أَيْ إِذَا اسْتَبْدَلْتَ دَارًا بِأُخْرَى. وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِ أَبِي النَّجْمِ:
أَخَذْتُ بِالْجَمَّةِ رَأْسًا أَزْعَرًا | وَبِالطَّوِيلِ الْعُمر عمرا جيدار |
وَالْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ اشْتَرَوُا بِمَعْنى الْمُعَرّف بِلَامِ الْجِنْسِ فَيُفِيدُ التَّرْكِيبُ قَصْرَ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ بَلَغُوا الْغَايَةَ فِي اشْتِرَاءِ الضَّلَالَةِ وَالْحِرْصِ عَلَيْهَا إِذْ جَمَعُوا الْكُفْرَ وَالسَّفَهَ وَالْخِدَاعَ وَالْإِفْسَادَ وَالِاسْتِهْزَاءَ بِالْمُهْتَدِينَ.
فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ.
رَتَّبَتِ الْفَاءُ عَدَمَ الرِّبْحِ الْمَعْطُوفِ بِهَا وَعَدَمَ الِاهْتِدَاءِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ عَلَى اشْتِرَاءِ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى لِأَن كليهمَا ناشىء عَنِ الِاشْتِرَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْوُجُودِ وَالظُّهُورِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَقَدِ اشْتَرَوْا مَا لَا يَنْفَعُ وَبَذَلُوا مَا يَنْفَعُ فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونُوا خَاسِرِينَ وَأَنْ يَتَحَقَّقَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُهْتَدِينَ فَعَدَمُ الِاهْتِدَاءِ وَإِنْ كَانَ سَابِقًا عَلَى اشْتِرَاءِ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى أَوْ هُوَ عَيْنُهُ أَوْ هُوَ سَبَبُهُ إِلَّا أَنَّهُ لِكَوْنِهِ عَدَمًا فَظُهُورُهُ لِلنَّاسِ فِي الْوُجُودِ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ أَثَرِهِ وَهُوَ ذَلِكَ الِاشْتِرَاءُ، فَإِذَا ظَهَرَ أَثَرُهُ تَبَيَّنَ لِلنَّاسِ الْمُؤَثِّرُ فَلِذَلِكَ صَحَّ تَرْتِيبُهُ بِفَاءِ التَّرْتِيبِ فَأَشْبَهَ الْعِلَّةَ الْغَائِيَّةَ، وَلِهَذَا عَبَّرَ بِ مَا كانُوا مُهْتَدِينَ دُونَ مَا اهْتَدَوْا لِأَنَّ مَا كَانُوا أَبْلَغُ فِي النَّفْيِ لِإِشْعَارِهِ بِأَنَّ انْتِفَاءَ الِاهْتِدَاءِ عَنْهُمْ أَمْرٌ مُتَأَصِّلٌ سَابِقٌ قَدِيمٌ، لِأَنَّ كَانَ تَدُلُّ عَلَى اتِّصَافِ اسْمِهَا بِخَبَرِهَا مُنْذُ الْمُضِيِّ فَكَانَ نَفْيُ الْكَوْنِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي أَنْسَبَ بِهَذَا التَّفْرِيعِ.
وَالرِّبْحُ هُوَ نَجَاحُ التِّجَارَةِ وَمُصَادَفَةُ الرَّغْبَةِ فِي السِّلَعِ بِأَكْثَرَ مِنَ الْأَثْمَانِ الَّتِي اشْتَرَاهَا بِهَا التَّاجِرُ وَيُطْلَقُ الرِّبْحُ عَلَى الْمَالِ الْحَاصِلِ لِلتَّاجِرِ زَائِدًا عَلَى رَأْسِ مَالِهِ. وَالتِّجَارَةُ- بِكَسْرِ أَوَّلِهِ- عَلَى وَزْنِ فِعَالَةٍ وَهِي زنة الضائع وَمَعْنَى التِّجَارَةِ التَّصَدِّي لِاشْتِرَاءِ الْأَشْيَاءِ لِقَصْدِ بَيْعِهَا بِثَمَنٍُُ
لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً قَائِمَةً عَلَى الْحَقِّ وَمَا كَانَ اخْتِلَافُهُمْ لِسَبَبِ الْبَغْيِ وَالتَّحَاسُدِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا اهـ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِتَنْظِيرِ مَا لَقِيَهُ الْمُسْلِمُونَ بِمَا كَانَ فِي الْأُمَمِ الْغَابِرَةِ.
