وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ.
و (يمد) فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَدَدِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ، يُقَالُ مَدَّهُ إِذَا زَادَهُ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي
الِاشْتِقَاقِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْهَمْزَةِ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ، وَدَلِيلُهُ أَنَّهُمْ ضَمُّوا الْعَيْنَ فِي الْمُضَارِعِ عَلَى قِيَاسِ الْمُضَاعَفِ الْمُتَعَدِّي، وَقَدْ يَقُولُونَ أَمَدَّهُ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ عَلَى تَقْدِيرِ جَعَلَهُ ذَا مَدَدٍ ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ مَدَّ فِي الزِّيَادَةِ فِي ذَاتِ الْمَفْعُولِ نَحْوُ مَدَّ لَهُ فِي عُمُرِهِ وَمَدَّ الْأَرْضَ أَيْ مَطَّطَهَا وَأَطَالَهَا، وَغَلَبَ اسْتِعْمَالُ أَمَدَّ الْمَهْمُوزِ فِي الزِّيَادَةِ لِلْمَفْعُولِ مِنْ أَشْيَاءَ يَحْتَاجُهَا نَحْوُ أَمَدَّهُ بِجَيْشٍ: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ [الشُّعَرَاء: ١٣٣]. وَإِنَّمَا اسْتُعْمِلَ هَذَا فِي مَوْضِعِ الْآخَرِ عَلَى الْأَصْلِ فَلِذَلِكَ قِيلَ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْتِعْمَالِ وَقِيلَ يَخْتَصُّ أَمَدَّ الْمَهْمُوزُ بِالْخَيرِ نَحْو: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ [النَّمْل: ٣٦] أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٥]، وَيَخْتَصُّ مَدَّ بِغَيْرِ الْخَيْرِ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ فِي كِتَابِ «الْحُجَّةِ»، وَنَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ حَبِيبٍ، إِلَّا الْمُعَدَّى بِاللَّامِ فَإِنَّهُ خَاصٌّ بِالزِّيَادَةِ فِي الْعُمُرِ وَالْإِمْهَالِ فِيهِ عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِ خِلَافًا لِبَعْضِ اللُّغَوِيِّينَ فَاسْتَغْنَوْا بِذِكْرِ اللَّامِ الْمُؤْذِنَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ لِلنَّفْعِ وَلِلْأَجَلِ (بِسُكُونِ الْجِيمِ) عَنِ التَّفْرِقَةِ بِالْهَمْزِ رُجُوعًا لِلْأَصْلِ لِئَلَّا يَجْمَعُوا بَيْنَ مَا يَقْتَضِي التَّعْدِيَةَ وَهُوَ الْهَمْزَةُ وَبَيْنَ مَا يَقْتَضِي الْقُصُورَ وَهُوَ لَامُ الْجَرِّ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ تَأْثِيرِ الْأَمْثِلَةِ عَلَى النَّاظِرِينَ وَهِيَ طَرِيقَةٌ لَهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي يَتَفَرَّعُ مَعْنَاهَا الْوَضْعِيُّ إِلَى مَعَانٍ جُزْئِيَّةٍ لَهُ أَوْ مُقَيَّدَةٍ أَوْ مَجَازِيَّةٍ أَنْ يَخُصُّوا بَعْضَ لُغَاتِهِ أَوْ بَعْضَ أَحْوَالِهِ بِبَعْضِ تِلْكَ الْمَعَانِي جَرْيًا وَرَاءَ التَّنْصِيصِ فِي الْكَلَامِ وَدَفْعِ اللَّبْسِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَهَذَا مِنْ دَقَائِقِ اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَلَا يُقَالُ إِنَّ دَعْوَى اخْتِصَاصِ بَعْضِ الِاسْتِعْمَالَاتِ بِبَعْضِ الْمَعَانِي هِيَ دَعْوَى اشْتِرَاكٍ أَوْ دَعْوَى مَجَازٍ وَكِلَاهُمَا خِلَافُ الْأَصْلِ كَمَا أَوْرَدَ عَبْدُ الْحَكِيمِ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّخْصِيصَ كَمَا عَلِمْتَ اصْطِلَاحٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ لَا تَعَدُّدُ وَضْعٍ وَلَا اسْتِعْمَالٌ فِي غَيْرِ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعِ لَهُ وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فَرَقَ وَفَرَّقَ وَوَعَدَ وَأَوْعَدَ وَنَشَدَ وَأَنْشَدَ وَنَزَّلَ (الْمُضَاعَفُ) وَأَنْزَلَ، وَقَوْلُهُمِ الْعِثَارُ مَصْدَرُ عَثَرَ إِذْ أُرِيدَ بِالْفِعْلِ الْحَقِيقَةُ، وَالْعُثُورُ مَصْدَرُ عَثَرَ إِذْ أُرِيدَ بِالْفِعْلِ الْمَجَازُ وَهُوَ الِاطِّلَاعُ، وَقَدْ فَرَّقَتِ الْعَرَبُ فِي مَصَادِرِ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ وَفِي جُمُوعِ الِاسْمِ الْوَاحِدِ لِاخْتِلَافِ الْقُيُودِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَذْفُ الْفَاعِلِ لِدِقَّتِهِ، إِذِ الْمُزَيِّنُ لَهُمُ الدُّنْيَا أَمْرٌ خَفِيٌّ فَيَحْتَاجُ فِي تَفْصِيلِهِ إِلَى شَرْحٍ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَهُوَ مَا اكْتَسَبَتْهُ نُفُوسُهُمْ مِنَ التَّعَلُّقِ بِاللَّذَّاتِ وَبِغَيْرِهَا مِنْ كُلِّ مَا حَمَلَهُمْ عَلَى التَّعَلُّقِ بِهِ التَّنَافُسُ أَوِ التَّقْلِيدُ حَتَّى عَمُوا عَمَّا فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَضْرَارِ الْمُخَالِطَةِ لِلَّذَّاتِ أَوْ مِنَ الْأَضْرَارِ الْمُخْتَصَّةِ الْمُغَشَّاةِ بِتَحْسِينِ الْعَادَاتِ الذَّمِيمَةِ، وَحَمَلَهُمْ عَلَى الدَّوَامِ عَلَيْهِ ضَعْفُ الْعَزَائِمِ النَّاشِئُ عَنِ اعْتِيَادِ الِاسْتِرْسَالِ فِي جَلْبِ الْمُلَائِمَاتِ دُونَ كَبْحٍ لِأَزِمَّةِ الشَّهَوَاتِ، وَلِأَجْلِ اخْتِصَاصِهِمْ بِهَذِهِ الْحَالَةِ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَدُونَ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ رَبَّتِ الْأَدْيَانُ فِيهِمْ عَزِيمَةَ مُقَاوَمَةِ دَعْوَةِ النُّفُوسِ الذَّمِيمَةِ بِتَعْرِيفِهِمْ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ تِلْكَ اللَّذَّاتُ مِنَ الْمَذَمَّاتِ وَبِأَمْرِهِمْ بِالْإِقْلَاعِ عَنْ كُلِّ مَا فِيهِ ضُرٌّ عَاجِلٌ أَوْ آجِلٌ حَتَّى يُجَرِّدُوهَا عَنْهَا إِنْ أَرَادُوا تَنَاوُلَهَا وَيَنْبِذُوا مَا هُوَ ذَمِيمَةٌ مَحْضَةٌ، وَرَاضَتْهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِالْبَشَائِرِ وَالزَّوَاجِرِ حَتَّى صَارَتْ لَهُمْ مَلَكَةٌ، فَلِذَلِكَ لَمْ تُزَيَّنِ الدُّنْيَا لَهُمْ، لِأَنَّ زِينَتَهَا عِنْدَهُمْ ومعرضة لِلْحُكْمِ عَلَيْهَا بِالْإِثْبَاتِ تَارَةً وَبِالنَّفْيِ أُخْرَى، فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ مَا فِي الْأَمْرِ الزَّيْنِ ظَاهِرُهُ مِنِ الْإِضْرَارِ وَالْقَبَائِحِ انْقَلَبَ زَيْنُهُ عِنْدَهُ شَيْنًا، خُصَّ التَّزْيِينُ بِهِمْ، إِذِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ذَمُّهُمْ وَالتَّحْذِيرُ مِنْ خُلُقِهِمْ، وَلِهَذَا لَزِمَ حَمْلُ التَّزْيِينِ عَلَى تَزْيِينٍ يُعَدُّ ذَمًّا، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ تَزْيِينًا مَشُوبًا بِمَا يَجْعَلُ تِلْكَ الزِّينَةَ مَذَمَّةً، وَإِلَّا فَإِنَّ أَصْلَ تَزْيِينِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْمُقْتَضِي لِلرَّغْبَةِ فِيمَا هُوَ زَيْنٌ أَمْرٌ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ إِذَا رُوعِيَ فِيهِ مَا أَوْصَى اللَّهُ بِرَعْيِهِ قَالَ تَعَالَى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الْأَعْرَاف: ٣٢].
