الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّ الْفَائِدَةَ ظَاهِرَةٌ، فَوَجْهُ الْإِخْبَارِ بِقَوْلِهِمْ مِنَ النَّاسِ فِي نَحْوِ الْآيَةِ وَنَحْوِ قَوْلِ بَعْضِ أَعِزَّةِ الْأَصْحَابِ فِي تَهْنِئَةٍ لِي بِخُطَّةِ الْقَضَاءِ:
فِي النَّاسِ مَنْ أَلْقَى قِلَادَتَهَا إِلَى | خَلَفٍ فَحَرَّمَ مَا ابْتَغَى وَأَبَاحَا |
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ»
وَقَدْ كَثُرَ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ لِأَنَّ فِي تَقْدِيمِهِ تَنْبِيهًا لِلسَّامِعِ عَلَى عَجِيبِ مَا سَيُذْكَرُ، وَتَشْوِيقًا لِمَعْرِفَةِ مَا يَتِمُّ بِهِ الْإِخْبَارُ وَلَوْ أُخِّرَ لَكَانَ مَوْقِعُهُ زَائِدًا لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُتَكَلِّمُ لَا يَقَعُ إِلَّا مِنْ إِنْسَانٍ كَقَوْلِ مُوسَى بْنِ جَابِرٍ الْحَنَفِيِّ:
وَمِنَ الرِّجَالِ أَسِنَّةٌ مَذْرُوبَةٌ | وَمُزَنَّدُونَ وَشَاهِدٌ كَالْغَائِبِ |
وَفِي النَّاسِ إِنْ رَثَّتْ حِبَالُكَ وَاصِلُ | وَفِي الْأَرْضِ عَنْ دَارِ الْقِلَى مُتَحَوَّلُ |
فَذِكْرُ مِنَ النَّاسِ وَنَحْوِهِ فِي مِثْلِ هَذَا وَارِدٌ عَلَى أَصْلِ الْإِخْبَارِ، وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ هُنَا لِلتَّشْوِيقِ إِلَى اسْتِعْلَامِ الْمُبْتَدَأِ وَلَيْسَ فِيهِ إِفَادَةُ تَخْصِيصٍ. وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ قَوْلَهُ مِنَ النَّاسِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ سَتُسَاقُ فِي شَأْنِهِمْ قِصَّةٌ مَذْمُومَةٌ وَحَالَةٌ شَنِيعَةٌ إِذْ لَا يُسْتَرُ ذِكْرُهُمْ إِلَّا لِأَنَّ حَالَهُمْ مِنَ الشناعة بِحَيْثُ يستحي الْمُتَكَلِّمُ أَنْ يُصَرِّحَ بِمَوْصُوفِهَا وَفِي ذَلِكَ مِنْ تَحْقِيرِ شَأْنِ النِّفَاقِ وَمَذَمَّتِهِ أَمْرٌ كَبِيرٌ، فَوَرَدَتْ فِي شَأْنِهِمْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً نُعِيَ عَلَيْهِمْ فِيهَا خُبْثُهُمْ وَمَكْرُهُمْ، وَسُوءُ عَوَاقِبِهِمْ،
وَالْفَوْقِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَعْنَى الظُّهُورِ وَالِانْتِصَارِ، وَهِيَ فَوْقِيَّةٌ دُنْيَوِيَّةٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ.
وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ اتَّبَعُوهُ: الْحَوَارِيُّونَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، إِلَى أَنْ نُسِخَتْ شَرِيعَتُهُ بِمَجِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَجُمْلَةُ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِذْ مَضْمُونُ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ مِنْ شَأْنِ جَزَاءِ اللَّهِ مُتَّبِعِي عِيسَى وَالْكَافِرِينَ بِهِ. وَثمّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ الْجَزَاءَ الْحَاصِلَ عِنْدَ مَرْجِعِ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَعَ مَا يُقَارِنُهُ مِنَ الْحُكْمِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، أَعْظَمُ دَرَجَةً وَأَهَمُّ مِنْ جَعْلِ مُتَّبِعِي عِيسَى فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الدُّنْيَا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مِمَّا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ عِيسَى، وَأَنَّ ضَمِيرَ مَرْجِعُكُمْ، وَمَا مَعَهُ مِنْ ضَمَائِرِ الْمُخَاطَبِينَ، عَائِدٌ إِلَى عِيسَى وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، فَتَكُونَ ثُمَّ لِلِانْتِقَالِ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ، زِيَادَةً عَلَى التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ وَالتَّرَاخِي الزَّمَنِيِّ.
وَالْمَرْجِعُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مَعْنَاهُ الرُّجُوعُ. وَحَقِيقَةُ الرُّجُوعِ غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ هُنَا فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ رُجُوعٌ مَجَازِيٌّ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْبَعْثَ لِلْحِسَابِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ بِلَفْظِهِ وَبِمُرَادِفِهِ نَحْوَ الْمَصِيرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ انْتِهَاءُ إِمْهَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فِي أَجَلٍ أَرَادَهُ فَيَنْفُذُ فِيهِمْ مُرَادُهُ فِي الدُّنْيَا.
وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ بِاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَجَازَيْهِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِجَمْعِ الْعَذَابَيْنِ فِي قَوْلِهِ: فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يَجْرِي تَفْسِيرُ حُكْمِ اللَّهِ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. وَقَوْلُهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ إِلَى قَوْله فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ تَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي قَوْلِهِ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.
وَقَوْلُهُ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي حَيِّزِ تَفْصِيلِ الضَّمَائِرِ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
لِيَكُونَ كَالْعُنْوَانِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: وَلِكُلٍّ مِنْ أَبَوَيْهِ السُّدُسُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ السَّابِقِ: فِي أَوْلادِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
[النِّسَاء: ١١].
وَقَوْلُهُ: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ زَادَهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاقْتِصَارِ أَيْ: لَا غَيْرُهُمَا، لِيُعْلَمَ مِنْ قَوْلِهِ:
فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ أَنَّ لِلْأَبِ الثُّلُثَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الْأُمِّ صَاحِبُ فَرْضٍ لَا تَحْجُبُهُ كَانَ عَلَى فَرْضِهِ مَعَهَا وَهِيَ عَلَى فَرْضِهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ وَزَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
لِلزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ فَرْضُهُمَا وَلِلْأُمِّ ثُلُثُهَا وَمَا بَقِيَ لِلْأَبِ، حَمْلًا عَلَى قَاعِدَةِ تَعَدُّدِ أَهْلِ الْفُرُوضِ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَرْضُهُ وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ وَمَا بَقِيَ لِلْأَبِ، لِئَلَّا تَأْخُذَ الْأُمُّ أَكْثَرَ مِنَ الْأَبِ فِي صُورَةِ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ، وَعَلَى قَوْلِ زَيْدٍ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَفِي «سُنَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ» : أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَرْسَلَ إِلَى زَيْدٍ «أَيْنَ تُجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ثُلُثَ مَا بَقِيَ» فَأَجَابَ زَيْدٌ «إِنَّمَا أَنْتَ رَجُلٌ تَقُولُ بِرَأْيِكَ وَأَنَا أَقُولُ بِرَأْيِي».
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ لِلْأَبِ مَعَ الْأُمِّ الثُّلُثَيْنِ، وَتُرِكَ ذِكْرُهُ لِأَنَّ مَبْنَى الْفَرَائِضِ عَلَى أَنَّ مَا بَقِيَ بِدُونِ فَرْضٍ يَرْجِعُ إِلَى أَصْلِ الْعِصَابَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَلِأُمِّهِ- بِضَمِّ همزَة أمّه-، وقرأه حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- اتِّبَاعًا لِكَسْرَةِ اللَّامِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ أَيْ إِنْ كَانَ إِخْوَةٌ مَعَ الْأَبَوَيْنِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْإِخْوَةَ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ فَيَنْقُلُونَهَا مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ. وَالْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ صِيغَةُ جَمْعٍ فَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّهَا لَا يَنْقُلُهَا إِلَى السُّدُسِ إِلَّا جَمَاعَةٌ مِنَ الْإِخْوَةِ ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا ذُكُورًا أَوْ مُخْتَلِطِينَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيمَا دُونَ الْجَمْعِ، وَمَا إِذَا كَانَ الْإِخْوَةُ إِنَاثًا: فَقَالَ الْجُمْهُورُ الْأَخَوَانِ يَحْجُبَانِ الْأُمَّ، وَالْأُخْتَانِ أَيْضًا، وَخَالَفَهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْآيَةِ. أَمَّا الْأَخُ الْوَاحِدُ أَوِ الْأُخْتُ فَلَا يَحْجُبُ الْأُمَّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحُكْمِهِ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي السُّدُسِ الَّذِي يَحْجُبُ الْإِخْوَةُ عَنْهُ الْأُمَّ: هَلْ يَأْخُذُهُ الْإِخْوَةُ أَمْ يَأْخُذُهُ الْأَبُ، فَقَالَ بِالْأَوَّلِ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَقَالَ بِالثَّانِي الْجُمْهُورُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَاجِبَ قَدْ يَكُونُ مَحْجُوبًا.
وَكَيْفَمَا كَانَ فَقَدِ اعْتَبَرَ اللَّهُ لِلْإِخْوَةِ حَظًّا
وَفِي تَعْلِيقِ الْإِنْزَالِ بِأَنَّهُ مِنَ الرَّبِّ تَشْرِيفٌ لِلْمُنَزَّلِ.
وَالْإِتْيَانُ بِلَفْظِ الرَّبِّ هُنَا دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِمَا فِي التَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ رَبُّهُ مِنْ مَعْنَى كَرَامَتِهِ، وَمِنْ مَعْنَى أَدَاءِ مَا أَرَادَ إِبْلَاغَهُ، كَمَا يَنْبَغِي مِنَ التَّعْجِيلِ وَالْإِشَاعَةِ وَالْحَثِّ عَلَى تَنَاوُلِهِ وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ.
وَعَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ مَأْمُورٌ بِتَبْلِيغِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ كُلِّهِ، بِحَيْثُ لَا يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَبْقَى شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ لَمْ يُبَلِّغْهُ. لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهُ لَمْ يُبَلِّغْهُ لَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَقَعْ تَبْلِيغُهُ، وَإِذْ قَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمْنَا أَنَّ مِنْ أَهَمِّ مَقَاصِدِهَا أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ قَطْعَ تَخَرُّصِ مَنْ قَدْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الرَّسُولَ قَدِ اسْتَبْقَى شَيْئًا لَمْ يُبَلِّغْهُ، أَوْ أَنَّهُ قَدْ خَصَّ بَعْضَ النَّاسِ بِإِبْلَاغِ شَيْءٍ مِنَ الْوَحْيِ لَمْ يُبَلِّغْهُ لِلنَّاسِ عَامَّةً. فَهِيَ أَقْطَعُ آيَةٍ لِإِبْطَالِ قَوْلِ الرَّافِضَةِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ أَكْثَرُ مِمَّا هُوَ فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي جَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَنَسَخَهُ عُثْمَانُ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ اخْتَصَّ بِكَثِيرٍ من الْقُرْآن عليّا بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأَنَّهُ أَوْرَثَهُ أَبْنَاءَهُ وَأَنَّهُ يَبْلُغُ وِقْرَ بَعِيرٍ، وَأَنَّهُ الْيَوْمَ مُخْتَزَنٌ عِنْدَ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ الَّذِي يُلَقِّبُهُ بَعْضُ الشِّيعَةِ بِالْمَهْدِيِّ الْمُنْتَظَرِ وَبِالْوَصِيِّ.
وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَوْهَامِ أَلَمَّتْ بِأَنْفُسِ بَعْضِ الْمُتَشَيِّعِينَ إِلَى عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي مُدَّةِ
حَيَاتِهِ، فَدَعَا ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى سُؤَالِهِ عَنْ ذَلِكَ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ أَبَا جُحَيْفَةَ سَأَلَ عَلِيًّا: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَمَا لَيْسَ عِنْدَ النَّاسِ، فَقَالَ: «لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا عِنْدَنَا إِلَّا مَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فَهْمًا يُعْطَى رَجُلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ، قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ، قَالَ: الْعَقْلُ، وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ».
وَحَدِيثُ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ الّذي سَنذكرُهُ ينبىء بِأَنَّ هَذَا الْهَاجِسَ قَدْ ظَهَرَ بَيْنَ الْعَامَّةِ فِي زَمَانِهَا. وَقَدْ يَخُصُّ الرَّسُولُ بَعْضَ النَّاسِ بِبَيَانِ شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ إِلَيْهِ لِحَاجَةٍ دَعَتْ إِلَى تَخْصِيصِهِ، كَمَا كَتَبَ إِلَى عَلِيٍّ بِبَيَانِ الْعَقْلِ، وَفِكَاكِ الْأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمَئِذٍ قَاضِيًا بِالْيَمَنِ، وَكَمَا كَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ
(٥٥)
الْوَاوُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [الْأَنْعَام: ٥٣].
وَالْجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ الَّذِي مَضَى مُبْتَدَئًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ [الْأَنْعَام: ٥١].
وَالتَّفْصِيلُ: التَّبْيِينُ وَالتَّوْضِيحُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَصْلِ، وَهُوَ تُفَرُّقُ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْأَشْيَاءُ الْمُخْتَلِطَةُ إِذَا فُصِّلَتْ يَتَبَيَّنُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ أُطْلِقَ التَّفْصِيلُ عَلَى التَّبْيِينِ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ، وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا تَسْمِيَةُ الْإِيضَاحِ تَبْيِينًا وَإِبَانَةً، فَإِنَّ أَصْلَ الْإِبَانَةِ الْقَطْعُ. وَالْمُرَادُ بِالتَّفْصِيلِ الْإِيضَاحُ، أَيِ الْإِتْيَانُ بِالْآيَاتِ الْوَاضِحَة الدّلَالَة
عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْهَا.
وَالْآيَاتُ: آيَاتُ الْقُرْآنِ. وَالْمَعْنَى نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَنُبَيِّنُهَا تَفْصِيلًا مِثْلَ هَذَا التَّفْصِيلِ الَّذِي لَا فَوْقَهُ تَفْصِيلٌ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ يَحْصُلُ بِهِ عِلْمُ الْمُرَادِ مِنْهَا بَيِّنًا.
وَقَوْلُهُ: وَلِتَسْتَبِينَ عَطْفٌ عَلَى عِلَّةٍ مُقَدَّرَةٍ دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ التَّفْصِيلُ الْبَالِغُ غَايَةَ الْبَيَانِ، فَيُعْلَمُ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ اتِّضَاحُ الْعِلْمِ لِلرَّسُولِ. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ التَّفْصِيلُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ عِلَّةٌ لِشَيْءٍ يُنَاسِبُهُ وَهُوَ تَبَيُّنُ الرَّسُولِ ذَلِكَ التَّفْصِيلَ، فَصَحَّ أَنْ تُعْطَفَ عَلَيْهِ عِلَّةٌ أُخْرَى مِنْ عِلْمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ اسْتِبَانَتُهُ سَبِيلَ الْمُجْرِمِينَ. فَالتَّقْدِيرُ مَثَلًا: وَكَذَلِكَ التَّفْصِيلُ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِتَعْلَمَ بِتَفْصِيلِهَا كُنْهَهَا، وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلَ الْمُجْرِمِينَ، فَفِي الْكَلَامِ إِيجَازُ الْحَذْفِ.
وَهَكَذَا كُلَّمَا كَانَ اسْتِعْمَالُ (كَذَلِكَ) نَفْعَلُ بَعْدَ ذِكْرِ أَفْعَالٍ عَظِيمَةٍ صَالِحًا الْفِعْلُ الْمَذْكُورُ بَعْدَ الْإِشَارَةِ لِأَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِأَمْرٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعَلَّلَ بِمِثْلِهِ صَحَّ أَنْ تُعْطَفَ عَلَيْهِ عِلَّةٌ أُخْرَى كَمَا هُنَا، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الْأَنْعَام: ٧٥] بِخِلَافِ مَا لَا يَصْلُحُ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ إِذَا أُرِيدَ ذِكْرُ عِلَّةٍ بَعْدَهُ ذُكِرَتْ بِدُونِ عَطْفٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [الْبَقَرَة: ١٤٣].
وسَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ طَرِيقَهُمْ وَسِيرَتَهُمْ فِي الظُّلْمِ وَالْحَسَدِ وَالْكِبْرِ وَاحْتِقَارِ النَّاسِ وَالتَّصَلُّبِ فِي الْكُفْرِ.
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٣]
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)وَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُونَ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ جَاءَ بِإِعَادَةِ الْمَوْصُولِ، كَمَا أُعِيدَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤]، وَذَلِكَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِانْتِقَالِ، فِي وَصْفِهِمْ، إِلَى غَرَضٍ آخَرَ غَيْرِ الْغَرَضِ الَّذِي اجْتُلِبَ الْمَوْصُولُ الْأَوَّلُ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ هُنَا غَرَضُ مُحَافَظَتِهِمْ عَلَى رُكْنَيِ الْإِيمَانِ: وَهُمَا إِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَلَا عَلَاقَةَ لِلصِّلَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا بِأَحْكَامِ الْأَنْفَالِ وَالرِّضَى بِقَسْمِهَا، وَلَكِنَّهُ مُجَرَّدُ الْمَدْحِ، وَعَبَّرَ فِي جَانِبِ الصَّلَاةِ بِالْإِقَامَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣]. وَجِيءَ بِالْفِعْلَيْنِ الْمُضَارِعَيْنِ فِي يُقِيمُونَ ويُنْفِقُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ وَتُجَدُّدِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مُقْتَضَى الِاسْتِعْمَالِ فِي الْخَبَرِ بِالصِّلَاتِ الْمُتَعَاطِفَةِ، الَّتِي مَوْصُولُهَا خَبَرٌ عَنْ مُبْتَدَأٍ أَنْ تُعْتَبَرَ خَبَرًا بِعِدَّةِ أَشْيَاءَ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ أَخْبَارٍ مُتَكَرِّرَةٍ، وَمُقْتَضَى الِاسْتِعْمَالِ فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَعَدِّدَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُعْتَبَرُ خَبَرًا مُسْتَقِلًّا عَنِ الْمُبْتَدَأِ فَلِذَلِكَ تَكُونُ كُلُّ صِلَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّلَاتِ بِمَنْزِلَةِ خَبَرٍ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ مَحْصُورٌ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ أَيْ حَالُهُمْ فَيَكُونُ الْمَعْنَى،
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا. وَهَكَذَا فَمَتَى اخْتَلَّتْ صِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ اخْتَلَّ وَصْفُ الْإِيمَانِ عَنْ صَاحِبِهَا، فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْقَصْرِ الْمُبَالِغَةَ الْآيِلَةَ إِلَى مَعْنَى قَصْرِ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ عَلَى صَاحِبِ كُلِّ صِلَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّلَاتِ، وَعَلَى صَاحِبِ الْخِبْرَيْنِ، لِظُهُورِ أَنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ لَا يُسْلَبُ مَنْ أَحَدٍ ذُكِرَ اللَّهُ عِنْدَهُ فَلَا يَجِلُ قَلْبُهُ، فَإِنَّ أَدِلَّةً قَطْعِيَّةً مَنْ أَصُولُ الدِّينِ تُنَافِي هَذَا الِاحْتِمَالَ فَتَعَيَّنَ تَأْوِيل الْمُؤْمِنُونَ [الْأَنْفَال: ٢] عَلَى إِرَادَةِ أَصْحَابِ الْإِيمَان الْكَامِل.
[٤]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٤]
أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
جُمْلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ [الْأَنْفَال: ٢] إِلَى آخِرِهَا وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ.
بِأُولَئِكَ الْأُمَمِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِعَدَمِ تَعْوِيضِهَا لَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ [مَرْيَم: ٨٠]- أَيْ فِي الدُّنْيَا- وَيَأْتِينا فَرْداً [مَرْيَم: ٨٠]- أَيْ فِي الْآخِرَةِ- لَا مَالَ لَهُ وَلَا وَلَدَ، كَقَوْلِهِ:
مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ [الحاقة: ٢٨، ٢٩].
وَفِي هَذَا كُلِّهِ تَذْكِرَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ لَا يَظُنُّوا أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَمْهَلَ الْمُنَافِقِينَ قَدْ عَفَا عَنْهُمْ.
وَلَمَّا كَانَتْ خَسَارَتُهُمْ جَسِيمَةً جُعِلَ غَيْرُهُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ كَلَا خَاسِرِينَ فَحُصِرَتِ الْخَسَارَةُ فِي هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ قَصْرًا مَقْصُودًا بِهِ الْمُبَالَغَةُ.
وَإِعَادَةُ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِلِاهْتِمَامِ بِتَمْيِيزِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ أَحْوَالِهِمْ فِي ذهن السَّامع.
[٧٠]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٧٠]
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠)
عَادَ الْكَلَامُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ: فَضَمِيرُ أَلَمْ يَأْتِهِمْ ومِنْ قَبْلِهِمْ عَائِدَانِ إِلَى
الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ عَادَ عَلَيْهِمُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التَّوْبَة: ٦٥]، أَوِ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ [التَّوْبَة: ٦٨].
وَالِاسْتِفْهَامُ مُوَجَّهٌ لِلْمُخَاطَبِ تَقْرِيرًا عَنْهُمْ، بِحَيْثُ يَكُونُ كَالِاسْتِشْهَادِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَتَاهُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
وَالْإِتْيَانُ مُسْتَعْمَلٌ فِي بُلُوغِ الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٤١]، شُبِّهَ حُصُولُ الْخَبَرِ عِنْدَ الْمُخْبَرِ بِإِتْيَانِ الشَّخْصِ، بِجَامِعِ الْحُصُولِ بَعْدَ عَدَمِهِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُمْ: بَلَغَهُ الْخَبَرُ، قَالَ تَعَالَى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ
فِي ذَلِكَ الْمَشْهَدِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَإِنَّ عَادَةَ هَذِهِ الْمَجَامِعِ أَنْ يَغْشَاهَا الشَّبَابُ وَالْيَافِعُونَ فَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالذُّرِّيَّةِ أَيِ الْأَبْنَاءِ، كَمَا يُقَالُ: الْغِلْمَانُ، فَيَكُونُونَ قَدْ آمَنُوا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَكُلُّ هَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّ بَقِيَّةَ قَوْمِهِ كَفَرُوا بِهِ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا آمَنُوا بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَّا بَلَغَتْهُمْ دَعْوَتُهُ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَدِ ابْتَدَأَ بِدَعْوَةِ فِرْعَوْنَ مُبَادَرَةً لِامْتِثَالِ الْأَمْرِ مِنَ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه: ٤٣] فَيَكُونُ الْمَأْمُورُ بِهِ ابْتِدَاءً هُوَ دَعْوَةُ فِرْعَوْنَ وَتَخْلِيصُ بَنِي إِسْرَائِيلَ من الْأسر.