الثَّانِي: يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الطِّيبِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ [الْبَقَرَة: ٢١٤] أَخَذَ مِنْ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً تَشْجِيعُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ بِذِكْرِ مَا قَابَلَتْ بِهِ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ أَنْبِيَاءَهَا وَمَا لَقُوا فِيهَا مِنَ الشَّدَائِدِ اهـ فَالْمُنَاسَبَةُ عَلَى هَذَا فِي مَدْلُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ [الْبَقَرَة: ٢١٢] إِلَخْ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِلْمُنَاسَبَةِ.
وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ مَوْقِعَ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا جَامِعٌ لِمَوْقِعِ تَذْيِيلٍ لِمَا قَبْلَهَا وَمُقَدِّمَةٌ لِمَا بَعْدَهَا.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهَا أَفَادَتْ بَيَانَ حَالَةِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ كَيْفَ نَشَأَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي الْحق مِمَّا لأَجله تَدَارَكَهُمُ اللَّهُ بِبِعْثَاتِ الرُّسُلِ فِي الْعُصُورِ وَالْأَجْيَالِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا حِكْمَةُ اللَّهِ وَلُطْفُهُ مِمَّا يُمَاثِلُ الْحَالَةَ الَّتِي نَشَأَتْ فِيهَا الْبَعْثَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ وَمَا لَقِيَهُ الرَّسُولُ وَالْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهَا مُقَدِّمَةٌ لِمَا يَرِدُ بَعْدَهَا مِنْ ذِكْرِ اخْتِصَاصِ الْإِسْلَامِ بِالْهِدَايَةِ إِلَى الْحق الَّذِي اخْتلفت فِيهِ الْأُمَمُ وَهُوَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ إِلَى قَوْلِهِ: إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ كَوْنِ الْإِسْلَامِ مُهَيْمِنًا عَلَى مَا
سَبَقَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ وَتَفْضِيلِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَأَنَّ هَذِهِ الْمَزِيَّةَ الْعُظْمَى يَجِبُ الِاعْتِرَافُ بِهَا وَأَلَّا تَكُونَ مَثَارَ حَسَدٍ لِلنَّبِيءِ وَأُمَّتِهِ، رَدًّا عَلَى حَسَدِ الْمُشْرِكِينَ، إِذْ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى حَسَدِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ إِلَى قَوْلِهِ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ
[الْبَقَرَة: ١٤٢].
وَحَصَلَ مِنْ عُمُومِ ذَلِكَ تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِينَ تَارِيخَ أَطْوَارِ الدِّينِ بَيْنَ عُصُورِ الْبَشَرِ بِكَلِمَاتٍ جَامِعَةٍ خُتِمَتْ بِقَوْلِهِ: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِمْ أُمَّةً وَاحِدَةً الْوَحْدَةَ فِي الْخَيْرِ وَالْحَقِّ وَهُوَ الْمُخْتَارُ كَمَا سَيَأْتِي فَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فَبَعَثَ لَهُمْ أَنْبِيَاءَ مُتَفَرِّقِينَ لِقَصْدِ تَهْيِئَةِ النَّاسِ لِلدُّخُولِ فِي دِينٍ وَاحِدٍ عَامٍّ، فَالْمُنَاسَبَةُ حَاصِلَةٌ مَعَ جُمْلَةِ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [الْبَقَرَة: ٢٠٨] بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا خِطَابٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ أَيِ ادْخُلُوا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي هَدَى اللَّهُ بِهِ الْمُسْلِمِينَ.
وَفِي أَخْذِ الْعَهْدِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ زِيَادَةُ تَنْوِيهٍ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ ظَاهِرُ
الْآيَةِ، وَبِهِ فَسَّرَ مُحَقِّقُو الْمُفَسِّرِينَ من السّلف وَالْخلف مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْن عَبَّاس، وطاووس، وَالسُّدِّيُّ.
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنِ اسْتَبْعَدَ أَنْ يَكُونَ أَخْذُ الْعَهْدِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ حَقِيقَةً نَظَرًا إِلَى قَوْلِهِ:
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (تَوَهَّمُوهُ مُتَعَيِّنًا لِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَنْ تَوَلَّى مِنَ النَّبِيِّينَ الْمُخَاطَبِينَ، وَسَتَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ) فَتَأَوَّلُوا الْآيَةَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَخْذِ الْعَهْدِ عَلَى أُمَمِهِمْ، وَسَلَكُوا مَسَالِكَ مُخْتَلِفَةً مِنَ التَّأْوِيلِ فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ إِضَافَةَ الْمِيثَاقِ لِلنَّبِيِّينَ إِضَافَةً تُشْبِهُ إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ أَيْ أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْأُمَمِ مِيثَاقَ أَنْبِيَائِهِمْ مِنْهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَ حَذْفَ الْمُضَافِ أَي أُمَم النبيئين أَو أَوْلَاد النبيئين وَإِلَيْهِ مَالَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ، وَاحْتَجُّوا بِقِرَاءَةِ أُبَيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، هَذِهِ الْآيَةَ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَمَا آتَيْنَاكُمْ مِنْ كِتَابٍ، وَلَمْ يَقْرَأْ مِيثَاقَ النَّبِيئِينَ، وَزَادَ مُجَاهِدٌ فَقَالَ: إِنَّ قِرَاءَةَ أُبَيٍّ هِيَ الْقُرْآنُ، وَإِنَّ لَفْظَ النَّبِيئِينَ غَلَطٌ مِنَ الْكُتَّابِ، وَرَدَّهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالْأُمَّةِ عَلَى مُصْحَفِ عُثْمَانَ.
