على شُيُوخ حَذْفِهِ مَعَ الْقَوْلِ، أَوْ هُوَ تَعْلِيلٌ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ، إِنْ لَمْ يَقَعْ إِشْهَادُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٥٦].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ تَقُولُوا- بِتَاءِ الْخِطَابِ- وَقَدْ حُوِّلَ الْأُسْلُوبُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، ثُمَّ مِنْ خِطَابِ الرَّسُولِ إِلَى خِطَابِ قَوْمِهِ، تَصْرِيحًا بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قِصَّةِ أَخْذِ الْعَهْدِ تَذْكِيرُ الْمُشْرِكِينَ بِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِي الْفِطْرَةِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ هُوَ مِنْ تَحْوِيلِ الْخِطَابِ عَنْ مُخَاطَبٍ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَيْسَ مِنَ الِالْتِفَافِ لِاخْتِلَافِ الْمُخَاطَبِينَ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَحْدَهُ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى ذُرِّيَّاتِ بَنِي آدَمَ.
وَالْإِشَارَةُ بِ هَذَا إِلَى مَضْمُونِ الِاسْتِفْهَامِ وَجَوَابِهِ وَهُوَ الِاعْتِرَافُ بِالرُّبُوبِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى
عَلَى تَقْدِيرِهِ بِالْمَذْكُورِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ لَمَّا جُعِلَ فِي الْفِطْرَةِ عِنْدَ التَّكْوِينِ كَانَتْ عُقُولُ الْبَشَرِ مُنْسَاقَةً إِلَيْهِ، فَلَا يَغْفُلُ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَيَعْتَذِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذَا سُئِلَ عَنِ الْإِشْرَاكِ، بِعُذْرِ الْغَفْلَةِ، فَهَذَا إِبْطَالٌ لِلِاعْتِذَارِ بِالْغَفْلَةِ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ تَقْدِيرُ حَرْفِ نَفْيٍ أَيْ أَنْ لَا تَقُولُوا إِلَخْ.
وَعُطِفَ عَلَيْهِ الِاعْتِذَارُ بِالْجَهْلِ دُونَ الْغَفْلَةِ بِأَنْ يَقُولُوا إِنَّنَا اتَّبَعْنَا آبَاءَنَا وَمَا ظَنَنَّا الْإِشْرَاكَ إِلَّا حَقًّا، فَلَمَّا كَانَ فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ الْعِلْمُ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ بَطَلَ الِاعْتِذَارُ
كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الْكَهْف: ٥]. وَفِي هَذَا أَيْضًا إِلْزَامٌ لَهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَسَدُّ بَابِ تَنَصُّلِهِمْ مِنْهُ إِذْ هُوَ إِقْرَارُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَصَرِيحِ كَلَامِهِمْ.
وَالْمُضَاهَاةُ: الْمُشَابَهَةُ، وَإِسْنَادُهَا إِلَى الْقَائِلِينَ: عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ ظَاهِرٍ مِنَ الْكَلَامِ، أَيْ يُضَاهِي قَوْلَهُمْ.
والَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ هُمُ الْمُشْرِكُونَ: مِنَ الْعَرَبِ، وَمِنَ الْيُونَانِ، وَغَيْرِهِمْ، وَكَوْنِهِمْ مِنْ قَبْلِ النَّصَارَى ظَاهَرٌ، وَأَمَّا كَوْنُهُمْ مِنْ قَبْلِ الْيَهُودِ: فَلِأَنَّ اعْتِقَادَ بُنُوَّةِ عُزَيْرَ طَارِئٌ فِي الْيَهُودِ وَلَيْسَ مِنْ عَقِيدَةِ قُدَمَائِهِمْ.
وَجُمْلَةُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ دُعَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ، وَهُوَ مُرَكَّبٌ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّعَجُّبِ مِنْ عَمَلٍ شَنِيعٍ، وَالْمُفَاعَلَةُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الدُّعَاءِ: أَيْ قَتَلَهُمُ اللَّهُ قَتْلًا شَدِيدًا. وَجُمْلَةُ التَّعْجِيبِ مُسْتَأْنَفَةٌ كَشَأْنِ التَّعَجُّبِ.
وَجُمْلَةُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِيهَا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ فِي الِاتِّبَاعِ الْبَاطِلِ، حَتَّى شُبِّهَ الْمَكَانُ الَّذِي يُصْرَفُونَ إِلَيْهِ بِاعْتِقَادِهِمْ بِمَكَانٍ مَجْهُولٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ بِاسْمِ الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْمَكَانِ، وَمَعْنَى يُؤْفَكُونَ يُصْرَفُونَ. يُقَالُ: أَفَكَهُ يَأْفِكُهُ إِذَا صَرَفَهُ، قَالَ تَعَالَى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات: ٩] وَالْإِفْكُ بِمَعْنَى الْكَذِبِ قَدْ جَاءَ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ لِأَنَّ الْكَاذِبَ يَصْرِفُ السَّامِعَ عَنِ الصِّدْقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ غير مرّة.
[٣١]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٣١]
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)
الْجُمْلَةُ تَقْرِيرٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التَّوْبَة: ٣٠] لِيُبْنَى عَلَى التَّقْرِيرِ زِيَادَةُ التَّشْنِيعِ بِقَوْلِهِ:
وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً إِلَخْ، فَوِزَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وِزَانُ جُمْلَةِ اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ [الْأَعْرَاف: ١٤٨] بَعْدَ جُمْلَةِ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ [الْأَعْرَاف: ١٤٨].
وَالضَّمِيرُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
وَالِافْتِرَاءُ: الْكَذِبُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [١٠٣].
وَلَمَّا نُفِيَ عَنِ الْقُرْآنِ الِافْتِرَاءُ أُخْبِرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَصْدِيقٌ وَتَفْصِيلٌ، فَجَرَتْ أَخْبَارُهُ كُلُّهَا
بِالْمَصْدَرِ تَنْوِيهًا بِبُلُوغِهِ الْغَايَةَ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي حَتَّى اتَّحَدَ بِأَجْنَاسِهَا.
وتَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ كَوْنُهُ مُصَدِّقًا لِلْكُتُبِ السَّالِفَةِ، أَيْ مُبَيِّنًا للصادق مِنْهَا ومييزا لَهُ عَمَّا زِيدَ فِيهَا وَأُسِيءَ مِنْ تَأْوِيلِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٤٨]. وَأَيْضًا هُوَ مُصَدَّقٌ (بِفَتْحِ الدَّالِ) بِشَهَادَةِ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ فِيمَا أَخَذَتْ مِنَ الْعَهْدِ عَلَى أَصْحَابِهَا أَنْ يُؤْمِنُوا بِالرَّسُولِ الَّذِي يَجِيءُ مُصَدِّقًا وَخَاتَمًا. فَالْوَصْفُ بِالْمَصْدَرِ صَالِحٌ لِلْأَمْرَيْنِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَقْتَضِي فَاعِلًا وَمَفْعُولًا.
وَالتَّفْصِيلُ: التَّبْيِينُ بِأَنْوَاعِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَعْرِيفَ الْكِتابِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَيَسْتَغْرِقُ الْكُتُبَ كُلَّهَا. وَمَعْنَى كَوْنِ الْقُرْآنِ تَفْصِيلًا لَهَا أَنَّهُ مُبَيِّنٌ لِمَا جَاءَ مُجْمَلًا فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ، وَنَاسِخٌ لِمَا لَا مَصْلَحَةَ لِلنَّاسِ فِي دَوَامِ حُكْمِهِ، وَدَافِعٌ لِلْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي ضَلَّ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ، فَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى التَّفْصِيلِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٤٨]. وَهَذَا غَيْرُ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ [يُوسُف: ١١١] فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى.
وَجُمْلَةُ: لَا رَيْبَ فِيهِ مُسْتَأْنَفَةٌ رَدَّتْ مَزَاعِمَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُ مُفْتَرًى بِاقْتِلَاعِ دَعْوَى افْتِرَائِهِ، وَأَنَّهَا مِمَّا لَا يَرُوجُ عَلَى أَهْلِ الْفِطَنِ وَالْعُقُولِ الْعَادِلَةِ، فَالرَّيْبُ الْمَنْفِيُّ عَنْهُ هُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحْوَالِهِ فِي ذَاتِهِ وَمُقَارَنَاتِهِ مَا يُثِيرُ الرَّيْبَ، وَلِذَلِكَ كَانَ رَيْبُ الْمُرْتَابِينَ فِيهِ رَيْبًا مزعوما مدعى وَهُوَ لَوْ رَاجَعُوا أَنْفُسَهُمْ لَوَجَدُوهَا غَيْرَ مُرْتَابَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِ هَذَا فِي طَالِعَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢].
وَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ مُحْتَمِلٌ وُجُوهًا أَظْهَرُهَا أَنَّهُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ ضَمِيرُ الْقُرْآنِ، وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ، وَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةُ تُؤْذِنُ بِالْمَجِيءِ، أَيْ هُوَ وَارِدٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَيْ مِنْ وَحْيِهِ وَكَلَامِهِ، وَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ: مِنْ دُونِ اللَّهِ.
فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَّا كَمَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ. وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ قَبْلُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مِنْ قَبْلِهِمْ، تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّهُمْ سَلَفُهُمْ فِي هَذَا الضَّلَالِ وَعَلَى أَنَّهُمُ اقْتَدَوْا بِهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ التَّعْلِيلِ، وَالْمَعْطُوفُ هُوَ الْمَعْلُولُ، وَقَدْ تَسَلَّطَ عَلَيْهِ مَعْنَى كَافِ التَّشْبِيهِ لِذَلِكَ. فَالْمَعْنَى: وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ كَمَا وَفَّيْنَا أَسْلَافَهُمْ.
وَالتَّوْفِيَةُ: إِكْمَالُ الشَّيْءِ غَيْرِ مَنْقُوصٍ.
وَالنَّصِيبُ: أَصْلُهُ الْحَظُّ. وَقَدِ اسْتَعْمَلَ (مُوَفُّوهُمْ) وَ (نَصِيبَهُمْ) هُنَا اسْتِعْمَالًا تَهَكُّمِيًّا كَأَنَّ لَهُمْ عَطَاءً يَسْأَلُونَهُ فَوُفُّوهُ، فَوَقَعَ قَوْلُهُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ حَالًا مُؤَكِّدَةً لِتَحْقِيقِ التَّوْفِيَةِ زِيَادَةً فِي التَّهَكُّمِ، لِأَنَّ مِنْ إِكْرَامِ الْمَوْعُودِ بِالْعَطَاءِ أَنْ يُؤَكَّدَ لَهُ الْوَعْدُ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ بِالْبِشَارَةِ.
وَالْمُرَادُ نَصِيبُهُمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْتَأْصِلْهُمْ كَمَا اسْتَأْصَلَ الْأُمَمَ السَّابِقَة ببركة
النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَالَ: «لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ»
. [١١٠]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ١١٠]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ.
اعْتِرَاض لتثبيت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَسْلِيَتِهِ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ وَهُمْ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَدْ أُوتُوا الْكِتَابَ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، وَهُمْ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا تَأْسَ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْمِكَ عَلَيْكَ،
فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ [هود: ١٠٩].
وَلِأَجْلِ مَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى التَّثْبِيتِ فَرَّعَ عَلَيْهَا قَوْلَهُ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: ١١٢].
وَقَوْلُهُ: فَاخْتُلِفَ فِيهِ أَيْ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ. وَمَعْنَى الِاخْتِلَافِ فِيهِ اخْتِلَافُ أَهْلِ التَّوْرَاةِ فِي تَقْرِيرِ بَعْضِهَا وَإِبْطَالِ بَعْضٍ، وَفِي إِظْهَارِ بَعْضِهَا
ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَيَعْقُوبُ وَيُثْبِتُ- بِسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَخْفِيف الْمُوَحدَة-.
[٤٠]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٤٠]
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠)
عُطِفَ على جملَة يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ [الرَّعْد: ٣٩] بِاعْتِبَارِ مَا تُفِيدُهُ مِنْ إِبْهَامِ مُرَادِ اللَّهِ فِي آجَالِ الْوَعِيدِ وَمَوَاقِيتِ إِنْزَالِ الْآيَاتِ، فَبَيَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مَأْمُورًا بِالِاشْتِغَالِ بِذَلِكَ وَلَا بِتَرَقُّبِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ لِعِبَادِهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا يُحَاسِبُ بِهِ عِبَادَهُ سَوَاءٌ شَهِدَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ أَمْ لَمْ يَشْهَدْهُ.
وَجَعَلَ التَّوَفِّيَ كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ رُؤْيَةِ حُلُولِ الْوَعِيدِ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بُقُولِهِ: نُرِيَنَّكَ.
وَالْمَعْنَى: مَا عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ سَوَاءً رَأَيْتَ عَذَابَهُمْ أَمْ لَمْ تَرَهُ.
وَفِي الْإِتْيَانِ بِكَلِمَةِ بَعْضَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ يَرَى الْبَعْضَ. وَفِي هَذَا إِنْذَارٌ لَهُمْ بِأَنَّ الْوَعِيدَ نَازِلٌ بِهِمْ وَلَوْ تَأَخَّرَ وَأَنَّ هَذَا الدِّينَ يَسْتَمِرُّ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْوَعِيدُ الَّذِي أَمَرَ بِإِبْلَاغِهِ وَاقِعًا وَلَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَبِالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ شَرْعُهُ الَّذِي لِأَجْلِهِ جَاءَ وَعِيدُ الْكَافِرِينَ بِهِ شَرْعًا مُسْتَمِرًّا بَعْدَهُ، ضَرُورَةَ أَنَّ الْوَسِيلَةَ لَا تَكُونُ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ بِأَشَدَّ مِنَ الْمَقْصِدِ الْمَقْصُودَةِ لِأَجْلِهِ.
وَتَأْكِيدُ الشَّرْطِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ وَمَا الْمَزِيدَةِ بَعْدَ إِنْ الشَّرْطِيَّةِ مُرَادٌ مِنْهُ تَأْكِيدُ الرَّبْطِ
بَيْنَ هَذَا الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ وَهُوَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ. عَلَى أَنَّ نُونَ التَّوْكِيدِ لَا يَقْتَرِنُ بِهَا فِعْلُ الشَّرْطِ إِلَّا إِذَا زِيدَتْ مَا بَعْدَ إِنْ الشَّرْطِيَّةِ فَتَكُونُ إِرَادَةُ التَّأْكِيدِ مُقْتَضِيَةً لِاجْتِلَابِ مُؤَكِّدَيْنِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِغَرَضِ تَأْكِيدٍ قَوِيٍّ.
وَالتَّفَيُّؤُ: تَفَعُّلُ مِنْ فَاءَ الظِّلُّ فَيْئًا، أَيْ عَادَ بَعْدَ أَنْ أَزَالَهُ ضَوْءُ الشَّمْسِ. لَعَلَّ أَصْلَهُ مِنْ فَاءَ إِذَا رَجَعَ بَعْدَ مُغَادَرَةِ الْمَكَانِ، وَتَفَيُّؤُ الظِّلَالِ تَنَقُّلُهَا مِنْ جِهَاتٍ بَعْدَ شُرُوقِ الشَّمْسِ وَبَعْدَ
زَوَالِهَا.
وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الظِّلَالِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [١٥].
وَقَوْلُهُ: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ، أَيْ عَنْ جِهَاتِ الْيَمِينِ وَجِهَاتِ الشَّمَائِلِ مَقْصُودٌ بِهِ إِيضَاحُ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ لِلظِّلِّ إِذْ يَكُونُ عَنْ يَمِينِ الشَّخْصِ مَرَّةً وَعَنْ شِمَالِهِ أُخْرَى، أَيْ إِذَا اسْتَقْبَلَ جِهَةً مَا ثُمَّ اسْتَدْبَرَهَا.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ خُصُوصَ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ بَلْ كَذَلِكَ الْأَمَامُ وَالْخَلْفُ، فَاخْتُصِرَ الْكَلَامُ.
وَأُفْرِدَ الْيَمِينُ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جِنْسُ الْجِهَةِ كَمَا يُقَالُ الْمَشْرِقُ. وَجَمْعُ الشَّمائِلِ مُرَادًا بِهِ تَعَدُّدُ جِنْسِ جِهَةِ الشَّمَالِ بِتَعَدُّدِ أَصْحَابِهَا، كَمَا قَالَ: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ [سُورَة المعارج: ٤٠]. فَالْمُخَالَفَةُ بِالْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ تَفَنُّنٌ.
ومجيء فعل يَتَفَيَّؤُا بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ عَلَى صِيغَةِ الْإِفْرَادِ جَرَى عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ فِي الْفِعْلِ إِذَا كَانَ فَاعِلُهُ جَمْعًا غَيْرَ جَمْعِ تَصْحِيحٍ، وَبِذَلِكَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ تَتَفَيَّأُ بِفَوْقِيَّتَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ.
وَأُفْرِدَ الضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ (ظِلَالُ) مُرَاعَاةً لِلَفْظِ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْنَى مُتَعَدِّدًا، وَبِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى أُضِيفَ إِلَيْهِ الْجَمْعُ.
وسُجَّداً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ ظِلالُهُ الْعَائِدِ إِلَى مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ قَيْدٌ لِلتَّفَيُّؤِ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ التَّفَيُّؤَ يُقَارِنُهُ السُّجُودُ مُقَارَنَةَ الْحُصُولِ ضِمْنَهُ. وَقَدْ مَضَى بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ داخِرُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي ظِلالُهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ لِرُجُوعِهِ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ. وَجُمِعَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْخَاصَّةِ بِالْعُقَلَاءِ تَغْلِيبًا لِأَنَّ فِي جُمْلَةِ الْخَلَائِقِ الْعُقَلَاءَ وَهُمُ الْجِنْسُ الْأَهَمُّ.
إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ | تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ |
وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ بَعْدَ فَاءِ جَوَابِ (أَمَّا)، لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ دون غَيرهم يقرؤون كِتَابَهُمْ، لِأَنَّ فِي اطِّلَاعِهِمْ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ وَالْجَزَاءِ عَلَيْهِ مَسَرَّةً لَهُمْ وَنَعِيمًا بِتَذَكُّرِ
وَمَعْرِفَةِ ثَوَابِهِ، وَذَلِكَ شَأْنُ كُلِّ صَحِيفَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى مَا يَسُرُّ وَعَلَى تَذَكُّرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، كَمَا يُطَالِعُ الْمَرْءُ أَخْبَارَ سَلَامَةِ أَحِبَّائِهِ وَأَصْدِقَائِهِ وَرَفَاهَةِ حَالِهِمْ، فَتَوَفُّرُ الرَّغْبَةِ فِي قِرَاءَةِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْكُتُبِ شِنْشِنَةٌ مَعْرُوفَةٌ.
وَأَمَّا الْفَرِيقُ الْآخَرُ فَسَكَتَ عَنْ قِرَاءَةِ كِتَابِهِمْ هُنَا. وَوَرَدَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الْإِسْرَاء: ١٣- ١٤].
وَالظُّلْمُ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا بِمَعْنَى النَّقْصِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الْكَهْف: ٣٣]، لِأَنَّ غَالِبَ الظُّلْمِ يَكُونُ بِانْتِزَاعِ بَعْضِ مَا عِنْدَ الْمَظْلُومِ فَلَزِمَهُ النُّقْصَانُ فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ مَجَازًا مُرْسَلًا. وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَا يُعْطَاهُ مِنَ الْجَزَاءِ مِمَّا يَرْغَبُ النَّاسُ فِي ازْدِيَادِهِ.
وَالْفَتِيلُ: شِبْهُ الْخَيْطِ تَكُونُ فِي شَقِّ النَّوَاةِ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٤٩]، وَهُوَ مَثَلٌ لِلشَّيْءِ الْحَقِيرِ التَّافِهِ، أَيْ لَا يَنْقُصُونَ شَيْئًا وَلَوْ قَلِيلًا جِدًّا.
وَعَطْفُ وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى عَطْفُ الْقَسِيمِ عَلَى قَسِيمِهِ فَهُوَ من حَيِّزِ «أَمَّا» التَّفْصِيلِيَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَمَّا من كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى، وَلَمَّا كَانَ الْقَسِيمُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ هُمْ مَنْ أُوتُوا كِتَابَهُمْ بِالْيَمِينِ عُلِمَ أَنَّ الْمَعْطُوفَ بِضِدِّ ذَلِكَ يُؤْتَى
وَمَعْنَى لَا يَمْلِكُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ، فَإِنَّ الْمِلْكَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَقْدِرَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً فِي سُورَة الْعُقُود [٧٦].
[٨٨- ٩٥]
[سُورَة مَرْيَم (١٩) : الْآيَات ٨٨ إِلَى ٩٥]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ [مَرْيَم: ٦٦] أَوْ عَلَى جُمْلَةِ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً [مَرْيَم: ٨١] إِتْمَامًا لِحِكَايَةِ أَقْوَالِهِمْ، وَهُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ لِلَّهِ وَلَدًا، وَهُوَ قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَغَيْرِهَا فَصَرِيحُ الْكَلَامِ رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَكِنَايَتُهُ تَعْرِيضٌ بِالنَّصَارَى الَّذِينَ شَابَهُوا الْمُشْرِكِينَ فِي نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَى اللَّهِ، فَهُوَ تَكْمِلَةٌ لِلْإِبْطَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى آنِفًا: مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ [مَرْيَم: ٣٥] إِلَخْ.
وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ لَيْسَ مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ، أَوْ تَعْلِيمَ دِينِهِمْ وَلَكِنْ تَفْظِيعُ قَوْلِهِمْ وَتَشْنِيعَهُ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ تَأْيِيدًا لِعِبَادَتِهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ وَاعْتِقَادِهِمْ شُفَعَاءَ لَهُمْ.
فَأُقِيمَتْ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى دَعَائِمِ الرَّحْمَةِ وَالرِّفْقِ وَالْيُسْرِ. قَالَ تَعَالَى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحجّ: ٧٨] وَقَالَ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: ١٨٥]،
وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ»
. وَمَا يُتَخَيَّلُ مِنْ شِدَّةٍ فِي نَحْوِ الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ فَإِنَّمَا هُوَ لِمُرَاعَاةِ تَعَارُضِ الرَّحْمَةِ وَالْمَشَقَّةِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [الْبَقَرَة: ١٧٩] فَالْقِصَاصُ وَالْحُدُودُ شِدَّةٌ عَلَى الْجُنَاةِ وَرَحْمَةٌ بِبَقِيَّةِ النَّاسِ.
وَأَمَّا رَحْمَةُ الْإِسْلَامِ بِالْأُمَمِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّمَا نَعْنِي بِهِ رَحْمَتَهُ بِالْأُمَمِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ سُلْطَانِهِ وَهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ. وَرَحْمَتُهُ بِهِمْ عَدَمُ إِكْرَاهِهِمْ عَلَى مُفَارَقَةِ أَدْيَانِهِمْ، وَإِجْرَاءُ الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ فِي الْأَحْكَامِ بِحَيْثُ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ فِي الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ.
هَذَا وَإِن أُرِيد بالعالمين فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ النَّوْعُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ ذَاتِ الْحَيَاةِ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ تَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الْحَيَوَانِ فِي مُعَامَلَةِ الْإِنْسَانِ إِيَّاهُ وَانْتِفَاعِهِ بِهِ. إِذْ هُوَ مَخْلُوقٌ لِأَجْلِ الْإِنْسَانِ، قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَة: ٢٩] وَقَالَ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [النَّحْل: ٥- ٧].
وَقَدْ أَذِنَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ لِلنَّاسِ فِي الِانْتِفَاعِ بِمَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَلَمْ تَأْذَنْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ كُرِهَ صَيْدُ اللَّهْوِ وَحُرِّمَ تَعْذِيبُ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ أَكْلِهِ، وَعَدَّ فُقَهَاؤُنَا سِبَاقَ الْخَيْلِ رُخْصَةً للْحَاجة فِي الغرو وَنَحْوِهِ.
وَرَغَّبَتِ الشَّرِيعَةُ فِي رَحْمَةِ الْحَيَوَانِ
فَفِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «إِنَّ اللَّهَ غَفَرَ لِرَجُلٍ وَجَدَ كَلْبًا يَلْهَثُ مِنَ الْعَطَشِ فَنَزَلَ
أَهْلَكَ بَعْضًا أَوْ سَكَتَ عَلَى مَا لَا عَلَى مِثْلِهِ يُغْضَى، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ لَمَا رَدَّ عَلَى مَنْ تَابَ فَأَصْلَحَ مَا سَلَبَهُ مِنْهُ مِنَ الْعَدَالَةِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ.
وَفِي ذِكْرِ وَصْفِ «الْحَكِيمِ» هُنَا مَعَ وَصْفِ تَوَّابٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ فِي هَذِهِ التَّوْبَةِ حِكْمَةً وَهِيَ اسْتِصْلَاحُ النَّاسِ.
وَحُذِفَ جَوَابُ لَوْلا لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ وَحَذْفُهُ طَرِيقَةٌ لِأَهْلِ الْبَلَاغَةِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي
هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ مِثْلُ حَذْفِ جَوَابِ (لَوْ)، وَتَقَدَّمَ حَذْفُ جَوَابِ (لَوْ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَو ترى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٥]. وَجَوَابُ (لَوْلَا) لَمْ يَحْضُرْنِي الْآنَ شَاهِدٌ لِحَذْفِهِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: إِنَّ (لَوْلَا) مُرَكَّبَةٌ مِنْ (لَوْ) و (لَا).
[١١]
[سُورَة النُّور (٢٤) : آيَة ١١]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الْعَشْرَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النُّور:
٢١] نَزَلَتْ فِي زَمَنٍ بَعِيدٍ عَنْ زَمَنِ نُزُولِ الْآيَاتِ الَّتِي مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ كَمَا سَتَعْرِفُهُ.
وَالْإِفْكُ: اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى كَذِبٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ فَهُوَ بُهْتَانٌ يَفْجَأُ النَّاسَ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَفْكِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ قَلْبُ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ أَهْلُ سَدُومَ وَعَمُّورَةَ وَأُدَمَةَ وَصَبُويِيمَ قُرَى قَوْمِ لُوطٍ أَصْحَابَ الْمُؤْتَفِكَةِ لِأَنَّ قُرَاهُمُ ائْتَفَكَتْ، أَيْ قُلِبَتْ وَخُسِفَ بِهَا فَصَارَ أَعْلَاهَا أَسْفَلَهَا فَكَانَ الْإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بِخِلَافِ حَالَتِهِ الْوَاقِعِيَّةِ قَلْبًا لَهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ فَسُمِّيَ إِفْكًا.
