أَنَّهَا لَيْسَتْ كَامِلَةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ غَيْرُ اللَّهِ. الثَّالِثَةُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ لِكَوْنِهِ إِلَهًا خَالِقًا مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ وَكَوْنِهِ هُوَ عَبْدًا لَهُ، وَهَذِهِ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْعُبُودِيَّةِ)) اهـ.
قُلْتُ وَلَمْ يُسَمِّ الْإِمَامُ الْمَرْتَبَةَ الثَّالِثَةَ بِاسْمٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُلْحَقَةٌ فِي الِاسْمِ بِالْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ أَعْنِي الْعُبُودِيَّةَ لِأَنَّ الشَّيْخَ ابْنَ سِينَا قَالَ فِي «الْإِشَارَاتِ» :((الْعَارِفُ يُرِيدُ الْحَقَّ لَا لِشَيْءٍ غَيْرِهِ وَلَا يُؤْثِرُ شَيْئًا عَلَى عِرْفَانِهِ وَتَعَبُّدُهُ لَهُ فَقَطْ وَلِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِبَادَةِ وَلِأَنَّهَا نِسْبَةٌ شَرِيفَةٌ إِلَيْهِ لَا لِرَغْبَةٍ أَوْ رَهْبَةٍ)) اهـ فَجَعَلَهُمَا حَالَةً وَاحِدَةً.
وَمَا ادَّعَاهُ الْفَخْرُ فِي سُقُوطِ الدَّرَجَةِ الْأُولَى وَنُزُولِ مَرْتَبَتِهَا قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ فِيهِ اصْطِلَاحُ غُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ وَإِلَّا فَإِنَّ الْعِبَادَةَ لِلطَّمَعِ وَالْخَوْفِ هِيَ الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا الْإِسْلَامُ فِي سَائِرِ إِرْشَادِهِ، وَهِيَ الَّتِي عَلَيْهَا جُمْهُورُ الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ غَايَةُ التَّكْلِيفِ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:
إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: ٢٨] فَإِنْ بَلَغَ الْمُكَلَّفُ إِلَى الْمُرَتَّبَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ فَذَلِكَ فَضْلٌ عَظِيمٌ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ مُلَاحَظَةِ الْخَوْفِ وَالطَّمَعِ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ، نَعَمْ إِنَّ أَفَاضِلَ الْأُمَّةِ مُتَفَاوِتُونَ فِي الِاحْتِيَاجِ إِلَى التَّخْوِيفِ وَالْإِطْمَاعِ بِمِقْدَارِ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْعِلْمِ بِأَسْرَارِ التَّكْلِيفِ وَمَصَالِحِهِ وَتَفَاوُتِهِمْ فِي التَّمَكُّنِ مِنْ مُغَالَبَةِ نُفُوسِهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا
مَحِيصَ لَهُمْ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى الْخَوْفِ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ وَالطَّمَعِ فِي أَحْوَالٍ أَكْثَرَ. وَأَعْظَمُ دَلِيلٍ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ فِي كِتَابِهِ الْمُتَّقِينَ فِي مَوَاضِعَ جَمَّةٍ وَدَعَا إِلَى التَّقْوَى، وَهَلِ التَّقْوَى إِلَّا كَاسْمِهِمَا بِمَعْنَى الْخَوْفِ وَالِاتِّقَاءِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً [الْإِسْرَاء: ٥٧]. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ هِيَ الَّتِي أَشَارَ لَهَا
قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِمَنْ قَالَ لَهُ كَيْفَ تُجْهِدُ نَفْسَكَ فِي الْعِبَادَةِ وَقَدْ غَفَرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ:- «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»
لِأَنَّ مِنَ الظَّاهِرِ أَنَّ الشُّكْرَ هُنَا عَلَى نِعْمَةٍ قَدْ حَصَلَتْ فَلَيْسَ فِيهِ حَظٌّ لِلنَّفْسِ بِالطَّمَعِ فِي الْمَزِيدِ لِأَنَّ الْغُفْرَانَ الْعَامَّ قَدْ حَصَلَ لَهُ فَصَارَ الشُّكْرُ لِأَجْلِ الْمَشْكُورِ لَا غَيْرَ وَتَمَحَّضَ أَنَّهُ لَا لِخَوْفٍ وَلَا طَمَعٍ (١).
_________
(١) كَأَنَّهُمْ اصْطَلحُوا على أَن الْعُبُودِيَّة أبلغ من الْعِبَادَة لما فِيهَا من النّسَب لِأَن الْأَوْصَاف الَّتِي تلحقها يَاء النّسَب يقْصد مِنْهَا الْمُبَالغَة فِي الوصفية وَذَلِكَ للْجمع بَين طريقي توصيف فَإِن صِيغَة الْوَصْف تفِيد التوصيف وَصِيغَة النّسَب كَذَلِك وَلِهَذَا كَانَ قَوْلهم أسحمي أبلغ من أسحم، ولحياني أبلغ من لحيان فالعبودية مصدر من هَذَا النَّوْع. وَاعْلَم أَن كَون الشُّكْر يشْتَمل على حَظّ للمشكور قد تقرر فِي بحث الْحَمْدُ إِذْ بَينا أَن الْحَمد وَالشُّكْر تَزْيِين للعرض الْمَحْمُود والمشكور لقَوْل النَّابِغَة:
شكرت لَك النعمى
الْبَيْت.
بْنِ عَازِبٍ أَنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ جَاءَ إِلَى مَنْزِلِهِ بَعْدَ الْغُرُوبِ يُرِيدُ طَعَامَهُ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: حَتَّى نُسَخِّنَ لَكَ شَيْئًا فَنَامَ فَجَاءَتِ امْرَأَتُهُ فَوَجَدْتُهُ نَائِمًا فَقَالَت: خيبة لم فَبَقِيَ كَذَلِكَ فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ أُغْمِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْجُوعِ، وَفِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ حَدِيثِ الْبَراء بن عاوب قَالَ: لَمَّا نَزَلَ صَوْمُ رَمَضَانَ كَانُوا لَا يَقْرَبُونَ النِّسَاءَ رَمَضَانَ كُلَّهُ وَكَانَ رِجَالٌ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ، وَوَقَعَ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ مِثْلَ مَا وَقَعَ لِعُمَرَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِسَبَبِ تِلْكَ الْأَحْدَاثِ، فَقِيلَ: كَانَ تَرْكُ الْأَكْلِ وَمُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ مِنْ بَعْدِ النَّوْمِ أَوْ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ حُكْمًا مَشْرُوعًا بِالسُّنَّةِ ثُمَّ نُسِخَ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَأَنْكَرَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ أَنْ يَكُونَ هَذَا نَسْخًا لِشَيْءٍ تَقَرَّرَ فِي شَرْعِنَا وَقَالَ: هُوَ نَسْخٌ لِمَا كَانَ فِي شَرِيعَةِ النَّصَارَى.
وَمَا شُرِعَ الصَّوْمُ إِلَّا إِمْسَاكًا فِي النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ فَلَا أَحْسِبُ أَنَّ الْآيَةَ إِنْشَاءٌ لِلْإِبَاحَةِ وَلَكِنَّهَا إِخْبَارٌ عَنِ الْإِبَاحَةِ الْمُتَقَرِّرَةِ فِي أَصْلِ تَوْقِيتِ الصِّيَامِ بِالنَّهَارِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا إِبْطَالُ شَيْءٍ تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ أَنَّ الْأَكْلَ بَيْنَ اللَّيْلِ لَا يَتَجَاوَزُ وَقْتَيْنِ وَقْتَ الْإِفْطَارِ وَوَقْتَ السُّحُورِ وَجَعَلُوا وَقْتَ الْإِفْطَارِ هُوَ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْعَشَاءِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنَامُونَ إِثْرَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَقِيَامِهَا فَإِذَا صَلُّوا الْعِشَاءَ لَمْ يَأْكُلُوا إِلَّا أَكْلَةَ السَّحُورِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَمْرِ الْجِمَاعِ كَشَأْنِهِمْ فِي أَمْرِ الطَّعَامِ وَأَنَّهُمْ لَمَّا اعْتَادُوا جَعْلَ النَّوْمِ مَبْدَأَ وَقْتِ الْإِمْسَاكِ اللَّيْلِيِّ
ظَنُّوا أَنَّ النَّوْمَ إِنْ حَصَلَ فِي غَيْرِ إِبَّانِهِ الْمُعْتَادِ يَكُونُ أَيْضًا مَانِعًا مِنَ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ إِلَى وَقْتِ السُّحُورِ وَإِنَّ وَقْتَ السُّحُورِ لَا يُبَاحُ فِيهِ إِلَّا الْأَكْلُ دُونَ الْجِمَاعِ إِذْ كَانُوا يَتَأَثَّمُونَ مِنَ الْإِصْبَاحِ فِي رَمَضَانَ عَلَى جَنَابَةٍ، وَقَدْ جَاءَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَرَى ذَلِكَ يَعْنِي بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَعَلَّ هَذَا قَدْ سَرَى إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا يَقْتَضِيهِ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، وَلَعَلَّهُمُ الْتَزَمُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَسْأَلُوا عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لَمْ يَتَجَاوَزْ بَعْضَ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الَّتِي شرع لَهُم فِيهَا صِيَامُ رَمَضَانَ فَحَدَثَتْ هَذِهِ الْحَوَادِثُ الْمُخْتَلِفَةُ الْمُتَقَارِبَةُ، وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مَنْ رَقَدَ قَبْلَ أَنْ يَطْعَمَ لَمْ يَطْعَمْ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ:
فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ فَأَكَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَلِمَ اللَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِهَذَا الْحُكْمِ
وَبَيَانُ الشَّهَوَاتِ بِـ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَمَا بَعْدَهُمَا، بَيَانٌ بِأُصُولِ الشَّهَوَاتِ الْبَشَرِيَّةِ: الَّتِي تَجْمَعُ مُشْتَهَيَاتٍ كَثِيرَةً، وَالَّتِي لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ وَالْعُصُورِ وَالْأَقْطَارِ، فَالْمَيْلُ إِلَى النِّسَاءِ مَرْكُوزٌ فِي الطَّبْعِ، وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِحِكْمَةِ بَقَاءِ النَّوْعِ بِدَاعِي طَلَبِ التَّنَاسُلِ إِذِ الْمَرْأَةُ هِيَ مَوْضِعُ التَّنَاسُلِ، فَجُعِلَ مَيْلُ الرَّجُلِ إِلَيْهَا فِي الطَّبْعِ حَتَّى لَا يَحْتَاجَ بَقَاءُ النَّوْعِ إِلَى تَكَلُّفٍ رُبَّمَا تَعْقُبُهُ سَآمَةٌ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَشَدَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ فِتْنَةِ النِّسَاءِ»
وَلَمْ يَذْكُرِ الرِّجَالَ لِأَنَّ مَيْلَ النِّسَاءِ إِلَى الرِّجَالِ أَضْعَفُ فِي الطَّبْعِ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الْمَحَبَّةُ مِنْهُنَّ لِلرِّجَالِ بِالْإِلْفِ وَالْإِحْسَانِ.
وَمَحَبَّةُ الْأَبْنَاءِ- أَيْضًا- فِي الطَّبْعِ: إِذْ جَعَلَ اللَّهُ فِي الْوَالِدَيْنِ، مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، شُعُورًا وِجْدَانِيًّا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْوَلَدَ قِطْعَةٌ مِنْهُمَا، لِيَكُونَ ذَلِكَ مَدْعَاةً إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْوَلَدِ الَّذِي هُوَ الْجِيلُ الْمُسْتَقْبَلُ، وَبِبَقَائِهِ بَقَاءُ النَّوْعِ، فَهَذَا بَقَاءُ النَّوْعِ بِحِفْظِهِ مِنَ الِاضْمِحْلَالِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ، وَفِي الْوَلَدِ أَيْضًا حِفْظٌ لِلنَّوْعِ مِنَ الِاضْمِحْلَالِ الْعَارِضِ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى الضَّعِيفِ مِنَ النَّوْعِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْرِضُ لَهُ الضَّعْفُ، بَعْدَ الْقُوَّةِ، فَيَكُونُ وَلَدُهُ دافعا عَنهُ عداء مَنْ يَعْتَدِي عَلَيْهِ، فَكَمَا دَفَعَ الْوَالِدُ عَنِ ابْنِهِ فِي حَالِ ضَعْفِهِ، يَدْفَعُ الْوَلَدُ عَنِ الْوَالِدِ فِي حَالِ ضَعْفِهِ.
وَالذَّهَب وَالْفِضَّةِ شَهْوَتَانِ بِحُسْنِ مَنْظَرِهِمَا وَمَا يُتَّخَذُ مِنْهُمَا مِنْ حُلِيٍّ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالنَّقْدَانِ مِنْهُمَا: الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ، شَهْوَةٌ لِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِي النُّفُوسِ مُنْذُ الْعُصُورِ الْمُتَوَغِّلَةِ فِي الْقِدَمِ مِنْ حُبِّ النُّقُودِ الَّتِي بِهَا دَفْعُ أَعْوَاضِ الْأَشْيَاءِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا.