وَقَوْلُهُ: لَمَا آتَيْنَاكُمْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «لَمَا» بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ فَاللَّامُ مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ، لأنّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ وَمَا مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ وَآتَيْنَاكُمْ صِلَتُهُ وَحَذْفُ الْعَائِدِ الْمَنْصُوبِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ فِي مِثْلِهِ وَمِنْ كِتَابٍ بَيَانٌ لِلْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ، وَعُطِفَ ثُمَّ جاءَكُمْ عَلَى آتَيْنَاكُمْ أَيِ الَّذِي آتَيْنَاكُمُوهُ وَجَاءَكُمْ بَعْدَهُ رَسُولٌ. وَلَتُؤْمِنُنَّ اللَّامُ فِيهِ لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ وَالْجَوَابُ سَدَّ مَسَدَّ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ وَضَمِيرُ بِهِ عَائِد على الْمَذْكُور أَي لتؤمنّن بِمَا آتيناكم وبالرسول، أَو هُوَ عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ وَحُذِفَ مَا يَعُودُ عَلَى مَا آتَيْنَاكُمْ لِظُهُورِهِ.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ: بِكَسْرِ لَامِ لَمَا فَتَكُونُ اللَّام للتَّعْلِيل مُتَعَلق بِقَوْلِهِ: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ أَيْ شُكْرًا عَلَى مَا آتَيْتُكُمْ وَعَلَى أَنْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ رَسُولًا مُصَدِّقًا لِمَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ وَلَا يَضُرُّ عَمَلُ مَا بَعْدَ لَامِ الْقَسَمِ فِيمَا قَبْلَهَا فَأَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ مُطْلَقًا ثُمَّ عَلَّلَ جَوَابَ الْقَسَمِ بِأَنَّهُ مِنْ شُكْرِ نِعْمَةِ الْإِيتَاءِ وَالتَّصْدِيقِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى تَعْلِيق لَما آتَيْتُكُمْ بِفِعْلِ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ، لِأَنَّ الشُّكْرَ عِلَّةٌ لِلْجَوَابِ، لَا لَأَخْذِ الْعَهْدِ.
وَلَامُ لَتُؤْمِنُنَّ لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ، عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَمُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي.
لِأَنَّ قَوْلَهُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ وَصْفٌ وَالْأَصْلُ فِيهِ إِرَادَةُ التَّقْيِيدِ كَمَا أُرِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَعِيدَةً عَنْ حَضَانَتِهِ لَمْ تَحْرُمْ. وَنُسِبَ الْأَخْذُ بِهَذَا الظَّاهِرِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَوَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَنْكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّحَاوِيُّ صِحَّةَ سَنَدِ النَّقْلِ عَنْ عَلِيٍّ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّهُ نَقْلٌ بَاطِلٌ. وَجَزَمَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى بِصِحَّةِ نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ. وَقَالَ بِذَلِكَ الظَّاهِرِيَّةُ، وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَوْنِهَا رَبِيبَةً وَمَا حَدَثَ مِنَ الْوَقَارِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَاجِرِهَا إِذَا كَانَتْ فِي حِجْرِهِ وَأَمَّا جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ فَجَعَلُوا هَذَا الْوَصْفَ بَيَانًا لِلْوَاقِعِ خَارِجًا مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَجَعَلُوا الرَّبِيبَةَ حَرَامًا عَلَى زَوْجِ أُمِّهَا، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ هِيَ فِي حِجْرِهِ. وَكَأَنَّ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ هُوَ النَّظَرُ إِلَى عِلَّةِ تَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالصِّهْرِ، وَهِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا كَلَامُ الْفَخْرِ الْمُتَقَدِّمُ. وَعِنْدِي أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ هُنَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّعْلِيلِ: أَيْ لِأَنَّهُنَّ فِي