وَقَدِ اسْتَقْرَيْتُ مَوَاقِعَ التَّزْيِينِ الْمَذْمُومِ فَحَصَرْتُهَا فِي ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: الْأَوَّلُ مَا لَيْسَ بِزَيْنٍ أَصْلًا لَا ذَاتًا وَلَا صِفَةً، لِأَنَّ جَمِيعَهُ ذَمٌّ وَأَذًى وَلَكِنَّهُ زُيِّنَ لِلنَّاسِ بِأَوْهَامٍ وَخَوَاطِرَ شَيْطَانِيَّةٍ
وَتَخْيِيلَاتٍ شِعْرِيَّةٍ كَالْخَمْرِ. الثَّانِي مَا هُوَ زَيْنٌ حَقِيقَةً لَكِنْ لَهُ عَوَاقِبُ تَجْعَلُهُ ضُرًّا وَأَذًى كَالزِّنَا. الثَّالِثُ مَا هُوَ زَيْنٌ لَكِنَّهُ يَحِفُّ بِهِ مَا يُصَيِّرُهُ ذَمِيمًا كَنَجْدَةِ الظَّالِمِ وَقَدْ حَضَرَ لِي التَّمْثِيلُ لِثَلَاثَتِهَا بِقَوْلِ طَرَفَةَ:
وَلَوْلَا ثَلَاثٌ هُنَّ مِنْ عِيشَةِ الْفَتَى | وَجَدِّكَ لَمْ أَحْفِلْ مَتَى قَامَ عُوَّدِي |
فَمِنْهُنَّ سَبْقِي الْعَاذِلَاتِ بِشَرْبَةٍ | كُمَيْتٍ مَتَى مَا تُعْلَ بِالْمَاءِ تُزْبِدِ |
وَتَقْصِيرُ يَوْمِ الدَّجْنِ وَالدَّجْنُ مُعْجِبٌ | بِبَهْكَنَةٍ تَحْتَ الْخِبَاءِ الْمُعَمَّدِ ٢ |
وَكَرِّي إِذَا نَادَى الْمُضَافُ مُجَنَّبًا | كَسِيِدِ الْغَضَا نَبَّهْتَهُ الْمُتَوَرِّدِِِ |
فَذَرْنِي وَخُلْقِي إِنَّنِي لَكَ شَاكِرٌ | وَلَوْ حَلَّ بَيْتِي نَائِيًا عِنْدَ ضَرْغَدِ |
وَالدِّينُ فِي قَوْلِهِ: اتَّخَذُوا دِينَهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمِلَّةَ، أَيْ مَا يَتَدَيَّنُونَ بِهِ وَيَنْتَحِلُونَهُ وَيَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَى اللَّهِ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
مَجَلَّتُهُمْ ذَاتُ الْإِلَهِ وَدِينُهُمْ | قَوِيمٌ فَمَا يَرْجُونَ غَيْرَ الْعَوَاقِبِ |
وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلِ اتَّخَذُوا اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ دِينًا لِمَكَانِ قَوْلِهِ: اتَّخَذُوا فَإِنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا كُلَّ مَا هُوَ مِنَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ دِينًا لَهُمْ بَلْ عَمَدُوا إِلَى أَنْ يَنْتَحِلُوا دِينًا فَجَمَعُوا لَهُ أَشْيَاءَ مِنَ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ وَسَمَّوْهَا دِينًا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الدَّيْنِ الْعَادَةَ، كَقَوْلِ الْمُثَقَّبِ الْعَبْدِيِّ:
تَقُولُ وَقَدْ درأت لَهَا وظيني | أَهَذَا دِينُهُ أَبَدًا وَدِينِي |
فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ كَمَا فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
رَمَى اللَّهُ فِي تِلْكَ الْأَكُفِّ الْكَوَانِعِ أَيْ أَصَابَهَا بِمَا يَشَلُّهَا- وَقَوْلِ جَمِيلٍ:
رَمَى اللَّهُ فِي عَيْنَيْ بُثَيْنَةَ بِالْقَذَى | وَفِي الْغُرِّ من أنيابها بالقوازح |
وَقَوْلُهُ: إِذْ رَمَيْتَ زِيَادَةُ تَقْيِيدٍ لِلرَّمْيِ وَأَنَّهُ الرَّمْيُ الْمَعْرُوفُ الْمَشْهُورُ، وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْخَبَرِ وَلَمْ يُؤْتَ بِمِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَمَّا كَانَتْ لَهُ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ كَانَ اخْتِصَاصُ سُيُوفِ الْمُسْلِمِينَ بِتَأْثِيرِهِ غَيْرَ مُشَاهَدٍ، وَكَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَوْتَ قَدْ يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ فَاعِلٍ غَيْرِ اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ نَفْيُ ذَلِكَ التَّأْثِيرِ، وَإِسْنَادُ حُصُولِهِ إِلَى مُجَرَّدِ فِعْلِ اللَّهِ مُحْتَاجًا إِلَى التَّأْكِيدِ بِخِلَافِ كَوْنِ رَمْيِ الْحَصَى الْحَاصِلِ بِيَدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاصِلًا مِنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ لَا يَقْبَلُ الِاحْتِمَالَ، فَاحْتِيجَ فِي نَفْيِهِ إِلَى التَّأْكِيدِ إِبْطَالًا لِاحْتِمَالِ
الْمَجَازِ فِي النَّفْيِ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى نَفْيِ رَمْيٍ كَامِلٍ، فَإِنَّ الْعَرَبَ قَدْ يَنْفُونَ الْفِعْلَ وَمُرَادُهُمْ نَفْيُ كَمَالِهِ حَتَّى قَدْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الشَّيْءِ وَإِثْبَاتِهِ أَوْ نَفْيِ ضِدِّهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، كَقَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ:
فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ أَيْ شَيْئًا مُجْدِيًا، فَدَلَّ قَوْلُهُ: إِذْ رَمَيْتَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ فِي قَوْلِهِ: وَما رَمَيْتَ
وَالسَّبِيلُ: أَصْلُهُ الطَّرِيقُ وَيُطْلَقُ عَلَى وَسَائِلِ وَأَسْبَابِ الْمُؤَاخَذَةِ بِاللَّوْمِ وَالْعِقَابِ لِأَنَّ تِلْكَ الْوَسَائِلَ تُشْبِهُ الطَّرِيقَ الَّذِي يَصِلُ مِنْهُ طَالِبُ الْحَقِّ إِلَى مَكَانِ الْمَحْقُوقِ، وَلِمُرَاعَاةِ هَذَا الْإِطْلَاقِ جُعِلَ حَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ فِي الْخَبَرِ عَنِ السَّبِيلِ دُونَ حَرْفِ الْغَايَةِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا [النِّسَاء: ٣٤] وَقَوْلُهُ: فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا كِلَاهُمَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٩٠]. فَدَخَلَ فِي الْمُحْسِنِينَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَصَحُوا لِلَّهِ
وَرَسُولِهِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ وَضْعِ الْمُظْهَرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِأَنَّ هَذَا مَرْمًى آخَرُ هُوَ أَسْمَى وَأَبْعَدُ غَايَةً.
ومِنْ مُؤَكِّدَةٌ لِشُمُولِ النَّفْيِ لِكُلِّ سَبِيلٍ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَذْيِيلٌ وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، أَيْ شَدِيدُ الْمَغْفِرَةِ وَمِنْ مَغْفِرَتِهِ أَنْ لَمْ يُؤْاخَذْ أَهْلُ الْأَعْذَارِ بِالْقُعُودِ عَنِ الْجِهَادِ. شَدِيدُ الرَّحْمَةِ بِالنَّاسِ وَمِنْ رَحْمَتِهِ أَنْ لَمْ يُكَلِّفْ أَهْلَ الْإِعْذَارِ مَا يشق عَلَيْهِم.
[٩٢]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٩٢]
وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (٩٢)
عَطْفٌ عَلَى الضُّعَفاءِ والْمَرْضى [التَّوْبَة: ٩١] وَإِعَادَةُ حَرْفِ النَّفْيِ بَعْدَ الْعَاطِفِ لِلنُّكْتَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ هُنَالِكَ.
وَالْحَمْلُ يُطْلَقُ عَلَى إِعْطَاءِ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ، أَيْ إِذَا أَتَوْكَ لِتُعْطِيَهُمُ الْحَمُولَةَ، أَيْ مَا يَرْكَبُونَهُ وَيَحْمِلُونَ عَلَيْهِ سِلَاحَهُمْ وَمُؤَنَهُمْ مِنَ الْإِبِلِ.
