وَاخْتِلَافِ هَاتِهِ الْإِطْلَاقَاتِ مَقَالَاتٌ مَلَأَتِ الْفَضَاءَ، وَكَانَتْ لِلْمُخَالِفِينَ كَحَجَرِ الْمَضَاءِ، فَلَمَّا قَيَّضَ اللَّهُ أَعْلَامًا نَفَوْا مَا شَاكَهَا، وَفَتَحُوا أَغْلَاقَهَا، تَبَيَّنَ أَنَّ الْجَوَازَ الْإِمْكَانِيَّ فِي الْجَمِيعِ ثَابِتٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَوْ شَاءَ، لَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ مُسْلِمٌ. وَثَبَتَ أَنَّ الْجَوَازَ الْمُلَائِمَ لِلْحِكْمَةِ مُنْتَفٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِنِ اخْتَلَفْنَا فِي تَفْسِيرِ الْحِكْمَةِ لِاتِّفَاقِ الْكُلِّ عَلَى أَنَّ فَائِدَةَ التَّكْلِيفِ تَنْعَدِمُ إِذَا كَانَ الْمُكَلَّفُ بِهِ مُتَعَذَّرَ الْوُقُوعِ. وَثَبَتَ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ لِتَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ مُكَلَّفٌ بِهِ جَوَازًا وَوُقُوعًا، وَجُلُّ التَّكَالِيفِ لَا تَخْلُو مِنْ ذَلِكَ، وَثَبَتَ مَا هُوَ أَخَصُّ وَهُوَ رَفْعُ الْحَرَجِ الْخَارِجِيِّ عَنِ الْحَدِّ الْمُتَعَارَفِ، تُفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ لِقَوْلِهِ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَج: ٧٨] وَقَوْلِهِ:
عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ [المزمل: ٢٠] أَيْ لَا تُطِيقُونَهُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ».
هَذَا مِلَاكُ هَاتِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهٍ يَلْتَئِمُ بِهِ مُتَنَاثِرُهَا، وَيُسْتَأْنَسُ مُتَنَافِرُهَا. وَبَقِيَ أَنْ نُبَيِّنَ لَكُمْ وَجْهَ تَعَلُّقِ التَّكْلِيفِ بِمَنْ عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَ امْتِثَالِهِ أَوْ بِمَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا يَمْتَثِلُ كَمَا فِي هَاتِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ أَخَصُّ مِنْ مَسْأَلَةِ الْعِلْمِ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ إِذْ قَدِ انْضَمَّ الْإِخْبَارُ إِلَى الْعِلْمِ كَمَا هُوَ وَجْهُ اسْتِدْلَالِ الْمُسْتَدِلِّ بِهَا، فَالْجَوَابُ أَنَّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَ فِعْلِهِ لَمْ يُكَلِّفْهُ بِخُصُوصِهِ وَلَا وَجَّهَ لَهُ دَعْوَةً تَخُصُّهُ إِذْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ أَفْرَادًا بِالدَّعْوَةِ إِلَّا وَقَدْ آمَنُوا كَمَا خَصَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ جَاءَهُ،
بِقَوْلِهِ: «أَمَا آنَ لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَنْ تَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»
وَقَوْلِهِ لِأَبِي سُفْيَانَ يَوْمَ الْفَتْحِ قَرِيبًا مِنْ تِلْكُمُ الْمَقَالَةِ، وَخَصَّ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ بِمِثْلِهَا، وَلَمْ تَكُنْ يَوْمَئِذٍ قَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَلَمَّا كَانَتِ الدَّعْوَةُ عَامَّةً وَهُمْ شَمِلَهُمُ الْعُمُومُ بَطُلَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ وَبِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَن يُقَال لماذَا لَمْ يُخَصَّصْ مَنْ عُلِمَ عَدَمُ امْتِثَالِهِ مِنْ عُمُومِ الدَّعْوَةِ، وَدَفْعُ ذَلِكَ أَنَّ تَخْصِيصَ هَؤُلَاءِ يُطِيل الشَّرِيعَة ويجرىء غَيْرَهُمْ وَيُضْعِفُ إِقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَيُوهِمُ عَدَمَ عُمُومِ الرِّسَالَةِ، عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ الْفَصْلَ بَيْنَ مَا فِي قَدَرِهِ وَعِلْمِهِ، وَبَيْنَ مَا يَقْتَضِيهِ التَّشْرِيعُ وَالتَّكْلِيفُ، وَسِرُّ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ بَيَّنَاهُ فِي مَوَاضِعَ يَطُولُ الْكَلَامُ بِجَلْبِهَا وَيَخْرُجُ مِنْ غَرَضِ التَّفْسِيرِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ تَفَطُّنَكُمْ إِلَى مُجْمَلِهِ لَيْسَ بعسير.
وَالْمُصَدِّقُ: الْمُخْبِرُ بِصِدْقِ غَيْرِهِ، وَأُدْخِلَتِ اللَّامُ عَلَى الْمَفْعُولِ لِلتَّقْوِيَةِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَصْدِيقٍ مُثْبَتٍ مُحَقَّقٍ، أَيْ مُصَدِّقًا تَصْدِيقًا لَا يَشُوبُهُ شَكٌّ وَلَا نِسْبَةٌ إِلَى خَطَأٍ. وَجُعِلَ التَّصْدِيقُ مُتَعَدِّيًا إِلَى التَّوْرَاةِ تَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ.
وَمَعْنَى مَا بَيْنَ يَدَيَّ مَا تَقَدَّمَ قَبْلِي، لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمَ السَّابِقَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيِ الْجَائِي فَهُوَ هُنَا تَمْثِيلٌ لِحَالَةِ السَّبْقِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ أَزْمِنَةٌ طَوِيلَةٌ، لِأَنَّهَا لَمَّا اتَّصَلَ الْعَمَلُ بِهَا إِلَى مَجِيئِهِ، فَكَأَنَّهَا لَمْ تَسْبِقْهُ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ. وَيُسْتَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْ كَذَا فِي مَعْنَى الْمُشَاهَدِ الْحَاضِرِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَعُطِفَ قَوْلُهُ وَلِأُحِلَّ عَلَى رَسُولًا وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَحْوَالِ: لِأَنَّ الْحَالَ تُشْبِهُ الْعِلَّةَ إِذْ هِيَ قَيْدٌ لِعَامِلِهَا، فَإِذَا كَانَ التَّقْيِيدُ عَلَى مَعْنَى التَّعْلِيلِ شَابَهَ الْمَفْعُولَ لأَجله، وشابه الجرور بِلَامِ التَّعْلِيلِ، فَصَحَّ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهَا مَجْرُورٌ بِلَامِ التَّعْلِيلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَيَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ جِئْتُكُمْ. وَعَقَّبَ بِهِ قَوْلَهُ: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ النَّسْخَ لَا يُنَافِي التَّصْدِيقَ لِأَنَّ النَّسْخَ إِعْلَامٌ بِتَغَيُّرِ الْحُكْمِ. وَانْحَصَرَتْ شَرِيعَةُ عِيسَى فِي إِحْيَاءِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ وَمَا تَرَكُوهُ فِيهَا وَهُوَ فِي هَذَا كَغَيْرِهِ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِي تَحْلِيلِ بَعْضِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رَعْيًا لِحَالِهِمْ فِي أَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَبِهَذَا كَانَ رَسُولًا. قِيلَ أَحَلَّ لَهُمُ الشُّحُومَ، وَلُحُومَ الْإِبِلِ، وَبَعْضَ السَّمَكِ، وَبَعْضَ الطَّيْرِ: الَّذِي كَانَ مُحَرَّمًا مِنْ قَبْلُ، وَأَحَلَّ لَهُمُ السَّبْتَ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي الْإِنْجِيلِ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ مَا حُلِّلَ لَهُمْ، فَمَا قِيلَ: إِنَّهُ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الطَّلَاقَ فَهُوَ تَقَوُّلٌ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا حَذَّرَهُمْ مِنْهُ وَبَيَّنَ لَهُمْ سُوءَ عَوَاقِبِهِ، وَحَرَّمَ تَزَوُّجَ الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ وَيَنْضَمُّ إِلَى ذَلِكَ مَا لَا تَخْلُو مِنْهُ دَعْوَةٌ: مِنْ تَذْكِيرٍ، وَمَوَاعِظَ، وَتَرْغِيبَاتٍ.
وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ.
وَقَوله: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمرَان: ٤٩]. وَإِنَّمَا عُطِفَ بِالْوَاوِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَيَحْصُلُ
وَالْمُمْكِنُهُ: فَالَّذِينَ بَلَغُوا الْيَأْسَ مِنَ الْوِلَادَةِ، وَلَهُمْ أَوْلَادٌ كِبَارٌ أَوْ لَا أَوْلَادَ لَهُمْ، يَدْخُلُونَ فِي فَرْضِ هَذَا الشَّرْطِ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانَ لَهُمْ أَوْلَادٌ صِغَارٌ لَخَافُوا عَلَيْهِمْ، وَالَّذِينَ لَهُمْ أَوْلَادٌ صِغَارٌ أَمْرُهُمْ أَظْهَرُ.
وَفِعْلُ (تَرَكُوا) مَاضٍ مُسْتَعْمَلٍ فِي مُقَارَبَةِ حُصُولِ الْحَدَثِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ الْأَوَّلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ [الْبَقَرَة: ٢٤٠] وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [الشُّعَرَاء: ٢٠١] وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِلَى مَلِكٍ كَادَ الْجِبَالُ لِفَقْدِهِ | تَزُولُ زَوَالَ الرَّاسِيَاتِ مِنَ الصَّخْرِ |
وَالْمُخَاطَبُ بِالْأَمْرِ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِنَ الْأَصْنَافِ الْمُتَقَدِّمَةِ: مِنَ الْأَوْصِيَاءِ، وَمِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ يحرمُونَ النِّسَاء ميراثهن، ويحرمون صِغَارَ إِخْوَتِهِمْ أَوْ أَبْنَاءِ إِخْوَتِهِمْ وَأَبْنَاءِ أَعْمَامِهِمْ مِنْ مِيرَاثِ آبَائِهِمْ، كُلُّ أُولَئِكَ دَاخِلٌ فِي الْأَمْرِ بِالْخَشْيَةِ، وَالتَّخْوِيفِ بِالْمَوْعِظَةِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ هَذَا الْخِطَابُ بِأَصْحَابِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [النِّسَاء: ٨] لِأَنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ وَقَعَتْ كَالِاسْتِطْرَادِ، وَلِأَنَّهُ لَا عَلَاقَةَ لِمَضْمُونِهَا بِهَذَا التَّخْوِيفِ.
وَفِي الْآيَةِ مَا يَبْعَثُ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَلَى أَنْ يَغْضَبُوا لِلْحَقِّ مِنَ الظُّلْمِ، وَأَنْ يَأْخُذُوا عَلَى أَيْدِي أَوْلِيَاءِ السُّوءِ، وَأَنْ يَحْرُسُوا أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَيُبَلِّغُوا حُقُوقَ الضُّعَفَاءِ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِنْ أَضَاعُوا ذَلِكَ يُوشِكُ أَنْ يَلْحَقَ أَبْنَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ، وَأَنْ يَأْكُلَ قَوِيَّهُمْ ضَعِيفَهُمْ، فَإِنَّ اعْتِيَادَ السُّوءِ يُنْسِي النَّاسَ شَنَاعَتَهُ، وَيُكْسِبُ النُّفُوسَ ضَرَاوَةً عَلَى عَمَلِهِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الذُّرِّيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٣٤].
وَقَوْلُهُ: فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً فُرِّعَ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى عَلَى الْأَمْرِ بِالْخَشْيَةِ وَإِنْ كَانَا أَمْرَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ: لِأَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ لَمَّا عُضِّدَ بِالْحُجَّةِ اعْتُبِرَ كَالْحَاصِلِ فَصَحَّ التَّفْرِيعُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ وَلْيُحْسِنُوا إِلَيْهِم القَوْل.
يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ ثُمَّ آمَنَ بِي (أَي عِنْد مَا بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ الْمُحَمَّديَّةُ) فَلَهُ أَجْرَانِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا وَعَلَّمَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ- وَقَوْلِهِ- وَلَأَدْخَلْناهُمْ لَامُ تَأْكِيدٍ يَكْثُرُ وُقُوعُهَا فِي جَوَابِ (لَوْ) إِذَا كَانَ فِعْلًا مَاضِيًا مُثْبَتًا لِتَأْكِيدِ تَحْقِيقِ التَّلَازُمِ بَيْنَ شَرْطِ (لَوْ) وَجَوَابِهَا، وَيَكْثُرُ أَنْ يُجَرَّدَ جَوَابُ- لَوْ- عَنِ اللَّامِ، كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [٧٠].
[٦٦]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ٦٦]
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ (٦٦)
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ.
إِقَامَةُ الشَّيْءِ جَعْلُهُ قَائِمًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَاسْتُعِيرَتِ الْإِقَامَةُ لِعَدَمِ الْإِضَاعَةِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُضَاعَ يَكُونُ مُلْقًى، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهُ: شَيْءٌ لَقًى، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ فِي حَالِ قِيَامِهِ أَقْدَرَ عَلَى الْأَشْيَاءِ، فَلِذَا قَالُوا: قَامَتِ السُّوقُ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى إِقَامَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ إِقَامَةَ تَشْرِيعِهِمَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، أَيْ لَوْ أَطَاعُوا أَوَامِرَ اللَّهِ وَعَمِلُوا بِهَا سَلِمُوا مِنْ غَضَبِهِ فَلَأَغْدَقَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ، فَالْيَهُودُ آمَنُوا بِالتَّوْرَاةِ وَلَمْ يُقِيمُوا أَحْكَامَهَا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَكَفَرُوا بِالْإِنْجِيلِ وَرَفَضُوهُ، وَذَلِكَ أَشَدُّ فِي عَدَمِ إِقَامَتِهِ، وَبِالْقُرْآنِ. وَقد أَو مأت الْآيَةُ إِلَى أَنَّ سَبَبَ ضِيقِ مَعَاشِ الْيَهُودِ هُوَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ لِإِضَاعَتِهِمُ التَّوْرَاةَ وَكُفْرِهِمْ بِالْإِنْجِيلِ وَبِالْقُرْآنِ، أَيْ فَتَحَتَّمَتْ عَلَيْهِمُ النِّقْمَةُ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: لَوْ أَقَامُوا هَذِهِ الْكُتُبَ بَعْدَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ، أَيْ بِالِاعْتِرَافِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنَ التَّبْشِيرِ بِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُؤْمِنُوا بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ إِشَارَةً إِلَى ضِيقِ مَعَاشِهِمْ بَعْدَ هِجْرَةِ الرَّسُولِ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [الْمَائِدَة: ٦٤] كَمَا تَقَدَّمَ.
إِلَى طَلَبِ طَرْدِهِمْ هُوَ احْتِقَارٌ فِي حَسَدٍ وَالْحَسَدُ يَكُونُ أَعْظَمُ مَا يَكُونُ إِذَا كَانَ الْحَاسِدُ يَرَى نَفْسَهُ أَوْلَى بِالنِّعْمَةِ الْمَحْسُودِ عَلَيْهَا، فَكَانَ ذَلِكَ الدَّاعِي فِتْنَةً عَظِيمَةً فِي نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ جَمَعَتْ كِبْرًا وَعُجْبًا وَغُرُورًا بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ إِلَى احْتِقَارٍ لِلْأَفَاضِلِ وَحَسَدٍ لَهُمْ، وَظُلْمٍ لِأَصْحَابِ الْحَقِّ، وَإِذْ حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ وَالِانْتِفَاعِ بِالْقُرْبِ مِنْ مَجْلِسِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالتَّشْبِيهُ مَقْصُودٌ مِنْهُ التَّعْجِيبُ مِنَ الْمُشَبَّهِ بِأَنَّهُ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي الْعُجْبِ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَى الْفُتُونِ الْمَأْخُوذِ مِنْ «فَتَنَّا» كَمَا يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى الْمَصْدَرِ فِي نَحْوِ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، أَيْ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ فُتُونًا يُرَغِّبُ السَّامِعَ فِي تَشْبِيهِهِ وَتَمْثِيلِهِ لِتَقْرِيبِ كُنْهِهِ فَإِذَا رَامَ الْمُتَكَلِّمُ أَنْ يُقَرِّبَهُ لَهُ بِطَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ لَمْ يَجِدْ لَهُ شَبِيهًا فِي غَرَائِبِهِ وَفَظَاعَتِهِ إِلَّا أَنْ يُشَبِّهَهُ بِنَفْسِهِ إِذْ لَا أَعْجَبَ مِنْهُ، عَلَى حدّ قَوْلهم: والسفاعة كَاسْمِهَا.
وَلَيْسَ ثَمَّةَ إِشَارَةٍ إِلَى شَيْءٍ مُتَقَدِّمٍ مُغَايِرٍ لِلْمُشَبَّهِ. وَجِيءَ بِاسْمِ إِشَارَةِ الْبَعِيدِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى عِظَمِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ مِثْلِ هَذَا التَّشْبِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣].
وَالْمُرَادُ بِالْبَعْضِ الْمَنْصُوبِ الْمُشْرِكُونَ فَهُمُ الْمَفْتُونُونَ، وَبِالْبَعْضِ الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ الْمُؤْمِنُونَ، أَيْ فَتَنَّا عُظَمَاءَ الْمُشْرِكِينَ فِي اسْتِمْرَارِ شِرْكِهِمْ وَشِرْكِ مُقَلِّدِيهِمْ بِحَالِ الْفُقَرَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْخَالِصِينَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا [الْأَنْعَام:
٥٣] فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقُولُهُ غَيْرُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَمَا يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَذْيِيلِهِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ.
وَالْقَوْلُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا مِنْهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَوْ كَلَامًا قَالُوهُ فِي مَلَئِهِمْ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُمْ لَا يَقُولُونَهُ إِلَّا وَقَدِ اعْتَقَدُوا مَضْمُونَهُ، فَالْقَائِلُونَ أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُمُ الْمُشْرِكُونَ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَقُولُوا لَامُ التَّعْلِيلِ، وَمَدْخُولُهَا هُوَ أَثَرُ الْعِلَّةِ دَالٌّ عَلَيْهَا بَعْدَ طَيِّهَا
رَفْعًا لِلنِّزَاعِ بَيْنَهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَنْفَالِ، أَوْ فِي طَلَبِ التَّنْفِيلِ، فَلَمَّا حَكَمَ بِأَنَّهَا مِلْكٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْ بِأَنَّ أَمْرَ قِسْمَتِهَا مَوْكُولٌ لِلَّهِ، فَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ عَلَى كَرَاهَةِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ مِمَّنْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِتِلْكَ الْأَنْفَالِ مِمَّنْ أُعْطِيَهَا، تَبَعًا لِعَوَائِدِهِمُ السَّالِفَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ قَدْ وَجَبَ الرِّضَى بِمَا يُقَسِّمُهُ الرَّسُولُ مِنْهَا، وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْمَقُولِ.
وَقَدَّمَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى، لِأَنَّهَا جَامِعُ الطَّاعَاتِ.
وَعَطَفَ الْأَمْرَ بِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، لِأَنَّهُمُ اخْتَصَمُوا وَاشْتَجَرُوا فِي شَأْنِهَا كَمَا قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: «اخْتَلَفْنَا فِي النَّفَلِ وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقَنَا» فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالتَّصَافُحِ، وَخَتَمَ بِالْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الرِّضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَيِ الطَّاعَةُ التَّامَّةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ [النِّسَاء: ٦٥].
وَالْإِصْلَاحُ: جَعْلُ الشَّيْءِ صَالِحًا، وَهُوَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ كَانَ غَيْرَ صَالِحٍ، فَالْأَمْرُ بِالْإِصْلَاحِ دَلَّ عَلَى فَسَادِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ، وَهُوَ فَسَادُ التَّنَازُعِ وَالتَّظَالُمِ.
وذاتَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُؤَنَّثُ (ذُو) الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى صَاحِبٍ فَتَكُونُ أَلِفُهَا مُبْدَلَةً مِنَ الْوَاوِ. وَوَقَعَ فِي كَلَامِهِمْ مُضَافًا إِلَى الْجِهَاتِ وَإِلَى الْأَزْمَانِ وَإِلَى غَيْرِهِمَا، يُجْرُونَهُ مَجْرَى الصِّفَةِ لِمَوْصُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [١٨]، عَلَى تَأْوِيلِ جِهَةٍ، وَتَقُولُ: لَقِيتُهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ، وَلَقِيتُهُ ذَاتَ صَبَاحٍ، عَلَى تَأْوِيلِ الْمُقَدَّرِ سَاعَةَ أَوْ وَقْتَ، وَجَرَتْ مَجْرَى الْمَثَلِ فِي مُلَازَمَتِهَا هَذَا الِاسْتِعْمَالَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (ذَاتَ) أَصْلِيَّةُ الْأَلْفِ كَمَا يُقَالُ: أَنَا أَعْرِفُ ذَاتَ فُلَانٍ، فَالْمَعْنَى حَقِيقَةُ الشَّيْءِ وَمَاهِيَّتُهُ، كَذَا فَسَّرَهَا الزَّجَّاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ، فَهُوَ كَقَوْلِ ابْنِ رَوَاحَةَ:
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ | يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ |
فَالْمَعْنَى: أَصْلِحُوا بَيْنَكُمْ، وَلِذَا فَ (ذَاتَ) مَفْعُولٌ بِهِ عَلَى أَنَّ (بَيْنَ) فِي الْأَصْلِ ظَرْفٌ فَخَرَجَ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ، وَجعل اسْما منتصرفا، كَمَا قُرِئَ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الْأَنْعَام: ٩٤] بِرَفْعِ بَيْنُكُمْ فِي قِرَاءَةِ جَمَاعَةٍ. فَأُضِيفَتْ إِلَيْهِ (ذَاتَ) فَصَارَ الْمَعْنَى: أَصْلِحُوا حَقِيقَةَ بَيْنِكِمْ
بَعْدَ ذَلِكَ:
فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [التَّوْبَة:
٧٤].
وَقَدْ آمَنَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ هَذِه الطَّائِفَة مخشيّا (١) بْنَ حُمَيِّرٍ الْأَشْجَعِيَّ لَمَّا سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ تَابَ مِنَ النِّفَاقِ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، فَعُدَّ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ جَاهَدَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ وَاسْتُشْهِدَ فِيهِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ الْمَقْصُودُ «بِالطَّائِفَةِ» دُونَ غَيْرِهِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدِ فِي مَقَامِ الْإِخْفَاءِ وَالتَّعْمِيَةِ
كَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ»
. وَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْمَدِينَةِ بَقِيَّةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي خِلَافَتِهِ يَتَوَسَّمُهُمْ.
وَالْبَاءُ فِي بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالْمُجْرِمُ الْكَافِرُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُعْفَ وتعذب بِبِنَاءِ الْفِعْلَيْنِ إِلَى النَّائِبِ، وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ- بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَبِنُونِ الْعَظَمَةِ فِي الْفِعْلَيْنِ وَنَصَبَ طائِفَةٍ الثَّانِي.
[٦٧]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٦٧]
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧)
يَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ احْتِرَاسًا عَنْ أَنْ يَظُنَّ الْمُنَافِقُونَ أَنَّ الْعَفْوَ الْمَفْرُوضَ لِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ هُوَ عَفْوٌ يَنَالُ فَرِيقًا مِنْهُمْ بَاقِينَ عَلَى نِفَاقِهِمْ، فَعَقَّبَ ذَلِكَ بِبَيَانِ أَنَّ النِّفَاقَ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَنَّ أَصْحَابَهُ سَوَاءٌ، لِيَعْلَمَ بِذَلِكَ أَنَّ افْتِرَاقَ أَحْوَالِهِمْ بَيْنَ عَفْوٍ وَعَذَابٍ لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا اخْتَلَفَتْ أَحْوَالُهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْبَقَاءِ عَلَى النِّفَاقِ، إِلَى مَا أَفَادَتْهُ الْآيَةُ أَيْضًا مِنْ إِيضَاحِ بَعْضِ
_________
(١) بميم مَفْتُوحَة وخاء مُعْجمَة سَاكِنة وياء مُشَدّدَة، وحمير بحاء مُهْملَة مَضْمُومَة وَمِيم مَفْتُوحَة وتحتية مُشَدّدَة. وَفِي «سيرة ابْن إِسْحَاق» ومخشن بنُون من آخِره وبفتح الشين وَقد ذكر اسْمه آنِفا عِنْد تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التَّوْبَة: ٦٥].
