وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ أَهَمِّ الْمَبَاحِثِ الْبَحْثَ عَنْ سِرِّ الْعِبَادَةِ وَتَأْثِيرِهَا وَسِرِّ مَشْرُوعِيَّتِهَا لَنَا وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ لِيَكُونَ مَظْهَرًا لِكَمَالِ صِفَاتِهِ تَعَالَى: الْوُجُودُ، وَالْعِلْمُ، وَالْقُدْرَةُ. وَجَعَلَ قَبُولَ الْإِنْسَانِ لِلْكَمَالَاتِ الَّتِي بِمِقْيَاسِهَا يَعْلَمُ نِسْبَةَ مَبْلَغِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ، وَأَوْدَعَ فِيهِ الرُّوحَ وَالْعَقْلَ اللَّذَيْنِ بِهِمَا يَزْدَادُ التَّدَرُّجُ فِي الْكَمَالِ لِيَكُونَ غَيْرَ قَانِعٍ بِمَا بَلَغَهُ مِنَ الْمَرَاتِبِ فِي أَوْجِ الْكَمَالِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَأَرْشَدَهُ وَهَدَاهُ إِلَى مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَرَامِهِ لِيَحْصُلَ لَهُ بِالِارْتِقَاءِ الْعَاجِلِ رُقِيٌّ آجِلٌ لَا يَضْمَحِلُّ، وَجَعَلَ اسْتِعْدَادَهُ لِقَبُولِ الْخَيْرَاتِ كُلِّهَا عَاجِلِهَا وَآجِلِهَا مُتَوَقِّفًا عَلَى التَّلْقِينِ مِنَ السَّفَرَةِ الْمُوحَى إِلَيْهِمْ بِأُصُولِ الْفَضَائِلِ. وَلَمَّا تَوَقَّفَ ذَلِكَ عَلَى مُرَاقَبَةِ النَّفْسِ فِي نَفَرَاتِهَا وَشَرَدَاتِهَا وَكَانَتْ تِلْكَ الْمُرَاقَبَةُ تَحْتَاجُ إِلَى تَذَكُّرِ الْمُجَازِي بِالْخَيْرِ وَضِدِّهِ، شُرِعَتِ الْعِبَادَةُ لِتَذَكُّرِ ذَلِكَ الْمُجَازِيِّ لِأَنَّ عَدَمَ حُضُورِ ذَاتِهِ وَاحْتِجَابِهِ بِسُبُحَاتِ الْجَلَالِ يُسَرِّبُ نِسْيَانَهُ إِلَى النُّفُوسِ، كَمَا أَنَّهُ جَعَلَ نِظَامَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ مُتَّصِلَ الِارْتِبَاطِ بَيْنَ أَفْرَادِهِ فَأَمَرَهُمْ بِلُزُومِ آدَابِ الْمُعَاشَرَةِ وَالْمُعَامَلَةِ لِئَلَّا يَفْسُدَ النِّظَامُ، وَلِمُرَاقَبَةِ الدَّوَامِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا شُرِعَتِ الْعِبَادَةُ لِتُذَكِّرَ بِهِ، عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ التَّذَكُّرِ دَوَامَ الْفِكْرِ فِي الْخَالِقِ وَشُؤُونِهِ وَفِي ذَلِكَ تَخَلُّقٌ بِالْكَمَالَاتِ تَدْرِيجًا فَظَهَرَ أَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ
طَرِيقُ الْكَمَالِ الذَّاتِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ مَبْدَأً وَنِهَايَةً، وَبِهِ يَتَّضِحُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] فَالْعِبَادَةُ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا مُحَقِّقَةً لِلْمَقْصِدِ مِنَ الْخَلْقِ، وَلَمَّا كَانَ سِرُّ الْخَلْقِ وَالْغَايَةُ مِنْهُ خَفِيَّةَ الْإِدْرَاكِ عَرَّفَنَا اللَّهُ تَعَالَى إِيَّاهَا بِمَظْهَرِهَا وَمَا يُحَقِّقُهَا جَمْعًا لِعَظِيمِ الْمَعَانِي فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ جُمْلَةُ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ الَّذِي نَحَوْنَاهُ وَأَقَلُّ مِنْهُ قَوْلُ الشَّيْخِ ابْنِ سِينَا فِي «الْإِشَارَاتِ» :((لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْإِنْسَانُ بِحَيْثُ يَسْتَقِلُّ وَحْدَهُ بِأَمْرِ نَفْسِهِ إِلَّا بِمُشَارَكَةِ آخَرَ مِنْ بَنِي جِنْسِهِ وَبِمُعَاوَضَةٍ وَمُعَارَضَةٍ تَجْرِيَانِ بَيْنَهُمَا يُفْرِغُ كُلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ عَنْ مُهِمٍّ لَوْ تَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ لَازْدَحَمَ عَلَى الْوَاحِدِ كَثِيرٌ وَكَانَ مِمَّا يَتَعَسَّرُ إِنْ أَمْكَنَ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ النَّاسِ مُعَامَلَةٌ وَعَدْلٌ يَحْفَظُهُ شَرْعٌ يَفْرِضُهُ شَارِعٌ مُتَمَيِّزٌ بِاسْتِحْقَاقِ الطَّاعَةِ وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ جَزَاءٌ مِنْ عِنْدِ الْقَدِيرِ الْخَبِيرِ، فَوَجَبَ مَعْرِفَةٌ الْمُجَازِي وَالشَّارِعِ وَأَنْ يكون مَعَ الْمعرفَة سَبَبٍ حَافِظٍ لِلْمَعْرِفَةِ فَفُرِضَتْ عَلَيْهِمُ الْعِبَادَةُ الْمُذَكِّرَةُ لِلْمَعْبُودِ، وَكُرِّرَتْ عَلَيْهِمْ لِيُسْتَحْفَظَ التَّذْكِيرُ بِالتَّكْرِيرِ)) اهـ.
لَا شَكَّ أَنَّ دَاعِيَ الْعِبَادَةِ التَّعْظِيمُ وَالْإِجْلَالُ وَهُوَ إِمَّا عَنْ مَحَبَّةٍ أَوْ عَنْ خَوْفٍ مُجَرَّدٍ،
لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ إِذْ عَلِمَ اللَّهُ مَا ضَيَّقَ بِهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَوْحَى بِهِ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُفْشُوا ذَلِكَ وَلَا أَخْبَرُوا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ وَلِذَلِكَ لَا نَجِدُ فِي رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ وَالنَّسَائِيِّ أَنَّ النَّاسَ ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ إِلَّا فِي حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ صِرْمَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَلَعَلَّهُ مِنْ زِيَادَاتِ الرَّاوِي. فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ شُرِّعَ ثُمَّ نُسِخَ فَلَا أَحْسِبُهُ، إِذْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الدِّينِ الَّذِي شَرَّعَ الصَّوْمَ أَوَّلَ مَرَّةٍ يَوْمًا فِي السَّنَةِ ثُمَّ دَرَّجَهُ فَشَرَّعَ الصَّوْمَ شَهْرًا عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِطْعَامِ تَخْفِيفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفْرِضَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَا يُبِيحُ الْفِطْرَ إِلَّا سَاعَاتٍ قَلِيلَةٍ مِنَ اللَّيْلِ.
وَلَيْلَةُ الصِّيَامِ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَعْقُبُهَا صِيَامُ الْيَوْمِ الْمُوَالِي لَهَا جَرْيًا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ فِي إِضَافَةِ اللَّيْلَةِ لِلْيَوْمِ الْمُوَالِي لَهَا إِلَّا لَيْلَةَ عَرَفَةَ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا اللَّيْلَةُ الَّتِي بَعْدَ يَوْمِ عَرَفَةَ.
وَالرَّفَثُ فِي «الأساس» و «اللِّسَان» أَنَّ حَقِيقَتَهُ الْكَلَامُ مَعَ النِّسَاء فِي شؤون الِالْتِذَاذِ بِهِنَّ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْجِمَاعِ كِنَايَةً، وَقِيلَ هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا وَهُوَ الظَّاهِر، وتعديته بإلى لِيَتَعَيَّنَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْإِفْضَاءُ.
وَقَوْلُ: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ كَالْعِلَّةِ لِمَا قَبْلَهَا أَيْ أُحِلَّ لِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ عَنْ ذَلِكَ، ذَلِكَ أَنَّ الصَّوْمَ لَوْ فُرِضَ عَلَى النَّاسِ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ وَقْتُ الِاضْطِجَاعِ لَكَانَ الْإِمْسَاكُ عَنْ قُرْبَانِ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَنَتًا وَمَشَقَّةً شَدِيدَةً لَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي الْإِمْسَاكِ عَنْ قُرْبَانِهِنَّ فِي النَّهَارِ لِإِمْكَانِ الِاسْتِعَانَةِ عَلَيْهِ فِي النَّهَارِ بِالْبُعْدِ عَنِ الْمَرْأَةِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ اسْتِعَارَةٌ بِجَامِعِ شِدَّةِ الِاتِّصَالِ حِينَئِذٍ وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ أَحْيَاهَا الْقُرْآنُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتِ اعتبرتها فِي قَوْله: لَابَسَ الشَّيْءُ الشَّيْءَ، إِذَا اتَّصَلَ بِهِ لَكِنَّهُمْ صَيَّرُوهَا فِي خُصُوصِ
زِنَةِ الْمُفَاعَلَةِ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فَجَاءَ الْقُرْآنُ فَأَحْيَاهَا وَصَيَّرَهَا اسْتِعَارَةً أَصْلِيَّةً جَدِيدَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ تَبَعِيَّةً مَنْسِيَّةً وَقَرِيبٌ مِنْهَا قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسِلِ
وتَخْتانُونَ قَالَ الرَّاغِبُ: «الِاخْتِيَانُ مُرَاوَدَةُ الْخِيَانَةِ» بِمَعْنَى أَنَّهُ افْتِعَالٌ مِنَ الْخَوْنِ وَأَصْلُهُ تَخْتَوِنُونَ فَصَارَتِ الْوَاوُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، وَخِيَانَةُ الْأَنْفُسِ تَمْثِيلٌ لِتَكْلِيفِهَا مَا لَمْ تُكَلَّفْ بِهِ كأنّ ذَلِك تَعْزِير بِهَا إِذْ يُوهِمُهَا أَنَّ الْمَشَقَّةَ مَشْرُوعَةٌ عَلَيْهَا وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِمُغَالَطَتِهَا فِي التَّرَخُّصِ بِفِعْلِ مَا تَرَوْنَهُ مُحَرَّمًا عَلَيْكُمْ فَتُقْدِمُونَ تَارَةً
وَ (الْمُقَنْطَرَةِ) أُرِيدَ بِهَا هُنَا الْمُضَاعَفَةُ الْمُتَكَاثِرَةُ، لِأَنَّ اشْتِقَاقَ الْوَصْفِ مِنِ اسْمِ الشَّيْءِ الْمَوْصُوفِ، إِذَا اشْتُهِرَ صَاحِبُ الِاسْمِ بِصِفَةٍ، يُؤْذِنُ ذَلِكَ الِاشْتِقَاقُ بِمُبَالَغَةٍ فِي الْحَاصِلِ بِهِ كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ أَلْيَلُ، وَظِلٌّ ظَلِيلٌ، وَدَاهِيَةٌ دَهْيَاءُ، وَشِعْرٌ شَاعِرٌ، وَإِبِلٌ مُؤَبَّلَةٌ، وَآلَافٌ مُؤَلَّفَةٌ.
وَالْخَيْلِ مَحْبُوبَةٌ مَرْغُوبَةٌ، فِي الْعُصُورِ الْمَاضِيَةِ وَفِيمَا بَعْدَهَا، لَمْ يُنْسِهَا مَا تَفَنَّنَ فِيهِ الْبَشَرُ مِنْ صُنُوفِ الْمَرَاكِبِ بَرًّا وَبَحْرًا وَجَوًّا، فَالْأُمَمُ الْمُتَحَضِّرَةُ الْيَوْمَ مَعَ مَا لديم مِنِ الْقِطَارَاتِ الَّتِي تَجْرِي بِالْبُخَارِ وَبِالْكَهْرَبَاءِ عَلَى السِّكَكِ الْحَدِيدِيَّةِ، وَمِنْ سَفَائِنِ الْبَحْرِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تُسَيِّرُهَا آلَاتُ الْبُخَارِ، وَمِنَ السَّيَّارَاتِ الصَّغِيرَةِ الْمُسَيَّرَةِ بِاللَّوَالِبِ تُحَرِّكُهَا حَرَارَةُ النِّفْطِ الْمُصَفَّى، وَمِنَ الطِّيَارَاتِ فِي الْهَوَاءِ مِمَّا لَمْ يَبْلُغْ إِلَيْهِ الْبَشَرُ فِي عَصْرٍ مَضَى، كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يُغْنِ النَّاسَ عَنْ رُكُوبِ ظُهُورِ الْخَيْلِ، وَجَرِّ الْعَرَبَاتِ بِمُطَهَّمَاتِ الْأَفْرَاسِ، وَالْعِنَايَةِ بِالْمُسَابَقَةِ بَيْنَ الْأَفْرَاسِ.
