وَسَفَهِ أَحْلَامِهِمْ، وَجَهَالَتِهِمْ، وَأَرْدَفَ ذَلِك كُله بِشَتْمِ وَاسْتِهْزَاءِ وَتَمْثِيلِ حَالِهِمْ فِي أَشْنَعِ الصُّوَرِ وَهُمْ أَحْرِيَاءٌ بِذَلِكَ فَإِنَّ الْخُطَّةَ الَّتِي تَدَرَّبُوا فِيهَا تَجْمَعُ مَذَامَّ كَثِيرَةً إِذِ النِّفَاقُ يَجْمَعُ الْكَذِبَ، وَالْجُبْنَ، وَالْمَكِيدَةَ، وَأَفَنَ الرَّأْيِ، وَالْبَلَهَ، وَسُوءَ السُّلُوكِ، وَالطَّمَعَ، وَإِضَاعَةَ الْعُمُرِ، وَزَوَالَ الثِّقَةِ، وَعَدَاوَةَ الْأَصْحَابِ، وَاضْمِحْلَالَ الْفَضِيلَةِ.
أَمَّا الْكَذِبُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْجُبْنُ فَلِأَنَّهُ لَوْلَاهُ لَمَا دَعَاهُ دَاعٍ إِلَى مُخَالَفَةِ مَا يُبْطِنُ، وَأَمَّا الْمَكِيدَةُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ عَلَى اتِّقَاءِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ بِكُلِّ مَا يُمْكِنُ، وَأَمَّا أَفَنُ الرَّأْيِ فَلِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفٍ فِي الْعَقْلِ إِذْ لَا دَاعِيَ إِلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا الْبَلَهُ فَلِلْجَهْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَطُولُ الِاغْتِرَارُ بِهِ، وَأَمَّا سُوءُ السُّلُوكِ فَلِأَنَّ طَبْعَ النِّفَاقِ إِخْفَاءُ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ، وَالصِّفَاتُ الْمَذْمُومَةُ، إِذَا لَمْ تَظْهَرْ لَا يُمْكِنُ لِلْمُرَبِّي وَلَا لِلصَّدِيقِ وَلَا لِعُمُومِ النَّاسِ تَغْيِيرُهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَتَبْقَى كَمَا هِيَ وَتَزِيدُ تَمَكُّنًا بِطُولِ الزَّمَانِ حَتَّى تَصِيرَ مَلَكَةً يَتَعَذَّرُ زَوَالُهَا، وَأَمَّا الطَّمَعُ فَلِأَنَّ غَالِبَ أَحْوَالِ النِّفَاقِ يَكُونُ لِلرَّغْبَةِ فِي حُصُولِ النَّفْعِ، وَأَمَّا إِضَاعَةُ الْعُمُرِ فَلِأَنَّ الْعَقْلَ يَنْصَرِفُ إِلَى تَرْوِيجِ أَحْوَالِ النِّفَاقِ وَمَا يَلْزَمُ إِجْرَاؤُهُ مَعَ النَّاسِ وَنَصْبِ الْحِيَلِ لِإِخْفَاءِ ذَلِكَ وَفِي ذَلِكَ مَا يَصْرِفُ الذِّهْنَ عَنِ الشُّغْلِ بِمَا يُجْدِي، وَأَمَّا زَوَالُ الثِّقَةِ فَلِأَنَّ النَّاسَ إِنِ اطَّلَعُوا عَلَيْهِ سَاءَ ظَنُّهُمْ فَلَا يَثِقُونَ بِشَيْءٍ يَقَعُ مِنْهُ وَلَوْ حَقًّا، وَأَمَّا عَدَاوَةُ الْإِصْحَابِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ خُلُقٌ لِصَاحِبِهِ خَشِيَ غَدْرَهُ فَحَذَرَهُ فَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى عَدَاوَتِهِ، وَأَمَّا اضْمِحْلَالُ الْفَضِيلَةِ فَنَتِيجَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَقَدْ أَشَارَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ إِلَى الْكَذِبِ، وَقَوله: يُخادِعُونَ [الْبَقَرَة:
٩] إِلَى الْمَكِيدَةِ وَالْجُبْنِ، وَقَوله: مَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [الْبَقَرَة: ٩] إِلَى أَفَنِ الرَّأْيِ، وَقَوْلُهُ: وَما يَشْعُرُونَ [الْبَقَرَة: ٩] إِلَى الْبَلَهِ، وَقَوْلُهُ: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الْبَقَرَة: ١٠] إِلَى سُوءِ السُّلُوكِ، وَقَوْلُهُ: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [الْبَقَرَة: ١٠] إِلَى دَوَامِ ذَلِكَ وَتَزَايُدِهِ مَعَ الزَّمَانِ، وَقَوْلُهُ: قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ [الْبَقَرَة: ١١] إِلَى إِضَاعَةِ الْعُمُرِ فِي غَيْرِ الْمَقْصُودِ، وَقَوْلُهُ:
قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [الْبَقَرَة: ١٤] مُؤَكَّدًا بِإِنَّ إِلَى قِلَّةِ ثِقَةِ أَصْحَابِهِمْ فِيهِمْ، وَقَوْلُهُ: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [الْبَقَرَة: ١٦] إِلَى أَنَّ أَمْرَهُمْ لَمْ يَحْظَ بِالْقَبُولِ عِنْدَ أَصْحَابِهِمْ، وَقَوْلُهُ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الْبَقَرَة: ١٨] إِلَى اضْمِحْلَالِ الْفَضِيلَةِ مِنْهُمْ وَسَيَجِيءُ تَفْصِيلٌ لِهَذَا، وَجَمَعَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ.
وَالنَّاسُ اسْمٌ جَمْعٍ إِنْسِيٍّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَيَاءِ النَّسَبِ فَهُوَ عِوَضٌ عَنْ أَنَاسِيِّ الَّذِي هُوَ الْجَمْعُ الْقِيَاسِيُّ لِإِنْسٍ وَقَدْ عَوَّضُوا عَنْ أَنَاسِيِّ أُنَاسٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَطَرْحِ يَاءِ النَّسَبِ، دَلَّ عَلَى هَذَا التَّعْوِيضِ ظُهُورُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ عَبِيدِ بْنِ الْأَبْرَصِ الْأَسَدِيِّ يُخَاطِبُ امْرَأَ الْقَيْسِ:

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٠٣]

وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣)
مَعْطُوفٌ عَلَى فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ [الْبَقَرَة: ٢٠٠] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَإِعَادَةُ فِعْلِ اذْكُرُوا لِيُبْنَى عَلَيْهِ تَعْلِيقُ الْمَجْرُورِ أَيْ قَوْلُهُ: فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ لِبُعْدِ مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ، لِأَنَّهُ أُرِيدَ تَقْيِيدُ الذِّكْرِ بِصِفَتِهِ ثُمَّ تَقْيِيدُهُ بِزَمَانِهِ وَمَكَانِهِ.
فَالذِّكْرُ الثَّانِي هُوَ نَفْسُ الذِّكْرِ الْأَوَّلِ وَعَطْفُهُ عَلَيْهِ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى الْمُغَايَرَةِ بِمَا عُلِّقَ بِهِ مِنْ زَمَانِهِ.
وَالْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ مِنَى، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، يُقِيمُ النَّاسُ فِيهَا بِمِنَى وَتُسَمَّى أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، لِأَنَّ النَّاسَ يُقَدِّدُونَ فِيهَا اللَّحْمَ، وَالتَّقْدِيدُ تَشْرِيقٌ، أَوْ لِأَنَّ الْهَدَايَا لَا تُنْحَرُ فِيهَا حَتَّى تُشْرِقَ الشَّمْسُ. وَكَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ إِقَامَتَهُمْ بِمِنَى بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْمُرَادُ هُنَا بِالْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ، وَلِذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ
الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ مِنَى وَهِيَ بَعْدَ الْيَوْمِ الْعَاشِرِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَمَالِكٍ، وَهِيَ غَيْرُ الْمُرَادِ مِنَ الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ فِي [سُورَةِ الْحَجِّ: ٢٨].
فَالْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ النَّحْرِ الثَّلَاثَةُ، وَهِيَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ. وَالْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ مِنَى بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَالْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ لَا مِنَ الْمَعْدُودَاتِ،
وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، فَذِكْرُ عَذَابِ الدُّنْيَا هُنَا إِدْمَاجٌ. فَإِنْ كَانَ هَذَا مِمَّا خَاطَبَ الله بِهِ عِيسَى فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي صَرِيحِ مَعْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ كَلَامًا مِنَ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ خُوطِبَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، صَحَّ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْهُ أَيْضًا التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ فِي ظُلْمِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُكَابَرَةٍ مِنْهُمْ وَحَسَدٍ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ إِسْنَادِ الْمَحَبَّةِ إِلَى اللَّهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وَجُمْلَةُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ تذييل لجملة فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أَيْ وَلَا يَجِدُونَ ناصرين ينصرونهم علينا فِي تَعْذِيبِهِمُ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَضِيَّةٌ جُزْئِيَّةٌ لَا تَقْتَضِي اسْتِمْرَارَ الْعَذَابَيْنِ:
فَأَمَّا عَذَابُ الدُّنْيَا فَهُوَ يَجْرِي عَلَى نِظَامِ أَحْوَالِ الدُّنْيَا: مِنْ شِدَّةٍ وَضَعْفٍ وَعَدَمِ اسْتِمْرَارٍ، فَمَعْنَى انْتِفَاءِ النَّاصِرِينَ لَهُمْ مِنْهُ انْتِفَاءُ النَّاصِرِينَ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ لِتَعْذِيبِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا مُتَفَاوِتٌ، وَقَدْ وَجَدَ الْيَهُودُ نَاصِرِينَ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ مِثْلَ قِصَةِ اسْتِيرَ فِي الْمَاضِي وَقَضِيَّةِ فِلَسْطِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ.
وَأَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ: فَهُوَ مُطْلَقٌ هُنَا، وَمُقَيَّدٌ فِي آيَات كَثِيرَة بالتأييد، كَمَا قَالَ: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ [الْبَقَرَة: ١٦٧].
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ لِلتَّفْصِيلِ كُلِّهِ فَهِيَ تَذْيِيلٌ ثَانٍ لِجُمْلَةِ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً بِصَرِيحِ مَعْنَاهَا، أَيْ أُعَذِّبُهُمْ لِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَتَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِلَى آخِرِهَا، بِكِنَايَةِ مَعْنَاهَا لِأَنَّ انْتِفَاءَ مَحَبَّةِ اللَّهِ الظَّالِمِينَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ يُحِبُّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلِذَلِكَ يُعْطِيهِمْ ثَوَابَهُمْ وَافِيًا.
وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ ظَالِمِينَ أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ وَظَلَمَ النَّصَارَى اللَّهَ بِأَنْ نَقَصُوهُ بِإِثْبَاتِ وَلَدٍ لَهُ وَظَلَمُوا عِيسَى بِأَنْ نَسَبُوهُ ابْنًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَظَلَمَهُ الْيَهُودُ بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ وَأَذَاهُمْ.
