وَأَنَّ تِلَادِي إِنْ نَظَرْتُ وَشِكَّتِي وَمُهْرِي وَمَا ضَمَّتْ إليّ الأنامل
جباؤك وَالْعِيسُ الْعِتَاقُ كَأَنَّهَا هِجَانُ الْمَهَى تُزْجَى عَلَيْهَا الرَّحَائِلُ
وَأَبُو الْفَتْحِ ابْنُ جِنِّي يُسَمِّي الِالْتِفَاتَ «شَجَاعَةَ الْعَرَبِيَّةِ» كَأَنَّهُ عَنَى أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى حِدَّةِ ذِهْنِ الْبَلِيغِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ تَصْرِيفِ أَسَالِيبِ كَلَامِهِ كَيْفَ شَاءَ كَمَا يَتَصَرَّفُ الشُّجَاعُ فِي مَجَالِ الْوَغَى بِالْكَرِّ وَالْفَرِّ.
وَ (إِيَّاكَ) ضَمِيرُ خِطَابٍ فِي حَالَةِ النَّصْبِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ كَلِمَةَ إِيَّا جُعِلَتْ لِيَعْتَمِدَ عَلَيْهَا الضَّمِيرُ عِنْدَ انْفِصَالِهِ وَلِذَلِكَ لَزِمَتْهَا الضَّمَائِرُ نَحْوُ: إِيَّايَ تَعْنِي، وَإِيَّاكَ أَعْنِي، وَإِيَّاهُمْ أَرْجُو.
وَمن هُنَا لَك الْتُزِمَ فِي التَّحْذِيرِ لِأَنَّ الضَّمِيرَ انْفَصَلَ عِنْدَ الْتِزَامِ حَذْفِ الْعَامِلِ. وَمِنَ النُّحَاةِ مَنْ جَعَلَ (إِيَّا) ضَمِيرًا مُنْفَصِلًا مُلَازِمًا حَالَةً وَاحِدَةً وَجَعْلَ الضَّمَائِرَ الَّتِي مَعَهُ أُضِيفَتْ إِلَيْهِ لِلتَّأْكِيدِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ (إِيَّا) هُوَ الضَّمِيرُ وَجَعَلَ مَا بَعْدَهُ حُرُوفًا لِبَيَانِ الضَّمِيرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ (إِيَّا) اعْتِمَادًا لِلضَّمِيرِ كَمَا كَانَتْ أَيُّ اعْتِمَادًا لِلْمُنَادَى الَّذِي فِيهِ الْ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ (إِيَّا) اسْمًا ظَاهِرًا مُضَافًا لِلْمُضْمَرَاتِ.
وَالْعِبَادَةُ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى الْخُضُوعِ أَوِ التَّعْظِيمِ الزَّائِدَيْنِ عَلَى الْمُتَعَارَفِ بَيْنَ النَّاسِ. وَأَمَّا إِطْلَاقُهَا عَلَى الطَّاعَةِ فَهُوَ مَجَازٌ. وَالْعِبَادَةُ فِي الشَّرْعِ أَخَصُّ فَتُعَرَّفُ بِأَنَّهَا فِعْلُ مَا يُرْضِي الرَّبَّ مِنْ خُضُوعٍ وَامْتِثَالٍ وَاجْتِنَابٍ، أَوْ هِيَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ عَلَى خِلَافِ هَوَى نَفْسِهِ تَعْظِيمًا لِرَبِّهِ، وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] ((الْعِبَادَةُ تَعْظِيمُ أَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةُ عَلَى الْخَلْقِ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الشَّرَائِعُ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَضْعِ وَالْهَيْئَةِ والقلة وَالْكَثْرَة)) اهـ فَهِيَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ تَشْمَلُ الِامْتِثَالَ لِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا.
وَقَدْ فَسَّرَ الصُّوفِيَّةُ الْعِبَادَةَ بِأَنَّهَا فِعْلُ مَا يُرْضِي الرَّبَّ، وَالْعُبُودِيَّةُ بِالرِّضَا بِمَا يَفْعَلُ الرَّبُّ. فَهِيَ أَقْوَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعُبُودِيَّةُ الْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ، وَحِفْظُ الْحُدُودِ، وَالرِّضَا بِالْمَوْجُودِ. وَالصَّبْرُ عَلَى الْمَفْقُودِ. وَهَذِهِ اصْطِلَاحَاتٌ لَا مُشَاحَّةَ فِيهَا.
قَالَ الْفَخْرُ: ((مَرَاتِبُ الْعِبَادَةِ ثَلَاثٌ: الْأُولَى أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ طَمَعًا فِي الثَّوَابِ وَخَوْفًا مِنَ الْعِقَابِ وَهِيَ الْعِبَادَةُ، وَهِيَ دَرَجَةٌ نَازِلَةٌ سَاقِطَةٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْحَقَّ وَسِيلَةً لِنَيْلِ الْمَطْلُوبِ.
الثَّانِيَةُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ لِأَجْلِ أَنْ يَتَشَرَّفَ بِعِبَادَتِهِ وَالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ بِقَبُولِ تَكَالِيفِهِ وَهِيَ أَعْلَى مِنَ الْأُولَى إِلَّاُُ
وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ إِجَابَةَ دُعَاءِ الدَّاعِي تَفَضُّلٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الْتِزَامَ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ وَفِي كُلِّ زَمَانٍ، لِأَنَّ الْخَبَرَ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ وَقَعَ فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ فَيُفِيدُ التَّلَازُمَ، لِأَنَّ الشَّرْطَ هُنَا رَبْطُ الْجَوَابِ بالسؤال وَلَيْسَ ربط لِلدُّعَاءِ بِالْإِجَابَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: إِنْ دَعُونِي أَجَبْتُهُمْ.
وَقَوْلُهُ: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي تَفْرِيعٌ عَلَى أُجِيبُ أَيْ إِذَا كُنْتُ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي فَلْيُجِيبُوا أَوَامِرِي، وَاسْتَجَابَ وَأَجَابَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَأَصْلُ أَجَابَ وَاسْتَجَابَ أَنَّهُ الْإِقْبَالُ عَلَى الْمُنَادِي بِالْقُدُومِ، أَوْ قَوْلٌ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلْحُضُورِ نَحْوَ (لَبَّيْكَ)، ثُمَّ أُطْلِقَ مَجَازًا مَشْهُورًا عَلَى تَحْقِيقِ مَا يَطْلُبُهُ الطَّالِبُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ بِتَحْقِيقِهِ يَقْطَعُ مَسْأَلَتَهُ فَكَأَنَّهُ أَجَابَ نِدَاءَهُ.
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِجَابَةِ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ فَيَكُونَ وَلْيُؤْمِنُوا بِي عَطْفًا مُغَايِرًا وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ الْفِعْلُ وَمِنَ الْأَمْرِ الثَّانِي الدَّوَامُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالِاسْتِجَابَةِ مَا يَشْمَلُ اسْتِجَابَةَ دَعْوَةِ الْإِيمَانِ، فَذِكْرُ وَلْيُؤْمِنُوا عَطْفٌ خَاصٌّ عَلَى عَامٍّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مِثْلِهِ. وَالرُّشْدُ إِصَابَةُ الْحَقِّ وَفِعْلُهُ كَنَصَرَ وَفَرِحَ وَضَرَبَ، وَالْأَشْهَرُ الْأَوَّلُ.
[١٨٧]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٨٧]
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ.
انْتِقَالٌ فِي أَحْكَامِ الصِّيَامِ إِلَى بَيَانِ أَعْمَالٍ فِي بَعْضِ أَزْمِنَةِ رَمَضَانَ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهَا تُنَافِي عِبَادَةَ الصِّيَامِ، وَلِأَجْلِ هَذَا الِانْتِقَالِ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الْجُمَلِ السَّابِقَةِ.
وَذَكَرُوا لِسَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَلَامًا مُضْطَرِبًا غَيْرَ مُبِينٍ فَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ «كَانَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا نَامَ أَحَدُهُمْ إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ وَسَهِرَ بَعْدَهَا لَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يُبَاشِرْ أَهْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَجَاءَ عُمَرُ يُرِيدُ امْرَأَتَهُ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ نِمْتُ فَظَنَّ أَنَّهَا تَعْتَلُّ فَبَاشَرَهَا»، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ
مَحْبُوبُ الشَّهَوَاتِ أَيِ الشَّهَوَاتُ الْمَحْبُوبَةُ. وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ زُيِّنَ كِنَايَةً مُرَادًا بِهِ لَازِمُ التَّزْيِينِ وَهُوَ إِقْبَالُ النَّفْسِ عَلَى مَا فِي الْمُزَيَّنِ مِنَ الْمُسْتَحْسَنَاتِ مَعَ سَتْرِ مَا فِيهِ مِنَ الْأَضْرَارِ، فَعُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّزْيِينِ، أَيْ تَحْسِينِ مَا لَيْسَ بِخَالِصِ الْحُسْنِ فَإِنَّ مُشْتَهَيَاتِ النَّاسِ تَشْتَمِلُ عَلَى أُمُورٍ مُلَائِمَةٍ مَقْبُولَةٍ، وَقَدْ تَكُونُ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا مَضَارُّ، أَشَدُّهَا أَنَّهَا تُشْغِلُ عَنْ كَمَالَاتٍ كَثِيرَةٍ فَلِذَلِكَ كَانَتْ كَالشَّيْءِ الْمُزَيَّنِ تُغَطَّى نَقَائِصُهُ بِالْمُزَيَّنَاتِ، وَبِذَلِكَ لَمْ يَبْقَ فِي تَعْلِيق زيّن بحب إِشْكَالٌ.
وَحُذِفَ فَاعِلُ التَّزْيِينِ لِخَفَائِهِ عَنْ إِدْرَاكِ عُمُومِ الْمُخَاطَبِينَ، لِأَنَّ مَا يَدُلُّ عَلَى الْغَرَائِزِ وَالسَّجَايَا، لَمَّا جُهِلَ فَاعِلُهُ فِي مُتَعَارَفِ الْعُمُومِ، كَانَ الشَّأْنُ إِسْنَادَ أَفْعَالِهِ لِلْمَجْهُولِ: كَقَوْلِهِمْ عُنِيَ بِكَذَا، وَاضْطُرَّ إِلَى كَذَا، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ الْكِنَايَةَ عَنْ لَازِمِ التَّزْيِينِ، وَهُوَ الْإِغْضَاءُ عَمَّا فِي الْمُزَيَّنِ مِنَ الْمَسَاوِي لِأَنَّ الْفَاعِلَ لَمْ يَبْقَ مَقْصُودًا بِحَالٍ، وَالْمُزَيَّنُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هُوَ إِدْرَاكُ الْإِنْسَانِ الَّذِي أَحَبَّ الشَّهَوَاتِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ جِبِلِّيٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ فِي نِظَامِ الْخِلْقَةِ قَالَ تَعَالَى: وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ [يس: ٧٢].
وَلَمَّا رَجَعَ التَّزْيِينُ إِلَى انْفِعَالٍ فِي الْجِبِلَّةِ، كَانَ فَاعِلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ خَالِقَ هَذِهِ الْجِبِلَّاتِ، فَالْمُزَيِّنُ هُوَ اللَّهُ بِخَلْقِهِ لَا بِدَعْوَتِهِ، وَرُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَإِذَا الْتَفَتْنَا إِلَى الْأَسْبَابِ الْقَرِيبَةِ الْمُبَاشِرَةِ. كَانَ الْمُزَيِّنُ هُوَ مَيْلَ النَّفْسِ إِلَى الْمُشْتَهَى، أَوْ تَرْغِيبَ الدَّاعِينَ إِلَى تَنَاوُلِ الشَّهَوَاتِ: مِنَ الْخِلَّانِ وَالْقُرَنَاءِ، وَعَنِ الْحَسَنِ: الْمُزَيِّنُ هُوَ الشَّيْطَانُ، وَكَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ التَّزْيِينَ بِمَعْنَى التَّسْوِيلِ وَالتَّرْغِيبِ بِالْوَسْوَسَةِ لِلشَّهَوَاتِ الذَّمِيمَةِ وَالْفَسَادِ،
وَقَصَرَهُ عَلَى هَذَا- وَهُوَ بَعِيدٌ- لِأَنَّ تَزْيِينَ هَذِهِ الشَّهَوَاتِ فِي ذَاتِهِ قَدْ يُوَافِقُ وَجْهَ الْإِبَاحَةِ وَالطَّاعَةِ، فَلَيْسَ يُلَازِمُهَا تَسْوِيلُ الشَّيْطَانِ إِلَّا إِذَا جَعَلَهَا وَسَائِلَ لِلْحَرَامِ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَلَهُ فِيهَا أَجْرٌ فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ، فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ»
وَسِيَاقُ الْآيَةِ تَفْضِيلُ مَعَالِي الْأُمُورِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ عَلَى الْمُشْتَهَيَاتِ الْمَخْلُوطَةِ أَنْوَاعُهَا بِحَلَالٍ مِنْهَا وَحَرَامٍ، وَالْمُعَرَّضَةِ لِلزَّوَالِ، فَإِنَّ الْكَمَالَ بِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ لِتَبْلُغَ الدَّرَجَاتِ الْقُدْسِيَّةَ، وَتَنَالَ النَّعِيمَ الْأَبَدِيَّ الْعَظِيمَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ.