وَذَكَرَ الْخَيْلَ لِتَوَاطُؤِ نُفُوسِ أَهْلِ الْبَذَخِ عَلَى مَحَبَّةِ رُكُوبِهَا، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
كَأَنِّي لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا لِلَذَّةٍ والْمُسَوَّمَةِ الْأَظْهَرُ فِيهِ مَا قِيلَ: إنّه الراعية، فو مُشْتَقٌّ مِنَ السَّوْمِ وَهُوَ الرَّعْيُ، يُقَالُ: أَسَامَ الْمَاشِيَةَ إِذَا رَعَى بِهَا فِي الْمَرْعَى، فَتَكُونُ مَادَّةُ فَعَّلَ لِلتَّكْثِيرِ أَيِ الَّتِي تُتْرَكُ فِي الْمَرَاعِي مُدَدًا طَوِيلَةً وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِسَعَةِ أَصْحَابِهَا وَكَثْرَةِ مَرَاعِيهِمْ، فَتَكُونُ خَيْلُهُمْ مُكَرَّمَةً فِي الْمُرُوجِ وَالرِّيَاضِ
وَفِي الْحَدِيثِ فِي ذِكْرِ الْخَيْلِ «فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ».
وَقِيلَ: الْمُسَوَّمَةُ مِنَ السُّومَةِ- بِضَمِّ السِّينِ- وَهِيَ السِّمَةُ أَيِ الْعَلَامَةُ مِنْ صُوفٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُونَ لَهَا ذَلِكَ تَنْوِيهًا بِكَرَمِهَا وَحُسْنِ بَلَائِهَا فِي الْحَرْبِ، قَالَ العتّابي:

وَلَوْلَا هنّ قَدْ سَوَّمْتُ مهري وَفِي الرحمان لِلضُّعَفَاءِ كَافِ
يُرِيدُ جَعَلْتُ لَهُ سُومَةَ أَفْرَاسِ الْجِهَادِ أَيْ عَلَامَتَهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ اشْتِقَاقُ السِّمَةِ وَالسُّومَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٧٣].
والْأَنْعامِ زِينَةٌ لِأَهْلِ الْوَبَرِ قَالَ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النَّحْل: ٦]. وَفِيهَا مَنَافِعُ عَظِيمَةٌ أَشَارَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ
ضَمِيرِ الْفَصْلِ عَلَيْهِ، فَعَلَى قِرَاءَةِ الْفَوْقِيَّةِ فَالْمَحْذُوفُ مُضَافٌ حَلَّ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَحَلَّهُ، أَيْ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ خَيْرًا وَعَلَى قِرَاءَةِ التَّحْتِيَّةِ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بُخْلَهُمْ خَيْرًا.
وَالْبُخْلُ- بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْخَاءِ- وَيُقَالُ: بَخَلٌ بِفَتْحِهِمَا، وَفِعْلُهُ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ مَضْمُومُ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ. وَبَقِيَّةُ الْعَرَبِ تَجْعَلُهُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَفَتْحِهَا فِي الْمُضَارِعِ، وَبِلُغَةِ غَيْرِ أَهْلِ الْحِجَازِ جَاءَ الْقُرْآنُ لِخِفَّةِ الْكَسْرَةِ وَالْفَتْحَةِ وَلِذَا لَمْ يُقْرَأْ إِلَّا بِهَا. وَهُوَ ضِدُّ الْجُودِ، فَهُوَ الانقباض عَن إِعْطَاءِ الْمَالِ بِدُونِ عِوَضٍ، هَذَا حَقِيقَتُهُ، وَلَا يُطْلَقُ عَلَى مَنْعِ صَاحِبِ شَيْءٍ غَيْرُ مَالٍ أَنْ يَنْتَفِعَ غَيْرُهُ بِشَيْئِهِ بِدُونِ مَضَرَّةٍ عَلَيْهِ إِلَّا مَجَازًا، وَقَدْ
وَرَدَ فِي أَثَرٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَخِيلُ الَّذِي أُذْكَرُ عِنْدَهُ فَلَا يُصَلِّي عَلَيَّ»
وَيَقُولُونَ:
بَخِلَتِ الْعَيْنُ بِالدُّمُوعِ، وَيُرَادِفُ الْبُخْلَ الشُّحُّ، كَمَا يُرَادِفُ الْجُودَ السَّخَاءُ وَالسَّمَاحُ.
وَقَوْلُهُ: بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ تَأْكِيدٌ لِنَفْيِ كَوْنِهِ خَيْرًا، كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
«وَتَعْطُو برخص غير ششن» وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، عَلَى أَنَّ فِي هَذَا الْمُقَامِ إِفَادَةَ نَفْيِ تَوَهُّمِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
وَجُمْلَةُ سَيُطَوَّقُونَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْعِلَّةِ لِقَوْلِهِ: بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ.
وَيُطَوَّقُونَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الطَّاقَةِ، وَهِيَ تَحَمُّلُ مَا فَوْقَ الْقُدْرَةِ أَيْ سَيَحْمِلُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ، أَيْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وِزْرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الطَّوْقِ، وَهُوَ مَا يُلْبَسُ تَحْتَ الرَّقَبَةِ فَوْقَ الصَّدْرِ، أَيْ تُجْعَلُ أَمْوَالُهُمْ أَطْوَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُعَذَّبُونَ بِحَمْلِهَا، وَهَذَا
كَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اغْتَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
. وَالْعَرَبُ يَقُولُونَ فِي أَمْثَالِهِمْ تَقَلَّدَهَا (أَيِ الْفِعْلَةَ الذَّمِيمَةَ) طَوْقَ الْحَمَامَةِ. وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُشَهَّرُونَ بِهَذِهِ الْمَذَمَّةِ بَيْنَ أَهْلِ الْمَحْشَرِ، وَيَلْزَمُونَ عِقَابَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تَذْيِيلٌ لِمَوْعِظَةِ الْبَاخِلِينَ وَغَيْرِهِمْ: بِأَنَّ الْمَالَ مَالُ اللَّهِ، وَمَا مِنْ
بَخِيلٍ إِلَّا سَيَذْهَبُ وَيَتْرُكُ مَالَهُ، وَالْمُتَصَرِّفُ
وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهَا الْهِجْرَةُ إِلَى الْحَبَشَةِ قَالُوا: إِنَّ الْمَعْنِيَّ بِمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ خَالِدُ بْنُ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيُّ ابْنُ أَخِي خَدِيجَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، خَرَجَ مُهَاجِرًا إِلَى الْحَبَشَةِ فَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ فِي الطَّرِيقِ فَمَاتَ. وَسِيَاقُ الشَّرْطِ يَأْبَى هَذَا التَّفْسِير.
[١٠١، ١٠٢]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٠١ إِلَى ١٠٢]
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢)
انْتِقَالٌ إِلَى تَشْرِيعٍ آخَرَ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ السَّفَرِ لِلْخُرُوجِ مِنْ سُلْطَةِ الْكُفْرِ، عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَفْنِينِ أَغْرَاضِهِ، وَالْتِمَاسِ مُنَاسَبَاتِهَا. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَالضَّرْبُ
فِي الْأَرْضِ: السَّفَرُ.
(وَإِذَا) مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى الشَّرْطِ كَمَا هُوَ غَالِبُ اسْتِعْمَالِهَا، فَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الْفَاءُ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ كَجَوَابِ الشَّرْطِ. (وَإِذَا) مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلِ الْجَوَابِ.
وَقَصْرُ الصَّلَاةِ: النَّقْصُ مِنْهَا، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ أَجْزَاءَ الصَّلَاةِ هِيَ الرَّكَعَاتُ بِسَجَدَاتِهَا وَقِرَاءَاتِهَا، فَلَا جَرَمَ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْقَصْرَ مِنَ الصَّلَاةِ هُوَ نَقْصُ الرَّكَعَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ فِعْلُ
الرَّسُولُ الْعُرَنِيِّينَ كَانَ عِقَابًا عَلَى مُحَارَبَةٍ خَاصَّةٍ هِيَ مِنْ صَرِيحِ الْبُغْضِ لِلْإِسْلَامِ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ شَرَعَ حُكْمًا لِلْمُحَارَبَةِ الَّتِي تَقَعُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ وَبَعْدَهُ، وَسَوَّى عُقُوبَتَهَا، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَصِيرَ تَأْوِيلُ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الْمُحَارَبَةَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَجُعِلَ لَهَا جَزَاءٌ عَيْنُ جَزَاءِ الرِّدَّةِ، لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَهَا جَزَاءٌ آخَرُ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْجَزَاءَ لِأَجْلِ الْمُحَارَبَةِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اعْتَبَرَهُ الْعُلَمَاءُ جَزَاءً لِمَنْ يَأْتِي هَذِهِ الْجَرِيمَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ جَزَاءً لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ حَارَبُوا الرَّسُولَ لِأَجْلِ عِنَادِ الدِّينِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى عُدِّيَ يُحارِبُونَ إِلَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ لِيَظْهَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا حَرْبَ مُعَيَّنٍ مِنَ النَّاسِ وَلَا حَرْبَ صَفٍّ.
وَعُطِفَ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً لِبَيَانِ الْقَصْدِ مِنْ حَرْبِهِمُ اللَّهَ وَرَسُوله، فَصَارَ الْجُزْء عَلَى مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، فَمَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ سَبَبٌ مُرَكَّبٌ لِلْعُقُوبَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ جُزْءُ سَبَبٍ لَا يَقْتَضِي هَذِهِ الْعُقُوبَةَ بِخُصُوصِهَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَقِيقَةِ الْحِرَابَةِ فَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ حَمْلُ السِّلَاحِ عَلَى النَّاسِ لِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ دُونَ نَائِرَةٍ وَلَا دَخَلٍ وَلَا عَدَاوَةٍ أَيْ بَيْنَ الْمُحَارِبِ- بِالْكَسْرِ- وَبَيْنَ الْمُحَارَبِ- بِالْفَتْحِ-، سَوَاءٌ فِي الْبَادِيَةِ أَوْ فِي الْمِصْرِ، وَقَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقِيلَ: لَا يَكُونُ الْمُحَارِبُ فِي الْمِصْرِ مُحَارِبًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ. وَالَّذِي نَظَرَ إِلَيْهِ مَالِكٌ هُوَ عُمُومُ مَعْنَى لَفْظِ الْحِرَابَةِ، وَالَّذِي نَظَرَ إِلَيْهِ مُخَالِفُوهُ هُوَ الْغَالِبُ فِي الْعُرْفِ لِنُدْرَةِ الْحِرَابَةِ فِي الْمِصْرِ. وَقَدْ كَانَتْ نَزَلَتْ بِتُونُسَ قَضِيَّةُ لِصٍّ اسْمُهُ «وَنَّاسٌ» أَخَافَ أَهْلَ
تُونُسَ بِحِيَلِهِ فِي السَّرِقَةِ، وَكَانَ يَحْمِلُ السِّلَاحَ فَحُكِمَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِ فِي مُدَّةِ الْأَمِيرِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ بَايْ وَقُتِلَ شَنْقًا بِبَابِ سُوَيْقَةَ.
وَمَعْنَى يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنَّهُمْ يَكْتَسِبُونَ الْفَسَادَ وَيَجْتَنُونَهُ وَيَجْتَرِحُونَهُ، لِأَنَّ السَّعْيَ قَدِ اسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى الِاكْتِسَابِ وَاللَّمِّ، قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها [الْإِسْرَاء: ١٩]. وَيَقُولُونَ: سَعَى فُلَانٌ لِأَهْلِهِ، أَيِ اكْتَسَبَ لَهُمْ، وَقَالَ تَعَالَى:
لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه: ١٥].
لِزِيَادَةِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ، وَأَنَّهُمْ مَا جَاءُوا طَالِبِينَ الْحَقَّ كَمَا يَدَّعُونَ وَلَكِنَّهُمْ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَخَرَجُوا بِهِ فَيَقُولُونَ إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، فَهُمْ قَدْ عَدَلُوا عَنِ الْجَدَلِ إِلَى الْمُبَاهَتَةِ وَالْمُكَابَرَةِ.
وَالْأَسَاطِيرُ جَمْعُ أُسْطُورَةٍ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ السِّينِ- وَهِيَ الْقِصَّةُ وَالْخَبَرُ عَنِ الْمَاضِينَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْأُسْطُورَةَ لَفْظٌ مُعَرَّبٌ عَنِ الرُّومِيَّةِ: أَصْلُهُ إِسْطُورْيَا- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- وَهُوَ الْقِصَّةُ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ اخْتِلَافُ الْعَرَبِ فِيهِ، فَقَالُوا: أُسْطُورَةٌ وَأُسْطِيرَةٌ وَأُسْطُورٌ وَأُسْطِيرٌ،
كُلُّهَا- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ- وَإِسْطَارَةٌ وَإِسْطَارٌ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ-. وَالِاخْتِلَافُ فِي حَرَكَاتِ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ جُمْلَةِ أَمَارَاتِ التَّعْرِيبِ. وَمِنْ أَقْوَالِهِمْ: «أَعْجَمِيٌّ فَالْعَبْ بِهِ مَا شِئْتَ». وَأَحْسَنُ الْأَلْفَاظِ لَهَا أُسْطُورَةٌ لِأَنَّهَا تُصَادِفُ صِيغَةً تُفِيدُ مَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيِ الْقِصَّةَ الْمَسْطُورَةَ. وَتُفِيدُ الشُّهْرَةَ فِي مَدْلُولِ مَادَّتِهَا مِثْلَ الْأُعْجُوبَةِ وَالْأُحْدُوثَةِ وَالْأُكْرُومَةِ. وَقِيلَ: الْأَسَاطِيرُ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِثْلَ أَبَابِيلَ وَعَبَادِيدَ وَشَمَاطِيطَ. وَكَانَ الْعَرَبُ يُطْلِقُونَهُ عَلَى مَا يَتَسَامَرُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الْقِصَصِ وَالْأَخْبَارِ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا مِنْ صِدْقٍ وَكَذِبٍ. وَقَدْ كَانُوا لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ التَّوَارِيخِ وَالْقِصَصِ وَالْخُرَافَاتِ فَجَمِيعُ ذَلِكَ مَرْمِيٌّ بِالْكَذِبِ وَالْمُبَالَغَةِ. فَقَوْلُهُمْ: إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا نِسْبَةَ أَخْبَارِ الْقُرْآنِ إِلَى الْكَذِبِ عَلَى مَا تَعَارَفُوهُ مِنِ اعْتِقَادِهِمْ فِي الأساطير. ويشتمل أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مَجْمُوعَ قِصَصٍ وَأَسَاطِيرَ، يَعْنُونَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ لِقُصُورِ أَفْهَامِهِمْ أَوْ لِتَجَاهُلِهِمْ يُعْرِضُونَ عَنِ الِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ مِنْ تِلْكَ الْقِصَصِ وَيَأْخُذُونَهَا بِمَنْزِلَةِ الْخُرَافَاتِ الَّتِي يَتَسَامَرُ النَّاسُ بِهَا لِتَقْصِيرِ الْوَقْتِ. وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِك النَّضر لَا الْحَارِثِ، وَأَنَّهُ كَانَ يُمَثِّلُ الْقُرْآنَ بِأَخْبَارِ (رُسْتُمَ) و (إسفنديار).