[سُورَة يُونُس (١٠) : الْآيَات ٧٩ إِلَى ٨٢]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢)جُمْلَةُ: وَقالَ فِرْعَوْنُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: قالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ [يُونُس: ٧٦]، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي حُكْمِ جَوَابٍ ثَانٍ لِحَرْفِ (لَمَّا) حُكِيَ أَوَّلًا مَا تَلَقَّى بِهِ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ دَعْوَةَ مُوسَى وَمُعْجِزَتَهُ مَنْ مَنْعِ أَنْ يَكُونَ مَا جَاءَ بِهِ تَأْيِيدًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. ثُمَّ حُكِيَ ثَانِيًا مَا تَلَقَّى بِهِ فِرْعَوْنُ خَاصَّةً تِلْكَ الدَّعْوَةَ مِنْ مُحَاوَلَةِ تَأْيِيدِ قَوْلِهِمْ: إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ [يُونُس: ٧٦] لِيُثْبِتُوا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا مِمَّا تَحْصِيلُ أَسْبَابِهِ مِنْ خَصَائِصِ فِرْعَوْنَ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ لِخَاصَّةِ الْأُمَّةِ بِالِاسْتِعْدَادِ لِإِبْطَالِ مَا يُخْشَى مِنْهُ.
وَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: ائْتُونِي هُمْ مَلَأُ فِرْعَوْنَ وَخَاصَّتُهُ الَّذِينَ بِيَدِهِمْ تَنْفِيذُ أَمْرِهِ.
وَأَمَرَ بِإِحْضَارِ جَمِيعِ السَّحَرَةِ الْمُتَمَكِّنِينَ فِي عِلْمِ السِّحْرِ لِأَنَّهُمْ أَبْصَرُ بِدَقَائِقِهِ، وَأَقْدَرُ عَلَى إِظْهَارِ مَا يَفُوقُ خَوَارِقَ مُوسَى فِي زَعْمِهِ، فَحُضُورُهُمْ مُغْنٍ عَنْ حُضُورِ السَّحَرَةِ الضُّعَفَاءِ فِي عِلْمِ السِّحْرِ لِأَنَّ عَمَلَهُمْ مَظِنَّةُ أَنْ لَا يُوَازِيَ مَا أَظْهَرُهُ مُوسَى مِنَ الْمُعْجِزَةِ فَإِذَا أَتَوْا بِمَا هُوَ دُونَ مُعْجِزَةِ مُوسَى كَانَ ذَلِكَ مُرَوِّجًا لِدَعْوَةِ مُوسَى بَيْنَ دَهْمَاءِ الْأُمَّةِ.
وَالْعُمُومُ فِي قَوْلِهِ: بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ، أَيْ بِكُلِّ سَاحِرٍ تَعْلَمُونَهُ وَتَظْفَرُونَ بِهِ، أَوْ أُرِيدَ بِكُلِّ مَعْنَى الْكَثْرَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٥].
وَجُمْلَةُ: فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَقالَ فِرْعَوْنُ، عَطَفَ مَجِيءَ السَّحَرَةِ وَقَوْلَ مُوسَى لَهُمْ عَلَى جُمْلَةِ: قالَ فِرْعَوْنُ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْفَوْرِ فِي إِحْضَارِهِمْ وَهُوَ تَعْقِيبٌ بِحَسْبِ الْمُتَعَارَفِ فِي الْإِسْرَاعِ بِمِثْلِ الشَّيْءِ الْمَأْمُورِ
الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِاللَّامِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أُرْدِفَتْ جُمْلَةُ وَهَمَّ بِها بِجُمْلَةِ شَرْطِ لَوْلا الْمُتَمَحَّضِ لِكَوْنِهِ مِنْ أَحْوَالِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَحْدَهُ لَا مِنْ أَحْوَالِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ تَعَيَّنَ أَنَّهُ لَا عَلَاقَةَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الثَّانِيَةَ مُسْتَقِلَّةٌ لِاخْتِصَاصِ شَرْطِهَا بِحَالِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِيهَا. فَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَهَمَّ بِهَا، فَقَدَّمَ الْجَوَابَ عَلَى شَرْطِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَلَمْ يَقْرِنِ الْجَوَابَ بِاللَّامِ الَّتِي يَكْثُرُ اقْتِرَانُ جَوَابِ لَوْلا بِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ لَازِمًا وَلِأَنَّهُ لَمَّا قُدِّمَ عَلَى لَوْلا كُرِهَ قَرْنُهُ بِاللَّامِ قَبْلَ ذِكْرِ حَرْفِ الشَّرْطِ، فَيَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ لِيَظْهَرَ مَعْنَى الِابْتِدَاءِ بِجُمْلَةِ وَهَمَّ بِها وَاضِحًا. وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ أَنَّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ يُخَالِطْهُ هَمٌّ بِامْرَأَةِ
الْعَزِيزِ لِأَنَّ اللَّهَ عَصَمَهُ مِنَ الْهَمِّ بِالْمَعْصِيَةِ بِمَا أَرَاهُ مِنَ الْبُرْهَانِ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كُنْتُ أَقْرَأُ غَرِيبَ الْقُرْآنِ عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ فَلَمَّا أَتَيْتُ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها الْآيَةَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَذَا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، أَيْ تَقْدِيمِ الْجَوَابِ وَتَأْخِيرِ الشَّرْطِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَلَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَهَمَّ بِهَا.
وَطَعَنَ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ جَوَابَ لَوْلا لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا. وَيَدْفَعُ هَذَا الطَّعْنَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمَّا قَالَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَرَى مَنْعَ تَقْدِيمِ جَوَابِ لَوْلا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَجْعَلُ الْمَذْكُورَ قَبْلَ لَوْلا دَلِيلًا لِلْجَوَابِ وَالْجَوَابُ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَ لَوْلا عَلَيْهِ. وَلَا مَفَرَّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَإِنَّ لَوْلا وَشَرْطَهَا تَقْيِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَهَمَّ بِها عَلَى جَمِيعِ التَّأْوِيلَاتِ، فَمَا يُقَدَّرُ مِنَ الْجَوَابِ يُقَدَّرُ عَلَى جَمِيعِ التَّأْوِيلَاتِ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هَمَّ يُوسُفُ بِأَنْ يُجِيبَهَا لِمَا دَعَتْهُ إِلَيْهِ ثُمَّ ارْعَوى وَانْكَفَّ عَلَى ذَلِكَ لَمَّا رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَثَعْلَبٌ. وَبَيَانُ هَذَا أَنَّهُ انْصَرَفَ عَمَّا هَمَّ بِهِ بِحِفْظِ اللَّهِ أَوْ بِعِصْمَتِهِ، وَالْهَمُّ بِالسَّيِّئَةِ مَعَ الْكَفِّ عَنْ إِيقَاعِهَا لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ فَلَا يُنَافِي عِصْمَةَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْكَبَائِرِ قَبْلَ النُّبُوءَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ رَأَى عِصْمَتَهُمْ مِنْهَا قَبْلَ النُّبُوءَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ،
وَتَبْدِيلُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِمَّا بِتَغْيِيرِ الْأَوْصَافِ الَّتِي كَانَتْ لَهَا وَإِبْطَالِ النُّظُمِ الْمَعْرُوفَةِ فِيهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَإِمَّا بِإِزَالَتِهَا وَوِجْدَانِ أَرْضٍ وَسَمَاوَاتٍ أُخْرَى فِي الْعَالَمِ الْأُخْرَوِيِّ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى اسْتِبْدَالُ الْعَالَمِ الْمَعْهُودِ بِعَالَمٍ جَدِيدٍ.
وَمَعْنَى وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ مِثْلُ مَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٢١]. وَالْوَصْفُ بِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَثْبَتُوا لَهُ شُرَكَاءً وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يُدَافِعُونَ عَنْ أَتْبَاعِهِمْ. وَضَمِيرُ بَرَزُوا عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ السِّيَاقِ، أَيْ وَبَرَزَ النَّاسُ أَوْ بَرَزَ الْمُشْرِكُونَ.
وَالتَّقْرِينُ: وَضْعُ اثْنَيْنِ فِي قَرْنٍ، أَيْ حَبْلٍ.
وَالْأَصْفَادُ جَمْعُ صِفَادٍ بِوَزْنِ كِتَابٍ، وَهُوَ الْقَيْدُ وَالْغُلُّ.
وَالسَّرَابِيلُ: جَمْعُ سِرْبَالٍ وَهُوَ الْقَمِيصُ. وَجُمْلَةُ سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ حَالٌ مِنَ الْمُجْرِمِينَ.
وَالْقَطِرَانُ: دَهْنٌ مِنْ تَرْكِيبٍ كِيمْيَاوِيٍّ قَدِيمٍ عِنْدَ الْبَشَرِ يَصْنَعُونَهُ مِنْ إِغْلَاءِ شَجَرِ الْأَرْزِ وَشَجَرِ السَّرْوِ وَشَجَرِ الْأُبْهُلِ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ وَبَيْنَهُمَا مُوَحَّدَةٌ سَاكِنَةٌ- وَهُوَ شَجَرٌ مِنْ فَصِيلَةِ الْعَرْعَرِ. وَمِنْ شَجَرِ الْعَرْعَرِ بِأَنْ تُقْطَعَ الْأَخْشَابُ وَتُجْعَلَ فِي قُبَّةٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى بَلَاطٍ سَوِيٍّ
وَفِي الْقُبَّةِ قَنَاةٌ إِلَى خَارِجٍ. وَتُوقَدُ النَّارُ حَوْلَ تِلْكَ الْأَخْشَابِ فَتَصْعَدُ الْأَبْخِرَةُ مِنْهَا وَيَسْرِي مَاءُ الْبُخَارِ فِي الْقَنَاةِ فَتَصُبُّ فِي إِنَاءٍ آخَرَ مَوْضُوعٍ تَحْتَ الْقَنَاة فيتجمع منهماء أَسْوَدُ يعلوه زبد خاثر أَسْوَدُ. فَالْمَاءُ يُعْرَفُ بِالسَّائِلِ وَالزَّبَدُ يُعْرَفُ بِالْبَرْقِيِّ. وَيُتَّخَذُ لِلتَّدَاوِي مِنَ الْجَرَبِ لِلْإِبِلِ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَوْصُوفٌ فِي كُتُبِ الطِّبِّ وَعِلْمِ الْأَقْرَبَاذِينِ.
وَجُعِلَتْ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ لِأَنَّهُ شَدِيدُ الْحَرَارَةِ فَيُؤْلِمُ الْجِلْدَ الْوَاقِعَ هُوَ عَلَيْهِ، فَهُوَ لِبَاسُهُمْ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ ابْتِدَاءً بِالْعَذَابِ حَتَّى يَقَعُوا فِي النَّارِ-.
وَتَعْرِيفُ الْكِتَابِ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ.
وتِبْياناً مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ. وَالتِّبْيَانُ مَصْدَرٌ دَالٌّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَصْدَرِيَّةِ، ثُمَّ أُرِيدَ بِهِ اسْمُ الْفَاعِلِ فَحَصَلَتْ مُبَالَغَتَانِ، وَهُوَ- بِكَسْرِ التَّاءِ-، وَلَا يُوجَدُ مَصْدَرٌ بِوَزْنِ تِفْعَالٌ- بِكَسْرِ التَّاءِ- إِلَّا تِبْيَانٌ بِمَعْنَى الْبَيَانِ كَمَا هُنَا. وتلقاء بِمَعْنَى اللِّقَاءِ لَا بِمَعْنَى الْمَكَانِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَصَادِرِ الْوَارِدَةِ عَلَى هَذِهِ الزّنة فَهِيَ- بِفَتْحِ التَّاءِ-.
وَأَمَّا أَسْمَاءُ الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى هَذِهِ الزِّنَةِ فَهِيَ- بِكَسْرِ التَّاءِ- وَهِيَ قَلِيلَةٌ، عُدَّ مِنْهَا: تِمْثَالٌ، وَتِنْبَالٌ، لِلْقَصِيرِ. وَأَنْهَاهَا ابْنُ مَالِكٍ فِي نَظْمِ الْفَوَائِدِ (١) إِلَى أَرْبَعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً (٢).