وَالْقَناطِيرِ جَمْعُ قِنْطَارٍ وَهُوَ مَا يَزِنُ مِائَةَ رِطْلٍ، وَأَصْلُهُ مُعَرَّبٌ قِيلَ عَنِ الرُّومِيَّةِ اللَّاتِينِيَّةِ الشَّرْقِيَّةِ، كَمَا نَقَلَهُ النَّقَّاشُ عَنِ الْكَلْبِيِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ أَصْلَهُ فِي اللَّاتِينِيَّةِ «كِينْتَالُ» وَهُوَ مِائَةُ رِطْلٍ. وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: هُوَ مُعَرَّبٌ عَنِ السُّرْيَانِيَّةِ. فَمَا فِي «الْكَشَّافِ» فِي
سُورَةِ النِّسَاءِ أَنَّ الْقِنْطَارَ مَأْخُوذ من قتطرت الشَّيْءَ إِذَا رَفَعْتَهُ، تَكَلُّفٌ. وَقَدْ كَانَ الْقِنْطَارُ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَزْنًا وَمِقْدَارًا، مِنَ الثَّرْوَةِ، يَبْلُغُهُ بَعْضُ الْمُثْرِينَ: وَهُوَ أَنْ يَبْلُغَ مَالُهُ مِائَةَ رِطْلٍ فِضَّةً، وَيَقُولُونَ: قَنْطَرَ الرَّجُلُ إِذَا بَلَغَ مَالُهُ قِنْطَارًا وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ أَيْ مَا يُسَاوِي قِنْطَارًا مِنَ الْفِضَّةِ، وَقَدْ يُقَالُ: هُوَ مِقْدَارُ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ.
عَنْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٣٧] بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَكَانُوا يَقُولُونَ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ أَنْ يَكُونَ نَازِلًا فِي شَأْنِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْمُسلمين يَوْمئِذٍ مبرّؤون مِنْ هَذَا الْفِعْلِ وَمِنْ هَذَا الْحُسْبَانِ، وَلِذَلِكَ قَالَ مُعْظَمُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ، أَيْ فِيمَنْ مَنَعُوا الزَّكَاةَ، وَهَلْ يَمْنَعُهَا يَوْمَئِذٍ إِلَّا مُنَافِقٌ. وَلَعَلَّ مُنَاسَبَةَ ذِكْرِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا أَنَّ بَعْضَهُمْ مَنَعَ النَّفَقَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ. وَمَعْنَى حُسْبَانِهِ خَيْرًا أَنَّهُمْ حَسِبُوا أَنْ قَدِ اسْتَبْقَوْا مَالَهُمْ وَتَنَصَّلُوا عَنْ دَفْعِهِ بِمَعَاذِيرَ قُبِلَتْ مِنْهُمْ.
أَمَّا شُمُولُهَا لِمَنْعِ الزَّكَاةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِعُمُومِ صِلَةِ الْمَوْصُولِ إِنْ كَانَ الْمَوْصُولُ لِلْعَهْدِ لَا لِلْجِنْسِ، فَبِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ-، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ- بِتَاءِ الْخِطَابِ- كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَحْسِبَنَّ- بِكَسْرِ السِّينِ-، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ- بِفَتْحِ السِّينِ-.
وَقَوْلُهُ: هُوَ خَيْراً لَهُمْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (هُوَ) ضَمِيرُ فَصْلٍ، وَقَدْ يُبْنَى كَلَامُهُ عَلَى أَنَّ ضَمِيرَ الْفَصْلِ لَا يَخْتَصُّ بِالْوُقُوعِ مَعَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَطْلُبُ اسْمًا وَخَبَرًا، وَنَقَلَ الطِّيبِيُّ عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ قَالَ: زَعَمَ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ فَصْلًا مَعَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، يَعْنِي فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هُنَا ضَمِيرُ فَصْلٍ وَلِذَلِكَ حَكَى أَبُو الْبَقَاءِ فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ (هُوَ) ضَمِيرًا وَاقِعًا مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ إِنَابَةِ ضَمِيرِ الرَّفْعِ عَنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ، وَلَعَلَّ الَّذِي
حَسَّنَهُ أَنَّ الْمَعَادَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فَلَا يُهْتَدَى إِلَيْهِ بِضَمِيرِ النَّصْبِ، بِخِلَافِ ضَمِيرِ الرَّفْعِ لِأَنَّهُ كَالْعُمْدَةِ فِي الْكَلَامِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْبُخْلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ يَبْخَلُونَ، مِثْلُ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: ٨]، وَمِثْلُ قَوْلِهِ:
إِذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ | وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إِلَى خِلَافِ |
تَفْسِيرٍ، وَإِنْ كَانَ هُوَ مَكَانُ الْإِغَاضَةِ فَعَطْفُ السَّعَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ يَجِدُهُ مُلَائِمًا مِنْ جِهَةِ إِرْضَاءِ النَّفْسِ، وَمِنْ جِهَةِ رَاحَةِ الْإِقَامَةِ.
ثُمَّ نَوَّهَ اللَّهُ بِشَأْنِ الْهِجْرَةِ بِأَنْ جَعَلَ ثَوَابَهَا حَاصِلًا بِمُجَرَّدِ مِنْ بَلَدِ الْكُفْرِ، وَلَوْ لَمْ يَبْلُغْ إِلَى الْبَلَدِ الْمُهَاجَرِ إِلَيْهِ. بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَخْ. وَمَعْنَى الْمُهَاجَرَةِ إِلَى اللَّهِ الْمُهَاجَرَةُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَرْضَاهُ اللَّهُ. وَعُطِفَ الرَّسُولُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى خُصُوصِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ لِلِالْتِحَاقِ بِالرَّسُولِ وَتَعْزِيزِ جَانِبِهِ، لِأَنَّ الَّذِي يُهَاجِرُ إِلَى غَيْرِ الْمَدِينَةِ قَدْ سَلِمَ مِنْ إِرْهَاقِ الْكُفْرِ وَلَمْ يَحْصُلْ عَلَى نُصْرَةِ الرَّسُولِ، وَلِذَلِكَ بَادَرَ أَهْلُ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ إِلَى اللَّحَاقِ بِالرَّسُولِ حِينَ بَلَغَهُمْ مُهَاجَرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَمَعْنَى يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ، أَيْ فِي الطَّرِيقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ مُهَاجِرًا، أَيْ لَا يَرْجِعُ بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَى بِلَادِ الْكُفْرِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي
الْهِجْرَةِ الْمُرَادَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: فَقِيلَ: الْهِجْرَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: الْهِجْرَةُ إِلَى الْحَبَشَةِ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْمَعْنِيِّ بِالْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
فَعِنْدَ مَنْ قَالُوا إِنَّ الْمُرَادَ الْهِجْرَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالُوا الْمُرَادُ بِمَنْ يَخْرُجْ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ بَقِيَ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النِّسَاء: ٩٧- ١٠٠] كَتَبَ بِهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ مَرِيضًا، فَقَالَ: إِنِّي لَذُو مَالٍ وَعَبِيدٍ، فَدَعَا أَبْنَاءَهُ وَقَالَ لَهُمْ: احْمِلُونِي إِلَى الْمَدِينَةِ. فَحَمَلُوهُ عَلَى سَرِيرٍ، فَلَمَّا بَلَغَ التَّنْعِيمَ تُوُفِّيَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِ، وَتَعُمُّ أَمْثَالَهُ، فَهِيَ عَامَّةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ لَا يُخَصِّصُهَا سَبَبُ النُّزُولِ.
وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ كِنَانَةَ، وَقِيلَ مِنْ خُزَاعَةَ، وَقِيلَ مِنْ جُنْدَعٍ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ عَلَى عَشَرَةِ أَقْوَالٍ: جُنْدُبُ بْنُ حَمْزَةَ الْجُنْدَعِيُّ، حُنْدُجُ بْنُ ضَمْرَةَ اللَّيْثِيُّ الْخُزَاعِيُّ. ضَمْرَةُ بْنُ بَغِيضٍ اللَّيْثِيُّ، ضَمْرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ الضَّمْرِيُّ، ضَمرَة بن جُنْدُب الضمرِي، ضَمْرَةُ بْنُ ضَمْرَةَ بْنِ نُعَيْمٍ. ضَمْرَةُ مِنْ خُزَاعَةَ (كَذَا). ضَمْرَةُ بْنُ الْعِيصِ. الْعِيصُ بْنُ ضَمْرَةَ بْنِ زِنْبَاعٍ، حَبِيبُ بْنُ ضَمْرَةَ، أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ.
بِهِ فَقَدْ تَقَرَّرَ بِهِ شَرْعٌ. وَإِنَّمَا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِذَلِكَ الْعِقَابِ الشَّدِيدِ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَكُونُوا قُدْوَةً لِلْمُشْرِكِينَ فِي التَّحَيُّلِ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى الْكَيْدِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّهُمْ جَمَعُوا فِي فِعْلِهِمْ جِنَايَاتٍ كَثِيرَةً. قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: فَمَاذَا يُسْتَبْقَى مِنْ هَؤُلَاءِ قَتَلُوا النَّفْسَ وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَخَوَّفُوا رَسُولَ اللَّهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرِيِّ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ فَنَقَضُوهُ وَقَطَعُوا السَّبِيلَ وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ. رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضِّحَّاكِ. والصّحيح الأوّل. وأيّاما كَانَ فَقَدْ نُسِخَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
فَالْحَصْرُ بِ إِنَّما فِي قَوْلِهِ إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ إِلَخْ عَلَى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ حَصْرٌ إِضَافِيٌّ، وَهُوَ قَصْرٌ قُلِبَ لِإِبْطَالٍ- أَيْ لِنَسْخِ- الْعِقَابِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْعُرَنِيِّينَ، وَعَلَى مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَالْحَصْرُ أَنْ لَا جَزَاءَ لَهُمْ إِلَّا ذَلِكَ، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْقَصْرِ حِينَئِذٍ أَنْ لَا يَنْقُصَ عَنْ ذَلِكَ الْجَزَاءِ وَهُوَ أَحَدُ الْأُمُورِ
الْأَرْبَعَةِ. وَقَدْ يَكُونُ الْحَصْرُ لِرَدِّ اعْتِقَادٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ اعْتِقَادُ مَنْ يَسْتَعْظِمُ هَذَا الْجَزَاءَ وَيَمِيلُ إِلَى التَّخْفِيفِ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ يَكُونُ إِذَا كَانَتِ الْآيَةُ غَيْرَ نَازِلَةٍ عَلَى سَبَبٍ أَصْلًا.
وَأَيًّا مَا كَانَ سَبَبُ النُّزُولِ فَإِنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي وُجُوبَ عِقَابِ الْمُحَارِبِينَ بِمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِيهَا، لِأَنَّ الْحَصْرَ يُفِيدُ تَأْكِيدَ النِّسْبَةِ. وَالتَّأْكِيدُ يَصْلُحُ أَنْ يُعَدَّ فِي أَمَارَات وجوب الفل الْمَعْدُودِ بَعْضُهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْحُكْمَ جَازِمًا.
وَمَعْنَى يُحارِبُونَ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ مُقَاتِلِينَ بِالسِّلَاحِ عُدْوَانًا لِقَصْدِ الْمَغْنَمِ كشأن الْمُحَارب المبادي، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَرْبِ الْقِتَالُ. وَمَعْنَى مُحَارَبَةِ اللَّهِ مُحَارَبَةُ شَرْعِهِ وَقَصْدُ الِاعْتِدَاءِ عَلَى أَحْكَامِهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحَارِبُهُ أَحَدٌ فَذِكْرُهُ فِي الْمُحَارَبَةِ لِتَشْنِيعِ أَمْرِهَا بِأَنَّهَا مُحَارَبَةٌ لِمَنْ يَغْضَبُ اللَّهُ لِمُحَارَبَتِهِ، وَهُوَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُرَادُ بِمُحَارَبَةِ الرَّسُولِ الِاعْتِدَاءُ عَلَى حُكْمِهِ وَسُلْطَانِهِ، فَإِنَّ الْعُرَنِيِّينَ اعْتَدَوْا عَلَى نَعَمِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَّخَذَةِ لِتَجْهِيزِ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ قَدِ امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِالِانْتِفَاعِ بِهَا فَلَمْ يُرَاعُوا ذَلِكَ لِكُفْرِهِمْ فَمَا عَاقَبَ بِهِ
لِأَنَّهَا أَفْرَادٌ مُقَدَّرَةٌ تَظْهَرُ عِنْدَ تَكْوِينِهَا إِذْ هِيَ مَنْ جِنْسٍ عَامٍّ أَمْ كَانَ الْتَعَذُّرُ عَادَةً كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
بِهَا كُلُّ ذَيَّالٍ وَخَنْسَاءَ تَرْعَوِي | إِلَى كُلِّ رَجَّافٍ مِنَ الرَّمْلِ فَارِدِ |
فَيَتَعَذَّرُ أَنْ يَرَى الْقَوْمُ كُلَّ أَفْرَادِ مَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ آيَةً، فَلِذَلِكَ كَانَ الْمُرَادُ بِ كُلَّ مَعْنَى الْكَثْرَةِ الْكَثِيرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٥].
وحَتَّى حَرْفٌ مَوْضُوعٌ لِإِفَادَةِ الْغَايَةِ، أَيْ أَنَّ مَا بَعْدَهَا غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهَا. وَأَصْلُ حَتَّى أَنْ يَكُونَ حَرْفَ جَرٍّ مِثْلَ (إِلَى) فَيَقَعَ بَعْدَهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ مَدْلُولُهُ غَايَةٌ لِمَا قَبْلَ (حَتَّى).