و (الْمَلأ) تَقَدَّمَ آنِفًا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَأُضِيفَ الْمَلَأُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمْعِ وَهُوَ عَائِدٌ إِلَى الذُّرِّيَّةِ، أَيْ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَلَى خَوْفٍ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَهُمْ بَقِيَّةُ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَمْ يَحْضُرُوا ذَلِكَ الْمَشْهَدَ خَشْيَةَ أَنْ يَغْضَبُوا عَلَيْهِمْ وَيُؤْذُوهُمْ لِإِيمَانِهِمْ بِمُوسَى لِمَا يَتَوَقَّعُونَ مِنْ مُؤَاخَذَةِ فِرْعَوْنَ بِذَلِكَ جَمِيعَ قَبِيلَتِهِمْ عَلَى عَادَةِ الْجَبَابِرَةِ فِي أَخْذِ الْقَبِيلَةِ بِفَعْلَةٍ مِنْ بعض رجالها.
و (الْفِتَن) إِدْخَالُ الرَّوْعِ وَالِاضْطِرَابِ عَلَى الْعَقْلِ بِسَبَبِ تَسْلِيطِ مَا لَا تَسْتَطِيعُ النَّفْسُ تَحَمُّلَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩١]. فَهَذَا وَجْهُ تَفْسِيرِ الْآيَةِ.
وَجُمْلَةُ: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ فَهِيَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَهِيَ تُفِيدُ مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِخَوْفِهِمْ مِنْ فِرْعَوْنَ، أَيْ أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِي خَوْفِهِمُ الشَّدِيدِ، فَبَعْدَ أَنْ أَثْنَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا فِي حَالِ شِدَّةِ الْخَوْفِ زَادَ فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ بِالْخَوْفِ، وَفِي هَذَا زِيَادَةُ ثَنَاءٍ عَلَى قُوَّةِ إِيمَانِهِمْ إِذْ آمَنُوا فِي حَالِ خَوْفِهِمْ مِنَ الْمَلِكِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَذَاهُمْ، وَمِنْ مَلَئِهِمْ، أَيْ قَوْمِهِمْ، وَهُوَ خَوْفٌ شَدِيدٌ، لِأَنَّ آثَارَهُ تَتَطَرَّقُ الْمَرْءُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ حَتَّى فِي خَلْوَتِهِ وَخُوَيِّصَّتِهِ لِشِدَّةِ مُلَابَسَةِ قَوْمِهِ إِيَّاهُ فِي جَمِيعِ تَقَلُّبَاتِهِ بِحَيْثُ لَا يَجِدُ مَفَرًّا مِنْهُمْ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ اتِّسَاعِ مَقْدِرَةِ فِرْعَوْنَ بَيَانِ تَجَاوُزِهِ الْحَدَّ فِي الْجَوْرِ، وَمَنْ هَذِهِ حَالَتُهُ لَا يَزَعُهُ عَنْ إِلْحَاقِ الضُّرِّ بِأَضْدَادِهِ وَازِعٌ.
وَهِيَ مَدِينَةُ (مَنْفِيسَ) حَيْثُ كَانَ قَصْرُ الْعَزِيزِ، فَنُقِلَ الْخَبَرُ فِي بُيُوتِ الْمُتَّصِلِينَ بِبَيْتِ الْعَزِيزِ. وَقِيلَ: إِنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ بَاحَتْ بِالسِّرِّ لِبَعْضِ خَلَائِلِهَا فَأَفْشَيْنَهُ كَأَنَّهَا أَرَادَتِ التَّشَاوُرَ مَعَهُنَّ، أَوْ أَرَادَتِ الِارْتِيَاحَ
بِالْحَدِيثِ إِلَيْهِنَّ (وَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ).
وَهَذَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً [سُورَة يُوسُف: ٣١] وَقَوْلُهُ: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ [سُورَة يُوسُف: ٣٢].
وَالْفَتَى: الَّذِي فِي سِنِّ الشَّبَابِ، وَيُكَنَّى بِهِ عَنِ الْمَمْلُوكِ وَعَنِ الْخَادِمِ كَمَا يُكَنَّى بِالْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضمير امْرَأَتُ الْعَزِيزِ لِأَنَّهُ غُلَامُ زَوْجِهَا فَهُوَ غُلَامٌ لَهَا بِالتَّبَعِ مَا دَامَتْ زَوْجَةٌ لِمَالِكِهِ.
وَشَغَفَ: فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمٍ جَامِدٍ، وَهُوَ الشِّغَافُ- بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ- وَهُوَ غِلَافُ الْقَلْبِ. وَهَذَا الْفِعْلُ مِثْلَ كَبَدَهُ وَرَآهُ وَجَبَهَهُ، إِذَا أَصَابَ كَبِدَهُ وَرِئَتَهُ وَجَبْهَتَهُ.
وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي شَغَفَها لِ فَتاها. وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْإِجْمَالِ جِيءَ بِالتَّمْيِيزِ لِلنِّسْبَةِ بِقَوْلِهِ: حُبًّا. وَأَصْلُهُ شَغَفَهَا حُبُّهُ، أَيْ أَصَابَ حُبُّهُ شِغَافَهَا، أَيِ اخْتَرَقَ الشَّغَافَ فَبَلَغَ الْقَلْبَ، كِنَايَةٌ عَنِ التَّمَكُّنِ.
وَتَذْكِيرُ الْفِعْلِ فِي وَقالَ نِسْوَةٌ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُسْنَدَ إِلَى أَلْفَاظِ الْجُمُوعِ غَيْرُ الْجَمْعِ الْمُذَكِّرِ السَّالِمِ يَجُوزُ تَجْرِيدُهُ مِنَ التَّاءِ بِاعْتِبَارِ الْجَمْعِ، وَقَرْنُهُ بِالتَّاءِ بِاعْتِبَارِ الْجَمَاعَةِ مِثْلَ وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ [سُورَة يُوسُف: ١٩].
وَأَمَّا الْهَاءُ الَّتِي فِي آخِرِ نِسْوَةٌ فَلَيْسَتْ عَلَامَةَ تَأْنِيثٍ بَلْ هِيَ هَاءُ فِعْلَةٍ جَمْعُ تَكْسِيرٍ، مِثْلَ صِبْيَةٍ وَغَلِمَةٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ تَسْمِيَةِ الَّذِي اشْتَرَى يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِاسْمِ الْعَزِيزِ عِنْدَ قَوْلِهِ
تَعَالَى: وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ [سُورَة يُوسُف: ٢١]. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ اسْمِهِ وَاسْمِهَا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَفِي الْعِبْرَانِيَّةِ.
وَفِي «السِّيرَةِ الْحَلَبِيَّةِ» أَنَّ الشَّيْخَ عِزَّ الدِّينِ بْنَ عَبْدِ السَّلَامِ أَلَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ «الشَّجَرَةَ» بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي سَائِرِ الْأَبْوَابِ الْفِقْهِيَّةِ وَسَمَّاهُ السُّبْكِيُّ فِي الطَّبَقَاتِ «شَجَرَةَ الْمَعَارِفِ».
وَجُمْلَةُ يَعِظُكُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ.
وَالْوَعْظُ: كَلَامٌ يُقْصَدُ مِنْهُ إِبْعَادُ الْمُخَاطَبِ بِهِ عَنِ الْفَسَادِ وَتَحْرِيضُهُ عَلَى الصَّلَاحِ.
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦٣].
وَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْمَوْعِظَةَ مِنْ شَأْنِ مَنْ هُوَ مُحْتَاجٌ لِلْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ، وَلِذَلِكَ قَارَنَهَا بِالرَّجَاءِ بِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
والتذكر: مُرَاجعَة المنسيّ الْمَغْفُولِ عَنْهُ، أَيْ رَجَاءَ أَنْ تَتَذَكَّرُوا، أَيْ تَتَذَكَّرُوا بِهَذِهِ الْمَوْعِظَةِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ فَإِنَّهَا جَامِعَةٌ بَاقِيَةٌ فِي نفوسكم.
[٩١]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٩١]
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٩١)
لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمِلَاكِ الْمَصَالِحِ وَنَهَاهُمْ عَنْ مِلَاكِ الْمَفَاسِدِ بِمَا أَوْمَأَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ:
يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [سُورَة النَّحْل: ٩٠]. فَكَانَ ذَلِكَ مُنَاسَبَةً حَسَنَةً لِهَذَا الِانْتِقَالِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَغْرَاضِ تَفَنُّنِ الْقُرْآنِ، وَأَوْضَحَ لَهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا إِلَى كَمَالٍ وَخَيْرٍ بِذَلِكَ الْكِتَابِ الْمُبَيِّنِ لِكُلِّ شَيْءٍ. لَا جَرَمَ ذَكَّرَهُمُ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ عِنْد مَا أَسْلَمُوا، وَهُوَ مَا بَايَعُوا عَلَيْهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا فِيهِ: أَنْ لَا يَعْصُوهُ فِي مَعْرُوفٍ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ الْبَيْعَةَ عَلَى كُلِّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ وَقْتِ ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ فِي مَكَّةَ.
وَتَكَرَّرَتِ الْبَيْعَةُ قُبَيْلَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَهَا عَلَى أُمُورٍ أُخْرَى، مِثْلِ النُّصْرَةِ الَّتِي بَايَعَ عَلَيْهَا الْأَنْصَارُ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَمِثْلِ بَيْعَةِ الْحُدَيْبِيَةِ.
بِأَهْلِ مَكَّةَ مِنَ التُّجَّارِ الْوَارِدَيْنِ إِلَى مَكَّةَ أَوْ مِنَ الرُّهْبَانِ الَّذِينَ فِي الْأَدْيِرَةِ الْوَاقِعَةِ فِي طَرِيقِ رِحْلَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ وَهِيَ رِحْلَةُ الصَّيْفِ.
وَمَحَلُّ التَّعَجُّبِ هُوَ قَوْلُهُ: مِنْ آياتِنا، أَيْ مِنْ بَيْنِ آيَاتِنَا الْكَثِيرَةِ الْمُشَاهَدَةِ لَهُمْ وَهُمْ لَا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا وَيَقْصُرُونَ تَعَجُّبَهُمْ عَلَى أَمْثَالِ هَذِه الخوارق فيؤول الْمَعْنَى إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْكَهْفِ لَيْسُوا هُمُ الْعَجَبُ مِنْ بَيْنِ الْآيَاتِ الْأُخْرَى، بَلْ عَجَائِبُ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْكَهْفِ وَمِنْهَا مَا يُسَاوِيهَا.
