أَوْ يَطْرَحَ، أَوْ يَقْسِمَ، فَلَا إِعْرَابَ لَهَا مَعَ مَا يَلِيهَا، وَلَا مَعْنَى لِلتَّقْدِيرِ بِالْمُؤَلَّفِ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ الْإِعْلَامُ بِمَقْصُودٍ لِظُهُورِهِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مَا يَحْصُلُ عِنْدَ تَعْدَادِهَا مِنَ التَّعْرِيضِ لِأَنَّ الَّذِي يَتَهَجَّى الْحُرُوفَ لِمَنْ يُنَافِي حَالُهُ أَنْ يُقْصَدَ تَعْلِيمُهُ يَتَعَيَّنُ مِنَ الْمَقَامِ أَنَّهُ يَقْصِدُ التَّعْرِيضَ. وَإِذَا قَدَّرْتَهَا أَسْمَاءً لِلسُّوَرِ أَوْ لِلْقُرْآنِ أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى مُقْسَمًا بِهَا فَقِيلَ إِنَّ لَهَا أَحْكَامًا مَعَ مَا يَلِيهَا مِنَ الْإِعْرَابِ بَعْضُهَا مُحْتَاجٌ لِلتَّقْدِيرِ الْكَثِيرِ، فَدَعْ عَنْكَ الْإِطَالَةَ بِهَا فَإِنَّ الزَّمَانَ قَصِيرٌ.
وَهَاتِهِ الْفَوَاتِحُ قُرْآنٌ لَا مَحَالَةَ وَلَكِنِ اخْتُلِفَ فِي أَنَّهَا آيَاتٌ مُسْتَقِلَّةٌ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِآيَاتٍ مُسْتَقِلَّةٍ بَلْ هِيَ أَجْزَاءٌ مِنَ الْآيَاتِ الْمُوَالِيَةِ لَهَا عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ مَذَاهِبِ جُمْهُورِ
الْقُرَّاءِ. وَرُوِيَ عَنْ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ أَنَّ بَعْضَهَا عَدُّوهُ آيَاتٍ مُسْتَقِلَّةً وَبَعْضُهَا لَمْ يَعُدُّوهُ وَجَعَلُوهُ جُزْءَ آيَةٍ مَعَ مَا يَلِيهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ التَّفْصِيلِ حَتَّى قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِنَّ هَذَا لَا دَخْلَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ. وَالصَّحِيحُ عَنِ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ جَمِيعَهَا آيَاتٍ وَهُوَ اللَّائِقُ بِأَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ إِذِ التَّفْصِيلُ تَحَكُّمٌ لِأَنَّ الدَّلِيلَ مَفْقُودٌ. وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنَّهَا آيَاتٌ لِأَنَّ لَهَا دَلَالَةً تَعْرِيضِيَّةً كِنَائِيَّةً إِذِ الْمَقْصُودُ إِظْهَارُ عَجْزِهِمْ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهِيَ تُطَابِقُ مُقْتَضَى الْحَالِ مَعَ مَا يَعْقُبُهَا مِنَ الْكَلَامِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي دَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَى مَعْنًى كِنَائِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعْنًى صَرِيحٌ بَلْ تُعْتَبَرُ دَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ فِي هَذِهِ الْحُرُوفِ تَقْدِيرِيَّةً إِنْ قُلْنَا بِاشْتِرَاطِ مُلَازَمَةِ دَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ لِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ.
وَيَدُلُّ لِإِجْرَاءِ السَّلَفِ حُكْمَ أَجْزَاءِ الْآيَاتِ عَلَيْهَا أَنهم يقرأونها إِذا قرأوا الْآيَةَ الْمُتَّصِلَةَ بِهَا، فَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ فِي ذِكْرِ سَبَبِ نُزُولِ سُورَةِ الرُّومِ فَنَزَلَتْ: الم غُلِبَتِ الرُّومُ [الرُّومُ: ١، ٢]، وَفِيهِ أَيْضًا: «فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَصِيحُ فِي نَوَاحِي مَكَّةَ الم غُلِبَتِ الرُّومُ وَفِي «سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ» مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ عَنْهُ: «فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ: حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حَتَّى بَلَغَ قَوْلَهُ: فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: ١- ١٣] الْحَدِيثَ.
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ اخْتُلِفَ فِي إِجْزَاءِ قِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ الَّذِينَ يَكْتَفُونَ فِي قِرَاءَةِ السُّورَةِ مَعَ الْفَاتِحَةِ بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلَ أَصْحَابِ أبي حنيفَة.
ابْنِ السِّكِّيتِ: الْحَجُّ كَثْرَةُ الِاخْتِلَافِ وَالتَّرَدُّدِ يُقَالُ حَجَّ بَنُو فُلَانٍ فُلَانًا أَطَالُوا الِاخْتِلَافَ إِلَيْهِ وَفِي «الْأَسَاسِ» : فُلَانٌ تَحُجُّهُ الرِّفَاقُ أَي تقصده اهـ. فَجَعَلَهُ مُفِيدًا بِقَصْدٍ مِنْ جَمَاعَةٍ كَقَوْلِ الْمُخَبَّلِ السَّعْدِيِّ وَاسْمُهُ الرَّبِيعُ:

وَأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرَقَانِ الْمُزَعْفَرَا
وَالْحَجُّ مِنْ أَشْهُرِ الْعِبَادَاتِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَهُوَ مِمَّا وَرِثُوهُ عَنْ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا حَكَى اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الْحَج: ٢٧] الْآيَةَ حَتَّى قِيلَ: إِنَّ الْعَرَبَ هُمْ أَقْدَمُ أُمَّةٍ عُرِفَتْ عِنْدَهَا عَادَةُ الْحَجِّ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ زِيَارَةَ الْكَعْبَةِ سَعْيٌ لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ النَّابِغَةُ يَصِفُ الْحَجِيجَ وَرَوَاحِلَهُمْ:
عَلَيْهِنَّ شُعْثٌ عَامِدُونَ لِرَبِّهِمْ فَهُنَّ كَأَطْرَافِ الْحَنِيِّ خَوَاشِعُ
وَكَانُوا يَتَجَرَّدُونَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ مِنْ مَخِيطِ الثِّيَابِ وَلَا يَمَسُّونَ الطِّيبَ وَلَا يَقْرَبُونَ النِّسَاءَ وَلَا يَصْطَادُونَ، وَكَانَ الْحَجُّ طَوَافًا بِالْبَيْتِ وَسَعْيًا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَوُقُوفًا بِعَرَفَةَ وَنَحْرًا بِمِنًى. وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ لَا يَأْكُلُ مُدَّةَ الْحَجِّ أَقْطًا وَلَا سَمْنًا- أَيْ لِأَنَّهُ أَكْلُ الْمُتَرَفِّهِينَ- وَلَا يَسْتَظِلُّ بِسَقْفٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحُجُّ مُتَجَرِّدًا مِنَ الثِّيَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْتَظِلُّ مِنَ الشَّمْسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحُجُّ صَامِتًا لَا يَتَكَلَّمُ، وَلَا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَهُمْ فِي الْحَجِّ مَنَاسِكُ وَأَحْكَامٌ ذَكَرْنَاهَا فِي «تَارِيخِ الْعَرَبِ».
وَكَانَ لِلْأُمَمِ الْمُعَاصِرَةِ لِلْعَرَبِ حُجُوجٌ كَثِيرَةٌ، وَأَشْهَرُ الْأُمَمِ فِي ذَلِكَ الْيَهُودُ فَقَدْ كَانُوا يَحُجُّونَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ تَابُوتُ الْعَهْدِ أَيْ إِلَى هَيْكَلِ (أُورْشَلِيمَ) وَهُوَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي السَّنَةِ لِيَذْبَحُوا هُنَاكَ فَإِنَّ الْقَرَابِينَ لَا تَصِحُّ إِلَّا هُنَاكَ وَمِنْ هَذِهِ الْمَرَّاتِ مَرَّةٌ فِي عِيدِ الْفِصْحِ.
وَاتَّخَذَتِ النَّصَارَى زِيَارَاتٍ كَثِيرَةٍ، حَجًّا، أَشْهَرُهَا زِيَارَاتُهُمْ لِمَنَازِلِ وِلَادَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَزِيَارَةِ (أُورْشَلِيمَ)، وَكَذَا زِيَارَةُ قَبْرِ (مَارْبُولِسْ) وَقَبْرِ (مَارْبُطْرُسْ) بِرُومَةَ، وَمِنْ حَجِّ النَّصَارَى الَّذِي لَا يَعْرِفْهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ أَقْدَمُ حَجِّهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ يَحُجُّونَ إِلَى مَدِينَةِ (عَسْقَلَانَ) مِنْ بِلَادِ السَّوَاحِلِ الشَّامِيَّةِ، وَالْمَظْنُونُ أَنَّ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا حَجَّهَا هُمْ نَصَارَى الشَّامِ مِنَ الْغَسَاسِنَةِ لِقَصْدِ صَرْفِ النَّاسِ عَنْ زِيَارَةِ الْكَعْبَةِ وَقَدْ ذَكَرَهُ سُحَيْمٌ عَبْدُ بَنِي الْحِسْحَاسِ وَهُوَ مِنَ الْمُخَضْرَمِينَ فِي قَوْلِهِ يَصِفُ وُحُوشًا جَرَفَهَا السَّيْلُ:
: «اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَإِنَّا نَرَى وَجْهَهُ وَنَصِيحَتَهُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ»
. فَجَعَلَ هَذَا الرَّجُلُ الِانْحِيَازَ إِلَى الْمُنَافِقِينَ عَلَامَةً عَلَى النِّفَاقِ لَوْلَا شَهَادَةُ الرَّسُولِ لِمَالِكٍ بِالْإِيمَانِ أَيْ فِي قَلْبِهِ مَعَ إِظْهَارِهِ بِشَهَادَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: الرُّكُونُ إِلَى طَوَائِفِ الْكُفْرِ وَمُظَاهَرَتُهُمْ لِأَجْلِ قَرَابَةٍ وَمَحَبَّةٍ دُونَ الْمَيْلِ إِلَى دِينِهِمْ، فِي وَقْتٍ يَكُونُ فِيهِ الْكُفَّارُ مُتَجَاهِرِينَ بِعَدَاوَةِ الْمُسْلِمِينَ، والاستهزاء بهم، وَإِذا هم كَمَا كَانَ مُعْظَمُ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ، عِنْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ مَعَ عَدَمِ الِانْقِطَاعِ عَنْ مَوَدَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذِهِ حَالَةٌ لَا تُوجِبُ كُفْرَ صَاحِبِهَا، إلّا أنّ ارتكبها إِثْمٌ عَظِيمٌ، لِأَنَّ صَاحِبَهَا يُوشِكُ أَنْ يُوَالِيَهُمْ عَلَى مَضَرَّةِ الْإِسْلَامِ، عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْوَاجِبِ إِظْهَارُ الْحَمِيَّةِ لِلْإِسْلَامِ، وَالْغَيْرَةِ عَلَيْهِ، كَمَا قل الْعَتَّابِيُّ:
كَأَنَّ الْوُحُوشَ بِهِ عَسْقَلَا نُ صَادَفْنَ فِي قَرْنِ حَجٍّ ذِيَافَا
تَوَدُّ عَدُوِّي ثُمَّ تَزْعُمُ أَنَّنِي صَدِيقُكَ إِنَّ الرَّأْيَ عَنْكَ لَعَازِبُ
وَفِي مِثْلِهَا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ [الْمَائِدَة: ٩] قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ» وَفِي مِثْلِ ذَلِكَ وَرَدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ [الممتحنة: ٩] الْآيَةَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا [آل عمرَان: ١١٨] الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ
كَانَ، بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْيَهُودِ، جِوَارٌ وَحِلْفٌ فِي الْجَاهِلِيَّة، فداوموا عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ فَكَانُوا يَأْنَسُونَ بِهِمْ وَيَسْتَنِيمُونَ إِلَيْهِمْ، وَمِنْهُمْ أَصْحَابُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَأَبِي رَافِعِ ابْن أَبِي الْحُقَيْقِ، وَكَانَا يُؤْذِيَانِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: كَذَلِكَ، بِدُونِ أَنْ يَكُونَ طَوَائِفُ الْكُفَّارِ مُتَجَاهِرِينَ بِبُغْضِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا بِأَذَاهُمْ، كَمَا كَانَ نَصَارَى الْعَرَبِ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا، الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى [الْمَائِدَة: ٨٢] وَكَذَلِكَ كَانَ حَالُ الْحَبَشَةِ فَإِنَّهُمْ حَمَوُا الْمُؤْمِنِينَ، وَآوَوْهُمْ، قَالَ الْفَخْرُ: وَهَذِهِ وَاسِطَةٌ، وَهِيَ لَا تُوجِبُ الْكُفْرَ، إِلَّا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، إِذْ قَدْ يَجُرُّ إِلَى اسْتِحْسَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَانْطِلَاءِ مَكَائِدِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: مُوَالَاةُ طَائِفَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ لِأَجْلِ الْإِضْرَارِ بِطَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ الِانْتِصَارِ بِالْكُفَّارِ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ أَحْكَامُهَا مُتَفَاوِتَةٌ، فَقَدْ قَالَ
فِي مَعْنَيَيْهِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالْآيَةُ ابْتِدَاءُ تَشْرِيعٍ وَهُوَ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَعَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ يَكُونُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الْأَرْحَامِ أَيِ الَّتِي يَسْأَلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِهَا، وَذَلِكَ قَوْلُ الْعَرَبِ: «نَاشَدْتُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ» كَمَا رُوِيَ فِي «الصَّحِيحِ» :
أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَرَأَ عَلَى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ سُورَةَ فُصِّلَتْ حَتَّى بَلَغَ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: ١٣] فَأَخَذَتْ عُتْبَةَ رَهْبَةٌ وَقَالَ: نَاشَدْتُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَحْمَلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَإِنْ أَبَاهُ جُمْهُورُ النُّحَاةِ اسْتِعْظَامًا لِعَطْفِ الِاسْمِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِدُونِ إِعَادَةِ الْجَارِّ، حَتَّى قَالَ الْمُبَرِّدُ: «لَوْ قَرَأَ الْإِمَامُ بِهَاتِهِ الْقِرَاءَةِ لَأَخَذْتُ نَعْلِي وَخَرَجْتُ مِنَ الصَّلَاةِ» وَهَذَا مِنْ ضِيقِ الْعَطَنِ وَغُرُورٍ بِأَنَّ الْعَرَبِيَّةَ مُنْحَصِرَةٌ فِيمَا يَعْلَمُهُ، وَلَقَدْ أَصَابَ ابْنُ مَالِكٌ فِي تَجْوِيزِهِ الْعَطْفَ عَلَى الْمَجْرُورِ بِدُونِ إِعَادَةِ الْجَارِّ، فَتَكُونُ تَعْرِيضًا بِعَوَائِدِ الْجَاهِلِيَّةِ، إِذْ يَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ بِالرَّحِمِ وَأَوَاصِرِ الْقَرَابَةِ ثُمَّ يُهْمِلُونَ حُقُوقَهَا وَلَا يَصِلُونَهَا، وَيَعْتَدُونَ عَلَى الْأَيْتَامِ مِنْ إِخْوَتِهِمْ وَأَبْنَاءِ أَعْمَامِهِمْ، فَنَاقَضَتْ أَفْعَالُهُمْ أَقْوَالَهُمْ، وَأَيْضًا هم قد آذَوُا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَلَمُوهُ، وَهُوَ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِمْ وَأَحَقُّ النَّاسِ بِصِلَتِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَة: ١٢٨] وَقَالَ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمرَان: ١٦٤]. وَقَالَ: قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: ٢٣]. وَعَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ تَتِمَّةً لِمَعْنَى الَّتِي قبلهَا.