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فِي سُورَة الْأَعْرَاف [١١٧].
وجاؤُ بِالْإِفْكِ مَعْنَاهُ: قَصَدُوا وَاهْتَمُّوا. وَأَصْلُهُ: أَنَّ الَّذِي يُخْبِرُ بِخَبَرٍ غَرِيبٍ يُقَالُ لَهُ: جَاءَ بِخَبَرٍ كَذَا، لِأَن شَأْنَ الْأَخْبَارِ الْغَرِيبَةِ أَنْ تَكُونَ مَعَ الْوَافِدِينَ مِنْ
الْمُعَاقَبِ عَلَيْهِ بِلَا إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ، فالإفراط فِي الْبَطْشِ اسْتِخْفَافٌ بِحُقُوقِ الْخَلْقِ.
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ....»
الْحَدِيثَ. وَوَقَعَ فِعْلُ بَطَشْتُمْ الثَّانِي جَوَابًا لِ إِذا وَهُوَ مُرَادِفٌ لِفِعْلِ شَرْطِهَا، لِحُصُولِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ فِعْلِ الشَّرْطِ وَفِعْلِ الْجَوَابِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٧٢] وَإِنَّمَا يُقْصَدُ مِثْلُ هَذَا النَّظْمِ لِإِفَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِالْفِعْلِ إِذْ يَحْصُلُ مِنْ تَكْرِيرِهِ تَأْكِيد مَدْلُوله.
[١٣١- ١٣٥]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٣١ إِلَى ١٣٥]
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥)
لَمَّا أَفَادَ الِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً [الشُّعَرَاء: ١٢٨] مَعْنَى الْإِنْكَارِ عَلَى مَا قَارَنَ بِنَاءَهُمُ الْآيَاتِ وَاتِّخَاذَهُمُ الْمَصَانِعَ وَعَلَى شِدَّتِهِمْ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ الْغَضَبِ فُرِّعَ عَلَيْهِ أَمْرُهُمْ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ، وَحَصَلَ مَعَ ذَلِكَ التَّفْرِيعِ تَكْرِيرُ جُمْلَةِ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ.
وَحَذْفُ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ أَطِيعُونِ كَحَذْفِهَا فِي نَظِيرِهَا الْمُتَقَدِّمِ. وَأُعِيدَ فِعْلُ وَاتَّقُوا وَهُوَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَوْصُولِ وَصْفًا لِاسْمِ الْجَلَالَةِ لَأَنَّ ظَاهِرَ النَّظْمِ أَنْ يُقَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ، فَعَدَلَ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَبَنَيَ الْكَلَامَ عَلَى عَطْفِ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي قَبْلَهُ تَأْكِيدًا لَهُ وَاهْتِمَامًا بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى مَعَ أَنَّ مَا عُرِضَ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِجُمْلَةِ وَأَطِيعُونِ قَضَى بِأَنْ يُعَادَ اتِّصَالُ النَّظْمِ بِإِعَادَةِ فِعْلِ اتَّقُوا.
وَإِنَّمَا أُتِيَ بِفِعْلِ اتَّقُوا مَعْطُوفًا وَلَمْ يُؤْتَ بِهِ مَفْصُولًا لِمَا فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى مِنَ التَّذْكِيرِ بِإِنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَعَلَّقَ بِفِعْلِ التَّقْوَى فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى اسْمَ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اسْتِحْقَاقِهِ التَّقْوَى لِذَاتِهِ، ثُمَّ عَلَّقَ بِفِعْلِ التَّقْوَى فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ اسْمَ الْمَوْصُولِ بِصِلَتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى إِنْعَامِهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اسْتِحْقَاقِهِ التَّقْوَى لِاسْتِحْقَاقِهِ الشُّكْرَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ.
النَّاسِ أَقْوَى وَأَوْضَحَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِتَكْوِينِ أَحَدِهِمَا لَوْ كَانَ دَائِمًا، لِأَنَّ قُدْرَةَ خَالِقِ الضِّدَّيْنِ وَجَاعِلِ أَحَدِهِمَا يَنْسَخُ الْآخَرَ كُلَّ يَوْمٍ أَظْهَرُ مِنْهَا لَوْ لَمْ يَخْلُقْ إِلَّا أَقْوَاهُمَا وَأَنْفَعَهُمَا، وَلِأَنَّ النِّعْمَةَ بِتَعَاقُبِهِمَا دَوْمًا أَشَدُّ مِنَ الْإِنْعَامِ بِأَفْضَلِهِمَا وَأَنْفَعِهِمَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ دَائِما لَكَانَ مسؤوما وَلَحَصَلَتْ مِنْهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَفُقِدَتْ مَنَافِعُ ضِدِّهِ. فَالتَّنَقُّلُ فِي النِّعَمِ مَرْغُوبٌ فِيهِ وَلَوْ كَانَ تَنَقُّلًا إِلَى مَا هُوَ دُونَ. وَسِيقَ إِلَيْهِمْ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِأُسْلُوبِ تَلْقِينِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمُ اهْتِمَامًا بِهَذَا التَّذْكِيرِ لهَذَا الِاسْتِدْلَال ولاشتماله عَلَى ضِدَّيْنِ مُتَعَاقِبَيْنِ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ عُقُولُهُمْ قَاصِرَةً عَنْ إِدْرَاكِ دَلَالَةِ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ لَكَانَ فِي الضِّدِّ الْآخَرِ تَنْبِيهٌ لَهُمْ، وَلَوْ قَصَّرُوا عَنْ حِكْمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ فِي تَعَاقُبِهِمَا مَا يَكْفِي لِلِاسْتِدْلَالِ.
وَجِيءَ فِي الشَّرْطَيْنِ بِحَرْفِ إِنْ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَفْرُوضٌ فَرْضًا مُخَالِفًا لِلْوَاقِعِ. وَعُلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ الِاسْتِدْلَالَ بِعِبْرَةِ خَلْقِ النُّورِ، فَلِذَلِكَ فَرَضَ اسْتِمْرَارَ اللَّيْلِ، وَالْمَقْصُودُ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ.
وَالسَّرْمَدُ: الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : مِنَ السَّرْدِ وَهُوَ الْمُتَابَعَةُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ: ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ وَوَاحِدٌ فَرْدٌ. وَالْمِيمُ مَزِيدَةٌ وَوَزْنُهُ فَعْمَلَ، وَنَظِيرُهُ دُلَامِصٌ مِنَ الدِّلَاصِ اه. دُلَامِصٌ (بِضَمِّ الدَّالِّ وَكَسْرِ الْمِيمِ) مِنْ صِفَاتِ الدِّرْعِ وَأَصْلُهَا دِلَاصٌ (بِدَالٍ مَكْسُورَةٍ) أَيْ بَرَّاقَةٌ. وَنُسِبَ إِلَى صَاحِبِ «الْقَامُوسِ» وَبَعْضِ النُّحَاةِ أَنَّ مِيمَ سَرْمَدٍ أَصْلِيَّةً وَأَنَّ وَزْنَهُ فَعْلَلْ. وَالْمُرَادُ بِجَعْلِ اللَّيْلِ سَرْمَدًا أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ خَلَقَ الشَّمْسَ وَيَكُونَ خَلَقَ الْأَرْضَ فَكَانَتِ الْأَرْضُ مُظْلِمَةً.
وَالرُّؤْيَةُ قَلْبِيَّةٌ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَرَأَيْتُمْ تَقْرِيرِيٌّ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ إِنْكَارِيٌّ وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِهَذَا الِانْتِفَاءِ وَأَنَّ خَالِقَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا غَيْرُهُ.
وَالْمُرَادُ بِالْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِحَاطَةُ أَزْمِنَةِ الدُّنْيَا وَلَيْسَ الْمُرَادُ انْتِهَاءُ
جَعْلِهِ سَرْمَدًا.
