تَنْبِيهٌ:
اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُعَدُّ مِنِ اسْتِمْدَادِ عِلْمِ التَّفْسِيرِ الْآثَارُ الْمَرْوِيَّةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَاتٍ، وَلَا مَا يُرْوَى عَنِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ التَّفْسِيرِ لَا مِنْ مَدَدِهِ، وَلَا يُعَدُّ أَيْضًا مِنِ اسْتِمْدَادِ التَّفْسِيرِ مَا فِي بَعْضِ آيِ الْقُرْآنِ مِنْ مَعْنًى يُفَسِّرُ بَعْضًا آخَرَ مِنْهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ حَمْلِ بَعْضِ الْكَلَامِ عَلَى بَعْضٍ، كَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَتَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ وَبَيَانِ الْمُجْمَلِ وَتَأْوِيلِ الظَّاهِرِ وَدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ وَفَحْوَى الْخِطَابِ وَلَحْنِ الْخِطَابِ وَمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ.
ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ»، فِي حَرْفِ لَا، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَالسُّورَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلِهَذَا يُذْكَرُ الشَّيْءُ فِي سُورَةٍ وَجَوَابُهُ فِي سُورَةٍ أُخْرَى، نَحْوَ:
وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحجر: ٦] وَجَوَابُهُ: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [الْقَلَم: ٢] هـ. وَهَذَا كَلَامٌ لَا يَحْسُنُ إِطْلَاقُهُ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ يُحْمَلُ بَعْضُ آيَاتِهِ
عَلَى بَعْضٍ وَقَدْ يَسْتَقِلُّ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، إِذْ لَيْسَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ مَقْصُودًا فِي جَمِيعِ نَظَائِرِهَا، بَلْهَ مَا يُقَارِبُ غَرَضَهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ اسْتِمْدَادَ عِلْمِ التَّفْسِيرِ مِنْ هَذِهِ الْمَوَادِّ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ رَأْسَ الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّ كَوْنَهُ رَأْسَ الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ، مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَصْلٌ لِعُلُومِ الْإِسْلَامِ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ فَأَمَّا اسْتِمْدَادُهُ مِنْ بَعْضِ الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَذَلِكَ اسْتِمْدَادٌ لِقَصْدِ تَفْصِيلِ التَّفْسِيرِ عَلَى وَجْهٍ أَتَمَّ مِنَ الْإِجْمَالِ، وَهُوَ أَصْلٌ لِمَا اسْتُمِدَّ مِنْهُ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ عَلَى مَا حَقَّقَهُ عَبْدُ الْحَكِيمِ.
وَأَنْ يطمئنه لِأَن النَّبِي كَانَ حَرِيصًا عَلَى حُصُولِهِ وَيَلْزَمُ ذَلِكَ الْوَعْدُ بِحُصُولِهِ فَتحصل كنايتان مترتبان.
وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ مَعَ (قَدْ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْمَقْصُودُ تَجَدُّدُ لَازِمِهِ لِيَكُونَ تَأْكِيدًا لِذَلِكَ اللَّازِمِ وَهُوَ الْوَعْدُ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ غَلَبَ عَلَى قَدِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْمُضَارِعِ أَنْ تَكُونَ لِلتَّكْثِيرِ مِثْلَ رُبَّمَا يَفْعَلُ. قَالَ عُبَيْدُ بْنُ الْأَبْرَصِ:
قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ | كأنّ أثوابه مبحّت بِفِرْصَادِ (١) |
وَالتَّقَلُّبُ مُطَاوِعُ قَلَّبَهُ إِذَا حَوَّلَهُ وَهُوَ مِثْلُ قَلَبَهُ بِالتَّخْفِيفِ، فَالْمُرَادُ بِتَقْلِيبِ الْوَجْهِ الِالْتِفَاتُ بِهِ أَي تحويله عَن جِهَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ فَهُوَ هُنَا تَرْدِيدُهُ فِي السَّمَاءِ، وَقَدْ أَخَذُوا مِنَ الْعُدُولِ إِلَى صِيغَة التفعيل الدّلَالَة عَلَى مَعْنَى التَّكْثِيرِ فِي هَذَا التَّحْوِيلِ، وَفِيهِ نَظَرٌ إِذْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِمَا فِي هَذَا التَّحْوِيلِ مِنَ التَّرَقُّبِ وَالشِّدَّةِ فَالتَّفْعِيلُ لِقُوَّةِ الْكَيْفِيَّةِ، قَالُوا كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقَعُ فِي رَوْعِهِ إِلْهَامًا أَنَّ اللَّهَ سَيُحَوِّلُهُ إِلَى مَكَّةَ فَكَانَ يُرَدِّدُ وَجْهَهُ فِي السَّمَاءِ فَقِيلَ يَنْتَظِرُ نُزُولَ
جِبْرِيلَ بِذَلِكَ، وَعِنْدِي أَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ تَقْلِيبُ وَجْهِهِ عِنْدَ تَهَيُّؤِ نُزُولِ الْآيَةِ وَإِلَّا لَمَا كَانَ يَتَرَقَّبُ جِبْرِيلَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَكَرَّرْ مِنْهُ هَذَا التَّقْلِيبُ.
وَالْفَاءُ فِي فَلَنُوَلِّيَنَّكَ فَاءُ التَّعْقِيبِ لِتَأْكِيدِ الْوَعْدِ بِالصَّرَاحَةِ بَعْدَ التَّمْهِيد لَهَا بِالْكِنَايَةِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ، وَالتَّوْلِيَةُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [الْبَقَرَة: ١٤٢]، فَمَعْنَى فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً لَنُوَجِّهَنَّكَ إِلَى قِبْلَةٍ تَرْضَاهَا. فَانْتَصَبَ قِبْلَةً عَلَى التَّوَسُّعِ بِمَنْزِلَةِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَأَصْلُهُ لَنُوَلِّيَنَّكَ مِنْ قِبْلَةٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ تَوْلِيَةَ وَجْهِهِ لِلْكَعْبَةِ سَيَحْصُلُ عَقِبَ هَذَا الْوَعْدِ. وَهَذَا وَعْدٌ اشْتَمَلَ عَلَى أَدَاتَيْ تَأْكِيدٍ وَأَدَاةِ تَعْقِيبٍ وَذَلِكَ غَايَةُ اللُّطْفِ وَالْإِحْسَان.
وَعبر بترضاها لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَيْلَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ مَيْلٌ لِقَصْدِ الْخَيْرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَعْبَةَ أَجْدَرُ بُيُوتِ اللَّهِ بِأَنْ يَدُلَّ عَلَى التَّوْحِيدِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهُوَ أَجْدَرُ بِالِاسْتِقْبَالِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ،
_________
(١) الْبَيْت فِي «شرح شَوَاهِد الْمُغنِي» (١٦٩) للهذلي، وَقيل: لِعبيد بن الأبرص. هَذَا وَلَيْسَ فِي «أشعار الهذليين» هَذَا الْبَيْت وَانْظُر «اللِّسَان» (قدد) قَالَ ابْن بري: الْبَيْت لِعبيد بن اَوْ برص، وَالشَّاهِد أَيْضا فِي «الصِّحَاح»، وَهُوَ فِي «ديوَان عبيد» (٦٤).
وَهَذَا قِتَالٌ لَيْسَ لِلْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ بَلْ هُوَ لِدَفْعِ غَائِلَةِ الْمُشْرِكِينَ.
النَّوْعُ الثَّانِي: آيَاتٌ أَمَرَتْ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ وَلَمْ تُغَيَّ بِغَايَةٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُهَا مُقَيَّدًا بِغَايَةِ آيَةِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ [التَّوْبَة: ٢٩] وَحِينَئِذٍ فَلَا تُعَارِضُهُ آيَتُنَا هَذِهِ لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَا غُيِّيَ بِغَايَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [الْبَقَرَة: ١٩٣]، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا بِهَاتِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ
[التَّوْبَة: ٢٩] كَمَا نُسِخَ
حَدِيثُ «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ»
، هَذَا مَا يَظْهَرُ لَنَا فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلِأَهْلِ الْعِلْمِ قَبْلَنَا فِيهَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التَّوْبَة: ٧٣]، فَإِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْرَهَ الْعَرَبَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَقَاتَلَهُمْ وَلَمْ يَرْضَ مِنْهُمْ إِلَّا بِهِ. وَلَعَلَّهُمَا يُرِيدَانِ مِنَ النَّسْخِ مَعْنَى التَّخْصِيصِ. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى نَسْخِهَا بِقِتَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَرَبَ عَلَى الْإِسْلَامِ، يُعَارِضُهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ، فَوَجْهُ الْجمع هُوَ التَّنْصِيص. الْقَوْلُ الثَّانِي إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَلَكِنَّهَا خَاصَّةٌ، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ هِيَ خَاصَّةٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ لَا يُكْرَهُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ إِذَا أَدَّوُا الْجِزْيَةَ وَإِنَّمَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ أَهْلُ الْأَوْثَانِ، وَإِلَى هَذَا مَالَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: إِنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ «وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ مَنْ رَأَى قَبُولَ الْجِزْيَةِ مِنْ جِنْسٍ يَحْمِلُ الْآيَةَ عَلَيْهِ»، يَعْنِي مَعَ بَقَاءِ طَائِفَةٍ يَتَحَقَّقُ فِيهَا الْإِكْرَاهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ:
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَنْصَارِ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ مِقْلَاتًا- أَيْ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ- (١) تَنْذُرُ إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَأَسْلَمُوا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ يَهُودًا فَقَالُوا: لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا بَلْ نُكْرِهُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ.