[٢]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٢]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢)
مُنَاسَبَةُ عَطْفِ الْأَمْرِ عَلَى مَا قَبْلَهُ أَنَّهُ مِنْ فُرُوعِ تَقْوَى اللَّهِ فِي حُقُوقِ الْأَرْحَامِ، لِأَنَّ الْمُتَصَرِّفِينَ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ هُمْ أَهْلُ قَرَابَتِهِمْ، أَوْ مِنْ فُرُوعِ تَقْوَى اللَّهِ الَّذِي يَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَبِالْأَرْحَامِ فَيَجْعَلُونَ لِلْأَرْحَامِ مِنَ الْحَظِّ مَا جَعَلَهُمْ يُقْسِمُونَ بِهَا كَمَا يُقْسِمُونَ بِاللَّهِ. وَشَيْءٌ هَذَا شَأْنُهُ حَقِيقٌ بِأَنْ تُرَاعَى أَوَاصِرُهُ وَوَشَائِجُهُ وَهُمْ لَمْ يَرْقُبُوا ذَلِكَ.
وَهَذَا مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً... [النِّسَاء: ١].
التَّرْغِيبِ فِي الْإِحْسَانِ وَالتَّقْوَى.
ثُمَّ عَذَرَ النَّاسَ فِي شَأْنِ النِّسَاءِ فَقَالَ: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ أَيْ تَمَامَ الْعَدْلِ. وَجَاءَ بِ (لَنْ) لِلْمُبَالَغَةِ فِي النَّفْيِ، لِأَنَّ أَمْرَ النِّسَاءِ يُغَالِبُ النَّفْسَ، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ حُسْنَ الْمَرْأَةِ وَخُلُقَهَا مُؤَثِّرًا أَشَدَّ التَّأْثِيرِ، فَرُبَّ امْرَأَةٍ لَبِيبَةٍ خَفِيفَةِ الرُّوحِ، وَأُخْرَى ثَقِيلَةٌ حَمْقَاءُ، فَتَفَاوُتُهُنَّ فِي ذَلِكَ وَخُلُوُّ بَعْضِهِنَّ مِنْهُ يُؤَثِّرُ لَا مَحَالَةَ تَفَاوُتًا فِي مَحَبَّةِ الزَّوْجِ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ، وَلَوْ كَانَ حَرِيصًا عَلَى إِظْهَارِ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، فَلِذَلِكَ قَالَ وَلَوْ حَرَصْتُمْ، وَأَقَامَ اللَّهُ مِيزَانَ الْعَدْلِ بِقَوْلِهِ: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ، أَيْ لَا يُفَرِّطُ أَحَدُكُمْ بِإِظْهَارِ الْمَيْلِ إِلَى إِحْدَاهُنَّ أَشَدَّ الْمَيْلِ حَتَّى يَسُوءَ الْأُخْرَى بِحَيْثُ تَصِيرُ الْأُخْرَى كَالْمُعَلَّقَةِ. فَظَهَرَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ تَمِيلُوا مُقَدَّرٌ بِإِحْدَاهُنَّ، وأنّ ضمير فَتَذَرُوها الْمَنْصُوبَ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ الْمُتَعَلِّقِ الْمَحْذُوفِ بِالْقَرِينَةِ، وَهُوَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ.
وَالْمُعَلَّقَةُ: هِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي يَهْجُرُهَا زَوْجُهَا هَجْرًا طَوِيلًا، فَلَا هِيَ مُطَلَّقَةٌ وَلَا هِيَ زَوْجَةٌ، وَفِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ «زَوْجِيَ الْعَشَنَّقُ إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ»، وَقَالَتِ ابْنَةُ الْحُمَارِسِ:
إِنْ هِيَ إِلَّا حِظَةٌ أَوْ تَطْلِيقُ أَوْ صَلَفٌ أَوْ بَيْنَ ذَاكَ تَعْلِيقُ (١)
وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا إِلَى قَوْلِهِ: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ عَلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ أَمْرٌ قَهْرِيٌّ، وَأَنَّ لِلتَّعَلُّقِ بِالْمَرْأَةِ أَسْبَابًا تُوجِبُهُ قَدْ لَا تَتَوَفَّرُ فِي بَعْضِ النِّسَاءِ، فَلَا يُكَلَّفُ الزَّوْجُ بِمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ مِنَ الْحُبِّ وَالِاسْتِحْسَانِ، وَلَكِنَّ مِنَ الْحُبِّ حَظًّا هُوَ اخْتِيَارِيٌّ، وَهُوَ أَنْ يُرَوِّضَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ عَلَى الْإِحْسَانِ لِامْرَأَتِهِ، وَتَحَمُّلِ مَا لَا يُلَائِمُهُ مِنْ خُلُقِهَا أَوْ أَخْلَاقِهَا مَا اسْتَطَاعَ، وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ لَهَا، حَتَّى يُحَصِّلَ مِنَ الإِلْفِ بِهَا وَالْحُنُوِّ عَلَيْهَا اخْتِيَارًا بِطُولِ التَّكَرُّرِ وَالتَّعَوُّدِ. مَا يَقُومُ مَقَامَ الْمَيْلِ الطَّبِيعِيِّ. فَذَلِكَ مِنَ الْمَيْلِ إِلَيْهَا الْمُوصَى بِهِ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ، أَيْ إِلَى إِحْدَاهُنَّ أَوْ عَنْ إِحْدَاهُنَّ.
_________
(١) هَذَا الرجز مَنْسُوب لامْرَأَة يُقَال لَهَا ابْنة الحمارس (بِضَم الْحَاء وَتَخْفِيف الْمِيم) البكرية وَفِي رِوَايَة:
إِن هِيَ إِلَّا حظوة، وَهِي رِوَايَة إصْلَاح الْمنطق، والحظة (بِكَسْر الْحَاء) والحظوة (بِضَم الْحَاء وَكسرهَا) المكانة وَالْقَبُول عِنْد الزَّوْج. والصلف ضدها. وَالتَّعْلِيق الهجران المستمر. وَالضَّمِير فِي قَوْلهَا: إِن هِيَ، يعود إِلَى الْمَرْأَة. وَمعنى الْبَيْت أَنَّهَا إِذا تزوجت لَا تَدْرِي أتكون ذَات حظوة عِنْد الزَّوْج أَو يطلقهَا أَو يكرهها أَو يعلقها.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَة: ٤٤] انْتِقَالًا إِلَى أَحْوَالِ النَّصَارَى لِقَوْلِهِ: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ، وَلِبَيَانِ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ إِعْرَاضِ الْيَهُودِ عَنِ الْأَحْكَامِ الَّتِي كَتَبَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ نَوْعَيْنِ رَاجِعَيْنِ إِلَى تَحْرِيفِهِمْ أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ: أَحَدُهُمَا: مَا حَرَّفُوهُ وَتَرَدَّدُوا فِيهِ بَعْدَ أَنْ حَرَّفُوهُ فَشَكُّوا فِي آخِرِ الْأَمْرِ وَالْتَجَئُوا إِلَى تَحْكِيمِ الرَّسُولِ وَثَانِيهِمَا:
مَا حَرَّفُوهُ وَأَعْرَضُوا عَنْ حُكْمِهِ وَلَمْ يَتَحَرَّجُوا مِنْهُ وَهُوَ إِبْطَالُ أَحْكَامِ الْقِصَاصِ. وَهَذَا نَوْعٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ بِتَكْذِيبِهِمْ لِمَا جَاءَ بِهِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَالتَّقْفِيَةُ مَصْدَرُ قَفَّاهُ إِذَا جَعَلَهُ يَقْفُوهُ، أَيْ يَأْتِي بَعْدَهُ. وَفِعْلُهُ الْمُجَرَّدُ قَفَا- بِتَخْفِيفِ الْفَاءِ- وَمَعْنَى قَفَاهُ سَارَ نَحْوَ قَفَاهُ، وَالْقَفَا الظَّهْرُ، أَيْ سَارَ وَرَاءَهُ. فالتقفية الإتباع متشقّة مِنَ الْقَفَا، وَنَظِيره: توجّه مشتقّا مِنَ الْوَجْهِ، وَتَعَقَّبَ مِنَ الْعقب. وَفعل قفّى الْمُشَدَّدُ مُضَاعَفُ قَفَا الْمُخَفَّفِ، وَالْأَصْلُ فِي التَّضْعِيفِ أَنْ يُفِيدَ تَعْدِيَةَ الْفِعْلِ إِلَى مَفْعُولٍ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا إِلَيْهِ، فَإِذَا جُعِلَ تَضْعِيفُ قَفَّيْنا هُنَا مُعَدِّيًا لِلْفِعْلِ اقْتَضَى مَفْعُولَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: الَّذِي كَانَ مَفْعُولًا قَبْلَ التَّضْعِيفِ، وَثَانِيهِمَا: الَّذِي عُدِّيَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ، وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ بَابِ كَسَا فَيَكُونُ حَقُّ التَّرْكِيبِ: وَقَفَّيْنَاهُمْ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، وَيَكُونُ إِدْخَالُ الْبَاءِ فِي بِعِيسَى لِلتَّأْكِيدِ، مثل وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: ٦]، وَإِذَا جُعِلَ التَّضْعِيفُ لِغَيْرِ التَّعْدِيَةِ بَلْ لِمُجَرَّدِ تَكْرِيرِ وُقُوعِ الْفِعْلِ، مِثْلَ جَوَّلْتُ وَطَوَّفْتُ كَانَ حَقُّ التَّرْكِيبِ: وَقَفَّيْنَاهُمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي جَرَى كَلَامُ «الْكَشَّافِ» فَجَعَلَ بَاءَ بِعِيسَى لِلتَّعْدِيَةِ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ مَفْعُولُ قَفَّيْنا مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلى آثارِهِمْ لِأَنَّ فِيهِ ضَمِيرَ الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ، هَذَا تَحْقِيقُ كَلَامِهِ وَسَلَّمَهُ أَصْحَابُ حَوَاشِيهِ.
وَقَوْلُهُ عَلى آثارِهِمْ تَأْكِيدٌ لِمَدْلُولِ فِعْلِ قَفَّيْنا وَإِفَادَةُ سُرْعَةِ التَّقْفِيَةِ.
