[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٧]

خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ.
هَذِهِ الْجُمْلَةُ جَارِيَةٌ مَجْرَى التَّعْلِيلِ لِلْحُكْمِ السَّابِقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَة: ٦] وَبَيَانٌ لِسَبَبِهِ فِي الْوَاقِعِ لِيَدْفَعَ بِذَلِكَ تَعَجُّبَ الْمُتَعَجِّبِينَ مِنَ اسْتِوَاءِ الْإِنْذَارِ وَعَدَمِهِ عِنْدَهُمْ وَمِنْ عَدَمِ نُفُوذِ الْإِيمَانِ إِلَى نُفُوسِهِمْ مَعَ وُضُوحِ دَلَائِلِهِ، فَإِذَا عُلِمَ أَنَّ عَلَى قُلُوبِهِمْ خَتْمًا وَعَلَى أَسْمَاعِهِمْ وَأَنَّ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً عُلِمَ سَبَبُ ذَلِكَ كُلِّهِ وَبَطُلَ الْعَجَبُ، فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ يُفِيدُ جَوَابَ سَائِلٍ يَسْأَلُ عَنْ سَبَبِ كَوْنِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ مُقَابِلٌ مُوقِعَ جُمْلَةِ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥] فَلِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مَكَانَةٌ بَيْنَ ذَمِّ أَصْحَابِهَا بِمِقْدَارِ مَا لِتِلْكَ مِنَ الْمَكَانَةِ فِي الثَّنَاءِ عَلَى أَرْبَابِهَا.
وَالْخَتْمُ حَقِيقَتُهُ السَّدُّ عَلَى الْإِنَاءِ وَالْغَلْقُ عَلَى الْكِتَابِ بِطِينٍ وَنَحْوِهِ مَعَ وَضْعِ عَلَامَةٍ
مَرْسُومَةٍ فِي خَاتَمٍ لِيَمْنَعَ ذَلِكَ مِنْ فَتْحِ الْمَخْتُومِ، فَإِذَا فُتِحَ عَلِمَ صَاحِبُهُ أَنَّهُ فُتِحَ لِفَسَادٍ يَظْهَرُ فِي أَثَرِ النَّقْشِ وَقَدِ اتَّخَذَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا لِذَلِكَ، وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَخْتِمُ عَلَى قَوَارِيرِ الْخَمْرِ لِيُصْلِحَهَا انْحِبَاسُ الْهَوَاءِ عَنْهَا وَتَسْلَمَ مِنَ الْأَقْذَارِ فِي مُدَّةِ تَعْتِيقِهَا. وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْبُلُوغِ لِآخِرِ الشَّيْءِ خَتْمًا فَلِأَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ أَوْ ذَلِكَ الْوَقْتَ هُوَ ظَرْفُ وَضْعِ الْخَتْمِ فَيُسَمَّى بِهِ مَجَازًا. وَالْخَاتَمُ بِفَتْحِ التَّاءِ الطِّينُ الْمَوْضُوعُ عَلَى الْمَكَانِ الْمَخْتُومِ، وَأَطْلَقَ عَلَى الْقَالَبِ الْمَنْقُوشِ فِيهِ عَلَامَةٌ أَوْ كِتَابَةٌ يُطْبَعُ بِهَا عَلَى الطِّينِ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ. وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. وَطِينُ الْخَتْمِ طِينٌ خَاصٌّ يُشْبِهُ الْجِبْسَ يُبَلُّ بِمَاءٍ وَنَحْوِهِ وَيُشَدُّ عَلَى الْمَوْضِعِ الْمَخْتُومِ فَإِذَا جَفَّ كَانَ قَوِيَّ الشَّدِّ لَا يُقْلَعُ بِسُهُولَةٍ وَهُوَ يَكُونُ قِطَعًا صَغِيرَةً كُلُّ قِطْعَةٍ بِمِقْدَارِ مُضْغَةٍ وَكَانُوا يَجْعَلُونَهُ خَوَاتِيمَ فِي رِقَابِ أَهْلِ الذِّمَّةِ قَالَ بَشَّارٌ:
خَتَمَ الْحُبُّ لَهَا فِي عُنُقِي مَوْضِعَ الْخَاتَمِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَمِ
وَالْغِشَاوَةُ فِعَالَةٌ مِنْ غَشَاهُ وَتَغَشَّاهُ إِذَا حَجَبَهُ وَمِمَّا يُصَاغُ لَهُ وَزْنُ فِعَالَةٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ مَعْنَى الِاشْتِمَالِ عَلَى شَيْءٍ مِثْلَ الْعِمَامَةِ وَالْعِلَاوَةِ وَاللِّفَافَةِ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ صَوْغَ هَذِهِ الزِّنَةِ لِلصِّنَاعَاتِ كَالْخِيَاطَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الِاشْتِمَالِ الْمَجَازِيِّ وَمَعْنَى الْغِشَاوَةِ الْغِطَاءُ.
وَلَيْسَ الْخَتْمُ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْأَسْمَاعِ وَلَا الْغِشَاوَةُ عَلَى الْأَبْصَارِ هُنَا حَقِيقَةً كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بَلْ ذَلِكَ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ بِأَنْ جَعَلَ قُلُوبَهُمْ أَيْ عُقُولَهُمْ فِي عَدَمِ نُفُوذِ الْإِيمَانِ وَالْحَقِّ
التَّأْكِيدُ بِمُجَرَّدِ تَقَدُّمِ مَضْمُونِهِ، فَتَكُونُ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ اعْتِبَارَانِ يَجْعَلَانِهَا بِمَنْزِلَةِ جُمْلَتَيْنِ، وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ بِقَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قَوْلَهُ: وَأَطِيعُونِ بِحَذْفِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ، وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ: بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِيهِمَا.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ إِنَّ مَكْسُورَةُ الْهَمْزَةِ لَا مَحَالَةَ، وَهِيَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ كَشَأْنِهَا إِذَا وَقَعَتْ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ كَقَوْلِ بَشَّارٍ.
بَكِّرَا صَاحِبَيَّ قَبْلَ الْهَجِيرِ إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ
وَلِذَلِكَ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَهُوَ لِكَوْنِهِ رَبَّهُمْ حَقِيقٌ بِالتَّقْوَى، وَلِكَوْنِهِ رَبَّ عِيسَى وَأَرْسَلَهُ تَقْتَضِي تَقْوَاهُ طَاعَةَ رَسُولِهِ.
وَقَوْلُهُ: فَاعْبُدُوهُ تَفْرِيعٌ عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ، فَقَدْ جَعَلَ قَوْلَهُ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي تَعْلِيلًا ثُمَّ أَصْلًا لِلتَّفْرِيعِ.
وَقَوْلُهُ: هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا قَالَهُ كُلِّهِ أَيْ أَنَّهُ الْحَقُّ الْوَاضِحُ فَشَبَّهَهُ بِصِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ لَا يَضِلُّ سَالِكُهُ وَلَا يتحير.
[٥٢، ٥٣]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٥٢ إِلَى ٥٣]
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣)
آذَنَ شَرْطُ لَمَّا بِجُمَلٍ مَحْذُوفَةٍ، تَقْدِيرُهَا: فَوُلِدَ عِيسَى، وَكَلَّمَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ بِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ مَرْيَمَ، وَكَلَّمَ النَّاسَ بِالرِّسَالَةِ. وَأَرَاهُمُ الْآيَاتِ الْمَوْعُودَ بِهَا، وَدَعَاهُمْ إِلَى التَّصْدِيقِ بِهِ وَطَاعَتِهِ، فَكَفَرُوا بِهِ، فَلَمَّا أَحَسَّ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ إِلَى آخِرِهِ. أَيْ أَحَسَّ الْكُفْرَ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ بِدَعْوَتِهِ فِي قَوْله: وَأَطِيعُونِ [آل عمرَان: ٥٠] أَيْ

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٠]

إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠)
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ تُفِيدُ تَكْرِيرَ التَّحْذِيرِ مِنْ أَكْلِ مَالِ الْيَتَامَى، جَرَّتْهُ مُنَاسَبَةُ التَّعَرُّضِ لِقِسْمَةِ أَمْوَالِ الْأَمْوَاتِ، لِأَنَّ الْوَرَثَةَ يَكْثُرُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ يَتَامَى لِكَثْرَةِ تَزَوُّجِ الرِّجَالِ فِي مُدَّةِ أَعْمَارِهِمْ، فَقَلَّمَا يَخْلُو مَيِّتٌ عَنْ وَرَثَةٍ صِغَارٍ، وَهُوَ مُؤْذِنٌ بِشِدَّةِ عِنَايَةِ الشَّارِعِ بِهَذَا الْغَرَض، فَلذَلِك عَادَ إِلَيْهِ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ.
وَقَوْلُهُ: ظُلْماً حَالٌ مِنْ يَأْكُلُونَ مُقَيِّدَةٌ لِيَخْرُجَ الْأَكْلُ الْمَأْذُونُ فِيهِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ:
وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النِّسَاء: ٦]، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [النِّسَاء: ٢٩].
ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (نَارًا) مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا مُرَادًا بِهَا نَارُ جَهَنَّمَ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ، وَعَلَيْهِ فَفِعْلُ يَأْكُلُونَ نَاصِبٌ (نَارًا) الْمَذْكُورَ عَلَى تَأْوِيلِ يَأْكُلُونَ مَا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى النَّارِ، فَأَطْلَقَ النَّارَ مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ الْأَوَّلِ أَوِ السَّبَبِيَّةِ أَيْ مَا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى عَذَابِ جَهَنَّمَ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ حِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى قَدْ أَكَلُوا مَا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ.
وَعَلَى هَذَا فَعَطْفُ جُمْلَةِ: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً عَطْفُ مُرَادِفٍ لِمَعْنَى جُمْلَةِ يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ النَّارِ مُسْتَعَارًا لِلْأَلَمِ بِمَعْنَى أَسْبَابِ الْأَلَمِ فَيَكُونُ تَهْدِيدًا بِعَذَابٍ دُنْيَوِيٍّ أَوْ مُسْتَعَارًا لِلتَّلَفِ لِأَنَّ شَأْنَ النَّارِ أَنْ تَلْتَهِمَ مَا تُصِيبُهُ، وَالْمَعْنَى إِنَّمَا يَأْخُذُونَ أَمْوَالًا هِيَ سَبَبٌ فِي مَصَائِبَ تَعْتَرِيهِمْ فِي ذَوَاتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ كَالنَّارِ إِذَا تَدْنُو مِنْ أَحَدٍ فَتُؤْلِمُهُ وَتُتْلِفُ مَتَاعَهُ، فَيَكُونُ هَذَا تَهْدِيدًا بِمَصَائِبَ فِي الدُّنْيَا عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا [الْبَقَرَة: ٢٧٦] وَيَكُونُ عَطْفُ جُمْلَةِ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً جَارِيًا عَلَى ظَاهِرِ الْعَطْفِ مِنَ اقْتِضَاءِ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، فَالْجُمْلَةُ الْأُولَى تَهْدِيدٌ بِعَذَابٍ فِي الدُّنْيَا، وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ وَعِيدٌ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ.
وَمَعْنَى لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ تَعْمِيمُ جِهَاتِ الرِّزْقِ، أَيْ لَرُزِقُوا مِنْ كُلِّ سَبِيلٍ، فَأَكَلُوا بِمَعْنَى رُزِقُوا، كَقَوْلِهِ: وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا [الْفجْر: ١٩]. وَقِيلَ:
الْمُرَادُ بِالْمَأْكُولِ مِنْ فَوْقُ ثِمَارُ الشَّجَرِ، وَمِنْ تَحْتُ الْحُبُوبُ وَالْمَقَاثِي، فَيَكُونُ الْأَكْلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَيْ لَاسْتَمَرَّ الْخِصْبُ فِيهِمْ.
وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ
بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ
فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٩٦].
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ إِلَخْ مِثْلُ اللَّامِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا.
مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ.
إِنْصَافٌ لِفَرِيقٍ مِنْهُمْ بَعْدَ أَنْ جَرَتْ تِلْكَ الْمَذَامُّ على أَكْثَرهم.
والمقصد يُطْلَقُ عَلَى الْمُطِيعِ، أَيْ غَيْرُ مُسْرِفٍ بِارْتِكَابِ الذُّنُوبِ، وَاقِفٌ عِنْدَ حُدُودِ كِتَابِهِمْ، لِأَنَّهُ يَقْتَصِدُ فِي سَرْفِ نَفْسِهِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ فِي الشِّقِّ الْآخَرِ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ. وَقَدْ عُلِمَ مِنِ اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ التَّعْبِيرُ بِالْإِسْرَافِ عَنِ الِاسْتِرْسَالِ فِي الذُّنُوبِ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: ٥٣]، وَلِذَلِكَ يُقَابَلُ بِالِاقْتِصَادِ، أَيِ الْحَذَرِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَاخْتِيرَ الْمُقْتَصِدُ لِأَنَّ الْمُطِيعِينَ مِنْهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَانُوا غَيْرَ بَالِغِينَ غَايَةَ الطَّاعَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر: ٣٢].
فَالْمُرَادُ هُنَا تَقْسِيمُ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمْ بَعْدَ الْإِسْلَام قِسْمَانِ سيّء الْعَمَلِ، وَهُوَ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ وَسَابِقٌ فِي الْخَيْرَاتِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَمُخَيْرِيقٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُقْتَصِدِ غَيْرُ الْمُفْرِطِينَ فِي بُغْضِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا آمَنُوا مَعَهُمْ وَلَا آذَوْهُمْ، وَضِدُّهُمْ هُمُ الْمُسِيئُونَ
عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَتَنَّاهُمْ لِيَرَوْا لِأَنْفُسِهِمْ شُفُوفًا وَاسْتِحْقَاقًا لِلتَّقَدُّمِ فِي الْفَضَائِلِ اغْتِرَارًا بِحَالِ التَّرَفُّهِ فَيَعْجَبُوا كَيْفَ يُدَّعَى أَنَّ اللَّهَ يَمُنُّ بِالْهُدَى وَالْفَضْلِ عَلَى نَاسٍ يَرَوْنَهُمْ أَحَطَّ مِنْهُم، وَكَيف يعدّونهم دُونَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَهَذَا مِنَ الْغُرُورِ وَالْعُجْبِ الْكَاذِبِ. وَنَظِيرُهُ فِي طَيِّ الْعِلَّةِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ أَثَرِهَا قَوْلُ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ:
وَأَقْدَمْتُ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا
أَيْ لِيَظْهَرَ الْجَبَانُ وَالشُّجَاعُ فَأَعْلَمَهُمَا.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعَجُّبِ وَالْإِنْكَارِ، كَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا [الْقَمَر: ٢٥]. وَالْإِشَارَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّحْقِيرِ أَوِ التَّعْجِيبِ كَمَا هِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٣٦].
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِقَصْدِ تَقْوِيَةِ الْخَبَرِ.
وَقَوْلُهُمْ: مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَالُوهُ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَمُجَارَاةِ الْخَصْمِ، أَيْ حَيْثُ اعْتَقَدَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ اللَّهَ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَحَرَمَ صَنَادِيدَ قُرَيْشٍ، فَلِذَلِكَ تَعَجَّبَ أُولَئِكَ مِنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ، أَيْ كَيْفَ يُظَنُّ أَنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى فُقَرَاءٍ وَعَبِيدٍ وَيَتْرُكُ سَادَةَ أَهْلِ الْوَادِي.
وَهَذَا كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١]. وَهَذِهِ شَنْشَنَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَالطُّغَاةِ. وَقَدْ حَدَثَ بِالْمَدِينَةِ مِثْلُ هَذَا.
رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّمَا بَايَعَكَ سُرَّاقُ الْحَجِيجِ مِنْ أَسْلَمَ وَغِفَارٍ وَمُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَتْ أَسْلَمُ وَغِفَارٌ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ خَيْرًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي عَامِرٍ وَأَسَدٍ وَغَطَفَانَ أَخَابُوا وَخَسِرُوا (أَيْ أَخَابَ بَنُو تَمِيمٍ وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِمْ) فَقَالَ: نعم قَالَ: فو الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمْ لِخَيْرٌ مِنْهُمْ.
وَفِي الْآيَةِ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ مُضْمَرًا فِي النَّفْسِ، وَضَمِيرُ لِيَقُولُوا عَائِدًا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ الْفُقَرَاءِ، فَيَكُونُوا هُمُ الْبَعْضَ الْمَفْتُونِينَ، وَيَكُونُ الْبَعْضُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ صَادِقًا
أَيِ اجْعَلُوا الْأَمْرَ الَّذِي يَجْمَعُكُمْ صَالِحًا غَيْرَ فَاسِدٍ، وَيَجُوزُ مَعَ هَذَا أَنْ يُنَزَّلَ فِعْلُ أَصْلِحُوا مَنْزِلَةَ الْفِعْلِ اللَّازِمِ فَلَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ قَصْدًا لِلْأَمْرِ بِإِيجَادِ الصَّلَاحِ لَا بِإِصْلَاحِ شَيْءٍ فَاسِدٍ، وَتُنْصَبُ ذَاتَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِإِضَافَتِهَا إِلَى ظَرْفِ الْمَكَانِ وَالتَّقْدِيرُ: وَأَوْجِدُوا الصَّلَاحَ بَيْنَكُمْ، كَمَا قَرَأْنَا لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الْأَنْعَام: ٩٤] بِنَصْبِ بَيْنَكُمْ أَيْ لَقَدْ وَقَعَ التَّقْطِيعُ بَيْنَكُمْ.
وَاعْلَمْ أَنِّي لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْتِعْمَالِ (ذَاتِ بَيْنِ) فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَأَحْسَبُ أَنَّهَا مِنْ
مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ.
وَجَوَابُ شَرْطِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْجُمَلُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ إِلَى آخِرِهَا، لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمَّا وَقَعَ عقب تِلْكَ الْحمل كَانَ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِهَا عَلَى مَا هُوَ الْمُقَرَّرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ، فَمَعْنَى الشَّرْطِ بَعْدَ تِلْكَ الْجُمَلِ الْإِنْشَائِيَّةِ: إِنَّا أَمَرْنَاكُمْ بِمَا ذُكِرَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، لِأَنَّا لَا نَأْمُرُ بِذَلِكَ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا إِلْهَابٌ لِنُفُوسِهِمْ عَلَى الِامْتِثَالِ، لِظُهُورِ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فَلَا تَتَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَا تُصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ، وَلَا تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّ هَذَا مَعْنًى لَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَهْلِ اللِّسَانِ وَلَا يَسْمَحُ بِمِثْلِهِ الِاسْتِعْمَالُ.
وَلَيْسَ الْإِتْيَانُ فِي الشَّرْط بِأَن تَعْرِيضًا بِضَعْفِ إِيمَانِهِمْ وَلَا بِأَنَّهُ مِمَّا يَشُكُّ فِيهِ مَنْ لَا يَعْلَمُ مَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَأْنَ (إِن) عدم الجرم بِوُقُوعِ الشَّرْطِ بِخِلَافِ (إِذَا) عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْمَعَانِي، وَلَكِنَّ اجْتِلَابَ (إِنْ) فِي هَذَا الشَّرْطِ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى إِظْهَارِ الْخِصَالِ الَّتِي يَتَطَلَّبُهَا الْإِيمَانُ وَهِيَ: التَّقْوَى الْجَامِعَةُ لِخِصَالِ الدِّينِ، وَإِصْلَاحُ ذَاتِ بَيْنِهِمْ، وَالرِّضَى بِمَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ، فَالْمَقْصُودُ التَّحْرِيضُ عَلَى أَنْ يَكُونَ إِيمَانُهُمْ فِي أَحْسَنِ صُوَرِهِ وَمَظَاهِرِهِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ هَذَا الشَّرْطَ بِجُمْلَةِ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الْأَنْفَال: ٢] كَمَا سَيَأْتِي.
[٢]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٢]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ.
مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِوُجُوبِ تَقْوَى اللَّهِ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ وَطَاعَتِهِمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، لِأَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْجُمَلُ الَّتِي بَعْدَ إِنَّمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَحْمِلَ الْمُتَّصِفِينَ بِهِ عَلَى الِامْتِثَالِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ جُمَلُ الْأَمْرِ الثَّلَاثِ السَّابِقَةِ،
أَحْوَالِ النِّفَاقِ وَآثَارِهِ الدَّالَّةِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ، فَفَصَلَ هَاتِهِ الْجُمْلَةَ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا: إِمَّا لِأَنَّهَا كَالْبَيَانِ لِلطَّائِفَةِ الْمُسْتَحِقَّةِ الْعَذَابَ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا فِي حُكْمِ الِاعْتِرَاضِ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [التَّوْبَة: ٦٩] وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ اعْتِرَاضًا هِيَ وَالَّتِي بَعْدَهَا بَيْنَ الْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَبَيْنَ جُمْلَةِ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً [التَّوْبَة: ٦٩] كَمَا سَيَأْتِي هُنَالِكَ.
وَزِيدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ الْمُنافِقاتُ تَنْصِيصًا عَلَى تَسْوِيَةِ الْأَحْكَامِ لِجَمِيعِ الْمُتَّصِفِينَ بِالنِّفَاقِ: ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ، كَيْلَا يَخْطُرَ بِالْبَالِ أَنَّ الْعَفْوَ يُصَادِفُ نِسَاءَهُمْ، وَالْمُؤَاخَذَةَ خَاصَّةٌ بِذُكْرَانِهِمْ، لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ لِنِسَاءِ الْمُنَافِقِينَ حَظًّا مِنْ مُشَارَكَةِ رِجَالِهِنَّ فِي النِّفَاقِ فَيَحْذَرُوهُنَّ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ اتِّصَالِيَّةٌ دَالَّةٌ عَلَى مَعْنَى اتِّصَالِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ وَهُوَ تَبْعِيضٌ مَجَازَيٌّ مَعْنَاهُ الْوَصْلَةُ وَالْوِلَايَةُ، وَلَمْ يُطْلَقْ عَلَى ذَلِكَ اسْمُ الْوِلَايَةِ كَمَا أُطْلِقَ عَلَى اتِّصَالِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التَّوْبَة: ٧١] لِمَا سَيَأْتِي هُنَالِكَ.
وَقَدْ شَمِلَ قَوْلُهُ: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ جَمِيعَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ، لِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ هُوَ بَعْضٌ مِنَ الْجَمِيعِ، فَإِذَا كَانَ كُلُّ بَعْضٍ مُتَّصِلًا بِبَعْضٍ آخَرَ، عُلِمَ أَنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي الْأَحْوَالِ.
وَجُمْلَةُ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ مُبَيِّنَةٌ لِمَعْنَى الِاتِّصَالِ وَالِاسْتِوَاءِ فِي الْأَحْوَالِ.