مَعَ وُجُودِ الْأَبَوَيْنِ فِي حَالَةٍ خَاصَّةٍ، وَلَوْ كَانَ الْإِخْوَةُ مَعَ الْأُمِّ وَلَمْ يَكُنْ أَبٌ لَكَانَ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْإِخْوَةِ بَقِيَّةُ الْمَالِ بِاتِّفَاقٍ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي هَذَا تَعْضِيدٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ.
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ.
الْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، وَهُوَ قَيْدٌ يَرْجِعُ إِلَى الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ:
أَيْ تَقْتَسِمُونَ الْمَالَ عَلَى حَسَبِ تِلْكَ الْأَنْصِبَاءِ لِكُلٍّ نَصِيبُهُ حَالَةَ كَوْنِهِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ أَوْ دَيْنٍ.
وَجِيءَ بِقَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ بَعْدَ ذِكْرِ صِنْفَيْنِ مِنَ الْفَرَائِضِ:
فَرَائِضُ الْأَبْنَاءِ، وَفَرَائِضُ الْأَبَوَيْنِ، لِأَنَّ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ كَصِنْفٍ وَاحِدٍ إِذْ كَانَ سَبَبُهُمَا عَمُودَ النَّسَبِ الْمُبَاشِرِ. وَالْمَقْصِدُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الْوَصِيَّةِ وَتَقَدُّمِهَا. وَإِنَّمَا ذُكِرَ الدَّيْنُ بَعْدَهَا تَتْمِيمًا لِمَا يَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمِيرَاثِ مَعَ عِلْمِ السَّامِعِينَ أَنَّ الدَّيْنَ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْوَصِيَّةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ حَقٌّ سَابِقٌ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، لِأَنَّ الْمَدِينَ لَا يَمْلِكُ مِنْ مَالِهِ إِلَّا مَا هُوَ فَاضِلٌ عَنْ دَيْنِ دَائِنِهِ. فَمَوْقِعُ عَطْفِ أَوْ دَيْنٍ مَوْقِعُ الِاحْتِرَاسِ، وَلِأَجْلِ هَذَا الِاهْتِمَامِ كَرَّرَ اللَّهُ هَذَا الْقَيْدَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ.
وَوَصَفَ الْوَصِيَّةَ بِجُمْلَةِ يُوصِي بِها لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْوَصِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ مَفْرُوضَةً قَبْلَ شَرْعِ الْفَرَائِضِ، وَهِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [الْبَقَرَة: ١٨٠]. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُوصِي بِها فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ- بِكَسْرِ الصَّادِ- وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْكَلَامِ وَهُوَ الْمَيِّتُ، كَمَا عَادَ ضَمِيرُ مَا تَرَكَ [النِّسَاء: ٧] وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَيْضًا: يُوصَى- بِفَتْح الصَّاد- مَبْنِيا لِلنَّائِبِ أَيْ يُوصِي بِهَا مُوصٍ.
آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً
كِتَابَ نِصَابِ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ كَانَ بَعَثَهُ لِذَلِكَ، فَذَلِكَ لَا يُنَافِي الْأَمْرَ بِالتَّبْلِيغِ لِأَنَّ ذَلِكَ بَيَانٌ لِمَا أُنْزِلَ وَلَيْسَ عَيْنَ مَا أُنْزِلَ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ مِنْهُ تَخْصِيصَهُ بِعِلْمِهِ، بَلْ قَدْ يُخْبِرُ بِهِ مَنْ تَدْعُو الْحَاجة إِلَى علمه بِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ مَنْ سَمِعَ مَقَالَتَهُ بِأَن يعيها ويؤيّديها كَمَا سَمِعَهَا، وَأَمَرَ أَنْ يُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّبْلِيغِ فَأَمَّا أَنْ يَدَعَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ خَاصًّا بِأَحَدٍ وَأَنْ يَكْتُمَهُ الْمُودَعُ عِنْدَهُ عَنِ النَّاسِ فَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ يَخُصُّ أَحَدًا بِعِلْمٍ لَيْسَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى أُمُورِ التَّشْرِيعِ، مِنْ سِرٍّ يُلْقِيهِ إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ، كَمَا أَسَرَّ إِلَى فَاطِمَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- بِأَنَّهُ يَمُوتُ يَوْمَئِذٍ وَبِأَنَّهَا أَوَّلُ أَهْلِهِ لَحَاقًا بِهِ. وَأَسَرَّ إِلَى أَبِي بَكْرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بِأَنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ. وَأَسَرَّ إِلَى حُذَيْفَةَ خَبَرَ فِتْنَةِ الْخَارِجِينَ عَلَى عُثْمَانَ، كَمَا حَدَّثَ حُذَيْفَةُ بِذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ. وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ وِعَائَيْنِ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ لَقُطِعَ مِنِّي هَذَا الْبُلْعُومُ.
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ جَزَمْنَا بِأَنَّ الْكِتَابَ الَّذِي هَمَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابَتِهِ لِلنَّاسِ، وَهُوَ فِي مَرَضِ وَفَاتِهِ، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُ، لَمْ يَكُنْ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى التَّشْرِيعِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا أَعْرَضَ عَنْهُ وَاللَّهُ يَقُولُ لَهُ: بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ لِمَسْرُوقٍ: «ثَلَاثٌ مَنْ حَدَّثَكَ بِهِنَّ فَقَدْ كَذَبَ، مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَقَدْ كَذَبَ، وَاللَّهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ الْحَدِيثَ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ جَاءَ الشَّرْطُ بِإِنِ الَّتِي شَأْنُهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَدَمُ الْيَقِينِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ، لِأَنَّ عَدَمَ التَّبْلِيغِ غَيْرُ مظنون بمحمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا فُرِضَ هَذَا
الشَّرْطُ لِيُبْنَى عَلَيْهِ الْجَوَابُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، لِيَسْتَفِيقَ الَّذِينَ يَرْجُونَ أَنْ يَسْكُتَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ
وَالْمُجْرِمُونَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّهُمُ الْمُرَادُ وَلِإِجْرَاءِ وَصْفِ الْإِجْرَامِ عَلَيْهِمْ. وَخَصَّ الْمُجْرِمِينَ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا لِإِيضَاحِ خَفِيِّ أَحْوَالِهِمْ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ- بِتَاءٍ مُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ فِي أَوَّلِ الْفِعْلِ- عَلَى أَنَّهَا تَاءُ خِطَابٍ. وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ- بِيَاءِ الْغَائِبِ-، ثُمَّ إِنَّ نَافِعًا، وَأَبَا جَعْفَرٍ قَرَأَ سَبِيلَ- بِفَتْحِ اللَّامِ- عَلَى أنّه مفعول لِتَسْتَبِينَ فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلطَّلَبِ. وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ- بِرَفْعِ اللَّامِ- عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ «يَسْتَبِينَ» أَوْ «تَسْتَبِينَ». فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لَيْسَا لِلطَّلَبِ بَلْ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُ اسْتَجَابَ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْص، على عَاصِمٍ- بِرَفْعٍ- سَبِيلُ عَلَى أَنَّ تَاءَ الْمُضَارَعَةِ تَاءُ الْمُؤَنَّثَةِ. لِأَنَّ السَّبِيلَ مُؤَنَّثَةٌ فِي لُغَةِ عَرَبِ الْحِجَازِ، وَعَلَى أَنَّهُ مِنِ اسْتَبَانَ الْقَاصِرُ بِمَعْنَى بَانَ فَ سَبِيلُ فَاعل لِتَسْتَبِينَ، أَيْ لِتَتَّضِحَ سَبِيلُهُمْ لَك وَلِلْمُؤْمنِينَ.
[٥٦]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٥٦]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ عَادَ بِهِ الْكَلَامُ إِلَى إبِْطَال الشّرك بالتبري مِنْ عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَبْطَلَ إِلَهِيَّةَ الْأَصْنَامِ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ قَوْلِهِ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا [الْأَنْعَام: ١٤] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ [الْأَنْعَام: ٤٠] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ [الْأَنْعَام: ٤٦] الْآيَةَ. جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِطَرِيقَةٍ أُخْرَى لِإِبْطَالِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ نَهَى رَسُولَهُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَنْ عِبَادَتِهَا وَعَنِ اتِّبَاعِ أَهْوَاءٍ عَبَدَتِهَا.
وَعُرِّفَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ بِالْإِشَارَةِ لِوُقُوعِهِ عَقِبَ صِفَاتٍ لِتَدُلَّ الْإِشَارَةُ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِالْحُكْمِ الْمُسْنَدِ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الصِّفَاتِ، فَكَأَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُمْ قَدْ تَمَيَّزُوا لِلسَّامِعِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ فَصَارُوا بِحَيْثُ يُشَارُ إِلَيْهِمْ.
وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَصْرٌ آخَرُ يُشْبِهُ الْقَصْرَ الَّذِي قَوْلُهُ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الْأَنْفَال: ٢] حَيْثُ قُصِرَ الْإِيمَانُ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى أَصْحَابِ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَلَكِنَّهُ قُرِنَ هُنَا بِمَا فِيهِ بَيَانُ الْمَقْصُورِ وَهُوَ أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحِقَّاءُ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ.
وَالْحَقُّ أَصْلُهُ مَصْدَرُ حَقَّ بِمَعْنَى ثَبَتَ وَاسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ لِلشَّيْءِ الثَّابِتِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النِّسَاء: ١٢٢].
وَيُطْلَقُ كَثِيرًا، عَلَى الْكَامِلِ فِي نَوْعِهِ، الَّذِي لَا سُتْرَةَ فِي تَحَقُّقِ مَاهِيَّةِ نَوْعِهِ فِيهِ، كَمَا يَقُولُ أَحَدٌ لِابْنِهِ الْبَارِّ بِهِ: أَنْتَ ابْنِي حَقًّا، وَلَيْسَ يُرِيدُ أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ أبنائه لَيْسُوا لرشدة وَلَكِنَّهُ يُرِيدُ أَنْتَ بُنُوَّتُكَ وَاضِحَةٌ آثارها، وَيُطْلَقُ الْحَقُّ عَلَى الصَّوَابِ وَالْحِكْمَةِ فَاسْمُ الْحَقِّ يَجْمَعُ مَعْنَى كَمَالِ النَّوْعِ.
وَلِكُلِّ صِيغَةِ قَصْرٍ: مَنْطُوقٌ وَمَفْهُومٌ، فَمَنْطُوقُهَا هُنَا أَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الصِّلَاتُ هُمْ مُؤْمِنُونَ حَقًّا، وَمَفْهُومُهَا أَنَّ مَنِ انْتَفَى عَنْهُ أَحَدُ مَدْلُولَاتِ تِلْكَ الصِّلَاتِ لَمْ
يَكُنْ مُؤْمِنًا كَامِلًا، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ ثَبَتَتْ لَهُ إِحْدَاهَا كَانَ مُؤْمِنًا كَامِلًا، إِذَا لَمْ يَتَّصِفْ بِبَقِيَّةِ خِصَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ، فَمَعْنَى أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا: أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ حَقًّا أَيْ كَامِلًا.