حُجُورِكُمْ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ بِالْمَظِنَّةِ فَلَا يَقْتَضِي اطِّرَادَ الْعِلَّةِ فِي جَمِيعِ مَوَاقِعِ الْحُكْمِ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ذُكِرَ قَوْلُهُ: مِنْ نِسائِكُمُ لِيُبْنَى عَلَيْهِ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وَهُوَ قَيْدٌ فِي تَحْرِيمِ الرَّبَائِبِ بِحَيْثُ لَا تَحْرُمُ الرَّبِيبَةُ إِلَّا إِذَا وَقَعَ الْبِنَاءُ بِأُمِّهَا، وَلَا يُحَرِّمُهَا مُجَرَّدُ الْعَقْدِ عَلَى أُمِّهَا، وَهَذَا الْقَيْدُ جَرَى هُنَا وَلَمْ يَجْرِ عَلَى قَوْلِهِ:
وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ بَلْ أُطْلِقَ الْحُكْمُ هُنَاكَ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ هُنَاكَ: أُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ مَعْنَاهُ أُمَّهَاتُ أَزْوَاجِكُمْ، فَأُمُّ الزَّوْجَةِ تَحْرُمُ بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الرَّجُلِ عَلَى ابْنَتِهَا لِأَنَّ الْعَقْدَ يُصَيِّرُهَا امْرَأَتَهُ، وَلَا يَلْزَمُ الدُّخُولُ وَلَمْ يَحْمِلُوا الْمُطْلَقَ مِنْهُ عَلَى الْمُقَيَّدِ بَعْدَهُ، وَلَا جَعَلُوا الصِّفَةَ
رَاجِعَةً لِلْمُتَعَاطِفَاتِ لِأَنَّهَا جَرَتْ عَلَى مَوْصُوفٍ مُتَعَيِّنٍ تَعَلُّقُهُ بِأَحَدِ الْمُتَعَاطِفَاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
مِنْ نِسائِكُمُ الْمُتَعَلِّقُ بِقَوْلِهِ: وَرَبائِبُكُمُ وَلَا يَصْلُحُ تَعَلُّقُهُ بِ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَجَابِرٌ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ: لَا تَحْرُمُ أُمُّ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِ ابْنَتِهَا حَتَّى يَدْخُلَ بِابْنَتِهَا حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ مَحْمَلًا. وَلَمْ يَسْتَطِعِ الْجُمْهُورُ أَنْ
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى النَّفْسِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِاعْتِبَارِ دَلَالَةِ النَّكِرَةِ عَلَى الْعُمُومِ، أَيْ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُبْسَلُونَ الْعَادِمُونَ وَلِيًّا وَشَفِيعًا وَقَبُولَ فِدْيَتِهِمْ هُمُ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا، أَيْ ذَلِكَ هُوَ الْإِبْسَالُ الْحَقُّ لَا مَا تَعْرِفُونَهُ فِي جَرَائِرِكُمْ وَحُرُوبِكُمْ مِنَ الْإِبْسَالِ، كَإِبْسَالِ أَبْنَاءِ عَوْفِ بْنِ الْأَحْوَصِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا فِي شِعْرِهِ، فَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ [التَّغَابُنِ: ٩].
وَجُمْلَةُ لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ بَيَانٌ لِمَعْنَى الْإِبْسَالِ أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ مَعْنَى الْإِبْسَالِ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ.
وَالْحَمِيمُ: الْمَاءُ الشَّدِيدُ الْحَرَارَةِ، وَمِنْهُ الْحَمَّةُ- بِفَتْحِ الْحَاءِ- الْعَيْنُ الْجَارِيَةُ بِالْمَاءِ الْحَارِّ الَّذِي يُسْتَشْفَى بِهِ مِنْ أَوْجَاعِ الْأَعْضَاءِ وَالدُّمَّلِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَثَلُ الْعَالِمِ مَثَلُ الْحَمَّةِ يَأْتِيهَا الْبُعَدَاءُ وَيَتْرُكُهَا الْقُرَبَاءُ».
وَخُصَّ الشَّرَابُ مِنَ الْحَمِيمِ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ الْمَذْكُورِ مِنْ بُعْدٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ يَعْطَشُونَ فَلَا يَشْرَبُونَ إِلَّا مَاءً يَزِيدُهُمْ حَرَارَةً عَلَى حَرَارَةِ الْعَطَشِ.
وَالْبَاءُ فِي بِما كانُوا يَكْفُرُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ.
وَزِيدَ فِعْلُ (كَانَ) لِيَدُلَّ عَلَى تَمَكُّنِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَيْهِ لِأَنَّ فِعْلَ مَادَّةِ الْكَوْنِ تَدُلُّ عَلَى الْوُجُودِ، فَالْإِخْبَارُ بِهِ عَنْ شَيْءٍ مُخْبَرٍ عَنْهُ بِغَيْرِهِ أَوْ مَوْصُوفٍ بِغَيْرِهِ لَا يُفِيدُ فَائِدَةَ الْأَوْصَافِ سِوَى أَنَّهُ أَفَادَ الْوُجُودَ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّمَكُّنِ.