وَالْمُنْكِرُ: الْمَعَاصِي لِأَنَّهَا يُنْكِرُهَا الْإِسْلَامُ.
وَالْمَعْرُوفُ: ضِدُّهَا، لِأَنَّ الدِّينَ يَعْرِفُهُ، أَيْ يَرْضَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٠٤].
وَقَبْضُ الْأَيْدِي: كِنَايَةٌ عَنِ الشُّحِّ، وَهُوَ وَصْفُ ذَمٍّ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْقَسْوَةِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ الشُّحُّ عَلَى الْفُقَرَاءِ.
بِهِ، وَالْمَعْطُوفُ فِي الْمَعْنَى مَحْذُوفٌ لِأَنَّ الَّذِي يَعْقُبُ قَوْلَهُ: ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ هُوَ إِتْيَانُهُمْ بِهِمْ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لِقِلَّةِ جَدْوَاهُ فِي الْغَرَضِ الَّذِي سيقت الْقِصَّة لأجل حُذِفَ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِمَا يَقْتَضِيهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةً عَقْلِيَّةً وَلَفْظِيَّةً مِنْ قَوْلِهِ: جاءَ السَّحَرَةُ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَأَتَوْهُ بِهِمْ فَلَمَّا جَاءُوا قَالَ لَهُمْ مُوسَى. وَالتَّعْرِيفُ فِي السَّحَرَةُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ.
وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ مُوسَى بِأَنْ يَبْتَدِئُوا بِإِلْقَاءِ سِحْرِهِمْ إِظْهَارًا لقُوَّة حجَّة لِأَنَّ شَأْنَ الْمُبْتَدِئِ بِالْعَمَلِ الْمُتَبَارِي فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَمْكَنَ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ مِنْ مُبَارِيهِ، وَلَا سِيَّمَا الْأَعْمَالِ الَّتِي قِوَامُهَا التَّمْوِيهُ وَالتَّرْهِيبُ، وَالَّتِي يَتَطَلَّبُ الْمُسْتَنْصِرُ فِيهَا السَّبْقَ إِلَى تَأَثُّرِ الْحَاضِرِينَ وَإِعْجَابِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْآنُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى أَنَّ السَّحَرَةَ خَيَّرُوا مُوسَى بَين أَن يبتديء هُوَ بِإِظْهَارِ مُعْجِزَتِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَبْتَدِئُوا، وَأَنَّ مُوسَى اخْتَارَ أَنْ يَكُونُوا الْمُبْتَدِئِينَ.
وَفَعْلُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّسْوِيَةِ الْمُرَادُ مِنْهَا الِاخْتِيَارُ وَإِظْهَارُ قِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ.
وَالْإِلْقَاءُ: رَمْيُ شَيْءٍ فِي الْيَدِ إِلَى الْأَرْضِ. وَإِطْلَاقُ الْإِلْقَاءِ عَلَى عَمَلِ السِّحْرِ لِأَنَّ أَكْثَرَ تَصَارِيفِ السَّحَرَةِ فِي أَعْمَالِهِمُ السِّحْرِيَّةِ يَكُونُ بِرَمْيِ أَشْيَاءَ إِلَى الْأَرْضِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُمْ أَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ، وَأَنَّهَا يُخَيَّلُ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى، وَكَانَ مُنْتَهَى أَعْمَالِ السَّاحِرِ أَنْ يُخَيِّلَ الْجَمَادَ حَيًّا.
وَمَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ قُصِدَ بِهِ التَّعْمِيمُ الْبَدَلِيُّ، أَيَّ شَيْءٍ تُلْقُونَهُ، وَهَذَا زِيَادَةٌ فِي إِظْهَارِ عَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِمَبْلَغِ سِحْرِهِمْ، وَتَهْيِئَةٍ لِلْمَلَأ الْحَاضِرِينَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مُبْطِلٌ سِحْرَهُمْ عَلَى يَدِ رَسُولِهِ.
وَلَا يُشْكِلُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ مُوسَى بِإِلْقَاءِ السِّحْرِ بِأَنَّهُ أَمَرَ بِمَعْصِيَةٍ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا كَافِرِينَ وَالْكَافِرُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْأَمْرِ بِإِلْقَائِهِ
وَفِيهِ خِلَافٌ، وَلِذَلِكَ جَوَّزَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ عَلَى يُوسُفَ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هَمَّ يُوسُفُ وَأَخَذَ فِي التَّهَيُّؤِ لِذَلِكَ فَرَأَى بُرْهَانًا صَرَفَهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَقْلَعَ عَنْ ذَلِكَ.
وَهَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا بَيَّنَاهُ فِي الْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ.
وَقَدْ خَبَطَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي إِلْصَاقِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ بِمَنْ يُسَمِّيهِمُ الْحَشْوِيَّةَ وَالْمُجَبِّرَةَ، وَهُوَ يَعْنِي الْأَشَاعِرَةَ، وَغَضَّ بَصَرَهُ عَنْ أَسْمَاءِ مَنْ عُزِيَتْ إِلَيْهِمْ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ (رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتْ) وَلَمْ يَتَعَجَّبْ مِنْ إِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى مُحَاوَلَةِ إِخْوَةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَتْلَهُ وَالْقَتْلُ أَشَدُّ.
وَالرُّؤْيَةُ: هُنَا عِلْمِيَّةٌ لِأَنَّ الْبُرْهَانَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي لَا تُرَى بِالْبَصَرِ.
وَالْبُرْهَانُ: الْحُجَّةُ. وَهَذَا الْبُرْهَانُ مِنْ جُمْلَتِهِ صَرْفُهُ عَنِ الْهَمِّ بِهَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ حَالُ الْبَشَرِيَّةِ لَا يَسْلَمُ مِنَ الْهَمِّ بِمُطَاوَعَتِهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِتَوَفُّرِ دَوَاعِي الْهَمِّ مِنْ حُسْنِهَا، وَرَغْبَتِهَا فِيهِ، وَاغْتِبَاطِ أَمْثَالِهِ بِطَاعَتِهَا، وَالْقُرْبِ مِنْهَا، وَدَوَاعِي الشَّبَابِ الْمُسَوِّلَةِ لِذَلِكَ، فَكَانَ بُرْهَانُ اللَّهِ هُوَ الْحَائِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْهَمِّ بِهَا دُونَ شَيْءٍ آخَرَ.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَا هُوَ هَذَا الْبُرْهَانُ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ نَظَرِيَّةٌ
قَبَّحَتْ لَهُ هَذَا الْفِعْلَ، وَقِيلَ: هُوَ وَحْيٌ إِلَهِيٌّ، وَقِيلَ: حِفْظٌ إِلَهِيٌّ، وَقِيلَ: مُشَاهَدَاتٌ تَمَثَّلَتْ لَهُ.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِلَى شَيْءٍ مَفْهُومٍ مِمَّا قبله بتضمنه قَوْلُهُ: رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ، وَهُوَ رَأْيُ الْبُرْهَانِ، أَيْ أَرَيْنَاهُ كَذَلِكَ الرَّأْيِ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ.
وَالصَّرْفُ: نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ عَنِ الْحِفْظِ مِنْ حُلُولِ الشَّيْءِ بِالْمَحَلِّ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَحِلَّ فِيهِ. عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْعِصْمَةِ مِنْ شَيْءٍ
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ مُسْتَأْنَفَةٌ، إِمَّا لِتَحْقِيقِ أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ كَقَوْلِهِ: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ [سُورَة الذاريات: ٥، ٦]، وَإِمَّا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ.
وَأُخِّرَتْ إِلَى آخَرِ الْكَلَامِ لِتَقْدِيمِ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ إِذَا قُدِّرَ مَعْمُولًا لَهَا كَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا.
[٥٢]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ٥٢]
هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢)
الْإِشَارَةُ إِلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ فِي السُّورَةِ كُلِّهَا مِنْ أَيْنَ ابْتَدَأْتَهُ أَصَبْتَ مُرَادَ الْإِشَارَةِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ لِلسُّورَةِ كُلِّهَا.
وَالْبَلَاغُ اسْمُ مَصْدَرِ التَّبْلِيغِ، أَيْ هَذَا الْمِقْدَارُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ تَبْلِيغٌ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ.
وَاللَّامُ فِي لِلنَّاسِ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ بِلَامِ التَّبْلِيغِ، وَهِيَ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى اسْمِ مَنْ يَسْمَعُ قَوْلًا أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ.
وَعَطْفُ وَلِيُنْذَرُوا عَلَى بَلاغٌ عَطْفٌ عَلَى كَلَامٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفَظُ بَلاغٌ، إِذْ لَيْسَ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يُعْطَفُ هَذَا عَلَيْهِ فَإِنَّ وُجُودَ لَامِ الْجَرِّ مَعَ وُجُودِ وَاوِ الْعَطْفِ مَانِعٌ مِنْ جَعْلِهِ عَطْفًا عَلَى الْخَبَرِ، لِأَنَّ الْمَجْرُورَ إِذا وَقع خبر عَنِ الْمُبْتَدَأِ اتَّصَلَ بِهِ مُبَاشَرَةً دُونَ عَطْفٍ إِذْ هُوَ بِتَقْدِيرِ كَائِنٍ أَوْ مُسْتَقِرٍّ، وَإِنَّمَا تُعْطَفُ الْأَخْبَارُ إِذَا كَانَتْ أَوْصَافًا.
وَالتَّقْدِيرُ هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ لِيَسْتَيْقِظُوا مِنْ غَفْلَتِهِمْ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ.
وَاللَّامُ فِي وَلِيُنْذَرُوا لَامُ كَيْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْ نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٩٢].
وَخُصَّ بِالذِّكْرِ الْهُدَى وَالرَّحْمَةُ وَالْبُشْرَى لِأَهَمِّيَّتِهَا فَالْهُدَى مَا يَرْجِعُ مِنَ التِّبْيَانِ إِلَى تَقْوِيمِ الْعَقَائِدِ وَالْأَفْهَامِ وَالْإِنْقَاذِ مِنَ الضَّلَالِ. وَالرَّحْمَةُ مَا يَرْجِعُ مِنْهُ إِلَى سَعَادَةِ الْحَيَاتَيْنِ الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى، وَالْبُشْرَى مَا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ بِالْحُسْنَيَيْنِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ.
وَكُلُّ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ لِأَنَّ غَيْرَهُمْ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنْهُ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمُ الِانْتِفَاعَ بِخَوَاصِّهِ كُلِّهَا.
فَاللَّامُ فِي لِكُلِّ شَيْءٍ مُتَعَلِّقٌ بِالتِّبْيَانِ، وَهِيَ لَامُ التَّقْوِيَةِ، لِأَنَّ «كُلَّ شَيْءٍ» فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِ تِبْياناً. وَاللَّامُ فِي لِلْمُسْلِمِينَ لَام العلّة يتنازع تعلّقها «تبيان وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى» وَهَذَا هُوَ الْوَجْه.
[٩٠]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٩٠]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠)
لَمَّا جَاءَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ حَسُنَ التَّخَلُّصُ إِلَى تِبْيَانِ أَصُولِ الْهُدَى فِي التَّشْرِيعِ لِلدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ الْعَائِدَةِ إِلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، إِذِ الشَّرِيعَةُ كُلُّهَا أَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَالتَّقْوَى مُنْحَصِرَةٌ فِي الِامْتِثَالِ وَالِاجْتِنَابِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ كَوْنِ الْكِتَابِ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، فَهِيَ جَامِعَةٌ أُصُولَ التَّشْرِيعِ.
وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ مَا حوته. وتصديرهما بِاسْمِ الْجَلَالَةِ لِلتَّشْرِيفِ، وَذَكَرَ يَأْمُرُ وَيَنْهى دُونَ أَنْ يُقَالَ: اعْدِلُوا وَاجْتَنِبُوا الْفَحْشَاءَ، لِلتَّشْوِيقِ.
وَنَظِيرُهُ مَا
فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا»
الْحَدِيثَ.
وَالْعَدْلُ: إِعْطَاءُ الْحَقِّ إِلَى صَاحِبِهِ. وَهُوَ الْأَصْلُ الْجَامِعُ لِلْحُقُوقِ الرَّاجِعَةِ إِلَى الضَّرُورِيِّ وَالْحَاجِيِّ مِنَ الْحُقُوقِ الذَّاتِيَّةِ وَحُقُوقِ الْمُعَامَلَاتِ، إِذِ الْمُسْلِمُ مَأْمُورٌ
وَ (لَعَلَّ) حَقِيقَتُهَا إِنْشَاءُ الرَّجَاءِ وَالتَّوَقُّعِ، وَتُسْتَعْمَلُ فِي الْإِنْكَارِ وَالتَّحْذِيرِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسل لِأَنَّهُمَا لَا زمَان لِتَوَقُّعِ الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ.
وَهِيَ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي تَحْذِيرِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مِنَ الِاغْتِمَامِ وَالْحُزْنِ عَلَى عَدَمِ إِيمَانِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا مِنْ قَوْمِهِ. وَذَلِكَ فِي مَعْنَى التَّسْلِيَةِ لِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِهِمْ.
وَالْبَاخِعُ: قَاتِلٌ نَفْسَهَ، كَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ. وَفَسَّرَهُ الْبُخَارِيُّ بِمُهْلِكٍ. وَتَفْسِيرُهُ يَرْجِعُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ.
وَفِي اشْتِقَاقِهِ خِلَافٌ، فَقيل مُشْتَقّ من الْبِخَاعِ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ (بِوَزْنِ كِتَابٍ) وَهُوَ عِرْقٌ مُسْتَبْطَنٌ فِي الْقَفَا فَإِذَا بَلَغَ الذَّابِحُ الْبِخَاعَ فَذَلِكَ أَعْمَقُ الذَّبْحِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [٣] وَانْفَرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِذِكْرِ هَذَا الِاشْتِقَاقِ فِي «الْكَشَّاف» و «الْفَائِق» و «الأساس». قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي «النِّهَايَةِ» :«بَحَثْتُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَالطِّبِّ فَلَمْ أَجِدِ الْبِخَاعَ بِالْمُوَحَّدَةِ» يَعْنِي أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ انْفَرَدَ بِهَذَا الِاشْتِقَاقِ وَبِإِثْبَاتِ الْبِخَاعِ اسْمًا لِهَذَا الْعِرْقِ. قُلْتُ: كَفَى بِالزَّمَخْشَرِيِّ حُجَّةً فِيمَا أَثْبَتَهُ. وَقَدْ تَبِعَهُ عَلَيْهِ الْمُطَرِّزِيُّ فِي «الْمُغْرِبِ» وَصَاحِبُ «الْقَامُوسِ». فَالْبَخْعُ: أَصْلُهُ أَنْ يَبْلُغَ الذَّابِحُ بِالذَّبْحِ إِلَى الْقَفَا ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْقَتْلِ الْمَشُوبِ بِغَيْظٍ.
وَالْآثَارُ: جَمْعُ أَثَرٍ وَهُوَ مَا يُؤْثِرُهُ، أَيْ يُبْقِيهِ الْمَاشِي أَوِ الرَّاكِبُ فِي الرَّمْلِ أَوِ الأَرْض من مواطىء أَقْدَامِهِ وَأَخْفَافِ رَاحِلَتِهِ. وَالْأَثَرُ أَيْضًا مَا يُبْقِيهِ أَهْلُ الدَّارِ إِذَا تَرَحَّلُوا عَنْهَا مِنْ
تَافِهِ آلَاتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يعالجون بهَا شؤونهم كَالْأَوْتَادِ وَالرَّمَادِ.
وَحَرْفُ (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَعَلَّكَ مُهْلِكٌ نَفْسَكَ لِأَجْلِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْكَ كَمَا يُعْرِضُ السَّائِرُ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، فَتَكُونُ (عَلَى) لِلتَّعْلِيلِ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ- بِسُكُونِ نُونِ (إِنْ) - عَلَى أَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَبِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي «هَذَانِ» وَبِتَشْدِيدِ نُونِ (هَاذَانِّ).
وَأَمَّا قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَحْدَهُ إِنَّ هَذَيْنِ- بِتَشْدِيدِ نُونِ (إِنَّ) وَبِالْيَاءِ بَعْدَ ذَالِ «هَذَيْنِ».
فَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هِيَ مُخَالفَة للمصحف. وَأَقل: ذَلِكَ لَا يَطْعَنُ فِيهَا لِأَنَّهَا رِوَايَةٌ صَحِيحَةٌ وَوَافَقَتْ وَجْهًا مَقْبُولًا فِي الْعَرَبِيَّةِ.
وَنُزُولُ الْقُرْآنِ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْفَصِيحَةِ فِي الِاسْتِعْمَالِ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ إِعْجَازِهِ لِتَجْرِيَ تَرَاكِيبُهُ عَلَى أَفَانِينَ مُخْتَلِفَةِ الْمَعَانِي مُتَّحِدَةِ الْمَقْصُودِ. فَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَا رُوِيَ مِنِ ادِّعَاءِ أَنَّ كِتَابَةَ «إِنَّ هَاذَانِ» خَطَأٌ مِنْ كَاتِبِ الْمُصْحَفِ، وَرِوَايَتِهِمْ ذَلِكَ عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ سَنَدٌ صَحِيحٌ. حَسِبُوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَخَذُوا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَصَاحِفِ وَهَذَا تَغَفُّلٌ، فَإِنَّ الْمُصْحَفَ مَا كُتِبَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ قَرَأَ الْمُسْلِمُونَ الْقُرْآنَ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ سَنَةً فِي أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ، وَمَا كُتِبَتِ الْمَصَاحِفُ إِلَّا مِنْ حِفْظِ الْحُفَّاظِ، وَمَا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ الْقُرْآنَ إِلَّا مِنْ أَفْوَاهِ حُفَّاظِهِ قَبْلَ أَنْ تُكْتَبَ الْمَصَاحِفُ، وَبَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ فَلَوْ كَانَ فِي بَعْضِهَا خَطَأٌ فِي الْخَطِّ لَمَا تَبِعَهُ الْقُرَّاءُ، وَلَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا تُرِكَ مِنَ الْأَلِفَاتِ فِي كَلِمَاتٍ كَثِيرَةٍ وَبِمَنْزِلَةِ كِتَابَةِ أَلِفِ الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَيَاةِ، وَالرِّبَا- بِالْوَاوِ- فِي مَوْضِعِ الْألف وَمَا قرأوها إِلَّا بِأَلِفَاتِهَا.
وَتَأْكِيدُ السَّحَرَةِ كَوْنَ مُوسَى وَهَارُونَ سَاحِرَيْنِ بِحَرْفِ (إِنَّ) لِتَحْقِيقِ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يُخَامِرُهُ الشَّكُّ فِي صِحَّةِ دَعْوَتِهِمَا.
وَجَعَلَ مَا أَظْهَرَهُ مُوسَى مِنَ الْمُعْجِزَةِ بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ سِحْرًا لِأَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ السِّحْرَ عِنْدَهُمْ عَلَى خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، كَمَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ الَّتِي
ذَلِكَ أَنَّ الرِّجْسَ هُوَ عَيْنُ الْأَوْثَانِ بَلِ الرِّجْسُ أَعَمُّ أُرِيدَ بِهِ هُنَا بَعْضُ أَنْوَاعِهِ فَهَذَا تَحْقِيقُ مَعْنَى (مِنْ) الْبَيَانِيَّةِ.
وحُنَفاءَ لِلَّهِ حَالٌ من ضمير فَاجْتَنِبُوا أَيْ تَكُونُوا إِنِ اجْتَنَبْتُمْ ذَلِكَ حُنَفَاءَ لِلَّهِ، جَمْعُ حَنِيفٍ وَهُوَ الْمُخْلِصُ لِلَّهِ فِي الْعِبَادَةِ، أَيْ تَكُونُوا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ حَقًّا، وَلِذَلِكَ زَادَ مَعْنَى حُنَفاءَ بَيَانًا بِقَوْلِهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النَّحْل: ١٢٠].
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ مُشْرِكِينَ بِهِ لِلْمُصَاحَبَةِ وَالْمَعِيَّةِ، أَيْ غَيْرَ مُشْرِكِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ.
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ أُعْقِبَ نَهْيُهُمْ عَنِ الْأَوْثَانِ بِتَمْثِيلِ فَظَاعَةِ حَالِ مَنْ يُشْرِكُ بِاللَّهِ فِي مَصِيرِهِ بِالشِّرْكِ إِلَى حَالِ انْحِطَاطِ وَتَلَقُّفِ الضَّلَالَاتِ إِيَّاهُ وَيَأْسِهِ مِنَ النَّجَاةِ مَا دَامَ مُشْرِكًا تَمْثِيلًا بَدِيعًا إِذْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ الْقَابِلِ لِتَفْرِيقِ أَجْزَائِهِ إِلَى تَشْبِيهَاتٍ.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّشْبِيهُ مِنَ الْمُرَكَّبِ وَالْمُفَرَّقِ بِأَنْ صَوَّرَ حَالَ الْمُشْرِكِ بِصُورَةِ حَالِ مَنْ خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَطَفَتْهُ الطَّيْرُ فَتَفَرَّقَ مَزْعًا فِي حَوَاصِلِهَا، أَوْ عَصَفَتْ بِهِ الرِّيحُ حَتَّى هَوَتْ بِهِ فِي بَعْضِ الْمَطَاوِحِ الْبَعِيدَةِ، وَإِنْ كَانَ مُفَرَّقًا فَقَدْ شُبِّهَ الْإِيمَانُ فِي عُلُوِّهِ بِالسَّمَاءِ، وَالَّذِي تَرَكَ الْإِيمَانَ وَأَشْرَكَ بِاللَّهِ بِالسَّاقِطِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالْأَهْوَاءَ الَّتِي تَتَوَزَّعُ أَفْكَارَهُ بِالطَّيْرِ الْمُخْتَطِفَةِ، وَالشَّيْطَانَ الَّذِي يُطَوِّحُ
وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ تَذْيِيلٌ. وَالسَّرِيعُ: ضِدُّ الْبَطِيءِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُمَاطِلُ الْحِسَابَ وَلَا يُؤَخِّرُهُ عِنْدَ حُلُولِ مُقْتَضِيهِ، فَهُوَ عَامٌّ فِي حِسَابِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَلِذَلِكَ كَانَ تَذْيِيلًا.