وَقَوْلُهُ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ يَجُوزُ أَنَّهُ اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ حَتَّى لَا يَجْعَلَهُ الْمُنَافِقُونَ حُجَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
فِي نَفْيِ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ إِلَّا مَا أَطْلَعَ عَلَيْهِ رَسُولَهُ وَمِنْ شَأْنِ الرَّسُولِ أَنْ لَا يُفْشِيَ مَا أَسَرَّهُ اللَّهُ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الْجِنّ: ٢٦، ٢٧] الْآيَةَ، فَيَكُونُ كَاسْتِثْنَاءٍ مِنْ عُمُومِ لِيُطْلِعَكُمْ. وَيَجُوزُ أَنَّهُ اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا يُفِيدُهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ مِنِ انْتِفَاءِ اطِّلَاعِ أَحَدٍ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ كَاسْتِثْنَاءٍ مِنْ مُفَادِ الْغَيْبِ أَيْ: إِلَّا الْغَيْبَ الرَّاجِعَ إِلَى إِبْلَاغِ الشَّرِيعَةِ، وَأَمَّا مَا عَدَاهُ فَلَمْ يَضْمَنِ اللَّهُ لِرُسُلِهِ إِطْلَاعَهُمْ عَلَيْهِ بَلْ قَدْ يُطْلِعُهُمْ، وَقَدْ لَا يُطْلِعُهُمْ، قَالَ تَعَالَى: وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الْأَنْفَال: ٦٠].
وَقَوْلُهُ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ إِنْ كَانَ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِيمَانُ الْخَاصُّ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِأَنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ عَنِ الْهَوَى، وَبِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلَفُ، فَعَلَيْهِمُ الطَّاعَةُ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ أَوْ أُرِيدَ الدَّوَامُ عَلَى الْإِيمَانِ، لِأَنَّ الْحَالَةَ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهَا قَدْ يُتَوَقَّعُ
مِنْهَا تَزَلْزُلُ إِيمَانِ الضُّعَفَاءِ وَرَوَاجُ شُبَهِ الْمُنَافِقِينَ، وَمَوْقِعُ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا ظَاهِرٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: فَآمِنُوا خِطَابًا لِلْكُفَّارِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ: لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ لِلْكَفَّارِ فَالْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ ظَاهِرٌ، وَمُنَاسَبَةُ تَفْرِيعِهِ عَمَّا تَقَدَّمَ انْتِهَازُ فُرَصِ الدَّعْوَةِ حَيْثُمَا تأتّت.
[١٨٠]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٨٠]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠)
عَطْفٌ عَلَى وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا أُنْزِلَ فِي شَأْنِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ
ارْتِكَابِهِ خِلَافَ الشَّرْعِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهَا إِلَّا بِالْقَوْلِ، أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ أَصْلًا وَهَذِهِ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وُجُوبُ الْخُرُوجِ مِنْهَا، رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ حَدَثَ فِي الْقَيْرَوَانِ أَيَّامَ بَنِي عُبَيْدٍ فَلَمْ يُحْفَظْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ فُقَهَائِهَا الصَّالِحِينَ دَعَا النَّاسَ إِلَى الْهِجْرَةِ.
وَحَسْبُكَ بِإِقَامَةِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ وَأَمْثَالِهِ. وَحَدَثَ فِي مِصْرَ مُدَّةَ الْفَاطِمِيِّينَ أَيْضًا فَلَمْ يُغَادِرْهَا أَحَدٌ مِنْ عُلَمَائِهَا الصَّالِحِينَ. وَدُونَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ السِّتَّةِ أَحْوَالٌ كَثِيرَةٌ هِيَ أَوْلَى بِجَوَازِ الْإِقَامَةِ، وَأَنَّهَا مَرَاتِبُ، وَإِنَّ لِبَقَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَوْطَانِهِمْ إِذَا لَمْ يُفْتَنُوا فِي دِينِهِمْ
مَصْلَحَةً كُبْرَى للجامعة الإسلامية.
[١٠٠]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٠٠]
وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠)
جُمْلَةُ وَمَنْ يُهاجِرْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [النِّسَاء: ٩٧]، وَ (مَنْ) شَرْطِيَّةٌ. وَالْمُهَاجَرَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هِيَ الْمُهَاجَرَةُ لِأَجْلِ دِينِ اللَّهِ. وَالسَّبِيلُ اسْتِعَارَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وزادها قبولا هُنَا أَنَّ الْمُهَاجَرَةَ نَوْعٌ مِنَ السَّيْرِ، فَكَانَ لِذِكْرِ السَّبِيلِ مَعَهَا ضَرْبٌ مِنَ التَّوْرِيَةِ. وَالْمُرَاغَمُ اسْمُ مَكَانٍ مِنْ رَاغَمَ إِذَا ذَهَبَ فِي الْأَرْضِ، وَفِعْلُ رَاغَمَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّغَامِ- بِفَتْحِ الرَّاءِ- وَهُوَ التُّرَابُ. أَوْ هُوَ مِنْ رَاغَمَ غَيْرَهُ إِذَا غَلَبَهُ وَقَهَرَهُ، وَلَعَلَّ أَصْلَهُ أَنَّهُ أَبْقَاهُ عَلَى الرَّغَامِ، أَيِ التُّرَابِ، أَيْ يَجِدُ مَكَانًا يُرْغِمُ فِيهِ مَنْ أَرْغَمَهُ، أَيْ يَغْلِبُ فِيهِ قَوْمَهُ بِاسْتِقْلَالِهِ عَنْهُمْ كَمَا أَرْغَمُوهُ بِإِكْرَاهِهِ عَلَى الْكُفْرِ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ وَعْلَةَ الذُّهْلِيُّ:
لَا تَأْمَنَنَّ قَوْمًا ظَلَمْتَهُمْ وَبَدَأْتَهُمْ بِالشَّتْمِ وَالرَّغَمِ
إِنْ يَأْبِرُوا نَخْلًا لِغَيْرِهِمْ وَالشَّيْءُ تَحْقِرُهُ وَقَدْ يَنْمِي
أَيْ أَنْ يَكُونُوا عَوْنًا لِلْعَدُوِّ عَلَى قَوْمِهِمْ. وَوَصْفُ الْمُرَاغَمِ بِالْكَثِيرِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ جِنْسُ الْأَمْكِنَةِ. وَالسَّعَةُ ضِدُّ الضِّيقِ، وَهِيَ حَقِيقَةُ اتِّسَاعِ الْأَمْكِنَةِ، وَتُطْلَقُ عَلَى رَفَاهِيَةِ الْعَيْشِ، فَهِيَ سَعَةٌ مَجَازِيَّةٌ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَاغَمُ هُوَ الذَّهَابُ فِي الْأَرْضِ فَعَطْفُ السَّعَةِ عَلَيْهِ عَطْفَِِ
تَخَلُّصٌ إِلَى تَشْرِيعِ عِقَابِ الْمُحَارِبِينَ، وَهُمْ ضَرْبٌ مِنَ الْجُنَاةِ بِجِنَايَةِ الْقَتْلِ. وَلَا عَلَاقَةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَلَا الَّتِي بَعْدَهَا بِأَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي شَأْنِ حكم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُرَنِيِّينَ، وَبِهِ يُشْعِرُ صَنِيعُ الْبُخَارِيِّ إِذْ تَرْجَمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كِتَابِ التَّفْسِيرِ،
وَأَخْرَجَ عَقِبَهُ حَدِيثَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي الْعُرَنِيِّينَ. وَنَصُّ الْحَدِيثِ مِنْ مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِهِ: «قَدِمَ على النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرٌ مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ (١) فَأَسْلَمُوا ثُمَّ أَتَوْا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا قَدِ اسْتَوْخَمْنَا هَذِهِ الْأَرْضَ، فَقَالَ لَهُمْ: هَذِهِ نَعَمٌ لَنَا فَاخْرُجُوا فِيهَا فَاشْرَبُوا أَلْبَانَهَا وَأَبْوَالَهَا. فَخَرَجُوا فِيهَا فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا وَاسْتَصَحُّوا، فَمَالُوا عَلَى الرَّاعِي فَقَتَلُوهُ وَاطَّرَدُوا الذَّوْدَ وَارْتَدُّوا
. فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ فِي آثَارِهِمْ، بَعَثَ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي خَيْلٍ فَأَدْرَكُوهُمْ وَقَدْ أَشْرَفُوا عَلَى بِلَادِهِمْ، فَمَا تَرَجَّلَ النَّهَارُ حَتَّى جِيءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ، فَقُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَسُمِلَتْ أَعْيُنُهُمْ بِمَسَامِيرَ أُحْمِيَتْ، ثُمَّ حَبَسَهُمْ حَتَّى مَاتُوا. وَقِيلَ: أَمَرَ بِهِمْ فَأُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَمَا يُسْقَوْنَ حَتَّى مَاتُوا. قَالَ جَمَاعَةٌ: وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ آيَةُ الْمَائِدَةِ. نَقَلَ ذَلِكَ مَوْلَى ابْنِ الطَّلَّاعِ فِي كِتَابِ «الْأَقْضِيَةِ الْمَأْثُورَةِ»
بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ جُبَيْرٍ وَابْنِ سِيرِينَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ نُزُولُهَا نَسْخًا لِلْحَدِّ الَّذِي أَقَامَهُ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاءٌ كَانَ عَنْ وَحْيٍ أَمْ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا اجْتَهَدَ وَلَمْ يُغَيِّرْهُ اللَّهُ عَلَيْهِ قَبْلَ وُقُوعِ الْعَمَلِ
_________
(١) هم سَبْعَة: ثَلَاثَة من عكل. وَأَرْبَعَة من عريّنه. وعكل- بِضَم الْعين وَسُكُون الْكَاف- قَبيلَة من تيم الرّباب بن عبد منَاف بن طابخة بن إلْيَاس بن مُضر. وعرينة- بِضَم الْعين وَفتح الرَّاء- قَبيلَة من قضاعة.
لَا
يُؤْمِنُونَ إِذْ كَانُوا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، عَلَى أَنَّ خِطَابَ التَّكْلِيفِ عَامٌّ لَا تَعْيِينَ فِيهِ لِأُنَاسٍ وَلَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ لِأُنَاسٍ. فَالْجَعْلُ بِمَعْنَى الْخَلْقِ وَلَيْسَ لِلتَّحْوِيلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَقَدْ مَاتَ الْمُسَمَّوْنَ كُلُّهُمْ عَلَى الشِّرْكِ عَدَا أَبَا سُفْيَانَ فَإِنَّهُ شَهِدَ حِينَئِذٍ بِأَنَّ مَا سَمِعَهُ حَقٌّ، فَدَلَّتْ شَهَادَتُهُ عَلَى سَلَامَةِ قَلْبِهِ مِنَ الْكِنَانِ.
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي أَنْ يَفْقَهُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ. وَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ. وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ أَنْ يَفْقَهُوهُ، وَيَتَعَلَّقُ بِ أَكِنَّةً لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْمَنْعِ، أَيْ أَكِنَّةً تَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَفْهَمُوا الْقُرْآنَ.
وَالْوَقْرُ- بِفَتْحِ الْوَاوِ- الصَّمَمُ الشَّدِيدُ وَفِعْلُهُ كَوَعَدَ وَوَجَدَ يُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا، يُقَالُ:
وَقَرَتْ أُذُنُهُ، وَمُتَعَدِّيًا يُقَالُ: وَقَرَ اللَّهُ أُذُنَهُ فَوَقَرَتْ. وَالْوَقْرُ مَصْدَرٌ غَيْرُ قِيَاسِيٍّ لِ (وَقَرَتْ) أُذُنُهُ، لِأَنَّ قِيَاسَ مَصْدَرِهِ تَحْرِيكُ الْقَافِ، وَهُوَ قِيَاسِيٌّ لِ (وَقَرَ) الْمُتَعَدِّي، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِعَدَمِ فَهْمِ الْمَسْمُوعَاتِ. جَعَلَ عَدَمَ الْفَهْمِ بِمَنْزِلَةِ الصَّمَمِ وَلَمْ يُذْكَرْ لِلْوَقْرِ مُتَعَلِّقٌ يَدُلُّ عَلَى الْمَمْنُوعِ بِوَقْرِ آذَانِهِمْ لِظُهُورِ أَنَّهُ مِنْ أَنْ يَسْمَعُوهُ، لِأَنَّ الْوَقْرَ مُؤْذِنٌ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْمُرَادَ السَّمْعُ الْمَجَازِيُّ وَهُوَ الْعِلْمُ بِمَا تَضَمَّنَهُ الْمَسْمُوعُ.