_________
(١) المقلات- بِكَسْر الْمِيم- مُشْتَقَّة من القلت بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ الْهَلَاك، وَعَلِيهِ فالتاء فِيهِ أَصْلِيَّة وَلَيْسَت هَاء تَأْنِيث، وَوَقع فِي كَلَام ابْن عَبَّاس تكون الْمَرْأَة مقلى، رَوَاهُ الطَّبَرِيّ فَيكون مقلاه مفعلة من قلى إِذا أبْغض.
وَالْمَعْنَى: تَصُدُّونَ عَنِ السَّبِيلِ الْمُسْتَقِيمِ وَتُرِيدُونَ السَّبِيلَ الْمُعْوَجَّ فَفِي ضَمِيرِ تَبْغُونَها اسْتِخْدَامٌ لِأَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ الْمَصْدُودَ عَنْهَا هِيَ الْإِسْلَامُ، وَالسَّبِيلُ الَّتِي يُرِيدُونَهَا هِيَ
مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ بَعْدَ نَسْخِهِ وَتَحْرِيفِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ شُهَداءُ حَالٌ أَيْضًا تُوَازِنُ الْحَالَ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهَا وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ وَمَعْنَاهُ وَأَنْتُمْ عَالِمُونَ أَنَّهَا سَبِيلُ اللَّهِ. وَقَدْ أَحَالَهُمْ فِي هَذَا الْكَلَامِ عَلَى مَا فِي ضَمَائِرِهِمْ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ وَخْزِ قُلُوبِهِمْ، وَانْثِنَائِهِمْ بِاللَّائِمَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَهُوَ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ وَتَذْكِيرٌ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تُخْفِي الصُّدُورَ وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ فِي مَوْعِظَتِهِمُ السَّابِقَةِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ إِلَّا أَنَّ هَذَا أَغْلَظُ فِي التَّوْبِيخِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ اعْتِقَادِ غَفْلَتِهِ سُبْحَانَهُ، لِأَنَّ حَالَهُمْ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ حَالِ مَنْ يعْتَقد ذَلِك.
[١٠٠، ١٠١]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٠٠ إِلَى ١٠١]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١)
إِقْبَالٌ عَلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ لِتَحْذِيرِهِمْ مِنْ كَيْدِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَسُوءِ دُعَائِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ خَاطَبَهُمْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ خِلَافَ خِطَابِهِ أَهْلَ الْكِتَابِ إِذْ قَالَ:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ [آل عمرَان: ٩٨] وَلَمْ يَقُلْ: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.
وَالْفَرِيقُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ، وَأَشَارَ بِهِ هُنَا إِلَى فَرِيقٍ مِنَ الْيَهُودِ وَهُمْ شَاسُ بْنُ قَيْسٍ وَأَصْحَابُهُ، أَوْ أَرَادَ شَاسًا وَحْدَهُ، وَجَعَلَهُ فَرِيقًا كَمَا جَعَلَ أَبَا سُفْيَانَ نَاسًا فِي قَوْلِهِ: «إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ» وَسِيَاقُ الْآيَةِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهَا جَرَتْ
وَبِضَعْفِ دِيَانَتِهِ. وَمِنَ السَّلَفِ مَنْ قَالَ:
الذُّنُوبُ كُلُّهَا سَوَاءٌ إِنْ كَانَتْ عَنْ عَمْدٍ. وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَائِينِيِّ أَنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا سَوَاءٌ مُطْلَقًا، وَنَفَى الصَّغَائِرَ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ وَاهِيَانِ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ شَاهِدَةٌ بِتَقْسِيمِ الذُّنُوبِ إِلَى قِسْمَيْنِ، وَلِأَنَّ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الذُّنُوبُ مِنَ الْمَفَاسِدِ مُتَفَاوِتٌ أَيْضًا، وَفِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ إِثْبَاتُ نَوْعِ الْكَبَائِرِ وَأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى إِثْبَاتِ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ أَحْكَامٌ تَكْلِيفِيَّةٌ: مِنْهَا الْمُخَاطَبَةُ بِتَجَنُّبِ الْكَبِيرَةِ تَجَنُّبًا شَدِيدًا، وَمِنْهَا وُجُوبُ التَّوْبَةِ مِنْهَا عِنْد اقترابها، وَمِنْهَا أَنَّ تَرْكَ الْكَبَائِرِ يُعْتَبَرُ تَوْبَةً مِنَ الصَّغَائِرِ، وَمِنْهَا سَلْبُ الْعَدَالَةِ عَنْ مُرْتَكِبِ الْكَبَائِرِ، وَمِنْهَا نَقْضُ حُكْمِ الْقَاضِي الْمُتَلَبِّسِ بِهَا، وَمِنْهَا جَوَازُ هِجْرَانِ الْمُتَجَاهِرِ بِهَا، وَمِنْهَا تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ عَلَى الْمُتَلَبِّسِ بِهَا. وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَسَائِلُ فِي أُصُولِ الدِّينِ: مِنْهَا تَكْفِيرُ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْخَوَارِجِ، الَّتِي تُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَعَاصِي الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ وَاعْتِبَارُهُ مَنْزِلَةً بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ، خِلَافًا لِجُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ. فَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُمَيِّزِ الْكَبَائِرَ عَنِ الصَّغَائِرِ لِيَكُونَ ذَلِكَ زَاجِرًا لِلنَّاسِ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى كُلِّ ذَنَبٍ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ إِخْفَاءُ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى فِي الصَّلَوَاتِ، وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ، وَسَاعَةِ الْإِجَابَةِ فِي سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ، هَكَذَا حَكَاهُ الْفَخْرُ فِي التَّفْسِيرِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ ذُهُولُ هَذَا الْقَائِلِ، وَذُهُولُ الْفَخْرِ عَنْ رَدِّهِ، لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي نَظَرُوا بِهَا تَرْجِعُ إِلَى فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا تَكْلِيفٌ فَإِخْفَاؤُهَا يُقْصَدُ مِنْهُ التَّرْغِيبُ فِي تَوَخِّي مَظَانِّهَا لِيُكْثِرَ النَّاسُ مَنْ فِعْلِ الْخَيْرِ، وَلَكِنَّ إِخْفَاءَ الْأَمْرِ الْمُكَلَّفِ بِهِ إِيقَاعٌ فِي الضَّلَالَةِ، فَلَا يَقَعُ ذَلِكَ مِنَ الشَّارِعِ.
وَالْمَدْخَلُ- بِفَتْحِ الْمِيمِ- اسْمُ مَكَانِ الدُّخُولِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِيمِيًّا.
وَالْمَعْنَى: نُدْخِلُكُمْ مَكَانًا كَرِيمًا، أَوْ نُدْخِلُكُمْ دُخُولًا كَرِيمًا. وَالْكَرِيمُ هُوَ النَّفِيسُ فِي نَوْعِهِ.
فَالْمُرَادُ إِمَّا الْجَنَّةُ وَإِمَّا الدُّخُولُ إِلَيْهَا، وَالْمُرَادُ بِهِ الجنّة. والمدخل- بصمّ الْمِيمِ- كَذَلِكَ مَكَانٌ أَوْ مَصْدَرُ أَدْخَلَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: «مَدْخَلًا» - بِفَتْح الْمِيم- وَقَرَأَ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ- بضمّ الْمِيم-.
نَقَلَ الْفَخْرُ فِي آيَةِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ أَنَّهُ قَالَ: «نَفْسُ التَّحْرِيمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً عَلَى جُرْمٍ صَدَرَ مِنْهُمْ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ تَعْرِيضٌ لِلثَّوَابِ، وَالتَّعْرِيضَ لِلثَّوَابِ إِحْسَانٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ جَزَاءً عَلَى الْجُرْمِ. قَالَ الْفَخْرُ: وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الِانْتِفَاعِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِقَصْدِ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلْجُرْمِ».