[٢٦]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٢٦]
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ، وَالضَّمِيرَانِ الْمَجْرُورَانِ عَائِدَانِ إِلَى الْقُرْآنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْعَام: ٢٥].
وَمَعْنَى النَّهْيُ عَنْهُ النَّهْيُ عَنِ اسْتِمَاعِهِ. فَهُوَ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالذَّاتِ. وَالْمُرَادُ حَالَةٌ مِنْ أَحْوَالِهَا يُعَيِّنُهَا
وَالْبَيِّنَةُ مَا بِهِ الْبَيَانُ وَظُهُورُ الْحَقِّ. فَالْقُرْآنُ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِإِعْجَازِهِ بُلَغَاءَ الْعَرَبِ، وَهُوَ هَدْيٌ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنِ الْإِرْشَاد إِلَى طرق الْخَيْرِ، وَهُوَ رَحْمَةٌ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ شَرِيعَةٍ سَمْحَةٍ لَا حَرَجَ فِيهَا، فَهِيَ مُقِيمَةٌ لِصَلَاحِ الْأُمَّةِ مَعَ التَّيْسِيرِ. وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ التَّشْرِيعِ وَهُوَ أَدَلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَمْرِ الْعَلِيمِ بِكُلِّ شَيْءٍ.
وَتَفَرَّعَ عَنْ هَذَا الْإِعْذَارِ لَهُمُ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا أَظْلَمَ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا وَأَعْرَضُوا. فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ لِلتَّفْرِيعِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ.
وَ (مِنْ) فِي مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ مَوْصُولَةٌ وَمَا صِدْقُهَا الْمُخَاطَبُونَ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ.
وَالظُّلْمُ هُنَا يَشْمَلُ ظُلْمَ نُفُوسِهِمْ، إِذْ زَجُّوا بِهَا إِلَى الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ وَخُسْرَانِ الدُّنْيَا، وظلم الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَذَّبُوهُ، وَمَا هُوَ بِأَهْلِ التَّكْذِيبِ، وَظُلْمَ اللَّهِ إِذْ كَذَّبُوا بِآيَاتِهِ وَأَنْكَرُوا نِعْمَتَهُ، وَظَلَمُوا النَّاسَ بِصَدِّهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ.
وَقَدْ جِيءَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ لِتَدُلَّ الصِّلَةُ عَلَى تَعْلِيلِ الْحُكْمِ وَوَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ، لِأَنَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ مَضْمُونُ تِلْكَ الصِّلَةِ كَانَ حَقِيقًا بِأَنَّهُ لَا أَظْلَمَ مِنْهُ.
وَمَعْنَى صَدَفَ أَعْرَضَ هُوَ، وَيُطْلَقُ بِمَعْنَى صَرَفَ غَيْرَهُ كَمَا فِي «الْقَامُوسِ». وَأَصْلُهُ التَّعْدِيَةُ إِلَى مَفْعُولٍ بِنَفْسِهِ وَإِلَى الثَّانِي بِ عَنْ يُقَالُ: صَدَفْتُ فُلَانًا عَنْ كَذَا، كَمَا يُقَالُ:
صَرَفْتُهُ، وَقَدْ شَاعَ تَنْزِيلُهُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ حَتَّى غَلَبَ عَدَمُ ظُهُورِ الْمَفْعُولِ بِهِ، يُقَالُ: صَدَفَ عَنْ كَذَا بِمَعْنَى أَعَرَضَ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٤٦]، وَقَدَّرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» هُنَا مُتَعَدِّيًا لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِكَوْنِهِمِ أَظْلَمَ النَّاسِ تَكْثِيرًا فِي وُجُوهِ اعْتِدَائِهِمْ، وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ نَظَرًا
وَمِنَ الْخَيْرِ بُطْءُ سَيْبِكَ عَنِّي أَسْرَعُ السُّحْبِ فِي الْمَسِيرِ الْجَهَامُ
وَطُوِيَ بَعْضُ الْمُغَيَّا: وَذَلِكَ أَنَّ الرِّيَاحَ تُحَرِّكُ الْأَبْخِرَةَ الَّتِي عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ، وَتَمُدُّهَا بِرُطُوبَاتٍ تَسُوقُهَا إِلَيْهَا مِنَ الْجِهَاتِ النَّدِّيَّةِ الَّتِي تَمُرُّ عَلَيْهَا كَالْبِحَارِ والأنهار، والبحيرات والأراضين النَّدِّيَّةِ، وَيَجْتَمِعُ بَعْضُ ذَلِكَ إِلَى بَعْضٍ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْإِثَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتُثِيرُ سَحاباً [الرّوم: ٤٨] فَإِذَا بَلَغَ حَدَّ الْبُخَارِيَّةِ رَفَعَتْهُ الرِّيَاحُ مِنْ سَطْحِ الْأَرْضِ إِلَى الْجَوِّ.
وَمَعْنَى أَقَلَّتْ، حَمَلَتْ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقِلَّةِ لِأَنَّ الْحَامِلَ يُعَدُّ مَحْمُولُهُ قَلِيلًا فَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلْجَعْلِ.
وَإِقْلَالُ الرِّيحِ السَّحَابَ هُوَ أَنَّ الرِّيَاحَ تَمُرُّ عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ فَيَتَجَمَّعُ بِهَا مَا عَلَى السَّطْحِ مِنَ الْبُخَارِ، وَتَرْفَعُهُ الرِّيَاحُ إِلَى الْعُلُوِّ فِي الْجَوِّ، حَتَّى يَبْلُغَ نُقْطَةً بَارِدَةً فِي أَعْلَى الْجَوِّ، فَهُنَالِكَ يَنْقَبِضُ الْبُخَارُ وَتَتَجَمَّعُ أَجْزَاؤُهُ فَيَصِيرُ سَحَابَاتٍ، وَكُلَّمَا انْضَمَّتْ سَحَابَةٌ إِلَى أُخْرَى حَصَلَتْ مِنْهُمَا سَحَابَةٌ أَثْقَلُ مِنْ إِحْدَاهُمَا حِينَ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنِ الْأُخْرَى، فَيَقِلُّ انْتِشَارُهَا إِلَى أَنْ تَصِيرَ سَحَابًا عَظِيمًا فَيَثْقُلُ، فَيَنْمَاعُ، ثُمَّ يَنْزِلُ مَطَرًا. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: أَقَلَّتْ غَيْرُ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فَتُثِيرُ سَحاباً [الرّوم: ٤٨].
وَالسَّحَابُ اسْمُ جَمْعٍ لِسَحَابَةٍ فَلِذَلِكَ جَازَ إِجْرَاؤُهُ عَلَى اعْتِبَارِ التَّذْكِيرِ نَظَرًا لِتَجَرُّدِ لَفْظِهِ عَنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ، وَجَازَ اعْتِبَارُ التَّأْنِيثِ فِيهِ نَظَرًا لِكَوْنِهِ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ وُصِفَ السَّحَابُ فِي ابْتِدَاءِ إِرْسَالِهِ بِأَنَّهَا تُثِيرُ، وَوُصِفَ بَعْدَ الْغَايَةِ بِأَنَّهَا ثِقَالٌ، وَهَذَا مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيِّ، وَقَدْ وَرَدَ الِاعْتِبَارَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَوَصَفَ السَّحَابَ بِقَوْلِهِ: ثِقالًا اعْتِبَارًا بِالْجَمْعِ كَمَا
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: و «رَأَيْت بَقَرًا تُذْبَحُ»
، وَأُعِيدَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِ بِالْإِفْرَادِ فِي قَوْلِهِ:
سُقْناهُ.
وَحَقِيقَةُ السَّوْقِ أَنَّهُ تَسْيِيرُ مَا يَمْشِي وَمُسَيِّرُهُ وَرَاءَهُ يُزْجِيهِ وَيُحِثُّهُ، وَهُوَ هُنَا مستعار لتسير السَّحَابِ بِأَسْبَابِهِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ، وَقَدْ يُجْعَلُ تَمْثِيلًا إِذَا
الْخَيْرِ مِنَ الْعَمَلِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٩]، وَفِي قَوْلِهِ: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فِي سُورَة الْبَقَرَة [١٦].
[١٧٩]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١٧٩]
وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا [الْأَعْرَاف: ١٧٥]، وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ صَاحِبَ الْقِصَّةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا انْتَقَلَ مِنْ صُورَةِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَهُ خَلَقَهُ لِيَكُونَ مِنْ أَهْلِ جَهَنَّم، مَعَ مَالهَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ لِلتَّذْيِيلِ الَّذِي خُتِمَتْ بِهِ الْقِصَّةُ وَهُوَ قَوْلُهُ: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي [الْأَعْرَاف: ١٧٨] الْآيَةَ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَبِقَدْ لِقَصْدِ تَحْقِيقِهِ لِأَنَّ غَرَابَتَهُ تُنْزِلُ سَامِعَهُ خَالِيَ الذِّهْنِ مِنْهُ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ فِي تَأْوِيلِهِ، وَلِأَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُمْ قَدْ وُصِفُوا بِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها- إِلَى قَوْلِهِ- بَلْ هُمْ أَضَلُّ، وَالْمَعْنِيُّ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ، وَهُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّهُمْ فِي ضَلَالٍ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، وَكَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ أَحْلَامٍ وَأَفْهَامٍ، وَلِذَلِكَ قَالُوا
للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَعْرِضِ التَّهَكُّمِ قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت:
٥].
وَالذَّرْءُ الْخَلْقُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٣٦].
وَاللَّامُ فِي لِجَهَنَّمَ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ خَلَقْنَا كَثِيرًا لِأَجْلِ جَهَنَّمَ.
وَجَهَنَّمُ مُسْتَعْمَلَةٌ هُنَا فِي الْأَفْعَالِ الْمُوجِبَةِ لَهَا بِعَلَاقَةِ الْمُسَبِّبِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ خُلِقُوا لِأَعْمَالِ الضَّلَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْكَوْنِ فِي جَهَنَّمَ، وَلَمْ يُخْلَقُوا لِأَجْلِ جَهَنَّمَ، لِأَنَّ جَهَنَّمَ لَا يُقْصَدُ إِيجَادُ خَلْقٍ لِتَعْمِيرِهَا، وَلَيْسَتِ اللَّامُ لَامَ الْعَاقِبَةِ لِعَدَمِ انْطِبَاقِ حَقِيقَتِهَا عَلَيْهَا، وَفِي «الْكَشَّافِ» جَعَلَهُمْ لِإِغْرَاقِهِمْ فِي الْكُفْرِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَأْتِي مِنْهُمْ إِلَّا أَفْعَالُ أَهْلِ النَّارِ، مَخْلُوقِينَ لِلنَّارِ دَلَالَةً عَلَى تَمَكُّنِهِمْ فِيمَا يُؤَهِّلُهُمْ لدُخُول النَّار اه، وَهَذَا
عِنْدَهُمْ، إِنْ أَرَادُوا ذَلِكَ وَذَلِكَ وَاسْعٌ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ لِلنَّاسِ عِبَادَاتٍ وَمَوَاسِمَ وَأَعْيَادًا دَوْرِيَّةً تَكُونُ مَرَّةً فِي كُلِّ سَنَةٍ، أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا الْعِبَادَةَ فِي الْوَقْتِ الْمُمَاثِلِ لِوَقْتِ أُخْتِهَا فَفَرَضَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَبَنِيهِ حَجَّ الْبَيْتِ كُلَّ سَنَةٍ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي عَشَرَ، وَجَعَلَ لَهُمْ زَمَنًا مُحْتَرَمًا بَيْنَهُمْ يَأْمَنُونَ فِيهِ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَيَسْتَطِيعُونَ فِيهِ السَّفَرَ الْبَعِيدَ وَهِيَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ، فَلَمَّا حَصَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِمَجْمُوعِ تَكْوِينِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْكَوَاكِبِ، وَإِيدَاعِهِ الْإِلْهَامَ بِالتَّفَطُّنِ لِحِكْمَتِهَا، وَالتَّمَكُّنِ مِنْ ضَبْطِ مُطَّرِدِ أَحْوَالِهَا، وَتَعْيِينِهِ مَا عُيِّنَ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ بِمَوَاقِيتِهَا، كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مُرَادًا عِنْدَهُ فَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.
فَمَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً: أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي النِّظَامِ الَّذِي وَضَعَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَرْضَ الَّتِي جَعَلَهَا مَقَرَّ الْبَشَرِ بِاعْتِبَارِ تَمَايُزِ كُلِّ وَاحِدٍ فِيهَا عَنِ الْآخَرِ، فَإِذَا تَجَاوَزَتِ الِاثْنَيْ عَشَرَ صَارَ مَا زَادَ عَلَى الِاثْنَيْ عَشَرَ مُمَاثِلًا لِنَظِيرٍ لَهُ فِي وَقْتِ حُلُولِهِ فَاعْتُبِرَ شَيْئًا مُكَرَّرًا.
وعِنْدَ اللَّهِ مَعْنَاهُ فِي حُكْمِهِ وَتَقْدِيرِهِ، فَالْعِنْدِيَّةُ مَجَازٌ فِي الِاعْتِبَارِ وَالِاعْتِدَادِ، وَهُوَ ظَرْفٌ مَعْمُولٌ لِ عِدَّةَ أَوْ حَالٌ مِنْ عِدَّةَ وفِي كِتابِ اللَّهِ صِفَةٌ لِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً.
وَمَعْنَى فِي كِتابِ اللَّهِ فِي تَقْدِيرِهِ، وَهُوَ التَّقْدِيرُ الَّذِي بِهِ وُجِدَتِ الْمَقْدُورَاتُ، أَعْنِي تَعَلُّقَ الْقُدْرَةِ بِهَا تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا كَقَوْلِهِ: كِتاباً مُؤَجَّلًا [آل عمرَان: ١٤٥] أَيْ قَدْرًا مُحَدَّدًا، فَكِتَابُ هُنَا مَصْدَرٌ.
بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ الْقَمَرَ عَلَى ذَلِكَ النِّظَامِ أَرَادَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ يَكُونَ طَرِيقًا لِحِسَابِ الزَّمَانِ كَمَا قَالَ: وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يُونُس: ٥] وَلِذَلِكَ قَالَ هُنَا يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فَ يَوْمَ ظَرْفٌ لِ كِتابِ اللَّهِ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ الْخَاصِّ، فَإِنَّهُ لَمَّا خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَ مِمَّا خَلَقَ هَذَا النِّظَامُ الْمُنْتَسِبُ بَيْنَ الْقَمَرِ وَالْأَرْضِ.
وَلِهَذَا الْوَجْهِ ذُكِرَتِ الْأَرْضُ مَعَ السَّمَاوَاتِ دُونَ الِاقْتِصَارِ عَلَى السَّمَاوَاتِ، لِأَنَّ تِلْكَ الظَّوَاهِرَ الَّتِي لِلْقَمَرِ، وَكَانَ بِهَا الْقَمَرُ مُجَزَّءًا أَجْزَاءً، مُنْذُ كَوْنِهِ هِلَالًا، إِلَى رُبْعِهِ الْأَوَّلِ، إِلَى الْبَدْرِ، إِلَى الرُّبْعِ الثَّالِثِ، إِلَى الْمِحَاقِ، وَهِيَ مَقَادِيرُ الْأَسَابِيعِ، إِنَّمَا هِيَ
وَجُمْلَةُ: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ إِمَّا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: نَحْشُرُهُمْ وَجُمْلَةِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ، وَإِمَّا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي نَحْشُرُهُمْ.
وكَأَنْ مُخَفَّفَةُ (كَأَنَّ) الْمُشَدَّدَةِ النُّونِ الَّتِي هِيَ إِحْدَى أَخَوَاتِ (إِنَّ)، وَهِيَ حَرْفُ تَشْبِيهٍ، وَإِذَا خُفِّفَتْ يَكُونُ اسْمُهَا مَحْذُوفًا غَالِبًا، وَالتَّقْدِيرُ هُنَا: كَأَنَّهُمْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى الِاسْمِ الْمَحْذُوفِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ضَمَائِرِهِمْ.
وَالْمَعْنَى تَشْبِيهُ الْمَحْشُورِينَ بَعْدَ أَزْمَانٍ مَضَتْ عَلَيْهِمْ فِي الْقُبُورِ بِأَنْفُسِهِمْ لَوْ لَمْ يَلْبَثُوا فِي الْقُبُورِ إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ.
ومِنَ النَّهارِ (مِنْ) فِيهِ تَبْعِيضِيَّةٌ صِفَةٌ لِ ساعَةً وَهُوَ وَصْفٌ غَيْرُ مُرَادٍ مِنْهُ التَّقْيِيدُ إِذْ لَا فَرْقَ فِي الزَّمَنِ الْقَلِيلِ بَيْنَ كَوْنِهِ مِنَ النَّهَارِ أَوْ مِنَ اللَّيْلِ وَإِنَّمَا هَذَا وَصْفٌ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ لِأَنَّ النَّهَارَ هُوَ الزَّمَنُ الَّذِي تَسْتَحْضِرُهُ الْأَذْهَانُ فِي الْمُتَعَارَفِ، مِثْلَ ذِكْرِ لَفْظِ الرَّجُلِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ [الْأَعْرَافِ: ٤٦]. وَمِنْ
هَذَا مَا وَقَعَ
فِي الْحَدِيثِ «وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ»
، وَالْمَقْصُودُ سَاعَةٌ مِنَ الزَّمَانِ وَهِيَ السَّاعَةُ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا قِتَالُ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى تَقْيِيدٍ بِكَوْنِهِ فِي النَّهَارِ وَإِنْ كَانَ صَادَفَ أَنَّهُ فِي النَّهَارِ.
وَالسَّاعَةُ: الْمِقْدَارُ مِنَ الزَّمَانِ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ تُطْلَقَ عَلَى الزَّمَنِ الْقَصِيرِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٣٤].
وَوَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَ حَالِ زَمَنِ لُبْثِهِمْ فِي الْقُبُورِ وَبَيْنَ لُبْثِ سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ وُجُوهٌ: هِيَ التَّحَقُّقُ وَالْحُصُولُ، بِحَيْثُ لَمْ يَمْنَعْهُمْ طُولُ الزَّمَنِ مِنَ الْحَشْرِ، وَأَنَّهُمْ حُشِرُوا بِصِفَاتِهِمُ الَّتِي عَاشُوا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَفْنَوْا. وَهَذَا اعْتِبَارٌ بِعَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى إِرْجَاعِهِمْ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْبِيهِ التَّعْرِيضُ بِإِبْطَالِ دَعْوَى الْمُشْرِكِينَ إِحَالَتَهُمُ الْبَعْثَ بِشُبْهَةِ أَنَّ طُولَ اللُّبْثِ وَتَغَيُّرَ الْأَجْسَادِ يُنَافِي إحياءها يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً [النازعات: ١٠، ١١].

[سُورَة هود (١١) : آيَة ١١٥]

وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ [هود: ١٠٩] الْآيَاتِ، لِأَنَّهَا سِيقَتْ مَسَاقَ التَّثْبِيتِ مِنْ جَرَّاءِ تَأْخِيرِ عِقَابِ الَّذِينَ كَذَّبُوا.
وَمُنَاسَبَةُ وُقُوعِ الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ عَقِبَ الْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ وَالنَّهْيِ عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، أَنَّ الْمَأْمُورَاتِ لَا تَخْلُو عَنْ مَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ وَمُخَالِفَةٍ لِهَوَى كَثِيرٍ مِنَ النُّفُوسِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ بَعْدَ ذَلِكَ لِيَكُونَ الصَّبْرُ عَلَى الْجَمِيعِ كُلٌّ بِمَا يُنَاسِبُهُ.
وَتَوْجِيهُ الْخطاب إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْوِيهٌ بِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُوَ وَأُمَّتُهُ بِقَرِينَةِ التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ:
فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُمُومِ وَالتَّفْرِيعِ الْمُقْتَضِي جَمْعَهُمَا أَنَّ الصَّبْرَ مِنْ حَسَنَاتِ الْمُحْسِنِينَ وَإِلَّا لَمَّا كَانَ لِلتَّفْرِيعِ مَوْقِعٌ. وَحَرْفُ التَّأْكِيدِ مَجْلُوبٌ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ.
وَسُمِّيَ الثَّوَابُ أَجْرًا لِوُقُوعِهِ جَزَاءً عَلَى الْأَعْمَالِ وَمَوْعُودًا بِهِ فَأشبه الْأجر.
[١١٦]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ١١٦]
فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦)
هَذَا قَوِيُّ الِاتِّصَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ [هود: ١٠٢] فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَيْهِ وَيَكُونُ مَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا دَعَا إِلَيْهِ الِانْتِقَالُ الِاسْتِطْرَادِيُّ فِي مَعَانٍ مُتَمَاسِكَةٍ.
وَالْمَعْنَى فَهَلَّا كَانَ فِي تِلْكَ الْأُمَمِ أَصْحَابُ بَقِيَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَنَهَوْا قَوْمَهُمْ عَنِ الْفَسَادِ لَمَّا حَلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ. وَذَلِكَ إِرْشَادٌ إِلَى وُجُوبِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَيَجُوزُ أَنْ
بِالَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ الأَرْض. وَهَذَا الْحَذْفُ جَارٍ عَلَى حَذْفِ الْمسند إِلَيْهِ الْمُسَمّى عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي تَبَعًا لِلسَّكَّاكِيِّ بِالْحَذْفِ لِمُتَابَعَةِ الِاسْتِعْمَالِ، أَيِ اسْتِعْمَال الْعَرَب عِنْد مَا يَجْرِي ذِكْرُ مَوْصُوفٍ بِصِفَاتٍ أَنْ يَنْتَقِلُوا مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِيَكْسِبَ ذَلِكَ الِانْتِقَالُ تَقْرِيرًا لِلْغَرَضِ، كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ الصُّولِيِّ:
سَأَشْكُرُ عَمْرًا إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي أَيَادِيَ لَمْ تُمْنَنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ
فَتًى غَيْرُ مَحْجُوبِ الْغِنَى عَنْ صَدِيقِهِ وَلَا مُظْهِرُ الشَّكْوَى إِذَا النَّعْلُ زَلَّتِ
أَيْ هُوَ فَتًى مِنْ صِفَتِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ.
وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ إِلَّا رُوَيْسًا عَنْ يَعْقُوبَ- بِالْجَرِّ- عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ. وَمَآلُ الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ وَكِلْتَا الطَّرِيقَتَيْنِ تفِيد أَن الْمُنْتَقل إِلَيْهِ أَجْدَرُ بِالذِّكْرِ عَقِبَ مَا تَقَدَّمَهُ، فَإِنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ أَعْظَمُ مِنْ بَقِيَّةِ الصِّفَاتِ لِأَنَّهُ عِلْمُ الذَّاتِ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ مَوْجُودٌ فِي إِطْلَاقِهِ وَلَا فِي مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ الْمَنْقُولِ مِنْهُ إِلَى الْعِلْمِيَّةِ إِلَّا أَنَّ الرَّفْعَ أَقْوَى وَأَفْخَمُ.
وَقَرَأَهُ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِالرَّفْعِ- إِذَا وُقِفَ عَلَى قَوْلِهِ: الْحَمِيدِ وَابْتُدِئَ بَاسِمِ اللَّهِ، فَإِذَا وُصِلَ الْحَمِيدِ بَاسِمِ اللَّهِ جُرَّ اسْمُ الْجَلَالَةِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ.
وَإِجْرَاءُ الْوَصْفِ بِالْمَوْصُولِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِزِيَادَةِ التَّفْخِيمِ لَا لِلتَّعْرِيفِ، لِأَنَّ مَلِكَ سَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ صِفَةٌ عَظِيمَةٌ وَاللَّهُ مَعْرُوفٌ بِهَا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ صِرَاطَ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ طُرُقِ آلِهَتِهِمْ لَيْسَ بِوَاصِلٍ إِلَى الْمَقْصُودِ لِنُقْصَانِ ذَوِيهِ. وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الصِّلَةِ إِدْمَاجُ تَعْرِيضٍ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مَا لَيْسَ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ.
فَأَجْرَى اللَّهُ أَمرَ الْحِسَابِ يَوْمَ الْبَعْثِ عَلَى ذَلِكَ السَّنَنِ الشَّرِيفِ. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِ كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِحْقَاقِهِمُ الْعِقَابَ لِأَنَّ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ جَرِيمَةٌ.
وَالْإِتْيَانُ بِفِعْلِ الْكَوْنِ وَبِالْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الِافْتِرَاءَ كَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَكَانَ مُتَجَدِّدًا وَمُسْتَمِرًّا مِنْهُمْ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: عَمَّا تَفْتَرُونَ، وعمّا افتريتم.
[٥٧]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٥٧]
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (٥٧)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ [سُورَة النَّحْل:
٥٦].
هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَهِيَ نِعْمَةُ النَّسْلِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ، أَيْ مَا يَشْتَهُونَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ مِنَ الذُّرِّيَّةِ.
وَأُدْمِجَ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَهَذَا الِامْتِنَانِ ذِكْرُ ضَرْبٍ شَنِيعٍ مِنْ ضُرُوبِ كُفْرِهِمْ. وَهُوَ
افْتِرَاؤُهُمْ: أَنْ زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ سَرَوَاتِ الْجِنِّ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [سُورَة الصافات: ١٥٨]. وَهُوَ اعْتِقَادُ قَبَائِلِ كِنَانَةَ وَخُزَاعَةَ.