وَقَوْلُهُ: عَلى قُلُوبِهِمْ، وَقَوْلُهُ: فِي آذانِهِمْ يَتَعَلَّقَانِ بِ جَعَلْنا. وَقُدِّمَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى مَفْعُولِ جَعَلْنا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَعَلُّقِهِ بِهِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ.
فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ تَكُونُ هَاتِهِ الْآيَةُ حُجَّةً لِلَّذِينَ قَالُوا مِنْ عُلَمَائِنَا: إِنَّ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ بِالصِّرْفَةِ، أَيْ أَعْجَزَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِأَنْ صَرَفَهُمْ عَنْ مُحَاوَلَةِ الْمُعَارَضَةِ لِتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، فَتَكُونُ الصِّرْفَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَكِنَّةِ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ.
قُلْتُ: لَمْ يَحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَصْحَابُ تِلْكَ الْمَقَالَةِ لِأَنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْأَكِنَّةَ تَخْيِيلٌ وَأَنَّ الْوَقْرَ اسْتِعَارَةٌ وَأَنَّ قَوْلَ النَّضْرِ (مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ)، بُهْتَانٌ وَمُكَابَرَةٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها.
وَكَلِمَةُ كُلَّ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْكَثْرَةِ مَجَازًا لِتَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ سَوَاءٌ كَانَ التَّعَذُّرُ عَقْلًا كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ [النِّسَاء: ١٢٩]، وَذَلِكَ أَنَّ الْآيَاتِ تَنْحَصِرُ أَفْرَادُهَا
وَقَوْلِهِ:- وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النَّحْل: ١٥] أَيْ لِتَجَنُّبِ مَيْدِهَا بِكُمْ، وَقَوْلُ عَمْرو بن كثلوم:
فَعَجَّلْنَا الْقِرَى أَنْ تَشْتُمُونَا وَهَذَا الْقَوْلُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ صَدَرَ عَنْهُمْ مِنْ قَبْلُ، فَقَدْ جَاءَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْقَصَصِ [٤٨] : فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَقَّعًا ثُمَّ قَالُوهُ مِنْ بَعْدُ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَإِنَّهُ مُتَوَقَّعٌ أَنْ يُكَرِّرُوهُ وَيُعِيدُوهُ قَوْلًا مُوَافِقًا لِلْحَالِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَكَانَ متوقّعا صدوره عِنْد مَا يَتَوَّجَهُ الْمَلَامُ عَلَيْهِمْ فِي انْحِطَاطِهِمْ عَنْ مُجَاوَرِيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ حَيْثُ اسْتِكْمَالِ الْفَضَائِلِ وَحُسْنِ السَّيْرِ وَكَمَالِ التَّدَيُّنِ، وَعِنْدَ سُؤَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ عَنِ اتّباع ضلالهم، وَعند مَا يُشَاهِدُونَ مَا يَنَالُهُ أَهْلُ الْمِلَلِ الصَّالِحَةِ مِنَ النَّعِيمِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ فِي ثَوَابِ اللَّهِ فَيَتَطَلَّعُونَ إِلَى حَظٍّ مِنْ ذَلِكَ وَيَتَعَلَّلُونَ بِأَنَّهُمْ حُرِمُوا الْإِرْشَادَ فِي الدُّنْيَا.
وَقَدْ كَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي بِلَادِ الْعَرَبِ عَلَى حَالَةٍ أَكْمَلَ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ النَّابِغَةِ يَمْدَحُ آلَ النُّعْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ، وَكَانُوا نَصَارَى:
مَجَلَّتُهُمْ ذَاتُ الْإِلَهِ وَدِينُهُمْ قَوِيمٌ فَمَا يَرْجُونَ غَيْرَ الْعَوَاقِبِ
وَلَا يَحْسِبُونَ الْخَيْرَ لَا شَرَّ بَعْدَهُ وَلَا يَحْسِبُونَ الشَّرَّ ضَرْبَةَ لَازِبٍ
وَالطَّائِفَةُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ الْكَثِيرَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٠٢]، وَالْمُرَادُ بِالطَّائِفَتَيْنِ هُنَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.
وَالْكِتَابُ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ الْمُنْحَصِرُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ. وَمَعْنَى إِنْزَالُ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ خُوطِبُوا بِالْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى
وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِفَتْحِ النُّونِ، وَسُكُونِ الشِّينِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَانْتَصَبَ إِمَّا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِأَنَّهُ مُرَادِفٌ لِ (أَرْسَلَ) بِمَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ، أَيْ أَرْسَلَهَا إِرْسَالًا أَوْ نَشْرَهَا نَشْرًا، وَإِمَّا عَلَى الْحَالِ مِنَ الرِّيحِ، أَيْ نَاشِرَةً أَيِ السَّحَابُ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي (أَرْسَلَ) أَيْ أَرْسَلَهَا نَاشِرًا أَيْ مُحْيِيًا بِهَا الْأَرْضَ الْمَيْتَةَ، أَيْ مُحْيِيًا بِآثَارِهَا وَهِيَ الْأَمْطَارُ.
وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ فِي مَوْضِعِ النُّونِ مَضْمُومَةً وَبِسُكُونِ الشِّينِ- وَبِالتَّنْوِينِ وَهُوَ تَخْفِيفُ (بُشُرًا) بِضَمِّهِمَا عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ بَشِيرٍ مِثْلُ نُذُرٍ وَنَذِيرٍ، أَيْ مُبَشِّرَةً لِلنَّاسِ بِاقْتِرَابِ الْغَيْثِ.
فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ أَنَّ الرِّيَاحَ تَنْشُرُ السَّحَابَ، وَأَنَّهَا تَأْتِي مِنْ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ تَتَعَاقَبُ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَ امْتِلَاءِ الْأَسْحِبَةِ بِالْمَاءِ وَأَنَّهَا تُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَأَنَّهَا تُبَشِّرُ النَّاسَ بِهُبُوبِهَا، فَيَدْخُلُ عَلَيْهِم بهَا سرُور.
وَأَصْلُ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: بَيْنَ يَدَيْ فُلَانٍ، أَنَّهُ يَكُونُ أَمَامَهُ بِقُرْبٍ مِنْهُ (وَلِذَلِكَ قُوبِلَ بِالْخَلْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ [الْبَقَرَة: ٢٥٥] ) فَقَصْدُ قَائِلِهِ الْكِنَايَةُ
عَنِ الْأَمَامِ، وَلَيْسَ صَرِيحًا، حَيْثُ إِنَّ الْأَمَامَ الْقَرِيبَ أَوْسَعُ مِنَ الْكَوْنِ بَيْنَ الْيَدَيْنِ، ثُمَّ لِشُهْرَةِ هَذِهِ الْكِنَايَةِ وَأَغْلَبِيَّةِ مُوَافَقَتِهَا لِلْمَعْنَى الصَّرِيحِ جُعِلَتْ كَالصَّرِيحِ، وَسَاغَ أَنْ تُسْتَعْمَلَ مَجَازًا فِي التَّقَدُّمِ وَالسَّبْقِ الْقَرِيبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سبأ:
٤٦]، وَفِي تَقَدُّمِ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ مَعَ قُرْبِهِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ أَمَامَهُ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْمُتَقَدَّمِ عَلَيْهِ يَدَانِ. وَهَكَذَا اسْتِعْمَالُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَيْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ سَابِقَةً رَحْمَتُهُ.
وَالرَّحْمَةُ هَذِهِ أُرِيدَ بِهَا الْمَطَرُ، فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ، لِأَنَّ اللَّهَ يَرْحَمُ بِهِ. وَالْقَرِينَةُ عَلَى الْمُرَادِ بَقِيَّةُ الْكَلَامِ، وَلَيْسَتِ الرَّحْمَةُ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَطَرِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ، وَإِضَافَةُ الرَّحْمَةِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تُبْعِدُ دَعْوَى مَنِ ادَّعَاهَا مِنْ أَسْمَاءِ الْمَطَرِ. وَالْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ مِنْ قَوْلِهِ:
وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ.
وَالظُّلْمُ هُنَا عَلَى حَقِيقَتِهِ فَإِنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا أَحَلُّوهُ بِهَا مِنَ الْكُفْرِ الَّذِي جَعَلَهُمْ مَذْمُومِينَ فِي الدُّنْيَا وَمُعَذَّبِينَ فِي الْآخِرَةِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ مَا ظَلَمُوا إِلَّا أَنْفُسَهُمْ، وَشَأْنُ الْعَاقِلِ أَنْ لَا يُؤْذِيَ نَفْسَهُ، وَفِيهِ إِزَالَةُ تَبَجُّحِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يتبعوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ يَغِيظُهُ وَيَغِيظُ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا يَضُرُّونَ أَنْفُسَهُمْ.
وَجُمْلَةُ: وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى الصِّلَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ مَعْرُوفُونَ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عِنْدَ النَّبِيءِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ فَتَكُونَ تَذْيِيلًا لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا إِخْبَارًا عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ، وَانْتِفَاءِ مِنَ الْقَصَصِ مَا ظَلَمُوا إِلَّا أَنْفُسَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: كانُوا يَظْلِمُونَ أَقْوَى فِي إِفَادَةِ وَصْفِهِمْ بِالظُّلْمِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فِي سُورَة الْأَنْعَام [٧٥].
[١٧٨]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١٧٨]
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ لِلْقِصَّةِ وَالْمَثَلِ وَمَا أُعْقِبَا بِهِ مِنْ وَصْفِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تُحَصِّلُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَتَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ، وَذَلِكَ أَعْلَى أَنْوَاعِ التَّذْيِيلِ، وَفِيهَا تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْمُهْتَدِينَ وَتَلْقِينٌ لِلْمُسْلِمِينَ لِلتَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِطَلَبِ الْهِدَايَةِ مِنْهُ وَالْعِصْمَةِ مِنْ مَزَالِقِ الضَّلَالِ، أَيْ فَالَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى الْحَقِّ بَعْدَ أَنْ جَاءَهُمْ دَلَّتْ حَالُهُمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ غَضِبَ عَلَيْهِمْ فَحَرَمَهُمُ التَّوْفِيقَ.
وَالْهِدَايَةُ حَقِيقَتُهَا إِبَانَةُ الطَّرِيقِ، وَتُطْلَقُ عَلَى مُطْلَقِ الْإِرْشَادِ لِمَا فِيهِ النَّفْعُ سَوَاءٌ اهْتَدَى الْمَهْدِيُّ إِلَى مَا هُدِيَ إِلَيْهِ أَمْ لَمْ يَهْتَدِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الْإِنْسَان: ٣] وَقَالَ: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت: ١٧].
ثُمَّ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي يُسْنَدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ أَتْقَنُ أَنْوَاعِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ وَأَدْوَمُهَا، مَا لَمْ تَقُمِ الْقَرِينَةُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ يَعْنِي بِهِ مَنْ يُقَدِّرُ اللَّهُ اهْتِدَاءَهُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى مَنْ يُرْشِدُهُ اللَّهُ بِالْأَدِلَّةِ أَوْ بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ،
وَالذَّوْقُ مَجَازٌ فِي الْحِسِّ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٩٥].
وَمَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ مَفْعُولٌ لِفِعْلِ الذَّوْقِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ يُعْلَمُ مِنَ الْمَقَامِ: أَيْ ذُوقُوا عَذَابَ مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ.
وَعَبَّرَ بِالْمَوْصُولِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى غَلَطِهِمْ فِيمَا كَنَزُوا لِقَصْدِ التَّنْدِيمِ.
[٣٦]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٣٦]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ.
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِإِقَامَةِ نِظَامِ التَّوْقِيتِ لِلْأُمَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الْحَقِّ الصَّالِحِ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ، وَالْمُنَاسِبِ لِمَا وَضَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ نِظَامَ الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ، وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ نِظَامِ الْعَوَالِمِ السَّمَاوِيَّةِ، بِوَجْهٍ مُحْكَمٍ لَا مَدْخَلَ لِتَحَكُّمَاتِ النَّاسِ فِيهِ، وَلِيُوَضِّحَ تَعْيِينَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ [التَّوْبَة: ٥] بَعْدَ مَا عَقِبَ ذَلِك من التفاضيل فِي أَحْكَامِ الْأَمْنِ وَالْحَرْبِ مَعَ فِرَقِ الْكُفَّارِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ.