وَقَوْلُهُ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ آنِفًا فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَفِي الْآيَةِ تَنْبِيهٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الرِّفْقِ بِالْحَيَوَانِ فَإِنَّ الْإِخْبَارَ بِأَنَّهَا أُمَمٌ أَمْثَالُنَا تَنْبِيهٌ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي الْمَخْلُوقِيَّةِ وَصِفَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ كُلِّهَا. وَفِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ إِلْقَاءً لِلْحَذَرِ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهَا بِمَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ مِنْ تَعْذِيبِهَا وَإِذَا كَانَ يُقْتَصُّ لِبَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ وَهِيَ غَيْرُ مُكَلَّفَةٍ، فَالِاقْتِصَاصُ مِنَ الْإِنْسَانِ لَهَا أَوْلَى بِالْعَدْلِ. وَقَدْ
ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ اللَّهَ شَكَرَ لِلَّذِي سَقَى الْكَلْبَ الْعَطْشَانَ، وَأَنَّ اللَّهَ أَدْخَلَ امْرَأَةً النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا فَمَاتَتْ جوعا.
[٣٩]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٣٩]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ جُمْلَةُ: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ. وَالْمَعْنَى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلَمْ يَسْتَمِعُوا لَهَا، أَيْ لَا يَسْتَجِيبُونَ بِمَنْزِلَةِ صُمٍّ وَبُكْمٍ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يَهْتَدُونَ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً وَالْوَاوُ اسْتِئْنَافِيَّةً، أَيْ عَاطِفَةً كَلَامًا مُبْتَدَأً لَيْسَ مُرْتَبِطًا بِجُمْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِق ولكنّه ناشيء عَنْ جَمِيعِ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ. فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا ذَكَرَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَآثَارِ قُدْرَتِهِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُعَرِّفَ النَّاسَ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَيَدُلَّهُمْ عَلَى آيَاتِهِ وَصِدْقِ رَسُولِهِ أَعْقَبَهُ بِبَيَانِ أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ عَنِ الِاهْتِدَاءِ لِذَلِكَ، وَعَنِ التَّأَمُّلِ وَالتَّفْكِيرِ
فِيهِ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَمُنَاسِبَةُ وُقُوعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَقِبَ جُمْلَةِ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ [الْأَنْعَام: ٣٨] الْآيَةَ قَدْ تَعَرَّضْنَا إِلَيْهَا آنِفًا.
وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَذَّبُوا الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى أَحْوَالِهِمْ عُمُومًا وَخُصُوصًا.
وَقَوْلُهُ: صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ فِي ضَلَالِ عَقَائِدِهِمْ وَالِابْتِعَادِ عَنِ الِاهْتِدَاءِ بِحَالِ قَوْمٍ صُمٍّ وَبُكْمٍ فِي ظَلَامٍ. فَالصَّمَمُ يَمْنَعُهُمْ مِنْ تَلَقِّي هُدَى مَنْ يَهْدِيهِمْ،
وَالْبَيِّنَةُ: الْحُجَّةُ عَلَى صِدْقِ الدَّعْوَى، فَهِيَ تَرَادُفُ الْآيَةَ، وَقَدْ عُبِّرَ بِهَا عَنِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةُ: ١].
وهذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى النَّاقَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ آيَةً لِصِدْقِ صَالِحٍ وَلَمَّا كَانَتِ النَّاقَةُ هِيَ الْبَيِّنَةُ كَانَتْ جُمْلَةُ: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً مُنَزَّلَةً مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا مَنْزِلَةَ عَطْفِ الْبَيَانِ.
وَقَوْلُهُ: آيَةً حَالٌ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لِأَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِيهِ مَعْنَى الْفِعْلِ، وَاقْتِرَانُهُ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ يُقَوِّي شَبَهَهُ بِالْفِعْلِ، فَلِذَلِكَ يَكُونُ عَامِلًا فِي الْحَالِ بِالِاتِّفَاقِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٥٨]، وَسَنَذْكُرُ قِصَّةً فِي هَذَا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً فِي سُورَةِ هُودٍ [٧٢].
وَأُكِّدَتْ جُمْلَةُ: قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ، وَزَادَتْ عَلَى التَّأْكِيدِ إِفَادَةُ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ لَكُمْ مِنَ التَّخْصِيصِ وَتَثْبِيتِ أَنَّهَا آيَةٌ، وَذَلِكَ مَعْنَى اللَّامِ، أَيْ هِيَ آيَةٌ مُقْنِعَةٌ لَكُمْ وَمَجْعُولَةٌ لِأَجْلِكُمْ.
فَقَوْلُهُ: لَكُمْ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ آيَةً، وَأَصْلُهُ صِفَةٌ فَلَمَّا قُدِّمَ عَلَى مَوْصُوفِهِ صَارَ حَالًا، وَتَقْدِيمُهُ لِلِاهْتِمَامِ بِأَنَّهَا كَافِيَةٌ لَهُمْ عَلَى مَا فِيهِمْ مِنْ عِنَادٍ.
وَإِضَافَةُ نَاقَةٍ إِلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى تَشْرِيفٌ لَهَا لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا وَعَدَمِ التَّعَرُّضِ لَهَا بِسُوءٍ، وَعَظَّمَ حُرْمَتَهَا، كَمَا يُقَالُ: الْكَعْبَةُ بَيْتُ اللَّهِ، أَوْ لِأَنَّهَا وُجِدَتْ بِكَيْفِيَّةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ، فَلِانْتِفَاءِ مَا الشَّأْنُ أَنْ تُضَافَ إِلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ وُجُودِ أَمْثَالِهَا أُضِيفَتْ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ كَمَا قِيلَ: عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَلِمَةُ اللَّهِ.
وَأَمَّا إِضَافَةُ أَرْضِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ لِلنَّاقَةِ حَقًّا فِي الْأَكْلِ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ لِأَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَتِلْكَ النَّاقَةُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ فَلَهَا الْحَقُّ
ضمير أَيُشْرِكُونَ [الْأَعْرَاف:
١٩١] فَبَعْدَ أَنْ عَجَّبَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ أَنْبَأَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ الدَّعْوَةَ إِلَى الْهُدَى.
وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْغَالِبِ مِنْهُمْ، وَإِلَّا فَقَدْ آمَنَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ حِينٍ وَتَلَاحَقُوا بِالْإِيمَانِ، عَدَا مَنْ مَاتُوا عَلَى الشِّرْكِ.
وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْأَلْيَقُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَسْمَعُوا [الْأَعْرَاف: ١٩٨] الْآيَةَ لِيَكُونَ الْمُخْبَرُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرَ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ فِي الْآيَة الْآتِيَة، لظهر تَفَاوُتِ الْمَوْقِعِ بَيْنَ لَا يَتَّبِعُوكُمْ وَبَيْنَ لَا يَسْمَعُوا [الْأَعْرَاف: ١٩٨].
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى إِلَخْ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ الصِّلَةِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الْأَعْرَاف: ١٩١] فَيَكُونُ ضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي تَدْعُوهُمْ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانَ الْحَدِيثُ عَنْهُمْ بِضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ مِنْ قَوْلِهِ: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الْأَعْرَاف: ١٩٠] إِلَى هُنَا، فَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَإِنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتْبَعُوهُمْ، فَيَكُونُ الْعُدُولُ عَنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ إِلَى طَرِيقِ الْخِطَابِ الْتِفَاتًا مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ تَوَجُّهًا إِلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ، لِأَنَّ الْخِطَابَ أَوْقَعُ فِي الدَّمْغِ بِالْحُجَّةِ.
والْهُدى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَا يُهْتَدَى إِلَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَجِيبُونَ إِذَا دَعَوْتُمُوهُمْ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُهُمْ فَيُعْلَمُ أَنَّهُمْ لَوْ دَعَوْهُمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَكَانَ عَدَمُ اتِّبَاعِهِمْ دَعْوَتَهُمْ أَوْلَى.
وَجُمْلَةُ: سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَتَّبِعُوكُمْ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ.
وسَواءٌ اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْمُسَاوِي غَيْرَهُ أَيْ لَيْسَ أَوْلَى مِنْهُ فِي الْمَعْنَى الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ وَالْهَمْزَةُ الَّتِي بَعْدَ سَواءٌ يُقَالُ لَهَا هَمْزَةُ التَّسْوِيَةِ، وَأَصْلُهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ اسْتُعْمِلَتْ فِي التَّسْوِيَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦]، أَيْ سَوَاءٌ دَعْوَتُكُمْ إِيَّاهُمْ وَصَمْتُكُمْ عَنِ الدَّعْوَةِ.
وَ (عَلَى) فِيهَا لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ وَهِيَ بِمَعْنَى الْعِنْدِيَّةِ أَيْ: سَوَاءٌ عِنْدَهُمْ. وَإِنَّمَا جُعِلَ الْأَمْرَانِ سَوَاءٌ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ وَلَمْ يُجْعَلَا سَوَاءً عَلَى الْمَدْعُوِّينَ فَلَمْ يَقُلْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا سَوَاءً عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكَلَامِ هُوَ تَأْيِيسُ
وَقَوْلُهُ: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أَيْ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ مِنْ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ سَمَّاعُونَ لَهُمْ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ السَّمَّاعُونَ مُسْلِمِينَ يُصَدِّقُونَ مَا يَسْمَعُونَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السَّمَّاعُونَ مُنَافِقِينَ مَبْثُوثِينَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ بَغْيَهُمُ الْفِتْنَةَ أَشَدُّ خَطَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ فِي الْمُسْلِمِينَ فَرِيقًا تَنْطَلِي عَلَيْهِمْ حِيَلُهُمْ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ سُذَّجُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَعْجَبُونَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَيَتَأَثَّرُونَ وَلَا يَبْلُغُونَ إِلَى تَمْيِيزِ التَّمْوِيهَاتِ وَالْمَكَائِدِ عَنِ الصِّدْقِ وَالْحَقِّ.
وَجَاءَ سَمَّاعُونَ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ اسْتِمَاعَهُمْ تَامٌّ وَهُوَ الِاسْتِمَاعُ الَّذِي يُقَارِنُهُ اعْتِقَادُ مَا يُسْمَعُ كَقَوْلِهِ: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ [الْمَائِدَة: ٤١] وَعَنِ الْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ زَيْدٍ: مَعْنَى سَمَّاعُونَ لَهُمْ، أَيْ جَوَاسِيسُ يَسْتَمِعُونَ الْأَخْبَارَ وَيَنْقُلُونَهَا إِلَيْهِمْ، وَقَالَ قَتَادَة وجهور الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ وَفِيكُمْ مَنْ يَقْبَلُ مِنْهُمْ قَوْلَهُمْ وَيُطِيعُهُمْ، قَالَ النَّحَّاسُ الْأَغْلَبُ أَنَّ مَعْنَى سَمَّاعٍ يَسْمَعُ الْكَلَامَ وَمِثْلُهُ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ [الْمَائِدَة: ٤١].
وَأَمَّا مَنْ يَقْبَلُ مَا يَسْمَعُهُ فَلَا يَكَادُ يُقَالُ فِيهِ إِلَّا سَامِعٌ مِثْلُ قَائِلٍ.
وَجِيءَ بِحَرْفِ (فِي) مِنْ قَوْلِهِ: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ الدَّالِّ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ دُونَ حَرْفِ (مِنْ) فَلَمْ يَقُلْ وَمِنْكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أَوْ وَمِنْهُمْ سَمَّاعُونَ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ تَخْصِيصُ السَّمَّاعِينَ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ السَّمَّاعِينَ لَهُمْ فَرِيقَانِ فَرِيقٌ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ وَفَرِيقٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَنْفُسِهِمْ مَبْثُوثُونَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ لِإِلْقَاءِ الْأَرَاجِيفِ وَالْفِتْنَةِ وَهُمُ الْأَكْثَرُ فَكَانَ اجْتِلَابُ حَرْفِ (فِي) إِيفَاءً بِحَقِّ هَذَا الْإِيجَازِ الْبَدِيعِ وَلِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُلَائِمُ لِمَحْمَلَيْ لَفَظِ سَمَّاعُونَ فَقَدْ حَصَلَتْ بِهِ فَائِدَتَانِ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ قُصِدَ مِنْهُ إِعْلَامُ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَحْوَالَ الْمُنَافِقِينَ الظَّالِمِينَ لِيَكُونُوا مِنْهُمْ عَلَى حَذَرٍ، وَلِيَتَوَسَّمُوا فِيهِمْ مَا وَسَمَهُمُ الْقُرْآنُ بِهِ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ الِاسْتِمَاعَ لَهُمْ هُوَ ضَرْبٌ مِنَ الظُّلْمِ.
وَالظُّلْمُ هُنَا الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: ١٣].
فَالْكَلَامُ يُفِيدُ أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لِأَوْلِيَائِهِ أَنْ لَا يَحْصُلَ لَهُمْ مَا يَخَافُونَهُ وَأَنْ لَا يَحُلَّ بِهِمْ مَا يُحْزِنُهُمْ. وَلَمَّا كَانَ مَا يُخَافُ مِنْهُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُحْزِنَ مَنْ يُصِيبُهُ كَانَ نَفْيُ الْحُزْنِ عَنْهُمْ مُؤَكِّدًا لِمَعْنَى نَفْيِ خَوْفِ خَائِفٍ عَلَيْهِمْ. وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلُوا الْخَوْفَ وَالْحُزْنَ الْمَنْفِيَّيْنِ عَلَى مَا يَحْصُلُ لِأَهْلِ الشَّقَاوَةِ فِي الْآخِرَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخَوْفَ وَالْحُزْنَ يَحْصُلَانِ فِي الدُّنْيَا، كَقَوْلِهِ: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى [طه: ٦٧]. وَقَدْ عَلِمْتَ مَا يُغْنِي عَنْ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَهُوَ يَبْعُدُ عَنْ مفَاد قَوْله: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ.