وَجُمْلَةُ: قُلْتَ لَا أَجِدُ إِلَخْ إِمَّا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ فِي أَتَوْكَ وَإِمَّا بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ فِعْلِ أَتَوْكَ لِأَنَّ إِتْيَانَهُمْ لِأَجْلِ الْحَمْلِ يَشْتَمِلُ عَلَى إِجَابَةٍ، وَعَلَى مَنْعٍ.
وَجُمْلَةُ تَوَلَّوْا جَوَابُ إِذا وَالْمَجْمُوعُ صِلَةُ الَّذِينَ.
وَالتَّوَلِّي الرُّجُوعُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ [الْبَقَرَة: ١٤٢] وَقَوْلُهُ: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
الْكُفْرَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ. وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْعَقْلِ الْمُسْتَقِيمِ، أَيِ الَّذِينَ لَا تَهْتَدِي عُقُولُهُمْ إِلَى إِدْرَاكِ الْحَقِّ وَلَا يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ بِالنَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ.
وعَلَى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الْمُسْتَعْمَلِ فِي التَّمَكُّنِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَنَجْعَلُ بنُون العظمة.
[١٠١]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ١٠١]
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠١)
اسْتِئْنَاف ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ [يُونُس: ٩٩] إلَخْ. قَسَّمَ النَّاسَ إِلَى قِسْمَيْنِ: مُؤْمِنِينَ وَكَافِرِينَ، أَيْ فَادْعُهُمْ إِلَى النَّظَرِ فِي دَلَائِلَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى تَحْصِيلِ أَسْبَابِ الْإِيمَانِ وَدَفْعِ غِشَاوَاتِ الْكُفْرِ، وَذَلِكَ بِالْإِرْشَادِ إِلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِمَا هُوَ حَوْلَ الْإِنْسَانِ مِنْ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ وَتَصَارِيفِهَا الدَّالَّةِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، مِثْلِ أَجْرَامِ الْكَوَاكِبِ، وَتَقَادِيرِ مَسِيرِهَا، وَأَحْوَالِ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ وَالرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ وَالْمَطَرِ، وَكَذَلِكَ الْبِحَارُ وَالْجِبَالُ.
وَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِ قُلِ لِلِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِهَا. وَقَدْ عَمَّمَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِتَتَوَجَّهَ كُلُّ نَفْسٍ إِلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهَا وأيسر اسْتِدْلَال عَلَيْهِ لَدَيْهَا.
وَالنَّظَرُ: هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا يَصْلُحُ لِلنَّظَرِ الْقَلْبِيِّ وَالنَّظَرِ الْبَصَرِيِّ، وَلِذَلِكَ عُدِلَ عَنْ إِعْمَالِهِ عَمَلَ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ لِكَيْلَا يَتَمَحَّضَ لَهُ، فَجِيءَ بَعْدَهُ بِالِاسْتِفْهَامِ الْمُعَلِّقِ لِكِلَا الْفِعْلَيْنِ بِحَيْثُ أَصْبَحَ حَمْلُ النَّظَرِ عَلَى كِلَيْهِمَا عَلَى حَدِّ السَّوَاءِ فَصَارَ صَالِحًا لِلْمَعْنَيَيْنِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ، وَذَلِكَ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَأَنَّهُ ذكر ذَلِك للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَوَّبَهُ وَقَالَ لَهُ: «وَإِنْ عَادُوا لَكَ فَعُدْ»
. وَأَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ. وَشَذَّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَأَجْرَى عَلَى هَذَا التَّظَاهُرُ بِالْكُفْرِ
حُكْمَ الْكُفَّارِ فِي الظَّاهِرِ كَالْمُرْتَدِّ فَيُسْتَتَابُ عَنِ الْمُكْنَةِ مِنْهُ.
وَسَوَّى جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ أَقْوَالِ الْكُفْرِ وَأَفْعَالِهِ كَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى أَفْعَالِ الْكُفْرِ لَا يُبِيحُهَا. وَنُسِبَ إِلَى الْأَوْزَاعِيِّ وَسَحْنُونَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَهِيَ تَفْرِقَةٌ غَيْرُ وَاضِحَةٍ. وَقَدْ نَاطَ اللَّهُ الرُّخْصَةَ بِاطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ وَغفر مَا سوّل الْقَلْبِ.
وَإِذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ مُوجِبَ الرُّخْصَةِ فِي إِظْهَارِ الْكُفْرِ فَهُوَ فِي غَيْرِ الْكُفْرِ مِنَ الْمَعَاصِي أَوْلَى كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا، وَفِي رَفْعِ أَسْبَابِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي غَيْرِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْغَيْرِ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الطَّلَاقِ أَوِ الْبَيْعِ.
وَأما فِي الاهتداء عَلَى النَّاسِ مَنْ تَرَتُّبِ الْغُرْمِ فَبَيْنَ مَرَاتِبِ الْإِكْرَاهِ ومراتب الاعتداء الْمُكْره عَلَيْهِ تَفَاوُتٌ، وَأَعْلَاهَا الْإِكْرَاهُ عَلَى قَتْلِ نَفْسٍ. وَهَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُبِيحُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْقَتْلِ لِأَنَّ التَّوَعُّدَ قَدْ لَا يَتَحَقَّقُ وَتَفُوتُ نَفْسُ الْقَتِيلِ.
عَلَى أَنَّ أَنْوَاعًا مِنَ الِاعْتِدَاءِ قَدْ يَجْعَلُ الْإِكْرَاهَ ذَرِيعَةً إِلَى ارتكابها بتواطوء بَيْنَ الْمُكْرَهِ وَالْمُكْرِهِ. وَلِهَذَا كَانَ لِلْمُكْرِهِ- بِالْكَسْرِ- جَانِبٌ مِنَ النَّظَرِ فِي حَمْلِ التَّبَعَةِ عَلَيْهِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِغَيْرِ مُؤَاخَذَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِ الْمَحْضِ وَمَا دُونُ ذَلِكَ فَهُوَ مَجَالُ الِاجْتِهَادِ.
وَالْخِلَافُ فِي طَلَاقِ الْمُكْرَهِ مَعْلُومٌ، وَالتَّفَاصِيلُ وَالتَّفَارِيعُ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ وَبَعض التفاسير.
الْمُتَعَنِّتِينَ، أَيْ لَا تَسْأَلْ عِلْمَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ حِرْصِ السَّائِلِينَ عَلَى أَنْ تُعْلِمَهُمْ بِيَقِينِ أَمْرِ أَهْلِ الْكَهْفِ فَإِنَّكَ عَلِمْتَهُ وَلَمْ تُؤْمَرْ بِتَعْلِيمِهِمْ إِيَّاهُ، وَلَوْ لَمْ يُحْمَلِ النَّهْيُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَتَّضِحْ لَهُ وَجْهٌ. وَفِي التَّقْيِيدِ بِ مِنْهُمْ مُحْتَرَزٌ وَلَا يَسْتَقِيمُ جَعْلُ ضَمِيرِ مِنْهُمْ عَائِدًا إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ وَالْمُفَسِّرِينَ.
[٢٣، ٢٤]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : الْآيَات ٢٣ الى ٢٤]
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً (٢٤)
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ.
عَطْفٌ عَلَى الِاعْتِرَاضِ. وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِهِ هُنَا مَا
رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالطَّبَرِيُّ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَالْوَاحِدِيُّ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا سَأَلُوا النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ وَذِي الْقَرْنَيْنِ وَعَدَهُمْ بِالْجَوَابِ عَنْ سُؤَالِهِمْ مِنَ الْغَدِ وَلَمْ يَقُلْ «إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، فَلَمْ يَأْتِهِ جِبْرِيلُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالْجَوَابِ إِلَّا بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقِيلَ: بَعْدَ ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ كَمَا تَقَدَّمَ، أَيْ فَكَانَ تَأْخِيرُ الْوَحْيِ إِلَيْهِ بِالْجَوَابِ عِتَابًا رَمْزِيًّا مِنَ اللَّهِ لرَسُوله- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- كَمَا عَاتَبَ سُلَيْمَانَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِيمَا
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: «أَنَّ سُلَيْمَانَ قَالَ:
لَأُطَوِّفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ وَلَدًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا وَاحِدَةٌ وَلَدَتْ شِقَّ غُلَامٍ»
. ثُمَّ كَانَ هَذَا عِتَابًا صَرِيحًا فَإِنَّ رَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم لِمَا سُئِلَ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ وَعَدَ بِالْإِجَابَةِ وَنَسِيَ أَنْ يَقُولَ: «إِنْ شَاءَ اللَّهُ» كَمَا نَسِيَ سُلَيْمَانُ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِقِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ، ثُمَّ نَهَاهُ عَنْ أَنْ يَعِدَ بِفِعْلِ شَيْءٍ دُونَ التَّقْيِيدِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقِيٌّ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَفِي كَيْفِيَّةِ نَظْمِهِ اخْتِلَافٌ لِلْمُفَسِّرِينَ، فَمُقْتَضَى كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ مِنْ بَقِيَّةِ جُمْلَةِ النَّهْيِ، أَيْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مَنْ حُكْمِ النَّهْيِ، أَيْ لَا تَقُولَنَّ: إِنِّي فَاعِلٌ إِلَخْ... إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَنْ تَقُولَهُ. وَمَشِيئَةُ اللَّهِ تُعْلَمُ مِنْ إِذْنِهِ بِذَلِكَ، فَصَارَ الْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ
لِأَنَّ الْخَطْبَ هُوَ الشَّأْنُ الْمَكْرُوهُ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ [الذاريات: ٣١]، فَالْمَعْنَى: مَا هِيَ مُصِيبَتُكَ الَّتِي أَصَبْتَ بِهَا الْقَوْمَ وَمَا غَرَضُكَ مِمَّا فَعَلْتَ.
