عَلَى أَنَّهُ مِنْ صُنْعِ النَّاسِ، قَالَ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاء: ٨٢].
وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : ثُمَّ لَمْ تَخْلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعِ بَعْدَ أَنْ نُظِّمَتْ هَذَا التَّنْظِيمَ السِّرِّيَّ مِنْ نُكْتَةٍ ذَاتِ جَزَالَةٍ: فَفِي الْأُولَى الْحَذْفُ وَالرَّمْزُ إِلَى الْغَرَضِ بِأَلْطَفِ وَجْهٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ مَا فِي التَّعْرِيفِ مِنَ الْفَخَامَةِ، وَفِي الثَّالِثَةِ مَا فِي تَقْدِيمِ الرَّيْبِ عَلَى الظَّرْفِ، وَفِي الرَّابِعَةِ الْحَذْفُ وَوَضْعُ الْمَصْدَرِ- وَهُوَ الْهُدَى- مَوْضِعَ الْوَصْفِ وَإِيرَادُهُ مُنَكَّرًا وَالْإِيجَازُ فِي ذكر الْمُتَّقِينَ اهـ. فَالتَّقْوَى إِذَنْ بِهَذَا الْمَعْنَى هِيَ أَسَاسُ الْخَيْرِ، وَهِيَ بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ الَّذِي هُوَ غَايَةُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ جُمَّاعُ الْخَيْرَاتِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ لَمْ يَتَكَرَّرْ لَفْظٌ فِي الْقُرْآنِ مِثْلَمَا تَكَرَّرَ لَفْظُ التَّقْوَى اهتماما بشأنها.
[٣]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٣]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ.
يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُتَّصِلًا بقوله: لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: ٢] عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِإِرْدَافِ صِفَتِهِمُ الْإِجْمَالِيَّةِ بِتَفْصِيلٍ يُعْرَفُ بِهِ الْمُرَادُ، وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ مَبْدَأُ اسْتِطْرَادٍ لِتَصْنِيفِ أَصْنَافِ النَّاسِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِي تَلَقِّي الْكِتَابِ الْمُنَوَّهِ بِهِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ بَعْدَ أَنْ كَانُوا قَبْلَ الْهِجْرَةِ صِنْفَيْنِ، فَقَدْ كَانُوا قَبْلَ الْهِجْرَةِ صِنْفًا مُؤْمِنِينَ وَصِنْفًا كَافِرِينَ مُصَارِحِينَ، فَزَادَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ صِنْفَانِ: هُمَا الْمُنَافِقُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَالْمُشْرِكُونَ الصُّرَحَاءُ هُمْ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ
الْأَوَّلُونَ، وَالْمُنَافِقُونَ ظَهَرُوا بِالْمَدِينَةِ فَاعْتَزَّ بِهِمُ الْأَوَّلُونَ الَّذِينَ تَرَكَهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِدَارِ الْكُفْرِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ كَانُوا فِي شُغْلٍ عَنِ التَّصَدِّي لِمُنَاوَأَةِ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ الْإِسْلَامُ فِي الْمَدِينَةِ بِجِوَارِهِمْ أَوْجَسُوا خِيفَةً فَالْتَفُّوا مَعَ الْمُنَافِقِينَ وَظَاهَرُوا الْمُشْرِكِينَ. وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ فَرِيقَانِ: فَرِيقٌ هُمُ الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِمَّنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ وَكَانَ الْقُرْآنُ هُدًى لَهُمْ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَةِ هَذَا الْمَوْصُولِ بِالْمَوْصُولِ الْآخَرِ الْمَعْطُوفِ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [الْبَقَرَة: ٤] إِلَخْ. فَالْمُثْنَى عَلَيْهِمْ هُنَا هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مُشْرِكِينَ فَسَمِعُوا الدَّعْوَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ فَتَدَبَّرُوا فِي النَّجَاةِ وَاتَّقَوْا عَاقِبَةَ الشِّرْكِ فَآمَنُوا، فَالْبَاعِثُ الَّذِي بَعَثَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ هُوَ التَّقْوَى دُونَ الطَّمَعِ أَوِ التَّجْرِبَةِ، فَوَائِلُ بْنُ حُجْرٍ مَثَلًا لَمَّا جَاءَ مِنَ الْيَمَنِ رَاغِبًا فِي الْإِسْلَامِ هُوَ مِنَ الْمُتَّقِينَ، وَمُسَيْلِمَةُ حِينَ وَفَدَ مَعَ
عَرَفَةَ فَيَجْعَلُ حَجَّتَهُ عُمْرَةً وَيَحُجُّ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَهُ
تَعَالَى إِلَى الْحَجِّ أَيْ إِلَى وَقْتِ الْحَجِّ الْقَابِلِ وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ إِلَى الْحَجِّ أَيْ إِلَى أَيَّامِ الْحَجِّ.
وَقَوْلُهُ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ الْآيَةَ عُطِفَتْ عَلَى فَمَنْ تَمَتَّعَ، لِأَنَّ فَمَنْ تَمَتَّعَ مَعَ جَوَابِهِ وَهُوَ فَمَا اسْتَيْسَرَ مُقَدَّرٌ فِيهِ مَعْنَى فَمَنْ تَمَتَّعَ واجدا الْهَدْي فعطف عَلَيْهِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ.
وَجَعَلَ اللَّهُ الصِّيَامَ بَدَلًا عَنِ الْهَدْيِ زِيَادَةً فِي الرُّخْصَةِ وَالرَّحْمَةِ وَلِذَلِكَ شَرَعَ الصَّوْمَ مُفَرَّقًا فَجَعَلَهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثَلَاثَةً مِنْهَا فِي أَيَّامِ الْحَجِّ وَسَبْعَةً بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنَ الْحَجِّ.
فَقَوْلُهُ: فِي الْحَجِّ أَيْ فِي أَشْهُرِهِ إِن كَانَ قد أَمْكَنَهُ الِاعْتِمَارُ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْحَجِّ، فَإِنْ لَمْ يُدْرِكِ الْحَجَّ وَاعْتَمَرَ فَتِلْكَ صِفَةٌ أُخْرَى لَا تَعَرُّضَ إِلَيْهَا فِي الْآيَةِ.
وَقَوْلُهُ: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ فَذْلَكَةُ الْحِسَابِ (١) أَيْ جَامِعَتُهُ فَالْحَاسِبُ إِذَا ذَكَرَ عَدَدَيْنِ فَصَاعِدًا قَالَ عِنْدَ إِرَادَةِ جَمْعِ الْأَعْدَادِ فَذَلِكَ أَيِ الْمَعْدُودُ كَذَا فَصِيغَتْ لِهَذَا الْقَوْلِ صِيغَةَ نَحْتٍ مِثْلَ بَسْمَلَ إِذَا قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ وَحَوْقَلَ إِذَا قَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَحُرُوفُ فَذْلَكَةَ مُتَجَمِّعَةٌ مِنْ حُرُوفِ فَذَلِكَ كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:

ثَلَاثٌ بِالْغَدَاةِ فَهُنَّ حَسْبِي وَسِتٌّ حِينَ يُدْرِكُنِي الْعِشَاءُ
فَذَلِكَ تِسْعَةٌ فِي الْيَوْمِ رَيِّي وَشُرْبُ الْمَرْءِ فَوْقَ الرَّيِّ دَاءُ
فَلَفْظُ فَذْلَكَةَ كَلِمَةٌ مُوَلَّدَةٌ لَمْ تُسْمَعْ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ غَلَبَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْفَذْلَكَةِ عَلَى خُلَاصَةِ جَمْعِ الْأَعْدَادِ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ الْمَحْكِيُّ جَرَى بِغَيْرِ كَلِمَةِ «ذَلِكَ» كَمَا نَقُولُ فِي قَوْلِهِ: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ إِنَّهَا فَذْلَكَةٌ مَعَ كَوْنِ الْوَاقِعِ فِي الْمَحْكِيِّ لَفْظُ «تِلْكَ» لَا لَفْظُ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقَ:
ثَلَاثٌ وَاثْنَتَانِ فَتِلْكَ خَمْسٌ وَسَادِسَةٌ تَمِيلُ إِلَى الشِّمَامِ
(أَيْ إِلَى الشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ) وَفِي وَجْهِ الْحَاجَةِ إِلَى الْفَذْلَكَةِ فِي الْآيَةِ وُجُوهٌ، فَقِيلَ هُوَ مُجَرَّدُ تَوْكِيدٍ كَمَا تَقُولُ كَتَبْتُ بِيَدِي يَعْنِي أَنَّهُ جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ مَا وَقَعَ فِي شِعْرِ الْأَعْشَى أَيْ أَنَّهُ جَاءَ عَلَى أُسْلُوبٍ عَرَبِيٍّ وَلَا يُفِيدُ إِلَّا تَقْرِيرَ الْحُكْمِ فِي الذِّهْنِ مَرَّتَيْنِ وَلِذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» لَمَّا ذَكَرَ مِثْلَهُ
كَقَوْلِ الْعَرَبِ عِلْمَانِ خَيْرٌ مِنْ عِلْمٍ. وَعَنِ الْمُبَرِّدِ أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ بَقِيَ شَيْءٌ مِمَّا يَجِبُ صَوْمُهُ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ قَدْ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ الْمُرَادَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ أَوْ سَبْعَةِ أَيَّامٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ بَدَلًا
_________
(١) نصّ عَلَيْهِ فِي الْبَيْضَاوِيّ وحاشيته لمولانا عِصَام الدَّين.
فَأَصْحَابُ الرَّأْيِ الْأَوَّلِ يَرَوْنَ تَعْلِيقَ الْمَحَبَّةِ بِذَاتِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا مَجَازًا بِتَشْبِيهِ الرَّغْبَةِ فِي مَرْضَاتِهِ بِالْمَحَبَّةِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ الثَّانِي يَرَوْنَهُ حَقِيقَةً وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَمِنْ آثَارِ الْمَحَبَّةِ تَطَلُّبُ الْقُرْبِ مِنَ الْمَحْبُوبِ وَالِاتِّصَالِ بِهِ وَاجْتِنَابُ فِرَاقِهِ. وَمِنْ آثَارِهَا مَحَبَّةُ مَا يَسُرُّهُ وَيُرْضِيهِ، وَاجْتِنَابُ مَا يُغْضِبُهُ، فَتَعْلِيقُ لُزُومِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الرَّسُولَ دَعَا إِلَى مَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ وَإِلَى إِفْرَادِ الْوِجْهَةِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ كَمَالُ الْمَحَبَّةِ.
وَأَمَّا إِطْلَاقُ الْمَحَبَّةِ فِي قَوْلِهِ: يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ فَهُوَ مَجَازٌ لَا مَحَالَةَ أُرِيدَ بِهِ لَازِمُ المحبّة وَهُوَ الرضى وَسَوْقُ الْمَنْفَعَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ تَجَلِّيَاتٍ لِلَّهِ يَعْلَمُهَا سُبْحَانَهُ. وَهُمَا الْمُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِقَوْلِهِ: يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ الْمَحَبَّةِ وَفِي الْقُرْآنِ:
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ [الْمَائِدَة: ١٨].
وَتَعْلِيقُ مَحَبَّةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى فَاتَّبِعُونِي الْمُعَلَّقِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ يَنْتَظِمُ مِنْهُ قِيَاسٌ شَرْطِيٌّ اقْتِرَانِيٌّ. وَيَدُلُّ عَلَى الْحُبَّ الْمَزْعُومَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ فَهُوَ حُبٌّ كَاذِبٌ، لِأَنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعٌ، وَلِأَنَّ ارْتِكَابَ مَا يَكْرَهُهُ الْمَحْبُوبُ إِغَاضَةٌ لَهُ وَتَلَبُّسٌ بِعَدُوِّهِ وَقَدْ قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ:
أَأُحِبُّهُ وَأُحِبُّ فِيهِ مَلَامَةً إِنَّ الْمَلَامَةَ فِيهِ مِنْ أَعْدَائِهِ
فَعُلِمَ أَنَّ حُبَّ الْعَدُوِّ لَا يُجَامِعُ الْحُبَّ وَقَدْ قَالَ الْعِتَابِيُّ:
تَوَدُّ عَدُوِّي ثُمَّ تَزْعُمُ أَنَّنِي صَدِيقُكَ لَيْسَ النَّوْكُ عَنْكَ بِعَازِبِ
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فِي قُوَّةِ التَّذْيِيلِ مِثْلَ جُمْلَةِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الْبَقَرَة: ٢٨٤] الْمُتَقَدِّمَةِ. وَلَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلِّقٌ لِلصِّفَتَيْنِ لِيَكُونَ النَّاسُ سَاعِينَ فِي تَحْصِيلِ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَة وَالرَّحْمَة.
[٣٢]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٣٢]
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢)
عودة إِلَى الْمَوْعِظَةِ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ الْبَحْتِ: فَذْلَكَةً لِلْكَلَامِ، وَحِرْصًا عَلَى الْإِجَابَةِ،
- فَابْتَدَأَ الْمَوْعِظَةَ أَوَّلًا بِمُقَدِّمَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [آل عمرَان: ١٠]
- ثُمَّ شَرَعَ فِي الْمَوْعِظَةِ بِقَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [آل عمرَان: ١٢] الْآيَةَ.