وَالْمَقْصُودُ: ضَبْطُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَإِبْطَالُ مَا أَدْخَلَهُ الْمُشْرِكُونَ فِيهَا مِنَ النَّسِيءِ الَّذِي أَفْسَدَ أَوْقَاتَهَا، وَأَفْضَى إِلَى اخْتِلَاطِهَا، وأزال حُرْمَة مَاله حُرْمَةَ مِنْهَا، وَأَكْسَبَ حُرْمَةً لِمَا لَا حُرْمَةَ لَهُ مِنْهَا.
وَإِنَّ ضَبْطَ التَّوْقِيتِ مِنْ أُصُولِ إِقَامَةِ نِظَامِ الْأُمَّةِ وَدَفْعِ الْفَوْضَى عَنْ أَحْوَالِهَا.
وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِهِ لِتَتَوَجَّهَ أَسْمَاعُ النَّاسِ وَأَلْبَابُهُمْ إِلَى وَعْيِهِ.
وَالْمُرَادُ بِالشُّهُورِ: الشُّهُورُ الْقَمَرِيَّةُ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، لِأَنَّهَا الْمَعْرُوفَةَ عِنْدَ الْعَرَبِ وَعِنْدَ أَغْلَبِ الْأُمَمِ، وَهِيَ أَقْدَمُ أَشْهُرِ التَّوْقِيتِ فِي الْبَشَرِ وَأَضْبَطُهَا لِأَنَّ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الْقَمَرِ
عَنِ الْجَمْعِ فِي صِلَةِ (مَنِ) الثَّانِيَةِ هُوَ التَّفَنُّنُ وَكَرَاهِيَةُ إِعَادَةِ صِيغَةِ الْجَمْعِ لِثِقَلِهَا لَا سِيَّمَا بَعْدَ
أَنْ حَصَلَ فَهْمُ الْمُرَادِ، أَوْ لَعَلَّ اخْتِلَافَ الصِّيغَتَيْنِ لِلْمُنَاسَبَةِ مَعَ مَادَّةِ فعلي (يستمع) و (ينظر).
فَفِعْلُ (يَنْظُرُ) لَا تُلَائِمُهُ صِيغَةُ الْجَمْعِ لِأَنَّ حُرُوفَهُ أَثْقَلُ مِنْ حُرُوفِ (يَسْتَمِعُ) فَيَكُونُ الْعُدُولُ اسْتِقْصَاءً لمقْتَضى الفصاحة.
[٤٤]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ٤٤]
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤)
تَذْيِيلٌ، وَشَمِلَ عُمُومُ النَّاسِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ وَيَنْظُرُونَ وَلَا يَعْتَبِرُونَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّذْيِيلِ التَّعْرِيضُ بِالْوَعِيدِ بِأَنْ سَيَنَالُهُمْ مَا نَالَ جَمِيعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَكْذِيبِ رُسُلِ اللَّهِ. وَعُمُومُ النَّاسَ الْأَوَّلُ عَلَى بَابِهِ وَعُمُومُ النَّاسَ الثَّانِي مُرَادٌ بِهِ خُصُوصُ النَّاسِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِقَرِينَةِ الْخَبَرِ. وَإِنَّمَا حَسُنَ الْإِتْيَانُ فِي جَانِبِ هَؤُلَاءِ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ تَنْزِيلًا لِلْكَثْرَةِ مَنْزِلَةَ الْإِحَاطَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ غَالِبُ حَالِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
وَهَذَا الِاسْتِدْرَاكُ أَشْعَرَ بِكَلَامٍ مَطْوِيٍّ بَعْدَ نَفْيِ الظُّلْمِ عَنِ اللَّهِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ بِعِقَابِهِ مَنْ لَمْ يَسْتَوْجِبِ الْعِقَابَ وَلَكِنَّ النَّاسَ يَظْلِمُونَ فَيَسْتَحِقُّونَ الْعِقَابَ، فَصَارَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ بِالْعِقَابِ وَلَكِنَّهُمْ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْهُمْ فَيُعَاقِبُهُمْ عَدْلًا لِأَنَّهُمْ ظَلَمُوا فَاسْتَوْجَبُوا الْعِقَابَ.
وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ عَلَى عَامِلِهِ لِإِفَادَةِ تَغْلِيطِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَا جَنُوا بِكُفْرِهِمْ إِلَّا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَمَا ظَلَمُوا اللَّهَ وَلَا رُسُلَهُ فَمَا أَضَرُّوا بِعَمَلِهِمْ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِتَشْدِيدِ نُونِ لكِنَّ وَنَصْبِ النَّاسَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَرفع النَّاسَ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِإِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ،
وَتَأْكِيدِ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ إِنَّ لِلِاهْتِمَامِ وَتَحْقِيقِ الْخَبَرِ. وإِنَّ فِيهِ مُفِيدَةٌ مَعْنَى التَّعْلِيلِ وَالتَّفْرِيعِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، وَالتَّعْلِيلُ مُشْعِرٌ بِعُمُومِ أَصْحَابِ الْحَسَنَاتِ لِأَنَّ الشَّأْنَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ أَعَمَّ مِنَ الْمَعْلُولِ مَعَ مَا يَقْتَضِيهِ تَعْرِيفُ الْجَمْعِ بِاللَّامِ مِنَ الْعُمُومِ.
وَإِذْهَابُ السَّيِّئَاتِ يَشْمَلُ إِذْهَابَ وُقُوعِهَا بِأَنْ يَصِيرَ انْسِيَاقُ النَّفْسِ إِلَى تَرْكِ السَّيِّئَاتِ سَهْلًا وَهَيِّنًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: ٤٥] وَيَكُونُ هَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْحَسَنَاتِ كُلِّهَا. وَيَشْمَلُ أَيْضًا مَحْوَ إِثْمِهَا إِذَا وَقَعَتْ، وَيَكُونُ هَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْحَسَنَاتِ كُلِّهَا فَضْلًا مِنَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ.
وَمَحْمَلُ السَّيِّئَاتِ هُنَا عَلَى السَّيِّئَاتِ الصَّغَائِرِ الَّتِي هِيَ مِنَ اللَّمَمِ حَمْلًا لِمُطْلَقِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مُقَيَّدِ آيَةِ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النَّجْم: ٣٢] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النِّسَاء: ٣١]، فَيَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَاتِ أَنَّ اجْتِنَابَ الْفَوَاحِشِ جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا لِغُفْرَانِ الصَّغَائِرِ أَوْ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْحَسَنَاتِ يُذْهِبُ أَثَرَ السَّيِّئَاتِ الصَّغَائِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٣١].
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةَ حرَام فَأتى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذكرت ذَلِكَ فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ الرَّجُلُ: أَلِي هَذِهِ؟ قَالَ: لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
إِنِّي عَالَجْتُ امْرَأَةً فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَإِنِّي أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونُ أَنْ أَمَسَّهَا وَهَا أَنَا ذَا فَاقْضِ فِيَّ مَا شِئْتَ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَمَّا التَّعَرُّضُ لِلْمُنَزَّلِ إِلَيْهِ هُنَا فَلِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ، وَلِيَجْعَلَ لَهُ حَظٌّ فِي هَذِهِ الْمِنَّةِ وَهُوَ حَظُّ الْوَسَاطَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ غَمِّ المعاندين والمبغضين للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَقْصِدِ وَقَعَ إِظْهَارُ صِفَاتِ فَاعِلِ الْإِنْزَالِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي قَوْلِهِ: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمَقَامُ لِلْإِضْمَارِ تَبَعًا لِقَوْلِهِ: أَنْزَلْناهُ.
وَإِسْنَادُ الْإِخْرَاجِ إِلَى النَّبِيءِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِأَنَّهُ يُبَلِّغُ هَذَا الْكِتَابَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى تَبْيِينِ طُرُقِ الْهِدَايَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَإِظْهَارِ فَسَادِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَهُوَ مَعَ التَّبْلِيغِ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ وَيُقَرِّبُ إِلَيْهِمْ مَعَانِيَ الْكِتَابِ بِتَفْسِيرِهِ وَتَبْيِينِهِ، ثُمَّ بِمَا يَبْنِيهِ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالنُّذُرِ وَالْبِشَارَةِ. وَإِذْ قَدْ أُسْنِدَ الْإِخْرَاجُ إِلَيْهِ فِي سِيَاقِ تَعْلِيلِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ إِلَيْهِ عُلِمَ أَنَّ إِخْرَاجَهُ إِيَّاهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ بِسَبَبِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ، أَيْ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ مَعَانِي الْهِدَايَةِ.
وَتَعْلِيلُ الْإِنْزَالِ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الظُّلُمَاتِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ هِيَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ، فَمَنِ اهْتَدَى فَبِإِرْشَادِ اللَّهِ وَمَنْ ضَلَّ فَبِإِيثَارِ الضال هوى نَفسه عَلَى دَلَائِلِ الْإِرْشَادِ، وَأَمْرُ اللَّهِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِحِكَمٍ وَمَصَالِحَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ.
وَالْإِخْرَاجُ: مُسْتَعَارٌ لِلنَّقْلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. شَبَّهَ الِانْتِقَالَ بِالْخُرُوجِ فَشَبَّهَ النَّقْلَ بِالْإِخْرَاجِ.
والظُّلُماتِ والنُّورِ اسْتِعَارَةٌ لِلْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، لِأَنَّ الْكُفْرَ يَجْعَلُ صَاحِبَهُ فِي حَيْرَةٍ فَهُوَ كَالظُّلْمَةِ فِي ذَلِكَ، وَالْإِيمَانُ يُرْشِدُ إِلَى الْحَقِّ فَهُوَ كَالنُّورِ فِي إِيضَاحِ السَّبِيلِ. وَقَدْ يَسْتَخْلِصُ السَّامِعُ مِنْ ذَلِكَ تَمْثِيلَ حَالِ الْمُنْغَمِسِ فِي الْكُفْرِ بِالْمُتَحَيِّرِ فِي ظُلْمَةٍ، وَحَالِ انْتِقَالِهِ إِلَى الْإِيمَانِ بِحَالِ الْخَارِجِ مِنْ ظُلْمَةٍ إِلَى مَكَانٍ نَيِّرٍ.
وَفُرِّعَ عَلَيْهِ التَّهْدِيدُ بِأَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ بَعْدَ زَوَالِ التَّمَتُّعِ. وَحَذْفُ
مَفْعُولِ تَعْلَمُونَ لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ أَيْ تَعْلَمُونَ جَزَاء كفركم.
[٥٦]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٥٦]
وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦)
عَطْفُ حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِ كُفْرِهِمْ لَهَا مِسَاسٌ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعْمَةِ، فَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [سُورَة النَّحْل: ٥٣]. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى يُشْرِكُونَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [سُورَة النَّحْل: ٥٤].
وَمَا حُكِيَ هُنَا هُوَ من تَفَارِيعُ دِينِهِمُ النَّاشِئَةُ عَنْ إِشْرَاكِهِمْ وَالَّتِي هِيَ مِنْ تَفَارِيعِ كُفْرَانِ نِعْمَةِ رَبِّهِمْ، إِذْ جَعَلُوا فِي أَمْوَالِهِمْ حَقًّا لِلْأَصْنَامِ الَّتِي لَمْ تَرْزُقْهُمْ شَيْئًا. وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا [سُورَة النَّحْل: ١٣٦].
إِلَّا أَنَّهُ اقْتَصَرَ هُنَا عَلَى ذِكْرِ مَا جَعَلُوهُ لِشُرَكَائِهِمْ دُونَ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا لِتَفْصِيلِ كُفْرَانِهِمُ النِّعْمَةَ، بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فَهُوَ مَقَامُ تَعْدَادِ أَحْوَالِ جَاهِلِيَّتِهِمْ وَإِنْ كَانَ كُلُّ ذَلِكَ مُنْكَرًا عَلَيْهِمْ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَ الْكُفْرِ أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ.
وَالْجَعْلُ: التَّصْيِيرُ وَالْوَضْعُ. تَقُولُ: جَعَلْتُ لَكَ فِي مَالِي كَذَا. وَجِيءَ هُنَا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَاسْتِمْرَارِهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ [سُورَة النَّحْل: ٣٨] بِأَنَّهُ حِكَايَةُ قَضِيَّةٍ مَضَتْ مِنْ عِنَادِهِمْ وَجِدَالِهِمْ فِي أَمْرِ الْبَعْثِ.
رَسُولٍ أَخْرَجَهُ قَوْمُهُ أَنْ لَا يَبْقَوْا بَعْدَهُ، خَرَجَ هُودٌ مِنْ دِيَارِ عَادٍ إِلَى مَكَّةَ، وَخَرَجَ صَالِحٌ مِنْ دِيَارِ ثَمُودَ، وَخَرَجَ إِبْرَاهِيمُ وَلُوطٌ وَهَلَكَتْ أَقْوَامُهُمْ، فَإِضَافَةُ سُنَّةَ إِلَى مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، أَيْ سُنَّتُنَا فِيهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا فَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ هِيَ الْإِضَافَةُ الْحَقِيقِيَّةُ.