وَقَوْلُهُ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ إِلَى قَوْلِهِ فَنَبَذْتُها إِنْ حُمِلَتْ كَلِمَاتُ (بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ. وقبضت قَبْضَةً، وَأثر، ونبذتها) عَلَى حَقَائِقِ مَدْلُولَاتِهَا كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ كَانَ الْمَعْنَى أَبْصَرْتُ مَا لَمْ يُبْصِرُوهُ، أَيْ نَظَرْتُ مَا لَمْ يَنْظُرُوهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَصُرْتُ، وأبصرت كِلَاهُمَا مِنْ أَفْعَالِ النَّظَرِ بِالْعَيْنِ، إِلَّا أَنَّ بَصُرَ بِالشَّيْءِ حَقِيقَتُهُ صَارَ بَصِيرًا بِهِ أَوْ بَصِيرًا بِسَبَبِهِ، أَيْ شَدِيدَ الْإِبْصَارِ، فَهُوَ أَقْوَى مِنْ أَبْصَرْتُ، لِأَنَّهُ صِيغَ مِنْ فِعْلٍ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- الَّذِي تُشْتَقُّ مِنْهُ الصِّفَاتُ الْمُشَبَّهَةُ الدَّالَّةُ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ سَجِيَّةً، قَالَ تَعَالَى:
فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [١١].
وَلَمَّا كَانَ الْمَعْنَى هُنَا جَلِيًّا عَن أَمر مرثيّ تَعَيَّنَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَجَازِ بِاسْتِعَارَةِ بَصُرَ الدَّالِّ عَلَى قُوَّةِ الْإِبْصَارِ إِلَى مَعْنَى الْعِلْمِ الْقَوِيِّ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ عَنِ التَّقْيِيدِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق: ٢٢]، وَكَمَا سُمِّيَتِ الْمَعْرِفَةُ الرَّاسِخَةُ بَصِيرَةً فِي قَوْله أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ [يُوسُف: ١٠٨]. وَحُكِيَ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» عَنِ اللِّحْيَانِيِّ: إِنَّهُ لَبَصِيرٌ بِالْأَشْيَاءِ، أَيْ عَالِمٌ بِهَا، وَبَصُرْتُ بِالشَّيْءِ: عَلِمْتُهُ. وَجُعِلَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ، وَكَذَلِكَ فَسَّرَهَا الْأَخْفَشُ فِي نَقْلِ «لِسَانِ الْعَرَبِ» وَأَثْبَتَهُ الزَّجَّاجُ.
فَالْمَعْنَى: عَلِمْتُ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ وَفَطِنْتُ لِمَا لَمْ يَفْطِنُوا لَهُ، كَمَا جَعَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» أَوَّلَ وَجْهَيْنِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ. وَلِذَلِكَ طَرِيقَتَانِ: إِمَّا جَعْلُ بَصُرْتُ مَجَازًا، وَإِمَّا جَعْلُهُ حَقِيقَةً.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَبْصُرُوا بِتَحْتِيَّةٍ عَلَى أَنَّهُ رَافِعٌ لِضَمِيرِ الْغَائِبِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِفَوْقِيَّةٍ- عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ.
وَالْقَبْضَةُ:- بِفَتْحِ الْقَافِ- الْوَاحِدَةُ: مِنَ الْقَبْضِ، وَهُوَ غَلْقُ الرَّاحَةِ عَلَى شَيْءٍ، فَالْقَبْضَةُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَضِدُّ الْقَبْضِ: الْبَسْطُ.
وَالرِّزْقُ مِنْهُ مَا هُوَ حَاصِلٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَهُمْ مُتَمَتِّعُونَ بِانْشِرَاحِ صُدُورِهِمْ وَرِضَاهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ، وَأَعْظَمُهُ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ.
وَالَّذِينَ سَعَوْا هُمُ الْفَرِيقُ الْمُقَابِلُ لِلَّذِينَ آمَنُوا، فَمَعْنَاهُ: وَالَّذِينَ اسْتَمَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ، فَعُبِّرَ عَنِ الِاسْتِمْرَارِ بِالسَّعْيِ فِي الْآيَاتِ لِأَنَّهُ أَخَصُّ مِنَ الْكُفْرِ، وَذَلِكَ حَالُ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ.
وَالسَّعْيُ: الْمَشْيُ الشَّدِيدُ. وَيُطْلَقُ عَلَى شِدَّةِ الْحِرْصِ فِي الْعَمَلِ تَشْبِيهًا لِلْعَامِلِ الْحَرِيصِ بالماشي الشَّديد الْمَشْي فِي كَوْنِهِ يَكِدُّ لِلْوُصُولِ إِلَى غَايَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى [النازعات: ٢٢- ٢٣] فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ فِرْعَوْنَ خَرَجَ يَمْشِي وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ صَرَفَ عِنَايَتَهُ لِإِحْضَارِ السَّحَرَةِ لِإِحْبَاطِ دَعْوَةِ مُوسَى. وَقَالَ تَعَالَى: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً [الْمَائِدَة: ٦٤].
وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ، شُبِّهَتْ هَيْئَةُ تَفَنُّنِهِمْ فِي التَّكْذِيبِ بِالْقُرْآنِ وَتَطَلُّبِ الْمَعَاذِيرِ لِنَقْضِ دَلَائِلِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: هُوَ سِحْرٌ، هُوَ شِعْرٌ، هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، هُوَ قَوْلُ مَجْنُونٍ، وَتَعَرُّضُهِمْ بِالْمُجَادَلَاتِ وَالْمُنَاقَضَاتِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِهَيْئَةِ السَّاعِي فِي طَرِيقٍ يُسَابِقُ غَيْرَهُ لِيَفُوزَ بِالْوُصُولِ.
وَالْمُعَاجِزُ: الْمُسَابِقُ الطَّالِبُ عَجْزَ مُسَايِرِهِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى غَايَتِهِ وَعَنِ اللِّحَاقِ بِهِ، فَصِيغَ لَهُ الْمُفَاعَلَةُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَطْلُبُ عَجْزَ الْآخَرِ عَنْ لِحَاقِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ بِعَمَلِهِمْ يُغَالِبُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ أَنْ يَغْلِبُوا اللَّهَ وَقَدْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ نَالُوا مُرَادَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَعْلَمُوا مَا لَهُمْ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مُعاجِزِينَ- بِأَلِفٍ بَعْدَ الْعَيْنِ- وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو مُعَجِّزِينَ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَضْعِيفِ الْجِيمِ-، أَيْ مُحَاوِلِينَ إِعْجَازَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.
وَقَوْلُهُ: طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُمْ طَوَّافُونَ، يَعُودُ عَلَى الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ.
وَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، أَيْ إِنَّمَا رَفَعَ الْجُنَاحَ عَلَيْهِمْ وَعَلَيْكُمْ فِي الدُّخُولِ بِدُونِ اسْتِئْذَانٍ بَعْدَ تِلْكَ الْأَوْقَات الثَّلَاثَة لأَنهم طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ فَلَوْ وَجَبَ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا كَانَ ذَلِكَ حَرَجًا عَلَيْهِمْ وَعَلَيْكُمْ.
وَفِي الْكَلَامِ اكْتِفَاءٌ. تَقْدِيرُهُ: وَأَنْتُمْ طَوَّافُونَ عَلَيْهِمْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ وَقَوْلُهُ عَقِبَهُ: بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ.
وبَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ أَيْضًا. وَيُجْعَلُ بَعْضُكُمْ مُبْتَدَأً، وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: عَلى بَعْضٍ بحبر مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: طَوَّافٌ عَلَى بَعْضٍ. وَحُذِفَ الْخَبَرُ وَبَقِيَ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ وَهُوَ كَوْنٌ خَاصٌّ حُذِفَ لِدَلَالَةِ طَوَّافُونَ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: بَعْضُكُمْ طَوَّافٌ عَلَى بَعْضٍ. وَلَا يَحْسُنُ مَنْ جَعَلَ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ بَدَلًا مِنَ الْوَاوِ فِي طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ
فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُبْدَلَ مِنْهُ بَعْضُ الْمُخَاطَبِينَ وَهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ إِلَّا بِتَقْدِيرٍ.
وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْبَيَانِ الَّذِي طَرَقَ أَسْمَاعَكُمْ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ، فَبَيَانُهُ بَالِغٌ الْغَايَةَ فِي الْكَمَالِ حَتَّى لَوْ أُرِيدَ تَشْبِيهُهُ لَمَا شُبِّهَ إِلَّا بِنَفْسِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣].
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْآياتِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنُ فَإِنَّ مَا يَقَعُ فِيهِ إِجْمَالٌ مِنْهَا يُبَيَّنُ بِآيَاتٍ أُخْرَى، فَالْآيَاتُ الَّتِي أَوَّلُهَا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ جَاءَت بَيَانا لآيَات يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ [النُّور:
٢٧].
وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ مُعْتَرِضَةٌ. وَالْمَعْنَى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ بَيَانًا كَامِلًا وَهُوَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، فَبَيَانُهُ بَالِغٌ غَايَةَ الْكَمَالِ لَا مَحَالَةَ.
وَالْمُتَعَدِّدِ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، وَهِيَ فِعْلٌ عِنْدَ بَنِي تَمِيمٍ فَلِذَلِكَ يُلْحِقُونَهَا الْعَلَامَاتِ يَقُولُونَ: هَلُمَّ وَهَلُمِّي
وَهَلُمَّا وَهَلُمُّوا وَهَلْمُمْنَ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَام [١٥٠]. وَالْمعْنَى: انخذلوا عَنْ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ وَأَقْبِلُوا إِلَيْنَا.
وَجُمْلَةُ وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنَ الْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى الْمُعَوِّقِينَ وَالْقَائِلِينَ لِأَنَّ الْفِعْلَ يُعْطَفُ عَلَى الْمُشْتَقِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ [العاديات: ٣، ٤] وَقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ [الْحَدِيد: ١٨]، فَالتَّقْدِيرُ هُنَا: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوَّقِينَ وَالْقَائِلِينَ وَغَيْرَ الْآتِينَ الْبَأْسَ، أَوْ وَالَّذِينَ لَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ. وَلَيْسَ فِي تَعْدِيَةِ فِعْلِ الْعِلْمِ إِلَى لَا يَأْتُونَ إِشْكَالٌ لِأَنَّهُ عَلَى تَأْوِيلٍ كَمَا أَنَّ عَمَلَ النَّاسِخِ فِي قَوْله وَأَقْرَضُوا [الْحَدِيد: ١٨] عَلَى تَأْوِيلِ، أَيْ: يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا، أَيْ: يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ بِجَمْعِ إِخْوَانِهِمْ مَعَهُمُ الِاعْتِضَادَ بِهِمْ فِي الْحَرْبِ وَلَكِنْ عَزْلَهُمْ عَنِ الْقِتَالِ.
وَمَعْنَى إِلَّا قَلِيلًا إِلَّا زَمَانًا قَلِيلًا، وَهُوَ زَمَانُ حُضُورِهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ الْمُرَابِطِينَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النِّسَاء: ٤٦]، أَيْ: إِيمَانًا ظَاهِرًا، وَمِثْلَ قَوْله تَعَالَى:
أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ [الرَّعْد: ٣٣]. وقَلِيلًا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِتْيَانًا قَلِيلًا، وَقِلَّتُهُ تَظْهَرُ فِي قِلَّةِ زَمَانِهِ وَفِي قِلَّةِ غَنَائِهِ.
والْبَأْسَ: الْحَرْبُ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِيُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٨٠]. وَإِتْيَانُ الْحَرْبِ مُرَادٌ بِهِ إِتْيَانُ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ مَوْضِعِهَا. وَالْمُرَادُ: الْبَأْسُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ: مَكْرًا بِالْمُسْلِمِينَ لَا جُبْنًا.
وأَشِحَّةً جَمْعُ شَحِيحٍ بِوَزْنِ أَفْعِلَةٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ وَهُوَ فَصِيحٌ وَقِيَاسُهُ أَشِحَّاءُ.
وَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْكُمْ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي أُمِرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ إِلَى كَشْفِ أَحْوَالِهِمْ لِلرَّسُولِ وَالْمُسْلِمِينَ بِمُنَاسَبَةِ الِانْتِقَالِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ.
وَتَقَدَّمَ الشُّحُّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ
تَشْبِيهِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَبِالْعَكْسِ لِتَلَازُمِهِمَا، وَأُوتِيَ تَشْبِيهُ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ فِي مَوْضِعَيْنِ لِكَوْنِ وَجْهِ الشَّبَهِ فِي الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ أَوْضَحَ، وَعَكْسُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ لِأَنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ أَوْضَحُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْآخَرَيْنِ.
إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ [٢٢] إِلَّا نَذِيرٌ [٢٣].
لَمَّا كَانَ أَعْظَمُ حِرْمَانٍ نَشَأَ عَنِ الْكُفْرِ هُوَ حِرْمَانُ الِانْتِفَاعِ بِأَبْلَغِ كَلَامٍ وَأَصْدَقِهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ كَانَ حَالُ الْكَافِرِ الشَّبِيهِ بِالْمَوْتِ أَوْضَحَ شَبَهًا بِهِ فِي عَدَمِ انْتِفَاعِهِ بِالْقُرْآنِ وَإِعْرَاضِهِ عَنْ سَمَاعِهِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: ٢٦]، وَكَانَ حَالُ الْمُؤْمِنِينَ بِعَكْسِ ذَلِكَ إِذْ تَلَقَّوُا الْقُرْآنَ وَدَرَسُوهُ وَتَفَقَّهُوا فِيهِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ [الزمر: ١٨]، وَأُعْقِبَ تَمْثِيلُ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ بِحَالِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ بِتَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْذِرَةً لَهُ فِي التَّبْلِيغِ لِلْفَرِيقَيْنِ، وَفِي عَدَمِ قَبُولِ تَبْلِيغِهِ لَدَى أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، وَتَسْلِيَةً لَهُ عَنْ ضَيَاعِ وَابِلِ نُصْحِهِ فِي سِبَاخِ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ قَبُولَ الَّذِينَ قَبِلُوا الْهُدَى وَاسْتَمَعُوا إِلَيْهِ كَانَ بِتَهْيِئَةِ اللَّهِ تَعَالَى نُفُوسَهُمْ لِقَبُولِ الذِّكْرِ وَالْعِلْمِ، وَأَنَّ عَدَمَ انْتِفَاعِ الْمُعْرِضِينَ بِذَلِكَ هُوَ بِسَبَبِ مَوْتِ قُلُوبِهِمْ فَكَأَنَّهُمُ الْأَمْوَاتُ فِي الْقُبُورِ وَأَنْتَ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُسْمِعَ الْأَمْوَاتَ، فَجَاءَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ عَلَى مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ مُقَابَلَةَ اللَّفِّ بِالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ.
فَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [فاطر: ١٨]، لِأَنَّ مَعْنَى الْقَصْرِ يَنْحَلُّ إِلَى إِثْبَاتٍ وَنَفْيٍ فَكَانَ مُفِيدًا فَرِيقَيْنِ: فَرِيقًا انْتَفَعَ بِالْإِنْذَارِ، وَفَرِيقًا لَمْ يَنْتَفِعْ، فَعُلِّلَ ذَلِكَ بِ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ.
وَقَوْلُهُ: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِشَارَةٌ إِلَى الَّذِينَ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ أَنْ يُسْمِعَهُمْ إِنْذَارَكَ.
وَاسْتُعِيرَ مَنْ فِي الْقُبُورِ لِلَّذِينِ لَمْ تَنْفَعْ فِيهِمُ النُّذُرُ، وَعَبَّرَ عَنِ الْأَمْوَاتِ بِ مَنْ فِي
الْقُبُورِ
لِأَنَّ مَنْ فِي الْقُبُورِ أَعْرَقُ فِي الِابْتِعَادِ عَنْ بُلُوغِ الْأَصْوَاتِ لِأَنَّ
وَأَنْ يَقُولَ: مَا مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ مُقَابِلَ إِنْكَارِهِمُ التَّوْحِيدَ كَقَوْلِهِمْ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: ٥] فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَذِكْرُ صِفَةِ الْوَاحِدِ تَأْكِيد لمدلول مَا مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ إِمَاء إِلَى رَدِّ إِنْكَارِهِمْ.
وَذِكْرُ صِفَةِ الْقَهَّارُ تَعْرِيضٌ بِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى قَهْرِهِمْ، أَيْ غَلَبِهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْقَهْرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٨].