وَالْإِتْيَانُ بِالضِّيَاءِ وَبِاللَّيْلِ مُسْتَعَارٌ لِلْإِيجَادِ شُبِّهَ إِيجَادُ الشَّيْءِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ
عَلَى جَمْعٍ أَبْطَلَتْ مِنْهُ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ. وَإِنَّمَا أُوثِرَ لَفْظُ الْجَمْعِ لِأَنَّ كَلِمَةَ الْحَمِيرِ أَسْعَدُ بِالْفَوَاصِلِ لِأَنَّ مِنْ مَحَاسِنِ الْفَوَاصِلِ وَالْأَسْجَاعِ أَنْ تَجْرِيَ عَلَى أَحْكَامِ الْقَوَافِي، وَالْقَافِيَةُ الْمُؤَسَّسَةُ بِالْوَاوِ أَوِ الْيَاءِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ مَعَهَا أَلِفُ تَأْسِيسٍ فَإِنَّ الْفَوَاصِلَ الْمُتَقَدِّمَةَ مِنْ قَوْلِهِ وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ [لُقْمَانَ: ١٢] هِيَ: حَمِيدٌ، عَظِيمٌ، الْمَصِيرُ، خَبِيرٌ، الْأُمُورِ، فَخُورٍ، الْحَمِيرِ. وَفَوَاصِلُ الْقُرْآنِ تَعْتَمِدُ كَثِيرًا عَلَى الْحَرَكَاتِ وَالْمُدُودِ وَالصِّيَغِ دُونَ تَمَاثُلِ الْحُرُوفِ وَبِذَلِكَ تُخَالِفُ قَوَافِيَ الْقَصَائِدِ. وَهَذَا وَفَاءٌ بِمَا وَعَدْتُ بِهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ مِنْ ذِكْرِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ تَتَبُّعِي لِمَا أُثِرَ مِنْ حِكْمَةِ لُقْمَانَ غَيْرَ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَقَدْ ذَكَرَ الْآلُوسِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» مِنْهَا ثَمَانِيًا وَعِشْرِينَ حِكْمَةً وَهِيَ:
قَوْلُهُ لِابْنِهِ: أَيْ بُنَيَّ، إِنِ الدُّنْيَا بَحْرٌ عَمِيقٌ، وَقَدْ غَرِقَ فِيهَا أُنَاسٌ كَثِيرٌ فَاجْعَلْ سَفِينَتَكَ فِيهَا تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَحَشَوْهَا الْإِيمَانُ، وَشِرَاعَهَا التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَعَلَّكَ أَنْ تَنْجُوَ وَلَا أَرَاكَ نَاجِيًا.
وَقَوْلُهُ: مَنْ كَانَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ وَاعِظٌ كَانَ لَهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَافِظٌ، وَمَنْ أَنْصَفَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ زَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ عِزًّا، وَالذُّلُّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَقْرَبُ مِنَ التَّعَزُّزِ بِالْمَعْصِيَةِ.
وَقَوْلُهُ: ضَرْبُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ كَالسَّمَادِ لِلزَّرْعِ.
وَقَوْلُهُ: يَا بُنَيَّ إيَّاكَ وَالدَّيْنَ فَإِنَّهُ ذُلُّ النَّهَارِ وَهَمُّ اللَّيْلِ.
وَقَوْلُهُ: يَا بُنَيَّ ارْجُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَجَاء لَا يجرّئك عَلَى مَعْصِيَتِهِ تَعَالَى، وَخَفِ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَوْفًا لَا يُؤَيِّسُكَ مِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى شَأْنُهُ.
وَقَوْلُهُ: مَنْ كَذَبَ ذَهَبَ مَاءُ وَجْهِهِ، وَمَنْ سَاءَ خُلُقُهُ كَثُرَ غَمُّهُ، وَنَقْلُ الصُّخُورِ مِنْ مَوَاضِعِهَا أَيْسَرُ مِنْ إِفْهَامِ مَنْ لَا يَفْهَمُ.
وَقَوْلُهُ: يَا بُنَيَّ حَمَلْتُ الْجَنْدَلَ وَالْحَدِيدَ وَكُلَّ شَيْءٍ ثَقِيلٍ فَلَمْ أَحْمِلْ شَيْئًا هُوَ أَثْقَلُ مِنْ جَارِ السُّوءِ، وَذُقْتُ الْمَرَارَ فَلَمْ أَذُقْ شَيْئًا هُوَ أَمَرُّ مِنَ الْفَقْرِ.
يَا بُنَيَّ لَا تُرْسِلْ رَسُولَكَ جَاهِلًا فَإِنْ لَمْ تَجِدْ حَكِيمًا فَكُنْ رَسُولَ نَفْسِكَ.
(الْإِرْسَال) : الْإِطْلَاق وَهُوَ ضِدُّ الْحَبْسِ، وَتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ (عَلَى) مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّهُ إِرْسَالُ نِقْمَةٍ فَإِنَّ سَيْلَ الْعَرِمِ كَانَ مَحْبُوسًا بِالسَّدِّ فِي مَأْرِبَ فَكَانُوا يُرْسِلُونَ مِنْهُ بِمِقْدَارِ مَا يَسْقُونَ جَنَّاتِهِمْ،
فَلَمَّا كَفَرُوا بِاللَّهِ بَعْدَ الدَّعْوَةِ لِلتَّوْحِيدِ قَدَّرَ اللَّهُ لَهُمْ عِقَابًا بِأَنْ قَدَّرَ أَسْبَابَ انْهِدَامِ السَّدِّ فَانْدَفَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْمَاءِ فَكَانَ لَهُم غرقا وَإِتْلَافًا لِلْأَنْعَامِ وَالْأَشْجَارِ، ثُمَّ أعقبه جفاف باختلال نِظَامِ تَسَاقُطِ الْأَمْطَارِ وَانْعِدَامِ الْمَاءِ وَقْتَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَهَذَا جَزَاءٌ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ وَشِرْكِهِمْ.
والْعَرِمِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا مِنَ الْعَرَامَةِ وَهِيَ الشِّدَّةُ وَالْكَثْرَةُ فَتَكُونُ إِضَافَةُ «السَّيْلِ» إِلَى الْعَرِمِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَرِمِ اسْمًا لِلسَّيْلِ الَّذِي كَانَ يَنْصَبُّ فِي السَّدِّ فَتَكُونُ الْإِضَافَةُ مِنْ إِضَافَةِ الْمُسَمَّى إِلَى الِاسْمِ، أَيِ السَّيْلُ الْعَرِمُ.
وَكَانَتْ لِلسُّيُولِ وَالْأَوْدِيَةِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ أَسْمَاءٌ كَقَوْلِهِمْ: سَيْلُ مَهْزُورٍ وَمُذَيْنِيبٍ الَّذِي كَانَتْ تُسْقَى بِهِ حَدَائِقُ الْمَدِينَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الْأَعْشَى:
وَمَأْرِبُ عَفَّى عَلَيْهَا الْعَرِمُ وَقِيلَ: الْعَرِمِ اسْمُ جَمْعِ عَرَمَةٍ بِوَزْنِ شَجَرَةٍ، وَقِيلَ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ وَهُوَ مَا بُنِيَ لِيُمْسِكَ الْمَاءَ لُغَةٌ يَمَنِيَّةٌ وَحَبَشِيَّةٌ. وَهِيَ الْمَسْنَاةُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَالْمَسْنَاةُ بِوَزْنِ مَفْعَلَةٍ الَّتِي هِيَ اسْمُ الْآلَةِ مُشْتَقٌّ مِنْ سَنَيْتُ بِمَعْنَى سَقَيْتُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ السَّاقِيَةُ سَانِيَةً وَهِيَ الدَّلْوُ الْمُسْتَقَى بِهِ وَالْإِضَافَةُ عَلَى هَذَيْنِ أَصِيلَةٌ.
وَالْمَعْنَى: أَرْسَلْنَا السَّيْلَ الَّذِي كَانَ مخزونا فِي السدّ.
وَكَانَ لِأَهْلِ سَبَأٍ سَدٌّ عَظِيمٌ قُرْبَ بِلَاد مأرب يعرف بسد مَأْرِبَ (وَمَأْرِبُ مِنْ كُوَرِ الْيَمَنِ) وَكَانَ أَعْظَمَ السِّدَادِ فِي بِلَادِ الْيَمَنِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا سِدَادٌ كَثِيرَةٌ مُتَفَرِّقَةٌ وَكَانُوا جَعَلُوا هَذِهِ السِّدَادَ لِخَزْنِ الْمَاءِ الَّذِي تَأْتِي بِهِ السُّيُولُ فِي وَقْتِ نُزُولِ الأمطار فِي الشتَاء وَالربيع ليسقوا مِنْهَا الْمزَارِع والجنات فِي وَقت انحباس الْأَمْطَارِ فِي الصَّيْفِ وَالْخَرِيفِ فَكَانُوا يَعْمِدُونَ إِلَى مَمَرَّاتِ السُّيُولِ مِنْ بَيْنِ الْجِبَالِ فَيَبْنُونَ فِي مَمَرِّ الْمَاءِ سُورًا مِنْ صُخُورٍ يَبْنُونَهَا بِنَاءً مُحْكَمًا يَصُبُّونَ فِي الشُّقُوقِ الَّتِي بَيْنَ الصُّخُورِ الْقَارَ حَتَّى تَلْتَئِمَ فَيَنْحَبِسَ الْمَاءُ الَّذِي يَسْقُطُ هُنَالِكَ حَتَّى إِذَا امْتَلَأَ الْخَزَّانُ جَعَلُوا بِجَانِبَيْهِ
(يَدَعُ) أَخَصُّ: إِمَّا لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ مَعَ الِاعْتِنَاءِ بِعَدَمِ تَرْكِهِ كَمَا قَالَ سَعْدُ الله، وَإِمَّا لِأَن فِعْلُ يَدَعُ يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ قَبْلَ الْعِلْمِ، وَفِعْلُ (يَذَرُ) يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ كَمَا حَكَاهُ سَعْدُ اللَّهِ عَن بعض الْأَئِمَّة عَازِيًا إِيَّاهُ لِلْفَخْرِ.