وَالْوَلِيُّ: الْمُوَالِي، أَيِ الْمُحَالِفُ وَالنَّاصِرُ. وَكُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْوَلْيِ (بِسُكُونِ اللَّامِ)، وَهُوَ الْقُرْبُ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْوَلِيِّ كُلُّهَا قُرْبٌ مَجَازِيٌّ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٤]. وَهُوَ قُرْبٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَلِذَلِكَ فَسَّرُوهُ هُنَا بِأَنَّهُ الَّذِي يَتَوَلَّى اللَّهَ بِالطَّاعَةِ وَيَتَوَلَّاهُ اللَّهُ بِالْكَرَامَةِ. وَقَدْ بَيَّنَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّقَوْا، فَاسْمُ الْمَوْصُولِ وَصِلَتُهُ خَبَرٌ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، أَوْ يُجْعَلُ جُمْلَةُ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ خَبَرَ إِنَّ وَيُجْعَلُ اسْمُ الْمَوْصُولِ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ حَذْفًا جَارِيًا عَلَى الِاسْتِعْمَالِ، كَمَا سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ فِي حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهَذَا الْخَبَرُ يُفِيدُ أَنْ يَعْرِفَ السَّامِعُ كُنْهَ مَعْنَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ اعْتِنَاءً بِهِمْ عَلَى نَحْوِ مَا قِيلَ فِي قَوْلِ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ:
الْأَلْمَعِيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ الظَّنَّ كَأَنْ قَدْ رَأَى وَقَدْ سَمِعَا
وَدَلَّ قَوْلُهُ: وَكانُوا يَتَّقُونَ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى مُلَازِمَةٌ لَهُمْ أَخْذًا مِنْ صِيغَةِ كانُوا وَأَنَّهَا مُتَجَدِّدَةٌ مِنْهُمْ أَخْذًا مِنْ صِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَتَّقُونَ. وَقَدْ كُنْتُ أَقُولُ فِي الْمُذَاكِّرَاتِ مُنْذُ سِنِينَ خَلَتْ فِي أَيَّامِ الطَّلَبِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ أَقْوَى مَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ حَقِيقَةِ الْوَلِيِّ شَرْعًا وَأَنَّ عَلَى حَقِيقَتِهَا يُحْمَلُ مَعْنَى قَوْلِهِ
فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِحَرْبٍ»
. وَإِشَارَةُ الْآيَةِ إِلَى تَوَلِّي اللَّهِ إِيَّاهُمْ بالكرامة بقوله: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
. وتعريفْ بُشْرى
تَعْرِيف الْجِنْسِ فَهُوَ صَادِقٌ بِبِشَارَاتٍ كَثِيرَةٍ.

[سُورَة يُوسُف (١٢) : آيَة ٧]

لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧)
جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَهِيَ مَبْدَأُ الْقَصَصِ الْمَقْصُودِ، إِذْ كَانَ مَا قَبْلَهُ كَالْمُقَدِّمَةِ لَهُ الْمُنْبِئَةِ بِنَبَاهَةِ شَأْنِ صَاحِبِ الْقِصَّةِ، فَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَحِقَتْ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَلِهَذَا كَانَ أُسْلُوبُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَأُسْلُوبِ الْقَصَصِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا [سُورَة يُوسُف: ٨] نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [سُورَة ص: ٧٠، ٧١] إِلَى آخِرِ الْقِصَّة.
والظرفية الْمُسْتَفَاد مِنْ فِي ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ مُقَارَنَةِ الدَّلِيلِ لِلْمَدْلُولِ بِمُقَارَنَةِ الْمَظْرُوفِ لِلظَّرْفِ، أَيْ لَقَدْ كَانَ شَأْنُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَإِخْوَتِهِ مُقَارِنًا لِدَلَائِلَ عَظِيمَةٍ مِنَ الْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ، وَالتَّعْرِيفُ بِعَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيرِهِ.
وَالْآيَاتُ: الدَّلَائِلُ عَلَى مَا تَتَطَلَّبُ مَعْرِفَتُهُ مِنَ الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ.
وَالْآيَاتُ حَقِيقَةٌ فِي آيَاتِ الطَّرِيقِ، وَهِيَ عَلَامَاتٌ يَجْعَلُونَهَا فِي الْمَفَاوِزِ تَكُونُ بَادِيَةً لَا تَغْمُرُهَا الرِّمَالُ لِتَكُونَ مُرْشِدَةً لِلسَّائِرِينَ، ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى حُجَجِ الصِّدْقِ، وَأَدِلَّةِ الْمَعْلُومَاتِ الدَّقِيقَةِ. وَجَمْعُ الْآيَاتِ هُنَا مُرَاعًى فِيهِ تَعَدُّدُهَا وَتَعَدُّدُ أَنْوَاعِهَا، فَفِي قِصَّةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- دَلَائِلُ عَلَى مَا لِلصَّبْرِ وَحُسْنِ الطَّوِيَّةِ مِنْ عَوَاقِبِ الْخَيْرِ وَالنَّصْرِ، أَوْ عَلَى مَا لِلْحَسَدِ وَالْإِضْرَارِ بِالنَّاسِ مِنَ الْخَيْبَةِ وَالِانْدِحَارِ وَالْهُبُوطِ.
وَفِيهَا مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى صِدْقِ النَّبِيءِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ، إِذْ جَاءَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا أَحْبَارُ أَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ قِرَاءَةٍ وَلَا كِتَابٍ وَذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ.

[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ٢٢]

وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢)
أَفْضَتْ مُجَادَلَةُ الضُّعَفَاءِ وَسَادَتِهِمْ فِي تَغْرِيرِهِمْ بِالضَّلَالَةِ إِلَى نُطْقِ مَصْدَرِ الضَّلَالَةِ وَهُوَ الشَّيْطَانُ إِمَّا لِأَنَّهُمْ بَعْدَ أَنِ اعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ كُبَرَاؤُهُمْ بِالْحِرْمَانِ مِنَ الْهُدَى عَلِمُوا أَنَّ سَبَبَ إِضْلَالِهِمْ هُوَ الشَّيْطَانُ لِأَنَّ نَفْيَ الِاهْتِدَاءِ يُرَادِفُهُ الضَّلَالُ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمُسْتَكْبِرِينَ انْتَقَلُوا مِنَ الِاعْتِذَارِ لِلضُّعَفَاءِ إِلَى مَلَامَةِ الشَّيْطَانِ الْمُوَسْوِسِ لَهُمْ مَا أَوْجَبَ ضَلَالَهَمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِعِلْمٍ يَقَعُ فِي نُفُوسِهِمْ كَالْوِجْدَانِ. عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: فَلا تَلُومُونِي يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّهُ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ مَلَامٌ صَرِيحٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَوَقَّعَهُ فَدَفَعَهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَأَنَّهُ يُتَوَّجَهُ إِلَيْهِ بِطَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ، فَجُمْلَةُ وَقالَ الشَّيْطانُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَقالَ الضُّعَفاءُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ وَصْفِ هَذَا الْمَوْقِفِ إِثَارَةَ بُغْضِ الشَّيْطَانِ فِي نُفُوسِ أَهْلِ الْكُفْرِ لِيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ بِدِفَاعِ وَسْوَاسِهِ لِأَنَّ هَذَا الْخِطَابَ الَّذِي يُخَاطِبُهُمْ بِهِ الشَّيْطَان مَلِيء بإضمار الشَّرّ لَا لَهُمْ فِيمَا وَعَدَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَسْتَفِزَّ غَضَبَهُمْ مِنْ كَيْدِهِ لَهُمْ وَسُخْرِيَتِهِ بِهِمْ، فَيُورِثُهُمْ ذَلِكَ كَرَاهِيَةً لَهُ وَسُوءَ ظَنِّهِمْ بِمَا يَتَوَقَّعُونَ إِتْيَانَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ قِبَلِهِ. وَذَلِكَ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الْمَوْعِظَةِ وَالتَّرْبِيَةِ.
وَمَعْنَى قُضِيَ الْأَمْرُ تُمِّمَ الشَّأْنُ، أَيْ إِذْنُ اللَّهِ وَحُكْمُهُ. وَمَعْنَى إِتْمَامِهِ: ظُهُورُهُ، وَهُوَ أَمْرُهُ تَعَالَى بِتَمْيِيزِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَأَهْلِ الْهِدَايَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [سُورَة يس: ٥٩]، وَذَلِكَ بِتَوْجِيهِ كُلِّ فَرِيقٍ إِلَى مَقَرِّهِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ بِعَمَلِهِ، فَيَتَصَدَّى الشَّيْطَانُ لِلتَّخْفِيفِ عَنِ الْمَلَامِ عَنْ نَفْسِهِ بِتَشْرِيكِ الَّذِينَ أَضَلَّهُمْ مَعَهُ فِي تَبِعَةِ ضَلَالِهِمْ، وَقَدْ أَنْطَقَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ لِإِعْلَانِ الْحَقِّ، وَشَهَادَةٍ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ لَهُمْ كَسْبًا فِي اخْتِيَار الانصياع إِلَى دَعْوَةِ الضَّلَالِ دُونَ دَعْوَةِ الْحَقِّ. فَهَذَا
وَالْخِطَابُ بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ مُوَجَّهٌ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَغَلَبَ ضَمِيرُ التَّذْكِيرِ.
وَهَذِهِ نِعْمَةٌ إِذْ جَعَلَ قَرِينَ الْإِنْسَانِ مُتَكَوِّنًا مِنْ نَوْعِهِ، وَلَوْ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ ذَلِكَ لَاضْطُرَّ الْإِنْسَانُ إِلَى طَلَبِ التَّأَنُّسِ بِنَوْعٍ آخَرَ فَلَمْ يَحْصُلِ التَّأَنُّسُ بِذَلِكَ لِلزَّوْجَيْنِ. وَهَذِهِ الْحَالَةُ وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي أَغْلَبِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ فَهِيَ نِعْمَةٌ يُدْرِكُهَا الْإِنْسَانُ وَلَا يُدْرِكُهَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْوَاعِ. وَلَيْسَ مِنْ قِوَامِ مَاهِيَّةِ النِّعْمَةِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهِ.
وَالْأَزْوَاجُ: جَمْعُ زَوْجٍ، وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَصِيرُ مَعَ شَيْءٍ آخَرَ اثْنَيْنِ، فَلِذَا وُصِفَ بِزَوْجٍ الْمُرَادِفُ لِثَانٍ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ٣٥].
وَالْوَصْفُ بِالزَّوْجِ يُؤْذِنُ بِمُلَازَمَتِهِ لِآخَرَ، فَلِذَا سُمِّيَ بِالزَّوْجِ قَرِينُ الْمَرْأَةِ وَقَرِينَةُ الرَّجُلِ.
وَهَذِهِ نِعْمَةٌ اخْتُصَّ بِهَا الْإِنْسَانُ إِذْ أَلْهَمَهُ اللَّهُ جَعْلَ قَرِينٍ لَهُ وَجَبَلَهُ عَلَى نِظَامِ مَحَبَّةٍ وَغَيْرِهِ لَا يَسْمَحَانِ لَهُ بِإِهْمَالِ زَوْجِهِ كَمَا تُهْمِلُ الْعَجْمَاوَاتُ إِنَاثَهَا وَتَنْصَرِفُ إِنَاثُهَا عَنْ ذُكُورِهَا.
ومِنْ الدَّاخِلَةُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ لِلتَّبْعِيضِ.
وَجَعَلَ الْبَنِينَ لِلْإِنْسَانِ نِعْمَةً، وَجَعَلَ كَوْنَهُمْ مِنْ زَوْجَةٍ نِعْمَةً أُخْرَى، لِأَنَّ بِهَا تَحَقُّقَ كَوْنِهِمْ أَبْنَاءَهُ بِالنِّسْبَةِ لِلذَّكَرِ وَدَوَامَ اتِّصَالِهِمْ بِهِ بِالنِّسْبَةِ، وَوُجُودَ الْمُشَارِكِ لَهُ فِي الْقِيَامِ بِتَدْبِيرِ أَمْرِهِمْ فِي حَالَةِ ضَعْفِهِمْ.
ومِنْ الدَّاخِلَةُ عَلَى أَزْواجِكُمْ لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ جَعَلَ لَكُمْ بَنِينَ مُنْحَدِرِينَ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ.
وَالْحَفَدَةُ: جَمْعُ حَافِدٍ، مِثْلُ كَمَلَةٍ جَمْعُ كَامِلٍ. وَالْحَافِدُ أَصْلُهُ الْمُسْرِعُ فِي الْخِدْمَةِ.