وَقَدْ يُعْدَلُ عَنْ ذَلِكَ وَيَقَعُ بَعْدَ (حَتَّى) جُمْلَةٌ فَتَكُونُ (حَتَّى) ابْتِدَائِيَّةً، أَيْ تُؤْذِنُ بِابْتِدَاءِ كَلَامٍ مَضْمُونُهُ غَايَةٌ لِكَلَامٍ قَبْلَ (حَتَّى). وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «الْكَافِيَةِ» : إِنَّهَا تُفِيدُ السَّبَبِيَّةَ، فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ اسْتِمَاعَهُمْ يَمْتَدُّ إِلَى وَقت تجيئهم وَلَا أَنَّ جَعْلَ الْأَكِنَّةِ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَالْوَقْرِ فِي آذَانِهِمْ يَمْتَدُّ إِلَى وَقْتِ مَجِيئِهِمْ، بَلِ الْمَعْنَى أَنْ يَتَسَبَّبَ عَلَى اسْتِمَاعِهِمْ بِدُونِ فَهْمٍ. وَجَعَلَ الْوَقْرَ عَلَى آذَانِهِمْ وَالْأَكِنَّةَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا جَاءُوكَ جَادَلُوكَ.
وَسُمِّيَتْ حَتَّى ابْتِدَائِيَّةً لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا فِي حُكْمِ كَلَامٍ مُسْتَأْنَفٍ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا.
وَيَأْتِي قَرِيبٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٣١]، وَزِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِمَعْنَى (حَتَّى) الِابْتِدَائِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً- إِلَى قَوْلِهِ- حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا إِلَخْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٣٧].
وإِذا شَرْطِيَّة ظرفية. وجاؤُكَ شَرْطُهَا، وَهُوَ الْعَامِلُ فِيهَا. وَجُمْلَةُ يُجادِلُونَكَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ من ضمير جاؤُكَ أَيْ جَاءُوكَ مُجَادِلِينَ، أَيْ مُقَدِّرِينَ الْمُجَادَلَةَ مَعَكَ يُظْهِرُونَ لِقَوْمِهِمْ أَنَّهُمْ أَكْفَاءٌ لِهَذِهِ الْمُجَادَلَةِ.
وَجُمْلَةُ يَقُولُ جَوَابُ إِذا، وَعَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ فِي قَوْلِهِ: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَنْبِيَائِهِمْ فَلَمْ يَكُنِ الْعَرَبُ مُخَاطَبِينَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَهَذَا تَعَلُّلٌ أَوَّلُ مِنْهُمْ، وَثَمَّةُ اعْتِلَالٌ آخَرُ عَنِ الزَّهَادَةِ فِي التَّخَلُّقِ بِالْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ: وَهُوَ قَوْلُهُمْ: وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ، أَيْ
وَأَنَّا كُنَّا غَافِلِينَ عَنِ اتِّبَاعِ رُشْدِهِمْ لِأَنَّا لَمْ نَتَعَلَّمْ، فَالدِّرَاسَةُ مُرَادٌ بِهَا التَّعْلِيمُ.
وَالدِّرَاسَةُ: الْقِرَاءَةُ بِمُعَاوَدَةٍ لِلْحِفْظِ أَوْ لِلتَّأَمُّلِ، فَلَيْسَ سَرْدُ الْكِتَابِ بِدِرَاسَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٠٥]، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٧٩].
وَالْغَفْلَةُ: السَّهْوُ الْحَاصِلُ مِنْ عَدَمِ التَّفَطُّنِ، أَيْ لَمْ نَهْتَمَّ بِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ كُتُبُهُمْ فَنَقْتَدِي بِهَدْيِهَا، فَكَانَ مَجِيءُ الْقُرْآنِ مُنَبِّهًا لَهُمْ لِلْهَدْيِ الْكَامِلِ وَمُغْنِيًا عَنْ دِرَاسَةِ كُتُبِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ تَدَرُّجٌ فِي الِاعْتِلَالِ جَاءَ عَلَى مَا تُكِنَّهُ نُفُوسُ الْعَرَبِ مِنْ شُفُوفِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ عَلَى بَقِيَّةِ الْأُمَمِ، وَتَطَلُّعِهِمْ إِلَى مَعَالِي الْأُمُورِ، وَإِدْلَالِهِمْ بِفِطْنَتِهِمْ وَفَصَاحَةِ أَلْسِنَتِهِمْ وَحِدَّةِ أَذْهَانِهِمْ وَسُرْعَةِ تَلَقِّيهِمْ، وَهُمْ أَخْلِقَاءُ بِذَلِكَ كُلِّهِ.
وَفِي الْإِعْرَابِ عَنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ مِنْهُمْ تَلْقِينٌ لَهُمْ، وَإِيقَاظٌ لِإِفْهَامِهِمْ أَنْ يَغْتَبِطُوا بِالْقُرْآنِ، وَيَفْهَمُوا مَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنَ الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ بَيْنَ الْأُمَمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠]. وَقَدْ كَانَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْقُرْآنَ أَهْدَى مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِبَوْنٍ بَعِيدِ الدَّرَجَاتِ.
وَلَقَدْ تَهَيَّأَ الْمَقَامُ بَعْدَ هَذَا التَّنْبِيهِ الْعَجِيبِ لِفَاءِ الْفَصِيحَةِ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَتَقْدِيرُهَا: فَإِذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ ذَلِكَ وَيَهْجِسُ فِي نُفُوسِكُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ يَعْنِي الْقُرْآنَ، يَدْفَعُ عَنْكُمْ مَا تَسْتَشْعِرُونَ مِنَ الِانْحِطَاطِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ تَقْرِيعُ الْمُشْرِكِينَ وتفنيد إشراكهم، ويتبعه تَذْكِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَإِثَارَةُ اعْتِبَارِهِمْ، لِأَنَّ الْمَوْصُولَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الصِّلَةَ مَعْلُومَةُ الِانْتِسَابِ لِلْمَوْصُولِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ لِلرِّيَاحِ مُصَرِّفًا وَأَنَّ لِلْمَطَرِ مُنَزِّلًا، غَيْرَ أَنَّهُمْ يَذْهَلُونَ أَوْ يَتَذَاهَلُونَ عَنْ تَعْيِينِ ذَلِكَ الْفَاعِلِ، وَلِذَلِكَ يَجِيئُونَ فِي الْكَلَامِ بِأَفْعَالِ نُزُولِ الْمَطَرِ مَبْنِيَّةً إِلَى الْمَجْهُولِ غَالِبًا، فَيَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ الثُّرَيَّا- وَيَقُولُونَ: غِثْنَا مَا شِئْنَا. مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ أَيْ أَغِثْنَا، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ فَاعِلَ تِلْكَ الْأَفْعَالِ هُوَ اللَّهُ، وَذَلِكَ بِإِسْنَادِ هَذَا الْمَوْصُولِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ أَيِ الَّذِي عَلِمْتُمْ أَنَّهُ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ وَيُنَزِّلُ الْمَاءَ، هُوَ اللَّهُ تَعَالَى كَقَوْلِهِ أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [الْبَقَرَة: ١٦]، فَالْخَبَرُ مُسَوِّقٌ لِتَعْيِينِ صَاحِبِ هَذِهِ الصِّلَةِ. فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجَوَابِ عَنِ اسْتِفْهَامٍ مَقْصُودٌ مِنْهُ طَلَبُ التَّعْيِينِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِمْ: أَرَاحِلٌ أَنْتَ أَمْ ثَاوٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ قَصْرٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ رَدَّ اعْتِقَادٍ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا كَمَنْ يَجْهَلُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ إِشْرَاكِهِمْ مَعَهُ غَيْرَهُ، فَرُوعِيَ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ حَالُهُمُ ابْتِدَاءً، وَيَحْصُلُ رَعْيُ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ تَبَعًا، لِأَنَّ السِّيَاقَ مُنَاسِبٌ لِمُخَاطَبَةِ الْفَرِيقَيْنِ كَمَا تقدّم فِي الْآيَة السَّابِقَةِ.
وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ وَهِيَ غَايَةٌ لمضمون قَوْله: بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى مُتَقَدِّمَةً رَحْمَتَهُ، أَيْ تَتَقَدَّمُهَا مُدَّةً وَتَنْشُرُ أَسْحِبَتَهَا حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا أَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ، فَإِنْزَالُ الْمَاءِ هُوَ غَايَةُ تَقَدُّمِ الرِّيَاحِ وَسَبْقِهَا الْمَطَرَ، وَكَانَتِ الْغَايَةُ مُجَزَّأَةً أَجْزَاءً فَأَوَّلُهَا مَضْمُونُ قَوْلِهِ: أَقَلَّتْ أَيِ الرِّيَاحُ السَّحَابَ، ثُمَّ مَضْمُونُ قَوْلِهِ: ثِقالًا، ثُمَّ مَضْمُونُ سُقْناهُ أَيْ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ غَيْثَهُ، ثُمَّ أَنْ يَنْزِلَ مِنْهُ الْمَاءُ. وَكُلُّ ذَلِكَ غَايَةٌ لِتَقَدُّمِ
الرِّيَاحِ، لِأَنَّ الْمُفَرَّعَ عَنِ الْغَايَةِ هُوَ غَايَةٌ.
الثِّقَالَ: الْبَطِيئَةُ التَّنَقُّلِ لِمَا فِيهَا مِنْ رُطُوبَةِ الْمَاءِ، وَهُوَ الْبُخَارُ، وَهُوَ السَّحَابُ الْمَرْجُوُّ مِنْهُ الْمَطَرُ، وَمِنْ أَحْسَنِ مَعَانِي أَبِي الطَّيِّبِ قَوْلُهُ فِي: «حُسْنِ الِاعْتِذَارِ» :
وَقَدِ اسْتُفِيدَ ذَلِكَ مِنَ الْقِصَّةِ الْمُذَيَّلَةِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا [الْأَعْرَاف: ١٧٥] فَإِيتَاءُ الْآيَاتِ ضَرْبٌ مِنَ الْهِدَايَةِ بِالْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ، ثُمَّ قَالَ فِيهَا فَانْسَلَخَ مِنْها [الْأَعْرَاف: ١٧٥] وَقَالَ وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ [الْأَعْرَاف: ١٧٦] وَقَالَ: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها [الْأَعْرَاف: ١٧٦] فَعَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ أَرْشَدَهُ، وَلَمْ يُقَدِّرْ لَهُ الِاهْتِدَاءَ، فَالْحَالَةُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُدَ إِلَى الْأَرْضِ لَيْسَتْ حَالَةَ هُدًى، وَلَكِنَّهَا حَالَةُ تَرَدُّدٍ وَتَجْرِبَةٍ، كَمَا تَكُونُ حَالَةُ الْمُنَافِقِ عِنْدَ حُضُورِهِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إِذْ يَكُونُ مُتَلَبِّسًا بِمَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُبْطِنٍ لَهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧]، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى هُنَا: مَنْ يُقَدِّرِ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَكُونَ مُهْتَدِيًا فَهُوَ الْمُهْتَدِي.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ فَهُوَ الْمُهْتَدِي قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ ادِّعَائِيٌّ بِاعْتِبَارِ الْكَمَالِ وَاسْتِمْرَارِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى وَفَاةِ صَاحِبِهِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْمُوَافَاةِ عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ، أَيْ وَأَمَّا غَيْرُهُ فَهُوَ وَإِنْ بَانَ مُهْتَدِيًا فَلَيْسَ بِالْمُهْتَدِي لِيَنْطَبِقَ هَذَا عَلَى حَالِ الَّذِي أُوتِيَ الْآيَاتِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا وَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يُرْفَعَ بِهَا.
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي لَيْسَ مِنْ بَابِ قَوْلِ أَبِي النَّجْمِ:
وَشِعْرِي شِعْرِي
وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ»
لِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا لَيْسَ فِي مَفَادِ الثَّانِي مِنْهُ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى مَفَادِ مَا قَبْلَهُ بِخِلَافِ مَا فِي الْآيَةِ فَإِنَّ فِيهَا الْقَصْرَ.
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَزِيدَ فِي جَانِبِ الْخَاسِرِينَ الْفَصْلُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِتَمْيِيزِهِمْ بِعُنْوَانِ الْخُسْرَانِ تَحْذِيرًا مِنْهُ، فَالْقَصْرُ فِيهِ مُؤَكِّدٌ.
وَجُمِعَ الْوَصْفُ فِي الثَّانِي مُرَاعَاةً لِمَعْنَى (مَنِ) الشَّرْطِيَّةِ، وَإِنَّمَا رُوعِيَ مَعْنَى (مَنِ) الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى لِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ وَلِتَبَيُّنِ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِ (مَنِ) الْأُولَى مُفْرَدًا.
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ مُقَابَلَةِ الْهِدَايَةِ بِالْإِضْلَالِ، وَمُقَابَلَةِ الْمُهْتَدِي بِالْخَاسِرِ أَنَّ الْمُهْتَدِيَ فَائِزٌ رَابِحٌ فَحُذِفَ ذِكْرُ رِبْحِهِ إِيجَازًا.