وَهَذَا تَأْوِيلٌ لِلْكَلَامِ دَعَا إِلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ عَدِيدِ الْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ مِنْ ثُبُوتِ وَصْفِ الْإِيمَانِ لِكُلِّ مَنْ أَيْقَنَ بِأَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِالْإِلَهِيَّةِ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، فَتِلْكَ الْأَدِلَّةُ بَلَغَتْ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ الْمُحَصِّلِ لِلْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِأَنَّ الْإِخْلَالَ بِالْوَاجِبَاتِ الدِّينِيَّةِ لَا يَسْلِبُ صِفَةَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ عَنْ صَاحِبِهِ، فَلَيْسَ حَمْلُ الْقَصْرِ عَلَى الِادِّعَائِي هُنَا مُجَرّد صنع بِالْيَدِ، أَوْ ذَهَابٍ مَعَ الْهَوَى عَلَى أَنَّ شَأْنَ الِاتِّصَافِ بِبَعْضِ صِفَاتِ الْفَضَائِلِ أَنْ يَتَنَاسَقَ مَعَ نَظَائِرِهَا فَمَنْ كَانَ بِحَيْثُ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَ قَلْبُهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِ آيَاتُ اللَّهِ زَادَتْهُ إِيمَانًا، فَهَذَا تَحْقِيقُ مَعْنَى الْقَصْرَيْنِ.
وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٣٤].
وَقَوْمُ نُوحٍ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٩].
وَنُوحٌ: تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٣٣].
وَعَادٌ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٦٥].
وَكَذَلِكَ ثَمُودُ. وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ هُمُ الْكَلْدَانِيُّونَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَيْهِمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٤].
وَإِضَافَةُ أَصْحابِ إِلَى مَدْيَنَ بِاعْتِبَارِ إِطْلَاقِ اسْمِ مَدْيَنَ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي كَانَ يَقْطُنُهَا بَنُو مَدْيَنَ، فَكَمَا أَنَّ مَدْيَنَ اسْمٌ لِلْقَبِيلَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً [الْأَعْرَاف: ٨٥] كَذَلِكَ هُوَ اسْمٌ لِمَوْطِنِ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَدْيَنَ عِنْدَ قَوْلِهِ:
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فِي الْأَعْرَافِ [٨٥].
وَالْمُؤْتَفِكاتِ عُطِفَ عَلَى أَصْحابِ مَدْيَنَ، أَيْ نَبَأِ الْمُؤْتَفِكَاتِ، وَهُوَ جَمْعُ مُؤْتَفِكَةٍ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الِائْتِفَاكِ وَهُوَ الِانْقِلَابُ. أَيِ الْقُرَى الَّتِي انْقَلَبَتْ وَالْمُرَادُ بِهَا: قُرًى صَغِيرَةٌ كَانَتْ مَسَاكِنَ قَوْمِ لُوطٍ وَهِيَ: سَدُومُ، وَعَمُورَةُ، وَأَدَمَةُ، وَصِبْوِيمُ وَكَانَتْ قُرًى
مُتَجَاوِرَةً فَخُسِفَ بِهَا وَصَارَ عَالِيهَا سَافِلَهَا. وَكَانَتْ فِي جِهَاتِ الْأُرْدُنِّ حَوْلَ الْبَحْرِ الْمَيِّتِ، وَنَبَأُ هَؤُلَاءِ مَشْهُورٌ مَعْلُومٌ، وَهُوَ خَبَرُ هَلَاكِهِمْ وَاسْتِئْصَالِهِمْ بِحَوَادِثَ مَهُولَةٍ.
وَجُمْلَةُ: أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ تَعْلِيلٌ أَوِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِدَلَائِلَ الصِّدْقِ وَالْحَقِّ.
وَجُمْلَةُ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ، وَالْمُفَرَّعُ هُوَ مَجْمُوعُ الْجُمْلَةِ إِلَى قَوْلِهِ: يَظْلِمُونَ لِأَنَّ الَّذِي تَفَرَّعَ عَلَى إِتْيَانِ الرُّسُلِ: أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْعِنَادِ، وَالْمُكَابَرَةِ، وَالتَّكْذِيبِ لِلرُّسُلِ، وَصَمِّ الْآذَانِ عَنِ الْحَقِّ، فَأَخَذَهُمُ
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِتَحْقِيقِ بَطْشِ فِرْعَوْنَ.
وَالْعُلُوُّ: مُسْتَعَارٌ لِلْغَلَبَةِ وَالِاسْتِبْدَادِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَقَوْلِهِ: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النَّمْل: ٣١].
وَالْإِسْرَافُ: تَجَاوُزُ حَدِّ الِاعْتِدَالِ الْمَعْرُوفِ فِي فِعْلٍ، فَهُوَ تَجَاوُزٌ مَذْمُومٌ، وَأَشْهَرُ مَوَارِدِهِ فِي الْإِنْفَاقِ، وَلَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلِّقُ الْإِفْرَاطِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ إِسْرَافًا فِيمَا عُرِفَ بِهِ مُلُوكُ زَمَانِهِمْ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَكْرُوهَةِ عِنْدَ النَّاسِ الْمُلَازِمَةِ لِلْمُلُوكِ فِي الْعَادة.
وَقَوله: لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ أَبْلَغُ فِي وَصْفِهِ بِالْإِسْرَافِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: وَإِنَّهُ لَمُسْرِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي الْأَنْعَام [٥٦].
[٨٤- ٨٦]
[سُورَة يُونُس (١٠) : الْآيَات ٨٤ إِلَى ٨٦]
وَقالَ مُوسى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦)
عَطَفَ بَقِيَّةَ الْقِصَّةِ عَلَى أَوَّلِهَا فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقالَ فِرْعَوْنُ [يُونُس: ٧٩]، وَهَذَا خِطَابُ مُوسَى لِجَمِيعِ قَوْمِهِ وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ بِمِصْرَ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خَاطَبَهُمْ بِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ دَعَاهُمْ وَآمَنُوا بِهِ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ. وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَثْبِيتُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ فِي حَضْرَةِ فِرْعَوْنَ عَلَى تَوَكُّلِهِمْ، وَأَمْرُ مَنْ عَدَاهُمُ الَّذِينَ خَافَ ذُرِّيَّتُهُمْ أَنْ يُؤَنِّبُوهُمْ عَلَى إِظْهَارِ الْإِيمَانِ بِأَنْ لَا يَجَبِّنُوا أَبْنَاءَهُمْ، وَأَنْ لَا يَخْشَوْا فِرْعَوْنَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا.
وَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ حَقًّا كَمَا أَظْهَرَتْهُ أَقْوَالُكُمْ فَعَلَيْهِ اعْتَمِدُوا فِي نَصْرِكُمْ وَدَفْعِ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَعْتَمِدُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ بِمُصَانَعَةِ فِرْعَوْنَ وَلَا عَلَى فِرْعَوْنَ بِإِظْهَارِ الْوَلَاءِ لَهُ.
وَمَجِيءُ تُراوِدُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ مَعَ كَوْنِ الْمُرَاوَدَةِ مَضَتْ لِقَصْدِ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ لِقَصْدِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهَا فِي أَنْفُسِهِنَّ وَلَوْمِهَا عَلَى صَنِيعِهَا. وَنَظِيرُهُ فِي اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [سُورَة هود: ٧٤].
وَجُمْلَةُ قَدْ شَغَفَها حُبًّا فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ تُراوِدُ فَتاها.
وَجُمْلَةُ إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِإِظْهَارِ اللَّوْمِ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهَا.
وَالتَّأْكِيدُ بِ (إِنَّ) وَاللَّامِ لِتَحْقِيقِ اعْتِقَادِهِنَّ ذَلِكَ، وَإِبْعَادًا لِتُهْمَتِهِنَّ بِأَنَّهُنَّ يَحْسُدْنَهَا عَلَى ذَلِكَ الْفَتَى.
وَالضَّلَالُ هُنَا: مُخَالَفَةُ طَرِيقِ الصَّوَابِ، أَيْ هِيَ مَفْتُونَةُ الْعَقْلِ بِحُبِّ هَذَا الْفَتَى، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الضَّلَالَ الدِّينِيَّ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى آنِفًا: إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سُورَة يُوسُف: ٨].
[٣١، ٣٢]
[سُورَة يُوسُف (١٢) : الْآيَات ٣١ إِلَى ٣٢]
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢)
حَقُّ سَمِعَ أَنْ يُعَدَّى إِلَى الْمَسْمُوعِ بِنَفْسِهِ، فَتَعْدِيَتُهُ بِالْبَاءِ هُنَا إِمَّا لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى أُخْبِرَتْ، كَقَوْلِ الْمَثَلِ: «تَسْمَعُ بِالْمُعِيدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ» أَيْ تُخْبَرُ عَنْهُ. وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ مَزِيدَةً لِلتَّوْكِيدِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [سُورَة الْمَائِدَة: ٦].
وَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْحِفَاظِ عَلَى عَهْدِهِمْ بِحِفْظِ الشَّرِيعَةِ، وَإِضَافَةُ الْعَهْدِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُمْ عَاهَدُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ الَّذِي دَعَاهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ، فَهُمْ قَدْ عَاهَدُوا اللَّهَ كَمَا قَالَ:
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [سُورَة الْفَتْح: ١٠]، وَقَالَ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [سُورَة الْأَحْزَاب: ٢٣]. وَالْمَقْصُودُ: تَحْذِيرُ الَّذِينَ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ مِنْ أَنْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ.
وإِذا لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ قَدْ عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، فَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الزَّمَانِ لِتَأْكِيدِ الْوَفَاءِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ عَاهَدَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ.
وَالْقَرِينَةُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا. [سُورَة النَّحْل: ٩١] وَالْعَهْدُ: الْحَلِفُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ. وَكَذَلِكَ النَّقْضُ تَقَدَّمَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ، وَنَقْضُ الْأَيْمَانِ: إِبْطَالُ مَا كَانَتْ لِأَجْلِهِ. فَالنَّقْضُ إِبْطَالُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ لَا إِبْطَالُ الْقَسَمِ، فَجَعَلَ إِبْطَالَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ نَقْضًا لِلْيَمِينِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ تَهْوِيلًا وَتَغْلِيظًا لِلنَّقْضِ لِأَنَّهُ نَقْضٌ لِحُرْمَةِ الْيَمِينِ.
وبَعْدَ تَوْكِيدِها زِيَادَةٌ فِي التَّحْذِيرِ، وَلَيْسَ قَيْدًا لِلنَّهْيِ بِالْبَعْدِيَّةِ، إِذِ الْمَقْصُودُ أَيْمَانٌ مَعْلُومَةٌ وَهِيَ أَيْمَانُ الْعَهْدِ وَالْبَيْعَةِ، وَلَيْسَتْ فِيهَا بَعْدِيَّةٌ.