فَمَعْنَى (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ آياتِنا التَّبْعِيضُ، أَيْ لَيْسَتْ قِصَّةُ أَهْلِ الْكَهْفِ مُنْفَرِدَةً بِالْعَجَبِ مِنْ بَيْنِ الْآيَاتِ الْأُخْرَى، كَمَا تَقُولُ: سَأَلَ فُلَانًا فَهُوَ الْعَالِمُ مِنَّا، أَيِ الْمُنْفَرِدُ بِالْعِلْمِ مِنْ بَيْنِنَا.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهَا لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، أَيْ كَانُوا عَجَبًا فِي آيَاتِنَا، أَيْ وَبَقِيَّةُ الْآيَاتِ لَيْسَتْ عَجَبًا. وَهَذَا نِدَاءٌ عَلَى سُوءِ نَظَرِهِمْ إِذْ يُعَلِّقُونَ اهْتِمَامَهُمْ بِأَشْيَاءَ نَادِرَةٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِمْ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَا هُوَ أَجْدَرُ بِالِاهْتِمَامِ.
وَأَخْبَرَ عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ بِالْعَجَبِ وَإِنَّمَا الْعَجَبُ حَالُهُمْ فِي قَوْمِهِمْ، فَثَمَّ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ.
وَأَخْبَرَ عَنْ حَالِهِمْ بِالْمَصْدَرِ مُبَالَغَةً، وَالْمُرَادُ عَجِيبٌ.
وَالْكَهْفُ: الشَّقُّ الْمُتَّسِعُ الْوَسَطِ فِي جَبَلٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّسِعًا فَهُوَ غَارٌ.
وَالرَّقِيمُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنَ الرَّقْمِ وَهُوَ الْكِتَابَةُ. فَالرَّقِيمُ كِتَابٌ كَانَ مَعَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ فِي كَهْفِهِمْ. قِيلَ: كَتَبُوا فِيهِ مَا كَانُوا يَدِينُونَ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَقِيلَ: هُوَ كِتَابُ دِينِهِمْ، دِينٍ كَانَ قَبْلَ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَقِيلَ: هُوَ دِينُ عِيسَى، وَقِيلَ: كَتَبُوا فِيهِ الْبَاعِثَ الَّذِي بَعَثَهُمْ عَلَى الِالْتِجَاءِ إِلَى الْكَهْفِ فِرَارًا مِنْ كُفْرِ قَوْمِهِمْ.
وَابْتَدَأَ الْقُرْآنُ مِنْ قِصَّتِهِمْ بِمَحَلِ الْعِبْرَةِ الصَّادِقَةِ والقدوة الصَّالِحَة مِنْهُ، وَهُوَ الْتِجَاؤُهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ وَاسْتِجَابَتُهُ لَهُمْ.
بِأَنَّ اللَّهَ يُنْجِزُ لَهُ مَا أَرْسَلَهُ لِأَجْلِهِ لَكِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَسْتَدْرِجَ اللَّهُ الْكَفَرَةَ مُدَّةً قَلِيلَةً لِإِظْهَارِ ثَبَاتِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ [آل عمرَان: ١٩٦، ١٩٧].
وَعَبَّرَ عَنِ الْعَصَا بِ مَا الْمَوْصُولَةِ تَذْكِيرًا لَهُ بِيَوْمِ التَّكْلِيمِ إِذْ قَالَ لَهُ: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى [طه: ١٧] لِيَحْصُلَ لَهُ الِاطْمِئْنَانُ بِأَنَّهَا صَائِرَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الَّتِي صَارَتْ إِلَيْهَا يَوْمَئِذٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ لَهُ: وَأَلْقِ عَصَاكَ.
وَالتَّلَقُّفُ: الِابْتِلَاعُ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِجَزْمِ تَلْقَفْ فِي جَوَابِ قَوْلِهِ وَأَلْقِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ بِرَفْعِ تَلْقَفْ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَلْقَفْ- بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ-.
وَقَرَأَهُ حَفْصٌ- بِسُكُونِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ- مِنْ لَقِفَ كَفَرِحَ.
وَجُمْلَةُ إِنَّما صَنَعُوا كيد سحر مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَهِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ (إِنَّ) وَ (مَا) الموصولة. وَكيد سحر خَبَرُ (إِنَّ). وَالْكَلَامُ إِخْبَارٌ بَسِيطٌ لَا قَصْرَ فِيهِ. وَكُتِبَ (إِنَّمَا) فِي الْمُصْحَفِ مَوْصُولَةً (إِنَّ) بِ (مَا) الْمَوْصُولَةِ كَمَا تُوصَلُ بِ (مَا) الْكَافَّةِ فِي نَحْوِ إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ [الْبَقَرَة: ١٧٣] وَلَمْ يَكُنِ الْمُتَقَدِّمُونَ يَتَوَخَّوْنَ الْفُرُوقَ فِي رَسْمِ الْخَطِّ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كَيْدُ ساحِرٍ بِأَلْفٍ بَعْدَ السِّينِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ كَيْدُ سِحْرٍ- بِكَسْرِ السِّينِ-.
وَجُمْلَةُ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى مِنْ تَمَامِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا وَحَالٌ مِنْ ضَمِيرِ إِنَّما صَنَعُوا، أَيْ لَا يَنْجَحُ السَّاحِرُ حَيْثُ كَانَ، لِأَنَّ صَنْعَتَهُ تَنْكَشِفُ بِالتَّأَمُّلِ وَثَبَاتِ النَّفْسِ
وَقَدْ فُرِّعَ عَلَى هَذَا الِانْفِرَادُ بِالْإِلَهِيَّةِ بِقَوْلِهِ: فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا أَيْ إِذْ كَانَ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ مَنْسَكًا وَاحِدًا فَقَدْ نَبَّهَكُمْ بِذَلِكَ أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ كَانَتْ آلِهَةٌ كَثِيرَةٌ لَكَانَتْ شَرَائِعُهَا مُخْتَلِفَةً. وَهَذَا التَّفْرِيعُ الْأَوَّلُ تَمْهِيدٌ لِلتَّفْرِيعِ الَّذِي عَقِبَهُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، فَوَقَعَ فِي النَّظْمِ تَغْيِيرٌ بِتَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ. وَأَصْلُ النَّظْمِ: فَلِلَّهِ أَسْلِمُوا، لِأَنَّ إِلَهَكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي فَلَهُ أَسْلِمُوا لِلْحَصْرِ، أَيْ أَسْلِمُوا لَهُ لَا لِغَيْرِهِ. وَالْإِسْلَامُ: الِانْقِيَادُ التَّامُّ، وَهُوَ الْإِخْلَاصُ فِي الطَّاعَةِ، أَيْ لَا تُخْلِصُوا إِلَّا الله، أَيْ فَاتْرُكُوا جَمِيعَ الْمَنَاسِكِ الَّتِي أُقِيمَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ فَلَا تَنْسُكُوا إِلَّا فِي الْمَنْسَكِ الَّذِي جَعَلَهُ لَكُمْ، تَعْرِيضًا بِالرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَنْسَكاً- بِفَتْحِ السِّينِ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِكَسْرِ السِّينِ-، وَهُوَ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ اسْمُ مَكَانٍ لِلنُّسُكِ، وَهُوَ الذَّبْحُ. إِلَّا أَنَّهُ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ جَارٍ عَلَى الْقِيَاسِ لِأَنَّ قِيَاسَهُ الْفَتْحُ فِي اسْمِ الْمَكَانِ إِذْ هُوَ مِنْ نَسَكَ يَنْسُكُ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- فِي الْمُضَارِعِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْكَسْرِ فَهُوَ سَمَاعِيٌّ مِثْلُ مَسْجِدٍ مِنْ سَجَدَ يَسْجُدُ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَيُشْبِهُ أَنَّ الْكِسَائِيَّ سَمِعَهُ مِنَ الْعَرَبِ.
وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى مَا أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥).
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ سَوْقِ الْمِنَنِ، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُ هَذِهِ الصِّفَاتِ هُمُ الْمُسْلِمُونَ.
وَالْمُخْبِتُ: الْمُتَوَاضِعُ الَّذِي لَا تَكَبُّرَ عِنْدَهُ. وَأَصْلُ الْمُخْبِتِ مَنْ سَلَكَ الْخَبْتَ. وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُنْخَفِضُ ضِدُّ الْمُصْعِدِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلْمُتَوَاضِعِ
(٤٢)
تَحْقِيقٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ مِنْ إِعْطَائِهِ الْهُدَى للعجماوات فِي شؤونه وَحِرْمَانِهِ إِيَّاهُ فَرِيقًا مِنَ الْعُقَلَاءِ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ جَارِيًا عَلَى حَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ لَكَانَ هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الطَّيْرِ فِي شَأْنِهِمْ.
وَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولَيْنِ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْعَوَالِمِ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ.
وَفِي هَذَا انْتِقَالٌ إِلَى دَلَالَةِ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَلِذَلِكَ أعقب بقوله:
[٤٣]
[سُورَة النُّور (٢٤) : آيَة ٤٣]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣)
أَعْقَبَ الدَّلَالَةَ عَلَى إِعْطَاءِ الْهُدَى فِي قَوَانِينِ الْإِلْهَامِ فِي الْعَجْمَاوَاتِ بِالدَّلَالَةِ عَلَى خَلْقِ الْخَصَائِصِ فِي الْجَمَادِ بِحَيْثُ تَسِيرُ عَلَى السَّيْرِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهَا سَيْرًا لَا يَتَغَيَّرُ، فَهِيَ بِذَلِكَ أَهْدَى مِنْ فَرِيقِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ لَهُمْ عُقُولٌ وَحَوَاسٌّ لَا يَهْتَدُونَ بِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالنَّظَرِ فِي أَدِلَّتِهَا، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ وَسَعَةِ الْعِلْمِ وَوَحْدَانِيَّةِ التَّصَرُّفِ.
وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِنِظَامِ بَعْضِ حَوَادِثِ الْجَوِّ حَتَّى آلَ إِلَى قَوْلِهِ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ.
وَقَدْ حَصَلَ مِنْ هَذَا حُسْنُ التَّخَلُّصِ لِلِانْتِقَالِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ وَسُمُوِّ الْحِكْمَةِ وَسَعَةِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ.
ويُزْجِي: يَسُوقُ. يُقَالُ: أَزْجَى الْإِبِلَ إِزْجَاءً.
وَأُطْلِقَ الْإِزْجَاءُ عَلَى دُنُوِّ بَعْضِ السَّحَابِ مِنْ بَعْضٍ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى الشَّبِيهِ بِالسَّوْقِ حَتَّى يَصِيرَ سَحَابًا كَثِيفًا، فَانْضِمَامُ بَعْضِ السَّحَابِ إِلَى بَعْضٍ عَبَّرَ عَنْهُ بِالتَّأْلِيفِ بَيْنَ أَجْزَائِهِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ إِلَخْ.