وَالْخُسْرَانُ اسْتُعِيرَ لِتَحْصِيلِ ضِدِّ الْمَقْصُودِ مِنَ الْعَمَلِ كَمَا يُسْتَعَارُ الرِّبْحُ لِحُصُولِ
مُسَاعِدٌ عَلَى اتِّخَاذِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ مَوَاقِيتَ لِلْمَوَاعِيدِ وَالْآجَالِ، وَتَارِيخِ الْحَوَادِثِ الْمَاضِيَةِ، بِمُجَرَّدِ الْمُشَاهَدَةِ، فَإِنَّ الْقَمَرَ كُرَةٌ تَابِعَةٌ لِنِظَامِ الْأَرْضِ. قَالَ تَعَالَى: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يُونُس: ٥] وَلِأَنَّ الِاسْتِنَادَ إِلَى الْأَحْوَالِ السَّمَاوِيَّةِ أَضْبَطُ وَأَبْعَدُ عَنِ الْخَطَأِ، لِأَنَّهَا لَا تَتَنَاوَلُهَا أَيْدِي النَّاسِ بِالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَمَا حَدَثَتِ الْأَشْهُرُ الشَّمْسِيَّةُ وَسَنَتُهَا إِلَّا بَعْدَ ظُهُورِ عِلْمِ الْفَلَكِ وَالْمِيقَاتِ، فَانْتَفَعَ النَّاسُ بِنِظَامِ سَيْرِ الشَّمْسِ فِي ضَبْطِ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ،
وَجَعَلُوهَا حِسَابًا لِتَوْقِيتِ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا يَصْلُحُ لَهَا إِلَّا بَعْضُ الْفُصُولِ، مِثْلَ الْحَرْثِ وَالْحَصَادِ وَأَحْوَالِ الْمَاشِيَةِ، وَقَدْ كَانَ الْحِسَابُ الشَّمْسِيُّ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْقِبْطِ وَالْكَلْدَانِيِّينَ، وَجَاءَتِ التَّوْرَاةُ بِتَعْيِينِ الْأَوْقَاتِ الْقَمَرِيَّةِ لِلْأَشْهُرِ، وَتَعْيِينِ الشَّمْسِيَّةِ لِلْأَعْيَادِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَعْيَادَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ أَحْوَالِ الْبَشَرِ لِأَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى التَّحْسِينِ، فَأَمَّا ضَبْطُ الْأَشْهُرِ.
فَيَرْجِعُ إِلَى الْحَاجِيِّ. فَأَلْهَمَ اللَّهُ الْبَشَرَ، فِيمَا أَلْهَمَهُمْ مِنْ تَأْسِيسِ أُصُولِ حَضَارَتِهِمْ، أَنِ اتَّخَذُوا نِظَامًا لِتَوْقِيتِ أَعْمَالِهِمُ الْمُحْتَاجَةِ لِلتَّوْقِيتِ، وَأَنْ جَعَلُوهُ مُسْتَنِدًا إِلَى مُشَاهَدَاتٍ بَيِّنَةٍ وَاضِحَةٍ لِسَائِرِ النَّاسِ، لَا تَنْحَجِبُ عَنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا فِي قَلِيلٍ، ثُمَّ لَا تَلْبَثُ أَنْ تَلُوحَ لَهُمْ وَاضِحَةٌ بَاهِرَةٌ، وَأَلْهَمَهُمْ أَنِ اهْتَدَوْا إِلَى ظَوَاهِرَ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ لَهُ نِظَامًا مُطَّرِدًا. وَذَلِكَ كَوَاكِبُ السَّمَاءِ وَمَنَازِلُهَا، كَمَا قَالَ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ [يُونُس: ٥]، وَأَنْ جَعَلُوا تَوْقِيتَهُمُ الْيَوْمِيَّ مُسْتَنِدًا إِلَى ظُهُورِ نُورِ الشَّمْسِ وَمَغِيبِهِ عَنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ وَجَدُوهُ عَلَى نِظَامٍ لَا يَتَغَيَّرُ، وَلِاشْتِرَاكِ النَّاسِ فِي مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ، وَبِذَلِكَ تُنَظَّمُ الْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ، وَجَعَلُوا تَوْقِيتَهُمُ الشَّهْرِيَّ بِابْتِدَاءِ ظُهُورِ أَوَّلِ أَجْزَاءِ الْقَمَرِ وَهُوَ الْمُسَمَّى هِلَالًا إِلَى انْتِهَاءِ مِحَاقِهِ فَإِذَا عَادَ إِلَى مِثْلِ الظُّهُورِ الْأَوَّلِ فَذَلِكَ ابْتِدَاءُ شَهْرٍ آخَرَ، وَجَعَلُوا مَرَاتِبَ أَعْدَادِ أَجْزَاءِ الْمُدَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِالشَّهْرِ مُرَتَّبَةً بِتَزَايُدِ ضَوْءِ النِّصْفِ الْمُضِيءِ مِنَ الْقَمَرِ كُلَّ لَيْلَةٍ، وَبِإِعَانَةِ مَنَازِلِ ظُهُورِ الْقَمَرِ كُلَّ لَيْلَةٍ حَذْوَ شَكْلٍ مِنَ النُّجُومِ سَمَّوْهُ بِالْمَنَازِلِ. وَقَدْ وَجَدُوا ذَلِكَ عَلَى نِظَامٍ مُطَّرِدٍ، ثُمَّ أَلْهَمَهُمْ فَرَقَبُوا الْمُدَّةَ الَّتِي عَادَ فِيهَا الثَّمَرُ أَوِ الْكلأ الَّذِي ابتدأوا فِي مِثْلِهِ الْعَدَّ وَهِيَ أَوْقَاتُ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، فَوَجَدُوهَا قَدِ احْتَوَتْ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فَسَمَّوْا تِلْكَ الْمُدَّةَ عَامًا، فَكَانَتِ الْأَشْهُرُ لِذَلِكَ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَعُودُ إِلَى مِثْلِ الْوَقْتِ الَّذِي ابْتَدَأُوا فِيهِ الْحِسَابَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَدَعَوْهَا بِأَسْمَاءٍ لِتَمْيِيزِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ دَفْعًا لِلْغَلَطِ، وَجَعَلُوا لِابْتِدَاءِ السِّنِينَ بِالْحَوَادِثِ عَلَى حَسَبِ اشْتِهَارِهَا
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ٤٥]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥)عَطْفٌ عَلَى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ [يُونُس: ٢٨] عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ عَوْدًا إِلَى غَرَضٍ مِنَ الْكَلَامِ بَعْدَ تَفْصِيلِهِ وَتَفْرِيعِهِ وَذَمِّ الْمَسُوقِ إِلَيْهِمْ وَتَقْرِيعِهِمْ فَإِنَّهُ لَمَّا جَاءَ فِيمَا مَضَى ذِكْرُ يَوْمِ الْحَشْرِ إِذْ هُوَ حِينُ افْتِضَاحِ ضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ بِبَرَاءَةِ شُرَكَائِهِمْ مِنْهُمْ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالتَّقْرِيعِ عَلَى عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ مَعَ وُضُوحِ بَرَاهِينِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَإِذْ كَانَ الْقُرْآنُ قَدْ أَبْلَغَهُمْ مَا كَانَ يَعْصِمُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْقِفِ الذَّلِيلِ لَوِ اهْتَدَوْا بِهِ
أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَإِثْبَاتِ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ طَوْقِ الْبَشَرِ وَتَسْفِيهِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ وَتَفَنَّنُوا فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَاسْتُوفِيَ الْغَرَضُ حَقَّهُ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى ذِكْرِ يَوْمِ الْحَشْرِ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ هُوَ حِينَ خَيْبَةِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْبَعْثِ وَهُمُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَظَهَرَ افْتِضَاحُ شِرْكِهِمْ فِي يَوْمِ الْحَشْرِ فَكَانَ مِثْلَ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ.
وَانْتَصَبَ يَوْمَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِفِعْلِ خَسِرَ. وَالتَّقْدِيرُ: وَقَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ، فَارْتِبَاطُ الْكَلَامِ هَكَذَا: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ وَقَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ. وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَهَمَّ تَذْكِيرُهُمْ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَإِثْبَاتُ وُقُوعِهِ مَعَ تَحْذِيرِهِمْ وَوَعِيدِهِمْ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ فِيهِ.
وَلِذَلِكَ عَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْمَوْصُولِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ دُونَ قَدْ خَسِرُوا، لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ سَبَبَ خُسْرَانِهِمْ هُوَ تَكْذِيبُهُمْ بِلِقَاءِ اللَّهِ وَذَلِكَ التَّكْذِيبُ مِنْ آثَارِ الشِّرْكِ فَارْتَبَطَ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَهِيَ جُمْلَةُ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ [يُونُس: ٢٨- ٣٠].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَحْشُرُهُمْ بِنُونِ الْعَظَمَةِ، وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، فَالضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً [يُونُس: ٤٤].
شَيْئًا فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَأَتْبَعَهُ رَجُلًا فَدَعَاهُ فَتَلَا عَلَيْهِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: هَذَا لَهُ خَاصَّةً؟ قَالَ:
لَا، بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً
. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَالْآخَرُ عَنْ أَبِي الْيُسْرِ وَهُوَ صَاحِبُ الْقِصَّةِ وَضَعَّفَهُمَا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَرْوِيَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الَّذِي حَمَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ دُونَ بَقِيَّةِ هَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ قَوْلُهُ: (فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ) فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ الرَّاوِي فَهَذِهِ الْآيَةُ أُلْحِقَتْ بِهَذِهِ السُّورَةِ فِي هَذَا الْمَكَانِ لِمُنَاسَبَةِ وُقُوعِ قَوْلِهِ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: ١١٢] قَبْلَهَا وَقَوْلِهِ: وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ
[هود: ١١٥] بَعْدَهَا.
وَأَمَّا الَّذِينَ رَجَّحُوا أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ فَقَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْأَمْرِ بِإِقَامَةِ الصّلوات وَإِن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِهَا الَّذِي سَأَلَهُ عَنِ الْقُبْلَةِ الْحَرَامِ وَقَدْ جَاءَ تَائِبًا لِيُعْلِمَهُ بِقَوْلِهِ:
إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ، فيؤوّل قَوْلُ الرَّاوِي: فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ، أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ شُمُولُ عُمُومِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لِقَضِيَّةِ السَّائِلِ وَلِجَمِيعِ مَا يُمَاثِلُهَا مِنْ إِصَابَةِ الذُّنُوبِ غَيْرِ الْفَوَاحِشِ.
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَوْلَهُ: فَتَلَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ، وَلَمْ يَقُولَا: فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ أَيْ تَذْكِرَةٌ لِلَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يَذَّكَّرَ وَلَمْ يَكُنْ شَأْنُهُ الْإِعْرَاضَ عَنْ طَلَبِ الرُّشْدِ وَالْخَيْرِ، وَهَذَا أَفَادَ الْعُمُومَ نَصًّا. وَقَوْلُهُ: ذلِكَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: ١١٢].
وَجَمْعُ الظُّلُماتِ وَإِفْرَادُ النُّورِ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١].
وَالْبَاءُ فِي بِإِذْنِ رَبِّهِمْ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالْإِذْنُ: الْأَمْرُ بِفِعْلٍ يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَى الْآمِرِ بِهِ، وَهُوَ أَمْرُ اللَّهِ إِيَّاهُ بِإِرْسَالِهِ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُ هُوَ الْإِذْنُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ النَّاسِ، كَقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَلَمَّا كَانَ الْإِرْسَالُ لِمَصْلَحَتِهِمْ أُضِيفَ الْإِذْنُ إِلَى وَصْفِ الرَّبِّ الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِ النَّاسِ، أَيْ بِإِذْنِ الَّذِي يُدَبِّرُ مَصَالِحَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ١] بَدَلٌ مِنَ النُّورِ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ لِلْمُبْدَلِ مِنْهُ لِزِيَادَةِ بَيَانِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ اهتماما بِهِ، وتأكيد لِلْعَامِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٨٨].
وَمُنَاسَبَةُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَعَارِ لِلدِّينِ الْحَقِّ، لِاسْتِعَارَةِ الْإِخْرَاجِ وَالظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ وَلِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ التَّمْثِيلِ، ظَاهِرَةٌ.
وَاخْتِيَارُ وَصْفِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ مِنْ بَين الصِّفَات العلى لِمَزِيدِ مُنَاسَبَتِهَا لِلْمَقَامِ، لِأَنَّ الْعَزِيزَ الَّذِي لَا يُغْلَبُ. وَإِنْزَالُ الْكِتَابِ بِرِهَانٌ عَلَى أَحَقِّيَّةِ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنَ النَّاسِ فَهُوَ بِهِ غَالِبٌ لِلْمُخَالِفِينَ مُقِيمٌ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.
وَالْحَمِيدُ: بِمَعْنَى الْمَحْمُودِ، لِأَنَّ فِي إِنْزَالِ هَذَا الْكِتَابِ نِعْمَةً عَظِيمَةً تُرْشِدُ إِلَى حَمْدِهِ عَلَيْهِ، وَبِذَلِكَ اسْتَوْعَبَ الْوَصْفَانِ الْإِشَارَةَ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ مِنْ كُلِّ مُنْسَاقٍ إِلَى الِاهْتِدَاءِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ وَمِنْ مُجَادِلٍ صَائِرٍ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بَعْدَ قيام الْحجَّة ونفاد الْحِيلَةِ.