وَالْجَعْلُ: هُنَا النِّسْبَةُ بِالْقَوْلِ.
وسُبْحانَهُ مَصْدَرٌ نَائِبٌ عَنِ الْفِعْلِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ، وَهُوَ فِي مَحَلِّ جُمْلَةٍ مُعْتَرِضَةٍ وَقَعَتْ جَوَابًا عَنْ مَقَالَتِهِمُ السَّيِّئَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا حِكَايَةُ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ إِذِ الْجَعْلُ فِيهِ جعل بالْقَوْل، فَقَوْلُهُ: سُبْحانَهُ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: حَاشَ لِلَّهِ وَمَعَاذَ اللَّهِ، أَيْ تَنْزِيهًا لَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ ذَلِك.
وَإِنَّا قُدِّمَ سُبْحانَهُ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ لِيَكُونَ نَصًّا فِي أَنَّ التَّنْزِيهَ عَنْ هَذَا الْجَعْلِ لِذَاتِهِ وَهُوَ نِسْبَةُ الْبُنُوَّةِ لِلَّهِ، لَا عَنْ جَعْلِهِمْ لَهُ خُصُوصَ الْبَنَاتِ دُونَ الذُّكُورِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ فَظَاعَةً، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُمْ
وَالْإِقَامَةُ: مَجَازٌ فِي الْمُوَاظَبَةِ وَالْإِدَامَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣].
وَاللَّامُ فِي لِدُلُوكِ الشَّمْسِ لَامُ التَّوْقِيتِ، وَهِيَ بِمَعْنَى (عِنْدَ).
وَالدُّلُوكُ: مِنْ أَحْوَالِ الشَّمْسِ، فَوَرَدَ بِمَعْنَى زَوَالِ الشَّمْسِ عَنْ وَسَطِ قَوْسٍ فَرْضِيٍّ فِي طَرِيقِ مَسِيرِهَا الْيَوْمِيِّ. وَوَرَدَ بِمَعْنَى: مَيْلُ الشَّمْسِ عَنْ مِقْدَارِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْقَوْسِ وَهُوَ وَقْتُ الْعَصْرِ، وَوَرَدَ بِمَعْنَى غُرُوبِهَا، فَصَارَ لَفْظُ الدُّلُوكِ مُشْتَرَكًا فِي الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ.
وَالْغَسَقُ: الظُّلْمَةُ، وَهِيَ انْقِطَاعُ بَقَايَا شُعَاعِ الشَّمْسِ حِينَ يُمَاثِلُ سَوَادُ أُفُقِ الْغُرُوبِ سَوَادَ بَقِيَّةِ الْأُفُقِ وَهُوَ وَقْتُ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ، وَذَلِكَ وَقْتَ الْعَشَاءِ، وَيُسَمَّى الْعَتَمَةَ، أَيِ الظُّلْمَةَ.
وَقَدْ جَمَعَتِ الْآيَةُ أَوْقَاتًا أَرْبَعَةً، فَالدُّلُوكُ يَجْمَعُ ثَلَاثَةَ أَوْقَاتٍ بِاسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعَانِيهِ، وَالْقَرِينَةُ وَاضِحَةٌ. وَفُهِمَ مِنْ حَرْفِ (إِلَى) الَّذِي لِلِانْتِهَاءِ أَنَّ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ صَلَوَاتٍ لِأَنَّ الْغَايَةَ كَانَتْ لِفِعْلِ أَقِمِ الصَّلاةَ فَالْغَايَةُ تَقْتَضِي تَكَرُّرَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ غَايَةَ لِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ جَعَلَ وَقْتَهَا مُتَّسِعًا، لِأَنَّ هَذَا فَهْمٌ يَنْبُو عَنْهُ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ مِنْ وُجُوبِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ الْوَاجِبُ أَوِ الْأَكْمَلُ. وَقَدْ زَادَ عمل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانًا لِلْآيَةِ.
وَأَمَّا مِقْدَارُ الِاتِّسَاعِ فَيُعْرَفُ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ. فَكَلِمَةُ «دُلُوكٍ» لَا تُعَادِلُهَا كَلِمَةٌ أُخْرَى.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ فِي «الْمُوَطَّأِ» : أَنَّ أَوَّلَ الْوَقْتِ هُوَ الْمَقْصُودُ. وَثَبَتَ فِي حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ مُرْسَلًا فِي «الْمُوَطَّأِ» وَمَوْصُولًا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عِنْدَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرِهِ: أَنَّ لِلصُّبْحِ وَقْتًا لَهُ ابْتِدَاءٌ وَنِهَايَةٌ. وَهُوَ أَيْضًا ثَابِتٌ لِكُلِّ صَلَاةٍ بِآثَارٍ كَثِيرَةٍ عَدَا الْمَغْرِبِ فَقَدْ سَكَتَ عَنْهَا الْأَثَرُ. فَتَرَدَّدَتْ
وَكُلُّ ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَآلَ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِرٌ إِلَى مَا صَارَتْ إِلَيْهِ بَعْثَةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ النَّصْرِ عَلَى مُعَانَدِيهِ. فَلِذَلِكَ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى وَعِيدِ مَنْ أَعْرَضُوا عَنِ الْقُرْآنِ وَلَمْ تَنْفَعْهُمْ أَمْثَاله ومواعظه.
- وتذكير النَّاس بعداوة الشَّيْطَان للْإنْسَان بِمَا تضمنته قصَّة خلق آدم.
- وَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ سُوءَ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ لِمَنْ جَعَلُوا مَقَادَتَهُمْ بِيَدِ الشَّيْطَانِ وَإِنْذَارَهُمْ بِسُوءِ الْعِقَابِ فِي الدُّنْيَا.
- وَتَسْلِيَةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَقُولُونَهُ وَتَثْبِيتَهُ عَلَى الدِّينِ.
وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ، وَتَهْوِيلُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا يَتَقَدَّمُهُ مِنَ الْحَوَادِث والأهوال.
[١]
[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طه (١)
وَهَذَانِ الْحَرْفَانِ مِنْ حُرُوفِ فَوَاتِحِ بَعْضِ السُّوَرِ مِثْلُ الم، وَيس. وَرُسِمَا فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ بِصُورَةِ حُرُوفِ التَّهَجِّي الَّتِي هِيَ مُسَمَّى (طا) وَ (هَا) كَمَا رُسِمَ جَمِيعُ الْفَوَاتِحِ الَّتِي بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ. وَقُرِئَا لِجَمِيعِ الْقُرَّاء كَمَا قُرِئت بَقِيَّةُ فَوَاتِحِ السُّوَرِ. فَالْقَوْلُ فِيهِمَا كَالْقَوْلِ الْمُخْتَارِ فِي فَوَاتِحِ تِلْكَ السُّوَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَقِيلَ هُمَا حَرْفَانِ مُقْتَضَبَانِ مِنْ كَلِمَتَيْ (طَاهِرٍ) وَ (هَادٍ) وَأَنَّهُمَا عَلَى مَعْنَى النِّدَاءِ بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ.
وَلِذَلِكَ فَأَنَا أَحْسُبُ هَذِهِ السُّورَةَ نَازِلًا بَعْضُهَا آخِرَ مُدَّةِ مُقَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ كَمَا يَقْتَضِيهِ افْتِتَاحُهَا بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ فَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ ذَلِكَ الْغَالِبَ فِي أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ الْمَكِّيِّ، وَأَنَّ بَقِيَّتَهَا نَزَلَتْ فِي مُدَّةِ مُقَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
[الْحَج: ١- ٢]، قَالَ:
أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ وَهُوَ فِي سَفَرٍ؟ فَقَالَ: «أَتَدْرُونَ... »
وَسَاقَ حَدِيثًا طَوِيلًا. فَاقْتَضَى قَوْلُهُ:
أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي سَفَرٍ؟ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أُنْزِلَتْ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَإِنَّ أَسْفَارَهُ كَانَتْ فِي الْغَزَوَاتِ وَنَحْوِهَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ السّفر فِي غروة بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ وَتِلْكَ الْغَزْوَةُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ، فَالظَّاهِرُ مِنْ
قَوْلِهِ «أُنْزِلَتْ وَهُوَ فِي سَفَرٍ»
أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ لَمْ يَسْمَعِ الْآيَةَ إِلَّا يَوْمَئِذٍ فَظَنَّهَا أُنْزِلَتْ يَوْمَئِذٍ فَإِنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ مَا أَسْلَمَ إِلَّا عَامَ خَيْبَرَ وَهُوَ عَامُ سَبْعَةٍ، أَوْ أَنَّ أَحَدَ رُوَاةِ الْحَدِيثِ أَدْرَجَ كَلِمَةَ «أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي سَفَرٍ» فِي كَلَامِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَلَمْ يَقُلْهُ عِمْرَانُ. وَلِذَلِكَ لَا يُوجَدُ هَذَا اللَّفْظُ فِيمَا
رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بن بَشَّارٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيءِ فِي سَفَرٍ فَرَفَعَ صَوْتَهُ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
[الْحَج: ١- ٢]
وَخَيْبَةٌ مُخْتَلَقَةٌ بِنَقِيضِ قَصْدِهِمْ، وَانْتِفَاعٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بذلك، وبيّن بادىء ذِي بَدْءٍ أَنَّهُ لَا يُحْسَبُ شَرًّا لَهُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ، وَأَنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِهِ مَا اكْتَسَبُوا بِهِ إِلَّا إِثْمًا، وَمَا لَحِقَ الْمُسْلِمِينَ بِهِ ضُرٌّ، وَنَعَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ تَهَاوُنَهُمْ وَغَفْلَتَهُمْ عَنْ سُوءِ نِيَّةِ مُخْتَلِقِيهِ، وَكَيْفَ ذَهَلُوا عَنْ ظَنِّ الْخَيْرِ بِمَنْ لَا يَعْلَمُونَ مِنْهَا إِلَّا خَيْرًا فَلَمْ يُفَنِّدُوا الْخَبَرَ، وَأَنَّهُمُ اقْتَحَمُوا بِذَلِكَ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِلَحَاقِ الْعَذَابِ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَيْفَ حَسِبُوهُ أَمْرًا هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، وَلَوْ تَأَمَّلُوا لَعَلِمُوا عِظَمَهُ عِنْدَ اللَّهِ، وَسُكُوتُهُمْ عَنْ تَغْيِيرِ هَذَا أَعْقَبَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِتَحْذِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى مِثْلِهِ مِنَ الْمُجَازَفَةِ فِي التَّلَقِّي، وَمِنَ الِانْدِفَاعِ وَرَاءَ كُلِّ سَاعٍ دُونَ تثبت فِي مواطىء الْأَقْدَامِ، وَدُونَ تَبَصُّرٍ فِي عَوَاقِبِ الْإِقْدَامِ.
وَالْوَعْظُ: الْكَلَامُ الَّذِي يُطْلَبُ بِهِ تَجَنُّبُ الْمُخَاطَبِ بِهِ أَمْرًا قَبِيحًا. وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ [١٢٥].
وَفِعْلُ يَعِظُكُمُ لَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ بِنَفْسِهِ، فَالْمَصْدَرُ الْمَأْخُوذُ مِنْ أَنْ تَعُودُوا لَا يَكُونُ مَعْمُولًا لِفِعْلِ يَعِظُكُمُ إِلَّا بِتَقْدِيرِ شَيْءٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ بِتَضْمِينِ فِعْلِ الْوَعْظِ مَعْنَى فِعْلٍ مُتَعَدٍّ، أَوْ بِتَقْدِيرِ حَرْفِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ، فَلَكَ أَنْ تُضَمِّنَ فِعْلَ يَعِظُكُمُ مَعْنَى التَّحْذِيرِ. فَالتَّقْدِيرُ: يُحَذِّرُكُمْ مِنَ الْعَوْدِ لِمِثْلِهِ، أَوْ يُقَدَّرُ: يَعِظُكُمُ اللَّهُ فِي الْعَوْدِ لِمِثْلِهِ، أَوْ يُقَدَّرُ حَرْفُ نَفْيٍ، أَيْ أَنْ لَا تَعُودُوا لِمِثْلِهِ، وَحَذْفُ حَرْفِ النَّفْيِ كَثِيرٌ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، وَعَلَى كُلِّ الْوُجُوهِ يَكُونُ فِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ.
وَالْأَبَدُ: الزَّمَانُ الْمُسْتَقْبَلُ كُلُّهُ، وَالْغَالِبُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلنَّفْيِ.
وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تَهْيِيجٌ وَإِلْهَابٌ لَهُمْ يَبْعَثُ حِرْصَهُمْ عَلَى أَنْ لَا يَعُودُوا لِمِثْلِهِ لِأَنَّهُمْ حَرِيصُونَ عَلَى إِثْبَاتِ إِيمَانِهِمْ، فَالشَّرْطُ فِي مِثْلِ هَذَا لَا يَقْصِدُ بِالتَّعْلِيقِ، إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى: إِنْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فَعُودُوا لِمِثْلِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ احْتِمَالُ حُصُولِ مَفْهُومِ الشَّرْطِ مُجْتَنَبًا كَانَ فِي ذِكْرِ الشَّرْطِ بَعْثٌ عَلَى الِامْتِثَالِ، فَلَوْ تَكَلَّمَ أَحَدٌ فِي الْإِفْكِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ مُعْتَقِدًا وُقُوعَهُ

[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٧٤ إِلَى ١٧٥]

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥)
أَيْ فِي قِصَّتِهِمُ الْمَعْلُومَةِ لِلْمُشْرِكِينَ آيَةٌ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
[الصافات: ١٣٧، ١٣٨] وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيره آنِفا.