وَافْتِتَاحُ الْكِتَابِ بِجُمْلَةِ الْبَسْمَلَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادِفَهَا كَانَ خَاصًّا بِكُتُبِ النَّبِيءِ سُلَيْمَانَ أَنْ يُتْبِعَ اسْمَ الْجَلالَة بوصفي: الرحمان الرَّحِيمِ، فَصَارَ ذَلِكَ سُنَّةً لِافْتِتَاحِ الْأُمُورِ ذَوَاتِ الْبَالِ فِي الْإِسْلَامِ ادَّخَرَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ بَقَايَا سُنَّةِ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ أَنْ تُنُوسِيَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَتَحُوا كُتُبَهُمْ بِاسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ «الْمَرَاسِيلِ» : أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْتُبُ «بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ»
كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَكْتُبُ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ صَارَ يَكْتُبُ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، أَيْ صَارَ يَكْتُبُ الْبَسْمَلَةَ فِي أَوَّلِ كُتُبِهِ. وَأَمَّا جَعْلُهَا فَصْلًا بَيْنَ السُّوَرِ أَوْ آيَةً مِنْ كُلِّ سُورَةٍ فَمَسْأَلَةٌ أُخْرَى.
وَكَانَ كِتَابُ سُلَيْمَانَ وَجِيزًا لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْسَبُ بِمُخَاطَبَةِ مَنْ لَا يُحْسِنُ لُغَةَ الْمُخَاطِبِ فَيَقْتَصِرُ لَهُ عَلَى الْمَقْصُودِ لِإِمْكَانِ تَرْجَمَتِهِ وَحُصُولِ فَهْمِهِ فَأَحَاطَ كِتَابُهُ بِالْمَقْصُودِ، وَهُوَ تَحْذِيرُ مَلِكَةِ سَبَأٍ مِنْ أَنْ تُحَاوِلَ التَّرَفُّعَ عَلَى الْخُضُوعِ إِلَى سُلَيْمَانَ وَالطَّاعَةِ لَهُ كَمَا كَانَ شَأْنُ الْمُلُوكِ الْمُجَاوِرِينَ لَهُ بِمِصْرَ وَصُورَ وَالْعِرَاقِ.
فَالْإِتْيَانُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ هُوَ إِتْيَانٌ مَجَازِيٌّ مِثْلُ مَا يُقَالُ: اتَّبِعْ سَبِيلِي.
ومُسْلِمِينَ مُشْتَقٌّ مِنْ أَسْلَمَ إِذَا تَقَلَّدَ الْإِسْلَامَ. وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْإِسْلَامِ عَلَى الدِّينِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُلَيْمَانَ إِنَّمَا دَعَا مَلِكَةَ سَبَأٍ وَقَوْمَهَا إِلَى نَبْذِ الشِّرْكِ وَالِاعْتِرَافِ لِلَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ وَلَمْ يَدْعُهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِهَا وَأَمَّا دَعْوَتُهُمْ إِلَى إِفْرَادِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ وَالِاعْتِرَافِ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَذَلِكَ مِمَّا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ الْبَشَرَ كُلَّهُمْ وَشَاعَ ذَلِكَ فِيهِمْ مِنْ عَهْدِ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣٢]، قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ
لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ
[يس: ٦٠]. جَمَعَ سُلَيْمَانُ بَيْنَ دَعْوَتِهَا إِلَى مُسَالَمَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَذَلِكَ تَصَرُّفٌ بِصِفَةِ الْمُلْكِ، وَبَيْنَ دَعْوَةِ قَوْمِهَا إِلَى اتِّبَاعِ دِينِ التَّوْحِيدِ وَذَلِكَ تَصَرُّفٌ بِالنُّبُوءَةِ لِأَنَّ النَّبِيءَ يُلْقِي الْإِرْشَادَ إِلَى الْهُدَى حَيْثُمَا تَمَكَّنَ مِنْهُ كَمَا قَالَ شُعَيْبٌ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود: ٨٨] وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ يُوسُفَ لِصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يُوسُف: ٣٩] الْآيَةَ. وَإِنْ كَانَ لَمْ يُرْسَلْ
ثُمَّ النَّاسُ فِي الِانْتِهَاءِ مُتَفَاوِتُونَ، وَهَذَا الْمَعْنَى مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ هُوَ مِنْ حِكْمَةِ جَعْلِ الصَّلَوَاتِ مُوَزَّعَةً عَلَى أَوْقَاتٍ مِنَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ لِيَتَجَدَّدَ التَّذْكِيرُ وَتَتَعَاقَبَ الْمَوَاعِظُ، وَبِمِقْدَارِ تَكَرُّرِ ذَلِكَ تَزْدَادُ خَوَاطِرُ التَّقْوَى فِي النُّفُوسِ وَتَتَبَاعَدُ النَّفْسُ مِنَ الْعِصْيَانِ حَتَّى تَصِيرَ التَّقْوَى مَلِكَةً لَهَا. وَوَرَاءَ ذَلِكَ خَاصِّيَّةٌ إِلَهِيَّةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي الصَّلَاةِ يَكُونُ بِهَا تَيْسِيرُ الِانْتِهَاءِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.
رَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ، فَقَالَ: سَيَنْهَاهُ مَا تَقُولُ»
أَيْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعْرِيفَ فِي قَوْلِهِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَكُلَّمَا تَذَكَّرَ الْمُصَلِّي عِنْدَ صَلَاتِهِ عَظَمَةَ رَبِّهِ وَوُجُوبَ طَاعَتِهِ وَذَكَرَ مَا قَدْ يَفْعَلُهُ مِنَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ كَانَتْ صَلَاتُهُ حِينَئِذٍ قَدْ نَهَتْهُ عَنْ بَعْضِ أَفْرَادِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.
والْفَحْشاءِ: اسْمٌ لِلْفَاحِشَةِ، وَالْفُحْشُ: تَجَاوُزُ الْحَدِّ الْمَقْبُولِ. فَالْمُرَادُ مِنَ الْفَاحِشَةِ: الْفَعْلَةُ الْمُتَجَاوِزَةُ مَا يُقْبَلُ بَيْنَ النَّاسِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٩]. وَالْمَقْصُودُ هُنَا مِنَ الْفَاحِشَةِ: تَجَاوُزُ الْحَدِّ الْمَأْذُونِ فِيهِ شَرْعًا مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَبِالْمُنْكَرِ: مَا يُنكره الشَّرْع وَلَا يَرْضَى بِوُقُوعِهِ.
وَكَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْفَاحِشَةِ وَالْمُنْكَرِ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى اخْتِلَافِ جِهَةِ ذَمِّهِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ فَيَكُونُ عَطْفُ عِلَّةٍ عَلَى عِلَّةٍ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِذِكْرِ اللَّهِ هُوَ الصَّلَاةَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الْجُمُعَة: ٩] أَيْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ. وَيَكُونُ الْعُدُولُ عَنْ لَفْظِ الصَّلَاةِ الَّذِي هُوَ كَالِاسْمِ لَهَا إِلَى التَّعْبِيرِ عَنْهَا بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى تَعْلِيلِ أَنَّ الصَّلَاةَ
تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، أَيْ إِنَّمَا كَانَتْ نَاهِيَةً عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لِأَنَّهَا ذِكْرُ اللَّهِ وَذِكْرُ اللَّهِ أَمْرٌ كَبِيرٌ، فَاسْمُ التَّفْضِيلِ مَسْلُوبٌ الْمُفَاضَلَةَ مَقْصُودٌ بِهِ قُوَّةُ الْوَصْفِ كَمَا فِي قَوْلِنَا: اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا تُرِيدُ أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كَبِيرٍ آخَرَ.
وَلِإِفَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى قُيَّدَ بِقَوْلِهِ بِأَفْواهِكُمْ فَإِنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْقَوْلَ إِنَّمَا هُوَ بِالْأَفْوَاهِ فَكَانَ ذِكْرُ بِأَفْواهِكُمْ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ مُشِيرًا إِلَى أَنَّهُ قَوْلٌ لَا تَتَجَاوَزُ دَلَالَتُهُ الْأَفْوَاهَ إِلَى الْوَاقِعِ وَنَفْسُ الْأَمْرِ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْوُجُودِ إِلَّا الْوُجُودُ فِي اللِّسَانِ وَالْوُجُودُ فِي الْأَذْهَانِ دُونَ الْوُجُودِ فِي الْعِيَانِ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠٠] أَيْ: لَا تَتَجَاوَزُ ذَلِكَ الْحَدَّ، أَيْ: لَا يَتَحَقَّقُ مَضْمُونُهَا فِي الْخَارِجِ وَهُوَ الْإِرْجَاعُ إِلَى الدُّنْيَا فِي قَوْلِ الْكَافِرِ: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٩- ١٠٠]، فَعُلِمَ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِأَفْواهِكُمْ أَنَّهُ قَوْلٌ كَاذِبٌ لَا يُطَابِقُ الْوَاقِعَ وَزَادَهُ تَصْرِيحًا بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ فَأَوْمَأَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ قَوْلٌ كَاذِبٌ. وَلِهَذَا عُطِفَتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْفَذْلَكَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ مَا جَعَلَ اللَّهُ إِلَخْ. فَمَعْنَى كَوْنِهَا أَقْوَالًا: أَنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: جَمِيلٌ لَهُ قَلْبَانِ، وَنَاسًا يَقُولُونَ لِأَزْوَاجِهِمْ:
أَنْتِ كَظَهْرِ أُمِّي، وَنَاسًا يَقُولُونَ لِلدَّعِيِّ: فُلَانُ ابْن فُلَانٍ، يُرِيدُونَ مَنْ تَبَنَّاهُ.
وَانْتَصَبَ الْحَقَّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ مَفْعُولٍ بِهِ لِ يَقُولُ. تَقْدِيرُهُ:
الْكَلَامُ الْحَقُّ، لِأَنَّ فِعْلَ الْقَوْلِ لَا يَنْصِبُ إِلَّا الْجُمَلَ أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْجُمْلَةِ نَحْوَ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠٠]، فَالْهَاءُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا (قَائِلُ) عَائِدَةٌ إِلَى كَلِمَةٌ وَهِيَ مَفْعُولٌ أُضِيفَ إِلَيْهَا. وَفِي الْإِخْبَارِ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَضَمِيرِهِ بِالْمَسْنَدَيْنِ الْفِعْلِيَّيْنِ إِفَادَةُ قَصْرِ الْقَلْبِ، أَيْ: هُوَ يَقُولُ الْحَقَّ لَا الَّذِينَ وَضَعُوا لَكُمْ تِلْكَ الْمَزَاعِمَ، وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ لَا الَّذِينَ أَضَلُّوا النَّاسَ بِالْأَوْهَامِ. وَلَمَّا كَانَ الْفِعْلَانِ مُتَعَدِّيَيْنِ اسْتُفِيدَ مِنْ قَصْرِهِمَا قَصْرُ مَعْمُولَيْهِمَا بِالْقَرِينَةِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ قَوْلُ اللَّهِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ هُوَ الْحَقُّ وَالسَّبِيلُ كَانَ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِ ضِدِّهِ بَاطِلًا وَمَجْهَلَةً. فَالْمَعْنَى: وَهُمْ لَا يَقُولُونَ الْحَقَّ وَلَا يَهْدُونَ السَّبِيلَ.