[٢، ٣]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : الْآيَات ٢ الى ٣]
اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣)
اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.
قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِرَفْعِ اسْمِ الْجَلَالَةِ- عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ. وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ (أَيِ الْعَزِيزُ الْحَمِيدُ) اللَّهُ الْمَوْصُوفُ
وَمَفْعُولُ يَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ لِظُهُورِهِ، وَهُوَ ضَمِيرُ (مَا)، أَيْ لَا يَعْلَمُونَهُ. وَمِثْلُ حَذْفِ هَذَا الضَّمِيرِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَام.
وَمَا صدق صلَة لِما لَا يَعْلَمُونَ هُوَ الْأَصْنَامُ، وَإِنَّمَا عُبِّرَ عَنْهَا بِهَذِهِ الصِّلَةِ زِيَادَةً فِي تَفْظِيعِ سَخَافَةِ آرَائِهِمْ، إِذْ يَفْرِضُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ عَطَاءً يُعْطُونَهُ لِأَشْيَاءَ لَا يَعْلَمُونَ حَقَائِقَهَا بَلْهَ مَبْلَغِ مَا يَنَالُهُمْ مِنْهَا، وَتَخَيُّلَاتٍ يَتَخَيَّلُونَهَا لَيست من الْوُجُودِ وَلَا من الْإِدْرَاكِ وَلَا مِنَ الصَّلَاحِيَةِ لِلِانْتِفَاعِ فِي شَيْءٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ
. وَضمير تَعْلَمُونَ [سُورَة الْحجر: ٥٥] عَائِدٌ إِلَى مَعَادِ ضَمِيرِ يَجْعَلُونَ.
وَوَصْفُ النَّصِيبِ بِأَنَّهُ مِمَّا رَزَقْناهُمْ لِتَشْنِيعِ ظُلْمِهِمْ إِذْ تَرَكُوا الْمُنْعِمَ فَلَمْ يَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِمَا يُرْضِيهِ فِي أَمْوَالِهِمْ مِمَّا أَمَرَهُمْ بِالْإِنْفَاقِ فِيهِ كَإِعْطَاءِ الْمُحْتَاجِ، وَأَنْفَقُوا ذَلِكَ فِي التَّقَرُّبِ إِلَى أَشْيَاءَ مَوْهُومَةٍ لَمْ تَرْزُقْهُمْ شَيْئًا.
ثُمَّ وُجِّهَ الْخِطَابُ إِلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ لِقَصْدِ التَّهْدِيدِ. وَلَا مَانِعَ مِنْ الِالْتِفَاتِ هُنَا لِعَدَمِ وُجُودِ فَاءِ التَّفْرِيعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَمَتَّعُوا [سُورَة النَّحْل: ٥٥].
وَتَصْدِيرُ جُمْلَةِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ بِالْقَسَمِ لِتَحْقِيقِهِ، إِذِ السُّؤَالُ الْمَوْعُودُ بِهِ يَكُونُ يَوْمَ الْبَعْثِ وَهُمْ يُنْكِرُونَهُ فَنَاسَبَ أَنْ يُؤَكَّدَ.
وَالْقَسَمُ بِالتَّاءِ يَخْتَصُّ بِمَا يَكُونُ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ أَمْرًا عَجِيبًا وَمُسْتَغْرَبًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٧٣].
وَسَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٥٧]. فَالْإِتْيَانُ فِي الْقَسَمِ هُنَا بِحَرْفِ التَّاءِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ سُؤَالًا عَجِيبًا بِمِقْدَارِ غَرَابَةِ الْجُرْمِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ.
وَالسُّؤَالُ كِنَايَةٌ عَمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْعِقَابِ، لِأَنَّ عِقَابَ الْعَادِلِ يَكُونُ فِي الْعُرْفِ عَقِبَ سُؤَالِ الْمُجْرِمِ عَمَّا اقْتَرَفَهُ إِذْ لَعَلَّ لَهُ مَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ،
الْآيَةَ، وَهِيَ رِوَايَةٌ بَاطِلَةٌ. وَسَبَبُ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ وَمِنْ أَجْلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَالَ فَرِيقٌ: إِنَّ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي صدر السُّورَة.
[٧٨]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٧٨]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨)
كَانَ شَرْعُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لِلْأُمَّةِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ غَيْرَ مُثْبَتٍ فِي التَّشْرِيعِ الْمُتَوَاتِرِ إِنَّمَا أَبْلَغَهُ النَّبِيءُ أَصْحَابَهُ فَيُوشِكُ أَنْ لَا يَعْلَمَهُ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَأْتِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَيْضًا فَقَدْ عَيَّنَتِ الْآيَةُ أَوْقَاتًا لِلصَّلَوَاتِ بَعْدَ تَقَرُّرِ فَرْضِهَا، فَلِذَلِكَ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي نَزَلَتْ عَقِبَ حَادِثِ الْإِسْرَاءِ جَمْعًا لِلتَّشْرِيعِ الَّذِي شُرِعَ لِلْأُمَّةِ أَيَّامَئِذٍ الْمُبْتَدَأِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ الْآيَات [الْإِسْرَاء: ٢٣].
فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِهَا عَقِبَ مَا قَبْلَهَا أَنَّ اللَّهَ لَمَّا امْتَنَّ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعِصْمَةِ وَبِالنُّصْرِ ذَكَّرَهُ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ بِأَنْ أَمَرَهُ بِأَعْظَمِ عِبَادَةٍ يَعْبُدُهُ بِهَا، وَبِالزِّيَادَةِ مِنْهَا طَلَبًا لِازْدِيَادِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الْإِسْرَاء: ٧٩].
فَالْخِطَابُ بِالْأَمر للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ قَدْ تَقَرَّرَ مِنِ اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ أَنَّ خِطَابَ النَّبِيءِ بِتَشْرِيعٍ تَدْخُلُ فِيهِ أُمَّتُهُ إِلَّا إِذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ وَشَاعَ بَيْنَهُمْ بِحَيْثُ مَا كَانُوا يسْأَلُون عَن اخْتِصَاصِ حُكْمٍ إِلَّا فِي مَقَامِ الِاحْتِمَالِ
الْقَوِيِّ، كَمَنْ سَأَلَهُ: أَلَنَا هَذِهِ أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ: بَلْ لِلْأَبَدِ.
وَكَانَ إِسْلَامُ عُمَرَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ مِنَ الْبِعْثَةِ قُبَيْلَ الْهِجْرَةِ الْأُولَى إِلَى الْحَبَشَةِ فَتَكُونُ هَذِهِ السُّورَةُ قَدْ نَزَلَتْ فِي سَنَةِ خَمْسٍ أَوْ أَوَاخِرِ سَنَةِ أَرْبَعٍ مِنَ الْبَعْثَةِ.
وَعُدَّتْ آيُهَا فِي عَدَدِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ مِائَةً وَأَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، وَفِي عَدَدِ أَهْلِ الشَّامِ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ، وَفِي عَدَدِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِائَةً وَاثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ. وَفِي عَدَدِ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِائَةً وخمسا وَثَلَاثِينَ.
أغراضها:
احْتَوَتْ مِنَ الْأَغْرَاضِ عَلَى:
- التَّحَدِّي بِالْقُرْآنِ بِذِكْرِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي مُفْتَتَحِهَا.
- وَالتَّنْوِيهِ بِأَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنَ اللَّهِ لِهَدْيِ الْقَابِلَيْنَ لِلْهِدَايَةِ فَأَكْثَرُهَا فِي هَذَا الشَّأْنِ.
- وَالتَّنْوِيهُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِثْبَاتُ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهَا تُمَاثِلُ رِسَالَةَ أَعْظَمِ رَسُولٍ قَبْلَهُ شَاعَ ذِكْرُهُ فِي النَّاسِ، فَضَرَبَ الْمَثَلَ لِنُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَلَامِ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
- وَبَسَطَ نَشْأَةَ مُوسَى وَتَأْيِيدَ اللَّهِ إِيَّاهُ وَنَصْرَهُ عَلَى فِرْعَوْنَ بِالْحُجَّةِ وَالْمُعْجِزَاتِ وَبِصَرْفِ كَيْدِ فِرْعَوْنَ عَنْهُ وَعَنْ أَتْبَاعِهِ.
- وَإِنْجَاءَ اللَّهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَغَرَقَ فِرْعَوْنَ، وَمَا أَكْرَمَ اللَّهُ بِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي خُرُوجِهِمْ مِنْ بَلَدِ الْقِبْطِ.
- وَقِصَّةَ السَّامِرِيِّ وَصُنْعَهُ الْعَجَلَ الَّذِي عَبَدَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي مَغِيبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
مِنْ آيَاتِهَا مَا يُلَائِمُ أُسْلُوبَ الْقُرْآنِ النَّازِلِ بِمَكَّةَ. وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ الِافْتِتَاحُ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ بِمُعَيِّنٍ أَنْ تَكُونَ مَكِّيَّةً، وَإِنَّمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ يُرَادُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ. وَلِذَا فَيَجُوزُ أَنْ يُوَجَّهَ الْخِطَابُ بِهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فِي الْمَدِينَةِ فِي أَوَّلِ مُدَّةِ حُلُولِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، فَإِنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْحَج: ٢٥] يُنَاسِبُ أَنَّهُ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ حَيْثُ صَدَّ الْمُشْرِكُونَ النَّبِيءَ وَالْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْبَقَاءِ مَعَهُمْ بِمَكَّةَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ [الْحَج: ٣٩- ٤٠] فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ نَزَلَ فِي شَأْنِ الْهِجْرَةِ.
رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أُخْرِجَ النَّبِيءُ مِنْ مَكَّةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ:
أَخْرَجُوا نَبِيئَهُمْ لِيَهْلِكُنَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الْحَج: ٣٩- ٤٠]، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً [الْحَج: ٥٨] فَفِيهِ ذِكْرُ الْهِجْرَةِ وَذِكْرُ مَنْ يُقْتَلُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِجِهَادٍ مُتَوَقَّعٍ كَمَا سَيَجِيءُ هُنَالِكَ.
وَأَحْسَبُ أَنَّهُ لَمْ تَتَعَيَّنْ طَائِفَةٌ مِنْهَا مُتَوَالِيَةً نَزَلَتْ بِمَكَّةَ وَنَزَلَ مَا بَعْدَهَا بِالْمَدِينَةِ بَلْ نَزَلَتْ آيَاتُهَا مُتَفَرِّقَةً. وَلَعَلَّ تَرْتِيبَهَا كَانَ بِتَوْقِيفٍ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الْحَج: ١٩] أَنَّهُ نَزَلَ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ، لِمَا فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي ذَرٍّ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُبَارَزَةِ حَمْزَةَ وَعَلِيٍّ وَعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ مَعَ شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يُقْسِمُ عَلَى ذَلِكَ.
فِي سُورَةِ يُوسُفَ [١٠٨]. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ هُنَا لِإِعْلَانِ الْمُتَكَلِّمِ الْبَرَاءَةَ مِنْ شَيْءٍ بِتَمْثِيلِ حَالِ نَفْسِهِ بِحَالِ مَنْ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا يَقُول فيبتدىء بِخِطَابِ اللَّهِ بِتَعْظِيمِهِ ثُمَّ بِقَوْلِ: هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ تبرّئا مِنْ لَازِمِ ذَلِكَ وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي إِنْكَارِ الشَّيْءِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ وُقُوعِهِ.
وَتَوْجِيهُ الْخِطَابِ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: سُبْحانَكَ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ اللَّهَ غَاضِبٌ عَلَى مَنْ يَخُوضُ فِي ذَلِكَ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَتَوَجَّهُوا لِلَّهِ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ لِمَنْ خَاضُوا فِيهِ وَبِالِاحْتِرَازِ مِنَ الْمُشَارَكَةِ فِيهِ لِمَنْ لَمْ يَخُوضُوا فِيهِ.
وَجُمْلَةُ: هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ: مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي تَوْبِيخِ الْمَقُولِ لَهُمْ.
وَوَصْفُ الْبُهْتَانِ بِأَنَّهُ عَظِيمٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُ عَظِيمٌ فِي وُقُوعِهِ، أَيْ بَالِغٌ فِي كُنْهِ الْبُهْتَانِ مَبْلَغًا قَوِيًّا.
وَإِنَّمَا كَانَ عَظِيمًا لِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُنْكَرَاتٍ كَثِيرَةٍ وَهِيَ: الْكَذِبُ، وَكَون الْكَذِب يطعن فِي سَلَامَةِ الْعَرْضِ، وَكَوْنُهُ يُسَبِّبُ إِحَنًا عَظِيمَةً بَيْنَ الْمُفْتَرِينَ والمفترى عَلَيْهِم بِدُونِ عذر، وَكَون المفترى عَلَيْهِمْ مِنْ خِيرَةِ النَّاسِ وَانْتِمَائِهِمْ إِلَى أَخْيَرِ النَّاسِ مِنْ أَزْوَاجٍ وَآبَاءٍ وَقُرَابَاتٍ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ اجْتِرَاءٌ عَلَى مقَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومقام أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا.