مِنَ التَّوْزِيعِ عَلَى حَسَبِ الْعَدْلِ. وَإِفْرَادُ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً.
وأَدْنى بِمَعْنَى أَقْرَبَ، وَهُوَ قُرْبٌ مَجَازِيٌّ أَيْ أَحَقُّ وَأَعْوَنُ عَلَى أَنْ لَا تَعُولُوا، وَ «تَعُولُوا» مُضَارِعُ عَالَ عَوْلًا، وَهُوَ فِعْلٌ وَاوِيُّ الْعَيْنِ، بِمَعْنَى جَارَ وَمَالَ، وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَبِهِ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ، يُقَالُ: عَالَ الْمِيزَانُ عَوْلًا إِذَا مَالَ، وَعَالَ فُلَانٌ فِي حُكْمِهِ أَيْ جَارَ، وَظَاهِرٌ أَنَّ نُزُولَ الْمُكَلَّفِ إِلَى الْعَدَدِ الَّذِي لَا يُخَافُ مَعَهُ عَدَمُ الْعَدْلِ أَقْرَبُ إِلَى عَدَمِ الْجَوْرِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَيُفِيدُ زِيَادَةَ تَأْكِيدِ كَرَاهِيَةِ الْجَوْرِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْحُكْمِ الْمُتَضَمِّنِ لَهُ قَوْلَهُ: فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أَيْ ذَلِكَ أَسْلَمُ مِنَ الْجَوْرِ، لِأَنَّ التَّعَدُّدَ يُعَرِّضُ الْمُكَلَّفَ إِلَى الْجَوْرِ وَإِنْ بَذَلَ جُهْدَهُ فِي الْعَدْلِ، إِذْ لِلنَّفْسِ رَغَبَاتٌ وَغَفَلَاتٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ قَوْلُهُ: أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا تَأْكِيدًا لِمَضْمُونِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا وَيَكُونُ تَرْغِيبًا فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ أَوِ التَّعَدُّدِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، إِذْ هُوَ سَدَّ ذَرِيعَةَ الْجَوْرِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ الْعَدْلُ شَرْطًا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، وَهُوَ الَّذِي نَحَّاهُ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ.
وَقيل: «معنى أَلا تَعُولُوا» أَنْ لَا تَكْثُرَ عِيَالُكُمْ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ عَالَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ يعولهم بِمَعْنى مَالهم، يَعْنِي فَاسْتَعْمَلَ نَفْيَ كَثْرَةِ الْعِيَالِ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّ الْعَوْلَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْعِيَالِ، وَالْإِخْبَارُ عَنِ الرَّجُلِ بِأَنَّهُ يَعُولُ يَسْتَلْزِمُ كَثْرَةَ الْعِيَالِ، لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِشَيْءٍ لَا يَخْلُو عَنْهُ أَحَدٌ فَمَا يُخْبِرُ الْمُخْبَرَ بِهِ إِلَّا إِذَا رَآهُ تَجَاوَزَ الْحَدَّ الْمُتَعَارَفَ. كَمَا تَقُولُ فُلَانٌ يَأْكُلُ، وَفُلَانٌ يَنَامُ، أَيْ يَأْكُلُ كَثِيرًا وَيَنَامُ كَثِيرًا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ كَوْنُهُ مَعْنًى لِعَالَ صَرِيحًا، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ عَالَ بِمَعْنَى كَثُرَتْ عِيَالُهُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ أَعَالَ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ مَأْثُورٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ بِهِ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ مِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ بَعِيدٌ، وَكِنَايَةٌ خَفِيَّةٌ، لَا يُلَائِمُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَيَكُونُ فِي الْآيَةِ تَرْغِيبٌ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْوَاحِدَةِ لِخُصُوصِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ السِّعَةَ فِي الْإِنْفَاقِ، لِأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْوَاحِدَةِ
وَبَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَنَهَى وَحَذَّرَ، عَقَّبَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالتَّهْدِيدِ فَقَالَ: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَلْوُوا- بِلَامٍ سَاكِنَةٍ وَوَاوَيْنِ بَعْدَهَا، أُولَاهُمَا مَضْمُومَةٌ- فَهُوَ مُضَارِعُ لَوَى، وَاللَّيُّ: الْفَتْلُ وَالثَّنْيُ. وَتَفَرَّعَتْ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ مَعَانٍ شَاعَتْ فَسَاوَتِ الْحَقِيقَةَ، مِنْهَا: عُدُولٌ عَنْ جَانِبٍ وَإِقْبَالٌ عَلَى جَانِبٍ آخَرَ فَإِذَا عُدِّيَ بِعَنْ فَهُوَ انْصِرَافٌ عَنِ الْمَجْرُورِ بِعَنْ، وَإِذَا عُدِّيَ بِإِلَى فَهُوَ انْصِرَافٌ عَنْ جَانِبٍ كَانَ فِيهِ، وَإِقْبَالٌ عَلَى الْمَجْرُورِ بِعَلَى، قَالَ تَعَالَى: وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ [آل عمرَان: ١٥٣] أَيْ لَا تَعْطِفُونَ عَلَى أَحَدٍ. وَمِنْ مَعَانِيهِ: لَوَى عَنِ الْأَمْرِ تَثَاقَلَ، وَلَوَى أَمْرَهُ عَنِّي أَخْفَاهُ، وَمِنْهَا: لَيُّ اللِّسَانِ، أَيْ تَحْرِيفُ الْكَلَامِ فِي النُّطْقِ بِهِ أَوْ فِي مَعَانِيهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٧٨]، وَقَوْلِهِ: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٤٦].
فَمَوْقِعُ فِعْلِ تَلْوُوا هُنَا مَوْقِعٌ بَلِيغٌ لِأَنَّهُ صَالِحٌ لِتَقْدِيرِ مُتَعَلِّقِهِ الْمَحْذُوفِ مَجْرُورًا بِحَرْفِ (عَنْ) أَوْ مَجْرُورًا بِحَرْفِ (عَلَى) فَيَشْمَلُ مَعَانِيَ الْعُدُولِ عَنِ الْحَقِّ فِي الْحُكْمِ، وَالْعُدُولِ عَنِ الصِّدْقِ فِي الشَّهَادَةِ، أَوِ التَّثَاقُلِ فِي تَمْكِينِ الْمُحِقِّ مِنْ حَقِّهِ وَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِطَالِبِهَا، أَوِ الْمِيلِ فِي أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فِي الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ. وَأَمَّا الْإِعْرَاضُ فَهُوَ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْقَضَاءِ وَمِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَالْمُمَاطَلَةُ فِي الْحُكْمِ مَعَ ظُهُورِ الْحَقِّ، وَهُوَ غَيْرُ اللَّيِّ كَمَا رَأَيْتَ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَخلف: وَإِنْ تَلْوُوا- بِلَامٍ مَضْمُومَةٍ بَعْدَهَا وَاوٌ سَاكِنَةٌ- فَقِيلَ: هُوَ مُضَارِعُ وَلِيَ
الْأَمْرَ، أَيْ بَاشَرَهُ. فَالْمَعْنَى: وَإِنْ تَلُوا الْقَضَاءَ بَيْنَ الْخُصُومِ، فَيَكُونُ رَاجِعًا إِلَى قَوْلِهِ: أَنْ تَعْدِلُوا وَلَا يَتَّجِهُ رُجُوعُهُ إِلَى الشَّهَادَةِ، إِذْ لَيْسَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ بِوِلَايَةٍ. وَالْوَجْهُ أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ تَخْفِيفُ تَلْوُوا نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْوَاوِ إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا فَالْتَقَى وَاوَانِ سَاكِنَانِ فَحُذِفَ أَحَدُهُمَا، وَيَكُونُ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدًا.
وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً كِنَايَةٌ عَنْ وَعِيدٍ، لِأَنَّ الْخَبِيرَ بِفَاعِلِ السُّوءِ، وَهُوَ قَدِيرٌ، لَا يُعْوِزُهُ أَنْ يُعَذِّبَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَأُكِّدَتِ الْجُمْلَةُ ب «إنّ» و «كَانَ».
وَجَدْعًا لَهُ،
وَفِي الْحَدِيثِ «تَبًّا وَسُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي»
، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٣٦] حاشَ لِلَّهِ [يُوسُف: ٥١]. وَذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّنْبِيهُ عَلَى الْمُرَادِ مِنَ الْكَلَام.
وَمِنْه قَول تَعَالَى عَنْ زُلَيْخَا وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ [يُوسُف: ٢٣] لِأَنَّ تَهَيُّؤَهَا لَهُ غَرِيبٌ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ يُوسُفَ فَلَا يَدْرِي مَا أَرَادَتْ فَقَالَتْ لَهُ هَيْتَ لَكَ [يُوسُف: ٢٣]، إِذَا كَانَ (هيْتَ) اسْمَ فِعْلِ مُضِيٍّ بِمَعْنَى تَهَيَّأْتُ، وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. وَقَدْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ مَعْلُومًا فَيُخْشَى خَفَاؤُهُ فَيُؤْتَى بِاللَّامِ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ نَحْوَ حاشَ لِلَّهِ [يُوسُف: ٥١]، وَهِيَ حِينَئِذٍ جَدِيرَةٌ بِاسْمِ لَامِ التَّبْيِينِ، كَالدَّاخِلَةِ إِلَى الْمُوَاجَهِ بِالْخِطَابِ فِي قَوْلِهِمْ: سَقَيًا لَكَ وَرَعْيًا، وَنَحْوِهِمَا، وَفِي قَوْله: هَيْتَ [يُوسُف: ٢٣] اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ بِمَعْنَى تَعَالَ. وَإِنَّمَا لَمْ تُجْعَلْ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَامَ تَقْوِيَةٍ، لِأَنَّ لَامَ التَّقْوِيَةِ يَصِحُّ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهَا مَعَ ذِكْرِ مَدْخُولِهَا، وَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا يُذْكَرُ مَدْخُولُ اللَّامِ إلّا مَعهَا.
[٥١- ٥٣]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : الْآيَات ٥١ إِلَى ٥٣]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣)
تَهَيَّأَتْ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ لِقَبُولِ النَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ أهل الْكتاب بعد مَا سَمِعُوا مِنِ اضْطِرَابِ الْيَهُودِ فِي دِينِهِمْ وَمُحَاوَلَتِهِمْ تَضْلِيلَ الْمُسْلِمِينَ وَتَقْلِيبَ الْأُمُور للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى الْآيَةَ، لِأَنَّ الْوَلَايَةَ تَنْبَنِي عَلَى الْوِفَاقِ وَالْوِئَامِ وَالصِّلَةِ
الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السَّجْدَة: ٢١] وَهَذَا مِنْ فَرْطِ رَحْمَتِهِ الْمُمَازِجَةِ لِمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ وَفِيهِ إِنْذَارٌ لِقُرَيْشٍ بِأَنَّهُمْ سَيُصِيبُهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ قَبْلَ
الِاسْتِئْصَالِ، وَهُوَ اسْتِئْصَالُ السَّيْفِ. وَإِنَّمَا اخْتَارَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْصَالُهُمْ بِالسَّيْفِ إِظْهَارًا لِكَوْنِ نَصْرِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَلَيْهِمْ كَانَ بِيَدِهِ وَيَدِ الْمُصَدِّقِينَ بِهِ. وَذَلِكَ أَوْقَعُ عَلَى الْعَرَبِ، وَلِذَلِكَ رُوعِيَ حَالُ الْمَقْصُودِينَ بِالْإِنْذَارِ وَهُمْ حَاضِرُونَ. فَنَزَّلَ جَمِيعَ الْأُمَمِ مَنْزِلَتَهُمْ، فَقَالَ: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا، فَإِنَّ (لَوْلَا) هُنَا حَرْفُ تَوْبِيخٍ لِدُخُولِهَا عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ مَاضَوِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَيْسَتْ (لَوْلَا) حَرْفَ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ.
وَالتَّوْبِيخُ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْحَاضِرِينَ دُونَ الْمُنْقَرِضِينَ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ. فَفِي هَذَا التَّنْزِيلِ إِيمَاءٌ إِلَى مُسَاوَاةِ الْحَالَيْنِ وَتَوْبِيخٌ لِلْحَاضِرِينَ بِالْمُهِمِّ مِنَ الْعِبْرَةِ لِبَقَاءِ زَمَنِ التَّدَارُكِ قَطْعًا لِمَعْذَرِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ (لَوْلَا) هُنَا لِلتَّمَنِّي عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ، وَيَكُونَ التَّمَنِّي كِنَايَةً عَنِ الْإِخْبَارِ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ الْأَمْرَ الْمُتَمَنَّى فَيَكُونَ مِنْ بِنَاءِ الْمَجَازِ عَلَى الْمَجَازِ، فَتَكُونَ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ مَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْفَرَحِ
فِي الْحَدِيثِ «اللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ»
الْحَدِيثَ. وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ الْمُضَافِ مَعَ جُمْلَتِهِ عَلَى عَامِلِهِ فِي قَوْلِهِ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا لِلِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِ جُمْلَتِهِ، وَأَنَّهُ زَمَنٌ يَحِقُّ أَنْ يَكُونَ بَاعِثًا عَلَى الْإِسْرَاعِ بِالتَّضَرُّعِ مِمَّا حَصَلَ فِيهِ مِنَ الْبَأْسِ.
وَالْبَأْسُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحِينَ الْبَأْسِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٧]. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الشِّدَّةُ عَلَى الْعَدُوِّ وَغَلَبَتُهُ. وَمَجِيءُ الْبَأْسِ: مَجِيءُ أَثَرِهِ، فَإِنَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ قُوَّةِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَغَلَبِهِ عَلَيْهِمْ. وَالْمَجِيءُ مُسْتَعَارٌ لِلْحُدُوثِ وَالْحُصُولِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ تَشْبِيهًا لِحُدُوثِ الشَّيْءِ بِوُصُولِ الْقَادِمِ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ بِتَنَقُّلِ الْخُطُوَاتِ.
وَلَمَّا دَلَّ التَّوْبِيخُ أَوِ التَّمَنِّي عَلَى انْتِفَاءِ وُقُوعِ الشَّيْءِ عَطَفَ عَلَيْهِ بِ (لَكِنْ) عَطْفًا عَلَى مَعْنَى الْكَلَامِ، لِأَنَّ التَّضَرُّعَ يَنْشَأُ عَنْ لِينِ الْقَلْبِ فَكَانَ نَفْيُهُ الْمُفَادُ بِحَرْفِ التَّوْبِيخِ نَاشِئًا عَنْ ضِدِّ اللِّينِ وَهُوَ الْقَسَاوَةُ، فَعَطَفَ بِ لكِنْ.
أَصْبَحُوا جُثَثًا هَامِدَةً مَيِّتَةً عَلَى أَبْشَعِ مَنْظَرٍ لِمَيِّتٍ.
[٧٩]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٧٩]
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩)
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ [الْأَعْرَاف: ٧٧] وَالتَّوَلِّي الِانْصِرَافُ عَنْ فِرَاقٍ وَغَضَبٍ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى عَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِالشَّيْءِ، وَهُوَ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ فَارَقَ دِيَارَ قَوْمِهِ حِينَ عَلِمَ أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِهِمْ، فَيَكُونُ التَّعْقِيبُ لِقَوْلِهِ: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ [الْأَعْرَاف: ٧٧] لِأَنَّ ظَاهِرَ تَعْقِيبِ التَّوَلِّي عَنْهُمْ وَخِطَابِهِ إِيَّاهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ بَعْدَ أَنْ تأخذهم الرّجفة وَأَصْبحُوا جَاثِمِينَ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا بِقَرِينَةِ الْخِطَابِ أَيْضًا، أَيْ فَأَعْرَضَ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْقَرْيَةِ بَعْدَ أَصَابَتِهَا بِالصَّاعِقَةِ، أَوْ فَأَعْرَضَ عَنِ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ وَاشْتَغَلَ بِالْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: ٣].
فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ قَوْلُهُ: يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ إِلَخْ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّوْبِيخِ لَهُمْ وَالتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّحَسُّرِ أَو فِي التّبري مِنْهُمْ، فَيكون النّداء تحسر فَلَا يَقْتَضِي كَوْنَ أَصْحَابِ الِاسْمِ الْمُنَادَى مِمَّنْ يَعْقِلُ النِّدَاءَ حِينَئِذٍ، مِثْلُ مَا تُنَادِي الْحَسْرَةَ فِي: يَا حَسْرَةً.
وَقَوْلُهُ: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ تَفْسِيرُهُ مِثْلُ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ [الْأَعْرَاف: ٦٢] وَاللَّامُ فِي (لَقَدْ) لَامُ الْقَسَمِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً [الْأَعْرَاف: ٥٩].
وَالِاسْتِدْرَاكُ ب (لَكِن) ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّبَرُّؤِ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي مُعَالَجَةِ كُفْرِهِمْ، سَوَاءٌ كَانَ بِحَيْثُ هُمْ يَسْمَعُونَهُ أَمْ كَانَ قَالَهُ فِي نَفسه، فَلذَلِك التَّبَرُّؤُ يُؤْذِنُ بِدَفْعِ تَوَهُّمِ تَقْصِيرِ فِي الْإِبْلَاغِ وَالنَّصِيحَةِ لِانْعِدَامِ ظُهُورِ فَائِدَةِ الْإِبْلَاغِ وَالنَّصِيحَةِ، فَاسْتَدْرَكَ بِقَوْلِهِ: وَلكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ، أَيْ تَكْرَهُونَ النَّاصِحِينَ فَلَا تُطِيعُونَهُمْ فِي نُصْحِهِمْ، لِأَنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ، فَأَرَادَ بِذَلِكَ الْكِنَايَةَ عَنْ رَفْضِهِمُ النَّصِيحَةَ.
وَالْأَمْرُ يَشْمَلُ النَّهْيَ عَنِ الضِّدِّ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ نَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، فَالِاجْتِزَاءُ بِالْأَمْرِ بِالْعُرْفِ عَنِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنَ الْإِيجَازِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْأَمْرِ بِالْعُرْفِ هُنَا: لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ فِي دَعْوَةِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ يَدْعُوهُمْ إِلَى أُصُولِ الْمَعْرُوفِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ أَرْسَلَهُ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ فَانْهُ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ قَالَ:
«فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ» وَلَوْ كَانَتْ دَعْوَةُ الْمُشْرِكِينَ مُبْتَدَأَةً بِالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لَنَفَرُوا وَلَمَلَّ الدَّاعِي، لِأَنَّ الْمَنَاكِيرَ غَالِبَةٌ عَلَيْهِمْ وَمُحْدِقَةٌ بِهِمْ، وَيَدْخُلُ فِي الْأَمْرِ بِالْعُرْفِ الِاتِّسَامُ بِهِ وَالتَّخَلُّقُ بِخُلُقِهِ: لِأَنَّ شَأْنَ الْآمِرِ بِشَيْءٍ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِمِثْلِهِ. وَإِلَّا فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلِاسْتِخْفَافِ عَلَى أَنَّ الْآمِرَ يَبْدَأُ بِنَفْسِهِ فَيَأْمُرُهَا كَمَا قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ:
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ هَلَّا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ
عَلَى أَنَّ خِطَابَ الْقُرْآنِ النَّاسَ بِأَنْ يَأْمُرُوا بِشَيْءٍ يُعْتَبَرُ أَمْرًا لِلْمُخَاطَبِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمُتَرْجَمَةُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ هُوَ أَمْرٌ بِذَلِكَ الشَّيْءِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْعُرْفِ كَالتَّعْرِيفِ فِي الْعَفْوَ يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ.
وَحُذِفَ مَفْعُولُ الْأَمْرِ لِإِفَادَةِ عُمُومِ المأمورين وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ [يُونُس:
٢٥]، أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِأَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ كُلَّهُمْ بِكُلِّ خَيْرٍ وَصَلَاحٍ فَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومِ الْمُشْرِكُونَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا لِأَنَّهُمْ سَبَبُ الْأَمْرِ بِهَذَا الْعُمُومِ أَيْ لَا يَصُدَّنَّكَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْ إِعَادَةِ إِرْشَادِهِمْ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ [النِّسَاء: ٦٣].
وَالْإِعْرَاضُ: إِدَارَةُ الْوَجْهِ عَنِ النَّظَرِ لِلشَّيْءِ. مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَارِضِ وَهُوَ الْخَدُّ، فَإِنَّ الَّذِي
يَلْتَفِتُ لَا يَنْظُرُ إِلَى الشَّيْءِ وَقَدْ فُسِّرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ [الْإِسْرَاء:
٨٣] وَهُوَ هُنَا، مُسْتَعَارٌ لِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِمَا يَسُوءُ مِنْ أَحَدٍ، شَبَّهَ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ فِي كَوْنِهِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُ الْعَلَمِ بِهِ لِأَنَّ شَأْنَ الْعِلْمِ بِهِ أَنْ تَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْمُؤَاخَذَةُ.
وَ «الْجَهْلُ» هُنَا ضِدُّ الْحِلْمِ وَالرُّشْدِ، وَهُوَ أَشْهَرُ إِطْلَاقِ الْجَهْلِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَالْمُرَادُ بِالْجَاهِلِينَ السُّفَهَاءُ كُلُّهُمْ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِيهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَأَعْظَمُ
وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ كَشَفَ سِرًّا مِنْ أَسْرَارِ نُفُوسِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُ خَلَقَ فِي
نُفُوسِهِمْ شُحًّا وَحِرْصًا عَلَى الْمَالِ وَفِتْنَةً بِتَوْفِيرِهِ وَالْإِشْفَاقِ مِنْ ضَيَاعِهِ، فَجَعَلَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي عَنَاءٍ وَعَذَابٍ مِنْ جَرَّاءِ أَمْوَالِهِمْ، فَهُمْ فِي كَبَدٍ مِنْ جَمْعِهَا. وَفِي خَوْفٍ عَلَيْهَا مِنَ النُّقْصَانِ، وَفِي أَلَمٍ مِنْ إِنْفَاقِ مَا يُلْجِئُهُمُ الْحَالُ إِلَى إِنْفَاقِهِ مِنْهَا، فَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ تَعْذِيبَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِمَا الشَّأْنُ أَنْ يَكُونَ سَبَبَ نَعِيمٍ وَرَاحَةٍ، وَتَمَّ مُرَادُهُ. وَهَذَا مِنْ أَشَدِّ الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَهَذَا شَأْنُ الْبُخَلَاءِ وَأَهْلِ الشُّحِّ مُطْلَقًا، إِلَّا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ لَهُمْ مَسْلَاةٌ عَنِ الرَّزَايَا بِمَا يَرْجُونَ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى الْإِنْفَاقِ أَوْ عَلَى الصَّبْرِ. ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخُلُقُ قَدْ جَبَلَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ بَوَاعِثِ كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ، إِذْ الْخلق السيّء يَدْعُو بَعْضُهُ بَعْضًا، فَإِنَّ الْكفْر خلق سيّء فَلَا عَجَبَ أَنْ تَنْسَاقَ إِلَيْهِ نَفْسُ الْبَخِيلِ الشَّحِيحِ، وَالنِّفَاقُ يَبْعَثُ عَلَيْهِ الْخلق السيّء مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، لِيَتَّقِي صَاحِبُهُ الْمَخَاطِرَ، وَكَذَلِكَ الشَّأْنُ فِي أَوْلَادِهِمْ إِذْ كَانُوا فِي فِتْنَةٍ مِنَ الْخَوْفِ عَلَى إِيمَانِ بَعْضِ أَوْلَادِهِمْ، وَعَلَى خِلَافٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَعْضِ أَوْلَادِهِمُ الْمُوَفَّقِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ: مِثْلِ حَنْظَلَةَ: ابْن أَبِي عَامِرٍ الْمُلَقَّبِ غِسِّيلَ الْمَلَائِكَةِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ تَعْذِيبِ أَبَوَيْهِمَا.
وَلِكَوْنِ ذِكْرِ الْأَوْلَادِ كَالتَّكْمِلَةِ هُنَا لِزِيَادَةِ بَيَانِ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِكُلِّ مَا هُوَ مَظِنَّةُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ النَّاسُ، عُطِفَ الْأَوْلَادُ بِإِعَادَةِ حَرْفِ النَّفْيِ بَعْدَ الْعَاطِفِ، إِيمَاءً إِلَى أَنَّ ذِكْرَهُمْ كَالتَّكْمِلَةِ وَالِاسْتِطْرَادِ.
وَاللَّامُ فِي لِيُعَذِّبَهُمْ لِلتَّعْلِيلِ: تَعَلَّقَتْ بِفِعْلِ الْإِرَادَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حِكْمَةٌ وَعِلَّةٌ فَتُغْنِي عَنْ مَفْعُولِ الْإِرَادَةِ، وَأَصْلُ فِعْلِ الْإِرَادَةِ أَنْ يُعَدَّى بِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: ١٨٥] وَيُعَدَّى غَالِبًا بِاللَّامِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٢٦] وَقَوْلِ كُثَيِّرٍ:
أُرِيدُ لِأَنْسَى حُبَّهَا فَكَأَنَّمَا تَمَثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ مَكَانِ
وَرُبَّمَا عَدُّوهُ بِاللَّامِ وَكَيْ مُبَالَغَةً فِي التَّعْلِيلِ كَقَوْلِ قَيْسِ بْنِ عُبَادَةَ:
فَمِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ: خَلْقُ الشَّمْسِ، وَخَلْقُ الْأَرْضِ، وَخَلْقُ النُّورِ فِي الشَّمْسِ، وَخَلْقُ الظُّلْمَةِ فِي الْأَرْضِ، وَوُصُولُ شُعَاعِ الشَّمْسِ إِلَى الْأَرْضِ، وَدَوَرَانُ الْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ بِحَيْثُ يَكُونُ نِصْفُ كُرَتِهَا مُوَاجِهًا لِلشُّعَاعِ وَنِصْفُهَا الْآخَرُ مَحْجُوبًا عَنِ الشُّعَاعِ، وَخَلْقُ الْإِنْسَانِ وَجَعْلُ نِظَامِ مِزَاجِهِ الْعَصَبِيِّ مُتَأَثِّرًا بِالشُّعَاعِ نَشَاطًا، وَبِالظُّلْمَةِ فُتُورًا، وَخَلْقُ حَاسَّةِ الْبَصَرِ، وَجَعْلُهَا مُقْتَرِنَةً بِتَأَثُّرِ الضَّوْءِ وَجَعْلُ نِظَامِ الْعَمَلِ مُرْتَبِطًا بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ وَخَلْقُ نِظَامِ الْمِزَاجِ الْإِنْسَانِيِّ مُشْتَمِلًا عَلَى قُوَى قَابِلَةٍ لِلْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ ثُمَّ مَدْفُوعًا إِلَى اسْتِعْمَالِ قُوَاهُ بِقَصْدٍ وَبِغَيْرِ قَصْدٍ بِسَبَبِ نَشَاطِهِ الْعَصَبِيِّ، ثُمَّ فَاقِدًا بِالْعَمَلِ نَصِيبًا مِنْ قُوَاهُ مُحْتَاجًا إِلَى الِاعْتِيَاضِ بِقُوَى تَخَلُّفِهَا بِالسُّكُونِ وَالْفُتُورِ الَّذِي يُلْجِئُهُ إِلَى تَطَلُّبِ الرَّاحَةِ. وَأَيَّةُ آيَاتٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ، وَأَيَّةُ مِنَّةٍ عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْظَمُ من إِيدَاع الله فِيهِ دَوَاعِيَ تَسُوقُهُ إِلَى صَلَاحِهِ وَصَلَاحِ نَوْعِهِ بِدَاعٍ مِنْ نَفسه.