وَانْتَصَبَ سُنَّةَ من مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ. فَإِنْ كَانَتْ سُنَّةَ اسْمَ مَصْدَرٍ فَهُوَ بَدَلٌ مِنْ فِعْلِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: سَنَنَّا ذَلِكَ لِمَنْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا، أَيْ لِأَجْلِهِمْ. فَلَمَّا عَدَلَ عَنِ الْفِعْلِ إِلَى الْمَصْدَرِ أُضِيفَ الْمَصْدَرُ إِلَى الْمُتَعَلِّقِ بِالْفِعْلِ إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ عَلَى التَّوَسُّعِ وَإِنْ كَانَتْ سُنَّةَ اسْمًا جَامِدًا فَانْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ لِتَأْوِيلِهِ بِمَعْنًى اشْتِقَاقِيٍّ.
وَجُمْلَةُ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِبَيَانِ سَبَبِ كَوْنِ لُبْثِهِمْ بَعْدَهُ قَلِيلًا. وَإِنَّمَا سَنَّ اللَّهُ هَذِهِ السُّنَّةَ لِرُسُلِهِ لِأَنَّ تَآمُرَ الْأَقْوَامِ عَلَى إِخْرَاجِهِمْ يَسْتَدْعِي حِكْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنْ تَتَعَلَّقَ إِرَادَتُهُ بِأَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِالْهِجْرَةِ لِئَلَّا يَبْقَوْا مَرْمُوقِينَ بِعَيْنِ الْغَضَاضَةِ بَيْنَ قَوْمِهِمْ وَأَجْوَارِهِمْ بِشِبْهِ مَا كَانَ يُسَمَّى بِالْخَلْعِ عِنْدَ الْعَرَبِ.
وَجُمْلَةُ وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا اعْتِرَاضٌ لِتَكْمِلَةِ الْبَيَانِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّنَا أَجْرَيْنَاهُ عَلَى الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَلِأَنَّ عَادَتَنَا لَا تَتَحَوَّلُ.
وَالتَّعْبِيرُ ب لَا تَجِدُ مُبَالَغَةٌ فِي الِانْتِفَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٧].
وَالتَّحْوِيلُ: تَغْيِيرُ الْحَالِ وَهُوَ التَّبْدِيلُ. وَمِنْ غَرِيبِ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ: أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيءِ الْحَقْ بِأَرْضِ الشَّامِ فَإِنَّهَا أَرْضُ الْأَنْبِيَاءِ فَصَدَّقَ النَّبِيءُ قَوْلَهُمْ فَغَزَا غَزْوَةَ تَبُوكَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الشَّامَ فَلَمَّا بَلَغَ تَبُوكَ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
وَفِي «الْإِتْقَانِ» أَنَّهُ اسْتُثْنِيَ مِنْهَا آيَةُ: فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها [طه: ١٣٠]. وَاسْتَظْهَرَ فِي «الْإِتْقَانِ» أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا [طه: ١٣١]. لِمَا
أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: «أَضَافَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَيْفًا فَأَرْسَلَنِي إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَنْ أَسْلِفْنِي دَقِيقًا إِلَى هِلَالِ رَجَبٍ فَقَالَ: لَا، إِلَّا بِرَهْنٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيءَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: أَمَّا وَاللَّهِ إِنِّي لِأَمِينٌ فِي السَّمَاءِ أَمِينٌ فِي الْأَرْضِ. فَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى نَزَلَتْ: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا
الْآيَةَ»
اه.
وَعِنْدِي أَنَّهُ إِنْ صَحَّ حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ فَهُوَ مِنِ اشْتِبَاهِ التِّلَاوَةِ بِالنُّزُولِ، فَلَعَلَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَهَا مُتَذَكِّرًا فَظَنَّهَا أَبُو رَافِعٍ نَازِلَةً سَاعَتَئِذٍ وَلَمْ يَكُنْ سَمِعَهَا قَبْلُ، أَوْ أَطْلَقَ النُّزُولَ عَلَى التِّلَاوَةِ. وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْمَرْوِيَّاتِ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ كَمَا عَلِمْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَهَذِهِ السُّورَةُ هِيَ الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي تَرْتِيبِ النُّزُولِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ مَرْيَمَ وَقَبْلَ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ. وَنَزَلَتْ قَبْلَ إِسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَابْنِ إِسْحَاقَ فِي «سِيرَتِهِ» عَنْهُ قَالَ: «خَرَجَ عُمَرُ مُتَقَلِّدًا بِسَيْفٍ. فَقِيلَ لَهُ: أَنَّ خَتَنَكَ وَأُخْتَكَ قَدْ صَبَوْا، فَأَتَاهُمَا عُمَرُ وَعِنْدَهُمَا خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ يُقْرِئُهُمَا سُورَةُ (طَاهَا)، فَقَالَ: أَعْطَوْنِي الْكِتَابَ الَّذِي عِنْدَكُمْ فَأَقْرَأَهُ؟ فَقَالَتْ لَهُ أُخْتُهُ: إِنَّكَ رِجْسٌ، وَلَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ فَقُمْ فَاغْتَسِلْ أَوْ تَوَضَّأَ. فَقَامَ عُمَرُ وَتَوَضَّأَ وَأَخَذَ الْكِتَابَ فَقَرَأَ طَهَ. فَلَمَّا قَرَأَ صَدْرًا مِنْهَا قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامِ وَأَكْرَمَهُ» إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. وَذَكَرَ الْفَخْرُ عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ.
وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ هَلْ هِيَ مَكِّيَّةٌ أَوْ مَدَنِيَّةٌ، أَوْ كَثِيرٌ مِنْهَا مَكِّيٌّ وَكَثِيرٌ مِنْهَا مَدَنِيٌّ.
فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ: هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ قَوْلِهِ هذانِ خَصْمانِ إِلَى وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ [الْحَج: ١٩- ٢٢]. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَدَّ النَّقَّاشُ مَا نَزَلَ مِنْهَا بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ آيَاتٍ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا آيَاتِ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نبيء إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [الْحَج: ٥٢- ٥٥] فَهُنَّ مَكِّيَّاتٌ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. وَرَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ هَذِهِ السُّورَةُ بَعْضُهَا مَكِّيٌّ وَبَعْضُهَا مَدَّنِيٌّ وَهِيَ مُخْتَلِطَةٌ، أَيْ لَا يُعْرَفُ الْمَكِّيُّ بِعَيْنِهِ، وَالْمَدَنِيُّ بِعَيْنِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ الْأَصَحُّ.
وَأَقُولُ: لَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مِثْلَ مَا يَكْثُرُ أَنْ يَقُولُوهُ فِي بِضْعِ آيَاتٍ مِنْ عِدَّةِ سُوَرٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ أَكْثَرُ السُّورَةِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهَا، بَلْ أَرَادُوا أَنَّ كَثِيرًا مِنْهَا مَكِّيٌّ وَأَنَّ مِثْلَهُ أَوْ يُقَارِبُهُ مَدَنِيٌّ، وَأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ مَا هُوَ مَكِّيٌّ مِنْهَا وَمَا هُوَ مَدَنِيٌّ وَلِذَلِكَ عَبَّرُوا بِقَوْلِهِمْ: هِيَ مُخْتَلِطَةٌ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: «نَزَلَ أَوَّلُ السُّورَةِ فِي السَّفَرِ فَنَادَى رَسُولُ اللَّهِ بِهَا فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ»
وَسَاقَ الْحَدِيثَ الَّذِي سَيَأْتِي. يُرِيدُ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ نُزُولَهَا فِي السَّفَرِ يَقْتَضِي أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ.
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُهَا نَزَلَ بِمَكَّةَ فَإِنَّ افْتِتَاحَهَا بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ [الْحَج: ١] جَارٍ عَلَى سُنَنِ فَوَاتِحِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ. وَفِي أَسَالِيبِ نَظْمِ كَثِيرٍ
وَضَمِيرُ سَمِعْتُمُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْإِفْكِ مِثْلُ الضَّمَائِرِ الْمُمَاثِلَةِ لَهُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَى الْإِفْكِ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الِاخْتِلَاقِ الَّذِي يَتَحَدَّثُ بِهِ الْمُنَافِقُونَ وَالضُّعَفَاءُ، فَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا هُوَ حَاضِرٌ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ سَمَاعِ الْإِفْكِ.
وَمَعْنَى قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ يَقُولُوا لِلَّذِينِ أَخْبَرُوهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ الْآفِكِ. أَيْ قُلْتُمْ لَهُمْ زَجْرًا وَمَوْعِظَةً.
وَضَمِيرُ لَنا مُرَادٌ بِهِ الْقَائِلُونَ وَالْمُخَاطَبُونَ. فَأَمَّا الْمُخَاطَبُونَ فَلِأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا بِهِ حِينَ حَدَّثُوهُمْ بِخَبَرِ الْإِفْكِ. وَالْمَعْنَى: مَا يَكُونُ لَكُمْ أَنْ تَتَكَلَّمُوا بِهَذَا، وَأَمَّا المتكلمون فلتنزههم من أَنْ يَجْرِيَ ذَلِكَ الْبُهْتَانُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ.
وَإِنَّمَا قَالَ: مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا دُونَ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا،
لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا وَكَيْنُونَةَ الْخَوْضِ فِيهِ حَقِيقٌ بِالِانْتِفَاءِ. وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَكَ: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَفْعَلَ، أَشَدُّ فِي نَفْيِ الْفِعْلِ عَنْكَ مِنْ قَوْلِكَ: لَيْسَ لِي أَنْ أَفْعَلَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [الْمَائِدَة: ١١٦].
وَهَذَا مَسُوقٌ لِلتَّوْبِيخِ عَلَى تَنَاقُلِهِمُ الْخَبَرَ الْكَاذِبَ وَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ فِي نَفْسِهِ: مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا، وَيَقُولُ ذَلِكَ لِمَنْ يُجَالِسُهُ وَيَسْمَعُهُ مِنْهُ. فَهَذَا زِيَادَةٌ عَلَى التَّوْبِيخِ عَلَى السُّكُوتِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ [النُّور: ١٢].
وسُبْحانَكَ جُمْلَةُ إِنْشَاءٍ وَقَعَتْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ: مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا وَجُمْلَةِ: هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ. وسُبْحانَكَ مَصْدَرٌ وَقَعَ بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ، أَيْ نُسَبِّحُ سُبْحَانًا لَكَ. وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلتَّعَجُّبِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الْإِسْرَاء: ١] وَقَوْلِهِ:
وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ إِلَى قَوْلِهِ:
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ.
وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ دُونَ أَنْ يَقُولَ: بَلْ كُنْتُمْ عَادِينَ، مُبَالَغَةٌ فِي تَحْقِيقِ نِسْبَةِ الْعُدْوَانِ إِلَيْهِمْ. وَفِي جَعْلِ الْخَبَرِ قَوْمٌ عادُونَ دُونَ اقْتِصَارٍ عَلَى عادُونَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْعُدْوَانَ سَجِيَّةٌ فِيهِمْ حَتَّى كَأَنَّهُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤].
وَالْعَادِي: هُوَ الَّذِي تَجَاوَزَ حَدَّ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، يُقَالُ: عَدَا عَلَيْهِ، أَيْ ظَلَمَهُ، وَعُدْوَانُهُمْ خُرُوجُهُمْ عَنِ الْحَدِّ الْمَوْضُوعِ بِوَضْعِ الْفِطْرَةِ إِلَى مَا هُوَ مُنَافٍ لَهَا مَحْفُوفٌ بِمَفَاسِدِ التَّغْيِير للطبع.
[١٦٧- ١٧٣]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٦٧ إِلَى ١٧٣]
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١)
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣)
قَوْلُهُمْ كَقَوْلِ قَوْمِ نُوحٍ لِنُوحٍ إِلَّا أَنَّ هَؤُلَاءِ قَالُوا: لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ فَهَدَّدُوهُ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ مَدِينَتِهِمْ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَلْ كَانَ مُهَاجِرًا بَيْنَهُمْ وَلَهُ صِهْرٌ فِيهِمْ.