وَالْبُهْتَانُ مَصْدَرٌ مِثْلُ الْكُفْرَانِ وَالْغُفْرَانِ. وَالْبُهْتَانُ: الْخَبَرُ الْكَذِبُ الَّذِي يَبْهَتُ السَّامِعَ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِيهِ. وَقَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً فِي سُورَة النِّسَاء [١٥٦].
[١٧، ١٨]
[سُورَة النُّور (٢٤) : الْآيَات ١٧ إِلَى ١٨]
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨)
بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مَا فِي خَبَرِ الْإِفْكِ مِنْ تَبِعَاتٍ لَحِقَ بِسَبَبِهَا لِلَّذِينِ جَاءُوا بِهِ وَالَّذِينَ تَقَبَّلُوهُ عَدِيدُ التَّوْبِيخِ وَالتَّهْدِيدِ، وَافْتِضَاحٌ لِلَّذِينِ رَوَّجُوهُ
وَأَقْبَلَ عَلَى الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُنْجِيَهُ وَأَهْلَهُ مِمَّا يَعْمَلُ قَوْمُهُ، أَيْ مِنْ عَذَابِ مَا يَعْمَلُونَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَنَجَّيْناهُ. وَلَا يَحْسُنُ جَعْلُ الْمَعْنَى: نَجِّنِي مِنْ أَنْ أَعْمَلَ عَمَلَهُمْ، لِأَنَّهُ يَفُوتُ مَعَهُ التَّعْرِيضُ بِعَذَابٍ سَيَحِلُّ بِهِمْ. وَالْقِصَّةُ تَقَدَّمَتْ فِي الْأَعْرَافِ وَفِي هُودٍ وَالْحَجَرِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَنَجَّيْناهُ لِلتَّعْقِيبِ، أَيْ كَانَتْ نَجَاتُهُ عَقِبَ دُعَائِهِ حَسْبَمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْ أَسْرَعِ مُدَّةٍ بَيْنَ الدُّعَاءِ وَأَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِالْخُرُوجِ بِأَهْلِهِ إِلَى قَرْيَةِ «صُوغَرَ».
وَالْعَجُوزُ: الْمَرْأَةُ الْمُسِنَّةُ وَهِيَ زَوْجُ لُوطٍ، وَقَوْلُهُ: فِي الْغابِرِينَ صِفَةُ عَجُوزاً.
وَالْغَابِرُ: الْمُتَّصِفُ بِالْغُبُورِ وَهُوَ الْبَقَاءُ بَعْدَ ذَهَابِ الْأَصْحَابِ أَوْ أَهْلِ الْخَيْلِ، أَيْ بَاقِيَةٌ فِي الْعَذَابِ بَعْدَ نَجَاةِ زَوْجِهَا وَأَهْلِهِ وَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ. وَذَلِكَ أَنَّهَا لَحِقَهَا الْعَذَابُ مِنْ دُونِ أَهْلِهَا فَكَانَ صِفَةً لَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قِصَّتِهِمْ فِي سُورَةِ هُودٍ.
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ إِهْلَاكَ الْمُكَذِّبِينَ أَجْدَرُ بِأَنْ يُذْكَرَ فِي مَقَامِ الْمَوْعِظَةِ مِنْ ذِكْرِ إِنْجَاءِ لُوطٍ الْمُؤمنِينَ.
وَالتَّدْمِيرُ: الْإِصَابَةُ بِالدَّمَارِ وَهُوَ الْهَلَاكُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اسْتُؤْصِلُوا بِالْخَسْفِ وَإِمْطَارِ الْحِجَارَةِ عَلَيْهِمْ.
وَالْمَطَرُ: الْمَاءُ الَّذِي يَسْقُطُ مِنَ السَّحَابِ عَلَى الْأَرْضِ. وَالْإِمْطَارُ: إِنْزَالُ الْمَطَرِ، يُقَالُ: أَمْطَرَتِ السَّمَاءُ. وَسُمِّيَ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْحِجَارَة مَطَرا لِأَن نَزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْجَوِّ.
وَقِيلَ هُوَ مِنْ مَقْذُوفَاتِ بَرَاكِينٍ فِي بِلَادِهِمْ أَثَارَتْهَا زَلَازِلُ الْخَسْفِ فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ.
وَ (سَاءَ) فِعْلُ ذَمٍّ بِمَعْنَى بِئْسَ. وَفِي قَوْلِهِ: الْمُنْذَرِينَ تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أُنْذِرُوا فَلم ينتذروا.
وَ (عَلى عِلْمٍ) فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ.
وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى التَّمَكُّنِ وَالتَّحَقُّقِ، أَيْ مَا أُوتِيتُ الْمَالَ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ تَمَكُّنِي مِنْ عِلْمٍ رَاسِخٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْعِلْمِ عِلْمَ أَحْكَامِ إِنْتَاجِ الْمَالِ مِنَ التَّوْرَاةِ، أَيْ أَنَا أَعْلَمُ مِنْكُمْ بِمَا تَعِظُونَنِي بِهِ، يَعْنِي بِذَلِكَ قَوْلَهُمْ لَهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ- وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ [الْقَصَص: ٧٦، ٧٧]. وَقَدْ كَانَ قَارُونُ مَشْهُورًا بِالْعِلْمِ بِالتَّوْرَاةِ وَلَكِنَّهُ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ فَأَرَادَ بِهَذَا الْجَوَابِ قَطْعَ مَوْعِظَتَهُمْ نَظِيرَ جَوَابِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ الْمُلَقَّبِ بِالْأَشْدَقِ لِأَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ حِينَ قَدِمَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَمِيرًا مِنْ قِبَلِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ سَنَةَ سِتِّينَ فَجَعَلَ يُجَهِّزُ الْجُيُوشَ وَيَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ لِقِتَالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الَّذِي خَرَجَ عَلَى يَزِيدَ، فَقَالَ أَبُو شُرَيْحٍ لَهُ: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أُحَدِّثُكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ
قَالَ: «إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ فَلَا يحل لامرىء يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلَا يَعْضِدَ شَجَرَةً فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ وَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ»
فَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ وَلَا فَارًّا بِخَرِبَةٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ عِلْمَ اكْتِسَابِ الْمَالِ مِنَ التِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا، فَأَرَادَ بِجَوَابِهِ إِنْكَارَ قَوْلِهِمْ: آتَاكَ اللَّهُ صَلَفًا مِنْهُ وَطُغْيَانًا.
وَقَوْلُهُ عِنْدِي صِفَةٌ لِ عِلْمٍ تَأْكِيدًا لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَشُهْرَتِهِ بِهِ. هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْآيَةِ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَقِيمُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى عَقِبَهُ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ الْآيَةَ، كَمَا سَتَعْرِفُهُ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ وُجُوهًا تُسْفِرُ عَنْ أَشْكَالٍ أُخْرَى مِنْ تَرْكِيبِ نَظْمِ الْآيَةِ فِي مَحْمِلِ مَعْنَى عَلى وَمَحْمِلِ الْمُرَادِ مِنَ (الْعِلْمِ) وَمَحْمِلِ عِنْدِي فَلَا نُطِيلُ بِذِكْرِهَا فَهِيَ مِنْكَ عَلَى طَرَفِ الثُّمَامِ.
وَقَوْلُهُ أَوَلَمْ يَعْلَمْ الْآيَةَ إِقْبَالٌ عَلَى خِطَابِ الْمُسْلِمِينَ.
الْمَثَلِ وَقَدْ كَانَ مَا قَصَّ مِنْ أَخْبَارِ الْمَاضِينَ مُوَطِّئًا لِهَذَا فَقَدْ جَرَتْ قِصَّةُ لُقْمَانَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ كَمَا جَرَتْ قِصَّةُ أَهْلِ الْكَهْفِ وَذِي الْقَرْنَيْنِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [١٠٩] فَعُقِّبَتَا بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ السُّورَةِ: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً وَهِيَ مُشَابِهَةٌ لِلْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ لُقْمَانَ. فَهَذَا وَجْهُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ.
وَلِمَا فِي اتِّصَالِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْخَفَاءِ أَخَذَ أَصْحَابُ التَّأْوِيلِ مِنَ السَّلَفِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَيَانِ إِيقَاعِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْمَوْقِعِ. فَقِيلَ: سَبَبُ نُزُولِهَا مَا
ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَالْوَاحِدِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ بِرِوَايَاتٍ مُتَقَارِبَةٍ: أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ أَغْرَوْا قُرَيْشًا بِسُؤَالِهِ لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِي شَأْنهمْ:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاء: ٨٥] فَقَالُوا: كَيْفَ وَأَنْتَ تَتْلُو فِيمَا جَاءَكَ أَنَّا قَدْ أُوتِينَا التَّوْرَاةَ وَفِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ سَأَلُوهُ: هِيَ فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ
الْآيَتَيْنِ أَوِ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ.
وَعَنِ السُّدِّيِّ قَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا أَكْثَرَ كَلَامَ مُحَمَّدٍ! فَنَزَلَتْ: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ.
وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَتْ قُرَيْشٌ: سَيَتِمُّ هَذَا الْكَلَامُ لِمُحَمَّدٍ وَيَنْحَسِرُ- أَيْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَقُولُ بَعْدَهُ كَلَامًا-. وَفِي رِوَايَةٍ: سَيَنْفَدُ هَذَا الْكَلَامُ. وَهَذِهِ يَرْجِعُ بَعْضُهَا إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وَضْعُهَا فِي هَذَا الْموضع من السُّورَةِ بِتَوْقِيفٍ نَبَوِيٍّ لِلْمُنَاسَبَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ فَيَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي أَثْنَاءِ نُزُولِ سُورَةِ لُقْمَانَ عَلَى أَنْ تُوضَعَ عَقِبَ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَهَا.
وكَلِماتُ جَمْعُ كَلِمَةٍ بِمَعْنَى الْكَلَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠٠] أَيِ: الْكَلَامُ الْمُنْبِئُ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ مِنْ بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ مِمَّا يُخَاطِبُ بِهِ مَلَائِكَتَهُ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْعَنَاصِرِ الْمَعْدُودَةِ لِلتَّكَوُّنِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: كُنْ فَتَكُونُ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَنْزَلَهُ مِنَ الْوَحْيِ إِلَى رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ مِنْ أَوَّلِ أَزْمِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا سَيُنْزِلُهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لَوْ فَرَضَ إِرَادَةَ اللَّهِ أَنْ يَكْتُبَ كَلَامَهُ كُلَّهُ صُحُفًا
وَالشَّكُورُ يَعْتَبِرُ بِمَا أُعْطِيَ مِنَ النِّعَمِ فَيَزْدَادُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا يَبْطَرُ النِّعْمَةَ وَلَا يَطْغَى فَيُعَاقَبَ بِسَلْبِهَا كَمَا سُلِبَتْ عَنْهُمْ، وَمِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ أَنْ يَحْرِمَهُمُ اللَّهُ التَّوْفِيقَ. وَأَنْ يُقْذَفَ بِهِمُ الْخِذْلَانُ فِي بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ.
وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ تَأْمِينَ الطَّرِيقِ وَتَيْسِيرَ الْمُوَاصَلَاتِ وَتَقْرِيبَ الْبُلْدَانِ لِتَيْسِيرِ تَبَادُلِ الْمَنَافِعِ وَاجْتِلَابِ الْأَرْزَاقِ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَاكَ نِعْمَةٌ إِلَهِيَّةٌ وَمَقْصِدٌ شَرْعِيٌّ يُحِبُّهُ اللَّهُ لِمَنْ يُحِبُّ أَنْ يَرْحَمَهُ مِنْ عِبَادِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [الْبَقَرَة: ١٢٥] وَقَالَ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ [الْبَقَرَة: ١٢٦] وَقَالَ: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قُرَيْش: ٤] فَلِذَلِكَ قَالَ هُنَا: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ [سبأ:
١٨].
وَعَلَى أَنَّ الْإِجْحَافَ فِي إِيفَاءِ النِّعْمَةِ حَقَّهَا مِنَ الشُّكْرِ يُعَرِّضُ بِهَا لِلزَّوَالِ وَانْقِلَابِ الْأَحْوَالِ قَالَ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ [النَّحْل:
١١٢].
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كُلِّهِ كَانَ حَقًّا عَلَى وُلَاةِ أُمُورِ الْأُمَّةِ أَنْ يَسْعَوْا جُهْدَهُمْ فِي تَأْمِينِ الْبِلَادِ وَحِرَاسَةِ السُّبُلِ وَتَيْسِيرِ الْأَسْفَارِ وَتَقْرِيرِ الْأَمْنِ فِي سَائِرِ نَوَاحِي الْبِلَادِ جَلِيلِهَا وَصَغِيرِهَا بِمُخْتَلِفِ الْوَسَائِلِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَهَمِّ مَا تُنْفَقُ فِيهِ أَمْوَالُ الْمُسْلِمِينَ وَمَا يَبْذُلُ فِيهِ أَهْلُ الْخَيْرِ مِنَ الْمُوسِرِينَ أَمْوَالَهُمْ عَوْنًا عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِنْ رَحْمَةِ أَهْلِ الْأَرْضِ الْمَشْمُولَةِ
لِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ»
. وَكَانَ حَقًّا عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ أَنْ يُرْشِدُوا الْأَئِمَّةَ وَالْأُمَّةَ إِلَى طَرِيقِ الْخَيْرِ وَأَنْ يُنَبِّهُوا عَلَى مَعَالِمِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ وَمَسَالِكِهِ بِالتَّفْصِيلِ دُونَ الْإِجْمَالِ، فَقَدِ افْتَقَرَتِ الْأُمَّةُ إِلَى الْعَمَلِ وسئمت الْأَقْوَال.