[٧١]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٧١]
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١)
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ.
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِتَأْيِيسِ الْمُشْرِكِينَ مِنِ ارْتِدَادِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الدِّينِ، فَقَدْ كَانَ
الْمُشْرِكُونَ يُحَاوِلُونَ ارْتِدَادَ بَعْضِ قَرَابَتِهِمْ أَوْ مَنْ لَهُمْ بِهِ صِلَةٌ. كَمَا وَرَدَ فِي خَبَرِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَمَا لَقِيَ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَقَدْ رُوِيَ أنّ عبد الرحمان بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ دَعَا أَبَاهُ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ
عَلَيْكُمْ لَا لَكُمْ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَجِيءُ بِمَعْنَى الظُّهُورِ: مِثْلِ وَجاءَ رَبُّكَ [الْفجْر: ٢٢] وَمِثْلِ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [الْإِسْرَاء: ٨١] وَلَا يَكُونُ فِي الْكَلَامِ تَهَكُّمٌ.
وَصِيغَ تَسْتَفْتِحُوا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ مَضَى لِقَصْدِ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ مِنْ تَكْرِيرِهِمُ الدُّعَاءَ بِالنَّصْرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبِذَلِكَ تَظْهَرُ مُنَاسِبَةُ عَطْفِ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ تَنْتَهُوا عَنْ كُفْرِكُمْ بَعْدَ ظُهُورِ الْحَقِّ فِي جَانِبِ الْمُسْلِمِينَ.
وَعُطِفَ الْوَعِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ أَيْ: إِنْ تَعُودُوا إِلَى الْعِنَادِ وَالْقِتَالِ نَعُدْ، أَيْ نَعُدْ إِلَى هَزْمِكُمْ كَمَا فَعَلْنَا بِكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
ثُمَّ أَيْأَسَهُمْ مِنَ الِانْتِصَارِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كُلِّهِ بِقَوْلِهِ: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ أَيْ لَا تَنْفَعُكُمْ جَمَاعَتُكُمْ عَلَى كَثْرَتِهَا كَمَا لَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ وَاثِقِينَ بِالنَّصْرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ جُمْلَةَ: إِنْ تَعُودُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الْجَزَاءِ وَهِيَ: فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ.
ولَوْ اتِّصَالِيَّةٌ أَيْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَلَوْ كَانَتْ فِي حَالِ كَثْرَةٍ عَلَى فِئَةِ أَعْدَائِكُمْ، وَصَاحِبُ الْحَال المقترنة ب (لَو) الِاتِّصَالِيَّةِ قَدْ يَكُونُ مُتَّصِفًا بِمَضْمُونِهَا، وَقَدْ يَكُونُ مُتَّصِفًا بِنَقِيضِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَوْدِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُودُوا الْعَوْدَ إِلَى طَلَبِ النَّصْرِ لِلْمُحِقِّ فَالْمَعْنَى وَاضِحٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعَوْدَ إِلَى مُحَارَبَةِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ يُشْكِلُ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ انْتَصَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَعْنَى نَعُدْ وَلَا مَوْقِعَ لِجُمْلَةِ: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ فَإِنَّ فِئَتَهُمْ أَغْنَتْ عَنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ.
وَالْجَوَابُ عَن هَذَا إِشْكَال أَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَكُنْ بِأَدَاةِ شَرْطٍ مِمَّا يُفِيدُ الْعُمُومَ مِثْلَ (مَهْمَا) فَلَا يُبْطِلُهُ تَخَلُّفُ حُصُولِ مَضْمُونِ الْجَزَاءِ عَنْ حُصُولِ الشَّرْطِ فِي مَرَّةٍ، أَوْ نَقُولُ إِنَّ اللَّهَ قَضَى لِلْمُسْلِمِينَ بِالنَّصْرِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَنَصَرَهُمْ وَعَلِمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُمْ قَدْ غُلِبُوا ثُمَّ دَارَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْتَثِلُوا لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَرِحُوا عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَبْرَحُوا عَنْهُ طَلَبًا لِلْغَنِيمَةِ فَعُوقِبُوا بِالْهَزِيمَةِ كَمَا قَالَ: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمرَان: ١٦٦]- وَقَالَ- إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ
الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا. وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ آلِ
يَنْتَظِرُ مِنْ ذَلِكَ ضِدَّ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ، فَالْمَعِيَّةُ فِي أَصْلِ الِانْتِظَارِ لَا فِي الْحَاصِل بالانتظار. و (مَعَ) حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ. ومِنَ الْمُنْتَظِرِينَ خَبَرُ (إِنَّ) وَمُفَادُهُ مُفَادُ (مَعَ) إِذْ مَا صدق الْمُنْتَظِرِينَ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ الْمُنْتَظِرُونَ.
وثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا لِأَنَّ مِثْلَ تِلْكَ الْأَيَّامِ يَوْمُ عَذَابٍ. وَلَمَّا كَانُوا مُهَدَّدِينَ بِعَذَابٍ يَحُلُّ بِمَوْضِعٍ فِيهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ عَجَّلَ اللَّهُ الْبِشَارَةَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ يُنَجِّيهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ بِقُدْرَتِهِ كَمَا أَنْجَى الرُّسُلَ مِنْ قَبْلِهِ.
وَجُمْلَةُ: كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ تَذْيِيلٌ. وَالْإِشَارَةُ بِ كَذلِكَ إِلَى
الْإِنْجَاءِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ ثُمَّ نُنَجِّي.
وحَقًّا عَلَيْنا جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ بُدِّلَ مِنَ الْفِعْلِ، أَيْ حَقَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا حَقًّا.
وَجَعَلَهُ اللَّهُ حَقًّا عَلَيْهِ تَحْقِيقًا لِلتَّفَضُّلِ بِهِ وَالْكَرَامَةِ حَتَّى صَارَ كَالْحَقِّ عَلَيْهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ بِفَتْحِ النُّونِ الثَّانِيَةِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ عَلَى وِزَانِ نُنَجِّي رُسُلَنا. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ بِسُكُونِ النُّونِ الثَّانِيَةِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ مِنَ الْإِنْجَاءِ. فَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَظِيرِهِ الَّذِي قَبْلَهُ تَفَنُّنٌ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.
وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ بِدُونِ يَاءٍ بَعْدَ الْجِيمِ عَلَى صُورَةِ النُّطْق بهَا للاتقاء الساكنين.
وَ (ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي عَطْفِهَا الْجُمَلَ. وَذَلِكَ أَنَّ مَضْمُون هَذِه الجلة الْمَعْطُوفَةِ أَعْظَمُ رُتْبَةً مِنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، إِذْ لَا أَعْظَمَ مِنْ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ
تَعَالَى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [سُورَة آل عمرَان: ١٥].
وَالْمُرَادُ بِ «الَّذِينَ هَاجَرُوا» الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الْحَبَشَةِ الَّذِينَ أَذِنَ لَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهِجْرَةِ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ. وَلَا يَسْتَقِيمُ معنى الْهِجْرَة هُنَا إِلَّا لِهَذِهِ الْهِجْرَةِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: «فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُصِيبُ أَصْحَابَهُ مِنَ الْبَلَاءِ وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْعَافِيَةِ بِمَكَانِهِ مِنَ اللَّهِ وَمِنْ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ، قَالَ لَهُمْ: لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ وَفِرَارًا بِدِينِهِمُ»
اه.
فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا ذَكَرَ الَّذِينَ آمَنُوا وَصَبَرُوا عَلَى الْأَذَى وَعَذَرَ الَّذِينَ اتَّقَوْا عَذَابَ الْفِتْنَةِ بِأَنْ قَالُوا كَلَامَ الْكُفْرِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَكِنَّ قُلُوبَهُمْ مُطَمْئِنَّةٌ بِالْإِيمَانِ ذَكَرَ فَرِيقًا آخَرَ فَازُوا بِفِرَارٍ مِنَ الْفِتْنَةِ، لِئَلَّا يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ بُعْدَهُمْ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الشدّة يوهن جَامِعَة الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَوْفَى ذِكْرَ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهَا. وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى حَظِّهِمْ مِنَ الْفَضْلِ بِقَوْلِهِ: هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا، فَسَمَّى عَمَلَهُمْ هِجْرَةً.
وَهَذَا الِاسْمُ فِي مُصْطَلَحِ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ لِأَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الدِّينِ، كَمَا حُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي [سُورَة العنكبوت:
٢٦]. وَقَالَ فِي الْأَنْصَارِ «يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ»، أَيِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ فَارَقُوا مَكَّةَ.