[١٧٦- ١٨٠]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٧٦ إِلَى ١٨٠]
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠)
اسْتِئْنَاف تعداد وتكرير كَمَا تَقَدَّمَ فِي جُمْلَةِ: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاء: ١٢٣].
وَلَمْ يَقْرِنْ فِعْلَ كَذَّبَ هَذَا بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ أَصْحابُ جَمْعُ صَاحِبٍ وَهُوَ مُذَكَّرٌ مَعْنًى وَلَفْظًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ [الشُّعَرَاء: ١٦٠] فَإِنَّ (قَوْمَ) فِي مَعْنَى الْجَمَاعَةِ وَالْأُمَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاء: ١٠٥].
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ لَيْكَةَ بِلَامٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ تَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ مَمْنُوعًا مِنَ الصَّرْفِ لِلْعِلْمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ الْأَيْكَةِ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ بَعْدَهُ هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ وَبِجَرِّ آخِرِهِ عَلَى أَنَّهُ تَعْرِيفُ عَهْدٍ لِأَيْكَةٍ مَعْرُوفَةٍ. وَالْأَيْكَةُ: الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ وَهِيَ الْغَيْضَةُ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدٍ: رَأَيْتُهَا فِي الْإِمَامِ مُصْحَفِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْحِجْرِ وَق الْأَيْكَةِ وَفِي الشُّعَرَاءِ وَص لَيْكَةَ وَاجْتَمَعَتْ مَصَاحِفُ الْأَمْصَارِ كُلُّهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ تَخْتَلِفْ.
وَأَصْحَابُ لَيْكَةَ: هُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ أَوْ قَبِيلَةٌ مِنْهُمْ. قَالُوا: وَكَانَتْ غِيضَتُهُمْ مِنْ شَجَرِ الْمُقْلِ (بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَهُوَ النَّبْقُ) وَيُقَالُ لَهُ الدَّوْمُ (بِفَتْحِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُون الْوَاو).
وإفرادها بِتَاءِ الْوَحْدَةِ عَلَى إِرَادَةِ الْبُقْعَةِ وَاسْمُ الْجَمْعِ: أَيْكٌ، وَاشْتَهَرَتْ بِالْأَيْكَةِ فَصَارَتْ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ مِثْلُ الْعَقَبَةِ. ثُمَّ وَقَعَ فِيهِ تَغْيِيرٌ لِيَكُونَ عَلَمًا شَخْصِيًّا فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى لَامِ التَّعْرِيفِ وَتُنُوسِيَ مَعْنَى التَّعْرِيفِ
وَالْهَمْزَةُ فِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ التَّعْجِيبِيِّ تَعْجِيبًا مِنْ عَدَمِ جَرْيِهِ عَلَى
مُوجِبِ عِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَ أُمَمًا عَلَى بَطَرِهِمُ النِّعْمَةَ وَإِعْجَابِهِمْ لِقُوَّتِهِمْ وَنِسْيَانِهِ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْهُ تَعْجِيبًا مِنْ فَوَاتِ مُرَاعَاةِ ذَلِكَ مِنْهُ مَعَ سَعَةِ عِلْمِهِ بِغَيْرِهِ مِنْ بَابِ «حَفِظْتَ شَيْئًا وَغَابَتْ عَنْكَ أَشْيَاءُ».
وَعُطِفَ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ عَلَى جُمْلَةِ قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ. وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقِصَّةِ.
وَالْقُوَّةُ: مَا بِهِ يُسْتَعَانُ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّعْبَةِ تَشْبِيهًا لَهَا بِقُوَّةِ الْجِسْمِ الَّتِي تُخَوِّلُ صَاحِبَهَا حَمْلَ الْأَثْقَالِ وَنَحْوِهَا قَالَ تَعَالَى وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الْأَنْفَال: ٦٠].
وَالْجَمْعُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ. قِيلَ: كَانَ أَشْيَاعُ قَارُونَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رُؤَسَاءَ جَمَاعَاتٍ.
وَجُمْلَة وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ وَلَيْسَ عَطْفًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مَنْ قَبْلَهُ. وَالسُّؤَالُ الْمَنْفِيُّ السُّؤَالُ فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَ سُؤَالَ الْآخِرَةِ.
وَالْمَعْنَى: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى السُّؤَالِ عَنْ ذُنُوبِهِمْ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِذُنُوبِهِمْ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عِقَابِهِمْ عَلَى إِجْرَامِهِمْ فَهِيَ كِنَايَةٌ بِوَسَائِطَ.
وَالْكَلَامُ تَهْدِيدٌ لِلْمُجْرِمِينَ لِيَكُونُوا بِالْحَذَرِ مِنْ أَنْ يُؤْخَذُوا بَغْتَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ بِمَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، أَيْ لَا يُسْأَلُ الْمُجْرِمُ عَنْ جُرْمِهِ قَبْلَ عِقَابِهِ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ لِلنَّاسِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ بِحَدَّيِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَأَمْهَلَ الْمُجْرِمَ فَإِذَا أَخَذَهُ أَخَذَهُ بَغْتَةً وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ [الْأَنْعَام: ٤٤]
وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ الظَّالِمَ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لم يفلته»
. [٧٩]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٧٩]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يَا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ [الْقَصَص: ٧٦] إِلَى آخِرِهَا مَعَ مَا عُطِفَ عَلَيْهَا وَتَعَلَّقَ بِهَا، فَدَلَّتِ الْفَاءُ عَلَى أَنَّ خُرُوجَهُ بَيْنَ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ كَانَ مِنْ أَجْلِ
فَفُرِضَتِ الْأَشْجَارُ كُلُّهَا مُقَسَّمَةً أَقْلَامًا، وَفُرِضَ أَنْ يَكُونَ الْبَحْرُ مِدَادًا فَكُتِبَ بِتِلْكَ الْأَقْلَامِ وَذَلِكَ الْمِدَادِ لَنَفِدَ الْبَحْرُ وَنَفِدَتِ الْأَقْلَامُ وَمَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الْأَنْعَام: ١١٥] فَالتَّمَامُ هُنَالِكَ بِمَعْنَى التَّحَقُّقِ وَالنُّفُوذِ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٧]. وَقَدْ نُظِمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِإِيجَازٍ بَدِيعٍ إِذِ ابْتُدِئَتْ بِحَرْفِ لَوْ فَعُلِمَ أَنَّ مَضْمُونَهَا أَمْرٌ مَفْرُوضٌ، وَأَنَّ لِ لَوْ اسْتِعْمَالَاتٍ كَمَا حَقَّقَهُ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» عَنْ عِبَارَةِ سِيبَوَيْهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٢٣].
ومِنْ شَجَرَةٍ بَيَان لما الْمَوْصُولَةِ وَهُوَ فِي مَعْنَى التَّمْيِيزِ فَحَقُّهُ الْإِفْرَادُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: مِنْ أَشْجَارٍ. وَالْأَقْلَامُ: جَمْعُ قَلَمٍ وَهُوَ الْعُودُ الْمَشْقُوقُ لِيَرْفَعَ بِهِ الْمِدَادَ وَيَكْتُبَ بِهِ، أَيْ: لَوْ تَصِيرُ كُلُّ شَجَرَةٍ أَقْلَامًا بِمِقْدَارِ مَا فِيهَا مِنْ أَغْصَانٍ صَالِحَةٍ لِذَلِكَ. وَالْأَقْلَامُ هُوَ الْجَمْعُ الشَّائِعُ لِقَلَمٍ فَيَرِدُ لِلْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ. ويَمُدُّهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الْمِيمِ، أَيْ:
يَزِيدُهُ مِدَادًا. وَالْمِدَادُ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- الْحِبْرُ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ. يُقَالُ: مَدَّ الدَّوَاةَ يَمُدُّهَا. فَكَانَ قَوْلُهُ يَمُدُّهُ مُتَضَمِّنًا فَرْضَ أَنْ يَكُونَ الْبَحْرُ مِدَادًا ثُمَّ يُزَادُ فِيهِ إِذَا نَشَفَ مِدَادُهُ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ، وَلَوْ قِيلَ: يُمِدُّهُ، بِضَمِّ الْمِيمِ مِنْ أَمَدَّ لَفَاتَ هَذَا الْإِيجَازُ.
وَالسَّبْعَةُ: تُسْتَعْمَلُ فِي الْكِنَايَةِ عَنِ الْكَثْرَةِ كَثِيرًا
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ»
فَلَيْسَ لِهَذَا الْعَدَدِ مَفْهُومٌ، أَيْ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ أَبْحُرٌ كَثِيرَةٌ.
وَمَعْنَى مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ مَا انْتَهَتْ، أَيْ: فَكَيْفَ تَحْسَبُ الْيَهُودُ مَا فِي التَّوْرَاةِ هُوَ مُنْتَهَى كَلِمَاتِ اللَّهِ، أَوْ كَيْفَ يَحْسَبُ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ انْتِهَاءَ الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ الْمَثَلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْآخَرِ وَارِدًا مَوْرِدَ الْمُبَالَغَةِ فِي كَثْرَةِ مَا سَيَنْزِلُ مِنَ الْقُرْآنِ إِغَاظَةً لِلْمُشْرِكِينَ، فَتَكُونُ كَلِماتُ اللَّهِ هِيَ الْقُرْآنُ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَعْرِفُونَ كَلِمَاتِ اللَّهِ الَّتِي لَا يُحَاطُ بِهَا.

[سُورَة سبإ (٣٤) : الْآيَات ٢٠ إِلَى ٢١]

وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١)
الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ [سبأ: ٧] الْآيَةَ وَأَن مَا بَينهمَا مِنَ الْأَخْبَارِ الْمَسُوقَةِ لِلِاعْتِبَارِ كَمَا تَقَدَّمَ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِاسْتِطْرَادِ وَالِاعْتِرَاضِ فَيَكُونُ ضَمِيرُ عَلَيْهِمْ عَائِدًا إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ الَخْ. وَالَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ ضَمِيرَ عَلَيْهِمْ عَائِدٌ إِلَى سَبَأٍ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ. وَلَكِنْ لَا مَفَرَّ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [سبأ: ٢٢] الْآيَاتِ هُوَ عَوْدٌ إِلَى مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ الْمُنْتَقَلِ مِنْهَا بِذِكْرِ قِصَّةِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَهْلِ سَبَأٍ. وَصَلُوحَيَّةُ الْآيَة للمحملين ناشئة مِنْ مَوْقِعِهَا، وَهَذَا مِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ تَرْتِيبِ مَوَاقِعِ الْآيَةِ.
فَالْمَقْصُودُ تَنْبِيهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَكَائِدِ الشَّيْطَانِ وَسُوءِ عَاقِبَةِ أَتْبَاعِهِ لِيَحْذَرُوهُ وَيَسْتَيْقِظُوا لِكَيْدِهِ فَلَا يَقَعُوا فِي شَرَكِ وَسْوَسَتِهِ.
فَالْمَعْنَى: أَنَّ الشَّيْطَانَ سَوَّلَ لِلْمُشْرِكِينَ أَوْ سَوَّلَ لِلْمُمَثَّلِ بِهِمْ حَالُ الْمُشْرِكِينَ الْإِشْرَاكَ
بِالْمُنْعِمِ وَحَسَّنَ لَهُمْ ضِدَّ النِّعْمَةِ حَتَّى تَمَنَّوْهُ وَتَوَسَّمَ فِيهِمُ الِانْخِدَاعَ لَهُ فَأَلْقَى إِلَيْهِمْ وَسْوَسَتَهُ وَكَرَّهَ إِلَيْهِمْ نَصَائِحَ الصَّالِحِينَ مِنْهُمْ فَصَدَقَ تَوَسُّمُهُ فِيهِمْ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ بِدَعْوَتِهِ فَقَبِلُوهَا وَأَعْرَضُوا عَنْ خِلَافِهَا فَاتَّبَعُوهُ.
فَفِي قَوْلِهِ: صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ إِيجَازُ حَذْفٍ لِأَنَّ صِدْقَ الظَّنِّ الْمُفَرَّعِ عَنْهُ اتِّبَاعُهُمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى شَيْءٍ ظَانًّا اسْتِجَابَةَ دَعْوَتِهِ إِيَّاهُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ صَدَّقَ بِتَخَفِيفِ الدَّالِ فَ إِبْلِيسُ فَاعِلٌ وظَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ فِي ظَنِّهِ. وعَلَيْهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ صَدَّقَ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى أَوْقَعَ أَوْ أَلْقَى، أَيْ أَوْقَعَ عَلَيْهِمْ ظَنَّهُ فَصَدَقَ فِيهِ. وَالصِّدْقُ بِمَعْنَى الْإِصَابَةِ فِي الظَّنِّ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ مُطَابِقَةٌ لِلْوَاقِعِ فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ الصِّدْقِ. قَالَ أَبُو الْغُولِ الطُّهَوِيُّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ:
وَ (أَلا) حَرْفُ تَنْبِيهٍ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ. وَالْإِفْكُ: الْكَذِبُ أَيْ قَوْلُهُمْ هَذَا بَعْضٌ مِنْ أُكْذُوبَاتِهِمْ. وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِعَطْفِ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ مُؤَكَّدًا بِ (إِنَّ) وَاللَّامِ، أَيْ شَأْنُهُمُ الْكَذِبُ فِي هَذَا وَفِي غَيْرِهِ مِنْ بَاطِلِهِمْ، فَلَيْسَتِ الْجُمْلَةُ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ: مِنْ إِفْكِهِمْ كَيْفَ وَهِي معطوفة.