وبَعْدِ هُنَا بِمَعْنَى (مَعَ)، إِذِ الْبَعْدِيَّةُ وَالْمَعِيَّةُ أَثَرُهُمَا وَاحِدٌ هُنَا، وَهُوَ حُصُولُ تَوْثِيقِ الْأَيْمَانِ وَتَوْكِيدِهَا، كَقَوْلِ الشُّمَيْذَرِ الْحَارِثِيِّ:
بَنِي عَمِّنَا لَا تَذكرُوا الشّعْر بعد مَا دَفَنْتُمْ بِصَحْرَاءِ الْغُمَيْرِ الْقَوَافِيَا
أَيْ لَا تَذْكُرُوا أَنَّكُمْ شُعَرَاءُ وَأَنَّ لَكُمْ شِعْرًا، أَوْ لَا تَنْطِقُوا بِشِعْرٍ مَعَ وُجُودِ أَسْبَابِ الْإِمْسَاكِ عَنْهُ فِي وَقْعَةِ صَحْرَاءِ الْغُمَيْرِ (١)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ [سُورَة الحجرات: ١١]، وَقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ.
_________
(١) وَهَذَا كِنَايَة عَن ترك قَول الشّعْر لِأَن أهم أغراض قَول الشّعْر قد تعطل فيهم.
وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى قِصَّةِ نَفَرٍ مِنْ صَالِحِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ ثَبَتُوا عَلَى دِينِ الْحَقِّ فِي وَقْتِ شُيُوعِ الْكُفْرِ وَالْبَاطِلِ فَانْزَوَوْا إِلَى الْخَلْوَةِ تَجَنُّبًا لِمُخَالَطَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ فَأَوَوْا إِلَى كَهْفٍ اسْتَقَرُّوا فِيهِ فِرَارًا مِنَ الْفِتْنَةِ فِي دِينِهِمْ، فَأَكْرَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ أَلْقَى عَلَيْهِمْ نَوْمًا بَقُوا فِيهِ مُدَّةً طَوِيلَةً ثُمَّ أَيْقَظَهُمْ فَأَرَاهُمُ انْقِرَاضَ الَّذِينَ كَانُوا يَخَافُونَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ. وَبَعْدَ أَنْ أَيْقَنُوا بِذَلِكَ
أَعَادَ نَوْمَتَهُمُ الْخَارِقَةَ لِلْعَادَةِ فَأَبْقَاهُمْ أَحْيَاءً إِلَى أَمَدٍ يَعْلَمُهُ اللَّهُ أَوْ أَمَاتَهُمْ وَحَفِظَ أَجْسَادَهُمْ مِنَ الْبِلَى كَرَامَةً لَهُمْ.
وَقَدْ عَرَفَ النَّاسُ خَبَرَهُمْ وَلَمْ يَقِفُوا عَلَى أَعْيَانِهِمْ وَلَا وَقَفُوا عَلَى رَقِيمِهِمْ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي شَأْنِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ وُقُوعَ قِصَّتِهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْفِيهَا.
وَلَمَّا كَانَتْ مَعَانِي الْآيَاتِ لَا تَتَّضِحُ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ مَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ مِنْ قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ تَعَيَّنَ أَنْ نَذْكُرَ مَا صَحَّ عِنْدَ أَعْلَامِ الْمُؤَرِّخِينَ عَلَى مَا فِيهِ مِنِ اخْتِلَافٍ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ مُلَخَّصًا فِي ذَلِكَ دُونَ تَعْرِيجٍ عَلَى مَا هُوَ مِنْ زِيَادَاتِ الْمُبَالِغِينَ وَالْقُصَّاصِ.
وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْأَكْثَرُ أَنَّ فِي بَلَدٍ يُقَالُ لَهُ (أَبْسُسُ) - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحِّدَةِ وَضَمِّ السِّينِ بَعْدَهَا سِينٌ أُخْرَى مُهْمَلَةٌ- وَكَانَ بَلَدًا من ثغور طرسوس بَيْنَ حَلَبَ وَبِلَادِ أَرْمِينِيَّةَ وَأَنْطَاكِيَّةَ.
وَلَيْسَتْ هِيَ (أَفْسُسَ) - بِالْفَاءِ أُخْتِ الْقَافِ- الْمَعْرُوفَةَ فِي بِلَادِ الْيُونَانِ بِشُهْرَةِ هَيْكَلِ الْمُشْتَرِي فِيهَا فَإِنَّهَا مِنْ بِلَادِ الْيُونَانِ وَإِلَى أَهْلِهَا كَتَبَ بُولُسُ رِسَالَتَهُ الْمَشْهُورَةَ. وَقَدِ اشْتَبَهَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الْمُؤَرِّخِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ. وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْ (مَرْعَشَ) مِنْ بِلَادِ أَرْمِينِيَّةَ، وَكَانَتِ الدِّيَانَةُ النَّصْرَانِيَّةُ دَخَلَتْ فِي تِلْكَ الْجِهَاتِ، وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا دِينَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الرُّومِيَّةِ الشَّرْقِيَّةِ قَبْلَ تَنَصُّرِ قُسْطَنْطِينَ، فَكَانَ مِنْ أَهْلِ (أَبْسُسَ) نَفَرٌ مِنْ صَالِحِي النَّصَارَى يُقَاوِمُونَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ. وَكَانُوا فِي زمن الإنبراطور (دُوقْيُوسْ) وَيُقَالُ (دِقْيَانُوسْ) الَّذِي
فِي عَدَمِ التَّأَثُّرِ بِهَا. وَتَعْرِيفُ السَّاحِرُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ لِقَصْدِ الْجِنْسِ الْمَعْرُوفِ، أَيْ لَا يُفْلِحُ بِهَا كُلُّ سَاحِرٍ.
وَاخْتِيرَ فِعْلُ أَتى دُونَ نَحْوِ: حَيْثُ كَانَ، أَوْ حَيْثُ حَلَّ، لِمُرَاعَاةِ كَوْنِ مُعْظَمِ أُولَئِكَ السَّحَرَة مجلوبون مِنْ جِهَاتِ مِصْرَ، وَلِلرِّعَايَةِ عَلَى فَوَاصِلِ الْآيَاتِ الْوَاقِعَةِ عَلَى حَرْفِ الْأَلِفِ الْمَقْصُورَةِ.
وَتَعْمِيمُ حَيْثُ أَتى لِعُمُومِ الْأَمْكِنَةِ الَّتِي يَحْضُرُهَا، أَيْ بِسِحْرِهِ.
وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِوَصْفِ السَّاحِرِ يَقْتَضِي أَنَّ نَفْيَ الْفَلَاحِ عَنِ السَّاحِرِ فِي أُمُورِ السِّحْرِ لَا فِي تِجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ وُقُوعِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، لِأَنَّ عُمُومَ الْأَشْيَاءِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَمْكِنَةِ الَّتِي تقع فِيهَا.
[٧٠- ٧١]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٧٠ إِلَى ٧١]
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١)
الْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ [طه: ٦٩]. وَالتَّقْدِيرُ:
فَأَلْقَى فَتَلَقَّفَتْ مَا صَنَعُوا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشُّعَرَاء: ٦٣].
وَالْإِلْقَاءُ: الطَّرْحُ عَلَى الْأَرْضِ. وَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الْمَجْهُولِ لِأَنَّهُمْ لَا مُلْقِيَ لَهُمْ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ سُجَّدًا، فَإِنَّ سُجُودَهُمْ كَانَ إِعْلَانًا بِاعْتِرَافِهِمْ أَنَّ مُوسَى مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُجُودُهُمْ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى.
كَأَنَّهُ سَلَكَ نَفْسَهُ فِي الِانْخِفَاضِ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا الْمُؤْمِنُونَ، لِأَنَّ التَّوَاضُعَ مِنْ شِيَمِهِمْ كَمَا كَانَ التَّكَبُّرُ مِنْ سِمَاتِ الْمُشْرِكِينَ قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غَافِر: ٣٥].
وَالْوَجَلُ: الْخَوْفُ الشَّدِيدُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ فِي [سُورَةِ الْحِجْرِ: ٥٢].
وَقَدْ أَتْبَعَ صِفَةَ الْمُخْبِتِينَ بِأَرْبَعِ صِفَاتٍ وَهِيَ: وَجَلُ الْقُلُوبِ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى فِي سَبِيلِهِ، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ، وَالْإِنْفَاقُ. وَكُلُّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعِ مَظَاهِرُ لِلتَّوَاضُعِ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مَنْ جَمَعَ تِلْكَ الصِّفَاتِ لِأَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ مِنْهُ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مَنْ لَمْ يُخِلَّ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا. وَالْمُرَادُ مِنَ الْإِنْفَاقِ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ الضُّعَفَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ دَأْبُ الْمُخْبِتِينَ. وَأَمَّا الْإِنْفَاق على الضَّيْف وَالْأَصْحَابِ فَذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ الْمُتَكَبِّرُونَ مِنَ الْعَرَبِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [الْبَقَرَة: ١٨٠].
وَهُوَ نَظِيرُ الْإِنْفَاقِ عَلَى النُّدَمَاءِ فِي مَجَالِسِ الشَّرَابِ. وَنَظِيرُ إِتْمَامِ الْإِيسَارِ فِي مَوَاقِعِ الميسر، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
إِنِّي أُتَمِّمُ أَيْسَارِي وَأَمْنَحُهُمْ مثنى الأيادي وأكسوا الْجَفْنَةَ الْأُدُمَا
وَالْمُرَادُ بِالصَّبْرِ: الصَّبْرُ عَلَى مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْأَذَى فِي سَبِيلِ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا الصَّبْرُ فِي الْحُرُوبِ وَعَلَى فَقْدِ الأحبّة فمما تتشرك فِيهِ النُّفُوسُ الْجَلْدَةُ مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُخْبِتِينَ.
وَفِي كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ الصَّبْرِ فَضِيلَةٌ إِسْلَامِيَّةٌ إِذَا كَانَ تَخَلُّقًا بِأَدَبِ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [الْبَقَرَة: ١٥٥- ١٥٦] الْآيَة.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى السَّحَابِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤] فِي قَوْلِهِ: وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ الرَّعْدِ [١٢].
وَدَخَلَتْ (بَيْنَ) عَلَى ضَمِيرِ السَّحَابِ لِأَنَّ السَّحَابَ ذُو أَجْزَاءٍ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ أَيْ يُؤَلِّفُ بَيْنَ السَّحَابَاتِ مِنْهُ.
وَالرُّكَامُ: مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّكْمِ. وَالرَّكْمُ: الْجَمْعُ وَالضَّمُّ. وَوَزْنُ فُعَالٍ وَفُعَالَةٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْمَفْعُولِ. فَالرُّكَامُ بِمَعْنَى الْمَرْكُومِ كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ فِي سُورَةِ الطُّورِ [٤٤].