وَاعْلَمْ أَن هَذَا التمثل الْعَجِيبَ صَالِحٌ لِتَفْرِيقِ أَجْزَائِهِ فِي التَّشْبِيهِ بِأَنْ يَنْحَلَّ إِلَى تَشْبِيهَاتٍ وَاسْتِعَارَاتٍ. فَأَعْمَالُ الْكَافِرِينَ شَبِيهَةٌ بِالسَّرَابِ فِي أَنَّ لَهَا صُورَةَ الْمَاءِ وَلَيْسَتْ بِمَاءٍ، وَالْكَافِرُ يُشْبِهُ الظَّمْآنَ فِي الِاحْتِيَاجِ إِلَى الِانْتِفَاعِ بِعَمَلِهِ. فَفِي قَوْلِهِ: يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ اسْتِعَارَةٌ مُصَرِّحَةٌ، وَخَيْبَةُ الْكَافِرِ عِنْدَ الْحِسَابِ تُشْبِهُ خَيْبَةَ الظَّمْآنِ عِنْدَ مَجِيئِهِ السَّرَابَ فَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ مُصَرِّحَةٌ، وَمُفَاجَأَةُ الْكَافِرِ بِالْأَخْذِ وَالْعَتْلِ مِنْ جُنْدِ اللَّهِ أَوْ بِتَكْوِينِ اللَّهِ تُشْبِهُ مُفَاجَأَةَ مَنْ حَسِبَ أَنَّهُ يَبْلُغُ الْمَاءَ لِلشَّرَابِ فَبَلَغَ إِلَى حَيْثُ تَحَقَّقَ أَنَّهُ لَا مَاءَ فَوَجَدَ عِنْدَ الْمَوْضِعِ الَّذِي بَلَغَهُ مَنْ يَتَرَصَّدُ لَهُ لِأَخْذِهِ أَوْ أَسْرِهِ. فَهُنَا اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ إِذْ شَبَّهَ أَمْرَ اللَّهِ أَوْ مَلَائِكَتَهُ بِالْعَدُوِّ، وَرَمَزَ إِلَى الْعَدُوِّ بِقَوْلِهِ: فَوَفَّاهُ حِسابَهُ. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ وَجَدَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ هِيَ تَعْدِيَةُ الْمجَاز الْعقلِيّ.
[٤٠]
[سُورَة النُّور (٢٤) : آيَة ٤٠]
أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠)
شَأْنُ أَوْ إِذَا جَاءَتْ فِي عَطْفِ التَّشْبِيهَاتِ أَنْ تَدُلَّ عَلَى تَخْيِيرِ السَّامِعِ أَنْ يُشَبَّهَ بِمَا قَبْلَهَا وَبِمَا بَعْدَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩]، أَيْ مَعَ اتِّحَادِ وَجْهِ الشَّبَهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيحُ رَاهِبٍ..........................
وَكَانَ عَرَبُ الْيَمَنِ أَيَّامَئِذٍ مِنْ عَبَدَةِ الشَّمْسِ ثُمَّ دَخَلَتْ فِيهِمُ الدِّيَانَةُ الْيَهُودِيَّةُ فِي زَمَنِ تُبَّعَ أَسْعَدَ مِنْ مُلُوكِ حِمْيَرَ، وَلِكَوْنِهِمْ عَبَدَةَ شَمْسٍ كَانُوا يُسَمَّوْنَ عَبْدَ شَمْسٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي اسْمِ سَبَأٍ.
وَقَدْ جَمَعَ هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي أُلْقِيَ إِلَى سُلَيْمَانَ أُصُولَ الْجُغْرَافِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ مِنْ صِفَةِ الْمَكَانِ وَالْأَدْيَانِ، وَصِبْغَةِ الدَّوْلَةِ وَثَرْوَتِهَا، وَوَقَعَ الِاهْتِمَامُ بِأَخْبَارِ مَمْلَكَةِ سَبَأٍ لِأَنَّ ذَلِكَ أَهَمُّ لِمُلْكِ سُلَيْمَانَ إِذْ كَانَتْ مُجَاوِرَةً لِمَمْلَكَتِهِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا الْبَحْرُ الْأَحْمَرُ، فَأُمُورُ هَذِهِ الْمَمْلَكَةِ أَجْدَى بِعَمَلِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ سَبَإٍ بِالصَّرْفِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَالْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِفَتْحَةٍ غَيْرَ مَصْرُوفٍ عَلَى تَأْوِيلِ الْبِلَادِ أَوِ الْقَبِيلَةِ. وَقَرَأَهُ قُنْبُلُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ عَلَى اعْتِبَارِ الْوَقْفِ إِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ.
وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦).
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْكَلَامِ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَى لِسَانِ الْهُدْهُدِ، فَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَلَامٌ آخَرُ مِنَ الْقُرْآنِ ذُيِّلَ بِهِ الْكَلَامُ الْمُلْقَى إِلَى سُلَيْمَانَ، فَالْوَاوُ لِلِاعْتِرَاضِ بَيْنَ الْكَلَامِ الْمُلْقَى لِسُلَيْمَانَ وَبَيْنَ جَوَابِ سُلَيْمَانَ، وَالْمَقْصُودُ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ.
وَقَوْلُهُ: أَلَّا يَسْجُدُوا قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ مُرَكَّبٌ فِي الْخَطِّ مِنْ (أَنْ) وَ (لَا) النَّافِيَةِ كُتِبَتَا كَلِمَةً وَاحِدَةً اعْتِبَارًا بِحَالَةِ النُّطْقِ بِهَا عَلَى كُلِّ الْمَعَانِي الْمُرَادَّةِ مِنْهَا.
ويَسْجُدُوا فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ. وَيُقَدَّرُ لَامُ جَرٍّ يتَعَلَّق ب فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أَيْ صَدَّهُمْ لِأَجْلِ أَنْ لَا يَسْجُدُوا لِلَّهِ، أَيْ فَسَجَدُوا لِلشَّمْسِ.
ظَهَرَتْ عَلَيْهِ حَرَكَةُ حَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ مَوْجُودًا وَلَكِنَّكُمْ تَدْعُونَ أُمُورًا عَدَمِيَّةً، فَفِيهِ تَحْقِيرٌ لِأَصْنَامِهِمْ بِجَعْلِهَا كَالْعَدَمِ لِأَنَّهَا خُلُوٌّ عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ اللَّائِقَةِ بِالْإِلَهِيَّةِ. فَهِيَ فِي بَابِهَا كَالْعَدَمِ فَلَمَّا شَابَهَتِ الْمَعْدُومَاتِ فِي انْتِفَاءِ الْفَائِدَةِ الْمَزْعُومَةِ لَهَا اسْتُعْمِلَ لَهَا التَّرْكِيبُ الدَّالُّ عَلَى نَفْيِ الْوُجُودِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ. وَلَا يَتَوَهَّمُ السَّامِعُ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ دَعَوْا أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ سَابِقَهُ وَلَاحِقَهُ يَأْبَاهُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١١٣]، ولَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٦٨]،
وَكَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْكُهَّانِ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ،
أَيْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ فِيمَا يَدَّعُونَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْغَيْبِ.
وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ مِنْ عِلْمِهِ تَعَالَى بِأَنَّهَا مَوْجُودَاتٌ كَالْعَدَمِ ضَرَبَ لَهَا مَثَلًا بِبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ وَلِعَبَدَتِهَا مَثَلًا بِالْعَنْكَبُوتِ الَّذِي اتَّخَذَهَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْكَلَامُ صَرِيحٌ فِي إِبْطَالِ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ وَفِي أَنَّهَا كَالْعَدَمِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً مُعَلِّقَةً فِعْلَ يَعْلَمُ عَنِ الْعَمَلِ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ:
عَلِمْتُ هَلْ زِيدٌ قَائِمٌ، أَيْ عَلِمْتُ جَوَابَهُ. ومِنْ بَيَانِيَّةٌ لِمَا فِي مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ مِنَ الْإِبْهَامِ، أَيْ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْمَدْعُوَّاتِ الْعَدِيدَةِ فِي الْأُمَمِ. فَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَعْلَمُونَ جَوَابَ سُؤَالِ السَّائِلِ «مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ»، أَيْ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَمِنْ عِلْمِهِ بِذَلِكَ أَنَّهُ ضَرَبَ لَهُمُ الْمَثَلَ بِالْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا، وَلِلْمَعْبُودَاتِ مَثَلًا بِبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ، وَأَنْتُمْ لَوْ سُئِلْتُمْ: مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لَتَلَعْثَمْتُمْ وَلَمْ تُحِيرُوا جَوَابًا فَإِنَّ شَأْنَ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَفْهَامِ السَّقِيمَةِ أَنْ لَا يَسْتَطِيعَ صَاحِبُهَا بَيَانَهَا بِالْقَوْلِ وَشَرْحَهَا، لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ تَتَأَلَّفُ مِنْ تَصْدِيقَاتٍ غَيْرِ مُتَلَائِمَةٍ لَا يَسْتَطِيعُ صَاحِبُهَا تَقْرِيرَهَا فَلَا يَلْبَثُ قَلِيلًا حَتَّى يَفْتَضِحَ فَاسِدُ مُعْتَقَدِهِ مِنْ تَعَذُّرِ إِفْصَاحِهِ عَنْهُ.
وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يَعْلَمُ هُنَا مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ وَأَنَّهُ بِمَعْنَى (يَعْرِفُ) وَجَعَلَ مَا مَوْصُولَة مفعول يَدْعُونَ والعائذ مَحْذُوفًا، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ إِسْنَادَ الْعِلْمِ بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ وَهُوَ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ إِلَى الله يؤول إِلَى إِسْنَادِ فِعْلِ الْمَعْرِفَةِ إِلَى اللَّهِ بِنَاءً عَلَى إِثْبَاتِ الْفَرْقِ بَيْنَ فِعْلِ (عَلِمَ) وَفِعْلِ (عَرَفَ) عِنْدَ مَنْ
مِنَ التَّمْهِيدِ لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَا يُوَضِّحُ الْمَقْصِدَ بِخِلَافِ التَّمْهِيدِ، فَهَذَا مُقَدِّمَةٌ لِمَا أُمِرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِهِ مِمَّا يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ تَشْرِيعُ الِاعْتِبَارِ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَمَعَانِيهَا، وَأَنَّ مَوَاهِيَ الْأُمُورِ لَا تَتَغَيَّرُ بِمَا يُلْصَقُ بِهَا مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُنَافِيَةِ لِلْحَقَائِقِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْمُلْصَقَاتِ بِالْحَقَائِقِ هِيَ الَّتِي تَحْجُبُ الْعُقُولَ عَنِ التَّفَهُّمِ فِي الْحَقَائِقِ الْحَقِّ، وَهِيَ الَّتِي تَرِينُ عَلَى الْقُلُوبِ بتلبيس الْأَشْيَاء.
وَذكرهَا هُنَا نَوْعَانِ مِنَ الْحَقَائِقِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ حَقَائِقِ الْمُعْتَقَدَاتِ لِأَجْلِ إِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ، وَنَبْذِ الْحَقَائِقِ الْمَصْنُوعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلْوَاقِعِ لِأَنَّ إِصْلَاحَ التَّفْكِيرِ هُوَ مِفْتَاحُ إِصْلَاحِ الْعَمَلِ، وَهَذَا مَا جَعَلَ تَأْصِيلَهُ إِبْطَالَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ جَعَلَ فِي خَلْقِ بَعْضِ النَّاسِ نِظَامًا لَمْ يَجْعَلْهُ فِي خَلْقِ غَيْرِهِمْ.