وَإِتْبَاعُ ذَلِكَ بِصِفَةِ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا تَصْرِيحٌ بِعُمُومِ رُبُوبِيَّتِهِ وَأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا. وَوَصْفُ الْعَزِيزُ تَمْهِيدٌ لِلْوَصْفِ بِ الْغَفَّارُ، أَيْ الْغَفَّارُ عَنْ عِزَّةٍ وَمَقْدِرَةٍ لَا عَنْ عَجْزٍ وَمَلَقٍ أَوْ مُرَاعَاةِ جَانِبٍ مُسَاوٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ وَصْفِ الْغَفَّارُ هُنَا اسْتِدْعَاءُ الْمُشْرِكِينَ إِلَى التَّوْحِيدِ بَعْدَ تَهْدِيدِهِمْ بِمُفَادِ وَصْفِ الْقَهَّارُ لِكَيْ لَا يَيْأَسُوا مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ مَا سِيقَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْوَعِيدِ جَرْيًا عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ التَّرْهِيبِ بالترغيب وَالْعَكْس.
[٦٧- ٧٠]
[سُورَة ص (٣٨) : الْآيَات ٦٧ إِلَى ٧٠]
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠)
إِعَادَةُ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ هُنَا مُسْتَأْنَفًا. وَالْعُدُولُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِحَرْفٍ يَعْطِفُ الْمَقُولَ أَعْنِي هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ عَلَى الْمَقُولِ السَّابِقِ أَعْنِي أَنَا مُنْذِرٌ [ص: ٦٥]، عُدُولٌ يشْعر بالاهتمام بالمقول هُنَا كَيْ لَا يُؤْتَى بِهِ تَابِعًا لِمَقُولٍ آخَرَ فَيَضْعُفُ تَصَدِّي السَّامِعِينَ لِوَعْيِهِ.
وَجُمْلَةُ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْقِعِ الِاسْتِئْنَافِ الِابْتِدَائِيِّ انْتِقَالًا مِنْ غَرَضِ وَصْفِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْمَحْشَرِ إِلَى غَرَضِ قِصَّةِ
فَالصَّابِرُ مُرْتَاضٌ بِتَحَمُّلِ الْمَكَارِهِ وَتَجَرُّعِ الشَّدَائِدِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ فَيَهُونُ عَلَيْهِ تُرْكُ الِانْتِقَامِ.
ويُلَقَّاها يُجْعَلُ لَاقِيًا لَهَا، أَيْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً [الْإِنْسَان:
١١]، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِلسَّعْيِ لِتَحْصِيلِهَا لِأَنَّ التَّحْصِيلَ عَلَى الشَّيْءِ بَعْدَ الْمُعَالَجَةِ وَالتَّخَلُّقِ يُشْبِهُ السَّعْيَ لِمُلَاقَاةِ أَحَدٍ فَيَلْقَاهُ. وَجِيءَ فِي يُلَقَّاها بِالْمُضَارِعِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مَأْمُورٌ بِتَحْصِيلِ هَذَا الْخُلُقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَجِيءَ فِي الصِّلَةِ وَهِيَ الَّذِينَ صَبَرُوا بِالْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الصَّبْرَ خُلُقٌ سَابِقٌ فِيهِمْ هُوَ الْعَوْنُ عَلَى مُعَامَلَةِ الْمُسِيءِ بِالْحُسْنَى، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ عَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: إِلَّا الصَّابِرُونَ، لِنُكْتَةِ كَوْنِ الصَّبْرِ سَجِيَّةً فِيهِمْ مُتَأَصِّلَةً. ثُمَّ زِيدَ فِي التَّنْوِيهِ بِهَا بِأَنَّهَا مَا تَحْصُلُ إِلَّا لِذِي حَظٍّ عَظِيمٍ.
وَالْحَظُّ: النَّصِيبُ مِنَ الشَّيْءِ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: خَاصٌّ بِالنَّصِيبِ مِنْ خَيْرٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا:
نَصِيبُ الْخَيْرِ، بِالْقَرِينَةِ أَوْ بِدَلَالَةِ الْوَضْعِ، أَيْ مَا يَحْصُلُ دَفْعُ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ إِلَّا لِصَاحِبِ نَصِيبٍ عَظِيمٍ مِنَ الْفَضَائِلِ، أَيْ مِنَ الْخُلُقِ الْحَسَنِ وَالِاهْتِدَاءِ وَالتَّقْوَى.
فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَيْنِ أَنَّ التَّخَلُّقَ بِالصَّبْرِ شَرْطٌ فِي الِاضْطِلَاعِ بِفَضِيلَةِ دَفْعِ السَّيِّئَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ وَحْدَهُ شَرْطًا فِيهَا بَلْ وَرَاءَهُ شُرُوطٌ أُخَرُ يَجْمَعُهَا قَوْلُهُ: حَظٍّ عَظِيمٍ، أَيْ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَالصَّبْرُ مِنْ جُمْلَةِ الْحَظِّ الْعَظِيمِ لِأَنَّ الْحَظَّ الْعَظِيمَ أَعَمُّ مِنَ الصَّبْرِ، وَإِنَّمَا خُصَّ الصَّبْرُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَصْلُهَا وَرَأْسُ أَمْرِهَا وَعَمُودُهَا.
وَفِي إِعَادَةِ فِعْلِ وَما يُلَقَّاها دُونَ اكْتِفَاءٍ بِحَرْفِ الْعَطْفِ إِظْهَارٌ لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ صَرِيحِهِ شَيْءٌ تَحْتَ الْعَاطِفِ.
وَأَفَادَ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أَن الْحَظُّ الْعَظِيمُ مِنَ الْخَيْرِ سَجِيَّتُهُ وَمَلَكَتُهُ كَمَا اقْتَضَتْهُ إِضَافَةُ ذُو.
وَالْمَقْصُودُ تَشْبِيهُ الْحَالَةِ بِالْحَالَةِ وَلَكِنْ عُدِلَ عَنْ صَوْغِ الْكَلَامِ بِصِيغَةِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ إِلَى صَوْغِهِ بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ اهْتِمَامًا بِالْقِصَّةِ وَإِظْهَارًا بِأَنَّهَا فِي ذَاتِهَا مِمَّا يَهِمُّ الْعِلْمُ بِهِ، وَأَنَّهَا تَذْكِيرٌ مُسْتَقِلٌّ وَأَنَّهَا غَيْرُ تَابِعَةٍ غَيْرَهَا. وَلِأَنَّ جُمْلَةَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةِ فَتَنَّا أَيْ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ، عَطْفُ مُفَصَّلٍ عَلَى مُجْمَلٍ، وَإِنَّمَا جَاءَ مَعْطُوفًا إِذِ الْمَذْكُورُ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ مَعْنَى الْفِتْنَةِ، فَلَا تَكُونُ جُمْلَةً وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ بَيَانًا لِجُمْلَةِ فَتَنَّا بَلْ هِيَ تَفْصِيلٌ لِقِصَّةِ بَعْثَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالْفَتْنُ: الْإِيقَاعُ فِي اخْتِلَالِ الْأَحْوَالِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩١].
وَالرَّسُولُ الْكَرِيمُ: مُوسَى، وَالْكِرِيمُ: النَّفِيسُ الْفَائِقُ فِي صِنْفِهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٢٩]، أَيْ رَسُولٌ مِنْ خِيرَةِ الرُّسُلِ أَوْ مِنْ خِيرَةِ النَّاسِ.
وأَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ تَفْسِيرٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ وَصْفُ رَسُولٌ وَفِعْلُ جاءَهُمْ مِنْ مَعْنَى الرِّسَالَةِ وَالتَّبْلِيغِ فَفِيهِمَا مَعْنَى الْقَوْلِ. وَمَعْنَى أَدُّوا إِلَيَّ أَرْجِعُوا إِلَيَّ وَأَعْطُوا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمرَان: ٧٥]، يُقَالُ: أَدَّى الشَّيْءَ أَوْصَلَهُ وَأَبْلَغَهُ. وَهَمْزَةُ الْفِعْلِ أَصْلِيَّةٌ وَهُوَ مُضَاعَفُ الْعَيْنِ وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ فِعْلٌ سَالِمٌ غَيْرُ مُضَاعَفٍ، جَعَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَالْأَمَانَةِ عِنْدَ فِرْعَوْنَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ.
وَخِطَابُ الْجَمْعِ لِقَوْمِ فِرْعَوْنَ. وَالْمُرَادُ: فِرْعَوْنُ وَمَنْ حَضَرَ مِنْ مَلَئِهِ لَعَلَّهُمْ يُشِيرُونَ عَلَى فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا خَاطَبَ مَجْمُوعَ الْمَلَأِ لَمَّا رَأَى مِنْ فِرْعَوْنَ صَلَفًا وَتَكَبُّرًا من الِامْتِثَال، فخطاب أَهْلَ مَشُورَتِهِ لَعَلَّ فِيهِمْ مَنْ يَتَبَصَّرُ الْحَقَّ.