وَوصف لِقَوْمٍ بِأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلَ تَنْهَضُ دَلَالَتُهَا لِلْعُقُولِ بِالتَّأَمُّلِ فِيهَا، وَأَنَّ تَوَجُّهَ التَّفْكِيرِ إِلَى دَلَائِلِهَا غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَّا إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا وَلَفْتِهِ إِلَيْهَا، فَلَمَّا كَانَ سَمَاعُ تَذْكِيرِ اللَّهِ بِهَا هُوَ الْأَصْلُ الْأَصِيلُ فِي اسْتِخْرَاجِ دَلَالَتِهَا وتفريع مَدْلُولَاتِهَا عَلَى تَفَاوُتِ الْأَذْهَانِ فِي الْفِطْنَةِ وَتَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ جَعَلَ آيَاتِ دَلَالَتِهَا حَاصِلَةً لِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يَسْمَعُونَ تَفَاصِيلَ تِلْكَ الدَّلَائِلِ فِي تَضَاعِيفِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ فَالْوَصْفُ بِالسَّمْعِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِهَا وَلَا تَفَطَّنُوا لِدَلَالَتِهَا بِمَنْزِلَةِ الصُّمِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ [الزخرف: ٤٠].
فِي كَيْفِيَّةِ النُّطْقِ بِهَذِهِ النُّونِ بَيْنَ إِدْغَامٍ مَحْضٍ، وَإِدْغَامٍ بِإِشْمَامٍ، وَإِخْفَاءٍ بِلَا إِدْغَامٍ، وَهَذَا الْوَجْهُ الْأَخِيرُ مَرْجُوحٌ، وَأَرْجَحُ الْوَجْهَيْنِ الْآخَرَيْنِ الْإِدْغَامُ بِإِشْمَامٍ، وَهُمَا طَرِيقَتَانِ لِلْكُلِّ وَلَيْسَا مَذْهَبَيْنِ.
وَحَرْفُ عَلى الَّتِي يَتَعَدَّى بِهَا فِعْلُ الْأَمْنِ الْمَنْفِيِّ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى التَّمَكُّنِ مِنْ تَعَلُّقِ الِائْتِمَانِ بِمَدْخُولِ عَلى.
وَالنُّصْحُ عَمَلٌ أَوْ قَوْلٌ فِيهِ نَفْعٌ لِلْمَنْصُوحِ، وَفِعْلُهُ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ غَالِبًا وَبِنَفْسِهِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٦٢].
وَجُمْلَةُ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَتَيْ مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا وَجُمْلَةِ أَرْسِلْهُ. وَالْمَعْنَى هُنَا: أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ مَا فِيهِ نَفْعٌ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَجُمْلَةُ أَرْسِلْهُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ الْإِنْكَارَ الْمُتَقَدِّمَ يُثِيرُ تَرَقُّبَ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِمَعْرِفَةِ مَا يُرِيدُونَ مِنْهُ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
ويَرْتَعْ قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ- بِيَاءِ الْغَائِبِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ- بِنُونِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ- وَهُوَ على قراءتي هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ مُضَارِعُ ارْتَعَى وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الرَّعْيِ لِلْمُبَالَغَةِ فِيهِ.
فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي أَكْلِ الْمَوَاشِي وَالْبَهَائِمِ وَاسْتُعِيرَ فِي كَلَامِهِمْ لِلْأَكْلِ الْكَثِيرِ لِأَنَّ النَّاسَ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الرِّيَاضِ وَالْأَرْيَافِ لِلَّعِبِ وَالسَّبْقِ تَقْوَى شَهْوَةُ الْأَكْلِ فِيهِمْ فَيَأْكُلُونَ أَكْلًا ذَرِيعًا فَلِذَلِكَ شَبَّهَ أَكْلَهُمْ بِأَكْلِ الْأَنْعَامِ. وَإِنَّمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَسُرُّ أَبَاهُمْ أَنْ يَكُونُوا فَرِحِينَ.
وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ- بِنُونٍ وَسُكُونِ الْعَيْنِ-. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِيَاءِ الْغَائِبِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ- وَهُوَ عَلَى قِرَاءَتَيْ هَؤُلَاءِ السِّتَّةِ مُضَارِعُ رَتَعَ إِذَا أَقَامَ فِي خِصْبٍ وَسَعَةٍ مِنَ الطَّعَامِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ
وَقَدْ نَزَلَ الْمُخَاطَبُ مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يَرَ. وَالْخِطَابُ لِمَنْ يَصِحُّ مِنْهُ النَّظَرُ إِلَى حَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ مَعَ وُضُوحِ حَالِهِمْ.
وَالْكُفْرُ: كُفْرَانُ النِّعْمَةِ، وَهُوَ ضِدُّ الشُّكْرِ، وَالْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ مِنْ كُفْرَانِ نِعْمَتِهِ.
وَفِي قَوْله: بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً مَحْسَنُ الِاحْتِبَاكِ. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ وَشُكْرَهَا كُفْرًا بِهَا وَنِقْمَةً مِنْهُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ الخَ.
وَاسْتُعِيرَ التَّبْدِيلُ لِوَضْعِ الشَّيْءِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ شَيْءٌ آخَرُ، لِأَنَّهُ يُشْبِهُ تَبْدِيلَ الذَّاتِ بِالذَّاتِ.
وَالَّذِينَ بَدَّلُوا هَذَا التبديل فريق معرفون، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ تَلَقَّوُا الْكَلِمَةَ الْخَبِيثَةَ مِنَ الشَّيْطَانِ، أَيْ كَلِمَةَ الشِّرْكِ، وَهُمْ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ فَكَابَرُوا دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ وَكَذَّبُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّدُوا مَنِ اسْتَطَاعُوا، وَتَسَبَّبُوا فِي إِحْلَالِ قَوْمِهِمْ دَارَ الْبَوَارِ، فَإِسْنَادُ فِعْلِ أَحَلُّوا إِلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ.
وَنِعْمَةُ اللَّهِ الَّتِي بَدَّلُوهَا هِيَ نِعْمَةُ أَنْ بَوَّأَهُمْ حَرَمَهُ، وَأَمَّنَهُمْ فِي سَفَرِهِمْ وَإِقَامَتِهِمْ، وَجَعَلَ أَفْئِدَةَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، وَسَلَّمَهُمْ مِمَّا أَصَابَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْحُرُوبِ وَالْغَارَاتِ وَالْعُدْوَانِ، فَكَفَرُوا بِمَنْ وَهَبَهُمْ هَذِهِ النِّعَمَ وَعَبَدُوا الْحِجَارَةَ. ثُمَّ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ بَعَثَ فِيهِمْ أفضل أنبيائه- صلّى الله عَلَيْهِم جَمِيعًا- وَهَدَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ، وَهَيَّأَ لَهُمْ أَسْبَابَ السِّيَادَةِ وَالنَّجَاةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، فبدّلو شُكْرَ ذَلِكَ بِالْكُفْرِ بِهِ، فَنِعْمَةُ اللَّهِ الْكُبْرَى هِيَ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ وَبَنِيَّتِهِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-.
وَقَوْمُهُمْ: هُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ فِي مُلَازَمَةِ الْكُفْرِ حَتَّى مَاتُوا كُفَّارًا، فَهُمْ أَحَقُّ بِأَنْ يُضَافُوا إِلَيْهِمْ.
وَالْكَلُّ- بِفَتْحِ الْكَافِ- الْعَالَةُ عَلَى النَّاسِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ تَرَكَ كَلًّا فَعَلَيْنَا»
، أَيْ مَنْ تَرَكَ عِيَالًا فَنَحْنُ نَكْفُلُهُمْ. وَأَصْلُ الْكَلِّ: الثِّقَلُ. وَنَشَأَتْ عَنْهُ مَعَانٍ مَجَازِيَّةٌ اشْتُهِرَتْ فَسَاوَتِ الْحَقِيقَةَ.
وَالْمَوْلَى: الَّذِي يَلِي أَمْرَ غَيْرِهِ. وَالْمَعْنَى: هُوَ عَالَةٌ عَلَى كَافِلِهِ لَا يُدَبِّرُ أَمْرَ نَفْسِهِ.
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٣٠].
ثُمَّ زَادَ وَصْفُهُ بِقِلَّةِ الْجَدْوَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيْنَما يُوَجِّهْهُ، أَيْ مَوْلَاهُ فِي عَمَلٍ لِيَعْمَلَهُ أَوْ يَأْتِيَ بِهِ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ، أَيْ لَا يَهْتَدِي إِلَى مَا وُجِّهَ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْخَيْرَ هُوَ مَا فِيهِ تَحْصِيلُ الْغَرَضِ مِنَ الْفِعْلِ وَنَفْعِهِ.
وَدَلَّتْ صِلَةُ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ عَلَى أَنَّهُ حَكِيمٌ عَالِمٌ بِالْحَقَائِقِ نَاصِحٌ لِلنَّاسِ يَأْمُرُهُمْ بِالْعَدْلِ لِأَنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِذَلِكَ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَهُ وَتَبَصَّرَ فِيهِ.
وَالْعَدْلُ: الْحَقُّ وَالصَّوَابُ الْمُوَافِقُ لِلْوَاقِعِ.
وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: الْمَحَجَّةُ الَّتِي لَا الْتِوَاءَ فِيهَا. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، لِأَنَّ الْعَمَلَ يُشَبَّهُ بِالسِّيرَةِ وَالسُّلُوكِ فَإِذَا كَانَ صَالِحًا كَانَ كَالسُّلُوكِ فِي طَرِيقٍ مُوصِلَةٍ لِلْمَقْصُودِ وَاضِحَةٍ فَهُوَ لَا يَسْتَوِي مَعَ مَنْ لَا يَعْرِفُ هُدًى وَلَا يَسْتَطِيعُ إِرْشَادًا، بَلْ هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ يَكْفُلُهُ.
فَالْأَوَّلُ مِثْلُ الْأَصْنَامِ الْجَامِدَةِ الَّتِي لَا تَفْقَهُ وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إِلَى مَنْ يَحْرُسُهَا وَيَنْفُضُ عَنْهَا الْغُبَارَ وَالْوَسَخَ، وَالثَّانِي مَثَلٌ لِكَمَالِهِ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ وَإِفَاضَتِهِ الْخَيْرَ على عباده.
وَجَاءَ فِي جَوَابِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِفِرْعَوْنَ بِمِثْلِ مَا شَافَهَهُ فِرْعَوْنُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ:
إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى مَسْحُوراً مُقَارَعَةً لَهُ وَإِظْهَارًا لِكَوْنِهِ لَا يَخَافُهُ وَأَنَّهُ يُعَامِلُهُ مُعَامَلَةَ الْمِثْلِ قَالَ تَعَالَى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَة:
١٩٤].
[١٠٣، ١٠٤]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : الْآيَات ١٠٣ إِلَى ١٠٤]
فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤)
أُكْمِلَتْ قِصَّةُ الْمَثَلِ بِمَا فِيهِ تَعْرِيضٌ بِتَمْثِيلِ الْحَالَيْنِ إِنْذَارًا لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ عَاقِبَةَ مَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ وَمُحَاوَلَاتِهِمْ صَائِرَةٌ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ مَكْرُ فِرْعَوْنَ وَكَيْدُهُ، فَفَرَّعَ عَلَى تَمْثِيلِ حَالَيِ الرِّسَالَتَيْنِ وَحَالَيِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمَا ذكر عَاقِبَة الْحَالة الممثل بهَا نذارة لِلْمُمَثَّلِينَ بِذَلِكَ الْمَصِيرِ.
فَقَدْ أَضْمَرَ الْمُشْرِكُونَ إِخْرَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ مَكَّةَ، فَمُثِّلَتْ إِرَادَتُهُمْ بِإِرَادَةِ فِرْعَوْنَ إِخْرَاجَ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاء: ٧٦].