[١٥٣- ١٥٧]
[سُورَة الصافات (٣٧) : الْآيَات ١٥٣ إِلَى ١٥٧]
أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧)
عَوْدٌ إِلَى الِاسْتِفْتَاءِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ لِأَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا كَمَالَ الِاتِّصَالِ، فَالْمَعْنَى: وَقُلْ لَهُمْ: اصْطفى الْبَنَات.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَصْطَفَى بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مَفْتُوحَةٍ عَلَى أَنَّهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ وَأَمَّا هَمْزَةُ الْوَصْلِ الَّتِي فِي الْفِعْلِ فَمَحْذُوفَةٌ لِأَجْلِ الْوَصْلِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ عَلَى أَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ مَحْذُوفَةٌ.
وَالْكَلَامُ ارْتِقَاءٌ فِي التَّجْهِيلِ، أَيْ لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ اللَّهَ اتخذ ولدا فَلَمَّا ذَا اصْطَفَى الْبَنَاتِ
دُونَ الذُّكُورِ، أَيِ اخْتَارَ لِذَاتِهِ الْبَنَاتِ دُونَ الْبَنِينَ وَالْبَنُونَ أَفْضَلُ عِنْدَكُمْ؟
وَجُمْلَةُ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ فَإِنَّ إِنْكَارَ اصْطِفَاءِ الْبَنَاتِ يَقْتَضِي عَدَمَ الدَّلِيلِ فِي حُكْمِهِمْ ذَلِكَ، فَأَبْدَلَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ مِنْ إِنْكَارِ ادِّعَائِهِمُ اصْطِفَاءَ اللَّهِ الْبَنَاتِ لِنَفْسِهِ. وَقَوْلُهُ: مَا لَكُمْ: مَا اسْتِفْهَامٌ عَنْ ذَاتٍ وَهِيَ مُبْتَدَأٌ ولَكُمْ خَبَرٌ.
وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ حَصَلَ لَكُمْ؟ وَهَذَا إِبْهَامٌ فَلِذَلِكَ كَانَتْ كَلِمَةُ «مَا لَكَ» وَنَحْوُهَا فِي الِاسْتِفْهَامِ يَجِبُ أَنْ يُتْلَى بِجُمْلَةِ حَالٍ تُبَيِّنُ الْفِعْلَ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْهُ نَحْوَ: مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ [الصافات: ٩٢] وَنَحْوَ مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ [يُوسُفَ: ١١] وَقَدْ بُيِّنَتْ هُنَا بِمَا
فَإِذَا كَانَ الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةَ كَانَتِ الْعِبَادَةُ هِيَ الدُّعَاءَ لَا مَحَالَةَ.
فَالدُّعَاءُ يُطْلَقُ عَلَى سُؤَالِ الْعَبْدِ مِنَ اللَّهِ حَاجته وَهُوَ ظَاهر مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَخْلُو مِنْ دُعَاءِ الْمَعْبُودِ بِنِدَاءِ تَعْظِيمِهِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ،
وَهَذَا إِطْلَاقٌ أَقَلُّ شُيُوعًا مِنَ الْأَوَّلِ، وَيُرَادُ بِالْعِبَادَةِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ إِفْرَادُ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ، أَيِ الِاعْتِرَافُ بِوَحْدَانِيَّتِهِ.
وَالِاسْتِجَابَةُ تُطْلَقُ عَلَى إِعْطَاءِ الْمَسْئُولِ لِمَنْ سَأَلَهُ وَهُوَ أَشْهَرُ إِطْلَاقِهَا وَتُطْلَقُ عَلَى أَثَرِ قَبُولِ الْعِبَادَةِ بِمَغْفِرَةِ الشِّرْكِ السَّابِقِ وَبِحُصُولِ الثَّوَابِ عَلَى أَعْمَالِ الْإِيمَانِ فَإِفَادَةُ الْآيَةِ عَلَى مَعْنَى طَلَبِ الْحَاجَةِ مِنَ اللَّهِ يُنَاسِبُ تَرَتُّبَ الِاسْتِجَابَةِ عَلَى ذَلِكَ الطَّلَبِ مُعَلَّقًا عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ أَوْ عَلَى اسْتِيفَاءِ شُرُوطِ قَبُولِ الطَّلَبِ، وَإِعْطَاءِ خَيْرٍ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا، أَوْ إِعْطَاءِ عِوَضٍ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ. وَإِفَادَتِهَا عَلَى مَعْنَى إِفْرَادِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ، أَيْ بِأَنْ يَتُوبُوا عَنِ الشِّرْكِ، فَتَرَتُّبُ الِاسْتِجَابَةِ هُوَ قَبُولُ ذَلِكَ، فَإِنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ مِنَ الشِّرْكِ مَقْطُوعٌ بِهِ.
فَلَمَّا جَمَعَتِ الْآيَةُ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَ شُيُوعِ الْإِطْلَاقِ فِي كِلَيْهِمَا عَلِمْنَا أَنَّ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ مَا يُشْبِهُ الِاحْتِبَاكَ بِأَنْ صَرَّحَ بِالْمَعْنَى الْمَشْهُورِ، فِي كِلَا الْفِعْلَيْنِ ثُمَّ أَعْقَبَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الدُّعَاءُ وَالْعِبَادَةُ، وَأَنَّ الِاسْتِجَابَةَ أُرِيدَ بِهَا قَبُولُ الدُّعَاءِ وَحُصُولُ أَثَرِ الْعِبَادَةِ. فَفِعْلُ ادْعُونِي مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيْهِ بِطَرِيقَةِ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ.
وَفِعْلُ أَسْتَجِبْ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَالْقَرِينَةُ مَا عَلِمْتَ، وَذَلِكَ مِنَ الْإِيجَازِ وَالْكَلَامِ الْجَامِعِ.
وَتَعْرِيفُ اللَّهِ بِوَصْفِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ لِمَا فِي هَذَا الْوَصْفِ وَإِضَافَتِهِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وُجُوبِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ امْتِثَالَ مَا يَأْمُرُ بِهِ مَوْصُوفُهَا لِأَنَّ الْمَرْبُوبَ مَحْقُوقٌ بِالطَّاعَةِ لِرَبِّهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُعَرِّجْ مَعَ هَذَا الْوَصْفِ عَلَى تَذْكِيرٍ بِنِعْمَتِهِ وَلَا إِشَارَةٍ إِلَى كَمَالَاتِ ذَاتِهِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ
فَمَعْنَى غَيْرُ مُبِينٍ غَيْرُ مُحَقِّقِ النَّصْرِ. قَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ وَقَدْ بُشِّرَ بِوِلَادَةِ بِنْتٍ:
«وَاللَّهِ مَا هِيَ بِنِعْمَ الْوَلَدِ بَزُّهَا بُكَاءٌ وَنَصْرُهَا سَرِقَةٌ».
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا فَضْحُ مُعْتَقَدِهِمُ الْبَاطِلِ وَأَنَّهُمْ لَا يُحْسِنُونَ إِعْمَالَ الْفِكْرِ فِي مُعْتَقَدَاتِهِمْ وَإِلَّا لَكَانُوا حِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ بُنُوَّةً أَنْ لَا يَجْعَلُوا لَهُ بُنُوَّةَ الْإِنَاثِ وَهُمْ يَعُدُّونَ الْإِنَاثَ مَكْرُوهَاتٍ مُسْتَضْعَفَاتٍ. وَتَذْكِيرُ ضَمِيرِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ مَنْ الْمَوْصُولَةِ.
والْحِلْيَةِ: اسْمٌ لِمَا يُتَحَلَّى بِهِ، أَيْ يُتَزَيَّنُ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَتَسْتَخْرِجُون مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها [النَّحْل: ١٤].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَنْشَأُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ يُنَشَّؤُا بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الشِّينِ وَمَعْنَاهُ: يُعَوِّدُهُ عَلَى النَّشْأَةِ فِي الْحِلْية ويربّى.
[١٩]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ١٩]
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩)
عَطْفٌ عَلَى وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً [الزخرف: ١٥]، أُعِيدَ ذَلِكَ مَعَ تَقَدُّمِ مَا يُغْنِي عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ [الزخرف: ١٦] لِيُبْنَى عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ بَقَوْلِهِ:
أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ اسْتِقْرَاءً لِإِبْطَالِ مَقَالِهِمْ إِذْ أُبْطِلَ ابْتِدَاءً بِمُخَالَفَتِهِ لِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَبِمُخَالَفَتِهِ لِمَا يَجِبُ لِلَّهِ مِنَ الْكَمَالِ، فَكَمُلَ هُنَا إِبْطَالُهُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَنِدٍ لِدَلِيلِ الْحِسِّ.
وَجُمْلَةُ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ الرَّحْمَنِ صِفَةُ الْمَلَائِكَةِ. قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ عِنْدَ بِعَيْنٍ فَنُونٍ وَدَالٍ مَفْتُوحَةٍ وَالْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ تَشْرِيفٍ، أَيِ الَّذِينَ هُمْ مَعْدُودُونَ فِي حَضْرَةِ الْقُدْسِ الْمُقَدَّسَةِ بِتَقْدِيسِ اللَّهِ فَهُمْ يَتَلَقَّوْنَ الْأَمْرَ مِنَ اللَّهِ بِدُونِ وَسَاطَةٍ
وَهُمْ دَائِبُونَ عَلَى عِبَادَتِهِ، فَكَأَنَّهُمْ فِي حَضْرَةِ اللَّهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ [الْأَنْبِيَاء: ١٩]
وَ (الْأَدْبارَ) مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مفعول ثَان لولوا وَمَفْعُولُهُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ ضَمِيرِ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَوَلَّوْكُمُ الْأَدْبَارَ.
وأل لِلْعَهْدِ، أَيْ أَدْبَارَهُمْ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ إِنَّ أل فِي مَثْلِهِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهُوَ تَعْوِيضٌ مَعْنَوِيٌّ.
وَالتَّوْلِيَةُ: جَعْلُ الشَّيْءِ وَالِيًا، أَيْ لَجَعَلُوا ظُهُورَهُمْ تَلِيكُمْ، أَيِ ارْتَدُّوا إِلَى وَرَائِهِمْ فَصِرْتُمْ وَرَاءَهُمْ.
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ فَإِنَّ عَدَمَ وِجْدَانِ الْوَلِيِّ وَالنَّصِيرِ أَشُدُّ عَلَى الْمُنْهَزِمِ من انهزامه لِأَن حِينَ يَنْهَزِمُ قَدْ يَكُونُ لَهُ أَمَلٌ بِأَنْ يَسْتَنْصِرَ مَنْ يُنْجِدُهُ فَيَكُرُّ بِهِ عَلَى الَّذِينَ هَزَمُوهُ فَإِذَا لَمْ يَجِدْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا تَحَقَّقَ أَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَصِرٍ وَأَصْلُ الْكَلَامِ لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ وَمَا وَجَدُوا وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا.
وَالْوَلِيُّ: الْمُوَالِي وَالصَّدِيقُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ النَّصِيرِ إِذْ قَدْ يَكُونُ الْوَلِيُّ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى
إِيوَاءِ وَلَيِّهِ وَإِسْعَافِهِ.
وَالسُّنَّةُ: الطَّرِيقَةُ وَالْعَادَةُ. وَانْتَصَبَ سُنَّةَ اللَّهِ نِيَابَةً عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْآتِي بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ لِإِفَادَةِ مَعْنَى تَأْكِيدِ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ. وَالْمَعْنَى: سَنَّ اللَّهُ ذَلِكَ سُنَّةً، أَيْ جَعَلَهُ عَادَةً لَهُ يَنْصُرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ إِذَا كَانَتْ نِيَّةُ الْمُؤْمِنِينَ نَصْرَ دِينِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [مُحَمَّد: ٧] وَقَالَ: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ [الْحَج: ٤٠]، أَيْ أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ النَّصْرَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ تَكُونَ عَاقِبَةُ حُرُوبِهِمْ نَصْرًا وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُغْلَبُونَ فِي بَعْضِ الْمَوَاقِعِ كَمَا وَقَعَ يَوْمَ أُحُدٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الْقَصَص: ٨٣] وَقَالَ: وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى [طه: ١٣٢].
وَإِنَّمَا يَكُونُ كَمَالُ النَّصْرِ عَلَى حَسَبِ ضَرُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى حَسَبِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا الْوَعْدُ غَالِبًا لِلرَّسُولِ وَمَنْ مَعَهُ فَيَكُونُ النَّصْرُ تَامًّا فِي حَالَةِ الْخَطَرِ كَمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَيَكُونُ سِجَالًا فِي حَالَةِ السِّعَةِ كَمَا فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: «اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ لَا تَعْبُدُ فِي الْأَرْضِ»
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الْأَعْرَاف: ١٢٨]،

[سُورَة الْقَمَر (٥٤) : الْآيَات ١٠ إِلَى ١٤]

فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤)
تَفْرِيعٌ عَلَى كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [الْقَمَر: ٩] وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ.
وَالْمَغْلُوبُ مَجَازٌ، شَبَّهَ يَأْسَهُ مِنْ إِجَابَتِهِمْ لِدَعْوَتِهِ بِحَالِ الَّذِي قَاتَلَ أَوْ صَارَعَ فَغَلَبَهُ مُقَاتِلُهُ، وَقَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ نُوحٍ كَيْفَ سَلَكَ مَعَ قَوْمِهِ وَسَائِلَ الْإِقْنَاعِ بِقَبُولِ دَعْوَتِهِ فَأَعْيَتْهُ الْحِيَلُ.