وَعِنْدِي: أَنَّ مَنْعَ التَّرَادُفِ هُوَ الْوَجْهُ لَكِنْ لَا كَمَا قَالَ سَعْدُ اللَّهِ وَلَا كَمَا نُقِلَ عَنِ الْفَخْرِ بَلْ لِأَنَّ فِعْلَ (يَدَعُ) قَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ لَا سَنَدَ لَهَا خِلَافًا لِفِعْلِ (يَذَرُ). وَلَا شَكَّ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ فِعْلَ (يَذَرُ) يَدُلُّ عَلَى تَرْكٍ مَعَ إِعْرَاضٍ عَنِ الْمَتْرُوكِ بِخِلَافِ (يَدَعُ) فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَرْكًا مُؤَقَّتًا وَأَشَارَ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا كَلَامُ الرَّاغِبِ فِيهِمَا. وَهُنَالِكَ عِدَّةُ أَجْوِبَةٍ أُخْرَى، هِيَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا أَحْرَى.
وَمَعْنَى فَكَذَّبُوهُ أَنَّهُمْ لَمْ يُطِيعُوهُ تَمَلُّقًا لِمُلُوكِهِمُ الَّذِينَ أَجَابُوا رَغْبَةَ نِسَائِهِمُ
الْمُشْرِكَاتِ لِإِقَامَةِ هَيَاكِلَ لِلْأَصْنَامِ فَإِنَّ (إِيزَابِلْ) ابْنَةَ مَلِكِ الصَّيْدَوَنِيِّينَ زَوْجَةَ (أَخَابْ) مَلِكِ إِسْرَائِيلَ لَمَّا بَلَغَهَا مَا صَنَعَ إلْيَاسُ بِسَدَنَةِ بَعْلٍ ثَأْرًا لِمَنْ قَتَلَتْهُ (إِيزَابِلْ) مِنْ صَالِحِي إِسْرَائِيلَ أَرْسَلَتْ إِلَى إِلْيَاسَ تَتَوَعَّدُهُ بِالْقَتْلِ فَخَرَجَ إِلَى مَوْضِعٍ اسْمُهُ (بِئْرُ سَبْعٍ) ثُمَّ سَاحَ فِي الْأَرْضِ وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَعْهَدَ إِلَى صَاحِبِهِ (الْيَسَعَ) بِالنُّبُوءَةِ مِنْ بَعْدِهِ، ثُمَّ قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ فَلَمْ يَعْرِفْ أَحَدٌ مَكَانَهُ.
وَفِي كِتَابِ «إِيلِيَاءَ» مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ أَنَّ اللَّهَ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ فِي مَرْكَبَةٍ يَجُرُّهَا فُرْسَانٌ، وَأَنَّ (الْيَسَعَ) شَاهَدَهُ صَاعِدًا فِيهَا وَلِذَلِكَ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُولُ: إِن إلْيَاس هود إِدْرِيسُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيئًا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مَرْيَم: ٥٦، ٥٧]، وَقِيلَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ: إِن إِدْرِيسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عِوَضَ وَإِنَّ إِلْياسَ وَيَقْرَأُ (سَلَامٌ عَلَى إِدْرَاسِينَ) عَلَى أَنَّهُ لُغَةٌ فِي إِدْرِيسَ. وَلَا يَقْتَضِي مَا فِي كُتُبِ الْيَهُودِ مِنْ رَفْعِهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ إِدْرِيسَ لِأَنَّ الرَّفْعَ إِذَا صَحَّ قَدْ يَتَكَرَّرُ وَقَدْ رَفَعَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَمَعْنَى فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أَنَّ اللَّهَ يُحْضِرُهُمْ لِلْعِقَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ فِي هَذِه السُّورَة الصافات [٥٧].
وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ عِبَادُ اللَّهِ الْمُخْلَصُونَ وَهُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا إِلْيَاسَ وَأَعَانُوهُ عَلَى قَتْلِ سَدَنَةِ (بَعْلٍ). وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فِيمَا
وَاللَّعْنَةُ: الْبُعْدُ وَالطَّرْدُ، أَيْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ هِيَ جَهَنَّمُ. وَتَقْدِيمُ (لَهُمْ) فِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ لِلِاهْتِمَامِ بالانتقام مِنْهُم.
[٥٣- ٥٤]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٥٣ إِلَى ٥٤]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤)
هَذَا مِنْ أَوْضَحِ مَثَلِ نَصْرِ اللَّهِ رُسُلَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِمْ وَهُوَ أَشْبَهُ الْأَمْثَالِ بِالنَّصْرِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤمنِينَ فَإِنَّ نَصْرَ مُوسَى عَلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ كَوَّنَ اللَّهُ بِهِ أُمَّةً عَظِيمَةً لَمْ تَكُنْ يُؤْبَهُ بِهَا وَأُوتِيَتْ شَرِيعَةً عَظِيمَةً وَمُلْكًا عَظِيمًا، وَكَذَلِكَ كَانَ نَصْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَكَانَ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْمَلَ وَأَشْرَفَ.
فَجُمْلَةُ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى إِلَخْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غَافِر:
٥١] وَبَيْنَ التَّفْرِيعِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [غَافِر: ٥٥]، وَأَيُّ نَصْرٍ أَعْظَمُ مِنَ الْخَلَاصِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ وَالْقِلَّةِ وَالتَّبَعِ لِأُمَّةٍ أُخْرَى فِي أَحْكَامٍ تُلَائِمُ أَحْوَالَ الْأُمَّةِ التَّابِعَةِ، إِلَى مَصِيرِ الْأُمَّةِ مَالِكَةِ أَمْرِ نَفْسِهَا ذَاتِ شَرِيعَةٍ مُلَائِمَةٍ لِأَحْوَالِهَا وَمَصَالِحِهَا وَسِيَادَةٍ عَلَى أُمَمٍ أُخْرَى، وَذَلِكَ مِثْلُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَهُ وَهُوَ إِيمَاءٌ إِلَى الْوَعْدِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي كَذَّبَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ بَاقٍ مَوْرُوثٌ فِي الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ.
وَالْهُدَى الَّذِي أُوتِيَهُ مُوسَى هُوَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ، أَيِ الرِّسَالَةِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَهِيَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ، أَيِ التَّوْرَاةِ، وَهُوَ الَّذِي أَوْرَثَهُ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَيْ جَعَلَهُ بَاقِيًا فِيهِمْ بَعْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُمْ وَرِثُوهُ عَنْ مُوسَى، أَيْ أَخَذُوهُ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ وَأَبْقَاهُ اللَّهُ لَهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَإِطْلَاقُ الْإِيرَاثِ اسْتِعَارَةٌ. وَفِي ذَلِكَ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْكِتَابَ مِنْ جُمْلَةِ الْهُدَى الَّذِي أُوتِيَهُ مُوسَى، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَة: ٤٤]، فَفِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ تَقْدِيرُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَالْكِتَابَ وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ، فَإِنَّ مُوسَى أُوتِيَ مِنَ الْهُدَى مَا لَمْ يَرِثْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَهُوَ الرِّسَالَةُ وَأُوتِيَ مِنَ الْهُدَى مَا أُورِثَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَهُوَ الشَّرِيعَةُ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ.
وهُدىً وذِكْرى حَالَانِ مِنَ الْكِتابَ، أَيْ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَذِكْرَى
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مِهَادًا. وَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الزخرف: ٩] الْآيَةَ وَجُمْلَةِ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً [الزخرف: ١٥] الْآيَةَ.
وَاسْمُ الْمَوْصُولِ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ وَهُوَ مِنْ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْوَارِدِ عَلَى مُتَابَعَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي تَسْمِيَةِ السَّكَّاكِيِّ حَيْثُ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَاجْتِلَابُ الْمَوْصُولِ لِلِاشْتِهَارِ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ فَسَاوَى الِاسْمَ الْعَلَمَ فِي الدَّلَالَةِ.
وَذُكِرَتْ صِلَتَانِ فِيهِمَا دَلَالَةٌ عَلَى الِانْفِرَادِ بِالْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ وَعَلَى النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ أُقْحِمَ لَفْظُ لَكُمُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَلَمْ يَقُلْ: الَّذِي جَعَلَ الْأَرْضَ مِهَادًا وَجَعَلَ فِيهَا سُبُلًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً [النبأ: ٦، ٧] لِأَنَّ ذَلِكَ مَقَامُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ، فَسِيقَ لَهُمُ الِاسْتِدْلَالُ بِإِنْشَاءِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا تُعَدُّ إِعَادَةُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا شَيْئًا عَجِيبًا.