وَهَذَا الْجَوَابُ مُصَادَرَةٌ عَلَى أَنَّ مِمَّا يُقَوِّي الْإِشْكَالَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ حَقُّهَا أَنْ تُخَصَّ بِالْمُجْرِمِينَ ثُمَّ تُنْسَخَ. فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي الْجَوَابِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبُ تَحْرِيمِ تِلْكَ الطَّيِّبَاتِ أَنَّ مَا سَرَى فِي طِبَاعِهِمْ بِسَبَبِ بَغْيِهِمْ وَظُلْمِهِمْ مِنَ الْقَسَاوَةِ صَارَ ذَلِكَ طَبْعًا فِي أَمْزِجَتِهِمْ فَاقْتَضَى أَنْ يُلَطِّفَ اللَّهُ طِبَاعَهُمْ بِتَحْرِيمِ مَأْكُولَاتٍ مِنْ طَبْعِهَا تَغْلِيظُ الطِّبَاعِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا جَاءَهُمْ عِيسَى أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ بَعْضَ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ لِزَوَالِ مُوجِبِ التَّحْرِيمِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ عِقَابًا لِلَّذِينِ ظَلَمُوا وَبَغَوْا ثُمَّ بَقِيَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ جَاءَ بِعْدَهُمْ لِيَكُونَ لَهُمْ ذِكْرَى وَيَكُونَ لِلْأَوَّلِينَ سُوءُ ذِكْرٍ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الْأَنْفَال: ٢٥]،
وَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا»
. ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ. وَإِمَّا لِأَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ عُقُوبَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ رَاجِعَةٌ إِلَى الْحِرْمَانِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَلَا نَظَرَ إِلَى مَا يَعْرِضُ لِهَذَا التَّحْرِيمِ تَارَةً مِنَ الثَّوَابِ عَلَى نِيَّةِ الِامْتِثَالِ لِلنَّهْيِ، لِنُدْرَةِ حُصُولِ هَذِهِ النِّيَّةِ فِي التَّرْكِ.
وَصَدُّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: إِنْ كَانَ مَصْدَرَ صَدَّ الْقَاصِرُ الَّذِي مُضَارِعُهُ يَصِدُّ- بِكَسْرِ الصَّادِ- فَالْمَعْنَى بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ مَصْدَرَ الْمُتَعَدِّي الَّذِي قِيَاسُ مُضَارِعِهِ- بِضَمِّ الصَّادِ-، فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ التَّقْوَى، وَيَقُولُونَ: سَيُغْفَرُ لَنَا، مِنْ زَمَنِ مُوسَى قَبْلَ أَنْ يُحَرَّمَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ الطَّيِّبَاتِ. أَمَّا بَعْدَ مُوسَى فَقَدْ صَدُّوا النَّاسَ كَثِيرًا، وَعَانَدُوا الْأَنْبِيَاءَ، وَحَاوَلُوهُمْ عَلَى كَتْمِ الْمَوَاعِظِ، وَكَذَّبُوا عِيسَى، وَعَارَضُوا دَعْوَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَوَّلُوا لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، جَهْرًا أَوْ نِفَاقًا، الْبَقَاءَ عَلَى الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي
عَلَى الْجَرَائِمِ، وَمَا يَقَعُ فِي الْمَيْسِرِ مِنَ التَّحَاسُدِ عَلَى الْقَامِرِ، وَالْغَيْظِ وَالْحَسْرَةِ لِلْخَاسِرِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِك من التشاتم وَالسِّبَابِ وَالضَّرْبِ. عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ حُدُوثِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ، لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةً إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ أَمْرُ أُمَّةٍ بَيْنَ أَفْرَادِهَا الْبَغْضَاءُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا».
وَ (فِي) مِنْ قَوْلِهِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ للسبيبة أَوِ الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، أَيْ فِي مَجَالِسِ تَعَاطِيهِمَا.
وَأَمَّا الصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَلِمَا فِي الْخَمْرِ مِنْ غَيْبُوبَةِ الْعَقْلِ، وَمَا فِي الْمَيْسِرِ مِنَ اسْتِفْرَاغِ الْوَقْتِ فِي الْمُعَاوَدَةِ لِتَطَلُّبِ الرِّبْحِ.
وَهَذِهِ أَرْبَعُ عِلَلٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ اجْتِمَاعُهَا مُقْتَضِيًا تَغْلِيظَ التَّحْرِيمِ. وَيُلْحَقُ بِالْخَمْرِ كُلُّ مَا اشْتَمَلَ عَلَى صِفَتِهَا مِنْ إِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ. وَيُلْحَقُ بِالْمَيْسِرِ كُلُّ مَا شَارَكَهُ فِي إِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ أَنْوَاعُ الْقِمَارِ كُلِّهَا أَمَّا مَا كَانَ مِنَ اللَّهْوِ بِدُونِ قِمَارٍ كَالشَّطْرَنْجِ دُونَ قِمَارٍ، فَذَلِكَ دُونَ الْمَيْسِرِ، لِأَنَّهُ يَنْدُرُ أَنْ يَصُدَّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ،
وَلِأَنَّهُ لَا يُوقِعُ فِي الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ غَالِبًا، فَتَدْخُلُ أَحْكَامُهُ تَحْتَ أَدِلَّةٍ أُخْرَى.
وَالذِّكْرُ الْمَقْصُودُ فِي قَوْلِهِ: عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ من الذّكر اللِّسَان فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنَ وَكَلَامَ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- الَّذِي فِيهِ نَفْعُهُمْ وَإِرْشَادُهُمْ، لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ أَحْكَامِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فَإِذَا انْغَمَسُوا فِي شُرْبِ الْخَمْرِ وَفِي التَّقَامُرِ غَابُوا عَنْ مَجَالِسِ الرَّسُولِ وَسَمَاعِ خُطَبِهِ، وَعَنْ مُلَاقَاةِ أَصْحَابِهِ الْمُلَازِمِينَ لَهُ فَلَمْ يَسْمَعُوا الذِّكْرَ وَلَا يَتَلَقَّوْهُ مِنْ أَفْوَاهِ سَامِعِيهِ فَيَجْهَلُوا شَيْئًا كَثِيرًا فِيهِ مَا يَجِبُ عَلَى المكلّف مَعْرفَته. فالسيء الَّذِي يَصُدُّ عَنْ هَذَا هُوَ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَرَّمَ تَعَاطِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الذِّكْرُ الْقَلْبِيُّ وَهُوَ تَذَكُّرُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ فَإِنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ كَقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِاللِّسَانِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. فَالشَّيْءُ الَّذِي يَصُدُّ عَنْ تَذَكُّرِ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ هُوَ ذَرِيعَةٌ لِلْوُقُوعِ فِي مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ وَفِي اقْتِحَامِ
كَانَ بِمَعْنَى الْإِيقَانِ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ أَوْ نَهَى، فَذَلِكَ نَادِرٌ فِي مُعْظَمِ مَسَائِلِ التَّشْرِيعِ، عَدَا مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَوْ حَصَلَ لِصَاحِبِهِ بِالْحِسِّ، وَهُوَ خَاصٌّ بِمَا تَلَقَّاهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ عَنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَاشَرَةً، أَوْ حَصَلَ بِالتَّوَاتُرِ. وَهُوَ عَزِيزُ الْحُصُولِ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، كَمَا عُلِمَ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَجُمْلَةُ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَبَيَّنَ سَبَبَ ضَلَالِهِمْ: أَنَّهُمُ اتَّبَعُوا الشُّبْهَةَ، مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ فِي مَفَاسِدِهَا، فَالْمُرَادُ بِالظَّنِّ ظَنُّ أَسْلَافِهِمْ، كَمَا أَشْعَرَ بِهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: يَتَّبِعُونَ.
وَجُمْلَةُ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ. وَوُجُودُ حَرْفِ الْعَطْفِ يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَأْكِيدًا لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَوْ تَفْسِيرًا لَهَا، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ غَيْرُ الْمُرَادِ بِجُمْلَةِ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ.
وَقَدْ تَرَدَّدَتْ آرَاءُ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَحْمَلِ قَوْلِهِ: وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ فَقِيلَ:
يَخْرُصُونَ يَكْذِبُونَ فِيمَا ادَّعَوْا أَنَّ مَا اتَّبَعُوهُ يَقِينٌ، وَقِيلَ: الظَّنُّ ظَنُّهُمْ أَنَّ آبَاءَهُمْ عَلَى الْحَقِّ.
وَالْخَرْصُ: تَقْدِيرُهُمْ أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْحَقِّ.
وَالْوَجْهُ: أَنَّ مَحْمَلَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى عَلَى مَا تَلَقَّوْهُ مِنْ أَسْلَافِهِمْ، كَمَا أَشْعَرَ بِهِ قَوْلُهُ:
يَتَّبِعُونَ، وَأَنَّ مَحْمَلَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مَا يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنَ الزِّيَادَاتِ عَلَى مَا تَرَكَ لَهُمْ
أَسْلَافُهُمْ وَعَلَى شُبَهَاتِهِمِ الَّتِي يَحْسَبُونَهَا أَدِلَّةً مُفْحِمَةً، كَقَوْلِهِمْ: «كَيْفَ نَأْكُلُ مَا قَتَلْنَاهُ وَقَتَلَهُ الْكَلْبُ وَالصَّقْرُ، وَلَا نَأْكُلُ مَا قَتَلَهُ اللَّهُ» كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، كَمَا أَشْعَرَ بِهِ فِعْلُ: يَخْرُصُونَ مِنْ مَعْنَى التَّقْدِيرِ وَالتَّأَمُّلِ.
جَرَمَ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ ذَلِكَ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ، وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَهَمُّ مِنَ السُّؤَالِ هُوَ الْأُمَمِ، لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ، قُدِّمَ ذِكْرُهُمْ عَلَى ذِكْرِ الرُّسُلِ، وَلِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ صِلَةُ (الَّذِي) وَصِلَةُ (الْ) مِنْ أَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الرِّسَالَةِ، وَهُوَ سُؤَالُ الْفَرِيقَيْنِ عَنْ وُقُوعِ التَّبْلِيغِ.