وَسَمَّى مَا لَقَوْهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِتْنَةً. وَالْفِتْنَةُ: الْعَذَابُ وَالْأَذَى الشَّدِيدُ الْمُتَكَرِّرُ الَّذِي لَا يَتْرُكُ لِمَنْ يَقَعُ بِهِ صَبْرًا وَلَا رَأْيًا، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ هُمْ عَلَى
التَّصَدِّي لِمُجَارَاتِهِمْ فِي السُّؤَالِ عَمَّا هُوَ خَارِجٌ عَنْ غَرَضِ الرِّسَالَةِ دُونَ إِذْنٍ مِنَ اللَّهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَذْكُرَ نَهْيَ رَبِّهِ. وَيَعْزِمَ عَلَى تَدْرِيبِ نَفْسِهِ عَلَى إِمْسَاكِ الْوَعْدِ بِبَيَانِ مَا يُسْأَلُ مِنْهُ بَيَانُهُ دُونَ أَنْ يَأْذَنَهُ اللَّهُ بِهِ، أَمَرَهُ هُنَا أَنْ يُخْبِرَ سَائِلِيهِ بِأَنَّهُ مَا بُعِثَ لِلِاشْتِغَالِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَرْجُو أَنَّ اللَّهَ يَهْدِيهِ إِلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الرُّشْدِ مِنْ بَيَانِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ تَشْتَمِلُ عَلَى مَوْعِظَةٍ وَهُدًى وَلَكِنَّ الْهُدَى الَّذِي فِي بَيَانُ الشَّرِيعَةِ أَعْظَمُ وَأَهَمُّ. وَالْمَعْنَى: وَقُلْ لَهُمْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا.
فجُمْلَةُ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي إِلَخْ... مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ، أَيِ اذْكُرْ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَقُلْ فِي نَفْسِكَ: عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا، أَيِ ادْعُ اللَّهَ بِهَذَا.
وَانْتَصَبَ رَشَداً عَلَى تَمْيِيزِ نِسْبَةِ التَّفْضِيلِ مِنْ قَوْلِهِ: لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُبَيِّنٌ لِنَوْعِ فعل أَنْ يَهْدِيَنِ لِأَنَّ الرُّشْدَ نَوْعٌ مِنَ الْهِدَايَةِ.
فَ عَسى مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الرَّجَاءِ تَأَدُّبًا، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ بِقَرِينَةِ وُقُوعِ هَذَا الْكَلَامِ مُعْتَرِضًا فِي أَثْنَائِهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَارْجُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَهْدِيَكَ فَيُذَكِّرَكَ أَنْ لَا تَعِدَ وَعْدًا بِبَيَانِ شَيْءٍ دُونَ إِذْنِ اللَّهِ.
وَالرَّشَدُ- بِفَتْحَتَيْنِ-: الْهُدَى وَالْخَيْرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً [الْكَهْف: ١٠].
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ- بِكَسْرِ اللَّامِ- مُضَارِعُ أَخْلَفَ وَهَمْزَتُهُ لِلْوِجْدَانِ. يُقَالُ: أَخْلَفَ الْوَعْدَ إِذَا وَجَدَهُ مُخْلَفًا، وَإِمَّا عَلَى جَعْلِ السَّامِرِيِّ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ إِخْلَافُ الْوَعْدِ وَأَنَّهُ لَا يُخْلِفُهُ، وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّهَكُّمِ تَبَعًا لِلتَّهَكُّمِ الَّذِي أَفَادَهُ لَامُ الْمِلْكِ.
وَبَعْدَ أَنْ أَوْعَدَ مُوسَى السَّامِرِيَّ بَيَّنَ لَهُ وَلِلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ضَلَالَهُمْ بِعِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الإلهيّة لأنّه معرّض لِلِامْتِهَانِ وَالْعَجْزِ، فَقَالَ: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً. فَجُعِلَ الِاسْتِدْلَالُ بِالنَّظَرِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ دَلِيلٌ بَيِّنٌ لَا يَحْتَاجُ الْمُسْتَدِلُّ بِهِ إِلَى أَكْثَرَ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ فَإِنَّ دَلَالَةَ الْمَحْسُوسَاتِ أَوْضَحُ مِنْ دَلَالَةِ الْمَعْقُولَاتِ.
وَأَضَافَ الْإِلَهَ إِلَى ضَمِيرِ السَّامِرِيِّ تَهَكُّمًا بِالسَّامِرِيِّ وَتَحْقِيرًا لَهُ، وَوَصَفَ ذَلِكَ الْإِلَهَ الْمَزْعُومَ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الصِّلَةُ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى الضَّلَالِ وَالْخَطَأِ، أَيِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْكَفَ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ ظَلْتَ- بِفَتْحِ الظَّاءِ- فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ، وَأَصْلُهُ: ظَلَلْتَ: حُذِفَتْ مِنْهُ اللَّامُ الْأُولَى تَخْفِيفًا مِنْ تَوَالِي اللَّامَيْنِ وَهُوَ حَذْفٌ نَادِرٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَعِنْدَ غَيْرِهِ هُوَ قِيَاسٌ.