وأَنِّي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى تَقْدِيرِ بَاءِ الْجَرِّ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ دَعَا بِأَنِّي مَغْلُوبٌ، أَيْ بِمَضْمُونِ هَذَا الْكَلَامِ فِي لُغَتِهِ.
وَحَذَفَ مُتَعَلِّقَ فَانْتَصِرْ لِلْإِيجَازِ وَلِلرَّعْيِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَالتَّقْدِيرُ: فَانْتَصِرْ لِي، أَيِ انْصُرْنِي.
وَجُمْلَةُ فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ إِلَى آخِرِهَا مُفَرَّعَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَدَعا رَبَّهُ، فَفُهِمَ مِنَ التَّفْرِيعِ أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ دَعْوَتَهُ وَأَنَّ إِرْسَالَ هَذِهِ الْمِيَاهِ عِقَابٌ لِقَوْمِ نُوحٍ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى:
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ الْمُحْكَمَةِ السَّرِيعَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَفَتَحْنا بِتَخْفِيفِ التَّاءِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِتَشْدِيدِهَا عَلَى الْمُبَالَغَةِ.
وَالْفَتْحُ بِمَعْنَى شِدَّةِ هُطُولِ الْمَطَرِ.
وَجُمْلَةُ فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ مُرَكَّبٌ تَمْثِيلِيٌ لِهَيْئَةِ انْدِفَاقِ الْأَمْطَارِ مِنَ الْجَوِّ بِهَيْئَةِ خُرُوجِ الْجَمَاعَاتِ مِنْ أَبْوَابِ الدَّارِ عَلَى طَرِيقَةِ:
وَسَالَتْ بِأَعْنَاقِ الْمَطِيِّ الْأَبَاطِحُ وَالْمُنْهَمِرُ: الْمُنْصَبُّ، أَيِ المصبوب يُقَال: عمر الْمَاءَ إِذَا صَبَّهُ، أَيْ نَازِلٌ بِقُوَّةٍ.
فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى إِعْدَادَ الْبَشَرِ لِقُبُولِ رِسَالَةِ هَذَا الرَّسُولِ الْعَظِيمِ الْمَوْعُود بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَوْدَعَهُمْ أَشْرَاطَهُ وَعَلَامَاتِهِ عَلَى لِسَانِ كُلِّ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ إِلَى النَّاسِ. قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمرَان: ٨١، ٨٢] أَيْ أَأَخَذْتُمْ إِصْرِي مِنْ أُمَمِكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ الَّذِي يَجِيءُ مُصَدِّقًا لِلرُّسِلِ. وَقَوله:
فَاشْهَدُوا [آل عمرَان: ٨١]، أَيْ عَلَى أُمَمِكُمْ وَسَيَجِيءُ مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ عِيسَى فِي الْإِنْجِيلِ مَا يَشْرَحُ هَذِهِ الشَّهَادَةَ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي خُصُوصِ مَا لَقَّنَهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [الْبَقَرَة: ١٢٩] الْآيَةَ.
وَأَوْصَى بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَصِيَّةً جَامِعَةً لِمَا تَقَدَّمَهَا مِنْ وَصَايَا الْأَنْبِيَاءِ وَأَجْمَلَهَا إِجْمَالًا عَلَى طَرِيقِ الرَّمْزِ. وَهُوَ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ أَهْلِ الْحِكْمَةِ وَالرِّسَالَةِ فِي غَيْرِ بَيَانِ الشَّرِيعَةِ، قَالَ السُّهْرَوَرْدِيُّ: فِي تِلْكَ حِكْمَةُ الْإِشْرَاقِ «وَكَلِمَاتُ الْأَوَّلِينَ مَرْمُوزَةٌ» فَقَالَ قُطْبُ الدِّينِ الشِّيرَازِيِّ فِي «شَرْحِهِ» :«كَانُوا يَرْمُزُونَ فِي كَلَامِهِمْ إِمَّا تَشْحِيذًا لِلْخَاطِرِ بِاسْتِكَدَادِ الْفِكر أَو تشبها بِالْبَارِي تَعَالَى وَأَصْحَابِ النَّوَامِيسِ فِيمَا أَتَوْا بِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ الْمَرْمُوزَةِ لِتَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى فَهْمِ الْجُمْهُورِ فَيَنْتَفِعَ الْخَوَاصُّ بِبَاطِنِهَا وَالْعَوَامُّ بِظَاهِرِهَا.
اه»
، أَيْ لِيَتَوَسَّمُهَا أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَيَتَحَصَّلَ لَهُمْ مِنْ مَجْمُوعِ تَفْصِيلِهَا شَمَائِلُ الرَّسُولِ الْمَوْعُودِ بِهِ وَلَا يَلْتَبِسَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ يَدَّعِي ذَلِكَ كَذِبًا. أَوْ يَدَّعِيهِ لَهُ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ كَذِبًا أَوِ اشْتِبَاهًا.
وَلَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ: اسْمُهُ أَحْمَدُ عَلَى مَا يَتَبَادَرُ مِنْ لَفْظِ اسْمٍ مِنْ أَنَّهُ الْعَلَمُ الْمَجْهُولُ لِلدِّلَالَةِ عَلَى ذَاتٍ مُعَيَّنَةٍ لِتُمَيِّزَهُ مِنْ بَيْنِ مَنْ لَا يُشَارِكُهَا فِي ذَلِكَ الِاسْمِ لِأَنَّ هَذَا الْحَمْلَ يَمْنَعُ مِنْهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ لِأَنَّ الرَّسُولَ الْمَوْعُودَ بِهِ لَمْ يَدْعُهُ النَّاسُ أَحْمَدُ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَدْعُو النبيء مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْمِ أَحْمَدَ لَا قبل نبوته وَلَا بَعْدَهَا وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَا وَقَعَ
فِي «الْمُوَطَّأ» و «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَن
إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ [الْمَائِدَة: ٩٠] إِذِ التَّقْدِيرُ: فَاجْتَنِبُوا شُرْبَ الْخَمْرِ وَالتَّقَامُرَ بِالْمَيْسِرِ وَعِبَادَةَ الْأَنْصَابِ وَالِاسْتِقْسَامَ بِالْأَزْلَامِ.
وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ هُوَ الْمُعَنْوَنُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِإِضَافَةِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ إِلَى الْأَعْيَانِ، أَوْ إِسْنَادِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ إِلَى الْأَعْيَانِ، وَلِوُضُوحِ دَلَالَةِ ذَلِكَ عَلَى الْمُرَادِ لَمْ يَعُدُّهُ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ مِنْ قَبِيلِ الْمُجْمَلِ خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَدْ يُتَوَسَّلُ مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّرْكِ إِلَى الْكِنَايَةِ عَنِ التَّحْقِيرِ وَقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ كَقَوْلِ كَبْشَةَ أُخْتِ عَمْرو بن معديكرب تُلْهَبُ أَخَاهَا عَمْرًا لِلْأَخْذِ بِثَأْرِ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ وَكَانَ قَدْ قُتِلَ:
فَدَتْ نَفْسِي وَمَا مَلَكَتْ يَمِينِي فَوَارِسَ صَدَقَتْ فِيهِمْ ظُنُونِي
وَدَعْ عَنْكَ عَمْرًا إِنَّ عَمْرًا مُسَالِمُ وَهَلْ بَطْنُ عَمْرٍو غَيْرُ شِبْرٍ لِمَطْعَمِ
وَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ ذَلِكَ الْأُسْلُوبِ أَيْ لَا تَكْتَرِثْ بِهِمْ فَإِنَّهُمْ دُونَ أَنْ تَصْرِفَ هِمَّتَكَ فِي شَأْنِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر: ٨].
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَذَرْهُمْ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِحُكْمِ الْقِتَالِ، وَلَا هُوَ مِنَ الْمُوَادَعَةِ وَلَا هُوَ مَنْسُوخٌ بِآيَاتِ السَّيْفِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ.
وَالْخَوْضُ: الْكَلَامُ الْكَثِيرُ، وَالْمُرَادُ خَوْضُهُمْ فِي الْقُرْآنِ وَشَأْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ.
وَاللَّعِبُ: الْهَزْلُ وَالْهُزْءُ وَهُوَ لَعِبُهُمْ فِي تَلَقِّي الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَخُرُوجِهِمْ عَنْ حُدُودِ التَّعَقُّلِ وَالْجِدِّ فِي الْأَمْرِ لِاسْتِطَارَةِ رُشْدِهِمْ حَسَدًا وَغَيْظًا وَحُنْقًا.
وَجَزْمُ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا فِي جَوَابِ الْأَمْرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي ارْتِبَاطِ خَوْضِهِمْ وَلَعِبِهِمْ بِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِهِمْ إِذْ مُقْتَضَى جَزْمِهِ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَدَّرَ: أَنْ تَذَرَهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا، أَيْ يَسْتَمِرُّوا فِي خَوْضِهِمْ وَلَعِبِهِمْ وَذَلِكَ لَا يَضِيرُكَ، وَمِثْلُ هَذَا الْجَزْمِ كَثِيرٌ نَحْوَ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [الجاثية: ١٤] وَنَحْوَ وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الْإِسْرَاء: ٥٣]. وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَالنَّحْوِيِّينَ يَجْعَلُ أَمْثَالَهُ مَجْزُومًا بِلَامِ الْأَمْرِ مُقَدَّرَةً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَقُولُ القَوْل وَهُوَ يفيت نُكْتَةَ الْمُبَالَغَةِ.
وَكُرِّرَ التَّأْكِيدُ مَعَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ لِلِاهْتِمَامِ بِتَحْقِيقِ كَوْنِهِمْ فِي جَحِيمٍ لَا يَطْمَعُوا فِي مُفَارَقَتِهِ.
والْأَبْرارَ: جَمْعُ بَرٍّ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَهُوَ التَّقِيُّ، وَهُوَ فِعْلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مُشْتَقٌّ مِنْ بَرَّ يَبَرُّ، وَلِفِعْلِ بَرَّ اسْمُ مَصْدَرٍ هُوَ بِرٌّ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مَصْدَرٌ قِيَاسِيٌّ بِفَتْحِ الْبَاءِ كَأَنَّهُمْ أَمَاتُوهُ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ بِالْبَرِّ وَهُوَ التَّقِيُّ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ التَّقِيُّ بَرًّا لِأَنَّهُ بَرَّ رَبَّهُ، أَيْ صَدَّقَهُ وَوَفَّى لَهُ بِمَا عَهِدَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى.
والْفُجَّارَ: جَمْعُ فَاجِرٍ، وَصِيغَةُ فُعَّالٍ تَطَّرِدُ فِي تَكْسِيرِ فَاعِلٍ الْمُذَكَّرِ الصَّحِيحِ اللَّامِ.
وَالْفَاجِرُ: الْمُتَّصِفُ بِالْفُجُورِ وَهُوَ ضِدُّ البرور.
وَالْمرَاد ب الْفُجَّارَ هُنَا: الْمُشْرِكُونَ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ لَا يَغِيبُونَ عَنِ النَّارِ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَذَلِكَ هُوَ الْخُلُودُ، وَنَحْنُ أَهْلَ السُّنَّةِ لَا نَعْتَقِدُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ لِغَيْرِ الْكَافِرِ. فَأَمَّا عُصَاةُ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَخْلُدُونَ فِي النَّار وَإِلَّا لبطلت فَائِدَةُ الْإِيمَانِ.
وَالنَّعِيمُ: اسْمُ مَا يَنْعَمُ بِهِ الْإِنْسَانُ.
وَالظَّرْفِيَّةُ مِنْ قَوْلِهِ: «فِي نَعِيمٍ» مَجَازِيَّةٌ لِأَنَّ النَّعِيمَ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ لَا يَكُونُ ظَرْفًا حَقِيقَةً، شُبِّهَ دَوَامُ التَّنَعُّمِ لَهُمْ بِإِحَاطَةِ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ بِحَيْثُ لَا يُفَارِقُهُ.
وَأَمَّا ظَرْفِيَّةُ قَوْلِهِ: لَفِي جَحِيمٍ فَهِيَ حَقِيقِيَّةٌ.
وَالْجَحِيمُ صَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى جَهَنَّمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ وَفِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ.
وَجُمْلَةُ يَصْلَوْنَها صِفَةٌ لِ جَحِيمٍ، أَوْ حَالٌ مِنَ الْفُجَّارَ، أَوْ حَالٌ مِنَ الْجَحِيمِ، وَصَلْيُ النَّارِ: مَسُّ حَرِّهَا لِلْجِسْمِ، يُقَالُ: صَلِيَ النَّارَ، إِذَا أَحَسَّ بِحَرِّهَا، وَحَقِيقَتُهُ: الْإِحْسَاسُ بِحَرِّ النَّارِ الْمُؤْلِمِ، فَإِذَا أُرِيدَ التَّدَفِّي قِيلَ: اصْطَلَى.
ويَوْمَ الدِّينِ ظَرْفٌ لِ يَصْلَوْنَها وَذُكِرَ لِبَيَانِ: أَنَّهُمْ يَصْلَوْنَهَا جَزَاءً عَنْ فُجُورِهِمْ لِأَنَّ الدِّينَ الْجَزَاءُ وَيَوْمَ الدِّينِ يَوْمُ الْجَزَاءِ وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.


الصفحة التالية
Icon