وَلَمَّا دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى التَّعْبِيرُ: بِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَالتَّعْبِيرُ: بِ الْمُرْسَلِينَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ جَوَابِ الْمَسْئُولِينَ لِظُهُورِ أَنَّهُ إِثْبَاتُ التَّبْلِيغِ وَالْبَلَاغِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ لِلتَّفْرِيعِ وَالتَّرْتِيبِ على قَوْله: فَلَنَسْئَلَنَّ، أَيْ لَنَسْأَلَنَّهُمْ ثُمَّ نُخْبِرُهُمْ بِتَفْصِيلِ مَا أَجْمَلَهُ جَوَابُهُمْ، أَيْ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ تَفَاصِيلَ أَحْوَالِهِمْ، أَيْ فَعِلْمُنَا غَنِيٌّ عَنْ جَوَابِهِمْ وَلَكِنَّ السُّؤَالَ لِغَرَضٍ آخَرَ.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى إِرَادَةِ التَّفْصِيلِ تَنْكِيرُ عِلْمٍ فِي قَوْلِهِ: بِعِلْمٍ أَيْ عِلْمٍ عَظِيمٍ، فَإِنَّ تَنْوِينَ (عِلْمٍ) لِلتَّعْظِيمِ، وَكَمَالُ الْعِلْمِ إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي الْعِلْمِ بِالْأُمُورِ الْكَثِيرَةِ، وَزَادَ ذَلِكَ بَيَانًا قَوْلُهُ:
وَما كُنَّا غائِبِينَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى: لَا يَعْزُبُ عَنْ علمنَا شَيْء يغيب عَنَّا وَنَغِيبُ عَنْهُ.
وَالْقَصُّ: الْإِخْبَارُ، يُقَالُ: قَصَّ عَلَيْهِ، بِمَعْنَى أَخْبَرَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُصُّ الْحَقَّ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٧].
وَجُمْلَةُ: وَما كُنَّا غائِبِينَ مَعْطُوف عَلَى فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ، وَهِيَ فِي مَوْقِعِ التَّذْيِيلِ.
وَالْغَائِبُ ضِدُّ الْحَاضِرِ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْجَاهِلِ، لِأَنَّ الْغَيْبَةَ تَسْتَلْزِمُ الْجَهَالَةَ عُرْفًا، أَيِ الْجَهَالَةَ بِأَحْوَالِ الْمَغِيبِ عَنْهُ، فَإِنَّهَا وَلَوْ بَلَغَتْهُ
الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ، وَهُوَ مُطْلَقُ خِلَافَةِ الْمُنْقَرِضِ. وَهُوَ هُنَا مُحْتَمِلٌ لِلْإِطْلَاقَيْنِ، لِأَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِالْكَلَامِ أَهْلُ مَكَّةَ فَالْإِرْثُ بِمَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ، وَإِنْ أُرِيدَ أَهْلُ مَكَّةَ وَالْقَبَائِلُ الَّتِي سَكَنَتْ بِلَادَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٥] وَأَيًّا مَا كَانَ فَقَيْدُ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى يَرِثُونَ، يُرَادُ مِنْهُ تَذْكِيرُ السَّامِعِينَ بِمَا كَانَ فِيهِ أَهْلُ الْأَرْضِ الْمَوْرُوثَةِ مِنْ بُحْبُوحَةِ الْعَيْشِ، ثُمَّ مَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنَ الْهَلَاكِ الشَّامِلِ الْعَاجِلِ، تَصْوِيرًا لِلْمَوْعِظَةِ بِأَعْظَمِ صُورَةٍ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الْأَعْرَاف: ١٢٩].
وَمَعْنَى لَمْ يَهْدِ لَمْ يُرْشِدْ وَيُبَيِّنْ لَهُمْ، فَالْهِدَايَةُ أَصْلُهَا تَبْيِينُ الطَّرِيقِ لِلسَّائِرِ، وَاشْتُهِرَ اسْتِعْمَالُهُمْ فِي مُطْلَقِ الْإِرْشَادِ: مَجَازًا أَوِ اسْتِعَارَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: ٦]. وَتَقَدَّمَ أَنَّ فِعْلَهَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَأَنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى الْأَوَّلِ مِنْهُمَا بِنَفْسِهِ وَإِلَى
الثَّانِي تَارَةً بِنَفْسِهِ وَأُخْرَى بِالْحَرْفِ: اللَّامِ أَوْ (إِلَى)، فَلِذَلِكَ كَانَتْ تَعْدِيَتُهُ إِلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ بِاللَّامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِمَّا لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى يُبَيِّنُ، وَإِمَّا لِتَقْوِيَةِ تَعَلُّقِ مَعْنَى الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: شَكَرْتُ لَهُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مَرْيَم: ٥]، وَمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ فِي سُورَةِ طه [١٢٨].
وأَنْ مُخَفَّفَةٌ مِنْ (أَنَّ) وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَجُمْلَةُ لَوْ نَشاءُ خَبَرُهَا. وَلَمَّا كَانَتْ (أَنَّ) - الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ- مِنَ الْحُرُوفِ الَّتِي تُفِيدُ الْمَصْدَرِيَّةَ عَلَى التَّحْقِيقِ لِأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ (إِنِّ) الْمَكْسُورَةِ الْمُشَدَّدَةِ، وَمِنْ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ الْمُخَفَّفَةِ الْمَصْدَرِيَّةِ لِذَلِكَ عُدَّتْ فِي الْمَوْصُولَاتِ الْحَرْفِيَّةِ وَكَانَ مَا بَعْدَهَا مُؤَوَّلًا بِمَصْدَرٍ مُنْسَبِكٍ مِنْ لَفْظِ خَبَرِهَا إِنْ كَانَ مُفْرَدًا مُشْتَقًّا، أَوْ مِنَ الْكَوْنِ إِنْ كَانَ خَبَرُهَا جُمْلَةً، فَمَوْقِعُ أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ مَوْقِعُ فَاعِلِ يَهْدِ، وَالْمعْنَى: أَو لم يُبَيَّنْ لِلَّذِينَ يَخْلُفُونَ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ أَهْلِهَا كَوْنُ الشَّأْنِ الْمُهِمِّ وَهُوَ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ كَمَا أَصَبْنَا مَنْ قَبْلَهُمْ.
وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ وكذبوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْإِصَابَةُ: نَوَالُ الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ بِتَمَكُّنٍ فِيهِ. فَالْمَعْنَى: أَنْ نَأْخُذَهُمْ أَخْذًا لَا يُفْلِتُونَ مِنْهُ. وَالْبَاءُ فِي بِذُنُوبِهِمْ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَلَيْسَتْ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ أَصَبْناهُمْ.
وَهَذَا التَّخَيُّلُ قَدْ يَحْصُلُ مِنِ انْعِكَاسِ الْأَشِعَّةِ وَاخْتِلَافِ الظِّلَالِ، بِاعْتِبَارِ مَوَاقِعِ الرَّائِينَ مِنِ ارْتِفَاعِ الْمَوَاقِعِ وَانْخِفَاضِهَا، وَاخْتِلَافِ أَوْقَاتِ الرُّؤْيَةِ عَلَى حَسَبِ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ، وَمَوْقِعِ الرَّائِينَ مِنْ مُوَاجَهَتِهَا أَوِ اسْتِدْبَارِهَا، وَبَعْضُ ذَلِكَ يَحْصُلُ عِنْدَ حُدُوثِ الْآلِ
وَالسَّرَابِ، أَوْ عِنْدَ حُدُوثِ ضَبَابٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَإِلْقَاءُ اللَّهِ الْخَيَالَ فِي نُفُوسِ الْفَرِيقَيْنِ أَعْظَمُ مِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ.
وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ قَدْ مَضَتْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِذِ الْتَقَيْتُمْ فَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ العجيبة لهاته الإراءة، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا [الْأَنْفَال:
٤٣].
وإِذِ الْتَقَيْتُمْ ظَرْفٌ لِ يُرِيكُمُوهُمْ وَقَوْلُهُ: فِي أَعْيُنِكُمْ تَقْيِيدٌ لِلْإِرَادَةِ بِأَنَّهَا فِي الْأَعْيُنِ، لَا غَيْرَ، وَلَيْسَ الْمَرْئِيُّ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَيُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ تَقْيِيدِ الْإِرَاءَةِ بِأَنَّهَا فِي الْأَعْيُنِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِمَقْصِدٍ لَكَانَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِرَاءَةَ بَصَرِيَّةٌ لَا حُلْمِيَّةٌ كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: تَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْي الْعين [آل عمرَان:
١٣].
وَالِالْتِقَاءُ افْتِعَالٌ مِنَ اللِّقَاءِ، وَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ فِيهِ دَالَّةٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ. وَاللِّقَاءُ وَالِالْتِقَاءُ فِي الْأَصْلِ الْحُضُورُ لَدَى الْغَيْرِ، مِنْ صَدِيقٍ أَوْ عَدُوٍّ، وَفِي خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَقَدْ كَثُرَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْحُضُورِ مَعَ الْأَعْدَاءِ فِي الْحَرْبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً [الْأَنْفَال: ١٥] الْآيَةَ.