وَالِاسْتِفْزَازُ: الِاسْتِخْفَافُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِبْعَادِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ فِي هَذِه السُّورَة [الْإِسْرَاء: ٧٦].
وَالْمُرَادُ بِمَنْ مَعَهُ جُنْدُهُ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ يَتَّبِعُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَالْأَرْضُ الْأُولَى هِيَ الْمَعْهُودَةُ وَهِيَ أَرْضُ مِصْرَ، وَالْأَرْضُ الثَّانِيَةُ أَرْضُ الشَّامِ وَهِيَ الْمَعْهُودَةُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِوَعْدِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ إِيَّاهَا.
عَنْهُ. وَفِي التَّحَرُّزِ مِنْ ذَلِكَ
غَيْرَةٌ عَلَى جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ أَيْضًا تَحَرُّزٌ مِنْ رُسُوخِ عَقِيدَةِ الْكُفْرِ فِي نَفْسِ الطَّاغِي فَيَصِيرُ الرَّجَاءُ فِي إِيمَانِهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَضْعَفَ مِنْهُ فِيمَا قَبْلُ، وَتِلْكَ مَفْسَدَةٌ فِي نَظَرِ الدِّينِ.
وَحَصَلَتْ مَعَ ذَلِكَ رِعَايَةُ الْفَاصِلَةِ.
قَالَ اللَّهُ لَا تَخافا، أَيْ لَا تَخَافَا حُصُولَ شَيْءٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ نَهْيٌ مُكَنًّى بِهِ عَنْ نَفْيِ وُقُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّنِي مَعَكُما تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْخَوْفِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى النَّفِي، وَالْمَعِيَّةُ مَعِيَّةُ حِفْظٍ.
وأَسْمَعُ وَأَرى حَالَانِ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، أَيْ أَنَا حَافِظُكُمَا مِنْ كُلِّ مَا تَخَافَانِهِ، وَأَنَا أَعْلَمُ الْأَقْوَالَ وَالْأَعْمَالَ فَلَا أَدَعُ عَمَلًا أَوْ قَوْلًا تَخَافَانِهِ.
وَنُزِّلَ فِعْلَا أَسْمَعُ وَأَرى مَنْزِلَةَ اللَّازِمَيْنِ إِذْ لَا غَرَضَ لِبَيَانِ مَفْعُولِهِمَا بَلِ الْمَقْصُودُ:
أَنِّي لَا يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْأَمْرِ بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ.
وَالْإِتْيَانُ: الْوُصُولُ وَالْحُلُولُ، أَيْ فَحُلَّا عِنْدَهُ، لِأَنَّ الْإِتْيَانَ أَثَرُ الذَّهَابِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْخِطَابِ السَّابِقِ، وَكَانَا قَدِ اقْتَرَبَا مِنْ مَكَانِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهُمَا فِي مَدِينَتِهِ، فَلِذَا أُمِرَا بِإِتْيَانِهِ وَدَعْوَتِهِ.
وَجَاءَتْ تَثْنِيَةُ رَسُولٍ عَلَى الْأَصْلِ فِي مُطَابَقَةِ الْوَصْفِ الَّذِي يُجْرَى عَلَيْهِ فِي الْإِفْرَادِ وَغَيْرِهِ.
وَفَعُولٌ الَّذِي بِمَعْنَى مَفْعُولٍ تَجُوزُ فِيهِ الْمُطَابَقَةُ، كَقَوْلِهِمْ نَاقَةٌ طَرُوقَةُ الْفَحْلِ، وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ كَقَوْلِهِمْ: وَحْشِيَّةٌ خَلُوجٌ، أَيِ اخْتُلِجَ وَلَدُهَا. وَجَاءَ الْوَجْهَانِ فِي نَحْوِ (رَسُولُ) وَهُمَا وَجْهَانِ مُسْتَوِيَانِ.
جُمْلَةِ هذانِ خَصْمانِ مَوْقِعَ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ. لِأَنَّ قَوْلَهُ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ [الْحَج: ١٨] يُثِيرُ سُؤَالَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ بَعْضِ تَفْصِيلِ صِفَةِ الْعَذَابِ الَّذِي حَقَّ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ لَمْ يَسْجُدُوا لِلَّهِ تَعَالَى، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ لِتَفْصِيلِ ذَلِكَ، فَهِيَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ. فَاسْمُ الْإِشَارَةِ الْمُثَنَّى مُشِيرٌ إِلَى مَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ [الْحَج: ١٨] مِنِ انْقِسَامِ الْمَذْكُورِينَ إِلَى فَرِيقَيْنِ أَهْلِ تَوْحِيدٍ وَأَهْلِ شِرْكٍ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ [الْحَج: ١٨] مِنْ كَوْنِ أُولَئِكَ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٍ يَسْجُدُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَفَرِيقٍ يَسْجُدُ لِغَيْرِهِ.
فَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْكَلَامِ بِتَنْزِيلِهِ منزلَة مَا يُشَاهد بِالْعَيْنِ، وَمِثْلُهَا كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ.
وَالِاخْتِصَامُ: افْتِعَالٌ مِنَ الْخُصُومَةِ، وَهِيَ الْجَدَلُ وَالِاخْتِلَافُ بِالْقَوْلِ يُقَالُ: خَاصَمَهُ وَاخْتَصَمَا، وَهُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُقْتَضِيَةِ جَانِبَيْنِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ مِنْهُ مَعْنَى الْغَلَبِ فِي الْخُصُومَةِ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَصِيرُ فَاعِلُهُ وَاحِدًا. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً فِي [سُورَةِ النِّسَاءِ: ١٠٥]. وَاخْتِصَامُ فَرِيقَيِ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمْ مَعْلُومٌ عِنْدَ السَّامِعِينَ قَدْ مَلَأَ الْفَضَاءَ جَلَبَتُهُ، فَالْإِخْبَارُ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ بِأَنَّهُمَا خَصْمَانِ مَسُوقٌ لِغَيْرِ إِفَادَةِ الْخَبَرِ بَلْ تَمْهِيدًا لِلتَّفْصِيلِ فِي قَوْلِهِ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ.
فَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةَ مَا يَعُمُّ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ وَجَمِيعَ مُخَالِفِيهِمْ فِي الدِّينِ.
وَوَقَعَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ أَبِي ذَرٍّ: أَنَّهُ كَانَ يُقْسِمُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وَصَاحِبَيْهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعُتْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ الَّذِينَ
بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ.
: «غَفُورٌ رَحِيمٌ لَهُنَّ وَاللَّهِ لَهُنَّ وَاللَّهِ». وَجَعَلُوا فَائِدَةَ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ اللَّهَ عَذَرَ الْمُكْرَهَاتِ لِأَجْلِ الْإِكْرَاهِ، وَأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الْبَقَرَة: ١٧٣]. وَعَلَى هَذَا فَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ لِلَّذِينِ يُكْرِهُونَ الْإِمَاءَ عَلَى الْبِغَاءِ.
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَدَّرَ الْمَحْذُوفَ ضَمِيرَ (مِنْ) الشَّرْطِيَّةِ، أَيْ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَهُ، وَتَأَوَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ يُقْلِعَ وَيَتُوبَ وَهُوَ تَأْوِيلٌ بعيد.
وَقَوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ دَلِيلُ جَوَابِ الشَّرْطِ إِذْ حُذِفَ الْجَوَابُ إِيجَازًا وَاسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِهِ بِذِكْرِ عِلَّتِهِ الَّتِي تَشْمَلُهُ وَغَيْرَهُ. وَالتَّقْدِيرُ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِأَمْثَالِهِنَّ مِمَّنْ أُكْرِهَ عَلَى فِعْلِ جَرِيمَةٍ. وَالْفَاءُ رَابِطَةُ الْجَوَابِ.
وَحَرْفُ (إِنَّ) فِي هَذَا الْمَقَامِ يُفِيدُ التَّعْلِيلَ وَيُغْنِي غِنَاءَ لَام التَّعْلِيل.
[٣٤]
[سُورَة النُّور (٢٤) : آيَة ٣٤]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤)
ذُيِّلَتِ الْأَحْكَامُ وَالْمَوَاعِظُ الَّتِي سَبَقَتْ بِإِثْبَاتِ نَفْعِهَا وَجَدْوَاهَا لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِمَّا يَنْفَعُ النَّاسَ وَيُقِيمُ عَمُودَ جَمَاعَتِهِمْ وَيُمَيِّزُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ وَيُزِيلُ مِنَ الْأَذْهَانِ اشْتِبَاهَ الصَّوَابِ بِالْخَطَأِ فَيَعْلَمُ النَّاسُ طُرُقَ النَّظَرِ الصَّائِبِ وَالتَّفْكِيرِ الصَّحِيحِ، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ لِمَا تَسْتَحِقُّهُ مِنَ التَّدَبُّرِ فِيهَا وَلِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْأُمَّةِ بِإِنْزَالِهَا لِيَشْكُرُوا اللَّهَ حَقَّ شُكْرِهِ.
وَوَصَفَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةَ بِثَلَاثِ صِفَاتٍ كَمَا وَصَفَ السُّورَةَ فِي طَالِعَتِهَا بِثَلَاثِ صِفَاتٍ. وَالْمَقْصِدُ مِنَ الْأَوْصَافِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُوَ الِامْتِنَانُ فَكَانَ هَذَا يُشْبِهُ رَدَّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ، فَجُمْلَةُ: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافَ التَّذْيِيلِ وَكَانَ مُقْتَضَى
الظَّاهِرِ أَنْ لَا تُعْطَفَ لِأَنَّ شَأْنَ التَّذْيِيلِ وَالِاسْتِئْنَافِ الْفَصْلُ كَمَا فُصِلَتْ أُخْتُهَا الْآتِيَةُ قَرِيبًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
أَتْبَعَ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَأَلْقِ عَصاكَ.
وَالْمَعْنَى: وَقُلْنَا أَلْقِ عَصَاكَ.
وَالِاهْتِزَازُ: الِاضْطِرَابُ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الْهَزِّ وَهُوَ الرَّفْعُ كَأَنَّهَا تُطَاوِعُ فِعْلَ هَازٍّ يَهُزُّهَا. وَالْجَانُّ: ذَكَرُ الْحَيَّاتِ، وَهُوَ شَدِيدُ الِاهْتِزَازِ وَجَمْعُهُ جِنَّانٌ (وَأَمَّا الْجَانُّ بِمَعْنَى وَاحِدِ الْجِنِّ فَاسْمُ جَمْعِهِ جِنٌّ). وَالتَّشْبِيهُ فِي سُرْعَةِ الِاضْطِرَابِ لِأَنَّ الْحَيَّاتِ خَفِيفَةُ التَّحَرُّكِ، وَأَمَّا تَشْبِيهُ الْعَصَا بِالثُّعْبَانِ فِي آيَةِ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ [الْأَعْرَاف: ١٠٧] فَذَلِكَ لِضَخَامَةِ الْجِرْمِ.
وَالتَّوَلِّي: الرُّجُوعُ عَنِ السَّيْرِ فِي طَرِيقِهِ. وَفِعْلُ (تَوَلَّى) مُرَادِفُ فِعْلِ وَلَّى كَمَا هُوَ ظَاهِرُ صَنِيعِ «الْقَامُوسِ» وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى مَا فِي فِعْلِ (تَوَلَّى) مِنْ زِيَادَةِ الْمَبْنَى أَنْ يُفِيدَ (تَوَلَّى) زِيَادَةً فِي مَعْنَى الْفِعْلِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [٢٤].
وَلَعَلَّ قَصْدَ إِفَادَةِ قُوَّةِ تَوَلِّيهِ لَمَّا رَأَى عَصَاهُ تَهْتَزُّ هُوَ الدَّاعِي لِتَأْكِيدِ فِعْلِ وَلَّى بِقَوْلِهِ:
مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ فَتَأَمَّلْ.
وَالْإِدْبَارُ: التَّوَجُّهُ إِلَى جِهَةِ الْخَلْفِ وَهُوَ مُلَازِمٌ لِلتَّوَلِّي فَقَوْلُهُ: مُدْبِراً حَالٌ لَازِمَةٌ لِفِعْلِ وَلَّى.
وَالتَّعَقُّبُ: الرُّجُوعُ بَعْدَ الِانْصِرَافِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَقِبِ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى جِهَةِ الْعَقِبِ، أَيِ الْخَلْفِ، فَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُعَقِّبْ تَأْكِيدٌ لِشِدَّةِ تَوَلِّيهِ، أَيْ وَلَّى تَوَلِّيًا قَوِيًّا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ. وَكَانَ ذَلِكَ التَّوَلِّي مِنْهُ لِتَغَلُّبِ الْقُوَّةِ الْوَاهِمَةِ الَّتِي فِي جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ عَلَى قُوَّةِ الْعَقْلِ الْبَاعِثَةِ عَلَى التَّأَمُّلِ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ مِنَ الْكِنَايَةِ عَنْ إِعْطَائِهِ النُّبُوءَةَ وَالتَّأْيِيدَ، إِذْ كَانَتِ الْقُوَّةُ الْوَاهِمَةُ مُتَأَصِّلَةً فِي الْجِبِلَّةِ سَابِقَةً عَلَى مَا تَلَقَّاهُ مِنَ التَّعْرِيضِ بِالرِّسَالَةِ، وَتَأَصُّلُ الْقُوَّةِ الْوَاهِمَةِ يَزُولُ بِالتَّخَلُّقِ وَبِمُحَارَبَةِ الْعَقْلِ لِلْوَهْمِ فَلَا يَزَالَانِ يَتَدَافَعَانِ وَيَضْعُفُ سُلْطَانُ الْوَهْمِ بِتَعَاقُبِ الْأَيَّامِ.