وَصِيغَةُ مِنَ الْمُخْرَجِينَ أَبْلَغُ مِنْ: لَنُخْرِجِنَّكَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشُّعَرَاء: ١١٦]. وَكَانَ جَوَابُ لُوطٍ عَلَى وَعِيدِهِمْ جَوَابُ مُسْتَخِفٍّ بِوَعِيدِهِمْ إِذْ أَعَادَ الْإِنْكَارَ قَالَ: إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ أَيْ مِنَ الْمُبْغِضِينَ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الْقالِينَ أَبْلَغُ فِي الْوَصْفِ مِنْ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي لِعَمَلِكُمْ قَالٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٧]. وَذَلِكَ أَكْمَلُ فِي الْجِنَاسِ لِأَنَّهُ يَكُونُ جِنَاسًا تَامًّا فَقَدْ حَصَلَ بَيْنَ قالَ وَبَيْنَ الْقالِينَ جِنَاسٌ مُذَيَّلٌ وَيُسَمَّى مُطَرَّفًا.
اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ»
فَالْإِحْسَانُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، وَالْإِحْسَانُ لِكُلِّ شَيْءٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ حَتَّى الْأَذَى الْمَأْذُونُ فِيهِ فَبِقَدَرِهِ وَيَكُونُ بِحُسْنِ الْقَوْلِ وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ وَحُسْنِ اللِّقَاءِ.
وَعَطْفُ لَا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ لِلتَّحْذِيرِ مِنْ خَلْطِ الْإِحْسَانِ بِالْفَسَادِ فَإِنَّ الْفَسَادَ ضِدُّ الْإِحْسَانِ، فَالْأَمْرُ بِالْإِحْسَانِ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنِ الْفَسَادِ وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَدَّدَتْ مَوَارِدُ الْإِحْسَانِ وَالْإِسَاءَةِ فَقَدْ يَغِيبُ عَنِ الذِّهْنِ أَنَّ الْإِسَاءَةَ إِلَى شَيْءٍ مَعَ الْإِحْسَانِ إِلَى أَشْيَاءَ يُعْتَبَرُ غَيْرَ إِحْسَانٍ.
وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ أَرْضُهُمُ الَّتِي هُمْ حَالُّونَ بِهَا، وَإِذْ قَدْ كَانَتْ جُزْءًا مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ فَالْإِفْسَادُ فِيهَا إِفْسَادٌ مَظْرُوفٌ فِي عُمُومِ الْأَرْضِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ نَظَائِرُهُ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠٥].
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْإِفْسَادِ، لِأَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ لِعِبَادِهِ عَمَلُهُ، وَقَدْ كَانَ قارُونَ مُوَحِّدًا عَلَى دِينِ إِسْرَائِيلَ وَلَكِنَّهُ كَانَ شَاكًّا فِي صِدْقِ مَوَاعِيدِ مُوسَى وَفِي تشريعاته.
[٧٨]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٧٨]
قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨)
جَوَابٌ عَنْ مَوْعِظَةِ وَاعِظِيهِ مِنْ قَوْمِهِ. وَقَدْ جَاءَ عَلَى أُسْلُوبِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ فَلَمْ يُعْطَفْ وَهُوَ جَوَابٌ مُتَصَلِّفٌ حَاوَلَ بِهِ إِفْحَامَهُمْ وَأَنْ يَقْطَعُوا مَوْعِظَتَهُمْ لِأَنَّهَا أَمَرَّتْ بَطَرَهُ وَازْدِهَاءَهُ.
وإِنَّما هَذِهِ هِيَ أَدَاةُ الْحَصْرِ الْمُرَكَّبَةُ مِنْ (إِنَّ) وَ (مَا) الْكَافَّةِ مُصَيَّرَتَيْنِ كَلِمَةً وَاحِدَةً وَهِيَ الَّتِي حَقُّهَا أَنْ تُكْتَبَ مَوْصُولَةَ النُّونِ بِمِيمِ (مَا). وَالْمَعْنَى: مَا أُوتِيتُ هَذَا الْمَالَ إِلَّا عَلَى عِلْمٍ عَلِمْتُهُ.
وَضَمِيرُ أُوتِيتُهُ عَائِدٌ إِلَى (مَا) الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِمْ وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ
الْآخِرَةَ
[الْقَصَص: ٧٧]. وَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلنَّائِبِ لِلْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ مِنْ كَلَامِ وَاعِظِيهِ.

[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ٢٦]

لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦)
مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا مُوقِعُ النَّتِيجَةِ مِنَ الدَّلِيلِ فِي قَوْلِهِ: لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لُقْمَان: ١٦] فَإِنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ إِقْرَارُهُمْ لِلَّهِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَزِمَهُمْ إِنْتَاجُ أَنَّ مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْضِ مِلْكٌ لِلَّهِ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَصْنَامُهُمْ. وَالتَّصْرِيحُ بِهَذِهِ النَّتِيجَةِ لِقَصْدِ التَّهَاوُنِ بِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَمْلِكُهُمْ وَيَمْلِكُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ عِبَادَتِهِمْ مَحْمُودٌ مِنْ غَيْرِهِمْ.
وَضَمِيرُ هُوَ ضَمِيرُ فَصْلٍ مُفَادُهُ اخْتِصَاصُ الْغِنَى وَالْحَمْدِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ، أَيْ لَيْسَ لِآلِهَتِهِمُ الْمَزْعُومَةِ غِنًى وَلَا تَسْتَحِقُّ حَمْدًا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْغَنِيِّ الْحَمِيدِ عِنْدَ قَوْلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ فِي أول السُّورَة لُقْمَان [١٢].
[٢٧]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ٢٧]
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧)
تَكَرَّرَ فِيمَا سَبَقَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِإِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ ظَاهِرَةً وَخَفِيَّةً فَقَالَ فِيمَا حَكَى مِنْ وَصِيَّةِ لُقْمَانَ: إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ إِلَى قَوْلِهِ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لُقْمَان: ١٦]، وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [لُقْمَان: ٢٣] فَعَقَّبَ ذَلِكَ بِإِثْبَاتِ أَنَّ لِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مَظَاهِرَ يُبَلِّغُ بَعْضَهَا إِلَى مَنِ اصْطَفَاهُ مِنْ رُسُلِهِ بِالْوَحْيِ مِمَّا تَقْتَضِي الْحِكْمَةُ إِبْلَاغَهُ، وَأَنَّهُ يَسْتَأْثِرُ بِعِلْمِ مَا اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ عَدَمَ إِبْلَاغِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَنْ يُبَلِّغَ مَا فِي عِلْمِهِ لَمَا وَفَتْ بِهِ مَخْلُوقَاتُهُ الصَّالِحَةُ لتسجيل كَلَامه بِالْكِتَابَةِ فَضْلًا عَلَى الْوَفَاءِ بِإِبْلَاغِ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْقَوْلِ. وَقَدْ سَلَكَ فِي هَذَا مَسْلَكَ التَّقْرِيبِ بِضَرْبِ هَذَا
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ تَذْيِيلٌ فَلِذَلِكَ قُطِعَتْ، وَافْتِتَاحُهَا بِأَدَاةِ التوكيد للاهتمام بالْخبر. وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مساكنهم آيَة [سبأ: ١٥].
وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا التَّذْيِيلَ تَنْهِيَةٌ لِلْقِصَّةِ وَأَنَّ مَا بَعْدَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْغَرَضِ الْأَوَّلِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنْتَقَلِ مِنْهُ إِلَى الْعِبْرَةِ بِدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَالْمُمَثَّلِ لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ بِحَالِ أَهْلِ سَبَأٍ.
وَجُمِعَ «الْآيَاتُ» لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ عِدَّةُ آيَاتٍ وَعِبَرٍ فَحَالَةُ مَسَاكِنِهِمْ آيَةٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَإِنْعَامِهِ، وَفِيهِ آيَةٌ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ بِالتَّصَرُّفِ، وَفِي إِرْسَالِ سير العرم عَلَيْهِم آيَةٌ
على انْفِرَاده تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ، وَعَلَى أَنَّهُ الْمُنْتَقِمُ وَعَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ، فَلِذَلِكَ عَاقَبَهُمْ عَلَى الشِّرْكِ، وَفِي انْعِكَاسِ حَالِهِمْ مِنَ الرَّفَاهَةِ إِلَى الشَّظَفِ آيَةٌ عَلَى تَقَلُّبِ الْأَحْوَالِ وَتَغَيُّرِ الْعَالَمِ وَآيَةٌ على صِفَات الْأَفْعَال لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ خَلْقٍ وَرِزْقٍ وَإِحْيَاءٍ وَإِمَاتَةٍ، وَفِي ذَلِكَ آيَةٌ مِنْ عَدَمِ الِاطْمِئْنَانِ لِدَوَامِ حَالٍ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَفِيمَا كَانَ مِنْ عُمْرَانِ إِقْلِيمِهِمْ وَاتِّسَاعِ قُرَاهُمْ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ آيَةٌ عَلَى مَبْلَغِ الْعُمْرَانِ وَعِظَمِ السُّلْطَانِ مِنْ آيَاتِ التَّصَرُّفَاتِ، وَآيَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْنَ أَسَاسُ الْعُمْرَانِ. وَفِي تَمَنِّيهِمْ زَوَالَ ذَلِكَ آيَةٌ عَلَى مَا قَدْ تَبْلُغُهُ الْعُقُولُ مِنَ الِانْحِطَاطِ الْمُفْضِي إِلَى اخْتِلَالِ أُمُورِ الْأُمَّةِ وَذَهَابِ عَظَمَتِهَا، وَفِيمَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنَ النُّزُوحِ عَنِ الْأَوْطَانِ وَالتَّشَتُّتِ فِي الْأَرْضِ آيَةٌ على مَا يلجىء الِاضْطِرَارُ إِلَيْهِ النَّاسَ مِنِ ارْتِكَابِ الْأَخْطَارِ وَالْمَكَارِهِ كَمَا يَقُولُ الْمثل: الْحمى أضرعتني إِلَيْكَ.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ صَبَّارٍ وشَكُورٍ فِي الْوَصْفِ لِإِفَادَةِ أَنَّ وَاجِبَ الْمُؤْمِنِ التَّخَلُّقُ بِالْخُلُقَيْنِ وَهُمَا: الصَّبْرُ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَالشُّكْرُ عَلَى النِّعَمِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ لَمْ يشكروا النِّعْمَة فيطروها، وَلَمْ يَصْبِرُوا عَلَى مَا أَصَابَهُمْ مِنْ زَوَالِهَا فَاضْطَرَبَتْ نُفُوسُهُمْ وَعَمَّهُمُ الْجَزَعُ فَخَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَتَفَرَّقُوا فِي الْأَرْضِ، وَلَا تسْأَل عَمَّا لَا قوه فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَتَالِفِ وَالْمَذَلَّاتِ.
فَالصَّبَّارُ يَعْتَبِرُ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ فَيَعْلَمُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْمَكَارِهِ خَيْرٌ مِنَ الْجَزَعِ وَيَرْتَكِبُ أَخَفَّ الضَّرَرَيْنِ، وَلَا يَسْتَخِفُّهُ الْجَزَعُ فَيُلْقِي بِنَفْسِهِ إِلَى الْأَخْطَارِ وَلَا يَنْظُرُ فِي الْعَوَاقِبِ.
الْعَامِلُ، وَتَأَوَّلُوا هَذِهِ الْآيَةَ بِأَنَّ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ، وَالْمَعْنَى إِذَا رَآهُمُ الرَّائِي تَخَيَّرَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: هُمْ
مِائَةُ أَلْفٍ، أَوْ يَقُولَ: يَزِيدُونَ.
وَيُرَجِّحُهُ أَنَّ الْمَعْطُوفَ بِ أَوْ غَيْرُ مُفْرَدٍ بَلْ هُوَ كَلَامٌ مُبِينٌ نَاسَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَرْفُ لِلْإِضْرَابِ. وَالْفَاءُ فِي فَآمَنُوا لِلتَّعْقِيبِ الْعُرْفِيِّ لِأَنَّ يُونُسَ لَمَّا أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَدَعَاهُمُ امْتَنَعُوا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَأَخْبَرَهُمْ بِوَعِيدٍ بِهَلَاكِهِمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ خَافُوا فَآمَنُوا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [يُونُس: ٩٨].
[١٤٩]
[سُورَة الصافات (٣٧) : آيَة ١٤٩]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩)
تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَإِبْطَالِ دَعَاوِيهِمْ، وَضَرَبَ الْأَمْثَالَ لَهُمْ بِنُظَرَائِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ فَفَرَّعَ عَلَيْهِ أَمْرَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِبْطَالِ مَا نَسَبَهُ الْمُشْرِكُونَ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْوَلَدِ. فَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ مِنْ قَوْلِهِ: فَاسْتَفْتِهِمْ عَائِدٌ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ يُعْلَمُ مِنَ الْمَقَامِ. مِثْلَ نَظِيرِهِ السَّابِقِ فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا [الصافات: ١١]. وَالْمُرَادُ:
التَّهَكُّمُ عَلَيْهِمْ بِصُورَةِ الِاسْتِفْتَاءِ إِذْ يَقُولُونَ: وُلَدَ اللَّهُ، عَلَى أَنَّهُمْ قَسَّمُوا قِسْمَةً ضِيزَى حَيْثُ جَعَلُوا لِلَّهِ الْبَنَاتِ وَهُمْ يَرْغَبُونَ فِي الْأَبْنَاءِ الذُّكُورِ وَيَكْرَهُونَ الْإِنَاثَ، فَجَعَلُوا لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ.