فَإِذَا تَرَاكَمَ السَّحَابُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ حَدَثَ فِيهِ مَا يُسَمَّى فِي عِلْمِ حَوَادِثِ الْجَوِّ بِالسِّيَالِ الْكَهْرَبَائِيِّ وَهُوَ الْبَرْقُ. فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ الْوَدْقُ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْوَدْقَ هُوَ الْمَطَرُ، وَهُوَ الَّذِي اقْتَصَرَتْ عَلَيْهِ دَوَاوِينُ اللُّغَةِ، وَالْمَطَرُ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِ السَّحَابِ.
وَالْخِلَالُ: الْفُتُوقُ، جَمْعُ خَلَلٍ كَجَبَلٍ وَجِبَالٍ. وَتَقَدَّمَ خِلالَ الدِّيارِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٥].
وَمَعْنَى يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ يُسْقِطُ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ، أَيْ يُنَزِّلُ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ. وَالسَّمَاءُ: الْجَوُّ الَّذِي فَوْقَ جِهَة من الْأَرْضِ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ جِبالٍ بَدَلٌ مِنَ السَّماءِ بِإِعَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ الْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَهُوَ بَدَلُ بَعْضٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْجِبَالِ سَحَابٌ أَمْثَالُ الْجِبَالِ.
وَإِطْلَاقُ الْجِبَالِ فِي تَشْبِيهِ الْكَثْرَةِ مَعْرُوفٌ. يُقَالُ: فُلَانٌ جَبَلُ عِلْمٍ، وَطَوْدُ عِلْمٍ.
وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبَا لَسَرَّنِي أَنْ لَا تَمُرَّ عَلَيَّ ثَلَاثُ لَيَالٍ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا شَيْئًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ»
أَيْ مَا كَانَ يَسُرُّنِي، فَالْكَلَامُ بِمَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ لَمَا سَرَّنِي. أَوْ لَمَا كَانَ سَرَّنِي إِلَخْ.
إِلَيْهِمْ، فَالْأَنْبِيَاءُ مَأْمُورُونَ أَمْرًا عَامًّا بِالْإِرْشَادِ إِلَى الْحَقِّ، وَكَذَلِكَ دُعَاءُ سُلَيْمَانَ هُنَا،
وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ»
فَهَذِهِ سُنَّةُ الشَّرَائِعِ لِأَنَّ الْغَايَةَ الْمُهِمَّةَ عِنْدَهَا هُوَ إِصْلَاحُ النُّفُوسِ دُونَ التَّشَفِّي وَحُبِّ الْغَلَبَةِ.
وَحَرْفُ (أَنْ) مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى فِي مَوْقِعِهِ غُمُوضٌ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مِمَّا شَمَلَهُ كِتَابُ سُلَيْمَانَ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ الَّتِي هِيَ مَبْدَأُ الْكِتَابِ. وَهَذَا الْحَرْفُ لَا يَخْلُو مِنْ كَوْنِهِ (أَنِ) الْمَصْدَرِيَّةَ النَّاصِبَةَ لِلْمُضَارِعِ، أَوِ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ، أَوِ التَّفْسِيرِيَّةَ.
فَأَمَّا مَعْنَى (أَنِ) الْمَصْدَرِيَّةِ النَّاصِبَةِ لِلْمُضَارِعِ فَلَا يَتَّضِحُ لِأَنَّهَا تَسْتَدْعِي عَامِلًا يَكُونُ مَصْدَرُهَا الْمُنْسَبِكُ بِهَا مَعْمُولًا لَهُ وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ لَفْظًا مُطْلَقًا وَلَا مَعْنًى إِلَّا بِتَعَسُّفٍ، وَقَدْ جَوَّزَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» فِي بَحْثِ (أَلَّا) الَّذِي هُوَ حَرْفُ تَحْضِيضٍ وَهُوَ وُجْهَةُ شَيْخِنَا مُحَمَّدٍ النَّجَّارِ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَجْعَلَ أَنْ لَا تَعْلُوا إِلَخْ خَبَرًا عَنْ ضَمِيرِ كِتابٌ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ فَحَيْثُ كَانَ مَضْمُونُ الْكِتَابِ النَّهْيَ عَنِ الْعُلُوّ جعل أَلَّا تَعْلُوا نَفْسَ الْكِتَابِ كَمَا يَقَعُ الْإِخْبَارُ بِالْمَصْدَرِ. وَهَذَا تَكَلُّفٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْفَصْلَ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
وَأَمَّا مَعْنَى الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ فَكَذَلِكَ لِوُجُوبِ سَدِّ مَصْدَرٍ مَسَدَّهَا وَكَوْنِهَا مَعْمُولَةً لِعَامِلٍ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ أَيْضًا. وَقَدْ ذُكِرَ وَجْهًا ثَالِثًا فِي الْآيَةِ فِي بَعْضِ نُسَخِ «مُغْنِي اللَّبِيبِ» فِي بَحْثِ (أَلَّا) أَيْضًا وَلَمْ يُوجَدْ فِي النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ مِنَ «الْمُغْنِي» وَلَا مِنْ «شُرُوحِهِ» وَلَعَلَّهُ مِنْ زِيَادَاتِ بَعْضِ الطَّلَبَةِ. وَقَدِ اقْتَصَرَ فِي «الْكَشَّافِ» عَلَى وَجْهِ التَّفْسِيرِيَّةِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْرَضَ. وَأَعْقَبَهُ بِمَا رُوِيَ مِنْ نُسْخَةِ كِتَابِ سُلَيْمَانَ لِيَظْهَرَ أَنَّ لَيْسَ فِي كِتَابِ سُلَيْمَانَ مَا يُقَابِلُ حَرْفَ (أَنْ) فَلِذَلِكَ تَتَعَيَّنُ (أَنْ) لِمَعْنَى التَّفْسِيرِيَّةِ لِضَمِيرِ وَإِنَّهُ الْعَائِدِ إِلَى كِتابٌ كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَائِدًا إِلَى كِتابٌ كَانَ بِمَعْنَى مُعَادِهِ فَكَانَ مِمَّا فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ فَصَحَّ وَقْعُ (أَنْ) بَعْدَهُ فَيَكُونُ (أَنْ) مِنْ كَلَامِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ. وَالْمَعْنَى:
وَاذْكُرِ اللَّهَ فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الذِّكْرِ تَذَكُّرَ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ذِكْرَ اللَّهِ بِاللِّسَانِ لِيَعُمَّ ذِكْرُ اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا. وَاسْمُ التَّفْضِيلِ أَيْضًا مَسْلُوبٌ الْمُفَاضَلَةَ وَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ «مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلًا أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ».
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ تَذَكُّرَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، أَيْ مُرَاقَبَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَحَذَرَ غَضَبِهِ، فَالتَّفْضِيلُ عَلَى بَابِهِ، أَيْ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ مِنَ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ النَّهْيِ، وَذَلِكَ لِإِمْكَانِ تَكْرَارِ هَذَا الذِّكْرِ أَكْثَرَ مِنْ تَكَرُّرِ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ قَرِيبًا مِنْ قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَفْضَلُ مِنْ شُكْرِ اللَّهِ بِاللِّسَانِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ.
وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: ذِكْرُ اللَّهِ هُوَ الْإِيمَانُ بِوُجُودِهِ وَبِأَنَّهُ وَاحِدٌ. فَلَمَّا أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَادَ أَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِعَمَلَيْنِ عَظِيمَيْنِ مِنَ الْبِرِّ أَرْدَفَهُ بِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ إِذْ هُوَ الْأَصْلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: ١٣- ١٧]. وَذَلِكَ مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ عَادَ بِهِ إِلَى تَعْظِيمِ أَمْرِ التَّوْحِيدِ وَتَفْظِيعِ الشِّرْكِ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [العنكبوت: ٤٢] إِلَى هُنَا.
وَقَوْلُهُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ تَذْيِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ بِاعْتِبَارِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ وَقَوْلُهُ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ.
وَالصُّنْعُ: الْعَمَلُ
لِلْمَقْصُودِ وَانْتِفَاءِ الْأَمْرِ الثَّالِثِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ التَّبَنِّي، فَاشْتَرَكَ التَّمْهِيدُ وَالْمَقْصُودُ فِي انْتِفَاءِ الْحَقِّيَّةِ، وَهُوَ أَتَمُّ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَقْصُودِ وَالتَّمْهِيدِ.
وَهَذَا كُلُّهُ زِيَادَةُ تَحْرِيضٍ عَلَى تَلَقِّي أَمْرِ اللَّهِ بِالْقَبُولِ وَالِامْتِثَالِ وَنَبْذِ مَا خَالَفَهُ.
[٥]
[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : آيَة ٥]
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥)
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ.
اسْتِئْنَافٌ بِالشُّرُوعِ فِي الْمَقْصُودِ مِنَ التَّشْرِيعِ لِإِبْطَالِ التَّبَنِّي وَتَفْصِيلٌ لِمَا يَحِقُّ أَنْ يُجْرِيَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي شَأْنِهِ. وَهَذَا الْأَمْرُ إِيجَابٌ أُبْطِلَ بِهِ ادِّعَاءُ الْمُتَبَنِّي مُتَبَنَّاهُ ابْنًا لَهُ. وَالْمُرَادُ بِالدُّعَاءِ النَّسَبُ. وَالْمُرَادُ مِنْ دَعَوْتِهِمْ بِآبَائِهِمْ تُرَتُّبُ آثَارِ ذَلِكَ، وَهِيَ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ آبَائِهِمْ لَا أَبْنَاءُ مَنْ تَبَنَّاهُمْ.
وَاللَّامُ فِي لِآبائِهِمْ لَامُ الِانْتِسَابِ، وَأَصْلُهَا لَامُ الِاسْتِحْقَاقِ. يُقَالُ: فُلَانٌ لِفُلَانٍ، أَيْ: هُوَ ابْنُهُ، أَيْ: يَنْتَسِبُ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ لِرِشْدَةٍ وَفُلَانٌ لِغَيَّةٍ، أَيْ: نَسَبَهُ لَهَا،
أَيْ: مِنْ نِكَاحٍ أَو من زنا، وَقَالَ النَّابِغَةُ:
لَئِنْ كَانَ لِلْقَبْرَيْنِ قَبْرٌ بِجِلِّقٍ وَقَبْرٌ بِصَيْدَاءَ الَّذِي عِنْدَ حَارِبِ
أَيْ: مِنْ أَبْنَاءِ صَاحِبَيِ الْقَبْرَيْنِ. وَقَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدٍ يَمْدَحُ الْمَلِكَ الْحَارِثَ:
فَلَسْتَ لِإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لِمَلْأَكٍ تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يُصَوِّبُ
وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَامِلًا أُمَامَةَ ابْنَةَ بِنْتِهِ زَيْنَبَ وَلِأَبِي الْعَاصِ بْنِ رَبِيعَةَ»
فَكَانَتِ اللَّامُ مُغْنِيَةً عَنْ أَنْ يَقُولَ وَابْنَةَ أَبِي الْعَاصِ.