وعِبادَ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَ أَدُّوا مُرَادًا بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، أُجْرِيَ وَصْفُهُمْ عِبادَ اللَّهِ تَذْكِيرًا لِفِرْعَوْنَ بِمُوجَبِ رَفْعِ الِاسْتِعْبَادِ عَنْهُمْ، وَجَاءَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٧] أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ فَحَصَلَ أنّه وَصفهم بالوصفين، فَوَصْفُ
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً [المعارج: ٤٣]. فَ الْخُرُوجُ صَارَ كَالْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْبَعْثِ، وَسَيَأْتِي قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [ق: ٤٢]. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِمَا فِي الْخَبَرِ مِنْ دَفْعِ الِاسْتِحَالَةِ وَإِظْهَارِ التَّقْرِيبِ، وَفِيهِ تَشْوِيقٌ لِتَلَقِّي الْمسند إِلَيْهِ.
[١٢- ١٤]
[سُورَة ق (٥٠) : الْآيَات ١٢ إِلَى ١٤]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤)
اسْتِئْنَاف ابتدائي ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ [ق: ٥] فَعُقِّبَ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِبِدْعٍ فِي الضَّلَالِ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أُمَمٌ. وَذَكَرَ مِنْهُمْ أَشْهَرَهُمْ فِي الْعَالَمِ وَأَشْهَرَهُمْ بَيْنَ الْعَرَبِ، فَقَوْمُ نُوحٍ أَوَّلُ قَوْمٍ كَذَبُوا رَسُولَهُمْ وَفِرْعَوْنُ كَذَّبَ مُوسَى وَقَوْمُ لُوطٍ كَذَّبُوهُ وَهَؤُلَاءِ مَعْرُوفُونَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَمَّا أَصْحَابُ الرَّسِّ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ فَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ.
وَذُكِرُوا هُنَا عَقِبَ قَوْمِ نُوحٍ لِلْجَامِعِ الْخَيَالِيِّ بَيْنَ الْقَوْمَيْنِ وَهُوَ جَامِعُ التَّضَادِّ لِأَنَّ عَذَابَهُمْ كَانَ ضِدَّ عَذَابِ قَوْمِ نُوحٍ إِذْ كَانَ عَذَابُهُمْ بِالْخَسْفِ وَعَذَابُ قَوْمِ نُوحٍ بِالْغَرَقِ، ثُمَّ ذَكَرَ ثَمُودَ لِشَبَهِ عَذَابِهِمْ بِعَذَابِ أَصْحَابِ الرَّسِّ إِذْ كَانَ عَذَابُهُمْ بِرَجْفَةِ الْأَرْضِ وَصَوَاعِقِ السَّمَاءِ، وَلِأَنَّ أَصْحَابَ الرَّسِّ مِنْ بَقَايَا ثَمُودَ، ثُمَّ ذُكِرَتْ عَادٌ لِأَنَّ عَذَابَهَا كَانَ بِحَادِثٍ فِي الْجَوِّ وَهُوَ الرِّيحُ، ثُمَّ ذُكِرَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا أَشْهَرَ الرُّسُلِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ هُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ وَهُمْ مِنْ خُلَطَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَعَبَّرَ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ بِ إِخْوانُ لُوطٍ وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ قَبِيلِهِ، فَالْمُرَادُ بِ إِخْوانُ أَنَّهُمْ مُلَازِمُونَ وَهُمْ أَهْلُ سَدُومَ وَعَمُّورَةَ وَقُرَاهُمَا وَكَانَ لُوطٌ سَاكِنًا فِي سَدُومَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ نَسَبِهِمْ لِأَنَّ أَهْلَ سَدُومَ كَنْعَانِيُّونَ وَلُوطًا عِبْرَانِيٌّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٦١]. وَذُكِرَ قَوْمُ تُبَّعٍ وَهُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ وَلَمْ يَكُنِ الْعَرَبُ يَعُدُّونَهُمْ عَرَبًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُنْزِفُونَ بِفَتْحِ الزَّايِ مَنْ أَنْزَفَ الَّذِي هَمْزَتُهُ لِلتَّعْدِيَةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَة وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِكَسْرِ الزَّايِ مِنْ أَنْزَفَ الْمَهْمُوزِ الْقَاصِرِ إِذا سكر وذهر عَقْلُهُ.
والفاكهة: الثِّمَار والنقول كَاللَّوْزِ وَالْفُسْتُقِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَة الرَّحْمَن. وَعَطْفُ فاكِهَةٍ على بِأَكْوابٍ، أَيْ وَيَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ بِفَاكِهَةٍ وَذَلِكَ أَدْخَلُ فِي الدَّعَةِ وألذّ من التَّنَاوُل بِأَيْدِيهِمْ، عَلَى أَنَّهُمْ إِنِ اشْتَهَوُا اقْتِطَافَهَا بِالْأَيْدِي دَنَتْ لَهُمُ الْأَغْصَانُ فَإِنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَشْتَهِي تَنَاوُلَ الثَّمَرَةِ من أَغْصَانهَا.
ومِمَّا يَتَخَيَّرُونَ: الْجِنْسُ الَّذِي يَخْتَارُونَهُ وَيَشْتَهُونَهُ، أَيْ يَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ بِفَاكِهَةٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ الَّتِي يَخْتَارُونَهَا، فَفِعْلُ يَتَخَيَّرُونَ يُفِيدُ قُوَّة الِاخْتِيَار.
و «لحم الطَّيْرِ» : هُوَ أَرْفَعُ اللُّحُومِ وَأَشْهَاهَا وَأَعَزُّهَا.
وَعَطْفُ وَلَحْمِ طَيْرٍ عَلَى فاكِهَةٍ كَعَطْفِ فاكِهَةٍ عَلَى (أَكْوَابٍ).
وَالْاِشْتِهَاءُ: مَصْدَرُ اشْتَهَى، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الشَّهْوَةِ الَّتِي هِيَ مَحَبَّةُ نَيْلِ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ مِنْ مَحْسُوسَاتٍ وَمَعْنَوِيَّاتٍ، يُقَالُ: شَهِيٌّ كَرَضِيٌّ، وَشَهَا كَدَعَا. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُقَالَ:
اشْتَهَى، وَالْاِفْتِعَالُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ.
وَتَقْدِيمُ ذِكْرِ الْفَاكِهَةِ عَلَى ذِكْرِ اللَّحْمِ قَدْ يَكُونُ لِأَنَّ الْفَوَاكِهَ أَعَزُّ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْفَاكِهَةِ وَلَحْمِ طَيْرٍ فَجُعِلَ التَّخْيِرُ لِلْأَوَّلِ. وَالْاِشْتِهَاءُ لِلثَّانِي وَلِأَنَّ الْاِشْتِهَاءَ أَعْلَقُ بِالطَّعَامِ مِنْهُ بِالْفَوَاكِهِ، فَلَذَّةُ كَسْرِ الشَّاهِيَةِ بِالطَّعَامِ لَذَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى لَذَّةِ حُسْنِ طَعْمِهِ، وَكَثْرَةُ التَّخَيُّرِ لِلْفَاكِهَةِ هِيَ لَذَّةُ تَلْوِينِ الْأَصْنَافِ.
وحُورٌ عِينٌ عَطْفٌ عَلَى وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ، أَيْ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ حُورٌ عِينٌ.
وَالْحُورُ الْعِينُ: النِّسَاءُ ذَوَاتُ الْحَوَرِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ. وَذَوَاتُ الْعَيْنِ وَهُوَ سِعَةُ الْعَيْنِ وَتَقَدُّمٌ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ.
شَرْعُ مُبْتَدَإٍ قَالُوا: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِذَا طَلَّقْتُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا تَعُودُوا إِلَى مَثْلِ مَا فَعَلْتُمْ وَلَكِنْ طَلَّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ، أَيْ فِي أَطْهَارِهِنَّ كَمَا سَيَأْتِي.
وَتَكْرِيرُ فِعْلِ فَطَلِّقُوهُنَّ لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ بِهِ فَلَمْ يَقُلْ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَلِطُهْرِهِنَّ وَقَدْ
تَقَدَّمَ نَظِيرُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٣٠]، وَقَوْلِهِ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٧٢].
وَاللَّامُ فِي لِعِدَّتِهِنَّ لَامُ التَّوْقِيتِ وَهِيَ بِمَعْنَى عِنْدَ مِثْلَ كُتِبَ لِيَوْمِ كَذَا مَنْ شَهْرِ كَذَا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الْإِسْرَاء: ٧٨] لَا تَحْتَمِلُ هَذِهِ اللَّامُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَأْتِي لَهَا اللَّامُ. وَلَمَّا كَانَ مَدْخُولُ اللَّامِ هُنَا غَيْرَ زَمَانٍ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْوَقْتُ الْمُضَافِ إِلَى عِدَّتِهِنَّ أَيْ وَقْتُ الطُّهْرِ.