وَأُطْلِقَ عَلَى ابْنِ الِابْنِ لِأَنَّهُ يَكْثُرُ أَنْ يَخْدِمَ جَدَّهُ لِضَعْفِ الْجَدِّ بِسَبَبِ الْكِبَرِ، فَأَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى
الْإِنْسَانِ بِحِفْظِ سِلْسِلَةِ نَسَبِهِ بِسَبَبِ ضَبْطِ الْحَلْقَةِ الْأُولَى مِنْهَا،
فَالْخَبْوُ وَازْدِيَادُ الِاشْتِعَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَجْسَادِهِمْ لَا فِي أَصْلِ نَارِ جَهَنَّمَ. وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ سُلِّطَ فِعْلُ زِدْناهُمْ عَلَى ضَمِيرِ الْمُشْرِكِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ازْدِيَادَ السَّعِيرِ كَانَ فِيهِمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: كُلَّمَا خَبَتْ فِيهِمْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا، وَلم يقل: زدناهم سَعِيرًا.
وَعِنْدِي: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ جَارٍ عَلَى طَرِيق التهكّم وبادىء الْإِطْمَاعِ الْمُسْفِرِ عَنْ خَيْبَةٍ، لِأَنَّهُ جَعَلَ ازْدِيَادَ السَّعِيرِ مُقْتَرِنًا بِكُلِّ زَمَانٍ مِنْ أَزْمِنَةِ الْخَبْوِ، كَمَا تُفِيدُهُ كَلِمَةُ (كُلَّمَا) الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى كُلِّ زَمَانٍ. وَهَذَا فِي ظَاهِرِهِ إِطْمَاعٌ بِحُصُولِ خَبْوٍ لِوُرُودِ لَفْظِ الْخَبْوِ فِي الظَّاهِر، وَلكنه يؤول إِلَى يَأْسٍ مِنْهُ إِذْ يَدُلُّ عَلَى دَوَامِ سَعِيرِهَا فِي كُلِّ الْأَزْمَانِ، لِاقْتِرَانِ ازْدِيَادِ سَعِيرِهَا بِكُلِّ أَزْمَانِ خَبْوِهَا. فَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ قَبِيلِ التَّمْلِيحِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الْأَعْرَاف: ٤٠]، وَقَوْلُ إِيَاسٍ الْقَاضِي لِلْخَصْمِ الَّذِي سَأَلَهُ: عَلَى مَنْ قَضَيْتَ؟ فَقَالَ: عَلَى ابْنِ أُخْت خَالك.
[٩٨]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٩٨]
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ الْعِقَابَ الْفَظِيعَ الْمَحْكِيَّ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ السُّؤَالَ عَنْ سَبَبِ تَرَكُّبِ هَذِهِ الْهَيْئَةِ مِنْ تِلْكَ الصُّورَةِ الْمُفْظِعَةِ، فَالْجَوَابُ بِأَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْكُفْرِ بِالْآيَاتِ
وَإِنْكَارِ الْمَعَادِ.
فَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ [الْإِسْرَاء:
٩٧] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ بِتَأْوِيلِ: الْمَذْكُورُ.
وَالْجَزَاءُ: الْعِوَضُ عَنْ عَمَلٍ.
وَالْبَاءُ فِي بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا لِلسَّبَبِيَّةِ.
وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ جُمْلَةُ وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ إِلَخْ. جُعِلَ
الْأَمْرَانِ إِتْمَامًا لِمِنَّةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ إِنْجَاءَهُ مِنَ الْقَتْلِ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ إِلَّا إِذَا أَنْجَاهُ مِنَ الْمَوْتِ بِالذُّبُولِ لِتَرْكِ الرَّضَاعَةِ، وَمِنَ الْإِهْمَالِ الْمُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ أَوِ الْوَهْنِ إِذَا وَلِيَ تَرْبِيَتَهُ مَنْ لَا يُشْفِقُ عَلَيْهِ الشَّفَقَةَ الْجَبِلِّيَّةَ. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ لِأَجْلِ أَنْ تُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي.
وَالصُّنْعُ: مُسْتَعَارٌ لِلتَّرْبِيَةِ وَالتَّنْمِيَةِ، تَشْبِيهًا لِذَلِكَ بِصُنْعِ شَيْءٍ مَصْنُوعٍ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِمَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ نِعْمَةً عَظِيمَةً: هُوَ صَنِيعَةُ فُلَانٍ.
وَأُخْتُ مُوسَى: مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ. وَفِي التَّوْرَاةِ: أَنَّهَا كَانَتْ نَبِيئَةً كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ. وَتُوُفِّيَتْ مَرْيَمُ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنْ خُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ فِي بَرِّيَّةِ صِينَ كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ. وَذَلِكَ سَنَةَ ١٤١٧ قَبْلَ الْمَسِيحِ.
وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِكَسْرِ اللَّامِ- عَلَى أَنَّهَا لَامُ كَيْ وبنصب فعل لِتُصْنَعَ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ- بِسُكُونِ اللَّامِ- عَلَى أَنَّهَا لَامُ الْأَمْرِ وَبِجَزْمِ الْفِعْلِ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ تَكْوِينِيٌّ، أَيْ وَقُلْنَا:
لِتُصْنَعَ.
وَقَوْلُهُ عَلى عَيْنِي (على) مِنْهُ للاستعلاء الْمَجَازِيِّ، أَيِ المصاحبة المتمكنة، فعلى هُنَا بِمَعْنَى بَاءِ الْمُصَاحَبَةِ قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: ٤٨].
فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَوْقِعُهَا اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا أُرِيدَ بِهِ ذِكْرُ فَرِيقٍ ثَالِثٍ غَيْرِ الْفَرِيقَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْحَج: ٨] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ [الْحَج: ١١]. وَهَذَا الْفَرِيقُ الثَّالِثُ جَمَاعَةٌ أَسْلَمُوا وَاسَتَبْطَأُوا نَصْرَ الْمُسْلِمِينَ فَأَيِسُوا مِنْهُ وَغَاظَهُمْ تَعَجُّلُهُمْ لِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَأَنْ لَمْ يَتَرَيَّثُوا فِي ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَوْقِعُهَا تَذْيِيلًا لِقَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ [الْحَج: ١١] الْآيَةَ بَعْدَ أَنِ اعْتُرِضَ بَيْنَ تِلْكَ الْجُمْلَةِ وَبَيْنَ هَاتِهِ بِجُمَلٍ أُخْرَى فَيَكُونُ الْمُرَادُ: أَنَّ الْفَرِيقَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ وَالْمُخْبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ [الْحَج:
١١] هُمْ قَوْمٌ يَظُنُّونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَنْصُرُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ إِنْ بَقُوا عَلَى الْإِسْلَامِ.
فَأَمَّا ظَنُّهُمُ انْتِفَاءَ النَّصْرِ فِي الدُّنْيَا فَلِأَنَّهُمْ قَدْ أَيِسُوا مِنَ النَّصْرِ اسْتِبْطَاءً، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَمِنْ أَجْلِ هَذَا عُلِّقَ فِعْلُ لَنْ يَنْصُرَهُ بِالْمَجْرُورِ بِقَوْلِهِ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ إِيمَاءً إِلَى كَوْنِهِ مُتَعَلِّقَ الْخُسْرَانِ فِي قَوْلِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ [الْحَج: ١١]. فَإِنَّ عَدَمَ النَّصْرِ خُسْرَانٌ فِي الدُّنْيَا بِحُصُولِ ضِدِّهِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ حَسَبَ اعْتِقَادِ كُفْرِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ مُشْرِكُونَ مُتَرَدِّدُونَ.
وَيَتَرَجَّحُ هَذَا الِاحْتِمَالُ بِتَغْيِيرِ أُسْلُوبِ الْكَلَامِ، فَلَمْ يُعْطَفْ بِالْوَاوِ كَمَا عُطِفَ قَوْلُهُ
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ [الْحَج: ١١] وَلَمْ تُورَدْ فِيهِ جُمْلَةُ وَمِنَ النَّاسِ كَمَا أُورِدَتْ فِي ذِكْرِ الْفَرِيقَيْنِ السَّابِقَيْنِ وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةَ تَهْدِيدُ هَذَا الْفَرِيقِ. فَيَكُونُ التَّعْبِيرُ عَنْ هَذَا الْفَرِيقِ بِقَوْلِهِ مَنْ كانَ يَظُنُّ إِلَخْ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ فَإِنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُؤْتَى بِضَمِيرِ ذَلِكَ الْفَرِيقِ فَيُقَالُ بَعْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [الْحَج: ١٤]،
تَعَالَى: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً [النِّسَاء: ١٣٠]. أَمَّا إِذَا ذَكَرْتَ السِّعَةَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ فَيُرَادُ بِهَا الْإِحَاطَةُ فِيمَا تَمَيَّزَ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [الْأَعْرَاف: ٨٩].
وَذِكْرُ عَلِيمٌ بَعْدَ واسِعٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يُعْطِي فَضْلَهُ عَلَى مُقْتَضَى مَا عَلِمَهُ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي مِقْدَارِ الْإِعْطَاءِ.
[٣٣]
[سُورَة النُّور (٢٤) : آيَة ٣٣]
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣)
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.
أَمَرَ كُلَّ مَنْ تَعَلَّقَ بِهِ الْأَمْرُ بِالْإِنْكَاحِ بِأَنْ يُلَازِمُوا الْعَفَافَ فِي مُدَّةِ انْتِظَارِهِمْ تَيْسِيرَ النِّكَاحِ لَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ أَوْ بِإِذْنِ أَوْلِيَائِهِمْ وَمَوَالِيهِمْ. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ، أَيْ وَلْيَعِفَّ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا. وَوَجْهُ دِلَالَتِهِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ اسْتِعَارَةٌ. جعل طَلَبَ الْفِعْلِ بِمَنْزِلَةِ طَلَبِ السَّعْيِ فِيهِ لِيَدُلَّ عَلَى بَذْلِ الْوُسْعِ.
وَمَعْنَى لَا يَجِدُونَ نِكاحاً لَا يَجِدُونَ قُدْرَةً عَلَى النِّكَاحِ فَفِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ. وَقِيلَ النِّكَاحُ هُنَا اسْمُ مَا هُوَ سَبَبُ تَحْصِيلِ النِّكَاحِ كَاللِّبَاسِ وَاللِّحَافِ. فَالْمُرَادُ الْمَهْرُ الَّذِي يُبْذَلُ لِلْمَرْأَةِ.
وَالْإِغْنَاءُ هُنَا هُوَ إِغْنَاؤُهُمْ بِالزَّوَاجِ. وَالْفَضْلُ: زِيَادَةُ الْعَطَاءِ.
وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ.
لَمَّا ذُكِرَ وَعْدُ اللَّهِ مَنْ يُزَوَّجُ مِنَ الْعَبِيدِ الْفُقَرَاءِ بِالْغِنَى وَكَانَ مِنْ وَسَائِلِ غِنَاهُ أَنْ يَذْهَبَ يَكْتَسِبُ بِعَمَلِهِ وَكَانَ ذَلِكَ لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ الْعَبْدُ لِأَنَّهُ فِي خِدْمَةِ سَيِّدِهِ
وَإِنَّمَا قَدَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْقُرْآنِ وَعَطَفَ عَلَيْهِ كِتابٍ مُبِينٍ عَلَى عَكْسِ مَا فِي طَالِعَةِ سُورَةِ الْحِجْرِ لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا مَقَامُ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَمُتَّبِعِيهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلِذَلِكَ وُصِفَ بِأَنَّهُ هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [النَّمْل: ٢] أَيْ بِأَنَّهُمْ عَلَى هُدًى فِي الْحَالِ وَمُبَشَّرُونَ بِحُسْنِ الِاسْتِقْبَالِ فَكَانَ الْأَهَمُّ هُنَا لِلَوْحِي الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْآيَاتِ هُوَ اسْتِحْضَارُهُ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ الْمَنْقُولِ مِنْ مَصْدَرِ الْقِرَاءَةِ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ تُنَاسِبُ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَالْمُتَقَبِّلِينَ لِآيَاتِهِ فَهُمْ يَدْرُسُونَهَا، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ أُدْخِلَتِ اللَّامُ لِلَمْحِ الْأَصْلِ، تَذْكِيرًا بِأَنَّهُ مَقْرُوءٌ مَدْرُوسٌ. ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ كِتابٍ مُبِينٍ لِيَكُونَ التَّنْوِيهُ بِهِ جَامِعًا لِعُنْوَانَيْهِ وَمُسْتَكْمِلًا لِلدَّلَالَةِ بِالتَّعْرِيفِ عَلَى مَعْنَى
الْكَمَالِ فِي نَوْعِهِ مِنَ الْمَقْرُوءَاتِ، وَالدَّلَالَةِ بِالتَّنْكِيرِ عَلَى مَعْنَى تَفْخِيمِهِ بَيْنَ الْكُتُبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الْمَائِدَة: ٤٨].
وَأَمَّا مَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحِجْرِ فَهُوَ مَقَامُ التَّحْسِيرِ لِلْكَافِرِينَ مِنْ جَرَّاءَ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ فَنَاسَبَ أَنْ يَبْتَدِئُوا بِاسْمِ الْكِتَابِ الْمُشْتَقِّ مِنَ الْكِتَابَةِ دُونَ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُمْ بِمَعْزِلٍ عَنْ قِرَاءَتِهِ وَلَكِنَّهُ مَكْتُوبٌ، وَحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ بَاقِيَةٌ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحِجْرِ، وَلِهَذَا عَقَّبَ هُنَا ذِكْرَ كِتابٍ مُبِينٍ بِالْحَالِ هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [النَّمْل: ٢].