وَقَوْلُهُ: يَا مُوسى لَا تَخَفْ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ قُلْنَا لَهُ. وَالنَّهْيُ عَنِ الْخَوْفِ مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّهْيِ عَنِ اسْتِمْرَارِ الْخَوْفِ. لِأَنَّ خَوْفَهُ قَدْ حَصَلَ. وَالْخَوْفُ الْحَاصِلُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَوْفُ رَغَبٍ مِنِ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً وَلَيْسَ خَوْفَ ذَنْبٍ، فَالْمَعْنَى: لَا يَجْبُنُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ لِأَنِّي أَحْفَظُهُمْ.
وإِنِّي لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْخَوْفِ وَتَحْقِيقٌ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ
طَرِيقَةِ وَإِنْ تُكَذِّبُوا [العنكبوت: ١٨] عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ.
وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَنْ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ، نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يَرَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ.
وَالرُّؤْيَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَصَرِيَّةً (١)، وَالِاسْتِدْلَالُ بِمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنْ تَجَدُّدِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي كُلِّ حِينٍ بِالْوِلَادَةِ وَبُرُوزِ النَّبَاتِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِكُلِّ ذِي بَصَرٍ.
وَإِبْدَاءُ الْخَلْقِ: بَدْؤُهُ وَإِيجَادُهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا. يُقَالُ: أَبْدَأَ بِهَمْزَةٍ فِي أَوَّلِهِ وَبَدَأَ بِدُونِهَا وَقَدْ وَرَدَا مَعًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِذْ قَالَ كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ قَالَ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ [العنكبوت: ٢٠] وَلم يجىء فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى إِلَّا الْمُبْدِئُ دُونَ الْبَادِئِ.
وَأَحْسَبُ أَنَّهُ لَا يُقَالُ (أَبْدَأَ) بِهَمْزٍ فِي أَوَّلِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ (يُعِيدُ) وَلَمْ أَرَ مَنْ قَيَّدَهُ بِهَذَا.
والْخَلْقَ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيِ الْمَخْلُوقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لُقْمَان: ١١].
وَجِيءَ يُبْدِئُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ تَجَدُّدِ بَدْءِ الْخَلْقِ كُلَّمَا وَجَّهَ النَّاظِرُ بَصَرَهُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، وَالْجُمْلَةُ انْتَهَتْ بِقَوْلِهِ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ. وَأَمَّا جُمْلَةُ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ فَلَيْسَتْ مَعْمُولَةً لِفِعْلِ يَرَوْا لِأَنَّ إِعَادَةَ الْخَلْقِ بَعْدَ انْعِدَامِهِ لَيْسَتْ مَرْئِيَّةً لَهُمْ وَلَا هُمْ يَظُنُّونَهَا فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ ثُمَّ يُعِيدُهُ مُسْتَقِلَّةً مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا وَجُمْلَةِ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ. وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ لِأَنَّ أَمْرَ إِعَادَةِ الْخَلْقِ أَهَمُّ وَأَرْفَعُ رُتْبَةً مِنْ بَدْئِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُشَاهَدٍ وَلِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَهُ وَلَا يُنْكِرُونَ بَدْءَ الْخَلْقِ قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :
هُوَ كَقَوْلِك: مَا زلت أُوثِرُ فُلَانًا وَأَسْتَخْلِفُهُ عَلَى مَنْ أُخَلِّفُهُ» يَعْنِي فَجُمْلَةُ: وَأَسْتَخْلِفُهُ، لَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: أُوثِرُ، وَلَا دَاخِلَةً فِي خبر: مَا زلت، لِأَنَّكَ تَقُولُهُ قَبْلَ أَنْ تَسْتَخْلِفَهُ فَضْلًا
_________
(١) سَيَجِيءُ مُقَابل هَذَا بعد بضعَة وَعشْرين سطرا.
حَالَةُ أَكْمَلِ الْإِيمَانِ وَهِيَ حَالَةُ الْمُؤمنِينَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ عُرِفُوا بِهَا، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ لِلسَّائِلِ عَنْ عُلَمَاءِ الْبَلَدِ: هُمُ الَّذِينَ يَلْبَسُونَ عَمَائِمَ صِفَتُهَا كَذَا.
جَاءَ فِي تَرْجَمَةِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ مَا أَفْتَى حَتَّى أَجَازَهُ سَبْعُونَ مُحَنَّكًا، أَيْ عَالِمًا يَجْعَلُ شُقَّةً مِنْ عِمَامَتِهِ تَحْتَ حَنَكِهِ وَهِيَ لُبْسَةُ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ. قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: قُلْتُ لِأُمِّي:
أَذْهَبُ فَأَكْتُبُ الْعِلْمَ، فَقَالَتْ: تَعَالَ فَالْبَسْ ثِيَابَ الْعِلْمِ. فَأَلْبَسَتْنِي ثِيَابًا مُشَمَّرَةً وَوَضَعَتِ الطَّوِيلَةَ عَلَى رَأْسِي وَعَمَّمَتْنِي فَوْقَهَا.
وَالْخُرُورُ: الْهُوِيُّ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ.
وَالسُّجُودُ: وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ إِرَادَةَ التَّعْظِيمِ وَالْخُضُوعِ.
وَانْتَصَبَ سُجَّداً عَلَى الْحَالِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْقَصْدِ مِنْ خَرُّوا، أَيْ: سُجَّدًا لِلَّهِ وَشُكْرًا لَهُ عَلَى مَا حَبَاهُمْ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَرْنُهُ بِقَوْلِهِ وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ.
وَالْبَاءُ فِيهِ لِلْمُلَابَسَةِ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [١٠٧] : إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً.
وَدَلَّتِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ عَلَى اتِّصَالِ تَعَلُّقِ حُصُولِ الْجَوَابِ بِحُصُولِ الشَّرْطِ وَتَلَازُمِهِمَا.
وَجِيءَ فِي نَفْيِ التَّكَبُّرِ عَنْهُمْ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ اخْتِصَاصِهِمْ بِذَلِكَ، أَيْ دُونَ الْمُشْرِكِينَ
الَّذِينَ كَانَ الْكِبْرُ خُلُقُهُمْ فَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ بِالِانْقِيَادِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ وَقَالُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً [الْفرْقَان: ٢١].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ مَوْضِعُ سَجْدَةٍ مِنْ سَجَدَاتِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ التَّالِي مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ الله سجدوا، فالقارىء يَقْتَدِي بِهِمْ.
وَجُمْلَةُ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ حَالٌ مِنَ الْمَوْصُولِ، أَيِ: الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا وَمِنْ حَالِهِمْ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ، أَوِ اسْتِئْنَافٌ. وَجِيءَ فِيهَا بِالْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ تَكَرُّرِ ذَلِكَ وَتُجَدُّدِهِ مِنْهُمْ فِي أَجْزَاءٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْأَوْقَات الْمعدة لاضطجاع وَهِيَ الْأَوْقَاتُ الَّتِي الشَّأْنُ فِيهَا النَّوْمُ.
تَحْمِيقًا لِجَهَالَتِهِمْ وَتَعْجِيبًا مِنْ حَالِهِمْ فِي أَمْرَيْنِ:
«أَحَدُهُمَا» : أَنَّهُمْ لَمْ يُدْرِكُوا مَا يَنَالُهُمْ مِنَ الْمَزِيَّةِ بِمَجِيءِ الْحَقِّ إِلَيْهِمْ إِذْ هَيَّأَهُمُ اللَّهُ بِهِ لِأَنْ يَكُونُوا فِي عِدَادِ الْأُمَمِ ذَوِي الْكِتَابِ، وَفِي بَدْءِ حَالٍ يَبْلُغُ بِهِمْ مَبْلَغَ الْعِلْمِ، إِذْ هُمْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُمْ أَنْ أَتَاهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَوْ رَسُولٌ مِنْهُ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ: فَكَيْفَ رَفَضُوا اتِّبَاعَ الرَّسُولِ وَتَلَقِّيَ الْقُرْآنِ وَكَانَ الْأَجْدَرُ بِهِمُ الِاغْتِبَاطَ بِذَلِكَ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُنَاسِبُ
لِقَوْلِهِ: يَدْرُسُونَها أَيْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ دِرَاسَةٍ فَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَسُرَّهُمْ مَا جَاءَهُمْ مِنَ الْحَقِّ.
«وَثَانِيهِمَا» : أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى هُدًى وَلَا دِينٍ مَنْسُوبٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَكُونَ تَمَسُّكُهُمْ بِهِ وَخَشْيَةُ الْوُقُوعِ فِي الضَّلَالَةِ إِنْ فَرَّطُوا فِيهِ يَحْمِلُهُمْ عَلَى التَّرَدُّدِ فِي الْحَقِّ الَّذِي جَاءَهُمْ وَصِدْقِ الرَّسُولِ الَّذِي أَتَاهُمْ بِهِ فَيَكُونُ لَهُمْ فِي الصَّدِّ عَنْهُمَا بَعْضُ الْعُذْرِ: فَيَكُونُ الْمَعْنَى: التَّعْجِيبُ مِنْ رَفْضِهِمُ الْحَقَّ حِينَ لَا مَانِعَ يَصُدُّهُمْ، فَلَيْسَ مَعْنَى جُمْلَةِ وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ الَخْ عَلَى الْعَطْفِ وَلَا عَلَى الْإِخْبَارِ لِأَنَّ مَضْمُونَ ذَلِكَ مَعْلُومٌ لَا يَتَعَلَّقُ الْغَرَضُ بِالْإِخْبَارِ بِهِ، وَلَكِنْ على الْحَال لإِفَادَة التَّعْجِيبِ وَالتَّحْمِيقِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى جَرَى الْمُفَسِّرُونَ.
وَالدِّرَاسَةُ: الْقِرَاءَةُ بِتَمَهُّلٍ وَتَفَهُّمٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ فِي آلِ عِمْرَانَ [٧٩].
وَإِنَّمَا لَمْ يُقَيِّدْ إِيتَاءَ الْكُتُبِ بِقَيْدٍ كَمَا قَيَّدَ الْإِرْسَالَ بِقَوْلِهِ: قَبْلَكَ لِأَنَّ الْإِيتَاءَ هُوَ التَّمْكِينُ مِنَ الشَّيْءِ وَهُمْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ الْقُرْآنِ بِخِلَافِ إِرْسَالِ النَّذِيرِ فَهُوَ حَاصِلٌ سَوَاءً تَقَبَّلُوهُ أَمْ أَعْرَضُوا عَنْهُ.
وَمَنْ نَحَا نَحْوَ أَنْ يَكُونَ معنى الْآيَة التَّفْرِقَة بَيْنَ حَالِهِمْ وَحَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَذَلِكَ مَنْحًى وَاهِنٌ لِأَنَّهُ يَجُرُّ إِلَى مَعْذِرَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي عَضِّهِمْ بِالنَّوَاجِذِ عَلَى دِينِهِمْ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مُدَّةِ نُزُولِ الْوَحْيِ بِمَكَّةَ عَلَاقَةٌ لِلدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَإِنَّمَا دعاهم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، وَأَيْضًا لَا يَكُونُ لِلتَّقْيِيدِ بِ قَبْلَكَ فَائِدَةٌ خَاصَّةٌ كَمَا عَلِمْتَ. وَهُنَالِكَ تَفْسِيرَاتٌ أُخْرَى أَشَدُّ بُعْدًا وَأَبْعَدُ عَنِ الْقَصْد جدا.
وَجُمْلَةُ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيِ اذْكُرْ فَضَائِلَهُ وَمَا أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ مِنْ تَسْخِيرِ الْجِبَالِ وَكَيْتَ وَكَيْتَ، ومَعَهُ ظَرْفٌ لِ يُسَبِّحْنَ، وَقُدِّمَ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِمَعِيَّتِهِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَيْسَ ظَرْفًا لِ سَخَّرْنَا لِاقْتِضَائِهِ، وَتَقَدَّمَ تَسْخِيرُ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ لِدَاوُدَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَجُمْلَةُ يُسَبِّحْنَ حَالٌ. وَاخْتِيرَ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ دُونَ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الشَّأْنُ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ الدَّلَالَةُ عَلَى تَجَدُّدِ تَسْبِيحِ الْجِبَالِ مَعَهُ كُلَّمَا حَضَرَ فِيهَا، وَلِمَا فِي الْمُضَارع من استحضار تِلْكَ الْحَالَةَ الْخَارِقَةَ لِلْعَادَةِ. وَالتَّسْبِيحُ أَصْلُهُ قَوْلُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الذِّكْرِ وَعَلَى الصَّلَاةِ، وَمِنْهُ
حَدِيثُ عَائِشَةَ: «لَمْ يَكُنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَبِّحُ سُبْحَةَ الصُّبْحِ وَإِنِّي
لَأُسَبِّحُهَا»

، وَلَيْسَ هَذَا الْمَعْنَى مُرَادًا هُنَا لِأَنَّ الْجِبَالَ لَا تُصَلِّي وَالطَّيْرُ كَذَلِكَ وَلِأَنَّ دَاوُدَ لَا يُصَلِّي فِي الْجِبَالِ إِذِ الصَّلَاةُ فِي شَرِيعَتِهِمْ لَا تَقَعُ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِي الْأَرْضِ فَهِيَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِسْلَامِ.