وَيُقَلِّلُكُمْ يَجْعَلُكُمْ قَلِيلًا، لِأَنَّ مَادَّةَ التَّفْعِيلِ تَدُلُّ عَلَى الْجَعْلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْجَعْلُ مُتَعَلِّقًا بِذَاتِ الْمَفْعُولِ، تَعَيَّنَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ، كَمَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ: «وَفِيهِ سَاعَةٌ»
، قَالَ الرَّاوِي: يُقَلِّلُهَا أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِرَاءَةِ كَمَا هُنَا، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي اقْتَضَى زِيَادَةَ قَوْلِهِ: فِي أَعْيُنِهِمْ لِيُعْلَمَ أَنَّ التَّقْلِيلَ لَيْسَ بِالنَّقْصِ مِنْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
وَقَوْلُهُ: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا هُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا [الْأَنْفَال: ٤٢] الْمُتَقَدِّمِ أُعِيدَ هُنَا لِأَنَّهُ عِلَّةُ إِرَاءَةِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ الْفَرِيقَ الْآخَرِ قَلِيلًا، وَأَمَّا السَّابِقُ فَهُوَ عِلَّةٌ لِتَلَاقِي الْفَرِيقَيْنِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
عَلَى التَّوْبَةِ وَالتَّنْبِيهِ إِلَى فَتْحِ بَابِهَا. وَقَدْ جَوَّزَ الْمُفَسِّرُونَ عَوْدَ ضَمِيرِ أَلَمْ يَعْلَمُوا [التَّوْبَة: ١٠٤] إِلَى الْفَرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ أَشَرْنَا إِلَيْهِمَا.
وَقَوْلُهُ: هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ [التَّوْبَةَ: ١٠٤] (هُوَ) ضَمِيرُ فَصْلٍ مُفِيدٌ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ. وعَنْ عِبادِهِ [التَّوْبَة: ١٠٤] مُتَعَلِّقَةٌ بِ يَقْبَلُ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى يَتَجَاوَزُ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ هُوَ التَّجَاوُزُ عَنِ الْمَعَاصِي الْمَتُوبِ مِنْهَا.
فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَقْبَلُ التَّوْبَةَ وَيَتَجَاوَزُ عَنْ عِبَادِهِ. وَكَانَ حَقُّ تَعْدِيَةِ فِعْلِ (يَقْبَلُ) أَنْ يَكُونَ بِحَرْفِ (مِنْ). وَنَقَلَ الْفَخْرُ عَنِ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ أَنَّهُ قَالَ: لَعَلَّ (عَنْ) أبلغ لِأَنَّهُ ينبىء عَنِ الْقَبُولِ مَعَ تَسْهِيلِ سَبِيلِهِ إِلَى التَّوْبَةِ الَّتِي قُبِلَتْ. وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ ذَلِكَ، وَأَحْسَبُ أَنَّهُ يُرِيدُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ تَضْمِينِ مَعْنَى التَّجَاوُزِ.
وَجِيءَ بِالْخَبَرِ فِي صُورَةٍ كُلِّيَّةٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْمِيمُ الْخطاب، فَالْمُرَاد ب عِبادِهِ جَمِيعُ النَّاسِ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ لِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الْكُفْرِ هِيَ الْإِيمَانُ.
وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ التَّوْبَةِ قَطْعًا إِذَا كَانَتْ تَوْبَةً صَحِيحَةً لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ لِتَوْبَةِ الْكَافِرِ عَنْ كُفْرِهِ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ بَلَغَتْ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ. وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ لِتَوْبَةِ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْمَعَاصِي لِأَنَّ أَدِلَّتَهُ لَا تَعْدُو أَنْ تَكُونَ دَلَالَةَ ظَوَاهِرَ فَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ. مَقْبُولَةٌ قَطْعًا. وَنُقِلَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُوهُ وَهُوَ الْحَقُّ. وَادَّعَى الْإِمَامُ فِي «الْمَعَالِمِ» الْإِجْمَاع عَلَيْهِ وَهِي أَوْلَى بِالْقَبُولِ. وَقَالَ الْبَاقِلَّانِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْمَازِرِيُّ: إِنَّمَا يُقْطَعُ بِقَبُولِ تَوْبَةِ طَائِفَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، يَعْنُونَ لِأَنَّ أَدِلَّةَ قَبُولِ جِنْسِ التَّوْبَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ مُتَكَاثِرَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ بَلَغَتْ مَبْلَغَ الْقَطْعِ وَلَا يُقْطَعُ بِقَبُولِ تَوْبَةِ تَائِبٍ بِخُصُوصِهِ. وَكَأَنَّ خِلَافَ هَؤُلَاءِ يَرْجِعُ إِلَى عَدَمِ الْقَطْعِ بِأَنَّ التَّائِبَ الْمُعَيَّنَ تَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا. وَفِي هَذَا نَظَرٌ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي تَوْبَةٍ مُسْتَوْفِيَّةٍ أَرْكَانَهَا وَشُرُوطَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ (١) السُّوءَ بِجَهالَةٍ الْآيَةَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٧].
وَالْأَخْذُ فِي قَوْلِهِ: وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ [التَّوْبَة: ١٠٤] مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْقَبُولِ، لِظُهُورِ أَنَّ اللَّهَ لَا يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ أَخْذًا حَقِيقِيًّا، فَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِلْقَبُولِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الصَّدَقَةِ.
_________
(١) فِي المطبوعة (يعلمُونَ) وَهُوَ خطأ.
أَفَمَنْ كَانُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ.
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ [١٤].
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا النَّصَارَى فَقَطْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُنْتَشِرِينَ فِي الْعَرَبِ وَيَعْرِفُ أَهْلُ مَكَّةَ كَثِيرًا مِنْهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ عَرَفُوا أَحَقِّيَّةَ الْإِسْلَامِ مِثْلُ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وَدِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ مِمَّنْ آمَنُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَدَلُّوا عَلَى تَمَكُّنِهِمْ مِنْ مَعْرِفَةِ الْبَيِّنَةِ لِصِحَّةِ أَفْهَامِهِمْ وَلِوُضُوحِ دَلَالَةِ الْبَيِّنَةِ، فَأَصْحَابُهَا مُؤْمِنُونَ بِهَا.
وَالْمُرَادُ بِالْبَيِّنَةِ حُجَّةُ مَجِيءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبَشَّرِ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. فَكَوْنُ النَّصَارَى عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُكَذِّبُوا رَسُولًا صَادِقًا.
وَكَوْنُ الْيَهُودِ عَلَى بَيِّنَةٍ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِانْتِظَارِهِمْ رَسُولًا مُبَشَّرًا بِهِ فِي كِتَابِهِمْ وَإِنْ كَانُوا فِي كُفْرِهِمْ بِعِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَيْسُوا عَلَى بَيِّنَةٍ. فَالْمُرَادُ عَلَى بَيِّنَةٍ خَاصَّةٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا سِيَاقُ الْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ: فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ [هود: ١٤]، وَيُعَيِّنُهَا اللَّاحِقُ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ أَيْ بِالْقُرْآنِ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّهِ ابْتِدَائِيَّةٌ ابْتِدَاءً مَجَازِيًّا. وَمَعْنَى كَوْنِهَا مِنْ رَبِّهِ أَنَّهَا مِنْ وَحْيِ اللَّهِ وَوِصَايَتِهِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمرَان: ٨١] وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النبيء الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الْأَعْرَاف: ١٥٧]. وَذَكَرَ كِتَابَ مُوسَى وَأَنَّهُ مِنْ قَبْلِهِ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ الْمَذْكُورَةَ هُنَا مِنَ الْإِنْجِيلِ، وَيُقَوِّي أَنَّ المُرَاد ب فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ النَّصَارَى.
وَفِعْلُ (يَتْلُوهُ) مُضَارِعُ التَّلْوِ وَهُوَ الِاتِّبَاعُ وَلَيْسَ مِنَ التِّلَاوَةِ، أَيْ يَتْبَعُهُ. وَالِاتِّبَاعُ مُسْتَعَارٌ لِلتَّأْيِيدِ وَالِاقْتِدَاءِ فَإِنَّ الشَّاهِدَ بِالْحَقِّ يَحْضُرُ وَرَاءَ الْمَشْهُودِ لَهُ. وَضَمِيرُ الْغَائِبِ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: يَتْلُوهُ عَائِد إِلَى فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ.
إِخْوَتِهِمَا بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ مَا كَانَ يَجِدُهُ أَخُوهُ (بِنْيَامِينُ) مِنَ الْحُزْنِ لِهَلَاكِ أَخِيهِ الشَّقِيقِ وَفَظَاظَةِ إِخْوَتِهِ وَغَيْرَتِهِمْ مِنْهُ.
وَالنَّهْيُ عَنِ الِابْتِئَاسِ مُقْتَضٍ الْكَفَّ عَنْهُ، أَيْ أَزِلْ عَنْكَ الْحُزْنَ وَاعْتَضْ عَنْهُ بِالسُّرُورِ.