ومُبِينٍ اسْمُ فَاعِلٍ إِمَّا مِنْ (أَبَانَ) الْقَاصِرِ بِمَعْنَى (بَانَ) لِأَنَّ وَصْفَهُ بِأَنَّهُ بَيِّنٌ وَاضِحٌ لَهُ حَظٌّ مِنَ التَّنْوِيهِ بِهِ مَا لَيْسَ مِنَ الْوَصْفِ بِأَنَّهُ مُوَضِّحٌ مُبَيِّنٌ. فَالْمُبِينُ أَفَادَ مَعْنَيَيْنِ أَحَدَهُمَا: أَنَّ شَوَاهِدَ صِدْقِهِ وَإِعْجَازِهِ وَهَدْيِهِ لِكُلِّ مُتَأَمِّلٍ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ مرشد ومفصّل.
[٢، ٣]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ٢ إِلَى ٣]
هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣)
هُدىً وَبُشْرى حَالَانِ مِنْ كِتابٍ بَعْدَ وَصْفِهِ ب مُبِينٍ [النَّمْل: ١].
وَجُعِلَ الْحَالُ مَصْدَرًا لِلْمُبَالَغَةِ بِقُوَّةِ تَسَبُّبِهِ فِي الْهُدَى وَتَبْلِيغِهِ الْبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ.
فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْهُدَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْبُشْرَى حَاصِلَانِ مِنْهُ وَمُسْتَمِرَّانِ مِنْ آيَاتِهِ.
وَالتَّفْضِيلُ فِي قَوْلِهِ بِأَعْلَمَ مُرَاعًى فِيهِ عِلْمُ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ بِبَعْضِ مَا فِي صُدُورِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ مِمَّنْ أُوتُوا فِرَاسَةً وَصِدْقَ نَظَرٍ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ اسْمَ التَّفْضِيلِ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ، أَيْ أَلَيْسَ اللَّهُ عَالِمًا عِلْمًا تَفْصِيلِيًّا لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خافية.
[١١]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ١١]
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١)
خُصَّ بِالذِّكْرِ فَرِيقَانِ هُمَا مِمَّنْ شَمِلَهُ عُمُومُ قَوْله الْعالَمِينَ [العنكبوت: ١٠] اهْتِمَامًا بِهَاذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ وَحَالَيْهِمَا: فَرِيقُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَفَرِيقُ الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْفَرِيقَيْنِ من إِيمَان وَنِفَاقٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ الْمُنَاسِبُ لِحَالَيْهِمَا فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، فَذَلِكَ تَرْغِيبٌ وَتَرْهِيبٌ.
وَوَجْهُ تَأْكِيدِ كِلَا الْفِعْلَيْنِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ رَدُّ اعْتِقَادِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُطْلِعُ رَسُولَهُ عَلَى مَا فِي نُفُوسِهِمْ، فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرَيْنِ هُوَ ثَانِيهُمَا أَعْنِي قَوْلَهُ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فَهُوَ تَمْهِيدٌ لِمَا بَعْدَهُ وَتَنْصِيصٌ عَلَى عَدَمِ الْتِبَاسِ الْإِيمَانِ الْمَكْذُوبِ بِالْإِيمَانِ الْحَقِّ.
وَفِي هَذَا أَيْضًا إِرَادَةُ الْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ مِنَ الْعِلْمِ وَهُوَ مُجَازَاةُ كُلِّ فَرِيقٍ عَلَى حَسَبِ مَا عَلِمَ اللَّهُ مِنْ حَالِهِ.
وَجِيءَ فِي جَانِبِ هَاذَيْنِ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الْمُسْتَقْبَلِ إِذْ نُونُ التَّوْكِيدِ لَا يُؤَكَّدُ بِهَا الْخَبَرُ الْمُثْبَتُ إِلَّا وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ إِمَّا لِأَنَّ الْعِلْمَ مُكَنًّى بِهِ عَنْ لَازِمِهُ وَهُوَ مُقَابَلَةُ كُلِّ فَرِيقٍ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ بِحَسَبِ مَا عُلِمَ مِنْ حَالِهِ وَالْمُجَازَاةُ أَمْرُ مُسْتَقْبَلٍ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمُرَادَ عِلْمٌ بِمُسْتَقْبَلٍ وَهُوَ اخْتِلَافُ أَحْوَالِهِمْ يَوْمَ يَجِيءُ النَّصْرُ، فَلَعَلَّ مَنْ كَانُوا مُنَافِقِينَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ يَوْمَ النَّصْرِ وَيَبْقَى قَوْمٌ عَلَى نِفَاقِهِمْ.
وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْأَوَّلِينَ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ الْمَاضَوِيَّةِ وَعَنِ الْآخَرِينَ بِطَرِيقِ اللَّامِ وَاسْمِ الْفَاعِلِ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ الْمَوْصُولُ مِنِ اشْتِهَارِهِمْ بِالْإِيمَانِ وَمَا يُؤْذِنُ بِهِ الْفِعْلُ الْمَاضِي مِنْ تَمَكُّنِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ وَسَابِقِيَّتِهِ، وَمَا يُؤْذِنُ بِهِ
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧]. وَتَقْدِيمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ على الْأَفْئِدَةَ هُنَا عَكْسَ آيَةِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّهُ رُوعِيَ هُنَا تَرْتِيبُ حُصُولِهَا فِي الْوُجُودِ فَإِنَّهُ يَكْتَسِبُ الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصِرَاتِ قَبْلَ اكْتِسَابِ التَّعَقُّلِ.
وقَلِيلًا اسْمُ فَاعِلٍ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَكُمُ، وَمَا تَشْكُرُونَ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ وَهُوَ مُرْتَفِعٌ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِ قَلِيلًا، أَيْ: أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ الْجَلِيلَةِ وَحَالُكُمْ قِلَّةُ الشُّكْرِ. ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَهِيَ كَوْنُ الشَّيْءِ حَاصِلًا وَلَكِنَّهُ غَيْرُ كَثِيرٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الْعَدَمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النِّسَاء: ٤٦]. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يَحْصُلُ التَّوْبِيخُ لِأَنَّ النِّعَمَ الْمُسْتَحِقَّةَ لِلشُّكْرِ وَافِرَةٌ دَائِمَةٌ فَالتَّقْصِيرُ فِي شُكْرِهَا وَعَدَمُ الشُّكْر سَوَاء.
[١٠]
[سُورَة السجده (٣٢) : آيَة ١٠]
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠)
الْوَاوُ لِلْحَالِ، وَالْحَالُ لِلتَّعْجِيبِ مِنْهُمْ كَيْفَ أَحَالُوا إِعَادَةَ الْخَلْقِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ النَّشْأَةَ الْأُولَى، وَلَيْسَتِ الْإِعَادَةُ بِأَعْجَبَ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ وَخَاصَّةً بَدْءَ خَلْقِ آدَمَ عَنْ عَدَمٍ، وَخُلُوُّ الْجُمْلَةِ الْمَاضَوِيَّةِ عَنْ حَرْفِ (قَدْ) لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهَا حَالًا عَلَى التَّحْقِيقِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَإِذا ضَلَلْنا لِلتَّعَجُّبِ وَالْإِحَالَةِ، أَيْ أَظْهَرُوا فِي كَلَامِهِمُ اسْتِبْعَادَ الْبَعْثِ بَعْدَ فَنَاءِ الْأَجْسَادِ وَاخْتِلَاطِهَا بِالتُّرَابِ، مُغَالَطَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَرْوِيجًا لِكُفْرِهِمْ.
وَالضَّلَالُ: الْغِيَابُ، وَمِنْهُ: ضَلَالُ الطَّرِيقِ، وَالضَّالَّةُ: الدَّابَّةُ الَّتِي ابْتَعَدَتْ عَنْ أَهْلِهَا فَلَمْ يُعْرَفْ مَكَانُهَا. وَأَرَادُوا بِذَلِكَ إِذَا تَفَرَّقَتْ أَجْزَاءُ أَجْسَادِنَا فِي خِلَالِ الْأَرْضِ وَاخْتَلَطَتْ بِتُرَابِ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: الضَّلَالُ فِي الْأَرْضِ: الدُّخُولُ فِيهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُقَالُ: أَضَلَّ النَّاسُ الْمَيِّتَ، أَيْ: دَفَنُوهُ. وَأَنْشَدُوا قَوْلَ النَّابِغَةِ فِي رِثَاءِ النُّعْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ الْغَسَّانِيِّ:
فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ وَغُودِرَ بِالْجَوْلَانِ حَزْمٌ وَنَائِلُ
وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَالْكسَائِيّ وَيَعْقُوب: إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى
جَزَيْتُهُ بِأَلْفٍ، فَلَا تَقْدِيرَ فِي قَوْلِهِ: جَزاءُ الضِّعْفِ.
والْغُرُفاتِ جَمْعُ غُرْفَةٍ. وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ الْفُرْقَانِ وَهِيَ الْبَيْتُ الْمُعْتَلِي وَهُوَ أَجْمَلُ مَنْظَرًا وَأَشْمَلُ مَرْأًى. وآمِنُونَ خَبَرٌ ثَانٍ يَعْنِي تُلْقِي فِي نُفُوسِهِمُ الْأَمْنَ مِنِ انْقِطَاعِ ذَلِكَ النَّعِيمِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي الْغُرُفاتِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ «فِي الغرفة» بِالْإِفْرَادِ.
[٣٨]
[سُورَة سبإ (٣٤) : آيَة ٣٨]
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨)
جَرَى الْكَلَامُ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ التَّرْغِيبِ بِالتَّرْهِيبِ وَعَكْسِهِ، فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الِاعْتِرَاضِ بَيْنَ الثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ وَبَيْنَ إِرْشَادِهِمْ إِلَى الِانْتِفَاعِ بِأَمْوَالِهِمْ لِلْقُرْبِ عِنْد الله تَعَالَى بِجُمْلَةِ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ [سبأ: ٣٩] الَخْ. وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي الْآيَاتِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَبِالطَّعْنِ فِيهِ بِالْبَاطِلِ وَاللَّغْوِ عِنْدَ سَمَاعِهِ.
وَالسَّعْيُ مُسْتَعَارٌ لِلِاجْتِهَادِ فِي الْعَمَل كَقَوْلِه تَعَالَى: ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى [النازعات: ٢٢] وَإِذَا عُدِّيَ بِ فِي كَانَ فِي الْغَالِبِ مُرَادًا مِنْهُ الِاجْتِهَادُ فِي الْمَضَرَّةِ فَمَعْنَى يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا يَجْتَهِدُونَ فِي إِبْطَالِهَا، ومُعاجِزِينَ مغالبين طَالِبين الْعَجْزَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٥١].
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْجَحِيمَ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مَثْلَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥] وفِي الْعَذابِ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
ومُحْضَرُونَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْمُلَازَمَةِ فَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ أَدَاةُ الظَّرْفِيَّةِ مِنْ إِحَاطَةِ الْعَذَابِ بِهِمْ وَهُوَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَمُتَعَلِّقِهِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الظَّرْفُ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ فِي سُورَة الرّوم [١٦].
تَفْصِيلِ مَا أُهْلِكَ مِنَ الْقُرُونِ أَمْثَالِهِمْ مِنْ قَبْلِهِمْ فِي الْكُفْرِ لِيُفْضِيَ بِهِ إِلَى قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [ص: ١٢] إِلَى قَوْلِهِ: فَحَقَّ عِقابِ [ص: ١٤].
فَتَكُونُ جُمْلَةُ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ جُنْدٌ مَا هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا مُسْتَقِلًّا خَارِجًا مَخْرَجَ الْبشَارَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ جُنْدٌ مِنَ الْأَحْزَابِ مَهْزُومٌ، أَيْ مُقَدَّرٌ انْهِزَامُهُ فِي الْقَرِيبِ، وَهَذِهِ الْبِشَارَةُ مُعْجِزَةٌ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ خَتَمَ بِهَا وَصْفَ أَحْوَالِهِمْ. قَالَ قَتَادَةُ: وَعَدَ اللَّهُ أَنَّهُ سَيَهْزِمُهُمْ وَهُمْ بِمَكَّةَ فَجَاءَ تَأْوِيلُهَا يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ الْفَخْرُ: إِشَارَةٌ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِشَارَةٌ إِلَى نَصْرِ يَوْمِ الْخَنْدَقِ.