وَقَدْ جَاءُوا فِي مَقَالِهِمْ هَذَا بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْكُفْرِ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا التَّجْسِيمَ لِلَّهِ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ مِنْ أَحْوَالِ الْأَجْسَامِ.
الثَّانِي: إِيثَارُ أَنْفُسِهِمْ بِالْأَفْضَلِ وَجَعْلُهُمْ لِلَّهِ الْأَقَلَّ. قَالَ تَعَالَى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [الزخرف: ١٧].
الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ جَعَلُوا لِلْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَصْفَ الْأُنُوثَةِ وَهُمْ يَتَعَيَّرُونَ بِأَبِي الْإِنَاثِ، وَلِذَلِكَ كَرَّرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَنْوَاعَ مِنْ كُفْرِهِمْ فِي كِتَابِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ.
يُؤْتَ بِلَامِ الِابْتِدَاءِ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ طه [١٥] إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لِأَنَّ الْخِطَابَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَجِيءَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ فِي آتِيَةٌ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ، لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهَا لَمَّا تَحَقَّقَتْ فَقَدْ صَارَتْ كَالشَّيْءِ الْحَاضِرِ الْمُشَاهَدِ. وَالْمُرَادُ تَحْقِيقُ وُقُوعِهَا لَا الْإِخْبَارُ عَنْ وُقُوعِهَا.
وَجُمْلَةُ لَا رَيْبَ فِيها مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ، وَنَفْيُ الرَّيْبِ عَنْ نَفْسِ السَّاعَةِ، وَالْمُرَادُ نَفْيُهُ عَنْ إِتْيَانِهَا لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: آتِيَةٌ عَلَى ذَلِكَ.
وَمَعْنَى نَفْيِ الرَّيْبِ فِي وُقُوعِهَا: أَنَّ دَلَائِلَهَا وَاضِحَةٌ بِحَيْثُ لَا يُعْتَدُّ بِرَيْبِ الْمُرْتَابِينَ فِيهَا لِأَنَّهُمُ ارْتَابُوا فِيهَا لِعَدَمِ الرَّوِيَّةِ وَالتَّفَكُّرِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: ٢].
فَمَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ هُوَ مَا يُثِيرُهُ نَفْيُ الرَّيْبِ عَنْ وُقُوعِهَا مِنْ أَنْ يَتَسَاءَلَ مُتَسَائِلٌ كَيْفَ يَنْفِي الرَّيْبَ عَنْهَا وَالرَّيْبُ حَاصِلٌ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَكَانَ الِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ جَوَابًا لِذَلِكَ السُّؤَالِ.
وَالْمَعْنَى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَمُرُّونَ بِالْأَدِلَّةِ وَالْآيَاتِ وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ دَلَالَتِهَا فَيَبْقَوْنَ غَيْرَ مُؤْمِنِينَ بِمَدْلُولَاتِهَا وَلَوْ تَأَمَّلُوا وَاسْتَنْبَطُوا بِعُقُولِهِمْ لَظَهَرَ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ مَا يُؤْمِنُونَ بَعْدَهُ، فَلِذَلِكَ نُفِيَ عَنْهُمْ هُنَا وَصْفُ الْإِيمَانِ.
وَهَذَا الِاسْتِدْرَاكُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، وَلَوْلَا أَنَّ (لَكِنَّ) يَكْثُرُ أَنْ تَقَعَ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ لَكَانَتِ الْجُمْلَةُ جَدِيرَةً بِالْفَصْلِ دُونَ عَطْفٍ، فَهَذَا الْعَطْفُ تَحْلِيَةٌ لَفْظِيَّةٌ.
وأَكْثَرَ النَّاسِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَكْثَرُ مِنَ الْمُؤمنِينَ جدا.
[٦٠]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٦٠]
وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠)
لَمَّا كَانَتِ الْمُجَادَلَةُ فِي آيَاتِ اللَّهِ تَشْمَلُ مُجَادَلَتَهُمْ فِي وَحْدَانِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ جُمْلَةِ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَجُمْلَة أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ [الزخرف: ١٨].
وَاسْتِعْمَالُ الْبِشَارَةِ هُنَا تَهَكُّمٌ بِهِمْ كَقَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الإنشقاق: ٢] لِأَنَّ الْبِشَارَةَ إِعْلَامٌ بِحُصُولِ أَمْرٍ مُسَرٍّ.
وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا مَوْصُولَةٌ، أَيْ بُشِّرَ بِالْجِنْسِ الَّذِي ضَرَبَهُ، أَيْ جَعَلَهُ مَثَلًا وَشَبَهًا لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَإِذْ جَعَلُوا جِنْسَ الْأُنْثَى جُزْءًا لِلَّهِ، أَيْ مُنْفَصِلًا مِنْهُ فَالْمُبَشَّرُ بِهِ جِنْسُ الْأُنْثَى، وَالْجِنْسُ لَا يَتَعَيَّنُ. فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ بُشِّرَ بِمِثْلِ مَا ضربه للرحمان مَثَلًا.
وَالْمَثَلُ: الشَّبِيهُ.
وَالضَّرْبُ: الْجَعْلُ وَالصُّنْعُ، وَمِنْهُ ضَرْبُ الدِّينَارِ، وَقَوْلُهُمْ: ضَرْبَة لازب، فَمَا صدق
بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا هُوَ الْإِنَاثُ.
وَمَعْنَى ظَلَّ هُنَا: صَارَ، فَإِنَّ الْأَفْعَالَ النَّاقِصَةَ الْخَمْسَةَ الْمُفْتَتَحَ بِهَا بَابُ الْأَفْعَالِ النَّاقِصَةِ، تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى صَارَ.
وَاسْوِدَادُ الْوَجْهِ مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ وَالْغَيْظِ إِذْ يَصْعَدُ الدَّمُ إِلَى الْوَجْهِ فَتَصِيرُ حُمْرَتُهُ إِلَى سَوَادٍ، وَالْمَعْنَى: تَغَيَّظَ.
وَالْكَظِيمُ: الْمُمْسِكُ، أَيْ عَنِ الْكَلَامِ كربا وحزنا.
[١٨]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ١٨]
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨)
عَطْفُ إِنْكَارٍ عَلَى إِنْكَارٍ، وَالْوَاوُ عَاطِفَةُ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَهِيَ مُؤَخَّرَةٌ عَنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ لِلِاسْتِفْهَامِ الصَّدْرَ وَأَصْلُ التَّرْتِيبِ: وَأَمَنْ يُنَشَّأُ. وَجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْإِنْكَارِ الْمُقَدَّرِ بَعْدَ أَمِ فِي قَوْلِهِ: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ [الزخرف: ١٦]. وَلِذَلِكَ يكون مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ اتَّخَذَ

[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ٢١]

وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١)
هَذَا مِنْ عَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ: أُخْرى مُبْتَدَأٌ مَوْصُوفٌ بِجُمْلَةِ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها.
وَمَجْمُوعُ الْجُمْلَةِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً [الْفَتْح: ٢٠] فَلَفْظُ أُخْرى صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَغانِمَ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، أَيْ هِيَ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْمَغَانِمِ صَعْبَةِ الْمَنَالِ، وَمَعْنَى الْمَغَانِمِ يَقْتَضِي غَانِمِينَ فَعُلِمَ أَنَّهَا لَهُمْ، أَيْ غَيْرَ الَّتِي وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِهَا، أَيْ هَذِهِ لَمْ يَعِدْهُمُ اللَّهُ بِهَا، وَلَمْ نَجْعَلْ وَأُخْرى عَطْفًا عَلَى قَوْله هذِهِ [الْفَتْح: ٢٠] عَطْفَ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ غَنِيمَةً وَاحِدَةً بَلْ غَنَائِمَ كَثِيرَةً.
وَمَعْنَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها: أَنَّهَا مَوْصُوفَةٌ بِعَدَمِ قُدْرَتِكُمْ عَلَيْهَا، فَلَمَّا كَانَتْ جُمْلَةُ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها صِفَةً لِ أُخْرى لَمْ يَقْتَضِ مَدْلُولُ الْجُمْلَةِ أَنَّهُمْ حَاوَلُوا الْحُصُولَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَقْدِرُوا، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: أَنَّ صِفَتَهَا عَدَمُ قُدْرَتِكُمْ عَلَيْهَا فَلَمْ تَتَعَلَّقْ أَطْمَاعُكُمْ بِأَخْذِهَا.
وَالْإِحَاطَةُ بِالْهَمْزِ: جَعْلُ الشَّيْءِ حَائِطًا أَيْ حَافِظًا، فَأَصْلُ هَمْزَتِهِ لِلْجَعْلِ وَصَارَ بِالِاسْتِعْمَالِ قَاصِرًا، وَمَعْنَاهُ: احْتَوَى عَلَيْهِ وَلَمْ يَتْرُكْ لَهُ منصرفا فول عَلَى شِدَّةِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ [يُوسُف: ٦٦] أَيْ إِلَّا أَنْ تُغْلَبُوا غَلَبًا لَا تَسْتَطِيعُونَ مَعَهُ الْإِتْيَانَ بِهِ.
فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ قَدَرَ عَلَيْهَا، أَيْ قَدَرَ عَلَيْهَا فَجَعَلَهَا لَكُمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها. وَالْمَعْنَى: وَمَغَانِمُ أُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَى نَيْلِهَا قَدْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا، أَي فَأَنا لكم إِيَّاهَا.
وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِإِعْلَامِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ قَدَرَ عَلَى مَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ جَدْوَى لِأَنَّهُمْ لَا يَجْهَلُونَ ذَلِكَ، أَيْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا لِأَجْلِكُمْ، وَفِي مَعْنَى الْإِحَاطَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهَا كَالشَّيْءِ الْمُحَاطِ بِهِ مِنْ جَوَانِبِهِ فَلَا يَفُوتُهُمْ مَكَانُهُ، جُعِلَتْ كَالْمَخْبُوءِ لَهُمْ. وَلِذَلِكَ ذَيَّلَ بِقَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً إِذْ هُوَ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِهِمْ.
فِي مَعْنَى الْقَوْلِ بِالتَّكْذِيبِ، فَإِنَّ قَوْمَ نُوحٍ شَافَهُوا نُوحًا بِأَنَّهُ كَاذِبٌ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي اعْتِقَادِهِمْ كَذِبَهُ، فَقَدْ دَلَّ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ إِعْرَاضُهُمْ عَنْ إِنْذَارِهِ وَإِهْمَالُهُمُ الانضواء إِلَيْهِ عِنْد مَا أَنْذَرَهُمْ بِالطُّوفَانِ.
وَعُرِّفَ قَوْمُ نُوحٍ بِالْإِضَافَةِ إِلَى اسْمِهِ إِذْ لَمْ تَكُنْ لِلْأُمَّةِ فِي زَمَنِ نُوحٍ اسْمٌ يُعْرَفُونَ بِهِ.
وَأُسْنِدَ التَّكْذِيبُ إِلَى جَمِيعِ الْقَوْمِ لِأَنَّ الَّذِينَ صَدَّقُوهُ عَدَدٌ قَلِيلٌ فَإِنَّهُ مَا آمَنَ بِهِ إِلَّا قَلِيلٌ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَكَذَّبُوا عَبْدَنا لِتَفْرِيعِ الْإِخْبَارِ بِتَفْصِيلِ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ بِأَنَّهُمْ قَالُوا:
مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ، عَلَى الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوهُ عَلَى الْإِجْمَالِ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ تَسْلِيَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّعَ عَلَيْهِ الْإِخْبَارَ بِحُصُولِ الْمُشَابِهَةِ بَيْنَ تَكْذِيبِ قَوْمِ نُوحٍ رَسُولَهُمْ وَتَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنَّهُ تَكْذِيبٌ لِمَنْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ وَاصْطَفَاهُ بِالْعُبُودِيَّةِ الْخَاصَّةِ، وَفِي أَنَّهُ تَكْذِيبٌ مَشُوبٌ بِبُهْتَانٍ إِذْ قَالَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ لِرَسُولِهِ: مَجْنُونٌ، وَمَشُوبٌ بِبَذَاءَةٍ إِذْ آذَى كِلَا الْفَرِيقَيْنِ رَسُولَهُمْ وَازْدَجَرُوهُ. فَمَحَلُّ التَّفْرِيعِ هُوَ وَصْفُ نُوحٍ بِعُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَكْرِيمًا لَهُ، وَالْإِخْبَارُ عَنْ قَوْمِهِ بِأَنَّهُمُ افْتَرَوْا عَلَيْهِ وَصْفَهُ بِالْجُنُونِ، وَاعْتَدَوْا عَلَيْهِ بِالْأَذَى وَالِازْدِجَارِ. فَأَصْلُ تَرْكِيبِ الْكَلَامِ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَقَالُوا: مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ. وَلَمَّا أُرِيدُ الْإِيمَاءُ إِلَى تَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتِدَاءً جَعَلَ مَا بَعْدَ التَّسْلِيَةِ مُفَرَّعًا بِفَاءِ التَّفْرِيعِ لِيَظْهَرَ قَصْدُ اسْتِقْلَالِ مَا قَبْلَهُ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الْكَلَامُ غَنِيًّا عَنِ الْفَاءِ إِذْ كَانَ يَقُولُ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ عَبْدَنَا.