وَ «كُلُّ شَيْءٍ» يُفِيدُ الْعُمُومَ إِلَّا أَنَّهُ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ فِي دَائِرَةِ مَا لِمِثْلِهِ تَجِيءُ الْأَدْيَانُ وَالشَّرَائِعُ: مِنْ إِصْلَاحِ النُّفُوسِ، وَإِكْمَالِ الْأَخْلَاقِ، وَتَقْوِيمِ الْمُجْتَمَعِ الْمَدَنِيِّ، وَتَبَيُّنِ الْحُقُوقِ، وَمَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الدَّعْوَةُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، وَصِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا
يَأْتِي فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنَ الْحَقَائِقِ الْعِلْمِيَّةِ وَالدَّقَائِقِ الْكَوْنِيَّةِ، وَوَصْفِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ، وَأَسْبَابِ فَلَاحِهَا وَخَسَارِهَا، وَالْمَوْعِظَةِ بِآثَارِهَا بِشَوَاهِدِ التَّارِيخِ، وَمَا يَتَخَلَّلُ ذَلِكَ مِنْ قَوَانِينِهِمْ وَحَضَارَاتِهِمْ وَصَنَائِعِهِمْ.
وَفِي خِلَالِ ذَلِكَ كُلِّهِ أَسْرَارٌ وَنُكَتٌ مِنْ أُصُولِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ صَالِحَةٌ لِأَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ الْحَقِيقِيِّ إِنْ سَلَكَ فِي بَيَانِهَا طَرِيقَ التَّفْصِيلِ وَاسْتُنِيرَ فِيهَا بِمَا شَرَحَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا قَفَاهُ بِهِ أَصْحَابُهُ وَعُلَمَاءُ أُمَّتِهِ، ثُمَّ مَا يَعُودُ إِلَى التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مِنْ وَصْفِ مَا أَعَدَّ لِلطَّائِعِينَ وَمَا أَعَدَّ لِلْمُعْرِضِينَ، وَوَصْفِ عَالَمِ الْغَيْبِ وَالْحَيَاةِ الْآخِرَةِ.
فَفِي كُلِّ ذَلِكَ بَيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ يُقْصَدُ بَيَانُهُ لِلتَّبَصُّرِ فِي هَذَا الْغَرَض الْجَلِيل، فيؤول ذَلِكَ الْعُمُومُ الْعُرْفِيُّ بِصَرِيحِهِ إِلَى عُمُومٍ حَقِيقِيٍّ بِضِمْنِهِ وَلَوَازِمِهِ. وَهَذَا مِنْ أَبْدَعَ الْإِعْجَازِ.
_________
(١) منظومة لَيست على رُوِيَ وَاحِد كَذَا فِي «كشف الظنون».
(٢) انظرها فِي تَفْسِير الألوسي.
وَالْأَفْوَاهُ: جمع فَم وَهُوَ بِوَزْنِ أَفْعَالٍ، لِأَنَّ أَصْلَ فَمٍ فَوَهٌ بِفَتْحَتَيْنِ بِوَزْنِ جَمَلٍ، أَوْ فِيهٍ بِوَزْنِ رِيحٍ، فَحُذِفَتِ الْهَاءُ مِنْ آخِرِهِ لِثِقَلِهَا مَعَ قلَّة حُرُوف الْكَلِمَةِ بِحَيْثُ لَا يَجِدُ النَّاطِقُ حَرْفًا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ لِسَانُهُ، وَلِأَنَّ مَا قَبْلَهَا حَرْفٌ ثَقِيلٌ وَهُوَ الْوَاوُ الْمُتَحَرِّكَةُ فَلَمَّا بَقِيَتِ الْكَلِمَةُ مَخْتُومَةً بِوَاوٍ مُتَحَرِّكَةٍ أُبْدِلَتْ أَلْفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا فَصَارَ «فًا» وَلَا يَكُونُ اسْمٌ عَلَى حَرْفَيْنِ أَحَدُهُمَا تَنْوِينٌ، فَأُبْدِلَتِ الْأَلِفُ الْمُنَوَّنَةُ بِحَرْفٍ صَحِيحٍ وَهُوَ الْمِيمُ لِأَنَّهَا تُشَابِهُ الْوَاوَ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ فِي الْكَلِمَةِ لِأَنَّهُمَا شَفَهِيَّتَانِ فَصَارَ «فَمٌ»، وَلَمَّا جَمَعُوهُ رَدُّوهُ إِلَى أَصْلِهِ.
وَجُمْلَةُ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ لِأَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسُنُ وَلَا تَحَقُّقَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ هُوَ الْكَذِبُ، أَيْ تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ خُرُوجَ الْكَذِبِ، فَمَا قَوْلُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا كَذِبٌ، أَيْ لَيْسَتْ لَهُ صِفَةٌ إِلَّا صِفَةُ
الْكَذِبِ.
هَذَا إِذَا جُعِلَ الْقَوْلُ الْمَأْخُوذُ مِنْ يَقُولُونَ خُصُوصَ قَوْلِهِمُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْكَهْف: ٤]. وَلَكَ أَنْ تَحْمِلَ يَقُولُونَ عَلَى الْعُمُومِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، أَيْ لَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ قَوْلٌ إِلَّا الْكَذِبُ، فَيَكُونُ قَصْرًا إِضَافِيًّا، أَيْ مَا يَقُولُونَهُ فِي الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ، أَوْ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ مُعْتَقَدَاتِهِمُ الْمُخَالِفِ لِمَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ فَتَكُونُ جُمْلَةُ إِنْ يَقُولُونَ تذييلا.
[٦]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : آيَة ٦]
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦)
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْكَهْف: ٤] بِاعْتِبَارِهِمْ مُكَذِّبِينَ كَافِرين بِقَرِينَة مُقَابلَة الْمُؤمنِينَ بهم فِي قَوْله: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ [الْكَهْف: ٢] ثمَّ قَوْله: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْكَهْف: ٤].
وَفِي «التَّفْسِيرِ الْوَجِيزِ» لِلْوَاحِدِيِّ سَأَلَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي (هُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ بْنِ حَمَّادٍ) ابْنَ كَيْسَانَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: لَمَّا لَمْ يَظْهَرْ فِي الْمُبْهَمِ إِعْرَابٌ فِي الْوَاحِدِ وَلَا فِي الْجَمْعِ (أَيْ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا وَهَؤُلَاءِ إِذْ هُمَا مَبْنِيَّانِ) جَرَتِ التَّثْنِيَةُ مَجْرَى الْوَاحِدِ إِذِ التَّثْنِيَةُ يَجِبُ أَنْ لَا تُغَيَّرَ. فَقَالَ لَهُ إِسْمَاعِيل: مَا حسن هَذَا لَوْ تَقَدَّمَكَ أَحَدٌ بِالْقَوْلِ فِيهِ حَتَّى يُؤْنَسَ بِهِ! فَقَالَ لَهُ ابْنُ كَيْسَانَ: فَلْيَقُلْ بِهِ الْقَاضِي حَتَّى يُؤْنَسَ بِهِ، فَتَبَسَّمَ.
وَعَلَى هَذَا التَّوْجِيهِ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ حِكَايَةً لِمَقَالِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُتَنَازِعِينَ، وَهُوَ الْفَرِيقُ الَّذِي قَبِلَ هَذَا الرَّأْيَ لِأَنَّ حَرْفَ الْجَوَابِ يَقْتَضِي كَلَامًا سَبَقَهُ.
وَدَخَلَتِ اللَّامُ عَلَى الْخَبَرِ: إِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْخَبَرِ جُمْلَةً حُذِفَ مُبْتَدَأُهَا وَهُوَ مَدْخُولُ اللَّامِ فِي التَّقْدِيرِ، وَوُجُود اللّام ينبىء بِأَنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي وَقَعَتْ خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ جُمْلَةٌ قَسَمِيَّةٌ وَإِمَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجِيزُ دُخُولَ اللَّامِ عَلَى خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ فِي غَيْرِ الضَّرُورَةِ.
وَوُجِّهَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَيْضًا بِجَعْلِ (إِنَّ) حَرْفَ تَوْكِيدٍ وَإِعْرَابُ اسْمِهَا الْمُثَنَّى جَرَى عَلَى لُغَةِ كِنَانَةَ وَبِلْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ عَلَامَةَ إِعْرَابِ الْمُثَنَّى الْأَلِفَ فِي أَحْوَالِ الْإِعْرَابِ كُلِّهَا، وَهِيَ لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الْأَدَبِ الْعَرَبِيِّ وَلَهَا شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُ الْمُتَلَمِّسِ:
فَأَطْرَقَ إِطْرَاقَ الشُّجَاعِ وَلَوْ دَرَى | مَسَاغًا لِنَابَاهُ الشُّجَاعُ لَصَمَّمَا |
وَتَكُونُ اللَّامُ فِي لَساحِرانِ اللَّامَ الْفَارِقَةَ بَيْنَ (إِنِ) الْمُخَفَّفَةِ وَبَيْنَ (إِنِ) النَّافِيَةِ.
وَالْوَصِيلَةِ، وَالْحَامِي وَبَعْضِ مَا فِي بُطُونِهَا. وَقَدْ ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَاسْتَثْنَى مِنْهُ مَا يُتْلَى تَحْرِيمُهُ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ مَا جَاءَ ذِكْرُهُ فِي [سُورَةِ الْأَنْعَامِ: ١٤٥] فِي قَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً الْآيَاتِ وَمَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَكِلْتَاهُمَا مَكِّيَّتَانِ سَابِقَتَانِ.
وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ لِيَشْمَلَ مَا نَزَلْ مِنَ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ نُزُولَ سُورَةِ الْحَجِّ بِأَنَّهُ تُلِيَ فِيمَا مَضَى وَلَمْ يَزَلْ يُتْلَى، وَيَشْمَلُ مَا عَسَى أَنْ يَنْزِلَ مِنْ بَعْدُ مِثْلَ قَوْلِهِ: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ الْآيَةَ فِي [سُورَةِ الْعُقُودِ: ١٠٣].
وَالْأَمْرُ بِاجْتِنَابِ الْأَوْثَانِ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء: ١٣٦]. وَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ لِلتَّصْرِيحِ بِالْأَمْرِ بِاجْتِنَابِ مَا لَيْسَ مِنْ حُرُمَاتِ اللَّهِ، وَهُوَ الْأَوْثَانُ.
وَاجْتِنَابُ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ بِقَوْلِهِمْ لِبَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ هَذَا حَلالٌ مِثْلِ الدَّمِ وَمَا أُهِّلَ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، وَقَوْلِهِمْ لِبَعْضٍ: هَذَا حَرامٌ مِثْلِ الْبَحِيرَةِ، وَالسَّائِبَةِ. قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
[النَّحْل:
١١٦].
وَالرِّجْسُ: حَقِيقَتُهُ الْخُبْثُ وَالْقَذَارَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّهُ رِجْسٌ فِي [سُورَةِ الْأَنْعَامِ: ١٤٥].
وَوَصْفُ الْأَوْثَانِ بِالرِّجْسِ أَنَّهَا رِجْسٌ مَعْنَوِيٌّ لِكَوْنِ اعْتِقَادِ إِلَهِيَّتِهَا فِي النُّفُوسِ بِمَنْزِلَةِ تَعَلُّقِ الْخُبْثِ بِالْأَجْسَادِ فَإِطْلَاقُ الرِّجْسِ عَلَيْهَا تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ.
وَ (مِنَ) فِي قَوْلِهِ مِنَ الْأَوْثَانِ بَيَانٌ لِمُجْمَلِ الرِّجْسِ، فَهِيَ تَدْخُلُ عَلَى بَعْضِ أَسْمَاءِ
التَّمْيِيزِ بَيَانًا لِلْمُرَادِ مِنَ الرِّجْسِ هُنَا لَا أَنَّ مَعْنَى
وَقَوْلُهُ: يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً يُفِيدُ وَجْهَ الشَّبَهِ وَيَتَضَمَّنُ أَحَدَ أَرْكَانِ التَّمْثِيلِ وَهُوَ الرَّجُلُ الْعَطْشَانُ وَهُوَ مُشَابِهُ الْكَافِرِ صَاحِبِ الْعَمَلِ.
وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ فَهِيَ بِمَعْنَى فَاءِ التَّفْرِيعِ. وَمَجِيءُ الظَّمْآنِ إِلَى السَّرَابِ يَحْصُلُ بِوُصُولِهِ إِلَى مَسَافَةٍ كَانَ يُقَدِّرُهَا مَبْدَأُ الْمَاءِ بِحَسَبِ مَرْأَى تَخَيُّلِهِ، كَأَنْ يُحَدِّدُهُ بِشَجَرَةٍ أَوْ صَخْرَةٍ. فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى حَيْثُ تَوَهَّمَ وُجُودَ الْمَاءِ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ فَتَحَقَّقَ أَنَّ مَا لَاحَ لَهُ سَرَابٌ.
فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا جاءَهُ، أَيْ إِذَا جَاءَ الْمَوْضِعَ الَّذِي تَخَيَّلَ أَنَّهُ إِنْ وَصَلَ إِلَيْهِ يَجِدُ مَاءً. وَإِلَّا فَإِنَّ السَّرَابَ لَا يَزَالُ يلوح لَهُ على بَعْدُ كُلَّمَا تَقَدَّمَ السَّائِرُ فِي سَيْرِهِ. فَضَرَبَ ذَلِكَ مَثَلًا لِقُرْبِ زَمَنِ إِفْضَاءِ الْكَافِرِ إِلَى عَمَلِهِ وَقْتَ مَوْتِهِ حِينَ يَرَى مَقْعَدَهُ أَوْ فِي وَقْتِ الْحَشْرِ.
وَقَوْلُهُ: لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً أَيْ لَمْ يَجِدْ مَا كَانَ يُخَيَّلُ إِلَى عَيْنِهِ أَنَّهُ مَاءٌ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا.
وَالشَّيْءُ: هُوَ الْمَوْجُودُ وُجُودًا مَعْلُومًا لِلنَّاسِ، وَالسَّرَابُ مَوْجُودٌ وَمَرْئِيٌّ، فَقَوْلُهُ:
شَيْئاً أَيْ شَيْئًا مِنْ مَاءٍ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَهَذَا التَّمْثِيلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا
مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً
[الْفرْقَان: ٢٣].
وَ (إِذَا) هُنَا ظَرْفٌ مُجَرَّدٌ عَنِ الشَّرْطِيَّةِ. وَالْمَعْنَى: زَمَنُ مَجِيئِهِ إِلَى السَّرَابِ، أَيْ وُصُولِهِ إِلَى الْمَوْضِعِ.
وَقَوْلُهُ: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ هُوَ مِنْ تَمَامِ التَّمْثِيلِ، أَيْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ وَوَجَدَ فِي مَظِنَّةِ الْمَاءِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ وَجَدَ مَنْ إِنْ أَخَذَ بِنَاصِيَتِهِ لَمْ يُفْلِتْهُ، أَيْ هُوَ عِنْدَ ظَنِّهِ الْفَوْزَ بِمَطْلُوبِهِ فَاجَأَهُ مَنْ يَأْخُذُهُ لِلْعَذَابِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَوَفَّاهُ حِسابَهُ أَيْ أَعْطَاهُ جَزَاءَ كُفْرِهِ وَافِيًا.
فَمَعْنَى فَوَفَّاهُ أَنَّهُ لَا تَخْفِيفَ فِيهِ، فَهُوَ قَدْ تَعِبَ وَنَصِبَ فِي الْعَمَلِ فَلَمْ يَجِدْ جَزَاءً إِلَّا الْعَذَابَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَرَدَ الْمَاءَ لِلسَّقْيِ فَوَجَدَ مَنْ لَهُ عِنْدَهُ تِرَةٌ فَأَخَذَهُ.
وَمَعْنَى أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ نَالَتْ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ حسن من شؤون الْمُلْكِ. فَعُمُومُ كُلِّ شَيْءٍ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ مِنْ جِهَتَيْنِ يُفَسِّرُهُ الْمَقَامُ كَمَا فَسَّرَ قَوْلُ سُلَيْمَانَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْل: ١٦]، أَيْ أُوتِيتُ مِنْ خِصَالِ الْمُلُوكِ وَمِنْ ذَخَائِرِهِمْ وَعَدَدِهِمْ وَجُيُوشِهِمْ وَثَرَاءِ مَمْلَكَتِهِمْ وَزُخْرُفِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَحَامِدِ وَالْمَحَاسِنِ.
وَبِنَاءُ فِعْلِ أُوتِيَتْ إِلَى الْمَجْهُولِ إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ الْغَرَضُ بِتَعْيِينِ أَسْبَابِ مَا نَالَتْهُ بَلِ الْمَقْصُودُ مَا نَالَتْهُ عَلَى أَنَّ الْوَسَائِلَ وَالْأَسْبَابَ شَتَّى، فَمِنْهُ مَا كَانَ إِرْثًا مِنَ الْمُلُوكِ الَّذِينَ سَلَفُوهَا، وَمِنْهُ مَا كَانَ كَسْبًا مِنْ كَسْبِهَا وَاقْتِنَائِهَا، وَمِنْهُ مَا وَهَبَهَا اللَّهُ مِنْ عَقْلٍ وَحِكْمَةٍ، وَمَا مُنِحَ بِلَادُهَا مِنْ خِصْبٍ وَوَفْرَةِ مِيَاهٍ. وَقَدْ كَانَ الْيُونَانُ يُلَقِّبُونَ مَمْلَكَةَ الْيَمَنِ بِالْعَرَبِيَّةِ السَّعِيدَةِ أَخْذًا مِنْ مَعْنَى الْيُمْنِ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَقَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ: ١٥]. وَأَمَّا رَجَاحَةُ الْعُقُولِ
فَفِي الْحَدِيثِ: «أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً، الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ»
فَلَيْسَ الْمُرَادُ خُصُوصَ مَا آتَاهَا اللَّهُ فِي أَصْلِ خِلْقَتِهَا وَخِلْقَةِ أُمَّتِهَا وَبِلَادِهَا، وَلِذَا فَلَمْ يَتَعَيَّنِ الْفَاعِلُ عُرْفًا. وَكُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَخَصَّ مِنْ نَفَائِسَ الْأَشْيَاءِ عَرْشَهَا إِذْ كَانَ عَرْشًا بَدِيعًا وَلَمْ يَكُنْ لِسُلَيْمَانَ عَرْشٌ مِثْلُهُ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْإِصْحَاحِ الْعَاشِرِ مِنْ سِفْرِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ سُلَيْمَانَ صَنَعَ كُرْسِيَّهُ الْبَدِيعَ بَعْدَ أَنْ زَارَتْهُ مَلِكَةُ سَبَأٍ. وَسَنُشِيرُ إِلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها [النَّمْل:
٣٨].
وَالْعَظِيمُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي عَظَمَةِ الْقَدْرِ وَالنَّفَاسَةِ فِي ضَخَامَةِ الْهَيْكَلِ وَالذَّاتِ. وَأَعْقَبَ التَّنْوِيهَ بِشَأْنِهَا بِالْحَطِّ مِنْ حَالِ اعْتِقَادِهِمْ إِذْ هُمْ يَسْجُدُونَ، أَيْ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ. وَلِأَجْلِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ أُعِيدَ فِعْلُ وَجَدْتُهَا إِنْكَارًا لِكَوْنِهِمْ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ، فَذَلِكَ مِنْ انْحِطَاطِ الْعَقْلِيَّةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ فَكَانَ انْحِطَاطُهُمْ فِي الْجَانِبِ الْغَيْبِيِّ مِنَ التَّفْكِيرِ وَهُوَ مَا يَظْهَرُ فِيهِ تَفَاوَتُ عِوَضِ الْعُقُولِ عَلَى الْحَقَائِقِ لِأَنَّهُ جَانِبٌ مُتَمَحِّضٌ لِعَمَلِ الْفِكْرِ لَا يُسْتَعَانُ فِيهِ بِالْأَدِلَّةِ
الْمَحْسُوسَةِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ تَضِلَّ فِيهِ عُقُولُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعُقُولِ الصَّحِيحَة فِي الشؤون الْخَاضِعَةِ لِلْحَوَاسِّ. قَالَ تَعَالَى فِي الْمُشْرِكِينَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الرّوم: ٧، ٨]
الْجُدْرَانِ، وَتَتَّخِذُ فِي وَسَطِ تِلْكَ الْخُيُوطِ جَانِبًا أَغْلَظَ وَأَكْثَرَ اتِّصَالَ خُيُوطٍ تَحْتَجِبُ فِيهِ وَتُفَرِّخُ فِيهِ. وَسُمِّيَ بَيْتًا لِشَبَهِهِ بِالْخَيْمَةِ فِي أَنَّهُ مَنْسُوجٌ وَمَشْدُودٌ مِنْ أَطْرَافِهِ فَهُوَ كَبَيْتِ الشِّعْرِ.
وَجُمْلَةُ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ مُعْتَرِضَةٌ مُبِيِّنَةٌ وَجْهَ الشَّبَهِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَجْرِي مَجْرَى الْمِثْلِ فَيُضْرَبُ لِقِلَّةِ جَدْوَى شَيْءٍ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الْأَدْيَانَ الَّتِي يَعْبُدُ أَهْلُهَا غَيْرَ اللَّهِ هِيَ أَحْقَرُ الدِّيَانَاتِ وَأَبْعَدُهَا عَنِ الْخَيْرِ وَالرُّشْدِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَاوِتَةً فِيمَا يَعْرِضُ لِتِلْكَ الْعِبَادَاتِ مِنَ الضَّلَالَاتِ كَمَا تَتَفَاوَتُ بُيُوتُ الْعَنْكَبُوتِ فِي غِلَظِهَا بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الدُّوَيْبَّاتِ الَّتِي تَنْسِجُهَا فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ.
وَجُمْلَةُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ مُتَّصِلَةٌ بِجُمْلَةِ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ لَا بِجُمْلَةِ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ. فَتَقْدِيرُ جَوَابِ لَوْ هَكَذَا: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ، أَيْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ انْعِدَامَ غَنَاءِ مَا اتَّخَذُوهُ عَنْهُمْ. وَأَمَّا أَوْهَنِيَّةُ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ فَلَا يجهلها أحد.
[٤٢]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٤٢]
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢)
لَمَّا نَفَى عَنْهُمُ الْعِلْمَ بِمَا تَضَمَّنَهُ التَّمْثِيلُ مِنْ حَقَارَةِ أَصْنَامِهِمُ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا وَقِلَّةِ جَدْوَاهَا بِقَوْلِهِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت: ٤١] الْمُفِيدِ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، أَعْقَبَهُ بِإِعْلَامِهِمْ بِعِلْمِهِ بِدَقَائِقِ أَحْوَالِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ عَلَى اخْتِلَافِهَا وَاخْتِلَافِ مُعْتَقَدَاتِ الْقَبَائِلِ الَّتِي عَبَدَتْهَا، وَأَنَّ مِنْ آثَارِ عِلْمِهِ بِهَا ضَرْبَ ذَلِكَ الْمَثَلِ لِحَالِ مَنْ عَبَدُوهَا وَحَالِهَا أَيْضًا دَفْعًا بِهِمْ إِلَى أَنْ يَتَّهِمُوا عُقُولَهُمْ وَأَنَّ عَلَيْهِم النّظر من حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ تَعْرِيضًا بِقُصُورِ عِلْمِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ٢١٦]، فَهَذَا تَوْقِيفٌ لَهُمْ عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي عِلْمِ حَقَائِقِ الْأُمُورِ الَّتِي عَلِمَهَا اللَّهُ وَأَبْلَغَهُمْ دَلَائِلَهَا النَّظَرِيَّةَ وَنَظَائِرَهَا التَّارِيخِيَّةَ، وَقَرَّبَهَا إِلَيْهِمْ بِالتَّمْثِيلَاتِ الْحِسِّيَّةِ فَعَمُوا وَصَمُّوا عَنْ هَذَا وَذَاكَ.