فَجُمْلَةُ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ فَاسْتَفْتِهِمْ. وَضَمِيرُ لِرَبِّكَ مُخَاطَبٌ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ حِكَايَةٌ لِلِاسْتِفْتَاءِ بِالْمَعْنَى لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَفْتَاهُمْ يَقُولُ: أَلِرَبِّكُمُ الْبَنَاتُ، وَكَذَلِكَ ضَمِيرُ وَلَهُمُ مَحْكِيٌّ بِالْمَعْنَى لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقُولُ لَهُمْ: وَلَكُمُ الْبَنُونَ. وَهَذَا التَّصَرُّفُ يَقَعُ فِي حِكَايَةِ الْقَوْلِ وَنَحْوِهُ مِمَّا فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ مثل الاستفتاء.
[١٥٠]
[سُورَة الصافات (٣٧) : آيَة ١٥٠]
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠)
أَمْ مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنَى (بَلْ) وَهِيَ لَا يُفَارِقُهَا مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، فَالْكَلَامُ بَعْدَهَا مُقَدَّرٌ
بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، أَيْ بَلْ أَخَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا. وَضَمِيرُ خَلَقْنَا الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ وَهُوَ إِذَا اسْتَفْتَاهُمْ يَقُولُ لَهُمْ: أَمْ خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ وَتَعْجِيبِيٌّ مِنْ جُرْأَتِهِمْ وَقَوْلِهِمْ بِلَا عِلْمٍ.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ شاهِدُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَهِيَ قَيْدٌ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ كَانُوا حَاضِرِينَ حِينَ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ فَشَهِدُوا أُنُوثَةَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ هَذَا لَا يَثْبُتُ لِأَمْثَالِهِمْ إِلَّا بِالْمُشَاهَدَةِ إِذْ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِعِلْمِ ذَلِكَ إِلَّا الْمُشَاهَدَةُ. وَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِالْخَبَرِ الْقَاطِعِ فَذَلِكَ مَا سَيَنْفِيهِ بِقَوْلِهِ: أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ [الصافات: ١٥٦]، وَذَلِكَ لِأَنَّ أُنُوثَةَ الْمَلَائِكَةِ لَيْسَتْ مِنَ الْمُسْتَحِيلِ وَلَكِنَّهُ قَوْلٌ بِلَا دَلِيلٍ.
وَضَمِيرُ: وَهُمْ شاهِدُونَ مَحْكِيٌّ بِالْمَعْنَى فِي الِاسْتِفْتَاءِ. وَالْأَصْلُ: وَأَنْتُمْ شَاهِدُونَ، كَمَا تقدم آنِفا.
[١٥١- ١٥٢]
[سُورَة الصافات (٣٧) : الْآيَات ١٥١ إِلَى ١٥٢]
أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢)
ارْتِقَاءٌ فِي تَجْهِيلِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ الْمُسْتَحِيلَ فَضْلًا عَلَى الْقَوْلِ بِلَا دَلِيلٍ فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ إِفْكًا. وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمَلِ الِاسْتِفْتَاءِ.
قَوْلُهُ الْآتِي، ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ
نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً
[غَافِر: ٧٣، ٧٤]، فَجَعَلَ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا نَقِيضَ مَا قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ، وَتَشْمَلُ الْمُجَادَلَةُ فِي وُقُوعِ الْبَعْثِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذِهِ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ إِلَى قَوْلِهِ: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ [غَافِر: ٦٩- ٧١] الْآيَةَ، أَعْقَبَ ذِكْرَ الْمُجَادَلَةِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غَافِر: ٥٧] وَذَلِكَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ الْآيَةَ تَحْذِيرًا مِنَ الْإِشْرَاكِ بِهِ، وَأَيْضًا لَمَّا ذُكِرَ أَمْرُ اللَّهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُعَاءِ اللَّهِ وَحْدَهُ أَمْرًا مُفَرَّعًا عَلَى تَوْبِيخِ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ:
ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ [غَافِر: ١٢] وَعَلَى قَوْلِهِ عَقِبَ ذَلِكَ: وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ [غَافِر: ١٣] وَانْتَقَلَ الْكَلَامُ إِثْرَ ذَلِكَ إِلَى الأهمّ وَهُوَ الْأَمر بإنذار الْمُشْركين بقوله: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ [غَافِر: ١٨] إِلَخْ، وَتَتَابَعَتِ الْأَغْرَاضُ حَتَّى اسْتَوْفَتْ مُقْتَضَاهَا، عَادَ الْكَلَامُ الْآنَ إِلَى مَا يَشْمَلُ عِبَادَةَ الْمُؤْمِنِينَ الْخَالِصَةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَيْضًا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غَافِر: ٥٠]. فَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الدُّعَاءِ بِمَعْنَيَيْهِ: مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَمَعْنَى سُؤَالِ الْمَطْلُوبِ، أَرْدَفَ بِهَذَا الْأَمْرِ الْجَامِعِ لِكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ.
وَالْقَوْلُ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِفِعْلِ: قالَ رَبُّكُمُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ النَّفْسِيُّ، أَيْ مَا تَعَلَّقَتْ إِرَادَةُ اللَّهِ تَعَلُّقًا صَلَاحِيًّا، بِأَنْ يَقُولَهُ عِنْدَ إِرَادَةِ تَكْوِينِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْقَوْلُ اللَّفْظِيُّ وَيَكُونَ التَّعْبِيرُ بِ (قَالَ) الْمَاضِي إِخْبَارًا عَنْ أَقْوَالٍ مَضَتْ فِي آيَاتٍ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غَافِر: ١٤] بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [الْبَقَرَة: ١٨٦] فَإِنَّهُ نَزَلَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَاضِي مُسْتَعْمَلًا فِي الْحَالِ مَجَازًا، أَيْ يَقُولُ رَبُّكُمُ: ادْعُونِي.
وَالدُّعَاءُ يُطْلَقُ بِمَعْنَى النِّدَاءِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلِاعْتِرَافِ بِالْمُنَادَى، وَيُطْلَقُ عَلَى الطَّلَبِ وَقَدْ جَاءَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِيهِ صَلَاحِيَةُ مَعْنَى الدُّعَاءِ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا يُلَائِمُ الْمَعْنَيَيْنِ
فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» ثُمَّ قَرَأَ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، فَإِنَّ
قَوْلَهُ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»
يَقْتَضِي اتِّحَادَ الْحَقِيقَتَيْنِ
فِي قَوْلِهِ: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ [الزخرف: ١٦]. وَالتَّقْدِيرُ: أَاتَّخَذَ مَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ إِلَخْ.
وَلَكَ أَنْ تجْعَل مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ بَناتٍ بَدَلًا مُطَابِقًا وَأُبْرِزَ الْعَامِلُ فِي الْبَدَلِ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ لَا سِيَّمَا وَهُوَ قَدْ حُذِفَ مِنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ. وَإِذْ كَانَ الْإِنْكَارُ إِنَّمَا يَتَسَلَّطُ عَلَى حُكْمِ الْخَبَرِ كَانَ مُوجِبُ الْإِنْكَارِ الثَّانِي مُغَايِرًا لِمُوجِبِ الْإِنْكَارِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ الْمَوْصُوف بِمَا لوصفين اللَّذَيْنِ تَعَلَّقَ بِهِمَا الْإِنْكَارُ مَوْصُوفًا وَاحِدًا وَهُوَ الْأُنْثَى.
وَنَشْءُ الشَّيْءِ فِي حَالَةٍ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ وَجُودِهِ مُقَارِنًا لِتِلْكَ الْحَالَةِ فَتَكُونَ لِلشَّيْءِ بِمَنْزِلَةِ الظَّرْفِ. وَلِذَلِكَ اجْتُلِبَ حَرْفُ فِي الدَّالَّةِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَإِنَّمَا هِيَ مُسْتَعَارَةٌ لِمَعْنَى الْمُصَاحَبَةِ وَالْمُلَابَسَةِ فَمَعْنَى مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ مَنْ تُجْعَلُ لَهُ الْحِلْيَةُ مَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ كَوْنِهِ وَلَا تُفَارِقُهُ، فَإِنَّ الْبِنْتَ تُتَّخَذُ لَهَا الْحِلْيَةُ مِنْ أَوَّلِ عُمُرِهَا وَتُسْتَصْحَبُ فِي سَائِرِ أَطْوَارِهَا، وَحَسْبُكَ أَنَّهَا شُقَّتْ طَرَفَا أُذُنَيْهَا لِتُجْعَلَ لَهَا فِيهِمَا الْأَقْرَاطُ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ فَلَا يُحَلَّى بِمِثْلِ ذَلِكَ وَمَا يُسْتَدَامُ لَهُ. وَالنَّشْءُ فِي الْحِلْيَةِ كِنَايَةٌ عَنِ الضَّعْفِ عَنْ مُزَاوَلَةِ الصِّعَابِ بِحَسَبِ الْمُلَازَمَةِ الْعُرْفِيَّةِ فِيهِ. وَالْمَعْنَى: أَنْ لَا فَائِدَةَ فِي اتِّخَاذِ اللَّهِ بَنَاتٍ لَا غَنَاءَ لَهُنَّ فَلَا يَحْصُلُ لَهُ بِاتِّخَاذِهَا زِيَادَةُ عِزَّةٍ، بِنَاءً عَلَى مُتَعَارَفِهِمْ، فَهَذَا احْتِجَاجٌ إِقْنَاعِيٌّ خِطَابِيٌّ.
والْخِصامِ ظَاهِرُهُ: الْمُجَادَلَةُ وَالْمُنَازَعَةُ بِالْكَلَامِ وَالْمُحَاجَّةِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَبْلُغُ الْمَقْدِرَةَ عَلَى إِبَانَةِ حُجَّتِهَا. وَعَنْ قَتَادَةَ: مَا تَكَلَّمَتِ امْرَأَةٌ وَلَهَا حُجَّةٌ إِلَّا
جَعَلَتْهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَعنهُ: مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ هُنَّ الْجَوَارِي يُسَفِّهُهُنَّ بِذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ دَرَجَ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ.
وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: أَنَّهُنَّ غَيْرُ قَوَادِرَ عَلَى الِانْتِصَار بالْقَوْل فبلأولى لَا يَقْدِرْنَ عَلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ فِي الْحَرْبِ، أَيْ فَلَا جَدْوَى لِاتِّخَاذِهِنَّ أَوْلَادًا.
وَيَجُوزُ عِنْدِي: أَنْ يُحْمَلَ الْخِصَامُ عَلَى التَّقَاتُلِ وَالدِّفَاعِ بِالْيَدِ فَإِنَّ الْخَصْمَ يُطْلَقُ عَلَى الْمُحَارِبِ، قَالَ تَعَالَى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الْحَج: ١٩] فُسِّرَ بِأَنَّهُمْ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ نَفَرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَقَاتَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ.
فَعُلِمَ أَنَّ الْآيَةَ أَشَارَتْ إِلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْمَغَانِمِ: نَوْعٌ مِنْ مَغَانِمَ مَوْعُودَةٍ لَهُمْ قَرِيبَةِ الْحُصُولِ وَهِيَ مَغَانِمُ خَيْبَرَ، وَنَوْعٌ هُوَ مَغَانِمُ مَرْجُوَّةٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَقْتُ حُصُولِهَا، وَمِنْهَا مَغَانِمُ يَوْمِ حُنَيْنٍ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْغَزَوَاتِ، وَنَوْعٌ هُوَ مَغَانِمُ عَظِيمَةٌ لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ نُوَالُهَا قَدْ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَعَلَّهَا مَغَانِمُ بِلَادِ الرُّومِ وَبِلَادِ الْفُرْسِ وَبِلَادِ الْبَرْبَرِ. وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَذَا النَّوْعَ الْأَخِيرَ لَا يَنَالُهُ جَمِيعُ الْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي ذِكْرِهِ بِضَمِيرِهِمْ، وَهُوَ
الَّذِي تَأَوَّلَهُ عُمَرُ فِي عَدَمِ قِسْمَةِ سَوَادِ الْعِرَاقِ وَقَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ [الْحَشْر: ١٠].
[٢٢، ٢٣]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : الْآيَات ٢٢ إِلَى ٢٣]
وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (٢٣)
هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ [الْفَتْح: ٢٠] عَلَى أَنَّ بَعْضَهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَبَعْضَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَمَا بَيْنَهُمَا لَيْسَ مِنْ الِاعْتِرَاضِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْعَطْفِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ كَفَّ أَيْدِي النَّاسِ عَنْهُمْ نِعْمَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِاسْتِبْقَاءِ قُوَّتِهِمْ وَعِدَّتِهِمْ وَنَشَاطِهِمْ. وَلَيْسَ الْكَفُّ لِدَفْعِ غَلَبَةِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لِلْمُسْلِمِينَ عَاقِبَةَ النَّصْرِ فَلَوْ قَاتَلَهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَجِدُوا نَصِيرًا، أَيْ لَمْ يَنْتَصِرُوا بِجَمْعِهِمْ وَلَا بِمَنْ يُعِينُهُمْ.
وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا مَا أُرِيدَ بِالنَّاسِ فِي قَوْلِهِ: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الْإِتْيَانَ بِضَمِيرِ النَّاسِ بِأَنْ يُقَالَ: وَلَوْ قَاتَلُوكُمْ، فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ أَنَّ الْكُفْرَ هُوَ سَبَبُ تَوْلِيَةِ الْأَدْبَارِ فِي قِتَالِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ.
وَحَاصِلُ نَظْمِ الْكَلَامِ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى: أَنَّهُ حَصَلَ فِعْلٌ فَكَانَ حُصُولُهُ عَلَى صِفَةٍ خَاصَّةٍ أَوْ طَرِيقَةٍ خَاصَّةٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ كَذَّبَتْ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى: إِنَّهُمُ اعْتَقَدُوا كذبه، فتفريع فَكَذَّبُوا عَبْدَنا عَلَيْهِ تَفْرِيعُ تَصْرِيحِهِمْ بِتَكْذِيبِهِ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ كَذِبَهُ. فَيكون فعل فَكَذَّبُوا مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنًى غَيْرِ الَّذِي اسْتُعْمِلَ فِيهِ فِعْلُ كَذَّبَتْ، وَالتَّفْرِيعُ ظَاهِرٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.
وَهَذَا الْوَجْهُ يَتَأَتَّى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فِي سُورَةِ سَبَأٍ [٤٥].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ إِخْبَارًا عَنْ تَكْذِيبِهِمْ بِتَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ حِينَ تَلَقَّوْهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ نُوحٍ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ رَسُولٌ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ ظَاهِرًا.
وازْدُجِرَ مَعْطُوفٌ عَلَى قالُوا وَهُوَ افْتَعَلَ مِنَ الزَّجْرِ. وَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُهَا: افْتَقَرَ وَاضْطُرَّ.
وَنُكْتَةُ بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَجْهُولِ هُنَا التَّوَصُّلُ إِلَى حَذْفِ مَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ فِعْلُ الِازْدِجَارِ الْمَبْنِيُّ لِلْفَاعِلِ وَهُوَ ضَمِيرُ قَوْمُ نُوحٍ، فَعَدَلَ على أَنْ يُقَالَ: وَازْدَجَرُوهُ، إِلَى قَوْلِهِ: وَازْدُجِرَ مُحَاشَاةً لِلدَّالِّ عَلَى ذَاتِ نُوحٍ وَهُوَ ضَمِيرٌ مِنْ أَنْ يَقَعَ مَفْعُولًا لِضَمِيرِهِمْ. وَمُرَادُهُمْ أَنَّهُمُ ازْدَجَرُوهُ، أَيْ نَهَوْهُ عَنِ ادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ بِغِلْظَةٍ قَالَ تَعَالَى: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ [الْأَعْرَاف: ٦٦] وَقَالَ: قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشُّعَرَاء: ١١٦] وَقَالَ: وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ [هود: ٣٨].
يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ تَغَيَّرَ بَعْضُ أَحْكَامِهَا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ فِي أَحْوَالٍ قَلِيلَةٍ.
وَالتَّبْشِيرُ: الْإِخْبَارُ بِحَادِثٍ يَسُرُّ، وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْإِخْبَارِ بِأَمْرٍ عَظِيمِ النَّفْعِ لَهُمْ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ السُّرُورُ الْحَقُّ فَإِنَّ مَجِيءَ الرَّسُولِ إِلَى النَّاسِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ.
وَوَجْهُ إِيثَارِ هَذَا اللَّفْظِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا وَقَعَ فِي الْإِنْجِيلِ مِنْ وَصْفِ رِسَالَةِ الرَّسُولِ
الْمَوْعُودِ بِهِ بِأَنَّهَا بِشَارَةُ الْمَلَكُوتِ (١).
وَإِنَّمَا أَخْبَرَهُمْ بِمَجِيءِ رَسُولٍ مِنْ بَعْدِهِ لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَزَالُوا يَنْتَظِرُونَ مَجِيءَ رَسُولٍ مِنَ اللَّهِ يُخَلِّصُهُمْ مِنْ بَرَاثِنِ الْمُتَسَلِّطِينَ عَلَيْهِمْ وَهَذَا الِانْتِظَارُ دَيْدَنُهُمْ، وَهُمْ مَوْعُودُونَ لِهَذَا الْمُخَلِّصِ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ أَنْبِيَائِهِمْ بَعْدَ مُوسَى. فَكَانَ وَعْدُ عِيسَى بِهِ كَوَعْدِ مَنْ سَبَقَهُ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ، وَفَاتَحَهُمْ بِهِ فِي أَوَّلِ الدَّعْوَةِ اعْتِنَاءً بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ.
وَفِي الِابْتِدَاءِ بِهَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنْ لَيْسَ عِيسَى هُوَ الْمُخَلِّصُ الْمُنْتَظَرُ وَأَنَّ الْمُنْتَظَرَ رَسُولٌ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلِعَظْمِ شَأْنِ هَذَا الرَّسُولِ الْمَوْعُودِ بِهِ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُقِيمَ لِلْأُمَمِ الَّتِي يَظْهَرُ فِيهَا عَلَامَاتٌ وَدَلَائِلُ لِيَتَبَيَّنُوا بِهَا شَخْصَهُ فَيَكُونُ انْطِبَاقُهَا فَاتِحَةً لِإِقْبَالِهِمْ عَلَى تَلَقِّي دَعْوَتِهِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُهَا حَقَّ مَعْرِفَتِهَا الرَّاسِخُونَ فِي الدِّينِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَرْجِعُ إِلَيْهِمُ الدَّهْمَاءُ مِنْ أَهْلِ مَلَّتِهِمْ قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ١٤٦]. وَقَالَ: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرَّعْد: ٤٣].
وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ بَعْضَ صِفَاتِ هَذَا الرَّسُولِ لِمُوسِى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِجَابَتِهِ دُعَاءَ مُوسَى وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ إِلَى قَوْلِهِ:
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الْأَعْرَاف: ١٥٧].
_________
(١) فِي «الإصحاح الرَّابِع وَالْعِشْرين» من «إنجيل متّى» فقرة ١١ ويكرز بِبِشَارَة الملكوت هَذِه فِي كل المسكونة.
وَ (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) مُتَعَلق بمسبوقين، أَيْ مَا نَحْنُ بِعَاجِزِينَ عَلَى ذَلِكَ التَّبْدِيلِ بِأَمْثَالِكُمْ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [٦١] إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ.
[٤٢- ٤٤]
[سُورَة المعارج (٧٠) : الْآيَات ٤٢ إِلَى ٤٤]
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤)
تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تضمنه قَوْله: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ [المعارج: ٣٦] مِنْ إِرَادَتِهِمْ بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ وَقَوْلِهِمْ: إِنَّنَا نَدْخُلُ الْجَنَّةَ، الِاسْتِهْزَاءَ بِالْقُرْآنِ وَالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبَعْدَ إِبْطَالِهِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا فُرِّعَ عَنْ ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ رَسُولَهُ بِتَرْكِهِمْ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُجْدِ فِيهِمُ الْهَدْيُ وَالِاسْتِدْلَالُ وَأَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى الْعِنَادِ وَالْمُنَاوَاةِ.
وَمَعْنَى الْأَمْرِ بِالتَّرْكِ فِي قَوْلِهِ: فَذَرْهُمْ أَنَّهُ أَمْرٌ بِتَرْكِ مَا أَهَمَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنَادِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ مَعَ وُضُوحِ الْحُجَجِ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَلَمَّا كَانَ أَكْبَرُ أَسْبَابِ إِعْرَاضِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ هُوَ خَوْضَهُمْ وَلَعِبَهُمْ كُنِّيَ بِهِ عَنِ الْإِعْرَاضِ بِقَوْلِهِ:
يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا.
فَجُمْلَةُ يَخُوضُوا وَجُمْلَةُ وَيَلْعَبُوا حَالَانِ مِنَ الضَّمِيرِ الظَّاهِرِ فِي قَوْلِهِ:
فَذَرْهُمْ. وَتِلْكَ الْحَالُ قَيْدٌ لِلْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَذَرْهُمْ. وَالتَّقْدِيرُ: فَذَرْ خَوْضَهُمْ وَلَعِبَهُمْ وَلَا تَحْزَنْ لِعِنَادِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ.
وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ (ذَر) إِلَى ضميرهم مِنْ قَبِيلِ تَوَجُّهِ الْفِعْلِ إِلَى الذَّاتِ. وَالْمُرَادُ تُوَجُّهِهِ إِلَى بَعْضِ أَحْوَالِهَا الَّتِي لَهَا اخْتِصَاصٌ بِذَلِكَ الْفِعْلِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: ٣] أَيْ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ أَكْلُهَا، وَقَوْلِهِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ [النِّسَاء: ٢٣] أَيْ أَنْ تَجْمَعُوهُمَا مَعًا فِي عِصْمَةِ نِكَاحٍ وَالِاعْتِمَادُ فِي هَذَا عَلَى قَرِينَةِ السِّيَاقِ كَمَا فِي الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ فِي سُورَةِ الطُّورِ [٤٥]، أَوْ عَلَى ذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى حَالَةٍ خَاصَّةٍ مِثْلَ قَوْلِهِ: يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا فِي هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَدْ يَكُونُ الْمُقَدَّرُ مُخْتَلِفًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَمِنَ الضَّبْطِ فِيمَا يَجْرِي عَلَى يَدَيْهِ بِحَيْثُ لَا تَضِيعُ الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ وَلَا الْخَاصَّةُ بِأَنْ يَكُونَ مَا يُصْدِرُهُ مَكْتُوبًا، أَوْ كَالْمَكْتُوبِ مَضْبُوطًا لَا يُسْتَطَاعُ تَغْيِيرُهُ، وَيُمْكِنُ لِكُلِّ مَنْ يَقُومُ بِذَلِكَ الْعَمَلِ بَعْدَ الْقَائِمِ بِهِ، أَوْ فِي مَغِيبِهِ أَنْ يُعْرَفَ مَاذَا أُجْرِي فِيهِ مِنَ الْإِعْمَالِ، وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي وَضْعِ الْمَلَفَّاتِ لِلنَّوَازِلِ وَالتَّرَاتِيبِ، وَمِنْهُ نَشَأَتْ دَوَاوِينُ الْقُضَاةِ، وَدَفَاتِرُ الشُّهُودِ، وَالْخِطَابُ عَلَى الرُّسُومِ، وَإِخْرَاجُ نُسَخِ الْأَحْكَامِ وَالْأَحْبَاسِ وَعُقُودِ النِّكَاحِ.
وَمِنْ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْوَالِ الَّتِي تُسْنَدُ إِلَى الْمُؤْتَمَنِ عَلَيْهَا بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ
أحد من المخالطين لوظيفه أَنْ يُمَوِّهَ عَلَيْهِ شَيْئًا، أَوْ أَنْ يَلْبِسَ عَلَيْهِ حَقِيقَةً بِحَيْثُ يَنْتَفِي عَنْهُ الْغَلَطُ وَالْخَطَأُ فِي تَمْيِيزِ الْأُمُورِ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ، وَيَخْتَلِفُ الْعِلْمُ الْمَطْلُوبُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْمَالِ فَيُقَدَّمُ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تَقْتَضِيهِ وِلَايَتُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَمَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوَاهِبِ وَالدِّرَايَةِ، فَلَيْسَ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَاضِي يُشْتَرَطُ فِي أَمِيرِ الْجَيْشِ مَثَلًا، وَبِمِقْدَارِ التَّفَاوُتِ فِي الْخِصَالِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا إِحْدَى الْوَلَايَاتِ يَكُونُ تَرْجِيحُ مَنْ تُسْنَدُ إِلَيْهِ الْوَلَايَةُ عَلَى غَيْرِهِ حِرْصًا عَلَى حِفْظِ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ، فَيُقَدَّمُ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ مَنْ هُوَ أَقْوَى كَفَاءَةً لِإِتْقَانِ أَعْمَالِهَا وَأَشَدُّ اضطلاعا بممارستها.
[١٣- ١٦]
[سُورَة الانفطار (٨٢) : الْآيَات ١٣ إِلَى ١٦]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦)
فُصِلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّهَا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ يَخْطُرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ يُثِيرُهُ قَوْلُهُ: بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ [الانفطار: ٩، ١٠] الْآيَةَ لِتَشَوُّفِ النَّفْسِ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذَا الْجَزَاءِ مَا هُوَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ غَايَةِ إِقَامَةِ الْمَلَائِكَةِ لِإِحْصَاءِ الْأَعْمَالِ مَا هِيَ، فَبُيِّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ الْآيَةَ.
وَأَيْضًا تَتَضَمَّنُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَقْسِيمَ أَصْحَابِ الْأَعْمَالِ فَهِيَ تَفْصِيلٌ لِجُمْلَةِ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: ١٢] وَذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ فَصْلِ الْجُمْلَةِ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَجِيءَ بِالْكَلَامِ مُؤَكَّدًا ب إِنَّ وَلَا الِابْتِدَاءِ لِيُسَاوِيَ الْبَيَانُ مَبِيِّنَهُ فِي التَّحْقِيقِ وَدَفْعِ الْإِنْكَارِ.