وَلَمْ يُكَرِّرِ اسْمَ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لِأَنَّ الصِّلَتَيْنِ تَجْتَمِعَانِ فِي الْجَامِعِ الْخَيَالِيِّ إِذْ كِلْتَاهُمَا مِنْ أَحْوَالِ الْأَرْضِ فَجَعْلُهُمَا كَجَعْلٍ وَاحِدٍ. وَضَمَائِرُ الْخِطَابِ الْأَحَدَ عَشَرَ الْوَاقِعَةُ فِي الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مِهَادًا إِلَى قَوْله مُقْرِنِينَ [الزخرف: ١٠- ١٣] لَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ الِالْتِفَاتِ بَلْ هِيَ جَارِيَةٌ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ.
وَالْمِهَادُ: اسْمٌ لِشَيْءٍ يُمَهَّدُ، أَيْ يُوَطَّأُ وَيُسَهَّلُ لِمَا يَحِلُّ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٤١]. وَوَجْهُ الِامْتِنَانِ أَنَّهُ جَعَلَ ظَاهِرَ الْأَرْضِ مُنْبَسِطًا وَذَلِكَ الِانْبِسَاطُ لِنَفْعِ الْبَشَرِ السَّاكِنِينَ عَلَيْهَا. وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنَّ جِسْمَ الْأَرْضِ كُرَوِيٌّ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لِأَنَّ كُرَوِيَّتَهَا لَيْسَتْ مَنْفَعَةً لِلنَّاسِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ مَهْداً بِدُونِ أَلْفٍ بَعْدِ الْهَاءِ وَهُوَ مُرَادٌ بِهِ الْمِهَادُ.
وَالسُّبُلُ: جَمْعُ سَبِيلٍ، وَهُوَ الطَّرِيقُ، وَيُطْلَقُ السَّبِيلُ عَلَى وَسِيلَةِ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: ٤٤]. وَيَصِحُّ إِرَادَةُ الْمَعْنَيَيْنِ هُنَا لِأَنَّ فِي الْأَرْضِ طُرُقًا يُمْكِنُ سُلُوكُهَا، وَهِيَ السُّهُولُ وَسُفُوحُ الْجِبَالِ وَشِعَابُهَا، أَيْ لَمْ يَجْعَلِ الْأَرْضَ كُلَّهَا
يُغَيِّرُوا مَا أَمَرَّ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ حِينَ يَقُولُونَ ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ إِذِ اتِّبَاعُ الْجَيْشِ وَالْخُرُوجُ فِي أَوَّلِهِ سَوَاءٌ فِي الْمَقْصُودِ مِنَ الْخُرُوجِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كَلامَ اللَّهِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ كَلِمَ اللَّهِ اسْمُ جَمْعِ كَلِمَةٍ. وَجِيءَ بِ لَنْ الْمُفِيدَةِ تَأْكِيدَ النَّفْيِ لِقَطْعِ أَطْمَاعِهِمْ فِي الْإِذْنِ لَهُمْ بِاتِّبَاعِ الْجَيْشِ الْخَارِجِ إِلَى خَيْبَرَ وَلِذَلِكَ حُذِفَ مُتَعَلِّقُ تَتَّبِعُونا لِلْعِلْمِ بِهِ. ومِنْ قَبْلُ تَقْدِيرُهُ: مِنْ قَبْلِ طَلَبِكُمُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِمَا سَيَقُولُونَهُ إِذْ قَالَ: فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا، وَقَدْ قَالُوا ذَلِكَ بَعْدَ نَحْوِ شَهْرٍ وَنِصْفٍ فَلَمَّا سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ الْمُتَأَهِّبُونَ لِلْخُرُوجِ إِلَى خَيْبَرَ مَقَالَتَهُمْ قَالُوا: قَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ فِي الْحُدَيْبِيَةِ بِأَنَّهُمْ سَيَقُولُونَ هَذَا.
وبَلْ هُنَا لِلْإِضْرَابِ عَنْ قَول الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنْ تَتَّبِعُونا وَهُوَ إِضْرَابُ إِبْطَالٍ نَشَأَ عَنْ فَوْرَةِ الْغَضَبِ الْمَخْلُوطِ بِالْجَهَالَةِ وَسُوءِ النَّظَرِ، أَيْ لَيْسَ بِكُمُ الْحِفَاظُ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، بَلْ بِكُمْ أَنْ لَا نُقَاسِمَكُمْ فِي الْمَغَانِمِ حَسَدًا لَنَا عَلَى مَا نُصِيبُ مِنَ الْمَغَانِمِ.
وَالْحَسَدُ: كَرَاهِيَةُ أَنْ يَنَالَ غَيْرُكَ خَيْرًا مُعَيَّنًا أَوْ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ مَعَ تَمَنِّي انْتِقَالِهِ إِلَيْكَ أَوْ بِدُونِ ذَلِكَ، فَالْحَسَدُ هُنَا أُرِيدَ بِهِ الْحِرْصُ عَلَى الِانْفِرَادِ بِالْمَغَانِمِ وَكَرَاهِيَةِ الْمُشَارَكَةِ فِيهَا لِئَلَّا يَنْقُصَ سِهَامُ الْكَارِهِينَ. وَتَقَدَّمَ الْحَسَدُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [الْبَقَرَة: ٩٠] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [الْبَقَرَة: ١٠٩] كِلَاهُمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَضَمِيرُ الرَّفْعِ مُرَادٌ بِهِ أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ، نَسَبُوهُمْ إِلَى الْحَسَدِ لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الْجَوَابَ بمنعهم لعدم رضى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ بِمُشَارَكَتِهِمْ فِي الْمَغَانِمِ. وَلَا يُظَنُّ بِهِمْ أَنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ الضَّمِيرِ شُمُول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْمُخَلَّفِينَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ لَا يتهمون النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَسَدِ وَلِذَلِكَ أَبْطَلَ اللَّهُ كَلَامَهُمْ بِالْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ فَقَالَ: بَلْ كانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا، أَيْ لَيْسَ قَوْلُكَ لَهُمْ ذَلِكَ لِقَصْدِ الِاسْتِبْشَارِ بِالْمَغَانِمِ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَكِنَّهُ أَمْرُ اللَّهِ وَحَقُّهُ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ وَتَأْدِيبٌ لِلْمُخَلَّفِينَ لِيَكُونُوا عِبْرَةً لِغَيْرِهِمْ فِيمَا
اضْمِحْلَالِ هَذَا الْعَالَمِ، وَكَانَ فِعْلُ الْمَاضِي مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَرَأَ وَقَدِ انْشَقَّ الْقَمَرُ.
وَإِنْ كَانَ نُزُولُهَا قَبْلَ حُصُولِ الِانْشِقَاقِ كَمَا اقْتَضَاهُ حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَهُوَ إِنْذَارٌ بِاقْتِرَابِ السَّاعَةِ وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَمَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الِانْشِقَاقَ سَيَكُونُ مُعْجِزَةً لِمَا يَسْأَلُهُ الْمُشْرِكُونَ. وَيُرَجِّحُ هَذَا الْمَحْمَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَهُ: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [الْقَمَر: ٢] كَمَا سَيَأْتِي هُنَالِكَ.
وَإِذْ قَدْ حَمَلَ مُعْظَمُ السَّلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَمَنْ خَلْفَهُمْ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى أَنَّ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ حَصَلَ قَبْلَ نُزُولِهَا أَوْ بِقُرْبِ نُزُولِهَا فَبِنَا أَنْ نُبَيِّنَ إِمْكَانَ حُصُولِ هَذَا الِانْشِقَاقِ مُسَايِرِينَ لِلِاحْتِمَالَاتِ النَّاشِئَةِ عَنْ رِوَايَاتِ الْخَبَرِ عَنِ الِانْشِقَاقِ إِبْطَالًا لِجَحْدِ الْمُلْحِدِينَ، وَتَقْرِيبًا لِفَهْمِ الْمُصَدِّقِينَ.
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَدَثَ خَسْفٌ عَظِيمٌ فِي كُرَةِ الْقَمَرِ أَحْدَثَ فِي وَجْهِهِ هُوَّةً لَاحَتْ لِلنَّاظِرِينَ فِي صُورَةِ شَقِّهِ إِلَى نِصْفَيْنِ بَيْنَهُمَا سَوَادٌ حَتَّى يُخَيَّلَ أَنَّهُ مُنْشَقٌّ إِلَى قَمَرَيْنِ، فَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالِانْشِقَاقِ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ لَأَنَّ الْهُوَّةَ انْشِقَاقٌ وَمُوَافِقٌ لِمَرْأَى النَّاسِ لِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ كَأَنَّهُ مَشْقُوقٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَصَلَ فِي الْأُفُقِ بَيْنَ سَمْتِ الْقَمَرِ وَسَمْتِ الشَّمْسِ مُرُورُ جِسْمٍ سَمَاوِيٍّ مِنْ نَحْوِ بَعْضِ الْمِذْنَبَاتِ حَجَبَ ضَوْءَ الشَّمْسِ عَنْ وَجْهِ الْقَمَرِ بِمِقْدَارِ ظِلِّ ذَلِكَ الْجِسْمِ عَلَى نَحْوِ مَا يُسَمَّى بِالْخُسُوفِ الْجُزْئِيِّ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِ أَحَادِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مَا يُنَاكِدُ هَذَا.