وَمَعْنَى التَّرْكِيبِ أَنَّ عِدَّةَ النِّسَاءِ جُعِلَتْ وَقْتًا لِإِيقَاعِ طَلَاقِهِنَّ فَكُنِّيَ بِالْعِدَّةِ عَنِ الطُّهْرِ لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ تَعْتَدُّ بِالْأَطْهَارِ.
وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ إِيمَاءً إِلَى حِكْمَةِ هَذَا التَّشْرِيعِ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعِدَّةِ وَإِنَّمَا تُبْتَدَأُ الْعِدَّةُ بِأَوَّلِ طُهْرٍ مِنْ أَطْهَارٍ ثَلَاثَةٍ لِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنِ الْمُطَلَّقَةِ بِإِطَالَةِ انْتِظَارِ تَزْوِيجِهَا لِأَنَّ مَا بَيْنَ حَيْضِهَا إِذَا طُلِّقَتْ فِيهِ وَبَيْنَ طُهْرِهَا أَيَّامٌ غَيْرُ مَحْسُوبَةٍ فِي عِدَّتِهَا فَكَانَ أَكْثَرُ الْمُطَلِّقِينَ يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ إِطَالَةَ مُدَّةِ الْعِدَّةِ لِيُوَسِّعُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ زَمَنَ الِارْتِيَاءِ لِلْمُرَاجَعَةِ قبل أَن يبنّ مِنْهُمْ.
وَفِعْلُ طَلَّقْتُمُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى أَرَدْتُمُ الطَّلَاقَ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ وَارِدٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَة: ٦] الْآيَةَ وَالْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ.
وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ التَّطْلِيقِ بِدَلَالَةِ الْإِشَارَةِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُقَدِّرُ حُصُولَ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ مِنْ دُونِ أَنْ يُبَيِّنَ مَنْعَهُ.
وَالطَّلَاقُ مُبَاحٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ حَاجِيًّا لِبَعْضِ الْأَزْوَاجِ فَإِنَّ الزَّوْجَيْنِ شَخْصَانِ اعْتَشَرَا اعْتِشَارًا حَدِيثًا فِي الْغَالِبِ لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمَا قَبْلَهُ صِلَةٌ مِنْ نَسَبٍ وَلَا جِوَارٍ وَلَا تَخَلُّقٍ بِخُلُقٍ مُتَقَارِبٍ أَوْ مُتَمَاثِلٍ فَيَكْثُرُ أَنْ يَحْدُثَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ التَّزَوُّجِ تَخَالُفٌ فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْمُعَاشَرَةِ قَدْ يَكُونُ شَدِيدًا وَيَعْسُرُ تَذْلِيلُهُ، فَيَمَلُّ أَحَدُهُمَا وَلَا يُوجَدُ سَبِيلٌ إِلَى
يَا رَبَّةَ الْبَيْتِ قُومِي غَيْرَ صَاغِرَةٍ | ضُمِّي إِلَيْكِ رِجَالَ الْحَيِّ وَالْغُرْبَا |
عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ | كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادْ |
فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسَيْفِهِ | وَقَالَ أَلَا لَا مِنْ سَبِيلٍ إِلَى هِنْدِ |
فَفِعْلُ قُمْ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، وَتَفْرِيعُ فَأَنْذِرْ عَلَيْهِ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْقِيَامِ.
وَالْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ مِنَ الرُّعْبِ لِرُؤْيَةِ مَلَكِ الْوَحْيِ لَا تَخَفْ وَأَقْبِلْ عَلَى الْإِنْذَارِ.
وَالظَّاهِرُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي الْأَمْرِ بِالدَّعْوَةِ لِأَنَّ سُورَةَ الْعَلَقِ لَمْ تَتَضَمَّنْ أَمْرًا بِالدَّعْوَةِ، وَصَدْرُ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ تَضَمَّنَ أَنَّهُ مَسْبُوقٌ بِالدَّعْوَةِ لِقَوْلِهِ فِيهِ إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ [المزمل: ١٥]، وَقَوْلِهِ: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ [المزمل: ١١]. وَإِنَّمَا كَانَ تَكْذِيبُهُمْ بَعْدَ أَنْ أَبْلَغَهُمْ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ وَابْتُدِئَ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْذَارِ لِأَنَّ الْإِنْذَارَ يَجْمَعُ مَعَانِيَ التَّحْذِيرِ مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ لَا يَلِيقُ وَعَوَاقِبَهُ فَالْإِنْذَارُ حَقِيقٌ بِالتَّقْدِيمِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِمَحَامِدِ الْفِعَالِ لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَلِأَنَّ غَالِبَ أَحْوَالِ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ مُحْتَاجَةٌ إِلَى الْإِنْذَارِ وَالتَّحْذِيرِ.
وَمَفْعُولُ أَنْذِرْ مَحْذُوفٌ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ، أَيْ أَنْذِرِ النَّاسَ كُلَّهُمْ وَهُمْ يَوْمَئِذٍ جَمِيعُ النَّاسِ مَا عَدَا خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَإِنَّهَا آمَنَتْ فَهِيَ جديرة بالبشارة.
[٣]
[سُورَة المدثر (٧٤) : آيَة ٣]
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣)
انْتَصَبَ رَبَّكَ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لفعل (كبّر) قذم عَلَى عَامِلِهِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ لَا تُكَبِّرْ غَيْرَهُ، وَهُوَ قَصْرُ إِفْرَادٍ، أَيْ دُونَ الْأَصْنَامِ.
وَالتَّأْنِيثُ كَثِيرٌ فِي نَقْلِ الْأَوْصَافِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ مِثْلَ الدَّاهِيَةِ وَالطَّامَّةِ وَالصَّاخَّةِ وَالْقَارِعَةِ وَالْآزِفَةِ.
والْغاشِيَةِ هُنَا: عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى سَاعَةِ الْقِيَامَةِ كَمَا يُؤْذِنُ بِذَلِكَ قَوْلُهُ عَقِبَهُ وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ
[الغاشية: ٢] أَيْ يَوْم الغاشية.
[٢- ٧]
[سُورَة الغاشية (٨٨) : الْآيَات ٢ إِلَى ٧]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى نَارًا حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦)
لَا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧)
وُجُوهٌ مُبْتَدَأٌ وخاشِعَةٌ خَبَرٌ وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِحَدِيثِ الْغَاشِيَةِ كَمَا يُفِيدُهُ الظَّرْفُ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ فَإِنَّ مَا صَدَقُهُ هُوَ يَوْمُ الْغَاشِيَةِ. وَيَكُونُ تنكير وُجُوهٌ وَهُوَ مُبْتَدَأً قُصِدَ مِنْهُ النَّوْعُ.
وخاشِعَةٌ، عامِلَةٌ، ناصِبَةٌ أَخْبَارٌ ثَلَاثَةٌ عَنْ وُجُوهٌ، وَالْمَعْنَى: أُنَاسٌ خَاشِعُونَ إِلَخْ.
فَالْوُجُوهُ كِنَايَةٌ عَنْ أَصْحَابِهَا، إِذْ يُكَنَّى بِالْوَجْهِ عَنِ الذَّاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرَّحْمَن: ٢٧]. وَقَرِينَةُ ذَلِكَ هُنَا قَوْلُهُ بَعْدَهُ: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ إِذْ جُعِلَ ضَمِيرُ الْوُجُوهِ جَمَاعَةَ الْعُقَلَاءِ.
وَأُوثِرَتِ الْوُجُوهُ بِالْكِنَايَةِ عَنْ أَصْحَابِهَا هُنَا وَفِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّ حَالَة الْوُجُوه تنبىء عَنْ حَالَةِ أَصْحَابِهَا إِذِ الْوَجْهُ عُنْوَانٌ عَمَّا يَجِدُهُ صَاحِبُهُ مِنْ نَعِيمٍ أَوْ شَقْوَةٍ كَمَا يُقَالُ:
خَرَجَ بِوَجْهٍ غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي دَخَلَ بِهِ.
وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ الْآيَةَ فِي سُورَةِ عَبَسَ [٣٨].
وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ إِسْنَادُ الْخُشُوعِ وَالْعَمَلِ وَالنَّصَبِ إِلَى وُجُوهٌ مِنْ قَبِيلِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، أَيْ أَصْحَابُ وُجُوهٍ.
وَيَتَعَلَّقُ يَوْمَئِذٍ بِ خاشِعَةٌ قُدِّمَ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَمَّا كَانَتْ (إِذْ) مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تَلْزَمُ الْإِضَافَةَ إِلَى جُمْلَةٍ فَالْجُمْلَةُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا (إِذْ)
الصفحة التالية