وَالْعَشِيُّ: مَا بَعْدَ الْعَصْرِ. يُقَالُ: عَشِيٌّ وَعَشِيَّةٌ. والْإِشْراقِ: وَقْتُ ظُهُورِ ضَوْءِ الشَّمْسِ وَاضِحًا عَلَى الْأَرْضِ وَهُوَ وَقْتُ الضُّحَى، يُقَالُ: أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ وَلَا يُقَالُ:
أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: شَرَقَتِ الشَّمْسُ وَهُوَ مِنْ بَابِ قَعَدَ، وَلِذَلِكَ كَانَ قِيَاسُ الْمَكَانِ مِنْهُ الْمَشْرَقَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَلكنه لم يجىء إِلَّا بِكَسْرِ الرَّاءِ. وَوَقْتُ طُلُوعِ الشَّمْسِ هُوَ الشُّرُوقُ وَوَقْتُ الْإِشْرَاقِ الضُّحَى، يُقَالُ: شَرَقَتِ الشَّمْسُ وَلَمَّا تُشْرِقْ، وَيُقَالُ: كُلَّمَا ذَرَّ شَارِقٌ، أَيْ كُلَّمَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ. وَالْبَاءُ فِي بِالْعَشِيِّ لِلظَّرْفِيَّةِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِشْرَاقِ وَقْتُ الْإِشْرَاقِ.
وَالْمَحْشُورَةُ: الْمُجْتَمِعَةُ حَوْلَهُ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ الزَّبُورَ. وَانْتَصَبَ مَحْشُورَةً عَلَى الْحَالِ مِنَ الطَّيْرَ. وَلَمْ يُؤْتَ فِي صِفَةِ الطَّيْرِ بِالْحَشْرِ بِالْمُضَارِعِ كَمَا جِيءَ بِهِ فِي يُسَبِّحْنَ إِذِ الْحَشْرُ يَكُونُ دُفْعَةً فَلَا يَقْتَضِي الْمَقَامُ دَلَالَةً عَلَى تَجَدُّدٍ وَلَا عَلَى اسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ.
وَتَنْوِينُ كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: كُلُّ الْمَحْشُورَةِ لَهُ
وَقَالَ الْكَوَاشِيُّ فِي «التَّبْصِرَةِ» : تُسَمَّى سَجْدَةَ الْمُؤْمِنِ وَوَجْهُ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ قَصْدُ تَمْيِيزِهَا عَنْ سُورَةِ الم السَّجْدَةِ الْمُسَمَّاةِ سُورَةَ الْمَضَاجِعِ فَأَضَافُوا هَذِهِ إِلَى السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ
سُورَةُ الْمُؤْمِنِ كَمَا مَيَّزُوا سُورَةَ الْمَضَاجِعِ بِاسْمِ سَجْدَةِ لُقْمَانَ لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ بَعْدَ سُورَةِ لُقْمَانَ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ غَافِرٍ وَقبل سُورَةِ الزُّخْرُفِ، وَعُدَّتِ الْحَادِيَةَ وَالسِتِّينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ. وَعُدَّتْ آيُهَا عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ مَكَّةَ ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ، وَعِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ وَالْبَصْرَةِ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَرْبَعًا وَخَمْسِينَ.
أَغْرَاضُهَا
التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ وَالْإِشَارَةُ إِلَى عَجْزِهِمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ. وَذِكْرُ هَدْيِهِ، وَأَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْ أَنْ يَتَطَرَّقَهُ الْبَاطِلُ، وَتَأْيِيدُهُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ. وَتَلَقِّي الْمُشْرِكِينَ لَهُ بِالْإِعْرَاضِ وَصَمِّ الْآذَانِ. وَإِبْطَالُ مَطَاعِنِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ وَتَذْكِيرُهُمْ بِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ فَلَا عُذْرَ لَهُمْ أَصْلًا فِي عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِهَدْيِهِ. وَزَجْرُ الْمُشْرِكِينَ وَتَوْبِيخُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِخَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَعَ بَيَانِ مَا فِي خَلْقِهَا مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ.
وَإِنْذَارُهُمْ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَوَعِيدُهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ وَشَهَادَةِ سَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأَجْسَادِهِمْ عَلَيْهِمْ وَتَحْذِيرُهُمْ مِنَ الْقُرَنَاءِ الْمُزَيِّنِينَ لَهُمُ الْكُفْرَ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَالنَّاسِ وَأَنَّهُمْ سَيَنْدَمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ فِي الدُّنْيَا
وَكَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ مَعْلُولَةٌ لِعِلَلٍ خَفِيَّةٍ قِيَاسًا عَلَى مَعَارِفِهِمْ
بِخَصَائِصِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تَعْرِفُهَا الْعَامَّةُ، وَكَانَ الْكَهَنَةُ يَعْهَدُونَ بِهَا إِلَى تَلَامِذَتِهِمْ وَيُوصُونَهُمْ بِالْكِتْمَانِ.
وَالْعَهْدُ: هُوَ الِائْتِمَانُ عَلَى أَمْرٍ مُهِمٍّ، وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ بِهِ النُّبُوءَةَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَإِذْ لَمْ يَعْرِفُوا كُنْهَ الْعَهْدِ عَبَّرُوا عَنْهُ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما عَهِدَ عِنْدَكَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ ادْعُ وَهِيَ لِلِاسْتِعَانَةِ. وَلَمَّا رَأَوُا الْآيَاتِ عَلِمُوا أَنَّ رَبَّ مُوسَى قَادِرٌ، وَأَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُوسَى عَهْدًا يَقْتَضِي اسْتِجَابَةَ سُؤْلِهِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ جَوَابٌ لِكَلَامٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ ادْعُ لَنا رَبَّكَ أَي فَإِن دَعَوْتَ لَنَا وَكَشَفْتَ عَنَّا الْعَذَابَ لَنُؤَمِّنَنَّ لَكَ كَمَا فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ [١٣٤] لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ الْآيَةَ. فَ (مُهْتَدُونَ) اسْمُ فَاعِلٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْوَعْدِ وَهُوَ مُنْصَرِفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ بِالْقَرِينَةِ كَمَا دلّ عَلَيْهِ قَوْله: يَنْكُثُونَ [الزخرف: ٥٠] وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ [١٢، ١٣] حِكَايَةً عَنِ الْمُشْرِكِينَ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى الْآيَةَ.
وَسَمَّوْا تَصْدِيقَهُمْ إِيَّاهُ اهْتِدَاءً لِأَنَّ مُوسَى سَمَّى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ هَدْيًا كَمَا فِي آيَةِ النَّازِعَاتِ [١٩] وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى.
[٥٠]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٥٠]
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠)
أَيْ تَفَرَّعَ عَلَى تَضَرُّعِهِمْ وَوَعْدِهِمْ بِالِاهْتِدَاءِ إِذَا كَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ أَنَّهُمْ نَكَثُوا الْوَعْدَ.
وَالنَّكْثُ: نَقْضُ الْحَبْلِ الْمُبْرَمِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٣٥]، وَهُوَ مَجَازٌ فِي الْخَيْسِ بِالْعَهْدِ.
وَالْكَلَامُ عَلَى تَرْكِيبِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِثْلُ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ آنِفًا فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ [الزخرف: ٤٧].

[سُورَة الحجرات (٤٩) : آيَة ٦]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦)
هَذَا نِدَاءٌ ثَالِثٌ ابْتُدِئَ بِهِ غَرَضٌ آخَرُ وَهُوَ آدَابُ جَمَاعَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَقَدْ تَضَافَرَتِ الرِّوَايَاتُ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَارِثِ بْنِ ضِرَارَةَ الْخُزَاعِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَنْ سَبَبِ قَضِيَّةٍ حَدَثَتْ. ذَلِكَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث الويد بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ لِيَأْتِيَ بِصَدَقَاتِهِمْ فَلَمَّا بَلَغَهُمْ مَجِيئُهُ، أَو لمّا استبطأوا مَجِيئَهُ، فَإِنَّهُمْ خَرَجُوا لِتَلَقِّيهِ أَوْ خَرَجُوا لِيُبَلِّغُوا صَدَقَاتِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَعَلَيْهِمُ السِّلَاحُ، وَأَنَّ الْوَلِيدَ بَلَغَهُ أَنَّهُمْ خَرَجُوا إِلَيْهِ بِتِلْكَ الْحَالَةِ وَهِيَ حَالَةٌ غَيْرُ مَأْلُوفَةٍ فِي تَلَقِّي الْمُصَّدِّقِينَ وَحَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ، أَوْ لَمَّا رَآهُمْ مُقْبِلِينَ كَذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ خَافَ أَنْ يَكُونُوا أَرَادُوا قَتْلَهُ إِذْ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ شَحْنَاءُ مِنْ زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ فَوَلَّى رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ.
هَذَا مَا جَاءَ فِي رِوَايَاتٍ أَرْبَعٍ مُتَّفِقَةٍ فِي صِفَةِ خُرُوجِهِمْ إِلَيْهِ مَعَ اخْتِلَافِهَا فِي بَيَانِ الْبَاعِثِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْخُرُوجِ وَفِي أَنَّ الْوَلِيدَ أُعْلِمَ بِخُرُوجِهِمْ إِلَيْهِ أَوْ رَآهُمْ أَوِ اسْتَشْعَرَتْ نَفْسُهُ خَوْفًا وَأَنَّ الْوَلِيدَ جَاءَ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ أَرَادُوا قَتْلِي وَإِنَّهُمْ مَنَعُوا الزَّكَاةِ فَغَضِبَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَمَّ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ لِيَنْظُرَ فِي أَمْرِهِمْ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ بَعَثَ خَالِدًا وَأَمَرَهُ بِأَنْ لَا يَغْزُوَهُمْ حَتَّى يَسْتَثْبِتَ أَمْرَهُمْ وَأَنْ خَالِدًا لَمَّا بَلَغَ دِيَارَ الْقَوْمِ بَعَثَ عَيْنًا لَهُ يَنْظُرُ حَالَهُمْ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ يُقِيمُونَ الْأَذَانَ وَالصَّلَاةَ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا بَلَغَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ وَقَبَضَ زَكَاتَهُمْ وَقَفَلَ رَاجِعًا. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُمْ ظَنُّوا مِنْ رُجُوعِ الْوَلِيدِ أَنْ يَظُنَّ بِهِمْ منع الصَّدقَات فجاؤوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ خَالِدٌ إِلَيْهِمْ مُتَبَرِّئِينَ مِنْ مَنْعِ الزَّكَاةِ وَنِيَّةِ الْفَتْكِ بِالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُمْ لَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَجَدُوا الْجَيْشَ خَارِجًا إِلَى غَزْوِهِمْ. فَهَذَا تَلْخِيصُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَهِيَ بِأَسَانِيدَ لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ فِي «الصَّحِيحِ».
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَضِيَّتَانِ أُخْرَيَانِ، وَهَذَا أَشْهَرُ. وَلِنَشْتَغِلِ الْآنَ
بِبَيَانِ وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ لِمَوْقِعِ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا فَإِنَّ
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٦٠]، فَتَكُونُ تَسْمِيَتُهَا بِاعْتِبَارِ إِضَافَةِ «سُورَةٍ» إِلَى «الرَّحْمَن» عَلَى مَعْنَى إِثْبَاتِ وَصْفِ الرَّحْمَنِ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينِ، وَرَوَى جَمَاعَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ فِي صلح الْقَضِيَّة عِنْد مَا أَبَى سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو أَنْ يَكْتُبَ فِي رَسْمِ الصُّلْحِ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ».
وَنُسِبَ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ سِوَى آيَةٍ مِنْهَا هِيَ قَوْله: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرَّحْمَن: ٢٩]. وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ كُلَّهَا، وَهِيَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَوَّلُ الْمُفَصَّلِ. وَإِذَا صَحَّ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا قَوْلُ الْمُشْركين وَمَا الرَّحْمنُ تَكُونُ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْفُرْقَانِ.
وَقِيلَ سَبَبُ نُزُولِهَا قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ الْمَحْكِيِّ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [١٠٣]. فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الرَّحْمَنَ هُوَ الَّذِي عَلَّمَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ.
وَهِيَ مِنْ أَوَّلِ السُّوَرِ نُزُولًا فَقَدْ
أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي «مَسْنَدِهِ» بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَت: «سَمِعت رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي نَحْوَ الرُّكْنِ قَبْلَ أَنْ يُصَدَعَ بِمَا يُؤْمَرُ وَالْمُشْرِكُونَ يَسْمَعُونَ يَقْرَأُ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْحِجْرِ. وَلِلْاِخْتِلَافِ فِيهَا لَمْ تُحَقِّقْ رُتْبَتَهَا فِي عِدَادِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ. وَعَدَّهَا الْجَعْبَرِيُّ ثَامِنَةً وَتِسْعِينَ بِنَاء على القَوْل بِأَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ وَجَعَلَهَا بَعْدَ سُورَةِ الرَّعْدِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْإِنْسَانِ.