وَأَفَادَ فِعْلُ الْكَوْنِ فِي الْمُضِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ مَا عَمِلُوهُ فِيمَا مَضَى. وَأفَاد صوغ يَعْمَلُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ أَنَّهُ أَعْمَالٌ مُتَكَرِّرَةٌ مِنَ الْأَذَى. وَفِي هَذَا تَهْيِئَةٌ لِنَفْسِ أَخِيهِ لِتَلَقِّي حَادِثِ الصُّوَاعِ بِاطْمِئْنَانٍ حَتَّى لَا يَخْشَى أَنْ يَكُونَ بِمَحَلِّ الرِّيبَةِ مِنْ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَام-.
[٧٠- ٧٥]
[سُورَة يُوسُف (١٢) : الْآيَات ٧٠ إِلَى ٧٥]
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤)
قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥)
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ فِي الْآيَاتِ قَبْلَ هَذِهِ. وَإِسْنَادُ جَعَلَ السِّقَايَةَ إِلَى ضَمِيرِ يُوسُفَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ آمِرٌ بِالْجَعْلِ وَالَّذِينَ جَعَلُوا السِّقَايَةَ هُمُ الْعَبِيدُ الْمُوَكَّلُونَ بِالْكَيْلِ.
وَالسِّقَايَةُ: إِنَاءٌ كَبِيرٌ يُسْقَى بِهِ الْمَاءُ وَالْخَمْرُ. وَالصُّوَاعُ: لُغَةٌ فِي الصَّاعِ، وَهُوَ وِعَاءٌ لِلْكَيْلِ يُقَدَّرُ بِوَزْنِ رِطْلٍ وَرُبُعٍ أَوْ وَثُلُثٍ. وَكَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى السِّحْرِ وَأَحْوَالِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠٢].
وَإِقْحَامُ كَلِمَةِ قَوْمٌ هُنَا دُونَ أَنْ يَقُولُوا: بَلْ نَحْنُ مَسْحُورُونَ، لِأَنَّ ذِكْرَهَا يَقْتَضِي أَنَّ السِّحْرَ قَدْ تَمَكَّنَ مِنْهُمْ وَاسْتَوَى فِيهِ جَمِيعُهُمْ حَتَّى صَارَ مِنْ خَصَائِصِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ تَبْيِينُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤]. وتكرر ذَلِك.
[١٦- ١٨]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ١٦ إِلَى ١٨]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨)
لَمَّا جَرَى الْكَلَامُ السَّابِقُ فِي شَأْنِ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ بِرِسَالَةِ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا توركوا بِهِ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ الْأَصْلُ الْأَصِيلُ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ صَرْحَ التَّكْذِيبِ أَصْلَيْنِ هُمَا إِبْطَالُهُ إِلَهِيَّةَ أَصْنَامِهِمْ، وَإِثْبَاتُهُ الْبَعْثَ، انْبَرَى الْقُرْآنُ يُبَيِّنُ لَهُمْ دَلَائِلَ تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، فَذَكَرَ
الدَّلَائِلَ الْوَاضِحَةَ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ أَعْقَبَهَا بِدَلَائِلَ إِمْكَانِ الْبَعْثِ مِنْ خَلْقِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَانْقِرَاضِ أُمَمٍ وَخَلَفَهَا بِأُخْرَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ [سُورَة الْحجر: ٢٣] الْآيَةَ. وَصَادَفَ ذَلِكَ مُنَاسِبَةَ ذِكْرِ فَتْحِ أَبْوَابِ السَّمَاءِ فِي تَصْوِيرِ غُلْوَائِهِمْ بِعِنَادِهِمْ، فَكَانَ الِانْتِقَالُ إِلَيْهِ تَخَلُّصًا بَدِيعًا.
وَفِيهِ ضَرْبٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مُكَابَرَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا الْحَقَّ لَكَانَ لَهُمْ فِي دَلَالَةِ مَا هُوَ مِنْهُمْ غُنْيَةٌ عَنْ تَطَلُّبِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ.
وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّذْكِيرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّ مَدْلُولَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ مَعْلُومٌ لَدَيْهِمْ.
وَفِيهِ أَنَّ ذُرِّيَّةَ نُوحٍ كَانُوا شِقَّيْنِ شِقٌّ بَارٌّ مُطِيعٌ، وَهُمُ الَّذِينَ حَمَلَهُمْ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ، وَشِقٌّ مُتَكَبِّرٌ كَافِرٌ وَهُوَ وَلَدُهُ الَّذِي غَرِقَ، فَكَانَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَثَلًا لِأَبِي فَرِيقَيْنِ، وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْفَرِيقِ الْبَارِّ، فَإِنِ اقْتَدَوْا بِهِ نَجَوْا وَإِنْ حَادُوا فَقَدْ نَزَعُوا إِلَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ فَيُوشِكُ أَنْ يَهْلَكُوا. وَهَذَا التَّمَاثُلُ هُوَ نُكْتَةُ اخْتِيَارِ ذِكْرِ نُوحٍ مِنْ بَيْنِ أَجْدَادِهِمُ الْآخَرِينَ مِثْلِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، لِفَوَاتِ هَذَا الْمَعْنَى فِي أُولَئِكَ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ اسْتِئْصَالُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَرَّتَيْنِ بِسَبَبِ إِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ
وَعُلُوِّهِمْ مَرَّتَيْنِ وَأَنَّ ذَلِكَ جَزَاءُ إِهْمَالِهِمْ وَعْدَ اللَّهِ نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَمَا نَجَّاهُ.
وَتَأْكِيدُ كَوْنِ نُوحٍ كانَ عَبْداً شَكُوراً بِحَرْفِ (إِنَّ) تَنْزِيلٌ لَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَجْهَلُ ذَلِكَ إِمَّا لِتَوْثِيقِ حَمْلِهِمْ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ إِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ خِطَابًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ تَمَامِ الْجُمْلَةِ التَّفْسِيرِيَّةِ، وَإِمَّا لِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ جَهِلَ ذَلِكَ حَتَّى تَوَرَّطُوا فِي الْفَسَادِ فَاسْتَأْهَلُوا الِاسْتِئْصَالَ وَذَهَابَ مُلْكِهِمْ، لِيَنْتَقِلَ مِنْهُ إِلَى التَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُقْتَدِينَ بِنُوحٍ لِأَنَّ مَثَلَهُمْ وَمَثَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَاحِدٌ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، فَيَكُونُ التَّأْكِيدُ مَنْظُورًا فِيهِ إِلَى الْمَعْنَى التَّعْرِيضِيِّ.
وَمَعْنَى كَوْنِ نُوحٍ عَبْداً أَنَّهُ مُعْتَرِفٌ لِلَّهِ بِالْعُبُودِيَّةِ غَيْرُ مُتَكَبِّرٍ بِالْإِشْرَاكِ، وَكَوْنُهُ شَكُوراً، أَيْ شَدِيدًا لِشُكْرِ اللَّهِ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ حَمْدَ اللَّهِ.
وَالِاقْتِدَاءُ بِصَالِحِ الْآبَاءِ مَجْبُولَةٌ عَلَيْهِ النُّفُوسُ وَمَحَلُّ تَنَافُسٍ عِنْدَ الْأُمَمِ بِحَيْثُ يُعَدُّ خِلَافُ ذَلِكَ كَمُثِيرٍ لِلشَّكِّ فِي صِحَّةِ الِانْتِسَابِ.
وَكَانَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَثَلًا فِي كَمَالِ النَّفْسِ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُ ذَلِكَ وَتَنْبَعِثُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ. قَالَ النَّابِغَةُ:
فَأَلْفَيْتَ الْأَمَانَةَ لَمْ تَخُنْهَا | كَذَلِكَ كَانَ نُوحٌ لَا يخون |
كَذَلِكَ خَيْمُهُمْ وَلِكُلِّ قَوْمٍ | إِذَا مَسَّتْهُمُ الضَّرَّاءُ خَيْمُ |
وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ صِفَةٌ لِمَفْعُولٍ مُطْلَقٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ يُوحِي أَيْ إِيحَاءً كَذَلِكَ الْإِيحَاءِ الْعَجِيبِ. وَالْعُدُولُ عَنْ صِيغَةِ الْمَاضِي إِلَى صِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يُوحِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ إِيحَاءَهُ إِلَيْهِ مُتَجَدِّدٌ لَا يَنْقَطِعُ فِي مُدَّةِ حَيَاتِهِ الشَّرِيفَةِ لِيَيْأَسَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ إِقْلَاعِهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: ٥٢] وَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الشورى: ٧] إِذْ لَا غَرَضَ فِي إِفَادَةِ مَعْنَى التَّجَدُّدِ هُنَاكَ. وَأَمَّا مُرَاعَاةُ التَّجَدُّدِ هُنَا
وَجِيءَ فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ بِفِعْلٍ قالُوا لِإِيجَازِ الْمَقُولِ وَغِنْيَتِهِ عَنْ أَنْ يُقَالَ: اعْتَرَفُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَأَطَاعُوهُ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ وَاعْتَقَدُوا مَعْنَاهُ إِذِ الشَّأْنُ فِي الْكَلَامِ الصِّدْقُ وَعَمِلُوا بِهِ لِأَنَّ الشَّأْنَ مُطَابَقَةُ الْعَمَلِ لِلِاعْتِقَادِ.
ثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ: وَهُوَ الِارْتِقَاءُ وَالتَّدَرُّجُ، فَإِنَّ مُرَاعَاةَ الِاسْتِقَامَةِ أَشَقُّ مِنْ حُصُولِ الْإِيمَانِ لِاحْتِيَاجِهَا إِلَى تَكَرُّرِ مُرَاقَبَةِ النَّفْسِ، فَأَمَّا الْإِيمَانُ فَالنَّظَرُ يَقْتَضِيهِ وَاعْتِقَادُهُ يَحْصُلُ دَفْعَةً لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ مُلَاحَظَةٍ. فَهَذَا وَجْهُ التَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ مِنْ جِهَةٍ، وَإِنْ كَانَ الْإِيمَانُ أَرْقَى دَرَجَةً مِنَ الْعَمَلِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ شَرْطٌ فِي الِاعْتِدَادِ بِالْعَمَلِ وَلِذَلِكَ عَطَفَ بِ ثُمَّ الَّتِي لِلتَّرَاخِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: ١٢- ١٧]، فَالِاعْتِبَارَانِ مُخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ الْمَقَامِ الْمَسُوقِ فِيهِ الْكَلَامُ كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ هُنَا وَهُنَاكَ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ.
وَدُخُولُ الْفَاءِ عَلَى خَبَرِ الْمَوْصُولِ وَهُوَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ لِمُعَامَلَةِ الْمَوْصُولِ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، فَأَفَادَ تَسَبُّبُ ذَلِكَ فِي أَمْنِهِمْ مِنَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ. وعَلَيْهِمْ خَبَرٌ عَنْ خَوْفٍ، أَيْ لَا خَوْفٌ يَتَمَكَّنُ مِنْهُمْ وَيُصِيبُهُمْ وَيَلْحَقُهُمْ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لِتَخْصِيصِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْخَبَرِ نَحْوِ: مَا أَنَا قُلْتُ هَذَا، أَيْ أَنَّ الْحُزْنَ مُنْتَفٍ عَنْهُمْ لَا عَنْ غَيْرِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْغَيْرِ: مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِالْإِيمَانِ وَالِاسْتِقَامَةِ فِي مَرَاتِبِ الْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ، فَجِنْسُ الْخَوْفِ ثَابِتٌ لِمَنْ عَدَاهُمْ عَلَى مَرَاتِبِ تَوَقُّعِ الْعِقَابِ حَتَّى فِي حَالَةِ الْوَجَلِ مِنْ عَدَمِ قَبُولِ الشَّفَاعَةِ فِيهِمْ وَمِنْ تَوَقُّعِ حِرْمَانِهِمْ مِنْ نَفَحَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَاسْتِحْضَارُهُمْ بِطَرِيقِ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا يَرِدُ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِمَا بَعْدَ الْإِشَارَةِ لِأَجْلِ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ
مِنْ خَلْقِ الْخَلَائِقِ، لَكِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْحِكْمَةَ مِنْ خَلْقِهِمْ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ أَنْ يَعْبُدُوهُ، لِأَنَّ حِكَمَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَفْعَالِهِ كَثِيرَةٌ لَا نُحِيطُ بِهَا، وَذِكْرُ بَعْضِهَا كَمَا هُنَا لما يَقْتَضِي عَدَمَ وُجُودِ حِكْمَةٍ أُخْرَى، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ حِكَمًا لَلْخَلْقِ غَيْرَ هَذِهِ كَقَوْلِهِ: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ [هود: ١١٨، ١١٩] بَلْهَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ حِكْمَةِ خَلْقِ بَعْضِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ كَقَوْلِهِ فِي خَلْقِ عِيسَى وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا [مَرْيَم: ٢١].
ثُمَّ إِنَّ اعْتِرَافَ الْخَلْقِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ يَقْشَعُ تَكْذِيبَهُمْ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ مَا كَذَّبُوهُ إِلَّا لِأَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى نَبْذِ الشِّرْكِ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا يَسَعُ أَحَدًا نَبْذُهُ، فَإِذَا انْقَشَعَ تَكْذِيبُهُمُ اسْتَتْبَعَ انْقِشَاعَهُ امْتِثَالُ الشَّرَائِعِ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا آمَنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ أَطَاعُوا مَا بَلَّغَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ، فَهَذَا مَعْنًى تَقْتَضِيهِ عِبَادَةُ اللَّهِ بِدِلَالَةِ الِالْتِزَامِ، وَذَلِكَ هُوَ مَا سُمِّيَ بِالْعِبَادَةِ بِالْإِطْلَاقِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِي السُّنَّةِ فِي نَحْوِ
قَوْلِهِ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ»
وَلَيْسَ يَلِيقُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ لَا يَطَّرِدُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِخَلْقِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ التَّكَالِيفَ الشَّرْعِيَّةَ تَظْهَرُ فِي بَعْضِ الْأُمَمِ وَفِي بَعْضِ الْعُصُورِ وَتَتَخَلَّفُ فِي عُصُورِ الْفَتَرَاتِ بَيْنَ الرُّسُلِ إِلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ، وَأَحْسَبُ أَنَّ إِطْلَاقَ الْعِبَادَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى اصْطِلَاحٌ شَرْعِيٌّ وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بِهِ الْقُرْآنُ لَكِنَّهُ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ كَثِيرًا وَأَصْبَحَ مُتَعَارَفًا بَيْنَ الْأُمَّةِ مِنْ عَهِدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ.
وَأَنَّ تَكَالِيفَ اللَّهِ لِلْعِبَادِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ مَا أَرَادَ بِهَا إِلَّا صَلَاحَهُمُ الْعَاجِلَ وَالْآجِلَ وَحُصُولَ الْكَمَال النفساني بذلك الصَّلَاحِ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ مِنَ الشَّرَائِعِ كَمَالَ الْإِنْسَانِ وَضَبْطَ نِظَامِهِ الِاجْتِمَاعِيِّ فِي مُخْتَلِفِ عُصُورِهِ. وَتِلْكَ حِكْمَةُ إِنْشَائِهِ، فَاسْتَتْبَعَ قَوْلَهُ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أَنَّهُ مَا خَلَقَهُمْ إِلَّا لِيَنْتَظِمَ أَمْرُهُمْ بِوُقُوفِهِمْ عِنْدَ حُدُودِ التَّكَالِيفِ التَّشْرِيعِيَّةِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، فَعِبَادَةُ الْإِنْسَانِ رَبَّهُ لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا مُحَقِّقَةً لِلْمَقْصِدِ مِنْ خَلْقِهِ وَعِلَّةً لِحُصُولِهِ عَادَةً.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ بِمَعْنَى: إِلَّا لِآمُرَهُمْ وَأَنْهَاهُمْ. وَتَبِعَ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ هَذَا التَّأْوِيلَ فِي النَّوْعِ الرَّابِعِ مِنْ كِتَابِ الْمَقَاصِدِ مِنْ كِتَابِهِ عُنْوَانِ التَّعْرِيفِ «الْمُوَافَقَاتِ» وَفِي مَحْمِلِ الْآيَةِ عَلَيْهِ نَظَرٌ قَدْ عَلِمْتَهُ فَحَقِّقْهُ.
ثَقِيفٍ) وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ (السُّلَمِيِّ حَلِيفِ بَنِي أَسَدٍ) كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَى أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا نَقُولُ؟ فَقَالَ الْآخَرُ: يَعْلَمُ بَعْضًا وَلَا يَعْلَمُ بَعْضًا. وَقَالَ الثَّالِثُ: إِنْ كَانَ يَعْلَمُ بَعْضًا فَهُوَ يَعْلَمُ كُلَّهُ. اهـ. وَلَمْ أَرَ هَذَا فِي غَيْرِ «الْكَشَّافِ» وَلَا مُنَاسَبَةَ لِهَذَا بِالْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ فَإِنَّ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةَ كَانُوا مُسْلِمِينَ وَعُدُّوا فِي الصَّحَابَةِ وَكَأَنَّ هَذَا تَخْلِيطٌ مِنَ الرَّاوِي بَيْنَ سَبَبِ نُزُولِ آيَةِ وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [٢٢]. كَمَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَبَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ. وَرُكِّبَتْ أَسْمَاءُ ثَلَاثَةٍ آخَرِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ لِأَنَّ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ فآية النَّجْوَى إِنَّمَا هِيَ فِي تَنَاجِي الْمُنَافِقِينَ أَوْ فِيهِمْ وَفِي الْيَهُودِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ مُفَرَّعٌ مِنْ
أَكْوَانٍ وَأَحْوَالٍ دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا يَكُونُ وَالْجُمَلُ الَّتِي بعد حرف الِاسْتِثْنَاء فِي مَوَاضِعِ أَحْوَالٍ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا يكون من نَجْوَى ثَلَاثَةٍ فِي حَالٍ مِنْ عِلْمِ غَيْرِهِمْ بِهِمْ وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِمْ إِلَّا حَالَةٌ اللَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِمْ.