والسَّبِيلَ: الطَّرِيقُ السَّابِلَةُ الْوَاضِحَةُ، أَيِ: الْوَاضِحُ أَنَّهَا مَطْرُوقَةٌ فَهِيَ مَأْمُونَةُ الْإِبْلَاغِ إِلَى غَايَةِ السَّائِرِ فِيهَا. وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ تِلْكَ الْمَزَاعِمَ الثَّلَاثَةَ لَا تَعْدُو أَنْ تَكُونَ أَلْفَاظًا سَاذَجَةً لَا تَحَقُّقَ لِمَدْلُولَاتِهَا فِي الْخَارِجِ اقْتَضَى ذَلِكَ انْتِفَاءَ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ جُعِلَا تَوْطِئَةً وَتَمْهِيدًا
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٦]
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦)لَمَّا كَانَ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر: ٥] إِبْهَامُ مَا فِي الْمُرَادِ بِالْغَرُورِ عُقِّبَ ذَلِكَ بِبَيَانِهِ بِأَنَّ الْغَرُورَ هُوَ الشَّيْطَانُ لِيَتَقَرَّرَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ بِالْبَيَانِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ. فَجُمْلَةُ إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ تَتَنَزَّلُ مِنْ جُمْلَةِ وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ مِنَ الْمُبَيَّنِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ، وَهَذَا مِنْ دَلَالَةِ تَرْتِيبِ الْكَلَامِ عَلَى إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ إِذْ يَعْلَمُ السَّامِعُ مِنْ وُقُوعِ وَصْفِ الشَّيْطَانِ عَقِبَ وَصْفِ الْغَرُورِ أَنَّ الْغَرُورَ هُوَ الشَّيْطَانُ.
وَأُظْهِرَ اسْمُ الشَّيْطَانِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلْإِفْصَاحِ عَنِ الْمُرَادِ بِالْغَرُورِ أَنَّهُ الشَّيْطَانُ وَإِثَارَةُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ النَّاسِ وَالشَّيْطَانِ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْقُرْآن تَصْرِيحًا وتضمّنا، وَهُوَ هُنَا صَرِيحٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الْبَقَرَة: ٣٦].
وَتِلْكَ عَدَاوَةٌ مُودَعَةٌ فِي جِبِلَّتِهِ كَعَدَاوَةِ الْكَلْبِ لِلْهِرِّ لِأَنَّ جِبِلَّةَ الشَّيْطَانِ مَوْكُولَةٌ بِإِيقَاعِ النَّاسِ فِي الْفَسَادِ وَأَسْوَأِ الْعَوَاقِبِ فِي قَوَالِبَ مُحَسَّنَةٍ مُزَيَّنَةٍ، وَشَوَاهِدُ ذَلِكَ تَظْهَرُ لِلْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ وَفِي الْحَوَادِثِ حَيْثُمَا عَثَرَ عَلَيْهَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما
أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ
[الْأَعْرَاف: ٢٧].
وَتَأْكِيدُ الْخَبَر بِحرف التَّأْكِيد لِقَصْدِ تَحْقِيقِهِ لِأَنَّهُمْ بِغَفْلَتِهِمْ عَنْ عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ كَحَالِ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ الشَّيْطَانَ عَدُوٌّ.
وَتَقْدِيمُ لَكُمْ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْمُتَعَلِّقِ فَرَّعَ عَنْهُ أَنْ أُمِرُوا بِاتِّخَاذِهِ عَدُوًّا لِأَنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا أَنَّهُ عَدُوٌّ لَهُمْ حَقَّ عَلَيْهِمُ اتِّخَاذُهُ عَدُوًّا وَإِلَّا لَكَانُوا فِي حَمَاقَةٍ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى وُجُوبِ عَدَاوَتِهِمُ الدُّعَاةَ فِي الضَّلَالَةِ الْمُسْتَمِدِّينَ مِنَ الشَّيْطَانِ.
وَالْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ عَدُوٌّ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٩٢].
وَاللَّامُ فِي لَكُمْ لَامُ الِاخْتِصَاصِ وَهِيَ الَّتِي تَتَضَمَّنُهَا الْإِضَافَةُ فَلَمَّا قَدَّمَ مَا حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَيْهِ صَرَّحَ بِاللَّامِ لِيَحْصُلَ مَعْنَى الْإِضَافَةِ.
فَرَمَتْهُ بِهِ عَلَى جَانِبِ الْكُرْ | سِيِّ أُمُّ اللُّهَيْمِ أُخْتُ النَّآدِ (١) |
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قِصَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ قِصَّةِ فِتْنَتِهِ. وَأَظْهَرُ أَقْوَالِهِمْ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ إِشَارَةً إِلَى مَا
فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً كُلُّهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمْ يَقُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَطَافَ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا فَلم تحمل مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ، وَأَيْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ»
. وَلَيْسَ فِي كَلَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا وَضَعَ الْبُخَارِيُّ وَلَا التِّرْمِذِيُّ الْحَدِيثَ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ كِتَابَيْهِمَا. قَالَ جَمَاعَةٌ: فَذَلِكَ النِّصْفُ مِنَ الْإِنْسَانِ هُوَ الْجَسَدُ الْمُلْقَى عَلَى كُرْسِيِّهِ جَاءَتْ بِهِ الْقَابِلَةُ فَأَلْقَتْهُ لَهُ وَهُوَ عَلَى كُرْسِيِّهِ، فَالْفِتْنَةُ عَلَى هَذَا خَيْبَةُ أَمَلِهِ وَمُخَالَفَةُ مَا أَبْلَغَهُ صَاحِبُهُ.
وَإِطْلَاقُ الْجَسَدِ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْلُودِ إِمَّا لِأَنَّهُ وُلِدَ مَيِّتًا، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: «شِقِّ رَجُلٍ»، وَإِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ خِلْقَةً غَيْرَ مُعْتَادَةٍ فَكَانَ مُجَرَّدَ جَسَدٍ. وَهَذَا تَفْسِيرٌ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَقْتَضِ أَنَّ الشِّقَّ الَّذِي وَلَدَتْهُ الْمَرْأَةُ كَانَ حَيًّا وَلَا أَنَّهُ جَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ. وَتَرْكِيبُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ الْخَبَرِ تَكَلُّفٌ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: تَزَوَّجَ سُلَيْمَانُ ابْنَةَ مَلِكِ صَيْدُونَ بَعْدَ أَنْ غَزَا أَبَاهَا وَقَتَلَهُ فَكَانَتْ حَزِينَةً عَلَى أَبِيهَا، وَكَانَ سُلَيْمَانُ قَدْ شَغَفَ بِحُبِّهَا فَسَأَلَتْهُ لِتَرْضَى أَنْ يَأْمُرَ الْمُصَوِّرِينَ لِيَصْنَعُوا صُورَةً لِأَبِيهَا فَصُنِعَتْ لَهَا فَكَانَتْ تَغْدُو وَتَرُوحُ مَعَ وَلَائِدِهَا يَسْجُدْنَ لِتِلْكَ الصُّورَةِ فَلَمَّا عَلِمَ سُلَيْمَانُ بِذَلِكَ أَمَرَ بِذَلِكَ التِّمْثَالِ فَكُسِرَ، وَقِيلَ: كَانَتْ تَعْبُدُ صَنَمًا لَهَا مِنْ يَاقُوتٍ خُفْيَةً فَلَمَّا فَطِنَ سُلَيْمَانُ أَوْ أَسْلَمَتِ الْمَرْأَةُ تُرِكَ ذَلِكَ الصَّنَمُ.
_________
(١) اللهيم كزبير: الداهية: والنّآد كسحاب: الداهية أَيْضا.
كَمَا حَلَّ بِعَادٍ وَأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَعَامَّةُ الْأُمَمِ يَتَوَهَّمُونَ النَّحْسَ وَالْبَخْتَ مِنْ نَوْعِ الطِّيَرَةِ وَمِنَ التَّشَاؤُمِ وَالتَّيَمُّنِ، وَمِنْهُ الزَّجْرُ وَالْعِيَافَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمِنْهُ تَطَلُّعُ الْحَدَثَانِ مِنْ طَوَالِعِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَيَّامِ عِنْدَ مُعْظَمِ الْأُمَمِ الْجَاهِلَةِ أَوِ الْمُخْتَلَّةِ الْعَقِيدَةِ. وَكُلُّ ذَلِكَ أَبْطَلَهُ الْإِسْلَامُ، أَيْ كَشَفَ بُطْلَانَهُ، بِمَا لَمْ يَسْبِقْهُ تَعْلِيمٌ مِنَ الْأَدْيَانِ الَّتِي ظَهَرَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ.
فَمَعْنَى وَصْفِ الْأَيَّامِ بِالنَّحِسَاتِ: أَنَّهَا أَيَّامُ سُوءٍ شَدِيدٍ أَصَابَهُمْ وَهُوَ عَذَابُ الرِّيحِ،
وَهِيَ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة: ٧]، فَالْمُرَادُ: أَنَّ تِلْكَ الْأَيَّامَ بِخُصُوصِهَا كَانَتْ نَحْسًا وَأَنَّ نَحْسَهَا عَلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ لِأَنَّ عَادًا هُمُ الْمَقْصُودُونَ بِالْعَذَابِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ تِلْكَ الْأَيَّامَ مِنْ كُلِّ عَامٍ هِيَ أَيَّامُ نَحْسٍ عَلَى الْبَشَرِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ لِاقْتِضَائِهِ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْأُمَمِ حَلَّ بِهَا سُوءٌ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ. وَوُصِفَتْ تِلْكَ الْأَيَّامُ بِأَنَّهَا نَحِساتٍ لِأَنَّهَا لَمْ يَحْدُثْ فِيهَا إِلَّا السُّوءُ لَهُمْ مِنْ إِصَابَةِ آلَامِ الْهَشْمِ الْمُحَقَّقِ إِفْضَاؤُهُ إِلَى الْمَوْتِ، وَمُشَاهَدَةِ الْأَمْوَاتِ مِنْ ذَوِيِهِمْ، وَمَوْتِ أَنْعَامِهِمْ، وَاقْتِلَاعِ نَخِيلِهِمْ.
وَقَدِ اخْتَرَعَ أَهْلُ الْقِصَصِ تَسْمِيَةَ أَيَّامٍ ثَمَانِيَةٍ نِصْفُهَا آخِرُ شَهْرِ (شَبَاطَ) وَنِصْفُهَا شَهْرُ (آذَارَ) تَكْثُرُ فِيهَا الرِّيَاحُ غَالِبًا دَعَوْهَا أَيَّامَ الْحُسُومِ ثُمَّ رَكَّبُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا الْمَوْصُوفَةُ بِحُسُومٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ [٧] سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً، فَزَعَمُوا أَنَّهَا الْأَيَّامُ الْمُوَافِقَةُ لِأَيَّامِ الرِّيحِ الَّتِي أَصَابَتْ عَادًا، ثُمَّ رَكَّبُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا أَيَّامُ نَحْسٍ مِنْ كُلِّ عَامٍ وَكَذَبُوا عَلَى بَعْضِ السَّلَفِ مِثْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَكَاذِيبَ فِي ذَلِكَ وَذَلِكَ ضِغْثٌ عَلَى إِبَالَةٍ، وَتَفَنُّنٌ فِي أَوْهَامِ الضَّلَالَةِ.
وَجُمِعَ نَحِساتٍ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِجَمْعِ غَيْرِ الْعَاقِلِ وَهُوَ أَيَّامٍ.