وَثَانِي النَّوْعَيْنِ: مِنْ حَقَائِقِ الْأَعْمَالِ لِتَقُومَ الشَّرِيعَةُ عَلَى اعْتِبَارِ مَوَاهِي الْأَعْمَالِ بِمَا هِيَ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِلَّا بِالتَّوَهُّمِ وَالِادِّعَاءِ. وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى قَاعِدَةِ أَنَّ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ ثَابِتَةٌ وَهُوَ مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ، أَيْ: لَا يَقُولُ
الْبَاطِلَ مِثْلَ بَعْضِ أَقْوَالِكُمْ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ. وَالْمَقْصُودُ: التَّنْبِيهُ إِلَى بُطْلَانِ أُمُورٍ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ قَدْ زَعَمُوهَا وَادَّعَوْهَا. وَابْتُدِئَ مِنْ ذَلِكَ بِمَا دَلِيلُ بُطْلَانِهِ الْحِسُّ وَالِاخْتِبَارُ لِيُعْلَمَ مِنْ ذَلِكَ أَن الَّذين اخْتلفُوا مَزَاعِمَ يَشْهَدُ الْحِسُّ بِكَذِبِهَا يَهُونُ عَلَيْهِمِ اخْتِلَاقُ مَزَاعِمَ فِيهَا شُبَهٌ وَتَلْبِيسٌ لِلْبَاطِلِ فِي صُورَةِ الْحَقِّ فَيَتَلَقَّى ذَلِكَ بِالْإِذْعَانِ وَالِامْتِثَالِ.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ إِلَى أُكْذُوبَةٍ مِنْ تَكَاذِيبِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ جَمِيلَ بْنَ مَعْمَرِ- وَيُقَالُ: ابْنُ أَسَدٍ- بْنِ حَبِيبٍ الْجُمَحِيَّ الْفِهْرِيَّ- وَكَانَ رَجُلًا دَاهِيَةً قَوِيَّ الْحِفْظِ- أَنَّ لَهُ قَلْبَيْنِ يَعْمَلَانِ وَيَتَعَاوَنَانِ وَكَانُوا يَدْعُونَهُ ذَا الْقَلْبَيْنِ يُرِيدُونَ الْعَقْلَيْنِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّ الْإِدْرَاكَ بِالْقَلْبِ وَأَنَّ الْقَلْبَ مَحَلُّ الْعَقْلِ. وَقَدْ غَرَّهُ ذَلِك أَو تغارر بِهِ فَكَانَ لِشِدَّةِ كُفْرِهِ يَقُولُ: «إِنَّ فِي جَوْفِي قَلْبَيْنِ أَعْمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَلًا أَفْضَلَ مِنْ عَمَلِ مُحَمَّدٍ». وَسَمَّوْا بِذِي
نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمُ الْخَاصَّةَ وَهِيَ النِّعْمَةُ الَّتِي تَخُصُّ كُلَّ وَاحِدٍ بِخَاصَّتِهِ فَيَأْتَلِفُ مِنْهَا مَجْمُوعُ الرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ وَمَا هِيَ إِلَّا بَعْضُ رَحْمَةِ اللَّهِ بِمَخْلُوقَاتِهِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَذَكُّرِ النِّعْمَةِ شُكْرُهَا وَقَدْرُهَا قَدْرَهَا. وَمِنْ أَكْبَرِ تِلْكَ النِّعَمِ نِعْمَةُ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الَّتِي هِيَ وَسِيلَةُ فَوْزِ النَّاسِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَهَا بِالنَّعِيمِ الْأَبَدِيِّ. فَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا التَّذَكُّرُ بِالْقَلْبِ وَبِاللِّسَانِ فَهُوَ مِنْ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ أَوْ مِنْ إِرَادَةِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فَإِنَّ الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ وَالذِّكْرَ بِالْقَلْبِ يَسْتَلْزِمُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَإِلَّا لَكَانَ الْأَوَّلُ هَذَيَانًا وَالثَّانِي كِتْمَانًا. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِاللِّسَانِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ»، أَيْ وَفِي كِلَيْهِمَا فَضْلٌ.
وَوُصِفَتِ النِّعْمَةُ بِ عَلَيْكُمْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّذَكُّرِ التَّذَكُّرُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الشُّكْرُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُطْلَقَ التَّذَكُّرِ بِمَعْنَى الِاعْتِبَارِ وَالنَّظَرِ فِي بَدِيعِ فَضْلِ اللَّهِ، فَذَلِكَ لَهُ مَقَامٌ آخَرُ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ قَدْ تَضَمَّنَ الدَّعْوَةَ إِلَى النَّظَرِ فِي دَلِيلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْفَضْلِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ فِي مَعْنَى النَّفْيِ وَلِذَلِكَ اقْتَرَنَ مَا بَعْدَهُ بِ مِنْ الَّتِي تُزَادُ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَاخْتِيرَ الِاسْتِفْهَامُ بِ هَلْ دُونَ الْهَمْزَةِ لِمَا فِي أَصْلِ مَعْنَى هَلْ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّحْقِيقِ وَالتَّصْدِيقِ لِأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى (قَدْ) وَتُفِيدُ تَأْكِيدَ النَّفْيِ.
وَالِاهْتِمَامُ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ قُدِّمَ فِي الذِّكْرِ قَبْلَ مَا هُوَ فِي قُوَّةِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَجُعِلَ صِفَةً لِ خالِقٍ لِأَنَّ غَيْرُ صَالِحَةٌ لِلِاعْتِبَارَيْنِ وَلِذَلِكَ جَرَتِ الْقِرَاءَاتُ الْمَشْهُورَةُ عَلَى اعْتِبَارِ غَيْرُ هُنَا وَصْفًا لِ خالِقٍ، فجمهور الْقُرَّاء قرأوه بِرَفْعِ غَيْرُ عَلَى اعْتِبَارِ مَحَلِّ خالِقٍ الْمَجْرُورِ بِ مِنْ لِأَنَّ مَحَلَّهُ رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَظْهَرِ الرَّفْعُ لِلِاشْتِغَالِ بِحَرَكَةِ حَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ بِالْجَرِّ عَلَى إِتْبَاعِ اللَّفْظِ دُونَ الْمَحَلِّ. وَهُمَا اسْتِعْمَالَانِ فَصِيحَانِ فِي مِثْلِهِ اهْتَمَّ بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِمَا سِيبَوَيْهِ فِي «كِتَابِهِ».
وَجُمْلَةُ يَرْزُقُكُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَصْفًا ثَانِيًا لِ خالِقٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا.
وَجُعِلَ النَّفْيُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْقَيْدِ وَهُوَ جُمْلَةُ الصِّفَةِ كَمَا هِيَ سُنَّتُهُ فِي الْكَلَامِ الْمُقَيَّدِ
كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [٤٠، ٤١].
وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: سُلَيْمانَ وَالتَّقْدِيرُ:
نِعْمَ الْعَبْدُ سُلَيْمَانُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ أَوَّابٌ تَعْلِيلٌ لِلثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِ نِعْمَ الْعَبْدُ. وَالْأَوَّابُ: مُبَالغَة فِي الآئب أَيْ كَثِيرِ الْأَوْبِ، أَيِ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ بِقَرِينَةِ أَنَّهُ مَادِحُهُ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَوْبِ إِلَى اللَّهِ:
الْأَوْبُ إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، أَيْ إِذَا حَصَلَ لَهُ مَا يُبْعِدُهُ عَنْ ذَلِكَ تَذَكَّرَ فَآبَ، أَيْ فَتَابَ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ آنِفًا فِي ذكر دَاوُد.
[٣١- ٣٣]
[سُورَة ص (٣٨) : الْآيَات ٣١ إِلَى ٣٣]
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣)
يَتَعَلَّقُ إِذْ عُرِضَ ب أَوَّابٌ [ص: ٣٠]. وَتَعْلِيقُ هَذَا الظَّرْفِ بِ أَوَّابٌ تَعْلِيقُ تَعْلِيلٍ لِأَنَّ الظُّرُوفَ يُرَادُ مِنْهَا التَّعْلِيلُ كَثِيرًا لِظُهُورِ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَوَّابٌ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَطْ لِأَنَّ صِيغَةَ أَوَّابٍ تَقْتَضِي الْمُبَالَغَةَ. وَالْأَصْلُ مِنْهَا الْكَثْرَةُ فَتَعَيَّنَ أَنَّ ذِكْرَ قِصَّةٍ مِنْ حَوَادِثِ أَوْبَتِهِ كَانَ لِأَنَّهَا يَنْجَلِي فِيهَا عِظَمُ أَوْبَتِهِ. وَالْعَرْضُ: الْإِمْرَارُ وَالْإِحْضَارُ أَمَامَ الرَّائِي، أَيْ عَرَضَ سُوَاسَ خَيْلِهِ إِيَّاهَا عَلَيْهِ.
وَالْعَشِيُّ: مِنَ الْعَصْرِ إِلَى الْغُرُوبِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٢]. وَذَلِكَ وَقْتُ افْتِقَادِ الْخَيْلِ وَالْمَاشِيَةِ بَعْدَ رَوَاحِهَا مِنْ مَرَاعِيهَا وَمَرَاتِعِهَا. وَذِكْرُ الْعَشِيِّ هُنَا لَيْسَ لِمُجَرَّدِ التَّوْقِيتِ بَلْ لِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ، فَلَيْسَ ذِكْرُ الْعَشِيِّ فِي وَقْعِ هَذِهِ الْآيَةِ كَوَقْعِهِ فِي قَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:
فِي الْحِكَايَةِ عَنِ الشَّيْطَانِ تَمْثِيلُ الْحِرْصِ مَعَ التَّلَهُّفِ تَحْذِيرًا مِنْهُ وَإِثَارَةً لِبُغْضِهِ فِي نُفُوسِ النَّاس.
وأَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ تَفْسِيرٌ لِجُمْلَةِ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ لِتَضَمُّنِ الْمَجِيءِ مَعْنَى الْإِبْلَاغِ بِقَرِينَةِ كَوْنِ فَاعِلِ الْمَجِيءِ مُتَّصِفًا بِأَنَّهُمْ رُسُلٌ، فَتَكُونُ (أَنْ) تَفْسِيرِيَّةً لِ جاءَتْهُمُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ
كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
مُلُوكٌ مِنْ بَنِي جُشَمِ بْنِ بَكْرٍ يُسَاقُونَ الْعَشِيَّةَ يُقْتَلُونَا
إِنْ تَحْمِلَا حَاجَةً لِي خِفٌ مَحْمِلُهَا تَسْتَوْجِبَا مِنَّةً عِنْدِي بِهَا ويدا
أَن تقرءان عَلَى أَسْمَاءَ وَيْحَكُمَا مِنِّي السَّلَامَ وَأَنْ لَا تُشْعِرَا أَحَدًا
إِذْ فَسَّرَ الْحَاجَةَ بِأَنْ يَقْرَأَ السَّلَامَ عَلَى أَسْمَاءَ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْحَاجَةِ الرِّسَالَةَ، وَهَذَا جَرْيٌ عَلَى رَأْيِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَالْمُحَقِّقِينَ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ تَقَدُّمِ جُمْلَةٍ فِيهَا مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ بَلِ الِاكْتِفَاءُ بِتَقَدُّمِ مَا أُرِيدَ بِهِ مَعْنَى الْقَوْلِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جُمْلَةً خِلَافًا لِمَا أَطَالَ بِهِ صَاحِبُ «مُغْنِي اللَّبِيبِ» مِنْ أَبْحَاثٍ لَا يَرْضَاهَا الْأَرِيبُ، أَوْ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ عُنْوَانُ الرُّسُلُ مِنْ إِبْلَاغِ رِسَالَةٍ.
قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ حِكَايَةُ جَوَابِ عَادٍ وَثَمُودَ لِرَسُولَيْهِمْ فَقَدْ كَانَ جَوَابًا متماثلا لِأَنَّهُ ناشىء عَنْ تَفْكِيرٍ مُتَمَاثِلٍ وَهُوَ أَنَّ تَفْكِيرَ الْأَذْهَانِ الْقَاصِرَةِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُبْنَى عَلَى تَصَوُّرَاتٍ وَهْمِيَّةٍ وَأَقْيِسَةٍ تَخْيِيلِيَّةٍ وَسُفِسْطَائِيَّةٍ، فَإِنَّهُمْ يَتَصَوَّرُونَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَفْعَالَهُ عَلَى غَيْرِ كُنْهِهَا وَيَقِيسُونَهَا عَلَى أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلِذَلِكَ يَتَمَاثَلُ فِي هَذَا حَالُ أَهْلِ الْجَهَالَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات: ٥٢، ٥٣]، أَيْ بَلْ هُمْ مُتَمَاثِلُونَ فِي الطُّغْيَانِ، أَيِ الْكُفْرِ الشَّدِيدِ فَتُمْلِي عَلَيْهِمْ أَوْهَامُهُمْ قَضَايَا مُتَمَاثِلَةً.
وَلِكَوْنِ جَوَابِهِمْ جَرَى فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ أَتَتْ حِكَايَةُ قَوْلِهِمْ غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ بِأُسْلُوبِ الْمُقَاوَلَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: ٣٠]
وَجِيءَ فِي قَوْلِهِ: وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ بِالْمُسْنِدِ إِلَيْهِ مُخْبَرًا عَنْهُ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ التَّقَوِّي فِي نَفْيِ الْحُزْنِ عَنْهُمْ، فَالتَّقَوِّي أَفَادَ تَقَوِّيِ النَّفْيِ لَا نَفْيَ قُوَّةِ الْحُزْنِ الصَّادِقِ بِحُزْنٍ غَيْرِ قَوِيٍّ. هَذَا هُوَ طَرِيقُ الِاسْتِعْمَالِ فِي نَفْسِ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: ٤٦]، تَطْمِينًا لِأَنْفُسِهِمْ بِانْتِفَاءِ الْحُزْنِ عَنْهُمْ فِي أَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلِ، إِذْ قَدْ يَهْجِسُ بِخَوَاطِرِهِمْ هَلْ يَدُومُ لَهُمُ الْأَمْنُ الَّذِي هُمْ فِيهِ.
وَجُمْلَةُ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا نَعْتٌ لِلْمُنَادَى مِنْ قَوْله: يَا عِبادِ جِيءَ فِيهَا بِالْمَوْصُولِ لِدَلَالَةِ الصِّلَةِ عَلَى عِلَّةِ انْتِفَاءِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْهُمْ، وَعُطِفَ عَلَى الصِّلَةِ قَوْلُهُ:
وَكانُوا مُسْلِمِينَ. وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ الصِّلَتَيْنِ إِذْ كَانَتْ أُولَاهُمَا فِعْلًا مَاضِيًا وَالثَّانِيَةُ فِعْلَ كَوْنٍ مُخْبَرًا عَنْهُ بَاسِمِ فَاعِلٍ لِأَنَّ الْإِيمَانَ: عَقْدُ الْقَلْبِ يَحْصُلُ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَهُوَ الْإِتْيَانُ بِقَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ الْخَمْسِ كَمَا جَاءَ تَفْسِيرُهُ فِي حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ، فَهُوَ مَعْرُوضٌ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ النَّفْسِ فَلِذَلِكَ أُوثِرَ بِفِعْلِ (كَانَ) الدَّالِّ عَلَى اتِّحَادِ خَبَرِهِ بِاسْمِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ مِنْ قِوَامِ كِيَانِهِ.
وَعَطَفَ أَزْوَاجَهُمْ عَلَيْهِمْ فِي الْإِذْنِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ التَّمَتُّعِ بِالْخُلَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِمْ فِي الدُّنْيَا.
وتُحْبَرُونَ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ مُضَارِعُ حُبِرَ بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَفِعْلُهُ حَبَرَهُ، إِذَا سَرَّهُ، وَمَصْدَرُهُ الْحَبْرُ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَالِاسْمُ الْحُبُورُ وَالْحَبْرَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ فِي سُورَةِ الرُّومِ [١٥].
وَجُمْلَةُ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ إِلَخْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقَوْلِ فَلَيْسَ فِي ضَمِيرِ
عَلَيْهِمْ الْتِفَاتٌ بَلِ الْمَقَامُ لِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ.
والصحاف: جمع صَحْفَة، وَهِي: إِنَاءٌ مُسْتَدِيرٌ وَاسِعُ الْفَمِ يَنْتَهِي أَسْفَلُهُ بِمَا يُقَارب التكوير. والصحفة: إِنَاءٌ لِوَضْعِ الطَّعَامِ أَوِ الْفَاكِهَةِ مِثْلُ صِحَافِ الْفَغْفُورِيِّ الصِّينِيِّ تَسَعُ شِبَعَ خَمْسَةٍ، وَهِيَ دُونُ الْقَصْعَةِ الَّتِي تَسَعُ شِبَعَ عشرَة. وَقد ورد أَن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابَ اتَّخَذَ صِحَافًا عَلَى عَدَدِ أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُؤْتَى إِلَيْهِ بِفَاكِهَةٍ أَوْ طُرْفَةٍ إِلَّا أَرْسَلَ إِلَيْهِنَّ مِنْهَا فِي تِلْكَ الصِّحَافِ.
مِنَ الْكَيْدِ وَالتَّطَلُّعِ عَلَى الْعَوْرَاتِ. وَقَدْ يَرَى الْمُتَجَسِّسُ مِنَ الْمُتَجَسَّسِ عَلَيْهِ مَا يَسُوءُهُ فَتَنْشَأُ عَنْهُ الْعَدَاوَةُ وَالْحِقْدُ. وَيَدْخُلُ صَدْرَهُ الْحَرَجُ وَالتَّخَوُّفُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ ضَمَائِرُهُ خَالِصَةً طَيِّبَةً وَذَلِكَ مِنْ نَكَدِ الْعَيْشِ.
وَذَلِكَ ثَلْمٌ لِلْأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِأَنَّهُ يَبْعَثُ عَلَى إِظْهَارِ التَّنَكُّرِ ثُمَّ إِنِ اطَّلَعَ الْمُتَجَسَّسُ عَلَيْهِ عَلَى تَجَسُّسِ الْآخَرِ سَاءَهُ فَنَشَأَ فِي نَفْسِهِ كُرْهٌ لَهُ وَانْثَلَمَتِ الْأُخُوَّةُ ثُلْمَةٌ أُخْرَى كَمَا وَصَفْنَا فِي حَالِ الْمُتَجَسِّسِ، ثُمَّ يَبْعَثُ ذَلِكَ عَلَى انْتِقَامِ كِلَيْهِمَا مِنْ أَخِيهِ.
وَإِذْ قَدِ اعْتُبِرَ النَّهْيُ عَنِ التَّجَسُّسِ مِنْ فُرُوعِ النَّهْيِ عَنِ الظَّنِّ فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالتَّجَسُّسِ الَّذِي هُوَ إِثْمٌ أَوْ يُفْضِي إِلَى الْإِثْمِ، وَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ عَامَّةٌ صَارَ التَّجَسُّسُ كَبِيرَةً.
وَمِنْهُ التَّجَسُّسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِمَنْ يَبْتَغِي الضُّرَّ بِهِمْ.
فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ التَّجَسُّسُ الَّذِي لَا يَنْجَرُّ مِنْهُ نَفَعٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ دَفْعُ ضُرٍّ عَنْهُمْ فَلَا
يَشْمَلُ التَّجَسُّسَ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَلَا تَجَسُّسَ الشُّرَطِ عَلَى الْجُنَاةِ وَاللُّصُوصِ.
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ.
الِاغْتِيَابُ: افْتِعَالٌ مِنْ غَابَهُ الْمُتَعَدِّي، إِذَا ذَكَرَهُ فِي غَيْبِهِ بِمَا يَسُوءُهُ.
فَالِاغْتِيَابُ ذِكْرُ أَحَدٍ غَائِبٍ بِمَا لَا يُحِبُّ أَنْ يُذْكَرَ بِهِ، وَالِاسْمُ مِنْهُ الْغِيبَةُ بِكَسْرِ الْغَيْنِ مِثْلَ الْغِيلَةِ. وَإِنَّمَا يَكُونُ ذِكْرُهُ بِمَا يَكْرَهُ غِيبَةً إِذَا لَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرَهُ بِهِ مِمَّا يَثْلِمُ الْعِرْضَ وَإِلَّا صَارَ قَذْعًا.
وَإِنَّمَا قَالَ: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً دُونَ أَنْ يَقُولَ: اجْتَنِبُوا الْغَيْبَةَ. لِقَصْدِ التَّوْطِئَةِ لِلتَّمْثِيلِ الْوَارِدِ فِي قَوْلِهِ: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ التَّمْثِيلُ مُشْتَمِلًا عَلَى جَانِبِ فَاعِلِ الِاغْتِيَابِ وَمَفْعُولِهِ مَهَّدَ لَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَاتَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ التَّمْثِيلَ وُضُوحًا.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً تَقْرِيرِيٌّ لِتَحَقُّقِ أَنَّ
وَإِكْرَامَهُ، وَقَدْ دَخَلَ فِي الْجَلَالِ جَمِيعُ الصِّفَاتِ الرَّاجِعَةِ إِلَى التَّنْزِيهِ عَنِ النَّقْصِ وَفِي الْإِكْرَامِ جَمِيعُ صِفَاتِ الْكَمَالِ الْوُجُودِيَّةِ وَصِفَاتِ الْجَمَالِ كَالْإِحْسَانِ.
وَتَفْرِيعُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ إِنَّمَا هُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ كَمَا عَلِمَتْ مِنْ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مُعَامَلَةَ خَلْقِهِ مُعَامَلَةَ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا تَصْدُرُ عَنْهُ السَّفَاسِفُ، الْكَرِيمُ الَّذِي لَا يَقْطَعُ إِنْعَامَهُ، وَذَلِكَ مِنَ الآلاء الْعَظِيمَة.
[٢٨]
[سُورَة الرَّحْمَن (٥٥) : آيَة ٢٨]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨)
تَكْرِيرٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا الْمَوْقِعُ يُنَادِي عَلَى أَنَّ لَيْسَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا لِجُمْلَةِ كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرَّحْمَن: ٢٦]، وَلَا أَنَّ جُمْلَةَ كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ تَتَضَمَّنُ نِعْمَةً إِذْ لَيْسَ فِي الفناء نعْمَة.
[٢٩]
[سُورَة الرَّحْمَن (٥٥) : آيَة ٢٩]
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩)
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
اسْتِئْنَافٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ النَّاسَ تَنْقَرِضُ مِنْهُمْ أَجْيَالٌ وَتَبْقَى أَجْيَالٌ وَكَلُّ بَاقٍ مُحْتَاجٌ إِلَى أَسْبَابِ بَقَائِهِ وَصَلَاحِ أَحْوَالِهِ فَهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى الَّذِي لَا يَفْنَى وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِمْ. وَلَمَّا أَفْضَى الْإِخْبَارُ إِلَى حَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ تَعَالَى أَتْبَعَ بِأَنَّ الْاِحْتِيَاجَ عَامٌّ أَهْلَ الْأَرْضِ وَأَهْلَ السَّمَاءِ. فَالْجَمِيعُ يَسْأَلُونَهُ، فَسُؤَالُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ وَيَسْأَلُونَ رِضَى اللَّهُ تَعَالَى، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَهُمُ الْبَشَرُ يَسْأَلُونَهُ نِعَمَ الْحَيَاةِ وَالنَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ وَرَفْعَ الدَّرَجَاتِ فِي الْآخِرَةِ. وَحذف مفعول يَسْئَلُهُ لِإِفَادَةِ التَّعْمِيمِ، أَيْ يَسْأَلُونَهُ حَوَائِجَهُمْ وَمَهَامِّهِمْ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا.
كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ.
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ النصب فِي يَسْئَلُهُ أَوْ تذييلا لجملة يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْن من الشؤون
وَانْتَصَبَ فِعْلُ فَأَصَّدَّقَ عَلَى إِضْمَارِ (أَنَّ) الْمَصْدَرِيَّةِ إِضْمَارًا وَاجِبًا فِي جَوَابِ الطَّلَبِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَكُنْ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْقُرَّاءُ.
فَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَرَأُوهُ مَجْزُومًا بِسُكُونِ آخِرِهِ عَلَى اعْتِبَارِهِ جَوَابًا لِلطَّلَبِ مُبَاشَرَةً لِعَدَمِ وُجُودِ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ فِيهِ، وَاعْتِبَارِ الْوَاوِ عَاطِفَةً جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ وَلَيْسَتْ عَاطِفَةً مُفْرَدًا عَلَى مُفْرَدٍ. وَذَلِكَ لِقَصْدِ تَضْمِينِ الْكَلَامِ مَعْنَى الشَّرْطِ زِيَادَةً عَلَى مَعْنَى التَّسَبُّبِ فَيُغْنِي الْجَزْمُ عَنْ فِعْلِ شَرْطِ. فَتَقْدِيرُهُ: إِنْ تُؤَخِّرْنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ، جَمْعًا بَيْنَ التَّسَبُّبِ الْمُفَادِ بِالْفَاءِ، وَالتَّعْلِيقِ الشُّرْطِيِّ الْمُفَادِ بِجَزْمِ الْفِعْلِ.
وَإِذَا قَدْ كَانَ الْفِعْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْفِعْلَيْنِ الْوَاقِعِ أَحَدُهُمَا بَعْدَ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ وَالْآخَرُ بَعْدَ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ عَلَيْهِ. فَقَدْ أَفَادَ الْكَلَامُ التَّسَبُّبَ وَالتَّعْلِيقَ فِي كِلَا الْفِعْلَيْنِ وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى مُحَسِّنِ الِاحْتِبَاكِ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُونَ مِنَ الصَّالِحِينَ. إِنْ تُؤَخِّرْنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ أَصَّدَّقْ وَأُكِنْ مِنَ الصَّالِحِينَ.
وَمِنْ لَطَائِفِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ أَنَّ هَذَا السَّائِلَ بَعْدَ أَنْ حَثَّ سُؤَالَهُ أَعْقَبَهُ بِأَنَّ الْأَمْرَ مُمْكِنٌ فَقَالَ: إِنْ تُؤَخِّرْنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ أَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَهُوَ مِنْ بَدَائِعِ
الِاسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِيِّ لِقَصْدِ الْإِيجَازِ وَتَوْفِيرِ الْمَعَانِي.
وَوَجَّهَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَالزُّجَاجُ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ بِجَعْلِ وَأَكُنْ مَعْطُوفًا عَلَى مَحَلِّ فَأَصَّدَّقَ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ مِنْ بَيْنِ الْعَشَرَةِ وَأَكُونَ بَالنَّصْبِ وَالْقِرَاءَةُ رِوَايَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ وَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِرَسْمِ الْمَصَاحِفِ الْمُتَوَاتِرَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا يُوَافِقُهَا رَسْمُ مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَقَرَأَ بِذَلِكَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ مَحِيضٍ مِنَ الْقِرَاءَاتِ غَيْرِ الْمَشْهُورَةِ، وَرُوِيَتْ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَأَبِي رَجَاءٍ. وَتلك أَقَلُّ شُهْرَةٍ.
وَاعْتَذَرَ أَبُو عَمْرٍو عَنْ مُخَالَفَةِ قِرَاءَتِهِ لِلْمَصَحِفِ بِأَنَّ الْوَاوَ حُذِفَتْ فِي الْخَطِّ اخْتِصَارًا يُرِيدُ أَنَّهُمْ حَذَفُوا صُورَةَ إِشْبَاعِ الضَّمَّةِ وَهُوَ الْوَاوُ اعْتِمَادًا عَلَى نُطْقِ الْقَارِئِ
وَلَعَلَّ سَبَبَ هَذَا الِاضْطِرَابِ اخْتِلَاط فِي الرِّوَايَات بَيْنَ فَرْضِ قِيَامِ اللَّيْلِ وَبَيْنَ التَّرْغِيبِ فِيهِ.
وَنَسَبَ الْقُرْطُبِيُّ إِلَى «تَفْسِيرِ الثَّعْلَبِيِّ» قَالَ: قَالَ النَّخَعِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَزَمِّلًا بِقَطِيفَةِ عَائِشَةَ، وَهِيَ مِرْطٌ نِصْفُهُ عَلَيْهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ وَنِصْفُهُ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي
اهـ، وَإِنَّمَا بَنَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَائِشَةَ فِي الْمَدِينَةِ، فَالَّذِي نَعْتَمِدُ عَلَيْهِ أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ نَزَلَ بِمَكَّةَ لَا مَحَالَةَ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: ٥]، وَأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ سِنِينَ مِنْ نُزُولِ أَوَّلِ السُّورَةِ لِأَنَّ فِيهِ نَاسِخًا لِوُجُوبِ قِيَامِ اللَّيْلِ وَأَنَّهُ نَاسِخٌ لِوُجُوبِ قيام اللَّيْل على النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ مَا رَوَوْهُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَوَّلَ مَا فُرِضَ قِيَامُ اللَّيْلِ قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَاةِ غَرِيبٌ.
وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ قَالَا: إِنَّ آيَتَيْنِ وَهُمَا وَاصْبِرْ
عَلى مَا يَقُولُونَ
إِلَى قَوْلِهِ: وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: ١٠، ١١] نَزَلَتَا بِالْمَدِينَةِ.
وَاخْتُلِفَ فِي عَدِّ هَذِهِ السُّورَةِ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ، وَالْأَصَحُّ الَّذِي تَضَافَرَتْ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ: أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ سُورَةُ الْعَلَقِ وَاخْتُلِفَ فِيمَا نَزَلَ بَعْدَ سُورَةِ الْعَلَقِ، فَقِيلَ سُورَةُ ن وَالْقَلَمِ، وَقِيلَ نَزَلَ بَعْدَ الْعَلَقِ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ الْأَرْجَحُ ثُمَّ قِيلَ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ بَعْدَ الْقَلَمِ فَتَكُونُ ثَالِثَةً. وَهَذَا قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ فِي تَعْدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُدَّثِّرَ هِيَ الثَّانِيَةُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْقَلَمُ ثَالِثَةً وَالْمُزَّمِّلُ رَابِعَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْمُزَّمِّلُ هِيَ الثَّالِثَةَ وَالْقَلَمُ رَابِعَةً، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُدَّثِّرَ نَزَلَتْ قَبْلَ الْمُزَّمِّلِ، وَهُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ مَا فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْآتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ الْآيَة.
وعدة آيُهَا فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ثَمَانِ عَشْرَةَ آيَةً، وَفِي عَدِّ أَهْلِ الْبِصْرَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ وَفِي عَدِّ مَنْ عَدَاهُمْ عِشْرُونَ.
أَغْرَاضُهَا
الْإِشْعَارُ بِمُلَاطَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنِدَائِهِ بِوَصْفِهِ بِصِفَةِ تَزَمُّلِهِ.
وَجَاءَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ [الْوَاقِعَة: ٧٧، ٧٨] وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ، وَالْكِتَابَ الْمَكْنُونَ شَيْءٌ وَاحِدٌ.
وَأَمَّا الْمَحْفُوظُ وَالْمَكْنُونُ فَبَيْنَهُمَا تَغَايُرٌ فِي الْمَفْهُومِ وَعُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ فِي الْوُقُوعِ، فالمحفوظ: المصون عَن كُلِّ مَا يَثْلِمُهُ وَيَنْقُصُهُ وَلَا يَلِيقُ بِهِ وَذَلِكَ كَمَالٌ لَهُ.
وَالْمَكْنُونُ: الَّذِي لَا يُبَاحُ تَنَاوُلُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ وَذَلِكَ لِلْخَشْيَةِ عَلَيْهِ لِنَفَاسَتِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ حَدِيثٌ صَحِيحٌ فِي ذِكْرِ اللَّوْحِ وَلَا فِي خَصَائِصِهِ وَكُلُّ مَا هُنَالِكَ أَقْوَالٌ مَعْزُوَّةٌ لِبَعْضِ السَّلَفِ لَا تُعْرَفُ أَسَانِيدُ عَزْوِهَا.
وَوَرَدَ أَنَّ الْقَلَمَ أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الْأَبَدِ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ اهـ.
وَخَلْقُ الْقَلَمِ لَا يَدُلُّ عَلَى خَلْقِ اللَّوْحِ لِأَنَّ الْقَلَمَ يَكْتُبُ فِي اللَّوْحِ وَفِي غَيْرِهِ.
وَالْمَجِيدُ: الْعَظِيمُ فِي نَوْعِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج: ١٥] وَمُجِّدَ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَأَكْثَرُهَا مَعَانِيَ وَهَدْيًا وَوَعْظًا، وَيَزِيدُ عَلَيْهَا بِبَلَاغَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَإِعْجَازِهِ الْبَشَرَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ.
وَوَقَعَ فِي «التَّعْرِيفَاتِ» لِلسَّيِّدِ الْجُرْجَانِيِّ: أَنَّ الْأَلْوَاحَ أَرْبَعَةٌ:
أَوَّلُهَا: لَوْحُ الْقَضَاءِ السَّابِقُ عَلَى الْمَحْوِ وَالْإِثْبَاتِ وَهُوَ لَوْحُ الْعَقْلِ الْأَوَّلِ.
الثَّانِي: لَوْحُ الْقَدَرِ أَيِ النَّفْسُ النَّاطِقَةُ الْكُلِّيَّةُ وَهُوَ الْمُسَمَّى اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ.
الثَّالِثُ: لَوْحُ النَّفْسِ الْجُزْئِيَّةِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي يُنْتَقَشُ فِيهَا كُلُّ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ بِشَكْلِهِ وَهَيْئَتِهِ وَمِقْدَارِهِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا.
الرَّابِعُ: لَوْحُ الْهَيُولَى الْقَابِلُ لِلصُّورَةِ فِي عَالَمِ الشَّهَادَة اهـ.
وَهَذَا اصْطِلَاحٌ مَخْلُوطٌ بَيْنَ التَّصَوُّفِ وَالْفَلْسَفَةِ. وَلَعَلَّهُ مِمَّا اسْتَقْرَاهُ السَّيِّدُ مِنْ كَلَامِ
عِدَّةِ عُلَمَاءَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَحْفُوظٍ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ لَوْحٍ وَحِفْظُ اللَّوْحِ الَّذِي فِيهِ الْقُرْآنُ كِنَايَةٌ عَنْ حِفْظِ الْقُرْآنِ.


الصفحة التالية
Icon