وَمَا مِنْ قَوْلِهِ مَا تَدْعُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَافِيَةً مُعَلِّقَةً فِعْلَ يَعْلَمُ عَنِ الْعَمَلِ،
وَتَكُونَ مِنْ زَائِدَةً لِتَوْكِيدِ النَّفْيِ، وَمَجْرُورُهَا مَفْعُولٌ فِي الْمَعْنى لتدعون
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِما تَعْمَلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى خِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأُمَّةِ لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَعْلَقُ بِالْأُمَّةِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ بِمَا يَعْمَلُونَ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى الْغَيْبَةِ عَلَى أَنَّهُ رَاجِعٌ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ شَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ لِيُفِيدَ مَعَ تَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِالِاتِّبَاعِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ بِمُحَاسَبَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا يُبَيِّتُونَهُ مِنَ الْكَيْدِ، وَكِنَايَةً عَنْ إِطْلَاعِ اللَّهِ رَسُولَهُ عَلَى مَا يَعْلَمُ مِنْهُمْ فِي هَذَا الشَّأْنِ كَمَا سَيَجِيءُ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ [الْأَحْزَاب: ٦٠]، أَيْ:
لَنُطْلِعَنَّكَ عَلَى مَا يَكِيدُونَ بِهِ وَنَأْذَنُكَ بِافْتِضَاحَ شَأْنِهِمْ. وَهَذَا الْمَعْنَى الْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَا يَفُوتُ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالْخِطَابِ لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ يَأْخُذُ حَظه مِنْهُ.
[٣]
[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : آيَة ٣]
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٣)
زِيَادَةُ تَمْهِيدٍ وَتَوْطِئَةٍ لِتَلَقِّي تَكْلِيفٍ يَتَرَقَّبُ مِنْهُ أَذًى مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: إِنَّ مُحَمَّدًا نَهَى عَنْ تَزَوُّجِ نِسَاءِ الْأَبْنَاءِ وَتَزَوَّجَ امْرَأَةَ ابْنِهِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَهُوَ مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا [الْأَحْزَاب: ٤٨] فَأَمَرَهُ بِتَقْوَى رَبِّهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَتْبَعَهُ بِالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ وَحْيِهِ، وَعَزَّزَهُ بِالْأَمْرِ بِمَا فِيهِ تَأْيِيدُهُ وَهُوَ أَنْ يُفَوِّضَ أُمُورَهُ إِلَى اللَّهِ.
وَالتَّوَكُّلُ: إِسْنَادُ الْمَرْءِ مَهَمَّهُ وَشَأْنَهُ إِلَى مَنْ يَتَوَلَّى عَمَلَهُ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٩].
وَالْوَكِيلُ: الَّذِي يُسْنِدُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ أَمْرَهُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٧٣].
وَقَوْلُهُ وَكِيلًا تَمْيِيزُ نِسْبَةٍ، أَيْ: كَفَى اللَّهُ وَكَيْلًا، أَيْ وِكَالَتُهُ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ:
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٨١].
[٤]
[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : آيَة ٤]
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤)
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ.
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ ابْتِدَاءَ الْمُقَدِّمَةِ لِلْغَرَضِ بَعْدَ التَّمْهِيدِ لَهُ بِمَا قلبه، وَالْمُقَدِّمَةُ أَخَصُّ
فَقَوْلُهُ هُنَا: وَما يُمْسِكْ حُذِفَ مَفْعُولُهُ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا يُمْسِكُهُ مِنْ رَحْمَةٍ، وَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ بَيَانٌ اسْتِغْنَاءً بِبَيَانِهِ مِنْ فِعْلٍ.
وَالْإِرْسَالُ: ضِدُّ الْإِمْسَاكِ، وَتَعْدِيَةُ الْإِرْسَالِ بِاللَّامِ لِلتَّقْوِيَةِ لِأَنَّ الْعَامِلَ هُنَا فَرْعٌ فِي الْعَمَلِ.
ومِنْ بَعْدِهِ بِمَعْنَى: مِنْ دُونِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [الجاثية: ٢٣] فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ [الجاثية: ٦]، أَيْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ دُونَ اللَّهِ، أَيْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِبْطَالِ مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ إِعْطَاءٍ أَوْ مَنْعٍ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. وَتَذْكِيرُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: فَلا مُرْسِلَ لَهُ مُرَاعَاةٌ لِلَفْظِ مَا لِأَنَّهَا لَا بَيَانَ لَهَا، وَتَأْنِيثُهُ فِي قَوْلِهِ: فَلا مُمْسِكَ لَها لِمُرَاعَاةِ بَيَانِ مَا فِي قَوْلِهِ: مِنْ رَحْمَةٍ لِقُرْبِهِ.
وَعَطْفُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تَذْيِيلٌ رُجِّحَ فِيهِ جَانِبُ الْإِخْبَارِ فَعُطِفَ، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ مَفْصُولًا لِإِفَادَةِ أَنَّهُ يَفْتَحُ وَيُمْسِكُ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ نَقْضَ مَا أَبْرَمَهُ فِي فَتْحِ الرَّحْمَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ لِأَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لَا يُمْكِنُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَغْلِبَهُ، فَإِنَّ نَقْضَ مَا أَبْرَمَ ضَرْبٌ مِنَ الْهَوَانِ وَالْمَذَلَّةِ. وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ شِعَارِ صَاحِبِ السُّؤْدُدِ أَنَّهُ يُبْرِمُ وَيَنْقُضُ قَالَ الْأَعْشَى:
عَلْقَمَ مَا أَنْتَ إِلَى عَامِرٍ | النَّاقِضِ الْأَوْتَارِ وَالْوَاتِرِ |
وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَفَنُّنٌ. وَأُوثِرَ بِالتَّأْنِيثِ ضَمِيرُ مَا لِأَنَّهَا مُبَيَّنَةٌ بِلَفْظٍ مُؤَنَّثٍ وَهُوَ
مِنْ رَحْمَةٍ.
[٣]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٣]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ.
لَمَّا جَرَى ذِكْرُ رَحْمَةِ اللَّهِ الَّتِي تَعُمُّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَقْبَلَ عَلَى خِطَابِهِمْ بِأَنْ يَتَذَكَّرُوا
وأُولُو الْأَلْبابِ: أَهْلُ الْعُقُولِ وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَتَذَكَّرُوا بِالْقُرْآنِ لَيْسُوا مَنْ أَهَّلِ الْعُقُولِ، وَأَنَّ التَّذَكُّرَ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، فَهُمْ مِمَّنْ تَدَبَّرُوا آيَاتِهِ فَاسْتَنْبَطُوا مِنَ الْمَعَانِي مَا لَمْ يَعْلَمُوا، وَمَنْ قَرَأَهُ فَتَذَكَّرَ بِهِ مَا كَانَ عَلِمَهُ وَتَذَكَّرَ بِهِ حَقًّا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْعَاهُ، وَالْكَافِرُونَ أَعْرَضُوا عَنِ التَّدَبُّرِ فَلَا جَرَمَ فاتهم التَّذَكُّر.
[٣٠]
[سُورَة ص (٣٨) : آيَة ٣٠]
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠)
جُعِلَ التَّخَلُّصُ إِلَى مَنَاقِبِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مِنْ مِنَنِ اللَّهِ عَلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَانَتْ قِصَّةُ سُلَيْمَانَ كَالتَّكْمِلَةِ لِقِصَّةِ دَاوُدَ. وَلَمْ يَكُنْ لِحَالِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَبَهٌ بِحَال مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلِذَلِكَ جَزَمْنَا بِأَنْ لَمْ يَكُنْ ذِكْرُ قِصَّتِهِ هُنَا مِثَالًا لحَال مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِأَنَّهَا إِتْمَامٌ لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى دَاوُدَ إِذْ أَعْطَاهُ سُلَيْمَانَ ابْنًا بَهْجَةً لَهُ فِي حَيَاتِهِ وَوِرْثِ مُلْكِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ، كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ الْآيَةَ.
وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ لَمْ تُفْتَتَحْ قِصَّةُ سُلَيْمَانَ بِعِبَارَةِ: وَاذْكُرْ، كَمَا افْتُتِحَتْ قِصَّةُ دَاوُدَ ثُمَّ قِصَّةُ أَيْوبَ، وَالْقَصَصُ بَعْدَهَا مُفَصَّلُهَا وَمُجْمَلُهَا غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَخْلُ مِنْ مَوَاضِعِ أُسْوَةٍ وَعِبْرَةٍ وَتَحْذِيرٍ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ مِنِ افْتِرَاضِ الْإِرْشَادِ.
وَمِنْ حُسْنِ الْمُنَاسِبَةِ لِذِكْرِ مَوْهِبَةِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ وُلِدَ لِدَاوُدَ مِنَ الْمَرْأَةِ الَّتِي عُوتِبَ دَاوُدُ لِأَجْلِ اسْتِنْزَالِ زَوْجِهَا أُورَيَا عَنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَانَتْ مَوْهِبَةُ سُلَيْمَانَ لِدَاوُدَ مِنْهَا مَكْرَمَةً عَظِيمَةً هِيَ أَثَرُ مَغْفِرَةِ اللَّهِ لِدَاوُدَ تِلْكَ الْمُخَالَفَةَ الَّتِي يَقْتَضِي قَدَرُهُ تَجَنُّبَهَا وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً وَتَحَقُّقُهُ لِتَعْقِيبِ الْأَخْبَارِ عَنِ الْمَغْفِرَةِ لَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص: ٤٠] فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَوَهَبَ لَهُ مِنْ تِلْكَ الزَّوْجَةِ نَبِيئًا وَمَلِكًا عَظِيمًا.
فَجُمْلَةُ وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ [ص: ١٨] وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْجُمَلِ. وَجُمْلَةُ نِعْمَ الْعَبْدُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ سُلَيْمانَ وَهِيَ ثَنَاءٌ عَلَيْهِ وَمَدْحٌ لَهُ مِنْ جُمْلَةِ مَنِ اسْتَحَقُّوا عُنْوَانَ الْعَبْدِ لِلَّهِ، وَهُوَ الْعُنْوَانُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّقْرِيبُ بِالْقَرِينَةِ
وَحَقِيقَةُ الصَّاعِقَةِ: نَارٌ تَخْرُجُ مَعَ الْبَرْقِ تُحْرِقُ مَا تُصِيبُهُ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩]. وَتُطْلَقُ عَلَى الْحَادِثَةِ الْمُبِيرَةِ السَّرِيعَةِ الْإِهْلَاكِ، وَلَمَّا أُضِيفَتْ صَاعِقَةٌ هُنَا إِلَى عَادٍ وَثَمُودَ، وَعَادٌ لَمْ تُهْلِكْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَإِنَّمَا أَهْلَكَهُمُ الرِّيحُ وَثَمُودُ أُهْلِكُوا بِالصَّاعِقَةِ فَقَدِ اسْتَعْمَلَ الصَّاعِقَةَ هُنَا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، أَوْ هُوَ مِنْ عُمُومِ الْمُجَاوِزِ وَالْمُقْتَضِي لِذَلِكَ عَلَى الِاعْتِبَارَيْنِ قَصْدَ الْإِيجَازِ، وَلِيَقَعَ الْإِجْمَالُ ثُمَّ التَّفْصِيلُ بَعْدُ بِقَوْلِهِ: فَأَمَّا عادٌ [فصلت: ١٥] إِلَى قَوْلِهِ: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [فصلت: ١٧].
وإِذْ ظَرْفٌ لِلْمَاضِي، وَالْمَعْنَى مِثْلُ صَاعِقَتِهِمْ حِينَ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ.
رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ فِي سِيرَتِهِ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ كلم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ خِلَافِ قَوْمِهِ فَتَلَا عَلَيْهِم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حَتَّى بَلَغَ فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً [فصلت: ١- ١٣] الْآيَةَ، فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فَم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ:
«نَاشَدْتُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ»
. وَضَمِيرُ جاءَتْهُمُ عَائِدٌ إِلَى عَادٍ وَثَمُودَ بِاعْتِبَارِ عَدَدِ كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْهُمَا. وَجَمْعُ الرُّسُلِ هُنَا مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ صِيغَةِ الْجَمْعِ عَلَى الِاثْنَيْنِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيم:
٤]، وَالْقَرِينَةُ وَاضِحَةٌ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ غَيْرُ عَزِيزٍ، وَإِنَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولَانِ هُودٌ وَصَالِحٌ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ تَمْثِيلٌ لِحِرْصِ رَسُولِ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى هُدَاهُمْ بِحَيْثُ لَا يَتْرُكُ وَسِيلَةً يُتَوَسَّلُ بِهَا إِلَى إِبْلَاغِهِمُ الدِّينَ إِلَّا تَوَسَّلَ بِهَا. فَمُثِّلَ ذَلِكَ بِالْمَجِيءِ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمْ تَارَةً مِنْ أَمَامِهِ وَتَارَةً مِنْ خَلْفِهِ لَا يَتْرُكُ لَهُ جِهَةً، كَمَا يَفْعَلُ الْحَرِيصُ عَلَى تَحْصِيلِ أَمْرٍ أَنْ يَتَطَلَّبَهُ وَيُعِيدَ تَطَلُّبَهُ وَيَسْتَوْعِبَ مَظَانَّ وُجُودِهِ أَوْ مَظَانَّ سَمَاعِهِ، وَهَذَا التَّمْثِيلُ نَظِيرُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الشَّيْطَانِ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [الْأَعْرَاف: ١٧].
وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جِهَتَيْنِ وَلَمْ تُسْتَوْعَبِ الْجِهَاتُ الْأَرْبَعُ كَمَا مُثِّلَ حَالُ الشَّيْطَانِ فِي وَسْوَسَتِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا تَمْثِيلُ الْحِرْصِ فَقَطْ وَقَدْ حَصَلَ، وَالْمَقْصُودُ
وَالْعَدُوُّ: الْمُبْغَضُ، وَوَزْنُهُ فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، أَيْ عَادٍ، وَلِذَلِكَ اسْتَوَى جَرَيَانُهُ عَلَى الْوَاحِدِ وَغَيْرِهِ، وَالْمُذَكَّرِ وَغَيْرِهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٩٢].
وَتَعْرِيفُ الْأَخِلَّاءُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَهُوَ مُفِيدٌ اسْتِغْرَاقًا عُرْفِيًّا، أَيِ الْأَخِلَّاءُ مِنْ فَرِيقَيِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ أَوِ الْأَخِلَّاءُ مِنْ قُرَيْشٍ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ، وَإِلَّا فَإِنَّ مِنَ الْأَخِلَّاءِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا عَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَخْدِمُوا خُلَّتَهُمْ فِي إِغْرَاءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَإِنِ افْتَرَقُوا فِي الْمَنَازِلِ وَالدَّرَجَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
ويَوْمَئِذٍ ظرف مُتَعَلق بعدوّ، وَجُمْلَة يَا عِبادِ مَقُولَةٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْخِطَابِ، أَيْ نَقُولُ لَهُمْ أَوْ يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَا عِبَادِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ وَالْكِسَائِيُّ بِحَذْفِ (يَاءِ) الْمُتَكَلِّمِ تَخْفِيفًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَحَذْفُهَا حَسَنٌ لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ تَنْوِينٍ وَهِيَ قَدْ عَاقَبَتْهُ فَكَمَا يُحْذَفُ التَّنْوِينُ فِي الِاسْمِ الْمُفْرَدِ الْمُنَادَى كَذَلِكَ تُحْذَفُ الْيَاءُ هُنَا.
وَمُفَاتَحَةُ خِطَابِهِمْ بِنَفْيِ الْخَوْفِ عَنْهُمْ تَأْنِيسٌ لَهُمْ وَمِنَّةٌ بِإِنْجَائِهِمْ مِنْ مِثْلِهِ وَتَذْكِيرٌ لَهُمْ بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ حَالِهِمْ لِحَالِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ فَإِنَّهُمْ يُشَاهِدُونَ مَا يُعَامَلُ بِهِ أَهْلُ الضَّلَالَةِ
وَالْفَسَادِ.
وَلَا خَوْفٌ مَرْفُوعٌ مُنَوَّنٌ فِي جَمِيعِ الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُفْتَحْ لِأَنَّ الْفَتْحَ عَلَى تَضْمِينِ (مِنْ) الزَّائِدَةِ الْمُؤَكِّدَةِ لِلْعُمُومِ وَإِذْ قَدْ كَانَ التَّأْكِيدُ مُفِيدًا التَّنْصِيصَ عَلَى عَدَمِ إِرَادَةِ نَفْيِ الْوَاحِدِ، وَكَانَ الْمَقَامُ غَيْرَ مُقَامِ التَّرَدُّدِ فِي نَفْيِ جِنْسِ الْخَوْفِ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا بِهِمْ حِينَئِذٍ مَعَ وُقُوعِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَأَمَارَةُ نَجَاتِهِمْ مِنْهُ وَاضِحَةٌ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى نَصْبِ اسْمِ لَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الرَّابِعَةِ مِنْ نِسَاءِ حَدِيثِ أَمْ زَرْعٍ: زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَهْ، لَا حَرٌّ وَلَا قُرٌّ وَلَا مَخَافَةٌ وَلَا سَآمَهْ. رِوَايَتُهُ بِرَفْعِ الْأَسْمَاءِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّ انْتِفَاءَ تِلْكَ الْأَحْوَالِ عَنْ لَيْلِ تِهَامَةَ مَشْهُورٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَتْ بَيَانَ وُجُوهِ الشَّبَهِ مِنْ قَوْلِهَا كَلَيْلِ تِهَامَهْ.
أَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي. فَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: وَاللَّهِ لَا أُزَكِّي بَعْدَهُ أَحَدًا»
. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ وَتَبْيِينِهِ بِأَنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ أَنَّ بَعْضًا مِنَ الظَّنِّ لَيْسَ إِثْمًا وَأَنَّا لَمْ نُؤْمَرْ بِاجْتِنَابِ الظَّنِّ الَّذِي لَيْسَ بِإِثْمٍ لِأَنَّ كَثِيراً وَصْفٌ، فَمَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ لَمْ نُؤَمَرْ بِاجْتِنَابِهِ وَهُوَ الَّذِي يُبَيِّنُهُ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ أَيْ أَنَّ بَعْضَ الظَّنِّ لَيْسَ إِثْمًا، فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ مِعْيَارُهُ فِي تَمْيِيزِ أَحَدِ الظَّنَّيْنِ مِنَ
الْآخَرِ أَنْ يَعْرِضَهُ عَلَى مَا بَيَّنَتْهُ الشَّرِيعَةُ فِي تَضَاعِيفِ أَحْكَامِهَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ وَمَا أَفَادَهُ الِاجْتِهَادُ الصَّحِيحُ وَتَتَبُّعُ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، فَمِنْهُ ظَنٌّ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ كَالْحَذَرِ مِنْ مَكَائِدِ الْعَدُوِّ فِي الْحَرْبِ، وَكَالظَّنِّ الْمُسْتَنِدِ إِلَى الدَّلِيلِ الْحَاصِلِ مِنْ دَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ التَّفْرِيعَاتِ الشَّرْعِيَّةِ حَاصِلَةٌ مِنَ الظَّنِّ الْمُسْتَنِدِ إِلَى الْأَدِلَّةِ.
وَقَدْ فَتَحَ مَفْهُومُ هَذِهِ الْآيَةِ بَابَ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ غَيْرِ الْإِثْمِ إِلَّا أَنَّهَا لَا تَقُومُ حُجَّةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ يَرَوْنَ الْعَمَلَ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ وَهُوَ أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ فَإِنَّ مُعْظَمَ دَلَالَاتِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْمَفَاهِيمِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَأَمَّا الظَّنُّ الَّذِي هُوَ فَهْمُ الْإِنْسَانِ وَزَكَانَتُهُ فَذَلِكَ خَاطِرٌ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ أَدْرَى فَمُعْتَادُهُ مِنْهُ مِنْ إِصَابَةٍ أَوْ ضِدِّهَا قَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ:
الْأَلْمَعِيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ الظَّ | نَّ كَأَنْ قَدْ رَأَى وَقَدْ سَمِعَا |
التَّجَسُّسُ مِنْ آثَارِ الظَّنِّ لِأَنَّ الظَّنَّ يَبْعَثُ عَلَيْهِ حِينَ تَدْعُو الظَّانَّ نَفْسُهُ إِلَى تَحْقِيقِ مَا ظَنَّهُ سِرًّا فَيَسْلُكُ طَرِيقَ التَّجْنِيسِ فَحَذَّرَهُمُ اللَّهُ مِنْ سُلُوكِ هَذَا الطَّرِيقِ لِلتَّحَقُّقِ لِيَسْلُكُوا غَيْرَهُ إِنْ كَانَ فِي تَحْقِيقِ مَا ظَنَّ فَائِدَةٌ.
وَالتَّجَسُّسُ: الْبَحْثُ بِوَسِيلَةٍ خَفِيَّةٍ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَسِّ، وَمِنْهُ سُمِّي الْجَاسُوسُ.
وَالتَّجَسُّسُ مِنَ الْمُعَامَلَةِ الْخَفِيَّةِ عَنِ الْمُتَجَسَّسِ عَلَيْهِ. وَوَجْهُ النَّهْيِ عَنْهُ أَنَّهُ ضَرْبٌ
وَمَعْنَى فانٍ: أَنَّهُ صَائِرٌ إِلَى الْفَنَاءِ، فَهَذَا مِنِ اسْتِعْمَالِ اسْمِ الْفَاعِلِ لِزَمَانِ الْاِسْتِقْبَالِ بِالْقَرِينَةِ مِثْلِ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: ٣٠].
وَالْمُرَادُ بِ مَنْ عَلَيْها: النَّاس لأَنهم الْمَقْصُود بِهَذِهِ الْعِبَرِ، وَلِذَلِكَ جِيءَ بِ (مَنِ) الْمَوْصُولَةِ الْخَاصَّةِ بِالْعُقَلَاءِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَصِيرَ جَمِيعِ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ إِلَى الفناء، وَهَذَا تذكير بِالْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْجَزَاءِ.
ووَجْهُ رَبِّكَ: ذَاتُهُ، فَذِكْرُ الْوَجْهِ هُنَا جَارٍ عَلَى عُرْفِ كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَالْوَجْهُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْجُمْلَةِ وَالذَّاتِ اه.
وَقَدْ أُضِيفَ إِلَى اسْمِهِ تَعَالَى لَفْظُ الْوَجْهِ بِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْهَا مَا هُنَا وَمِنْهَا قَوْلُهُ:
فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ١١٥] وَقَوْلُهُ: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [الْإِنْسَان: ٩].
وَقَدْ عَلِمَ السَّامِعُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَجْهٌ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي فِي الرَّأْسِ.
وَاصْطَلَحَ عُلَمَاءُ الْعَقَائِدِ عَلَى تَسْمِيَةِ مِثْلِ هَذَا بِالْمُتَشَابِهِ وَكَانَ السّلف يحجمون عَن الْخَوْض فِي ذَلِكَ مَعَ الْيَقِينِ بِاسْتِحَالَةِ ظَاهِرَةٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ تَنَاوَلَهُ عُلَمَاء التَّابِعين وَمن بعدهمْ بالتأويل تدريجا إِلَى أَنِ اتَّضَحَ وَجْهُ التَّأْوِيلِ بِالْجَرْيِ عَلَى قَوَاعِدِ عِلْمِ الْمَعَانِي فَزَالَ الْخَفَاءُ، واندفع الْجفَاء، وكلا الْفَرِيقَيْنِ خِيرَةُ الْحُنَفَاءِ.
وَضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ فِي قَوْلِهِ: وَجْهُ رَبِّكَ خِطَابٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ تَعْظِيمٌ لِقَدْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَالْمَقْصُودُ تَبْلِيغُهُ إِلَى الَّذِينَ يُتْلَى عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لِيَذَّكَّرُوا وَيَعْتَبِرُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مُخَاطَبٍ.