وَعَادَةُ الْأَخْبَارِ الْجَارِيَةِ مَجْرَى الْبِشَارَةِ أَوِ النِّذَارَةِ بِأَمْرٍ مَغِيبٍ أَنْ تَكُونَ مَرْمُوزَةً، وَالرَّمْزُ فِي هَذِهِ الْبِشَارَةِ هُوَ اسْمُ الْإِشَارَةِ مِنْ قَوْلِهِ: هُنالِكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ بِدُونِ تَأَوُّلٍ فَلْنَجْعَلْهُ إِشَارَةً إِلَى مَكَانٍ أَطْلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَكَانُ بَدْرٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْأَحْزابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةً خَفِيَّةً إِلَى انْهِزَامِ الْأَحْزَابِ أَيْامَ الْخَنْدَقِ فَإِنَّهَا عُرِفَتْ بِغَزْوَةِ الْأَحْزَابِ. وَسَمَّاهُمُ اللَّهُ الْأَحْزابِ فِي السُّورَةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهِمْ، فَتَكُونُ تِلْكَ التَّسْمِيَةُ إِلْهَامًا كَمَا أَلْهَمَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ فَسَمَّوْا حجّة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بَيْنَهُمْ سَلِيمُ الْمِزَاجِ، وَهَذَا فِي عِدَادِ الْمُعْجِزَاتِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي جَمَعْنَا طَائِفَةً مِنْهَا فِي كِتَابٍ خَاصٍّ. وَلَعَلَّ اخْتِيَارَ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْبَعِيدِ رَمْزٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الِانْهِزَامَ سَيَكُونُ فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ غَيْرِ مَكَّةَ فَلَا تَكُونُ الْآيَةُ مُشِيرَةً إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْفَتْحَ لَمْ يَقَعْ فِيهِ عَذَابٌ لِلْمُكَذِّبِينَ بَلْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ وَكَانُوا الطُّلَقَاءَ.
وَهَذِهِ الْإِشَارَةُ قَدْ علمهَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ مِنَ الْأَسْرَارِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ حَتَّى كَانَ الْمُسْتَقْبِلَ تَأْوِيلَهَا كَمَا عَلِمَ يَعْقُوبُ سِرَّ رُؤْيَا ابْنِهِ يُوسُفَ، فَقَالَ لَهُ: لَا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ [يُوسُف: ٥]. وَلَمْ يَعْلَمْ يُوسُفُ تَأْوِيلَهَا إِلَّا يَوْمَ قَالَ: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا [يُوسُف: ١٠٠] يُشِيرُ إِلَى سُجُودِ أَبَوَيْهِ لَهُ.
بِالشُّكْرِ، فَنَبَّهَ هُنَا عَلَى أَنَّ فِي تِلْكَ الْمِنَنِ آيَاتٍ دَالَّةً عَلَى مَا يَجِبُ لِلَّهِ مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ.
وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: يُرِيكُمْ آياتِهِ
مُفِيدًا مُفَادَ التَّذْيِيلِ لِمَا فِي قَوْله: اتِهِ
مِنَ الْعُمُومِ لِأَنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ بِالْإِضَافَةِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، أَيْ يُرِيكُمْ آيَاتِهِ فِي النِّعَمِ الْمَذْكُورَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَوْحِيدِهِ وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ وَنَبْذِ الْمُكَابَرَةِ فِيمَا يَأْتُونَهُمْ بِهِ مِنْ آيَاتِ صِدْقِهِمْ.
وَقَدْ جِيءَ فِي جَانِبِ إِرَاءَةِ الْآيَاتِ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى التَّجَدُّدِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كُلَّمَا انْتَفَعَ بِشَيْءٍ مِنَ النِّعَمِ عَلِمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ خَالِقِهَا وَقُدْرَتِهِ
وَحِكْمَتِهِ. وَالْإِرَاءَةُ هُنَا بَصَرِيَّةٌ، عُبِّرَ بِهَا عَنِ الْعِلْمِ بِصِفَاتِ اللَّهِ إِذْ كَانَ طَرِيقُ ذَلِكَ الْعِلْمِ هُوَ مُشَاهَدَةُ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ فَمِنْ تِلْكَ الْمُشَاهَدَةِ يَنْتَقِلُ الْعَقْلُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ دَلَالَةَ وُجُودِ الْخَالِقِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ بُرْهَانِيَّةٌ تَنْتَهِي إِلَى الْيَقِينِ وَالضَّرُورَةِ.
وَإِضَافَةُ الْآيَاتِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِزِيَادَةِ التَّنْوِيهِ بِهَا، وَالْإِرْشَادِ إِلَى إِجَادَةِ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ فِي دَلَائِلِهَا، وَأَمَّا كَوْنُهَا جَائِيَةً مِنْ لَدُنِ اللَّهِ وَكَوْنُ إِضَافَتِهَا مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْفَاعِلِ، فَذَلِكَ أَمْرٌ مُسْتَفَادٌ مِنْ إِسْنَاد فعل رِيكُمْ
إِلَى ضَمِيرِهِ تَعَالَى. وَفُرِّعَ عَلَى إِرَاءَةِ الْآيَاتِ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ إِنْكَارِهِمْ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْآيَات.
و (أيّ) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ يُطْلَبُ بِهِ تَمْيِيزُ شَيْءٍ عَنْ مُشَارِكِهِ فِيمَا يُضَافُ إِلَيْهِ (أَيٌّ)، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُمْكِنُ أَنْ يُنْكَرَ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْآيَاتِ فَيُفِيدُ أَنَّ جَمِيعَ الْآيَاتِ صَالِحٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ لَا مَسَاغَ لِادِّعَاءِ خَفَائِهِ وَأَنَّهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي عَدَمِ الِاسْتِفَادَةِ مِنْ إِحْدَى الْآيَاتِ.
وَقَدِ اسْتَعْمَلَ مُنْتَقِمُونَ لِلزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ اسْتِعْمَالَ اسْمِ الْفَاعِلِ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ مُسَاوٍ لِلْحَقِيقَةِ وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ.
وَالْمُرَادُ بِ الَّذِي وَعَدْناهُمْ الِانْتِقَامُ الْمَأْخُوذُ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ. وَقَدْ أَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ بِقَتْلِ صَنَادِيدِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ
الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ
[الدُّخان: ١٦] وَالْبَطْشَةُ هِيَ بَطْشَةُ بَدْرٍ.
وَجُمْلَةُ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَاقْتَرَنَ بِالْفَاءِ لِأَنَّهُ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ، وَإِنَّمَا صِيغَ كَذَلِكَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ الِانْتِقَامِ وَدَوَامِهِ، وَأَمَّا جُمْلَةُ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ فَهِيَ دَلِيلُ جَوَابِ جُمْلَةِ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ الْمَعْطُوفَةِ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ لِأَنَّ اقْتِدَارَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا عَلَى إراءته الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ، فَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ لَا مَحَالَةَ لِقَصْدِ التَّهْوِيلِ. وَتَقْدِيرُهُ: أَوْ إِمَّا نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ، وَهُوَ الِانْتِقَامُ تَرَ انْتِقَامًا لَا يُفْلِتُونَ مِنْهُ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مقتدرون، أَي مُقْتَدِرُونَ الْآنَ فَاسْمُ الْفَاعِلِ مُسْتَعْمَلٌ فِي زَمَانِ الْحَالِ وَهُوَ حَقِيقَتُهُ.
وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ دَلِيلًا عَلَى الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ: أَوْ إِمَّا نُرِيَنَّكَ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ مِنْهُمْ وعَلَيْهِمْ عَلَى مُتَعَلِّقَيْهِمَا لِلِاهْتِمَامِ بِهِمْ فِي التَّمَكُّنِ بِالِانْتِقَامِ وَالِاقْتِدَارِ عَلَيْهِمْ.
وَالْوَعْدُ هُنَا بِمَعْنَى الْوَعِيدِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ فَإِنَّ الْوَعْدَ إِذَا ذُكِرَ مَفْعُولُهُ صَحَّ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَإِذَا لَمْ يُذْكَرْ مَفْعُولُهُ انْصَرَفَ لِلْخَيْرِ وَأَمَّا الْوَعِيدُ فَهُوَ لِلشَّرِّ دَائِمًا.
وَالِاقْتِدَارُ: شِدَّةُ الْقُدْرَةِ، وَاقْتَدَرَ أَبْلَغُ مِنْ قَدَرَ. وَقَدْ غَفَلَ صَاحِبُ «الْقَامُوسِ» عَنِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ. وَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَانِ الشَّرْطَانِ وَجَوَابَاهُمَا عَلَى خَمْسَةِ مُؤَكِّدَاتٍ وَهِيَ (مَا) الزَّائِدَةُ، وَنُونُ التَّوْكِيدِ، وَحَرْفُ (إِنَّ) لِلتَّوْكِيدِ، وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ، وَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ عَلَى مُنْتَقِمُونَ.
وَإِنَّمَا قَدَّمَ هَذَا عَلَى تَوْبِيخِ الَّذِينَ نادوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ هَذَا أَوْلَى بِالِاعْتِنَاءِ إِذْ هُوَ تَأْدِيبُ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِالتَّهْذِيبِ.
وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ تُقَدِّمُوا بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الدَّالِ مُشَدَّدَةً. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِفَتْحِهِمَا عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ: لَا تَتَقَدَّمُوا. وَقَالَ فَخْرُ الدِّينِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: ٦] فِي هَذِهِ السُّورَةِ: إِنَّ فِيهَا إِرْشَادَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَهِيَ: إِمَّا مَعَ اللَّهِ أَوْ مَعَ رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مَعَ غَيْرِهِمَا مِنْ أَبْنَاءِ الْجِنْسِ وَهُمْ عَلَى صِنْفَيْنِ لِأَنَّهُمْ: إِمَّا أَنْ يَكُونُوا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا خَارِجِينَ عَنْهَا بِالْفِسْقِ وَالدَّاخِلُ فِي طَرِيقَتِهِمْ: إِمَّا حَاضِرٌ عِنْدَهُمْ، أَوْ غَائِبٌ عَنْهُمْ، فَذَكَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَأَرْشَدَ بَعْدَ كُلِّ مَرَّةٍ إِلَى مَكْرُمَةٍ مِنْ قِسْمٍ مِنَ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ.
فَقَالَ أَوَّلًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهِيَ تَشْمَلُ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَكَرَ الرَّسُولُ مَعَهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِقَوْلِ الرَّسُولِ فَهَذِهِ طَاعَةٌ لِلرَّسُولِ تَابِعَةٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ. وَقَالَ ثَانِيًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبيء [الحجرات: ٢] لِبَيَانِ الْأَدَبِ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَاتِهِ فِي بَابِ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ. وَقَالَ ثَالِثًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ الْآيَةَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى طَرِيقَةِ سُلُوكِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مُعَامَلَةِ مَنْ يُعْرَفُ بِالْخُرُوجِ عَنْ طَرِيقَتِهِمْ وَهِيَ طَرِيقَةُ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ لِأَنَّ عَمَلَهُ إِفْسَادٌ فِي جَمَاعَتِهِمْ، وَأَعْقَبَهُ بِآيَةِ وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: ٩]. وَقَالَ رَابِعًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات: ١١] إِلَى قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الْبَقَرَة: ٢٢٩] فَنَهَى عَمَّا يُكْثِرُ عَدَمَ الِاحْتِفَاظِ فِيهِ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ اللِّسَانِيَّةِ الَّتِي قَلَّمَا يُقَامُ لَهَا وَزْنٌ. وَقَالَ خَامِسًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِلَى قَوْلِهِ: تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات: ١٢] اهـ.
وَيُرِيدُ: أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ مِثَالًا مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ بِحَسَبِ مَا
وَمِمَّا يَسْتَلْزِمُهُ مَعْنَى الْقَدَرِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَخْلُوقٍ هُوَ جَارٍ عَلَى وَفْقِ عِلْمِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ لِأَنَّهُ خَالِقُ أُصُولِ الْأَشْيَاءِ وَجَاعِلُ الْقُوَى فِيهَا لِتَنْبَعِثَ عَنْهَا آثَارُهَا وَمُتَوَلِّدَاتُهَا، فَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ وَمُرِيدٌ لِوُقُوعِهِ. وَهَذَا قَدْ سُمِّيَ بِالْقَدَرِ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرِيعَةِ كَمَا
جَاءَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ الصَّحِيحِ فِي ذِكْرِ مَا يَقَعُ بِهِ الْإِيمَانُ: «وَتُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ».
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُخَاصِمُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَدَرِ فَنَزَلَتْ: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ
[الْقَمَر: ٤٨، ٤٩]. وَلَمْ يَذْكُرْ رَاوِي الحَدِيث تعْيين مَعْنَى الْقَدَرِ الَّذِي خَاصَمَ فِيهِ كُفَّارُ قُرَيْشٍ فَبَقِيَ مُجْمَلًا وَيَظْهَرُ أَنَّهُمْ خَاصَمُوا جَدَلًا لِيَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمُ التَّعْنِيفَ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَمَا قَالُوا: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: ٢٠]، أَيْ جَدَلًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُوجَبِ مَا يَقُولُهُ مِنْ أَنَّ كُلَّ كَائِنٍ بِقَدَرِ اللَّهِ جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَعَانِي الْقَدَرِ.
قَالَ عِيَاضٌ فِي «الْإِكْمَالِ»
«ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَدَرِ هَنَا مُرَادُ اللَّهِ وَمَشِيئَتُهُ وَمَا سِيقَ بِهِ قَدَرُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ دَلِيلُ مَسَاقِ الْقِصَّةِ الَّتِي نَزَلَتْ بِسَبَبِهَا الْآيَةُ» اه. وَقَالَ الْبَاجِيُّ فِي «الْمُنْتَقَى» :«يَحْتَمِلُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ مَعَانِي:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْقَدَرُ هَاهُنَا بِمَعْنَى مُقَدَّرٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يَنْقُصُ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطَّلَاق: ٣].