وَإِذْ كَانَ الْأَصَحُّ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَأَنَّهَا نَزَلَتْ قبل سُورَة الْحجر وَقبل سُورَةِ النَّحْلِ وَبَعْدَ سُورَةِ الْفُرْقَانِ، فَالْوَجْهُ أَنْ تُعَدَّ ثَالِثَةً وَأَرْبَعِينَ بَعْدَ سُورَةِ الْفُرْقَانِ وَقَبْلَ سُورَةِ فَاطِرٍ.
وَعْدَّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ آيَهَا سَبْعًا وَسَبْعَيْنِ، وَأَهْلُ الشَّام والكوفة ثمانيا وَسَبْعِينَ لأَنهم عدوا الرَّحْمَن آيَةً، وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ سِتًّا وَسَبْعَيْنِ.
مُقْتَضَيَاتِ تَخْرِيجِ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ هُنَا أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّوْبِيخُ غَيْرَ شَامِلٍ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ نَفَرًا مِنْهُمْ بَقُوا مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خُطْبَتِهِ وَلَمْ يَخْرُجُوا لِلتِّجَارَةِ وَلَا لِلَّهْوِ.
وَفِي «الصَّحِيحِ» عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ أَقْبَلَتْ عِيرٌ مِنَ الشَّامِ تَحْمِلُ طَعَامًا فَانْفَتَلَ النَّاسُ إِلَيْهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا أَنَا فِيهِمْ». وَفِي رِوَايَةٍ: وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْجُمُعَةِ وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً اه. وَقَدْ ذَكَرُوا فِي رِوَايَاتٍ أُخْرَى أَنَّهُ بَقِيَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقاص، وَعبد الرحمان بْنُ عَوْفٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، وَبِلَالٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ. وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: «أَنَّهُ قَالَ لَيْسَ مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَرْبَعُونَ رَجُلًا».
وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَمُقَاتِلٍ: «كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَدِمَ دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ بِتِجَارَةٍ فَتَلَقَّاهُ أَهْلُهُ بِالدُّفُوفِ فَخَرَجَ النَّاسُ».
وَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَصَابَهُمْ جُوعٌ وَغَلَاءٌ شَدِيدٌ فَقَدِمَ دِحْيَةُ بِتِجَارَةٍ مِنْ زَيْتِ الشَّامِ».
وَفِي رِوَايَةٍ «وَطَعَامٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَخَرَجَ النَّاسُ مِنَ الْمَسْجِدِ خَشْيَةَ أَنْ يُسْبَقُوا إِلَى ذَلِكَ»
. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ «كَانَتِ الْجَوَارِي إِذَا نُكِحْنَ يُمَرَّرْنَ بِالْمَزَامِيرِ وَالطَّبْلِ فَانْفَضُّوا إِلَيْهَا»، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً، فَقَدْ قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ تَكَرَّرَ مِنْهُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَا شَكَّ أَنَّ خُرُوجَهُمْ كَانَ تَارَةً لِأَجْلِ مَجِيءِ الْعِيرِ وَتَارَةً لِحُضُورِ اللَّهْوِ.
وَرُوِيَ أَنَّ الْعِيرَ نَزَلَتْ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: أَحْجَارُ الزَّيْتِ فَتَوَهَّمَ الرَّاوِي فَقَالَ: بِتِجَارَةِ الزَّيْتِ.
وَضَمِيرُ إِلَيْها عَائِدٌ إِلَى التِّجَارَةِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ عِنْدَهُمْ مِنَ اللَّهْوِ وَلِأَنَّ الْحَدَثَ الَّذِي نَزَلَتِ الْآيَةُ عِنْدَهُ هُوَ مَجِيءُ عِيرِ دِحْيَةَ مِنَ الشَّامِ. وَاكْتَفَى بِهِ عَنْ ضَمِيرِ اللَّهْوِ كَمَا فِي قَوْلِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ، أَوْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَقَوْلُهُ: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ إِلَخْ قَرَأَهُ بِكَسْرِ الْهمزَة الَّذين قرأوا بِالْكَسْرِ قَوْلَهُ: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ وَبِفَتْحِ الْهمزَة الَّذين قرأوا بِالْفَتْحِ وَهَذَا مِنْ تَمَامِ قَوْلِهِمْ:
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وَإِنَّمَا أُعِيدَ مَعَهُ كَلِمَةُ وَأَنَّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي تَضَمَّنُهُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَأَنَّ مَا قَبْلَهُ كَالتَّوْطِئَةِ لَهُ فَإِعَادَةُ وَأَنَّا
تَوْكِيدٌ لَفْظِيٌّ.
وَحَقِيقَةُ الْقُعُودِ الْجُلُوسُ وَهُوَ ضِدُّ الْقِيَامِ، أَيْ هُوَ جَعْلُ النِّصْفِ الْأَسْفَلِ مُبَاشِرًا لِلْأَرْضِ مُسْتَقِرًّا عَلَيْهَا وَانْتِصَابُ النِّصْفِ الْأَعْلَى. وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي مُلَازَمَةِ الْمَكَانِ زَمَنًا طَوِيلًا لِأَنَّ مُلَازَمَةَ الْمَكَانِ مِنْ لَوَازِمِ الْقُعُودِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التَّوْبَة: ٥].
وَالْمَقَاعِدُ: جَمْعُ مَقْعَدٍ وَهُوَ مَفْعَلٌ لِلْمَكَانِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْقُعُودُ، وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى مَكَانِ الْمُلَازَمَةِ فَإِنَّ الْقُعُودَ يُطْلَقُ عَلَى مُلَازَمَةِ الْحُصُولِ كَمَا فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَقُلْتُ يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلسَّمْعِ لَامُ الْعِلَّةِ أَيْ لِأَجْلِ السَّمْعِ، أَيْ لِأَنْ نَسْمَعَ مَا يَجْرِي فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ مِنْ تَصَارِيفِ الْمَلَائِكَةِ بِالتَّكْوِينِ وَالتَّصْرِيفِ، وَلَعَلَّ الْجِنَّ مُنْسَاقُونَ إِلَى ذَلِكَ بِالْجِبِلَّةِ كَمَا تَنْسَاقُ الشَّيَاطِينُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ، وَضَمِيرُ مِنْها لِلسَّمَاءِ.
وَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ مِنْ سَاحَاتِهَا وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ نَقْعُدُ، وَلَيْسَ الْمَجْرُورُ حَالًا مِنْ مَقاعِدَ مُقَدَّمًا عَلَى صَاحِبِهِ لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَالِهِمْ فِي السَّمَاءِ فَالْعِنَايَةُ بِمُتَعَلِّقِ فِعْلِ الْقُعُودِ أَوْلَى، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ كَعْبٍ:
أَرَدْتُ لِكَيْمَا يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهَا سَرَاوِيلُ قَيْسٍ وَالْوُفُودُ شُهُودُ
يَمْشِي الْقُرَادُ عَلَيْهَا ثُمَّ يُزْلِقُهُ مِنْهَا لَبَانٌ وَأَقْرَبُ زَهَالِيلُ
فَقَوْلُهُ (مِنْهَا) مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ (يُزْلِقُهُ) وَلَيْسَ حَالًا مِنْ (لَبَانٍ).
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ جَرَى عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ مَبْحَثٌ فِي مَبَاحِثِ فَصَاحَةِ الْكَلِمَاتِ نَسَبَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي «الْمَثَلِ السَّائِرِ» إِلَى ابْنِ سِنَانٍ الْخَفَاجِيِّ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ يَجِيءُ مِنَ الْكَلَامِ مَا مَعَهُ قَرِينُهُ فَأَوْجَبَ قُبْحَهُ كَقَوْلِ الرَّضِيِّ فِي رِثَاءِ الصَّابِي:
أَعْزِزْ عَلَيَّ بِأَنْ أَرَاكَ وَقَدْ خَلَا عَنْ جَانِبَيْكَ مَقَاعِدُ الْعُوَّادِ
فَإِنَّ إِيرَادَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ (أَيْ مَقَاعِدَ) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ صَحِيحٌ إِلَّا أَنَّهُ يُوَافِقُ مَا
وَأَصْلُ تِلْكَ الْمَعَانِي إِمَّا اسْتِعَارَةٌ وَإِمَّا تَمْثِيلٌ يُقَالُ: رَكِبَ أَمْرًا صَعْبًا وَارْتَكَبَ خَطَأً.
وَأَمَّا كَلِمَةُ طَبَقٍ فَحَقِيقَتُهَا أَنَّهَا اسْمٌ مُفْرَدٌ لِلشَّيْءِ الْمُسَاوِي شَيْئًا آخَرَ فِي حَجْمِهِ وَقَدْرِهِ، وَظَاهِرُ كَلَام «الأساس» و «الصِّحَاح» أَنَّ الْمُسَاوَاةَ بِقَيْدِ كَوْنِ الطَّبَقِ أَعْلَى مِنَ الشَّيْءِ لِمُسَاوِيهِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الغطاء فَيكون من الْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ لِمَعْنًى مُقَيَّدٍ كَالْخِوَانِ وَالْكَأْسِ، وَظَاهِرُ «الْكَشَّافِ» أَنَّ حَقِيقَتَهُ مُطْلَقُ الْمُسَاوَاةِ فَيَكُونُ قَيْدُ الِاعْتِلَاءِ عَارِضًا بِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ، يُقَالُ: طَابَقَ النَّعْل النَّعْل.
وأيّا مَا كَانَ فَهُوَ اسْمٌ عَلَى وَزْنِ فَعَلٍ إِمَّا مُشْتَقٌّ مِنَ الْمُطَابَقَةِ كَاشْتِقَاقِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ ثُمَّ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْأَسْمَاءِ وَتُنُوسِيَ مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ اسْمَ الطَّبَقِ وَهُوَ الغطاء لوحظ فِيهِ التَّشْبِيهِ ثُمَّ تُنُوسِيَ ذَلِكَ فَجَاءَتْ مِنْهُ مَادَّةُ الْمُطَابَقَةِ بِمَعْنَى الْمُسَاوَاةِ فَيَكُونُ مِنَ الْمُشْتَقَّاتِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ.
وَيُطْلَقُ اسْمًا مُفْرَدًا لِلْغِطَاءِ الَّذِي يُغَطَّى بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْمَثَلِ: «وَافَقَ شَنٌّ طَبَقَةَ» أَيْ غِطَاءَهُ وَهَذَا مِنَ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْغِطَاءَ مُسَاوٍ لِمَا يُغَطِّيهِ. وَيُطْلَقُ الطَّبَقُ عَلَى الْحَالَةِ لِأَنَّهَا مُلَابِسَةٌ لِصَاحِبِهَا كَمُلَابَسَةِ الطَّبَقِ لِمَا طُبِقَ عَلَيْهِ.
وَيُطْلَقُ اسْمًا مُفْرَدًا أَيْضًا عَلَى شَيْءٍ مُتَّخَذٍ مِنْ أُدُمٍ أَوْ عُودٍ وَيُؤْكَلُ عَلَيْهِ وَتُوضَعُ فِيهِ الْفَوَاكِهُ وَنَحْوُهَا، وَكَأَنَّهُ سُمِّيَ طَبَقًا لِأَن أَصله أَن يُسْتَعْمَلُ غِطَاءَ الْآنِيَةِ فَتُوضَعُ فِيهِ أَشْيَاءُ.
وَيُطْلَقُ اسْمَ جَمْعٍ لِطَبَقَةٍ: وَهِيَ مَكَانٌ فَوْقَ مَكَانٍ آخَرَ مُعْتَبَرٍ مِثْلُهُ فِي الْمِقْدَارِ إِلَّا أَنَّهُ مُرْتَفِعٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا مِنَ الْمَجَازِ يُقَالُ: أَتَانَا طَبَقٌ مِنَ النَّاسِ، أَيْ جَمَاعَةٌ.
وَيُقَارِنُ اخْتِلَافُ مَعَانِي اللَّفْظَيْنِ اخْتِلَافَ مَعْنَى عَنْ مِنْ مُجَاوَزَةٍ وَهِيَ مَعْنًى حَقِيقِيٌّ، أَوْ مِنْ مُرَادَفَةِ كَلِمَةِ (بَعْدَ) وَهُوَ مَعْنًى مَجَازِيٌّ.
وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ وَجْهِ النَّصْبِ لِلَفْظِ طَبَقًا بَيْنَ الْمَفْعُولِ بِهِ وَالْحَالِ، وَتَزْدَادُ هَذِهِ الْمَحَامِلُ إِذَا لَمْ تُقْصَرِ الْجُمَلُ عَلَى مَا لَهُ مُنَاسَبَةٌ بِسِيَاقِ الْكَلَامِ مِنْ مَوْقِعِ الْجُمْلَةِ عَقِبَ آيَةِ:
يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ [الانشقاق: ٦] الْآيَاتِ. وَمِنْ وُقُوعِهَا بَعْدَ الْقَسَمِ الْمُشْعِرِ


الصفحة التالية
Icon