وَضَمِيرُ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ عَائِدٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ فِعْلِ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ أَيِ: الدُّعَاءَ لِلْآبَاءِ. وَجُمْلَةُ هُوَ أَقْسَطُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ كَأَنَّ سَائِلًا قَالَ: لماذَا لَا نَدْعُوهُمْ
وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّخَاذِ الْعَدُوِّ عَدُوًّا وَلَمْ يَنْدُبْ إِلَى الْعَفْوِ عَنْهُ وَالْإِغْضَاءِ عَنْ عَدَاوَتِهِ كَمَا أَمَرَ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: ٤٠] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ مَا نُدِبَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَفْوِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ رَجَاءَ صَلَاحِ حَالِ الْعَدُوِّ لِأَنَّ عَدَاوَةَ الْمُسْلِمِ عَارِضَةٌ لِأَغْرَاضٍ يُمْكِنُ زَوَالُهَا وَلَهَا حُدُودٌ لَا يُخْشَى مَعَهَا الْمَضَارُّ الْفَادِحَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: ٣٤] وَلِذَلِكَ لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ تَعَالَى بِمِثْلِ ذَلِكَ مَعَ أَعْدَاءِ الدِّينِ فَقَالَ: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: ١] الْآيَةَ، بَلْ لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَفْوِ عَنِ الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ لِأَنَّ مُنَاوَأَتَهُمْ غَيْرُ عَارِضَةٍ بَلْ هِيَ لِغَرَضِ ابْتِزَازِ الْأَمْوَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [الْمَائِدَة: ٣٤] فَعَدَاوَةُ الشَّيْطَانِ لَمَّا كَانَتْ جِبِلِيَّةً لَا يُرْجَى زَوَالُهَا مَعَ مَنْ يَعْفُو عَنْهُ لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ إِلَّا بِاتِّخَاذِهِ عَدُوًّا لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُتَّخَذْ عَدُوًّا لَمْ يُرَاقِبِ الْمُسْلِمُ مَكَائِدَهُ وَمُخَادَعَتَهُ. وَمِنْ لَوَازِمِ اتِّخَاذِهِ عَدُوًّا الْعَمَلُ بِخِلَاف مَا يَدْعُو إِلَيْهِ لِتَجَنُّبِ مَكَائِدِهِ وَلِمَقْتِهِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
فَالْإِيقَاعُ بِالنَّاسِ فِي الضُّرِّ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ أَوْلِيَاؤُهُ وَلَا أَعْدَاؤُهُ وَلَكِنَّ أَوْلِيَاءَهُ يُضْمِرُ لَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَيَأْنَسُ بِهِمْ لِأَنَّهُ يَقْضِي بِهِمْ وَطَرَهُ وَأَمَّا أَعْدَاؤُهُ فَهُوَ مَعَ عَدَاوَتِهِ لَهُمْ يَشْمَئِزُّ وَيَنْفِرُ وَيَغْتَاظُ مِنْ مُقَاوَمَتِهِمْ وَسَاوِسَهُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ حَدَّ الْفِرَارِ مِنْ عُظَمَاءِ الْأُمَّةِ فَقَدْ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ: «إِيهِ يَا بْنَ الْخَطَّابِ مَا رَآكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ».
وَوَرَدَ فِي
«الصَّحِيحِ» «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ»
الْحَدِيثَ.
وَوَرَدَ «أَنه مَا ريء الشَّيْطَانُ أَخْسَأَ وَأَحْقَرَ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ لِمَا يَرَى مِنَ الرَّحْمَةِ»
. وَأُعْقِبَ الْأَمْرُ بِاتِّخَاذِ الشَّيْطَانِ عَدُوًّا بِتَحْذِيرٍ مِنْ قَبُولِ دَعْوَتِهِ وَحَثٍّ عَلَى وُجُوبِ الْيَقْظَةِ لِتَغْرِيرِهِ وَتَجَنُّبِ تَوَلِّيهِ بِأَنَّهُ يَسْعَى فِي ضُرِّ أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى مَا يُوقِعُهُمْ فِي السَّعِيرِ.
وَهَذَا يُؤَكِّدُ الْأَمْرَ بِاتِّخَاذِهِ عَدُوًّا لِأَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ تَضَرُّرًا بِهِ هُمْ حِزْبُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ.
وَجُمْلَة إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا. وَجِيءَ بِهَا فِي صِيغَةِ حَصْرٍ لِانْحِصَارِ دَعَوْتِهِ فِي الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ عَقِبَهَا بِلَامِ الْعِلَّةِ كَيْلَا يُتَوَهَّمَ أَنَّ دَعوته تَخْلُو عَن تِلْكَ الْغَايَةِ وَلَوْ فِي وَقْتٍ مَا.
وَهَذَا الْقَوْلُ مُخْتَزَلٌ مِمَّا وَقَعَ فِي «سِفْرِ الْمُلُوكِ» الْأَوَّلِ مِنْ كُتُبٍ الْيَهُودِ إِذْ جَاءَ فِي الْإِصْحَاحِ الْحَادِي عَشَرَ: وَأَحَبَّ سُلَيْمَانُ نِسَاءً غَرِيبَةً كُثَيْرَةَ بِنْتَ فِرْعَوْنَ وَمَعَهَا نِسَاءٌ مُؤَابَيَاتٌ وَعَمُونِيَّاتٌ، وَأَدُومِيَّاتٌ وَصَيْدَوَنِيَّاتٌ وَحَثَيَاتٌ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي قَالَ عَنْهُمُ الرَّبُّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: لَا تَدْخُلُونَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ يُمِيلُونَ قُلُوبَكُمْ وَرَاءَ آلِهَتِهِمْ. فَبَنَى هَيْكَلًا لِلصَّنَمِ (كَمُوشَ) صَنَمِ الْمُؤَابِيِّينَ عَلَى الْجَبَلِ الَّذِي تُجَاهَ أُورْشَلِيمَ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ لَمْ تَحْفَظْ عَهْدِي فَإِنِّي أُمَزِّقُ مَمْلَكَتَكَ بَعْدَكَ تَمْزِيقًا وَأُعْطِيهَا لِعَبْدِكَ وَلَا أُعْطِي ابْنَكَ إِلَّا سِبْطًا وَاحِدًا إِلَخْ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ: أَنَّ سُلَيْمَانَ اجْتَهَدَ وَسَمَحَ لِنِسَائِهِ الْمُشْرِكَاتِ أَنْ يَعْبُدْنَ أَصْنَامَهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ الَّتِي هِيَ بُيُوتُهُ أَوْ بَنَى لَهُنَّ مَعَابِدَ يَعْبُدْنَ فِيهَا فَلَمْ يَرْضَ اللَّهُ مِنْهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَبَاحَ لَهُ تَزَوُّجَ الْمُشْرِكَاتِ فَمَا كَانَ يَنْبَغِي لِنَبِيءٍ أَنْ يَسْمَحَ لِنِسَائِهِ بِذَلِكَ الَّذِي أُبِيحَ لِعَامَّةِ النَّاسِ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ الْمُشْرِكَاتِ وَإِنْ كَانَ سُلَيْمَانُ تَأَوَّلَ أَنَّ ذَلِكَ قَاصِرٌ عَلَى الْمَرْأَةِ
لَا يَتَجَاوَزُ إِلَيْهِ.
وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْجَسَدِ الصَّنَمَ لِأَنَّهُ صُورَةٌ بِلَا رُوحٍ كَمَا سَمَّى اللَّهُ الْعِجْلَ الَّذِي عَبَدَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ جَسَدًا فِي قَوْلِهِ: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ [طه:
٨٨].
وَيَكُونُ مَعْنَى إِلْقَائِهِ عَلَى كُرْسِيِّهِ نَصْبَهُ فِي بُيُوتِ زَوْجَاتِهِ الْمُشْرِكَاتِ بِقُرْبٍ مِنْ مَوَاضِعِ جُلُوسِهِ إِذْ يَكُونُ لَهُ فِي كُلِّ بَيْتٍ مِنْهَا كُرْسِيٌّ يَجْلِسُ عَلَيْهِ.
وَعُطِفَ ثُمَّ أَنابَ بِحَرْفِ ثُمَّ الْمُفِيدِ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ رُتْبَةَ الْإِنَابَةِ أَعْظَمُ ذِكْرٍ فِي قَوْلِهِ: فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ [ص: ٣٢]. وَالْإِنَابَةُ: التَّوْبَةُ.
وَجُمْلَةُ قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ أَنابَ لِأَنَّ الْإِنَابَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى تَرَقُّبِ الْعَفْوِ عَمَّا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ صَدَرَ مِنْهُ مِمَّا لَا يَرْضَى اللَّهُ تَعَالَى صُدُورَهُ مِنْ أَمْثَالِهِ.
وَإِرْدَافُهُ طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ بِاسْتِيهَابِ مُلْكٍ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ لِأَنَّهُ تَوَقَّعَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ أَمْرَيْنِ: الْعِقَابَ فِي الْآخِرَةِ، وَسَلْبَ النِّعْمَةِ فِي الدُّنْيَا إِذْ قَصَّرَ فِي شُكْرِهَا، وَكَانَ سُلَيْمَانُ يَوْمَئِذٍ فِي مُلْكٍ عَظِيمٍ فَسُؤَالُ مَوْهِبَةِ الْمُلْكِ مُرَادٌ بِهِ اسْتِدَامَةُ
قَرِينَاكُمْ فَعَجَّلْنَا قِرَاكُمْ قُبَيْلَ الصُّبْحِ مِرْدَاةً طَحُونًا
وَالْإِذَاقَةُ: تَخْيِيلٌ مِنْ مُلَائِمَاتِ الطَّعَامِ الْمُشَبَّهِ بِهِ.
وَالْخِزْيُ: الذُّلُّ. وَإِضَافَةُ عَذابَ إِلَى الْخِزْيِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى، أَيْ أَشَدُّ إِخْزَاءً مِنْ إِخْزَاءِ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْخِزْيَ وَصْفٌ لِلْعَذَابِ مِنْ بَابِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ أَوِ اسْمِ الْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي كَوْنِ ذَلِكَ الْعَذَابِ مُخْزِيًا لِلَّذِي يُعَذَّبُ بِهِ. وَمَعْنَى كَوْنِ الْعَذَابِ مُخْزِيًا: أَنَّهُ سَبَبُ خِزْيٍ فَوَصْفُ الْعَذَابِ بِأَنَّهُ خِزْيٌ بِمَعْنَى مُخْزٍ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، وَيُقَدَّرُ قَبْلَ الْإِضَافَةِ: لِنُذِيقَهُمْ عَذَابًا خِزْيًا، أَيْ مُخْزِيًا، فَلَمَّا أُرِيدَتْ إِضَافَةُ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ قِيلَ:
عَذابَ الْخِزْيِ، لِلْمُبَالَغَةِ أَيْضًا لِأَنَّ إِضَافَةَ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ مُبَالَغَةٌ فِي الِاتِّصَافِ حَتَّى جُعِلَتِ الصِّفَةُ بِمَنْزِلَةِ شَخْصٍ آخَرَ يُضَافُ إِلَيْهِ الْمَوْصُوفُ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مُحَسِّنِ التَّجْرِيدِ
فَحَصَلَتْ مُبَالَغَتَانِ فِي قَوْلِهِ: عَذابَ الْخِزْيِ مُبَالَغَةُ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ، وَمُبَالَغَةُ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ.
وَجُمْلَةُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى احْتِرَاسٌ لِئَلَّا يَحْسَبَ السَّامِعُونَ أَنَّ حَظَّ أُولَئِكَ مِنَ الْعِقَابِ هُوَ عَذَابُ الْإِهْلَاكِ بِالرِّيحِ فَعَطَفَ عَلَيْهِ الْإِخْبَارَ بِأَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَخْزَى، أَيْ لَهُمْ وَلِكُلِّ مَنْ عُذِّبَ عَذَابًا فِي الدُّنْيَا لِغَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَأَخْزَى: اسْمُ تَفْضِيلٍ جَرَى عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَقِيَاسُهُ أَنْ يُقَالَ: أَشَدُّ إِخْزَاءً، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: خَزَاهُ، بِمَعْنَى أَخْزَاهُ، أَيْ أَهَانَهُ، وَمِثْلُ هَذَا فِي صَوْغِ اسْمِ التَّفْضِيلِ كَثِيرٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ تَذْيِيلٌ، أَيْ لَا يَنْصُرُهُمْ مَنْ يَدْفَعُ الْعَذَابَ عَنْهُمْ، وَلَا مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ، وَلَا مَنْ يُخْرِجُهُمْ مِنْهُ بعد مهلة.
بَعْضِهَا، وَهِيَ طَرِيقَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَقَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ:
وَفَكَكْنَا غِلَّ امْرِئِ الْقَيْسِ عَنْهُ بَعْدَ مَا طَالَ حَبْسُهُ وَالْعَنَاءُ (١)
وَإِنَّمَا نُسِبَتْ كَرَاهَةُ الْحَقِّ إِلَى أَكْثَرِهِمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ فَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا سَادَةٌ كُبَرَاءُ لِمِلَّةِ الْكُفْرِ وَهُمُ الَّذِينَ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْإِرْهَابِ وَالتَّرْغِيبِ مِثْلُ أَبِي جَهْلٍ حِينَ صَدَّ أَبَا طَالِبٍ عِنْدَ احْتِضَارِهِ عَنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَالَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَثَانِيهِمَا دَهْمَاءُ وَعَامَّةٌ وهم تبع لأيمة الْكُفْرِ. وَقَدْ أَشَارَتْ إِلَى ذَلِكَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٦] إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْآيَاتِ فَالْفَرِيقُ الْأَوَّلُ هُمُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ وَأُولَئِكَ إِنَّمَا كَرِهُوا الْحَقَّ لِأَنَّهُ يَرْمِي إِلَى زَوَالِ سُلْطَانِهِمْ وَتَعْطِيلِ مَنَافِعِهِمْ.
وَتَقْدِيمُ لِلْحَقِّ عَلَى كارِهُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِالْحَقِّ تَنْوِيهًا بِهِ، وَفِيهِ إِقَامَةُ الفاصلة أَيْضا.
[٧٩]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٧٩]
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩)
أَمْ منقطة لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ مِنْ حَدِيثٍ إِلَى حَدِيثٍ مَعَ اتِّحَادِ الْغَرَضِ. انْتَقَلَ مِنْ حَدِيثِ مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنِ الْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا. فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ [الزخرف: ٦٦] إِلَخْ.
وَالْكَلَامُ بَعْدَ أَمْ اسْتِفْهَامٌ حُذِفَتْ مِنْهُ أَدَاة الِاسْتِفْهَام وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ وَتَهْدِيدٌ، أَيْ أَأَبْرَمُوا أَمْرًا. وَضَمِيرُ أَبْرَمُوا مُرَادٌ بِهِ الْمُشْركُونَ الَّذين ناوأوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَضَمِيرُ (إِنَّا) ضَمِيرُ الْجَلَالَةِ.
_________
(١) يُرِيد امْرأ الْقَيْس بن الْمُنْذر أَخا عَمْرو بن هِنْد وَكَانَ: أسره ملك من غَسَّان فَأَغَارَ عَمْرو بن هِنْد أَخُوهُ فِي جَيش من بكر بن وَائِل قَبيلَة الشَّاعِر وَقتلُوا الْملك وأنقذوا امْرأ الْقَيْس.
وَلَمَّا كَانَتِ السُّخْرِيَةُ وَاللَّمْزُ وَالتَّنَابُزُ مِمَّا يُحْمَلُ عَلَيْهِ التَّنَافُسُ بَيْنَ الْأَفْرَادِ وَالْقَبَائِلِ جَمَعَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ الْحَكِيمَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى النِّدَاءِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى هَذَا التَّشْعِيبِ الَّذِي وَضَعَتْهُ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ فَاسْتَعْمَلُوهُ فِي فَاسِدِ لَوَازِمِهِ وَأَهْمَلُوا صَالِحَ مَا جُعِلَ لَهُ بِقَوْلِهِ:
لِتَعارَفُوا ثُمَّ وَأَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ أَيْ فَإِنْ تَنَافَسْتُمْ فَتَنَافَسُوا فِي التَّقْوَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ [المطففين: ٢٦].
وَالْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ الْمُسَاوَاةِ فِي أَصْلِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ لِيُتَوَصَّلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى إِرَادَةِ اكْتِسَابِ الْفَضَائِلِ وَالْمَزَايَا الَّتِي تَرْفَعُ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ كِنَايَةً بِمَرْتَبَتَيْنِ. وَالْمَعْنَى الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ مَضْمُونُ جُمْلَةِ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ فَتِلْكَ الْجُمْلَةُ تَتَنَزَّلُ مِنْ جُمْلَةِ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى مَنْزِلَةَ الْمَقْصِدِ مِنَ الْمُقَدِّمَةِ وَالنَّتِيجَةِ مِنَ الْقِيَاسِ وَلِذَلِكَ فُصِّلَتْ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيَانِ.
وَأَمَّا جُمْلَةُ وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا فَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنِ اعْتِرَاضِهَا: إِدْمَاجُ تَأْدِيبٍ آخَرَ مِنْ وَاجِبِ بَثِّ التَّعَارُفِ وَالتَّوَاصُلِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ وَالْأُمَمِ وَأَنَّ ذَلِكَ مُرَادُ اللَّهِ مِنْهُمْ.
وَمِنْ مَعْنَى الْآيَةِ مَا
خَطَبَ بِهِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ إِذْ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَأَنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ إِلَّا بِالتَّقْوَى»
. وَمِنْ نَمَطِ نَظْمِ الْآيَةِ وَتَبْيِينِهَا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَة
قَول النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا لَا لِآبَاءِ النَّاسِ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ أَوْ فَاجِرٍ شَقِيٍّ أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ»
. وَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا خَطَبَ بِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ (عُبِّيَّةُ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَبِكَسْرِهَا وَبِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَكْسُورَةِ ثُمَّ تَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ: الْكِبْرُ وَالْفَخْرُ.
وَوَزْنُهُمَا عَلَى لُغَةِ ضَمِّ الْفَاءِ فُعْوِلَّةٌ وَعَلَى لُغَةِ كَسْرِ الْفَاءِ فِعْلِيَّةٌ، وَهِيَ إِمَّا مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّعْبِيَةِ فَتَضْعِيفُ الْبَاءِ لِمُجَرَّدِ
وَمَعْنَى فَلا تَنْتَصِرانِ: فَلَا تَجِدَانِ مَخْلِصًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا تَجِدَانِ نَاصِرًا.
وَالنَّاصِرُ: هَنَا مُرَادٌ مِنْهُ حَقِيقَتُهُ وَمَجَازُهُ، أَيْ لَا تَجِدَانِ مَنْ يَدْفَعُ عَنْكُمَا ذَلِكَ وَلَا مَلْجَأَ تتّقيان بِهِ.
[٣٦]
[سُورَة الرَّحْمَن (٥٥) : آيَة ٣٦]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦)
تَكْرِيرٌ كَالْقَوْلِ فِي الَّذِي وَقَعَ قبله قَرِيبا.
[٣٧- ٤٠]
[سُورَة الرَّحْمَن (٥٥) : الْآيَات ٣٧ إِلَى ٤٠]
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠)
تَفْرِيعٌ إِخْبَار عَلَى إِخْبَارِ فَرْعٍ عَلَى بَعْضِ الْخَبَرِ الْمُجْمَلِ فِي قَوْلِهِ: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ [الرَّحْمَن: ٣١] إِلَى آخِرِهِ، تَفْصِيلٌ لِذَلِكَ الْإِجْمَالِ بِتَعْيِينِ وَقَتِهِ وَشَيْءٍ مِنْ أَهْوَالِ مَا يَقَعُ فِيهِ لِلْمُجْرِمِينَ وَبَشَائِرِ مَا يُعْطَاهُ الْمُتَّقُونَ مِنَ النَّعِيمِ وَالْحُبُورِ.
وَقَوْلُهُ: فَكانَتْ وَرْدَةً تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ كَانَتْ كَوَرْدَةٍ.
وَالْوَرْدَةُ: وَاحِدَةُ الْوَرْدِ، وَهُوَ زَهْرٌ أَحْمَرُ مِنْ شَجَرَةٍ دَقِيقَةٍ ذَاتِ أَغْصَانٍ شَائِكَةٍ تَظْهَرُ فِي فَصْلِ الرَّبِيعِ وَهُوَ مَشْهُورٌ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ قِيلَ هُوَ شِدَّةُ الْحُمْرَةِ، أَيْ يَتَغَيَّرُ لَوْنُ السَّمَاءِ الْمَعْرُوفُ أَنَّهُ أَزْرَقُ إِلَى الْبَيَاضِ، فَيَصِيرُ لَوْنُهَا أَحْمَرَ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [إِبْرَاهِيم: ٤٨]. وَيَجُوزُ عِنْدِي: أَنْ يَكُونَ وَجْهُ الشَّبَهِ كَثْرَةَ الشُّقُوقِ كَأَوْرَاقِ الْوَرْدَةِ.
وَالدِّهَانُ، بِكَسْرِ الدَّالِ: دُرْدِيُّ الزَّيْتِ. وَهَذَا تَشْبِيهٌ ثَانٍ لِلسَّمَاءِ فِي التَّمَوُّجِ وَالْاِضْطِرَابِ.
وَجُمْلَةُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَجُمْلَةِ الْجَوَابِ وَقَدْ مَثَّلَ بِهَا فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» لِلْاِعْتِرَاضِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، وَعَيَّنَ كَوْنَهَا مُعْتَرِضَةً لَا
عَنِ الشُّرَكَاءِ وَعَنِ النَّقَائِصِ لَا مُقْتَضَى لَهَا إِلَّا انْفِرَادُهُ بِتَمَلُّكِهَا وَإِيجَادِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ وَتَصَرُّفِهِ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمَالِكِ الْمُتَفَرِّدِ فِي مُلْكِهِ.
وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَنْوِيهٌ بِإِقْبَالِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى تَسْبِيحِ اللَّهِ وَتَجْدِيدِ ذَلِكَ التَّسْبِيحِ.
فَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِإِفَادَةِ تَخْصِيصِهِ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، أَيْ قَصْرُ تَعَلُّقِ لَامِ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْمُلْكِ عَلَيْهِ تَعَالَى فَلَا مُلْكَ لِغَيْرِهِ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِمَا لِغَيْرِ اللَّهِ مِنْ مُلْكٍ لِنَقْصِهِ وَعَدَمِ خُلُوِّهِ عَنِ الْحَاجَةِ إِلَى غَيْرِهِ مَنْ هُوَ لَهُ بِخِلَافِ مُلْكِهِ
تَعَالَى فَهُوَ الْمَلِكُ الْمُطْلَقُ الدَّاخِلُ فِي سُلْطَانِهِ كُلُّ ذِي مُلْكٍ.
وَجُمْلَةُ وَلَهُ الْحَمْدُ مَضْمُونُهَا سَبَبٌ لِتَسْبِيحِ اللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، إِذِ التَّسْبِيحُ مِنَ الْحَمْدِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ حَمْدُ ذَوِي الْإِدْرَاكِ مُخْتَصًّا بِهِ تَعَالَى إِذْ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ الْمُطْلَقِ فَهُوَ الْحَقِيقُ بِالْحَمْدِ وَالتَّسْبِيحِ.
فَهَذَا الْقَصْرُ ادِّعَائِيٌّ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِحَمْدِ غَيْرِهِ لِنُقْصَانِ كَمَالَاتِهِمْ وَإِذَا أُرِيدَ بِالْحَمْدِ مَا يَشْمَلُ الشُّكْرَ أَوْ يُفْضِي إِلَيْهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «الْحَمْدُ رَأْسُ الشُّكْرِ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ عَبَدٌ لَمْ يَحْمَدْهُ» وَهُوَ مُقْتَضَى الْمَقَامِ مِنْ تَسْفِيهِ أَحْلَامِ الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِمْ غَيْرَهُ فَالشُّكْرُ أَيْضًا مَقْصُورٌ عَلَيْهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ الْمُنْعِمُ الْحَقُّ بِنِعَمٍ لَا قِبَلَ لِغَيْرِهِ بِإِسْدَائِهَا، وَهُوَ الْمُفِيضُ عَلَى الْمُنْعِمِينَ مَا يُنْعِمُونَ بِهِ فِي الظَّاهِرِ، قَالَ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النَّحْل: ٥٣] كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ.
وَجُمْلَةُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى اللَّتَيْنِ قَبِلَهَا وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لَهُمَا وَالتَّبْيِينِ لِوَجْهِ الْقَصْرَيْنِ فِيهِمَا، فَإِنَّ التَّقْدِيرَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ هُوَ صَاحِبُ الْمُلْكِ الْحَقِّ وَهُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْحَمْدِ الْحَقِّ.
وَفِي هَذَا التَّذْيِيلِ وَعْدٌ لِلشَّاكِرِينَ وَوَعِيدٌ وَتَرْهِيبٌ لِلْمُشْرِكِينَ.
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ وَصْفِ قَدِيرٌ هُنَا لِأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي تُسَبِّحُ اللَّهَ دَالَّةٌ عَلَى صِفَةِ الْقُدْرَةِ أَوَّلًا لِأَنَّ مَنْ يُشَاهِدِ الْمَخْلُوقَاتِ يَعْلَمْ أَنَّ خَالِقهَا قَادر.
[٢]
[سُورَة التغابن (٦٤) : آيَة ٢]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
وَوَقَعَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ إِذَا (شَبَّعَتْ) فَتْحَةَ نُونِ الْقُرْآنِ مُحَسِّنَ الِاتِّزَانِ بِأَنْ يَكُونَ مِصْرَاعًا مِنْ بَحْرِ الْكَامِلِ أَحَذَّ دَخَلَهُ الْإِضْمَار مرَّتَيْنِ.
[٥]
[سُورَة المزمل (٧٣) : آيَة ٥]
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥)
تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ وَقَعَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ جُمْلَةِ قُمِ اللَّيْلَ [المزمل: ٢] وَجُمْلَةِ إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً [المزمل: ٦]، وَهُوَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِحِكْمَةِ الْأَمْرِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ بِأَنَّهَا تَهْيِئَةُ نَفْسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَحْمِلَ شِدَّةَ الْوَحْيِ، وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ يَسَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
[الْقِيَامَة: ١٧]، فَتِلْكَ مُنَاسَبَةُ وُقُوعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَقِبَ جُمْلَةِ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل: ٢] فَهَذَا إِشْعَارٌ بِأَنَّ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ فِي أَوَّلِ عَهْدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ فَلَمَّا قَالَ لَهُ: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل: ٤] أَعْقَبَ بِبَيَانِ عِلَّةِ الْأَمْرِ بِتَرْتِيلِ الْقُرْآنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّقِيلُ هُوَ الْقُرْآنُ وَإِلْقَاؤُهُ عَلَيْهِ: إِبْلَاغُهُ لَهُ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ.
وَحَقِيقَةُ الْإِلْقَاءِ: رَمْيُ الشَّيْءِ مِنَ الْيَدِ إِلَى الْأَرْضِ وَطَرْحِهِ، وَيُقَالُ: شَيْءٌ لَقَى، أَيْ مَطْرُوحٌ، اسْتُعِيرَ الْإِلْقَاءُ لِلْإِبْلَاغِ دُفْعَةً عَلَى غَيْرِ تَرَقُّبٍ.
وَالثِّقَلُ الْمَوْصُوفُ بِهِ الْقَوْلُ ثِقَلٌ مَجَازِيٌّ لَا مَحَالَةَ، مُسْتَعَارٌ لِصُعُوبَةِ حِفْظِهِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَعَانٍ لَيْسَتْ مِنْ مُعْتَادِ مَا يَجُولُ فِي مَدَارِكِ قَوْمِهِ فَيَكُونُ حِفْظُ ذَلِكَ الْقَوْلِ عَسِيرًا عَلَى الرَّسُولِ الْأُمِّيِّ تَنُوءُ الطَّاقَةُ عَنْ تَلَقِّيهِ.
وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا أَنَّ ثِقَلَهُ مُتَعَلِّقٌ ابْتِدَاءً بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ وَهُوَ ثِقَلٌ مَجَازِيٌّ فِي جَمِيعِ اعْتِبَارَاتِهِ وَهُوَ ثَقِيلٌ صَعْبٌ تَلَقِّيهِ مِمَّنْ أَنْزَلَ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ ثَقُلَ عَلَيْهِ وَتَرَبَّدَ لَهُ جِلْدُهُ»
(أَيْ تَغَيَّرَ بِمِثْلِ الْقُشَعْرِيرَةِ)
وَقَالَت عَائِشَة: «رَأَتْهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لِيَرْفَضُّ عَرَقًا»
. وَيُسْتَعَارُ ثِقَلُ الْقَوْلِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَعَانٍ وَافِرَةٍ يَحْتَاجُ الْعِلْمُ بِهَا لِدِقَّةِ النَّظَرِ وَذَلِكَ بِكَمَالِ هَدْيِهِ وَوَفْرَةِ مَعَانِيهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: «ثَقِيلًا لَيْسَ بِالْكَلَامِ السَّفْسَافِ». وَحَسْبُكَ أَنَّهُ حَوَى مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ مَا لَا يَفِي الْعَقْلُ بِالْإِحَاطَةِ بِهِ فَكَمْ غَاصَتْ فِيهِ أَفْهَامُ
وَعَلَى قِرَاءَةِ تَشْدِيدِ الْمِيمِ تَكُونُ (إِنْ) نَافِيَةً ولَمَّا حَرْفٌ بِمَعْنَى (إِلَّا) فَإِنَّ (لَمَّا) تَرِدُ بِمَعْنَى (إِلَّا) فِي النَّفْيِ وَفِي الْقَسَمِ، تَقُولُ: سَأَلْتُكَ لَمَّا فَعَلْتَ كَذَا أَيْ إِلَّا فَعَلْتَ، عَلَى تَقْدِيرِ: مَا أَسْأَلُكَ إِلَّا فِعْلَ كَذَا فَآلَتْ إِلَى النَّفْيِ وَكُلٌّ مِنْ (إِن) المخففة و (إِنِ) النَّافِيَةِ يُتَلَقَّى بِهَا الْقَسَمُ.
وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْجَوَابُ زِيَادَةً عَلَى إِفَادَتِهِ تَحْقِيقَ الْجَزَاءِ إِنْذَارًا لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ اعْتِقَادَهُمْ وَأَفْعَالَهُمْ وَأَنَّهُ سَيُجَازِيهِمْ على ذَلِك.
[٥- ٧]
[سُورَة الطارق (٨٦) : الْآيَات ٥ إِلَى ٧]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧)
الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْأَمْرِ بِالنَّظَرِ فِي الْخِلْقَةِ الْأُولَى، عَلَى مَا أُرِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ [الطارق: ٤] مِنْ لَوَازِمَ مَعْنَاهُ، وَهُوَ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ التَّلْوِيحِيَّةِ الرَّمْزِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ رَأَيْتُمُ الْبَعْثَ مُحَالًا فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ
مِمَّ خُلِقَ لِيَعْلَمَ أَنَّ الْخَلْقَ الثَّانِيَ لَيْسَ بِأَبْعَدَ مِنَ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ.
فَهَذِهِ الْفَاءُ مُفِيدَةٌ مُفَادَ فَاءِ الْفَصِيحَةِ.
وَالنَّظَرُ: نَظَرُ الْعَقْلِ، وَهُوَ التَّفَكُّرُ الْمُؤَدِّي إِلَى عِلْمِ شَيْءٍ بِالِاسْتِدْلَالِ فَالْمَأْمُورُ بِهِ نَظَرُ الْمُنْكِرِ لِلْبَعْثِ فِي أَدِلَّةِ إِثْبَاتِهِ كَمَا يَقْتَضِيهِ التَّفْرِيعُ عَلَى: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ [الطارق: ٤].
وَ (مِنْ) مِنْ قَوْلِهِ: مِمَّ خُلِقَ ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِ خُلِقَ وَالْمَعْنَى: فَلْيَتَفَكَّرِ الْإِنْسَانُ فِي جَوَابِ: مَا شَيْءٌ خُلِقَ مِنْهُ؟ فقدّم المتعلّق عَلَى عَامِلِهِ تَبَعًا لِتَقْدِيمٍ مَا اتَّصَلَتْ بِهِ مِنْ (مِنِ) اسْم الِاسْتِفْهَام.
و (مَا) اسْتِفْهَامِيَّةٌ عَلَّقَتْ فِعْلَ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ عَنِ الْعَمَلِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِيقَاظِ وَالتَّنْبِيهِ إِلَى مَا يَجِبُ عِلْمُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [عبس: ١٨]. فَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا مَجَازٌ مُرْسَلٌ مُرَكَّبٌ.
وَحَذَفَ أَلِفَ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ وُقُوعِهَا مَجْرُورَةً.


الصفحة التالية
Icon