وَلَمَّا كَانَ الْوَجْهُ هُنَا بِمَعْنَى الذَّاتِ وُصِفَ بِ ذُو الْجَلالِ، أَيِ الْعَظَمَةِ والْإِكْرامِ، أَيِ الْمُنْعِمِ عَلَى عِبَادِهِ وَإِلَّا فَإِنَّ الْوَجْهَ الْحَقِيقِيَّ لَا يُضَافُ لِلْإِكْرَامِ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا يُضَافُ لِلْإِكْرَامِ الْيَدُ، أَيْ فَهُوَ لَا يُفْقِدُ عَبِيدُهُ جَلَالَهُ
وَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ بَعْضَ مَا رَزَقْنَاكُمْ، وَهَذِهِ تَوْسِعَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَهَذَا الْبَعْضُ مِنْهُ هُوَ مُعَيَّنُ الْمِقْدَارِ مِثْلَ مَقَادِيرِ الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ. وَمِنْهُ مَا يَتَعَيَّنُ بِسَدِّ الْخَلَّةِ الْوَاجِبِ سَدَّهَا مَعَ طَاقَةِ الْمُنْفِقِ كَنَفَقَاتِ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالرِّبَاطِ وَنَفَقَاتِ الْعِيَالِ الْوَاجِبَةِ وَنَفَقَاتِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الضَّرُورِيَّةِ وَالْحَاجِيَّةِ، وَمِنْهُ مَا يَتَعَيَّنُ بِتَعَيُّنِ سَبَبِهِ كَالْكَفَّارَاتِ، وَمِنْهُ مَا وَكَّلَ لِلنَّاسِ تَعْيِينَهُ مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ من الْإِنْفَاق فَذَلِك مَوْكُولٌ إِلَى رَغَبَاتِ النَّاسِ فِي نَوَالِ الثَّوَابِ فَإِنَّ ذَلِكَ بَابٌ عَظِيمٌ مِنَ الْقُرْبَى مِنْ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى،
وَفِي الْحَدِيثِ «الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطَايَا كَمَا يطفىء الْمَاءُ النَّارَ»
. وَقَدْ ذَكَّرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا فِي الْإِنْفَاقِ مِنَ الْخَيْرِ بِأَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُكْثِرُوا مِنْهُ مَا دَامُوا مُقْتَدِرِينَ قَبْلَ الْفَوْتِ، أَيْ قَبْلَ تَعَذُّرِ الْإِنْفَاقِ وَالْإِتْيَانِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَذَلِكَ حِينَ يَحِسُّ الْمَرْءُ بِحَالَةٍ تُؤْذِنُ بِقُرْبِ الْمَوْتِ وَيُغْلَبُ عَلَى قُوَاهُ فَيَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُؤَخِّرَ مَوْتَهُ وَيَشْفِيَهُ لِيَأْتِيَ بِكَثِيرٍ مِمَّا فَرَّطَ فِيهِ مِنَ الْحَسَنَاتِ طَمَعًا أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ فَإِنْ كَانَ فِي أَجَلِهِ تَأْخِيرٌ فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَجَلِ تَأْخِيرٌ أَوْ لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ لَهُ الِاسْتِجَابَةَ فَإِنَّهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ.
ولَوْلا حَرْفُ تَحْضِيضٍ، وَالتَّحْضِيضُ الطَّلَبُ الْحَثِيثُ الْمُضْطَرُّ إِلَيْهِ، وَيُسْتَعْمَلُ
لَوْلا لِلْعَرْضِ أَيْضًا وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّنْدِيمِ وَالتَّمَنِّي عَلَى الْمَجَازِ أَوِ الْكِنَايَةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٩٨].
وَحَقُّ الْفِعْلِ بَعْدَهَا أَنْ يَكُونَ مُضَارِعًا وَإِنَّمَا جَاءَ مَاضِيًا هُنَا لِتَأْكِيدِ إِيقَاعِهِ فِي دُعَاءِ الدَّاعِي حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ تَحَقَّقَ مِثْلَ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: ١] وَقَرِينَةُ ذَلِكَ تَرْتِيبُ فِعْلَيْ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ عَلَيْهِ.
وَالْمَعْنَى: فَيَسْأَلُ الْمُؤْمِنُ رَبَّهُ سُؤَالًا حَثِيثًا أَنْ يُحَقِّقَ تَأْخِيرَ مَوْتِهِ إِلَى أَجَلٍ يَسْتَدْرِكُ فِيهِ مَا اشْتَغَلَ عَنْهُ مِنْ إِنْفَاقٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ.
وَوَصْفُ الْأَجَلِ بِ قَرِيبٍ تَمْهِيدٌ لِتَحْصِيلِ الِاسْتِجَابَةِ بِنَاءً عَلَى مُتَعَارَفِ النَّاسِ أَنَّ الْأَمْرَ الْيَسِيرَ أَرْجَى لِأَنْ يَسْتَجِيبَهُ الْمَسْئُولُ فَيَغْلِبُ ذَلِكَ عَلَى شُعُورِهِمْ حِينَ يَسْأَلُونَ اللَّهَ تَنْسَاقُ بِذَلِكَ نُفُوسُهُمْ إِلَى مَا عَرَفُوا، وَلِذَلِكَ
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «لَا يَقُولُنَّ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ وَلِيَعْزِمَ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ»
. تَنْبِيهًا عَلَى هَذَا التَّوَهُّمِ فَالْقُرْآنُ حَكَى عَنِ النَّاسِ مَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَقْوَالِهِمْ.
يَعْنِي وَذَلِكَ كُلُّهُ بِمَكَّةَ، أَيْ فَتَكُونُ السُّورَةُ كُلُّهَا مَكِّيَّةً فَتَعَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ: قُمِ اللَّيْلَ [المزمل: ٢] أُمِرَ بِهِ فِي مَكَّةَ.
وَالرِّوَايَاتُ تَظَاهَرَتْ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ نَزَلَ مَفْصُولًا عَنْ نُزُولِ مَا قَبْلَهُ بِمُدَّةٍ مُخْتَلَفٍ فِي قَدْرِهَا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: «نَزَلَ بَعْدَ صَدْرِ السُّورَةِ بِسَنَةٍ»، وَمِثْلُهُ رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: نَزَلَ صَدْرُ السُّورَةِ بِمَكَّةَ وَنَزَلَ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ إِلَى آخِرِهَا بِالْمَدِينَةِ، أَيْ بَعْدَ نُزُولِ أَوَّلِهَا بِسِنِينَ.
فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ نُزُولَ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المزمل: ٢٠] إِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِنْبَاءً بِمُغَيَّبٍ عَلَى وَجْهِ الْمُعْجِزَةِ.
وَرَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ «قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ الله على نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل: ١] مكث النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا الْحَالِ عَشْرَ سِنِينَ يَقُومُ اللَّيْلَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُومُونَ مَعَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ إِلَى وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
[المزمل: ٢٠] اهـ، أَيْ نَزَلَتِ الْآيَاتُ الْأَخِيرَةُ فِي الْمَدِينَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مُقَامَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ كَانَ عَشْرَ سِنِينَ وَهُوَ قَوْلٌ جَمٌّ غَفِيرٌ.
وَالرِّوَايَاتُ عَنْ عَائِشَة مضطربة فبعضها يَقْتَضِي أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ وَأَنَّ صَدْرَهَا نَزَلَ قَبْلَ آخِرِهَا بِسَنَةٍ قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي نَقْلِ صَاحِبِ «الْإِتْقَانِ». وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ نَزَلَ بِمَكَّةَ،
وَبَعْضُ الرِّوَايَاتِ يَقُولُ فِيهَا: إِنَّهَا كَانَتْ تَفْرِشُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصِيرًا فَصَلَّى عَلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ فَتَسَامَعَ النَّاسُ فَاجْتَمَعُوا فَخَرَجَ مُغْضَبًا وَخَشِيَ أَنْ يَكْتُبَ عَلَيْهِمْ قِيَامُ اللَّيْلِ وَنَزَلَ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل: ١، ٢] فَكُتِبَتْ عَلَيْهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْفَرِيضَةِ وَمَكَثُوا عَلَى ذَلِكَ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ وَضَعَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ، فَأَنْزَلَ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ إِلَى فَتابَ عَلَيْكُمْ [المزمل: ٢٠]، فَرَدَّهُمْ إِلَى الْفَرِيضَةِ وَوَضَعَ عَنْهُمُ النَّافِلَةَ. وَهَذَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدَيْنِ إِلَى أَبِي سَلَمَةَ بن عبد الرحمان عَنْ عَائِشَةَ،
وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَدَنِيَّةٌ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبْنِ بِعَائِشَةَ إِلَّا فِي الْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهَا: «فَخَرَجَ مُغْضَبًا» يَقْتَضِي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ الْمُفْضِي إِلَى مَسْجِدِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَخْبَارٌ تُثْبِتُ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي مَسْجِدِهِ.
(قُرْآنٌ) : مَصْدَرُ قَرَأَ عَلَى وَزْنِ فُعْلَانٍ الدَّالِّ عَلَى كَثْرَةِ الْمَعْنَى مِثْلَ الشُّكْرَانِ وَالْقُرْبَانِ. وَهُوَ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَهِيَ تِلَاوَةُ كَلَامٍ صَدَرَ فِي زَمَنٍ سَابِقٍ لِوَقْتِ تِلَاوَةِ تَالِيهِ بِمِثْلِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ مُتَكَلِّمُهُ سَوَاءٌ كَانَ مَكْتُوبًا فِي صَحِيفَةٍ أَمْ كَانَ مُلَقَّنًا لِتَالِيهِ بِحَيْثُ لَا يُخَالف أَصله وَلَو كَانَ أَصْلَهُ كَلَامُ تَالِيهِ وَلِذَلِكَ لَا يُقَالُ لِنَقْلِ كَلَامٍ إِنَّهُ قِرَاءَةٌ إِلَّا إِذَا كَانَ كَلَامًا مَكْتُوبًا أَوْ مَحْفُوظًا.
وَكُلَّمَا جَاءَ قُرْآنٍ مُنَكَّرًا فَهُوَ مَصْدَرٌ وَأَمَّا اسْمُ كِتَابِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ بِالتَّعْرِيفِ بِاللَّامِ لِأَنَّهُ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ.
فَالْإِخْبَارُ عَنِ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْمِ قُرْآنٍ إِشَارَةٌ عُرْفِيَّةٌ إِلَى أَنَّهُ مُوحًى بِهِ تَعْرِيضٌ بِإِبْطَالِ مَا اخْتَلَقَهُ الْمُكَذِّبُونَ: أَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَوْ قَوْلُ كَاهِنٍ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.
وَوُصِفَ قُرْآنٌ صِفَةً أُخْرَى بِأَنَّهُ مُودَعٌ فِي لَوْحٍ.
وَاللَّوْحُ: قِطْعَةٌ مِنْ خَشَبٍ مُسْتَوِيَةٌ تُتَّخَذُ لِيُكْتَبَ فِيهَا.
وَسَوْقُ وَصْفِ فِي لَوْحٍ مَسَاقَ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَبِاللَّوْحِ، يُعَيِّنُ أَنَّ اللَّوْحَ كَائِنٌ قُدْسِيٌّ مِنْ كَائِنَاتِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ الْمُغَيَّبَاتِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّ اللَّوْحَ أُودِعَ فِيهِ الْقُرْآنُ، فَجَعَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ مَكْتُوبًا فِي لَوْحٍ عُلْوِيٍّ كَمَا جَعَلَ التَّوْرَاةَ مَكْتُوبَةً فِي أَلْوَاحٍ وَأَعْطَاهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [الْأَعْرَاف: ١٤٥] وَقَالَ: وَأَلْقَى الْأَلْواحَ [الْأَعْرَاف: ١٥٠] وَقَالَ: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ [الْأَعْرَاف:
١٥٤]، وَأَمَّا لَوْحُ الْقُرْآنِ فَجَعَلَهُ مَحْفُوظًا فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ.
وَبَعْضُ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ فَسَّرُوا اللَّوْحَ بِمَوْجُودٍ سُجِّلَتْ فِيهِ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ مُجْتَمِعَةً وَمُجْمَلَةً، وَسَمُّوا ذَلِكَ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ، وَسَمَّوْا تَسْجِيلَ الْمَخْلُوقَاتِ فِيهِ بِالْقَضَاءِ، وَسَمَّوْا
ظُهُورَهَا فِي الْوُجُودِ بِالْقَدَرِ، وَعَلَى ذَلِكَ دَرَجَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي «شَرْحِهِ عَلَى الطَّوَالِعِ» حَسْبَمَا نَقَلَهُ الْمَنْجُورُ فِي «شَرْحِ نَظْمِ ابْنِ زِكْرِيٍّ» مَسُوقًا فِي قِسْمِ الْعَقَائِدِ السَّمْعِيَّةِ وَفِيهِ نَظَرٌ. وَوَرَدَ فِي آثَارٍ مُخْتَلِفَةِ الْقُوَّةِ أَنَّهُ مُوَكَّلٌ بِهِ إِسْرَافِيلُ وَأَنَّهُ كَائِنٌ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ. وَاقْتَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مُسَجَّلٌ فِيهِ.