وَاللَّامُ فِي لِنُذِيقَهُمْ لِلتَّعْلِيلِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ (أَرْسَلْنَا). وَالْإِذَاقَةُ تَخْيِيلٌ لِمَكْنِيَّةٍ، شُبِّهَ الْعَذَاب بِطَعَام هيّيء لَهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّهَكُّمِ كَمَا سَمَّى عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ الْغَارَةَ قِرًى فِي قَوْلِهِ:
وَاللَّامُ فِي لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ لَامُ الْأَمْرِ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ. وَتَوْجِيهُ الْأَمْرِ إِلَى الْغَائِبِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مَعْنَى التَّبْلِيغِ كَمَا هُنَا، أَوْ تَنْزِيلِ الْحَاضِرِ مَنْزِلَةَ الْغَائِبِ لِاعْتِبَارٍ مَا مِثْلَ التَّعْظِيمِ فِي نَحْوِ قَوْلِ الْوَزِيرِ لِلْخَلِيفَةِ: لِيَرَ الْخَلِيفَةُ رَأْيَهُ.
وَالْقَضَاءُ بِمَعْنَى: الْإِمَاتَةِ كَقَوْلِهِ: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ [الْقَصَص: ١٥]، سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُزِيلَ عَنْهُمُ الْحَيَاةَ لِيَسْتَرِيحُوا مِنْ إِحْسَاسِ الْعَذَابِ. وَهُمْ إِنَّمَا سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُمِيتَهُمْ فَأُجِيبُوا بِأَنَّهُمْ مَاكِثُونَ جَوَابًا جَامِعًا لِنَفْيِ الْإِمَاتَةِ وَنَفْيِ الْخُرُوجِ فَهُوَ جَوَابٌ قَاطِعٌ لِمَا قَدْ يَسْأَلُونَهُ مِنْ بَعْدُ.
وَمِنَ النَّوَادِرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ (وَنَادَوْا يَا مَالِ) بِحَذْفِ الْكَافِ عَلَى التَّرْخِيمِ، فَذُكِرَتْ قِرَاءَتُهُ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: مَا كَانَ أَشْغَلَ أَهْلَ النَّارِ عَنِ التَّرْخِيمِ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَعَنْ بَعْضِهِمْ: حَسَّنَ التَّرْخِيمَ أَنَّهُمْ يَقْتَطِعُونَ بَعْضَ الِاسْمِ لِضَعْفِهِمْ وَعِظَمَ مَا هم فِيهِ اهـ. وَأَرَادَ بِبَعْضِهِمُ ابْنَ جِنِّي فِيمَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ أَنَّ ابْنَ جِنِّي قَالَ:
وَلِلتَّرْخِيمِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ سِرٌّ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لِعِظَمِ مَا هُمْ عَلَيْهِ ضَعُفَتْ وَذُلَّتْ أَنْفُسُهُمْ وَصَغُرَ كَلَامُهُمْ فَكَانَ هَذَا مِنْ مَوَاضِعِ الِاخْتِصَارِ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ سَمِعت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَنادَوْا يَا مالِكُ بِإِثْبَاتِ الْكَافِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِرَاءَةُ (وَنَادَوْا يَا مَالِ) رَوَاهَا أَبُو الدَّرْدَاءِ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيكون النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِالْوَجْهَيْنِ وَتَوَاتَرَتْ قِرَاءَةُ إِثْبَاتِ الْكَافِ وَبَقِيَتِ الْأُخْرَى مَرْوِيَّةً بِالْآحَادِ فَلَمْ تَكُنْ قُرْآنًا.
وَجُمْلَةُ لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ إِلَى آخِرِهَا فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِجُمْلَةِ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ بِاعْتِبَارِ تَمَامِ الْجُمْلَةِ وَهُوَ الِاسْتِدْرَاكُ بقوله: وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ.
وَضَمِيرُ جِئْناكُمْ لِلْمَلَائِكَةِ، وَالْحَقُّ: الْوَحْيُ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ فَنَسَبَ مَالِكٌ الْمَجِيءَ بِالْحَقِّ إِلَى جَمْعِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى طَرِيقَةِ اعْتِزَازِ الْفَرِيقِ وَالْقَبِيلَةِ بِمَزَايَا
فَكَانَ هَذَا التَّقْسِيمُ الَّذِي أَلْهَمَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ نِظَامًا مُحْكَمًا لِرَبْطِ أَوَاصِرِهِمْ دُونَ مَشَقَّةٍ وَلَا تَعَذُّرٍ فَإِنَّ تَسْهِيلَ حُصُولِ الْعَمَلِ بَيْنَ عَدَدٍ وَاسِعِ الِانْتِشَارِ يَكُونُ بِتَجْزِئَةِ تَحْصِيلِهِ بَيْنَ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ ثُمَّ بِبَثِّ عَمَلِهِ بَيْنَ طَوَائِفَ مِنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ ثُمَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَمَاعَاتٍ أَكْثَرَ. وَهَكَذَا حَتَّى يَعُمَّ أُمَّةً أَوْ يَعُمَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ وَمَا انْتَشَرَتِ الْحَضَارَاتُ الْمُمَاثِلَةُ بَيْنَ الْبَشَرِ إِلَّا بِهَذَا النَّامُوسِ الْحَكِيمِ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّكُمْ حَرَّفْتُمُ الْفِطْرَةَ وَقَلَبْتُمُ الْوَضْعَ فَجَعَلْتُمُ اخْتِلَافَ الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ بِسَبَبِ تَنَاكُرٍ وَتَطَاحُنٍ وَعُدْوَانٍ.
أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ:
مَهْلًا بَنِي عَمِّنَا مَهْلًا مَوَالِيَنَا | لَا تَنْبُشُوا بَيْنَنَا مَا كَانَ مَدْفُونَا |
لَا تَطْمَعُوا أَنْ تُهِينُونَا وَنُكْرِمَكُمْ | وَأَنْ نَكُفَّ الْأَذَى عَنْكُمْ وَتُؤْذُونَا |
وَنَبْكِي حِينَ نَقْتُلُكُمْ عَلَيْكُمْ | وَنَقْتُلُكُمْ كَأَنَّا لَا نُبَالِي |
وَقَدْ سَاءَنِي مَا جَرَّتِ الْحَرْبُ بَيْنَنَا | بَنِي عَمِّنَا لَوْ كَانَ أَمْرًا مُدَانِيَا |
وَقَدْ جَبَرَ اللَّهُ صَدْعَ الْعَرَبِ بِالْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً فَرَدَّهُمْ إِلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَهُمْ عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ تَصَارِيفُ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ تَرْجِعُ بِالنَّاسِ إِلَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ.
وَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَكُونُوا إِخْوَةً وَأَنْ يُصْلِحُوا بَيْنَ الطَّوَائِفِ الْمُتَقَاتِلَةِ وَنَهَاهُمْ عَمَّا يَثْلِمُ الْأُخُوَّةَ وَمَا يَغِينُ عَلَى نُورِهَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ السُّخْرِيَةِ وَاللَّمْزِ وَالتَّنَابُزِ وَالظَّنِّ السُّوءِ وَالتَّجَسُّسِ وَالْغِيبَةِ، ذَكَّرَهُمْ بِأَصْلِ الْأُخُوَّةِ فِي الِأَنْسَابِ الَّتِي أَكَّدَتْهَا أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَوَحْدَةُ الِاعْتِقَادِ لِيَكُونَ ذَلِكَ التَّذْكِيرُ عَوْنًا عَلَى تَبَصُّرِهِمْ فِي حَالِهِمْ،
[سُورَة الرَّحْمَن (٥٥) : آيَة ٣٥]
يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥)اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ عَنْ جُمْلَةِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا [الرَّحْمَن: ٣٣] إِلَخْ لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِشْعَارَ بِالتَّهْدِيدِ يُثِيرُ فِي نُفُوسِهِمْ تَسَاؤُلًا عَمَّا وَرَاءَهُ.
وَضَمِيرُ عَلَيْكُما رَاجِعٌ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فَهُوَ عَامٌّ مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصَ بِالْقَرِينَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَن: ٤٦] الْآيَاتِ. وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُمْ مُعَاقَبُونَ بَعْدَ أَنْ عَرَّضَ لَهُمْ بِذَلِكَ تَعْرِيضًا بِقَوْلِهِ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا [الرَّحْمَن: ٣٣].
وَمَعْنَى يُرْسَلُ عَلَيْكُما أَنَّ ذَلِكَ يَعْتَرِضُهُمْ قَبْلَ أَنْ يَلِجُوا فِي جَهَنَّمَ، أَيْ تُقْذَفُونَ بِشُوَاظٍ مِنْ نَارٍ تَعْجِيلًا لِلسُّوءِ. وَالْمُضَارِعُ لِلْحَالِ، أَيْ وَيُرْسَلُ عَلَيْكُمَا الْآنَ شُوَاظٌ.
وَالشُّوَاظُ بِضَمِّ الشِّينِ وَكَسْرِهَا: اللَّهَبُ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ دُخَانٌ لِأَنَّهُ قَدْ كَمُلَ اشْتِعَالُهُ وَذَلِكَ أَشَدُّ إِحْرَاقًا. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ الشِّينِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِهَا.
وَالنُّحَاسُ: يُطْلَقُ عَلَى الدُّخَانِ الَّذِي لَا لَهَبَ مَعَهُ. وَبِهِ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَتَبِعَهُمَا الْخَلِيلُ.
وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: أَنَّ الدُّخَّانَ الَّذِي لَمْ تَلْحَقْهُمْ مَضَرَّتُهُ وَالْاِخْتِنَاقُ بِهِ بِسَبَبِ شِدَّةِ لَهَبِ الشُّوَاظِ يُضَافُ إِلَى ذَلِكَ الشُّوَاظِ عَلَى حِيَالِهِ فَلَا يَفْلِتُونَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ.
وَيُطْلَقُ النُّحَاسُ عَلَى الصُّفْرِ وَهُوَ الْقِطْرُ. وَبِهِ فَسَّرَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُصَبُّ عَلَيْهِمُ الصُّفْرُ الْمُذَابُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَنُحاسٌ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى شُواظٌ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ مَجْرُورًا عَطْفًا عَلَى نارٍ فَيَكُونُ الشُّوَاظُ مِنْهُ أَيْضًا، أَيْ شُوَاظُ لَهَبٍ مِنْ نَارٍ، وَلَهَبٍ مِنْ نُحَاسٍ مُلْتَهِبٍ. وَهَذِهِ نَارٌ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [الْبَقَرَة: ٢٤].