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ بِقُدْرَتِهِ، كَمَا قَالَ: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [الْقِيَامَة:
٤].
وَالثَّالِثُ: بِقَدَرٍ، أَيْ نَخْلُقُهُ فِي وَقْتِهِ، أَيْ نُقَدِّرُ لَهُ وَقْتًا نَخْلُقُهُ فِيهِ»
اه.
قلت: وَإِذ كَانَ لَفْظُ (قَدَرٍ) جِنْسًا، وَوَقَعَ مُعَلَّقًا بِفِعْلٍ مُتَعَلِّقٍ بِضَمِيرِ كُلَّ شَيْءٍ الدَّالِّ عَلَى الْعُمُومِ كَانَ ذَلِكَ اللَّفْظُ عَامًّا لِلْمَعَانِي كُلِّهَا فَكُلُّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ فَخَلَقَهُ بِقَدَرٍ، وَسَبَبُ النُّزُولِ لَا يُخَصِّصُ الْعُمُومَ، وَلَا يُنَاكِدُ مَوْقِعَ هَذَا التَّذْيِيلِ عَلَى أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يُطْلِقُونَ
سَبَبَ النُّزُولِ عَلَى كُلِّ مَا نَزَلَتِ الْآيَةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَتِ الْآيَةُ سَابِقَةٌ عَلَى مَا عَدُّوهُ مِنَ السَّبَبِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ كُلَّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ كَانَ بِضَبْطٍ جَارِيًا عَلَى حِكْمَةٍ،
وَ (مَا) مَوْصُولَة وعائدة الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ وَحَذْفُهُ أَغْلَبِيٌّ فِي أَمْثَالِهِ.
وَالْأَيْدِي مَجَازٌ فِي اكْتِسَابِ الْأَعْمَالِ لِأَنَّ الْيَدَ يَلْزَمُهَا الِاكْتِسَاب غَالِبا. ومصدق «مَا قدمت أَيْدِيهُمْ» سَيِّئَاتُهُمْ وَمَعَاصِيهُمْ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ.
وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَمَا ذَكَرْتُهُ هُنَا أَتَمُّ مِمَّا هُنَالِكَ فَأَجْمَعُ بَيْنَهُمَا.
وَالتَّقْدِيمُ: أَصْلُهُ جَعَلُ الشَّيْءِ مُقَدَّمًا، أَيْ سَابِقًا غَيْرَهُ فِي مَكَانٍ يَقْعُوهُ فِيهِ غَيْرُهُ.
وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِمَا سَلَفَ مِنَ الْعَمَلِ تَشْبِيهًا لَهُ بِشَيْءٍ يَسْبِقُهُ الْمَرْءُ إِلَى مَكَانٍ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهِ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، أَيْ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِهِمْ وَبِأَحْوَالِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الظَّالِمِينَ فَشَمَلَ لَفْظُ الظَّالِمِينَ الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ مِنَ الظَّالِمِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى ظُلْمِهِمْ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا.
وَقَدْ وَصَفَ الْيَهُودَ بِالظَّالِمِينَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ١٤٠] وَالْمَقْصُودُ أَنَّ إِحْجَامَهُمْ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ لِمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ خَوْفِ الْعِقَابِ عَلَى مَا فَعَلُوهُ فِي الدُّنْيَا، فَكُنِّيَ بِعِلْمِ اللَّهِ بِأَحْوَالِهِمْ عَنْ عَدَمِ انْفِلَاتِهِمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا فَفِي هَذَا وَعِيد لَهُم.
[٨]
[سُورَة الْجُمُعَة (٦٢) : آيَة ٨]
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨)
تَصْرِيحٌ بِمَا اقْتَضَاهُ التَّذْيِيلُ مِنَ الْوَعِيدِ وَعَدَمِ الِانْفِلَاتِ مِنَ الْجَزَاءِ عَنْ أَعْمَالِهِمْ وَلَوْ بَعُدَ زَمَانُ وُقُوعِهَا لِأَنَّ طُولَ الزَّمَانِ لَا يُؤَثِّرُ فِي عِلْمِ اللَّهِ نِسْيَانًا، إِذْ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ مِنْ جُمْلَةِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْجُمُعَة: ٦]، وَإِعَادَةُ فِعْلِ قُلْ مِنْ قَبِيلِ إِعَادَةِ الْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [١١٤].
وَوَصَفَ الْمَوْتَ بِ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ هَلَعَهُمْ مِنَ الْمَوْتِ خَطَأٌ كَقَوْلِ عَلْقَمَةَ:
(٢)
افْتِتَاحُ السُّورَةِ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَا سَيُذْكَرُ بَعْدَهُ حَدَثٌ غَرِيبٌ وَخَاصَّةً بِالنِّسْبَةِ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ مَظِنَّةُ التَّكْذِيبِ بِهِ كَمَا يَقْتَضِيِهِ قَوْلُهُ: كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً [الْجِنّ: ٧] حَسْبَمَا يَأْتِي.
أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُعْلِمَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ وُقُوعَ حَدَثٍ عَظِيمٍ فِي دَعْوَتِهِ أَقَامَهُ الله تكريما لنبيئه وَتَنْوِيهًا بِالْقُرْآنِ وَهُوَ أَنْ سَخَّرَ بَعْضًا مِنَ النَّوْعِ الْمُسَمَّى جِنًّا لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَأَلْهَمَهُمْ أَوْ عَلَّمَهُمْ فَهْمَ مَا سَمِعُوهُ وَاهْتِدَاءَهُمْ إِلَى مِقْدَارِ إِرْشَادِهِ إِلَى الْحَقِّ وَالتَّوْحِيدِ وَتَنْزِيِهِ اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فَكَانَتْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ فِي أُصُولِهَا بَالِغَةً إِلَى عَالَمٍ مِنَ الْعَوَالِمِ الْمُغَيَّبَةِ لَا عَلَاقَةَ لِمَوْجُودَاتِهِ بِالتَّكَالِيفِ وَلَا بِالْعَقَائِدِ بَلْ هُوَ عَالَمٌ مَجْبُولٌ أَهْلُهُ عَلَى مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ لَا يَعْدُو أَحَدُهُمْ فِي مُدَّةِ الدُّنْيَا جِبِلَّتَهُ فَيَكُونُ عَلَى مِعْيَارِهَا مَصِيرُهُ الْأَبَدِيُّ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَبْعَثْ إِلَيْهِمْ بِشَرَائِعَ.
وَقَدْ كَشَفَ اللَّهُ لِهَذَا الْفَرِيقِ مِنْهُمْ حَقَائِقَ مِنْ عَقِيدَةِ الْإِسْلَامِ وَهَدْيِهِ فَفَهِمُوهُ.
هَذَا الْعَالَمُ هُوَ عَالَمُ الْجِنِّ وَهُوَ بِحَسَبِ مَا يُسْتَخْلَصُ مِنْ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ وَمِنْ صِحَاحِ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ وَحَسَنِهَا نَوْعٌ مِنَ الْمُجَرَّدَاتِ أَعْنِي الْمَوْجُودَاتِ اللَّطِيفَةَ غَيْرَ الْكَثِيفَةِ، الْخَفِيَّةَ عَنْ حَاسَّةِ الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ، مُنْتَشِرَةٌ فِي أَمْكِنَةٍ مَجْهُولَةٍ لَيْسَتْ عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاوَاتِ بَلْ هِيَ فِي أَجْوَاءٍ غَيْرِ مَحْصُورَةٍ وَهِيَ مِنْ مَقُولَةِ الْجَوْهَرِ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُجَرَّدَاتِ أَيْ لَيْسَتْ أَجْسَامًا وَلَا جُسْمَانِيَّاتٍ بَلْ هِيَ مَوْجُودَاتٌ رُوحَانِيَّةٌ مَخْلُوقَةٌ مِنْ عُنْصُرٍ نَارِيٍّ وَلَهَا حَيَاةٌ وَإِرَادَةٌ وَإِدْرَاكٌ خَاصٌّ بِهَا لَا يُدْرَى مَدَاهُ. وَهَذِه المجردات الناوية جِنْسٌ مِنْ أَجْنَاسِ الْجَوَاهِرِ تَحْتَوِي عَلَى الْجِنِّ وَعَلَى الشَّيَاطِينِ فهما نَوْعَانِ لنجس الْمُجَرَّدَاتِ النَّارِيَّةِ لَهَا إِدْرَاكَاتٌ خَاصَّةٌ وَتَصَرُّفَاتٌ مَحْدُودَةٌ وَهِيَ مُغَيَّبَةٌ عَنِ الْأَنْظَارِ مُلْحَقَةٌ بِعَالَمِ الْغَيْبِ لَا تَرَاهَا الْأَبْصَارُ وَلَا تُدْرِكُهَا أَسْمَاعُ النَّاسِ إِلَّا إِذَا أَوْصَلَ اللَّهُ الشُّعُورَ بِحَرَكَاتِهَا وَإِرَادَاتِهَا إِلَى الْبَشَرِ عَلَى وَجْهِ الْمُعْجِزَةِ خَرْقًا لِلْعَادَةِ لِأَمْرٍ قَضَاهُ اللَّهُ وَأَرَادَهُ.
وَبِتَعَاضُدِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ وَتَنَاصُرِهَا وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا لَا يَعْدُو أَنَّهُ ظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ وَهِيَ ظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ، أَوْ ظَنِّيُّ الْمَتْنِ وَالدَّلَالَةِ وَهِيَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، حَصَلَ مَا يَقْتَضِي الِاعْتِقَادَ بِوُجُودِ مَوْجُودَاتٍ خَفِيَّةٍ تُسَمَّى الْجِنَّ فَتُفَسَّرُ بِذَلِكَ مَعَانِي آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَخْبَارٍ مِنَ السُّنَّةِ.

[سُورَة الانشقاق (٨٤) : الْآيَات ١ إِلَى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦)
قُدِّمَ الظَّرْفُ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ عَلَى عَامِلِهِ وَهُوَ كادِحٌ لِلتَّهْوِيلِ وَالتَّشْوِيقِ إِلَى الْخَبَرِ وَأَوَّلُ الْكَلَامِ فِي الِاعْتِبَارِ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ إِلَخْ.
وَلَكِنْ لَمَّا تَعَلَّقَ إِذَا بِجُزْءٍ مِنْ جُمْلَةِ إِنَّكَ كادِحٌ وَكَانَتْ إِذَا ظَرْفًا مُتَضَمِّنًا مَعْنَى الشَّرْطِ صَارَ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ جَوَابًا لِشَرْطِ إِذَا وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ إِذَا ظَرْفٌ خَافِضٌ لِشَرْطِهِ مَنْصُوبٌ بِجَوَابِهِ، أَيْ خَافِضٌ لِجُمْلَةِ شَرْطِهِ بِإِضَافَتِهِ إِلَيْهَا مَنْصُوبًا بِجَوَابِهِ لِتَعَلُّقِهِ بِهِ فَكِلَاهُمَا عَامِلٌ وَمَعْمُولٌ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ.
وإِذَا ظَرْفٌ لِلزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْفِعْلُ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ الْمُضَافَةِ إِلَيْهِ إِذَا مُؤَوَّلٌ بِالْمُسْتَقْبَلِ وَصِيَغَ بِالْمُضِيِّ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ لِأَنَّ أَصْلَ إِذَا الْقَطْعُ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ.
وَانْشَقَّتْ مُطَاوِعُ شَقَّهَا، أَيْ حِينَ يَشُقُّ السَّمَاءَ شَاقٌّ فَتَنْشَقُّ، أَيْ يُرِيدُ اللَّهُ شَقَّهَا فَانْشَقَّتْ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَالِانْشِقَاقُ هَذَا هُوَ الِانْفِطَارُ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: ١] وَهُوَ انْشِقَاقٌ يَلُوحُ لِلنَّاسِ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مِنْ جَرَّاءِ اخْتِلَالِ تَرْكِيبِ الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ أَوْ مِنْ ظُهُورِ أَجْرَامٍ كَوْكَبِيَّةٍ تَخْرُجُ عَنْ دَوَائِرِهَا الْمُعْتَادَةِ فِي الْجَوِّ الْأَعْلَى فَتَنْشَقُّ الْقُبَّةُ الْهَوَائِيَّةُ فَهُوَ انْشِقَاقٌ يَقَعُ عِنْدَ اخْتِلَالِ نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ.
وَقُدِّمَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ دُونَ أَنْ يُقَالَ:
إِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الْحُكْمِ وَهُوَ التَّعْلِيقُ الشَّرْطِيُّ، أَيْ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ، زِيَادَةً عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ إِذَا فِي الشَّرْطِيَّةِ مِنْ قَصْدِ الْجَزْمِ بِحُصُولِ الشَّرْطِ بِخِلَافِ (إِنَّ).
وَأَذِنَتْ، أَيِ اسْتَمَعَتْ، وَفِعْلُ أَذِنَ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمٍ جَامِدٍ وَهُوَ اسْمُ


الصفحة التالية
Icon