وَمِنَ الْمُمْكِنِ أَن يكون هَذَا الِانْشِقَاقُ حَدَثًا مُرَكَّبًا مِنْ خُسُوفٍ نِصْفِيٍّ فِي الْقَمَرِ عَلَى عَادَةِ الْخُسُوفِ فَحَجَبَ نِصْفَ الْقَمَرِ، وَالْقَمَرُ عَلَى سَمْتِ أَحَدِ الْجَبَلَيْنِ وَقد حَصَلَ فِي الْجَوِّ سَاعَتَئِذٍ سَحَابٌ مَائِيٌّ انْعَكَسَ فِي بَرِيقِ مَائِهِ صُورَةُ الْقَمَرِ مخسوفا بِحَيْثُ يخاله النَّاظِرُ نِصْفًا آخَرَ مِنَ الْقَمَرِ دُونَ كُسُوفٍ طَالِعًا عَلَى جِهَةِ ذَلِكَ الْجَبَلِ، وَهَذَا مِنْ غَرَائِبِ حَوَادِثِ الْجَوِّ.
وَقَدْ عُرِفَتْ حَوَادِثُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بِالنِّسْبَةِ
[سُورَة الممتحنة (٦٠) : آيَة ١٣]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣)بَعْدَ أَنِ اسْتَقْصَتِ السُّورَةُ إِرْشَادَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَا يَجِبُ فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، جَاءَ فِي خَاتِمَتِهَا الْإِرْشَادُ إِلَى الْمُعَامَلَةِ مَعَ قَوْمٍ لَيْسُوا دُونَ الْمُشْرِكِينَ فِي وُجُوبِ الْحَذَرِ مِنْهُمْ وَهُمُ الْيَهُودُ، فَالْمُرَادُ بِهِمْ غَيْرُ الْمُشْرِكِينَ إِذْ شُبِّهَ يَأْسُهُمْ مِنَ الْآخِرَةِ بِيَأْسِ الْكُفَّارِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ غَيْرُ الْمُشْرِكِينَ لِئَلَّا يَكُونَ مِنْ تَشْبِيهِ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ.
وَقَدْ نَعَتَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَهَذِهِ صِفَةٌ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ إِلْحَاقُهَا بِالْيَهُودِ كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ أَنَّهُمُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ. فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٥٧].
ذَلِكَ أَنَّ يَهُودَ خَيْبَرَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ بِجِوَارِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَعْمَلُونَ عِنْدَ الْيَهُودِ وَيُواَصِلُونَهُمْ لِيُصِيبُوا بِذَلِكَ مِنْ ثِمَارِهِمْ، وَرُبَّمَا أَخْبَرُوا الْيَهُودَ بِأَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ غَفْلَةٍ وَقِلَّةِ حَذَرٍ فَنَبَّهَهُمُ اللَّهُ إِلَى أَنْ لَا يَتَوَلَّوْهُمْ.
وَالْيَأْسُ: عَدَمُ تَوَقُّعِ الشَّيْءِ فَإِذَا عُلِّقَ بِذَاتٍ كَانَ دَالًّا عَلَى عَدَمِ تَوَقُّعِ وُجُودِهَا. وَإِذْ قَدْ كَانَ الْيَهُودُ لَا يُنْكِرُونَ الدَّارَ الْآخِرَةَ كَانَ مَعْنَى يَأْسِهِمْ مِنَ الْآخِرَةِ مُحْتَمِلًا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ فَكَأَنَّهُمْ فِي إِهْمَالِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا آيِسُونَ مِنْهَا، وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِهِمْ: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨٦].
وَتَشْبِيهُ إِعْرَاضِهِمْ هَذَا بِيَأْسِ الْكُفَّارِ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ وَجْهُهُ شِدَّةُ الْإِعْرَاضِ وَعَدَمُ التَّفَكُّرِ فِي الْأَمْرِ، شُبِّهَ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْعَمَلِ لِنَفْعِ الْآخِرَةِ بِيَأْسِ الْكُفَّارِ مِنْ حَيَاةِ الْمَوْتَى وَالْبَعْثِ وَفِيهِ تَشْنِيعُ الْمُشَبَّهِ، ومِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُتَعَلِّقٌ بِ يَئِسُوا.
والْكُفَّارُ: الْمُشْرِكُونَ.
والبديع صَلَاحِيَةٌ لِلْوَفَاءِ بِالتَّدْبِيرِ الصَّالِحِ الْمَنُوطِ بِعُهْدَةِ الْإِنْسَانِ، وَصَلَاحِيَّةٌ لِإِفْسَادِ ذَلِكَ أَوْ بَعْثَرَتِهِ.
غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْإِنْسَانِ عَقْلًا وَحِكْمَةً إِنْ هُوَ أحسن استعمالهما نَخَلَتْ صِفَاتِهِ، وَثَقَّفَتْ مِنْ قَنَاتِهِ، وَلَمْ يُخْلِهِ مِنْ دُعَاةٍ إِلَى الْخَيْرِ يَصِفُونَ لَهُ كَيْفَ يَرِيضُ جَامِحَ نَفْسِهِ، وَكَيْفَ يُوَفِّقُ بَيْنَ إِدْرَاكِهِ وَحِسِّهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْحُكَمَاءُ.
فَإِذَا أُخْبِرَ عَنِ الْإِنْسَانِ بِشِدَّةِ تَلَبُّسِهِ بِبَعْضِ النَّقَائِصِ وَجُعِلَ ذَلِكَ فِي قَالَبٍ أَنَّهُ جُبِلَ عَلَيْهِ فَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ: إِلْقَاءُ تَبِعَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ فَرَّطَ فِي إِرَاضَةِ نَفْسِهِ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ جِبِلَّةِ الْخَيْرِ، وَأَرْخَى لَهَا الْعِنَانَ إِلَى غَايَةِ الشَّرِّ، وَفَرَّطَ فِي نَصَائِحِ الشَّرَائِعِ وَالْحُكَمَاءِ.
وَإِذَا أُسْنِدَ مَا يَأْتِيهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الْخَيْرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَالْمَقْصُودُ: التَّنْبِيهُ إِلَى نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِخَلْقِ الْقُوَّةِ الْجَالِبَةِ لِلْخَيْرِ فِيهِ، وَنِعْمَةِ إِرْشَادِهِ وَإِيقَاظِهِ إِلَى الْحَقِّ، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النِّسَاء: ٧٩] عَقِبَ قَوْلِهِ: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [النِّسَاء: ٧٨].
وَفِي هَذَا الْمَجَالِ زَلَّتْ أَفْهَامُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَحَلَكَتْ عَلَيْهِمُ الْأَجْوَاءُ، فَفَكَّرُوا وَقَدَّرُوا، وَمَا اسْتَطَاعُوا مَخْلَصًا وَمَا قَدَرُوا.
وَاعْلَمْ أَنَّ كَلِمَةَ (خُلِقَ الْإِنْسَانُ) إِذَا تَعَلَّقَ بِهَا مَا لَيْسَ مِنَ الْمَوَادِّ مِثْلَ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الْإِنْسَان: ٢] بَلْ كَانَ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالْغَرَائِزِ قَدْ يُعْنَى بِهَا التَّنْبِيهُ عَلَى جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ وَأَنَّهَا تُسْرِعُ إِلَى الِاعْتِلَاقِ بِمَشَاعِرِهِ عِنْدَ تَصَرُّفَاتِهِ تَعْرِيضًا بِذَلِكَ لِوُجُوبِ الْحَذَرِ مِنْ غَوَائِلِهَا نَحْوَ خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الْأَنْبِيَاء: ٣٧] إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً، وَقَدْ تَرِدُ لِلْعُذْرِ وَالرِّفْقِ نَحْوَ قَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النِّسَاء:
٢٨]، وَقَدْ تَرِدُ لِبَيَانِ أَصْلِ مَا فُطِرَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَمَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ سُوءِ تَصَرُّفِهِ فِي أَفْعَالِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التِّين:
٤- ٥] فعل الْخَلْقِ مِنْ كَذَا مُسْتَعَارٌ لِكَثْرَةِ الْمُلَابَسَةِ. قَالَ عُرْوَةُ بْنُ أُذَيْنَةَ:
إِنَّ الَّتِي زَعَمَتْ فُؤَادَكَ مَلَّهَا | خُلِقَتْ هَوَاكَ كَمَا خُلِقْتَ هَوًى لَهَا |