(١)
لَمَّا كَانَ جُلُّ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةُ إِبْطَالَ إِشْرَاكِ الْمُشْرِكِينَ وَزَجْرَهُمْ عَنْ دِينِ الْإِشْرَاكِ بِأَسْرِهِ وَعَنْ تَفَارِيعِهِ الَّتِي أَعْظَمُهَا إِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ وتكذيبهم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكْذِيبُ الْقُرْآنِ وَتِلْكَ أُصُولُ ضَلَالِهِمْ ابْتُدِئَتِ السُّورَةُ بِالْإِعْلَانِ بِضَلَالِهِمْ وَكُفْرَانِهِمُ الْمُنْعِمَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ تَعَالَى عَنِ النَّقَائِصِ: إِمَّا بِلِسَانِ الْمَقَالِ مِثْلَ الْمَلَائِكَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ أَوْ بِلِسَانِ الْحَالِ مِثْلَ عِبَادَةِ الْمُطِيعِينَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُدْرِكَةِ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِمَّا بِلِسَانِ الْحَالِ مِثْلَ دَلَالَةِ حَالِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ كَحَاجَةِ
الْحَيَوَانِ إِلَى الرِّزْقِ وَحَاجَةِ الشَّجَرَةِ إِلَى الْمَطَرِ وَمَا يَشْهَدُ بِهِ حَالُ جَمِيعِ تِلْكَ الْكَائِنَاتِ مِنْ أَنَّهَا مَرْبُوبَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَمُسَخَّرَةٌ لِمَا أَرَادَهُ مِنْهَا. وَكُلُّ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ لَمْ تَنْقُضْ دَلَالَةَ حَالِهَا بِنَقَائِضِ كُفْرِ مَقَالِهَا فَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ هَذَا التَّسْبِيحِ إِلَّا أَهْلُ الضَّلَالِ مِنَ الْإِنْسِ وَالشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ حُجِبُوا بِشَهَادَةِ حَالِهِمْ لَمَّا غَشَوْهَا بِهِ مِنْ صَرْحِ الْكُفْرِ.
فَالْمَعْنَى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَنْتُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
وَهَذَا يُفِيدُ ابْتِدَاءَ تَقْرِيرِ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّةِ سُلْطَانِهِ لِيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَيَكُونُ لَهُمْ تَعْلِيمًا وَامْتِنَانًا وَيُفِيدُ ثَانِيًا بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يُنَزِّهُوهُ وَلَا وَقَّرُوهُ فَنَسَبُوا إِلَيْهِ شُرَكَاءَ.
وَجِيءَ بِفِعْلِ التَّسْبِيحِ مُضَارِعًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ التَّسْبِيحِ وَدَوَامِهِ وَقَدْ سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ.
وَجِيءَ بِهِ فِي فَوَاتِحِ سُوَرِ: الْحَدِيدِ، وَالْحَشْرِ، وَالصَّفِّ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي قَدِيمِ الْأَزْمَانِ. فَحَصَلَ مِنْ هَذَا التَّفَنُّنِ فِي فواتح هَذِه السُّورَة كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ زِيَادَةً عَلَى مَا بَيَّنَاهُ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ الْخَاصَّةِ بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ، وَمَا فِي هَاتِهِ السُّورَةِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ تَجَدُّدِ التَّسْبِيحِ وَالْأَمْرِ بِالْعَفْوِ عَنْ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِكَيْ لَا يَكْتَفِيَ الْمُؤْمِنُونَ بِحُصُولِ إِيمَانِهِمْ لِيَجْتَهِدُوا فِي تَعْزِيزِهِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
وَإِعَادَةُ مَا الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ: وَما فِي الْأَرْضِ لِقَصْدِ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ.
وَجُمْلَةُ لَهُ الْمُلْكُ اسْتِئْنَافٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ والتسبب لمضمون يسبح لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فَإِنَّ مُلَابَسَةَ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ لِدَلَائِلِ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى
الْأَصْوَاتِ وَاشْتِغَالِ النَّاسِ فَتَكُونُ نَفْسُ الْقَائِمِ فِيهِ أَقْوَى اسْتِعْدَادًا لِتَلَقِّي الْفَيْضِ الرَّبَّانِيِّ.
وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا.
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِقِيَامِ اللَّيْلِ، أَيْ رَتِّلْ قِرَاءَتَكَ فِي الْقِيَامِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مُسْتَقِلًّا بِكَيْفِيَّةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ جَرَى ذِكْرُهُ بِمُنَاسَبَةِ الْأَمْرِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ تَدْخُلُ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ فَكَانَ جُمْلَةُ الْقُرْآنِ حِينَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ سُورَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثِ سُوَرٍ بِنَاءً عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ فِي أَنَّ هَذَا الْمِقْدَارَ مِنَ السُّورَةِ مَكِّيٌّ، وَفِي أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَهَذَا مِمَّا أَشْعَرَ بِهِ قَوْلُهُ: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: ٥] أَيْ سَنُوحِي إِلَيْكَ قُرْآنًا.
فَأَمَرَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ بِمَهَلٍ وَتَبْيِينٍ.
وَالتَّرْتِيلُ: جَعْلُ الشَّيْءِ مُرَتَّلًا، أَيْ مُفَرَّقًا، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَغْرٌ مُرَتَّلٌ، وَهُوَ الْمُفَلَّجُ
الْأَسْنَانِ، أَيْ الْمُفَرَّقُ بَين أَسْنَانه تفَرقا قَلِيلًا بِحَيْثُ لَا تَكُونُ النَّوَاجِذُ مُتَلَاصِقَةً. وَأُرِيدَ بِتَرْتِيلِ الْقُرْآنِ تَرْتِيلُ قِرَاءَتِهِ، أَيْ التَّمَهُّلُ فِي النُّطْقِ بِحُرُوفِ الْقُرْآنِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنَ الْفَمِ وَاضِحَةً مَعَ إِشْبَاعِ الْحَرَكَاتِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ الْإِشْبَاعَ. وَوَصَفَتْ عَائِشَةُ التَّرْتِيلَ فَقَالَتْ: «لَوْ أَرَادَ السَّامِعُ أَنَّ يَعُدَّ حُرُوفَهُ لَعَدَّهَا لَا كَسَرْدِكُمْ هَذَا».
وَفَائِدَةُ هَذَا أَنْ يَرْسَخَ حِفْظَهُ وَيَتَلَقَّاهُ السَّامِعُونَ فَيَعْلَقَ بِحَوَافِظِهِمْ، وَيَتَدَبَّرَ قَارِئُهُ وَسَامِعُهُ مَعَانِيَهُ كَيْ لَا يَسْبِقَ لَفْظُ اللِّسَانِ عَمَلَ الْفَهْمِ. قَالَ قَائِلٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ فِي لَيْلَةٍ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «هَذَا كَهَذِّ الشِّعْرِ» لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَنْشَدُوا الْقَصِيدَةَ أَسْرَعُوا لِيَظْهَرَ مِيزَانُ بَحْرِهَا، وَتَتَعَاقَبَ قَوَافِيهَا عَلَى الْأَسْمَاعِ. وَالْهَذُّ إِسْرَاعُ الْقَطْعِ.
وَأُكِّدَ هَذَا الْأَمْرُ بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِإِفَادَةِ تَحْقِيقِ صِفَةِ التَّرْتِيلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَوِ انْقُصْ بِضَمِّ الْوَاوِ لِلتَّخَلُّصِ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ عِنْدَ سُقُوطِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ، حَرَّكُوا الْوَاوَ بِضَمَّةٍ لِمُنَاسَبَةِ ضَمَّةِ قَافِ انْقُصْ بَعْدَهَا. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ عَلَى الْأَصْلِ فِي التَّخَلُّصِ مِنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.
(لِأَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ عَلَيْهَا النَّجْمَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ)، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ نُجُومُ بُرْجِ الْجَدْيِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ النَّجْمَ كَانَ مَعْهُودًا عِنْدَ الْعَرَبِ وَاشْتُهِرَ فِي ذَلِكَ فِي نَجْمِ الثُّرَيَّا.
وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالطَّارِقِ نَوْعُ الشُّهُبِ (أَيْ لِأَنَّ الشِّهَابَ يَنْقَضُّ فَيَلُوحُ كَأَنَّهُ يَجْرِي فِي السَّمَاءِ كَمَا يسير السائر إِذا أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ). فَالتَّعْرِيفُ فِي لَفْظِ النَّجْمُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَخُصَّ عُمُومُهُ بِوُقُوعِهِ خَبَرًا عَنْ ضَمِيرِ الطَّارِقِ أَيْ أَنَّ الشِّهَابَ عِنْدَ انْقِضَاضِهِ يُرَى سَائِرًا بِسُرْعَةٍ ثُمَّ يَغِيبُ عَنِ النَّظَرِ فَيَلُوحُ كَأَنَّهُ اسْتَقَرَّ فَأَشْبَهَ إِسْرَاعَ السَّائِرِ لَيْلًا ليبلغ إِلَى الْأَحْيَاء الْمَعْمُورَةِ فَإِذَا بَلَغَهَا وَقَفَ سَيْرُهُ.
وَجَوَابُ الْقَسَمِ هُوَ قَوْلُهُ: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ جُعِلَ كِنَايَةً تَلْوِيحِيَّةً رَمْزِيَّةً عَنِ الْمَقْصُودِ. وَهُوَ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ فَهُوَ كَالدَّلِيلِ عَلَى إِثْبَاتِهِ، فَإِنَّ إِقَامَةَ الْحَافِظِ تَسْتَلْزِمُ شَيْئًا
يَحْفَظُهُ وَهُوَ الْأَعْمَالُ خَيْرُهَا وَشَرُّهَا، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ إِرَادَةَ الْمُحَاسَبَةِ عَلَيْهَا وَالْجَزَاءَ بِمَا تَقْتَضِيهِ جَزَاءً مُؤَخَّرًا بَعْدَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِئَلَّا تَذْهَبَ أَعْمَالُ الْعَامِلِينَ سُدًى وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ الْجَزَاءَ مُؤَخَّرٌ إِلَى مَا بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ إِذِ الْمُشَاهَدُ تَخَلُّفُ الْجَزَاءِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ بِكَثْرَةٍ، فَلَوْ أُهْمِلَ الْجَزَاءُ لَكَانَ إِهْمَالُهُ مُنَافِيًا لِحِكْمَةِ الْإِلَهِ الْحَكِيمِ مُبْدِعِ هَذَا الْكَوْنِ كَمَا قَالَ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥] وَهَذَا الْجَزَاءُ الْمُؤَخَّرُ يَسْتَلْزِمُ إِعَادَةَ حَيَاةٍ لِلذَّوَاتِ الصَّادِرَةِ مِنْهَا الْأَعْمَالُ.
فَهَذِهِ لَوَازِمُ أَرْبَعَةٌ بِهَا كَانَتِ الْكِنَايَةُ تَلْوِيحِيَّةً رَمْزِيَّةً.
وَقَدْ حَصَلَ مَعَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ إِفَادَةُ أَنَّ عَلَى الْأَنْفُسِ حَفَظَةً فَهُوَ إِدْمَاجٌ.
وَالْحَافِظُ: هُوَ الَّذِي يَحْفَظُ أَمْرًا وَلَا يُهْمِلُهُ لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ غَرَضٌ مَقْصُودٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَمَا بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ.
فَعَلَى قِرَاءَةِ تَخْفِيفِ الْمِيمِ تَكُونُ (إِنْ) مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ وَلَمَا مُرَكَّبَةً مِنَ اللَّامِ الْفَارِقَةِ بَيْنَ (إِن) النافية و (إِنِ) الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَمَعَهَا (مَا) الزَّائِدَةُ بَعْدَ اللَّامِ لِلتَّأْكِيدِ وَأَصْلُ الْكَلَامِ: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَعَلَيْهَا حَافِظٌ.