وَتَكْرِيرُ حَرْفِ النَّفْيِ فِي الْمَعْطُوفَاتِ عَلَى الْمَنْفِيِّ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ وَخَاصَّةً حَيْثُ كَانَ مَعَ كُلٍّ مِنَ الْمَعَاطِيفِ اسْتِثْنَاءٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلا أَكْثَرَ بِنَصْبِ أَكْثَرَ عَطْفًا عَلَى لَفْظِ نَجْوى. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ نَجْوى لِأَنَّهُ مَجْرُورٌ بِحَرْفِ جَرٍّ زَائِدٍ.
وأَيْنَ مَا مُرَكَّبٌ مِنْ (أَيْنَ) الَّتِي هِيَ ظَرْفُ مَكَانٍ وَ (مَا) الزَّائِدَةُ. وَأُضِيفَ (أَيْنَ) إِلَى جُمْلَةِ كانُوا، أَيْ فِي أَيِّ مَكَانٍ كَانُوا فِيهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ [٤].
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ لِأَنَّ إِنْبَاءَهُمْ بِمَا تَكَلَّمُوا وَمَا عَمِلُوهُ فِي الدُّنْيَا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَدَلُّ عَلَى سِعَةِ عِلْمِ اللَّهِ مِنْ عِلْمِهِ بِحَدِيثِهِمْ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ مُعْظَمَ عِلْمِ الْعَالَمِينَ يَعْتَرِيهِ النِّسْيَانُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ مِنَ الطُّولِ وَكَثْرَةِ تَدْبِيرِ الْأُمُورِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَفِي هَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ بِأَنَّ نَجْوَاهُمْ إِثْمٌ عَظِيمٌ فَنُهِيَ عَنْهُ وَيَشْمَلُ هَذَا تَحْذِيرَ مَنْ يُشَارِكُهُمْ.
وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ لِتَشْبِيهِهِمْ تَمَحُّضَهُمْ لِلضَّلَالِ بِإِحَاطَةِ الظّرْف بالمظروف.
[١٠]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ١٠]
وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠)
أُعِيدَ فِعْلُ الْقَوْلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ هَذَا كَلَامٌ آخَرُ غَيْرَ الَّذِي وَقع جَوَابا عَن سُؤَالِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ وَإِنَّمَا هَذَا قَوْلٌ قَالُوهُ فِي مَجَامِعِهِمْ فِي النَّارِ تَحَسُّرًا وَتَنَدُّمًا، أَيْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فِي النَّارِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا [الْأَعْرَاف: ٣٨] إِلَخْ. لِتَأْكِيدِ الْإِخْبَارِ عَلَى حَسَبِ الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي مَوْقِعِ جُمْلَةِ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [الْملك: ٩].
وَذَكَرُوا مَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُمْ يُرِيدُونَ سَمْعًا خَاصًّا وَعَقْلًا خَاصًّا، فَانْتِفَاءُ السَّمْعِ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ تَلَقِّي دَعْوَةِ الرُّسُلِ مِثْلُ مَا حَكَى اللَّهُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ [فصلت: ٢٦] وَانْتِفَاءُ الْعَقْلِ بِتَرْكِ التَّدَبُّرِ فِي آيَاتِ الرُّسُلِ وَدَلَائِلِ صِدْقِهِمْ فِيمَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ.
وَلَا شكّ فِي أَنَّ أَقَلَّ النَّاسِ عَقْلًا الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمْ طَرَحُوا مَا هُوَ سَبَبُ نَجَاتِهِمْ لِغَيْرِ مُعَارِضٍ يُعَارِضُهُ فِي دِينِهِمْ، إِذْ لَيْسَ فِي دِينِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَعِيدٌ عَلَى مَا يُخَالِفُ الشِّرْكَ مِنْ مُعْتَقَدَاتٍ، وَلَا عَلَى مَا يُخَالِفُ أَعْمَالَ أَهْلِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَكَانَ حُكْمُ الْعَقْلِ قَاضِيًا بِأَنْ يَتَلَقَّوْا مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ من الْإِنْذَار بالامتثال إِذْ لَا مُعَارِضَ لَهُ فِي دِينِهِمْ لَوْلَا الْإِلْفُ
وَالتَّكَبُّرُ بِخِلَافِ حَالِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى دِينٍ فَهُمْ يَخْشَوْنَ إِنْ أَهْمَلُوهُ أَنْ لَا يُغْنِيَ عَنْهُمُ الدِّينُ الْجَدِيدُ شَيْئًا فَكَانُوا إِلَى الْمَعْذِرَةِ أَقْرَبُ لَوْلَا أَنَّ الْأَدِلَّةَ بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ.
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا مِنْ [سُورَةِ الطُّورِ: ٣٢]
عَنْ كِتَابِ الْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ أَخْرَجَ حَدِيثًا «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَعْقَلَ فُلَانًا النَّصْرَانِيَّ، فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْ، إِنَّ الْكَافِرَ لَا عَقْلَ لَهُ أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ
قَالَ
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَزَجَرَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «مَهْ إِنَّ الْعَاقِلَ مَنْ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ»
وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فِيمَا رَأَيْتُ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ السُّيُوطِيُّ فِي التَّفْسِيرِ بِالْمَأْثُورِ فِي سُورَةِ الطُّورِ وَلَا فِي سُورَةِ الْمُلْكِ.
وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ [ق: ٩] الْآيَةَ. ثُمَّ أُتْبِعَ ثَانِيًا بِالِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ الْخُرُوجُ [ق: ١١]. وَالْبَعْثُ خُرُوجٌ مِنَ الْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى فِي سُورَةِ طه [٥٥].
وَالْحَبُّ: اسْمُ جَمْعِ حَبَّةٍ وَهِيَ الْبَرْزَةُ. وَالْمُرَادُ بِالْحَبِّ هُنَا: الْحَبُّ الْمُقْتَاتُ لِلنَّاسِ مِثْلَ: الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالسُّلْتِ، وَالذُّرَةِ، وَالْأُرْزِ، وَالْقُطْنِيَّةِ، وَهِيَ الْحُبُوبُ الَّتِي هِيَ ثَمَرَةُ السَّنَابِلِ وَنَحْوِهَا.
وَالنَّبَاتُ أَصْلُهُ اسْمُ مَصْدَرِ نَبَتَ الزَّرْعُ، قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] وَأُطْلِقَ النَّبَات على النَّبَاتُ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْفَاعِلِ وَأَصْلُهُ الْمُبَالَغَةُ ثُمَّ شَاعَ اسْتِعْمَالُهُ فَنُسِيَتِ الْمُبَالَغَةُ.
وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: النَّبَاتُ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ حُبُّهُ بَلِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِذَاتِهِ وَهُوَ مَا تَأْكُلُهُ الْأَنْعَامُ وَالدَّوَابُّ مِثْلَ التِّبْنِ وَالْقُرْطِ وَالْفِصْفِصَةِ وَالْحَشِيشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَجُعِلَتِ الْجَنَّاتُ مَفْعُولا ل (تخرج) عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ نَخْلَ جَنَّاتٍ أَوْ شَجَرَ جَنَّاتٍ، لِأَنَّ الْجَنَّاتِ جَمْعُ جنَّة وَهِي الْقطعَة مِنَ الْأَرْضِ الْمَغْرُوسَةِ نَخْلًا، أَوْ نَخْلًا وَكَرْمًا، أَوْ بِجَمِيعِ الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ مِثْلَ التِّينِ وَالرُّمَّانِ كَمَا جَاءَ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَهِيَ اسْتِعْمَالَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ الْمَنَابِتِ.
وَوَجْهُ إِيثَارِ لَفْظِ جَنَّاتٍ أَنَّ فِيهِ إِيمَاءً إِلَى إِتْمَامِ الْمِنَّةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُحِبُّونَ الْجَنَّاتِ وَالْحَدَائِقَ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّنَعُّمِ بِالظِّلَالِ وَالثِّمَارِ وَالْمِيَاهِ وَجَمَالِ الْمَنْظَرِ، وَلِذَلِكَ أُتْبِعَتْ بِوَصْفِ أَلْفافاً لِأَنَّهُ يَزِيدُهَا حُسْنًا، وَإِنْ كَانَ الْفَلَّاحُونَ عِنْدَنَا يُفَضِّلُونَ التَّبَاعُدَ بَيْنَ الْأَشْجَارِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْفَرُ لِكَمِّيَّةِ الثِّمَارِ لِأَنَّ تَبَاعُدَهَا أَسْعَدُ لَهَا بِتَخَلُّلِ الْهَوَاءِ وَشُعَاعِ الشَّمْسِ، لَكِنَّ مَسَاقَ الْآيَةِ هُنَا الِامْتِنَانُ بِمَا فِيهِ نَعِيمُ النَّاسِ.
وَأَلْفَافٌ: اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ وَهُوَ مِثْلُ أَوْزَاعٍ وَأَخْيَافٍ، أَيْ كُلُّ جَنَّةٍ مُلْتَفَّةٌ، أَيْ مُلْتَفَّةُ الشَّجَرِ بَعْضِهِ بِبَعْض.
فوصف الجنات بِأَلْفَافٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّ الِالْتِفَافَ فِي أَشْجَارِهَا وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الْأَشْجَارُ لَا يَلْتَفُّ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْغَالِبِ إِلَّا إِذَا جَمَعَتْهَا جَنَّةٌ
الصفحة التالية