وأعيد فعل فَكَذَّبُوا لِإِفَادَةِ تَوْكِيدِ التَّكْذِيبِ، أَيْ هُوَ تَكْذِيبٌ قَوِيٌّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشُّعَرَاء: ١٣٠] وَقَوْلِهِ: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الْقَصَص: ٦٣]، وَقَوْلِ الْأَحْوَصِ:
فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ تُخْشَى بَوَادِرُهُ عَلَى الْأَقْرَانِ
وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ جِنِّي فِي إِعْرَابِ هَذَا الْبَيْتِ مِنْ «دِيوَانِ الْحَمَاسَةِ»، وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْفَارِسِيَّ نَحَا غَيْرَ هَذَا الْوَجْهِ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ.
تَحْذِيرٍ لِلْمُخَاطَبِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِلتَّخَلُّصِ إِلَى ذِكْرِ أَخْبَارِ عِيسَى بِالرَّسُولِ الَّذِي يَجِيءُ بَعْدَهُ.
وَنَادَى عِيسَى قَوْمَهُ بِعُنْوَانِ بَنِي إِسْرائِيلَ دُونَ يَا قَوْمِ [الصَّفّ: ٥] لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ
بَعْدَ مُوسَى اشْتُهِرُوا بِعُنْوَانِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» وَلَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِمْ عُنْوَانُ: قَوْمُ مُوسَى، إِلَّا فِي مُدَّةِ حَيَاةِ مُوسَى خَاصَّةً فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا صَارُوا أُمَّةً وَقَوْمًا بِسَبَبِهِ وَشَرِيعَتِهِ.
فَأَمَّا عِيسَى فَإِنَّمَا كَانَ مُرْسَلًا بِتَأْيِيدِ شَرِيعَةِ مُوسَى، وَالتَّذْكِيرِ بِهَا وَتَغْيِيرِ بَعْضِ أَحْكَامِهَا، وَلِأَنَّ عِيسَى حِينَ خَاطَبَهُمْ لَمْ يَكُونُوا قَدْ اتَّبَعُوهُ وَلَا صَدَّقُوهُ فَلَمْ يَكُونُوا قَوْمًا لَهُ خَالِصِينَ.
وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٥٠] وَفِي أَثْنَاءِ سُورَةِ الْعُقُودِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَنْبِيهِهِمْ عَلَى هَذَا التَّصْدِيقِ حِينَ ابْتَدَأَهُمْ بِالدَّعْوَةِ تَقْرِيبُ إِجَابَتِهِمْ وَاسْتِنْزَالُ طَائِرِهِمْ لِشِدَّةِ تَمَسُّكِهِمْ بِالتَّوْرَاةِ وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ أَحْكَامَهَا لَا تَقْبَلُ النَّسْخَ، وَأَنَّهَا دَائِمَةٌ. وَلِذَلِكَ لَمَّا ابْتَدَأَهُمْ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ لَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا مَا حَكَى عَنْهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٥٠] مِنْ قَوْلِهِ: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، فَيُحْمَلُ مَا هُنَالِكَ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ وَاقِعٌ بَعْدَ أَوَّلِ الدَّعْوَةِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُوحِ إِلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِنَسْخِ بَعْضِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ ثُمَّ أَوْحَاهُ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ. فَحِينَئِذٍ أَخْبَرَهُمْ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ شَأْنُ التَّشْرِيعِ أَنْ يُلْقَى إِلَى الْأُمَّةِ تَدْرِيجًا كَمَا
فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَنَّهَا قَالَتْ: «إِنَّمَا أُنْزِلَ أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ مِنْهُ (أَيِ الْقُرْآنِ) سُورَةٌ مِنَ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَلَوْ أَنْزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ:
لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ، لَقَالُوا: لَا نَتْرُكُ الْخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لَا تَزْنُوا: لَقَالُوا: لَا نَدع الزِّنَا أَبَدًا. لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ على مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [الْقَمَر: ٤٦]، وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ»
اه.
فَمَعْنَى قَوْلِهِ: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ فِي كِلْتَا الْآيَتَيْنِ هُوَ التَّصْدِيقُ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ وَالْأَعْمَالِ عَلَى وَجْهِ الْجُمْلَةِ، أَيْ أَعْمَالِ مَجْمُوعِهَا وَجَمْهَرَةِ أَحْكَامِهَا وَلَا
وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي دُخُولِ حَرْفِ النَّفْيِ مَعَ (لَا أُقْسِمُ) عِنْدَ قَوْلِهِ: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لَا تُبْصِرُونَ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ [٣٨، ٣٩]، وَقَوْلِهِ: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [٧٥].
وَقَوْلُهُ: عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَوَّلَهُمَا وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلسِّيَاقِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى أَنْ نُبَدِّلَهُمْ خَيْرًا مِنْهُمْ، أَيْ نُبَدِّلُ ذَوَاتَهُمْ خَلْقًا خَيْرًا مِنْ خَلْقِهِمُ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ الْيَوْمَ. وَالْخَيْرِيَّةُ فِي الْإِتْقَانِ وَالسُّرْعَةِ وَنَحْوِهِمَا وَإِنَّمَا كَانَ خَلْقًا أُتْقِنَ مِنَ النَّشْأَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ خَلْقٌ مُنَاسِبٌ لِعَالَمِ الْخُلُودِ، وَكَانَ الْخَلْقُ الْأَوَّلُ مُنَاسِبًا لِعَالَمِ التَّغَيُّرِ وَالْفَنَاءِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ نُبَدِّلَ مُضَمَّنًا مَعْنَى: نُعَوِّضُ، وَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِ نُبَدِّلَ ضَمِيرًا مِثْلَ ضَمِيرِ مِنْهُمْ أَيْ نُبَدِّلُهُمْ وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي خَيْراً مِنْهُمْ.
وَ (مِنْ) تَفْضِيلِيَّةٌ، أَيْ خَيْرًا فِي الْخِلْقَةِ، وَالتَّفْضِيلُ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ زَمَانَيِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ وَالْخَلْقِ الثَّانِي، أَوِ اخْتِلَافِ عَالَمَيْهِمَا.
وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنْ نُبَدِّلَ هَؤُلَاءِ بِخَيْرٍ مِنْهُمْ، أَيْ بِأُمَّةٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَالْخَيْرِيَّةُ فِي الْإِيمَانِ، فَيَكُونُ نُبَدِّلَ عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهُ، وَيَكُونُ مَفْعُولُهُ مَحْذُوفًا مِثْلَ مَا فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَيَكُونُ خَيْراً مَنْصُوبًا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ بَاءُ الْبَدَلِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [الْبَقَرَة: ٦١]، وَيَكُونُ هَذَا تَهْدِيدًا لَهُمْ بِأَنْ سَيَسْتَأْصِلُهُمْ وَيَأْتِي بِقَوْمٍ آخَرِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [فاطر: ١٦] وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [مُحَمَّد: ٣٨].
وَفِي هَذَا تَثْبِيتٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَذْكِيرٌ بِأَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِحَالِهِمْ.
وَذُيِّلَ بِقَوْلِهِ: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، وَالْمَسْبُوقُ مُسْتَعَارٌ لِلْمَغْلُوبِ عَنْ أَمْرِهِ، شُبِّهَ بِالْمَسْبُوقِ فِي الْحَلْبَةِ، أَوْ بِالْمَسْبُوقِ فِي السَّيْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ [العنكبوت: ٤]، وَمِنْهُ قَوْلُ مُرَّةَ بْنِ عَدَّاءِ الْفَقْعَسِيِّ:
كَأَنَّكَ لَمْ تُسْبَقْ مِنَ الدَّهْرِ مَرَّةً إِذَا أَنْتَ أَدْرَكْتَ الَّذِي كُنْتَ تَطْلُبُ
يُرِيدُ: كَأَنَّكَ لَمْ تُغْلَبْ إِذَا تَدَارَكْتَ أَمْرَكَ وَأَدْرَكْتَ طِلْبَتَكَ.
فَأَمَّا الْحِفْظُ: فَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الرِّعَايَةِ وَالْمُرَاقَبَةِ، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يَتَعَدَّى إِلَى الْمَعْمُولِ بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَهُوَ (عَلَى) لِتَضَمُّنِهُ مَعْنَى الْمُرَاقَبَةِ. وَالْحَفِيظُ: الرَّقِيبُ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ [الشورى: ٦].
وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ هُوَ غَيْرُ اسْتِعْمَالِ الْحِفْظِ الْمُعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ بِمَعْنَى الْحِرَاسَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرَّعْد: ١١]. فَالْحِفْظُ بِهَذَا الْإِطْلَاق يجمع
مَعْنَى الرِّعَايَةِ وَالْقِيَامِ عَلَى مَا يُوكل إِلَى الْحَفِيظِ، وَالْأَمَانَةِ عَلَى مَا يُوكَلُ إِلَيْهِ.
وَحَرْفُ (عَلَى) فِيهِ لِلِاسْتِعْلَاءِ لِتَضَمُّنِهُ مَعْنَى الرِّقَابَةِ وَالسُّلْطَةِ.
وَأَمَّا وَصْفُ الْكَرَمِ فَهُوَ النَّفَاسَةُ فِي النَّوْعِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٢٩].
فَالْكَرَمُ صِفَتُهُمُ النَّفْسِيَّةُ الْجَامِعَةُ لِلْكَمَالِ فِي الْمُعَامَلَةِ وَمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَأَمَّا صِفَةُ الْكِتَابَةِ فَمُرَادٌ بِهَا ضَبْطُ مَا وُكِّلُوا عَلَى حِفْظِهِ ضَبْطًا لَا يَتَعَرَّضُ لِلنِّسْيَانِ وَلَا لِلْإِجْحَافِ وَلَا لِلزِّيَادَةِ، فَالْكِتَابَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْكِتَابَةِ بِمَعْنَى الْخَطِّ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ بِكَيْفِيَّةٍ مُنَاسِبَةٍ لِأُمُورِ الْغَيْبِ.
وَأَمَّا صِفَةُ الْعِلْمِ بِمَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ فَهُوَ الْإِحَاطَةُ بِمَا يَصْدُرُ عَنِ النَّاسِ مِنْ أَعْمَالٍ وَمَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ مِنْ تَفْكِيرٍ مِمَّا يُرَادُ بِهِ عَمَلُ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَهُوَ الْهَمُّ.
وَمَا تَفْعَلُونَ يَعُمُّ كُلَّ شَيْءٍ يَفْعَلُهُ النَّاسُ وَطَرِيقُ عِلْمِ الْمَلَائِكَةِ بِأَعْمَالِ النَّاسِ مِمَّا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِذَلِكَ.
وَدَخَلَ فِي مَا تَفْعَلُونَ: الْخَوَاطِرُ الْقَلْبِيَّةُ لِأَنَّهَا مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ أَيِ الْعَقْلُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُعْمِلُ عَقْلَهُ وَيَعْزِمُ وَيَتَرَدَّدُ، وَإِنْ لَمْ يَشِعْ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ إِطْلَاقُ مَادَّةِ الْفِعْلِ عَلَى الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُنْتَزَعُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعَ هِيَ عِمَادُ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةِ فِي كُلِّ مَنْ يَقُومُ بِعَمَلٍ لِلْأُمَّةِ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْوُلَاةِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ حَافِظُونَ لِمَصَالِحِ مَا اسْتُحْفِظُوا عِلْيَهِ وَأَوَّلُ الْحِفْظِ الْأَمَانَةُ وَعَدَمُ التَّفْرِيطِ.
فَلَا بُدَّ فِيهِمْ مِنَ الْكَرم وَهُوَ زكاء الْفِطْرَةِ، أَيْ طَهَارَةُ النَّفْسِ.


الصفحة التالية
Icon