وَفِعْلُ (ظَلَّ) مِنْ أَخَوَاتِ (كَانَ). وَأَصْلُهُ الدَّلَالَةُ عَلَى اتِّصَافِ اسْمِهِ بِخَبَرِهِ فِي وَقْتِ النَّهَارِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي مَعْنَى (دَامَ) بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ غَالِبَ الْأَعْمَالِ يَكُونُ فِي النَّهَارِ.
وَالْعُكُوفُ: مُلَازَمَةُ الْعِبَادَةِ وَتَقَدَّمَ آنِفًا. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ عاكِفاً لِلتَّخْصِيصِ، أَيِ الَّذِي اخْتَرْتَهُ لِلْعِبَادَةِ دُونَ غَيْرِهِ، أَيْ دُونَ اللَّهِ تَعَالَى.
بِالْبَيَانِ الْوَاضِحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ
الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ
[الْأَعْرَاف: ٢٧] وَقَوْلِهِ: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: ٦]. فَاللَّهُ بِهَدْيِهِ وَبَيَانِهِ يَنْسَخُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ، أَيْ يُزِيلُ الشُّبُهَاتِ الَّتِي يُلْقِيهَا الشَّيْطَانُ بِبَيَانِ اللَّهِ الْوَاضِحِ، وَيَزِيدُ آيَاتِ دَعْوَةِ رُسُلِهِ بَيَانًا، وَذَلِكَ هُوَ إِحْكَامُ آيَاتِهِ، أَيْ تَحْقِيقُهَا وَتَثْبِيتُ مَدْلُولِهَا وَتَوْضِيحُهَا بِمَا لَا شُبْهَةَ بَعْدَهُ إِلَّا لِمَنْ رِينَ عَلَى قَلْبِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ فِي آلِ عِمْرَانَ.
وَقَدْ فَسَّرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ تَمَنَّى بِمَعْنَى قَرَأَ، وَتَبِعَهُمْ أَصْحَابُ كُتُبِ اللُّغَةِ وَذَكَرُوا بَيْتًا نَسَبُوهُ إِلَى حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَذَكَرُوا قِصَّةً بِرِوَايَاتٍ ضَعِيفَةٍ سَنَذْكُرُهَا. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْقَوْلُ فِيهِ هُوَ وَالْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ التَّمَنِّي بِالْمَعْنَى الْمَشْهُورِ سَوَاءٌ، أَيْ إِذَا قَرَأَ عَلَى النَّاسِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ لِيَهْتَدُوا بِهِ أَلَقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ، أَيْ فِي قِرَاءَتِهِ، أَيْ وَسْوَسَ لَهُمْ فِي نُفُوسِهِمْ مَا يُنَاقِضُهُ وَيُنَافِيهِ بِوَسْوَسَتِهِ لِلنَّاسِ التَّكْذِيبَ وَالْإِعْرَاضَ عَنِ التَّدَبُّرِ. فَشِبْهُ تَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ بِوَسْوَسَتِهِ لِلْكَافِرِينَ عَدَمُ امْتِثَالِ النَّبِيءِ بِإِلْقَاءِ شَيْء فِي شَيْءٍ لِخَلْطِهِ وَإِفْسَادِهِ.
وَعِنْدِي فِي صِحَّةِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْأُمْنِيَّةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ شَكٌّ عَظِيمٌ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ تَمَنَّى بِمَعْنَى قَرَأَ فِي بَيْتٍ نُسِبَ إِلَى حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ إِنْ صَحَّتْ رِوَايَةُ الْبَيْتِ عَنْ حَسَّانَ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي مِصْرَاعِهِ الْأَخِيرِ:
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ | تَمَنِّي دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى مَهَل |
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ النَّبِيءِ إِذَا تَمَنَّى هَدْيَ قَوْمِهِ أَوْ حَرَصَ عَلَى ذَلِك فلقي مِنْهُم الْعِنَادَ، وَتَمَنَّى حُصُولَ هُدَاهُمْ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي نَفْسِ النَّبِيءِ خَاطِرَ الْيَأْسِ مَنْ هُدَاهُمْ عَسَى أَنْ يُقْصِرَ النَّبِيءَِِِِِِ
يَحِلُّ لَهَا ترك جلبابها، فيؤول الْمَعْنَى، إِلَى أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ، وَيَكُونُ تَأْكِيدًا لِمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النُّور: ٣١] أَيْ كَوْنُهُنَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ لَا يَقْتَضِي التَّرْخِيصَ لَهُنَّ إِلَّا فِي وَضْعِ ثِيَابِهِنَّ وَضْعًا مُجَرَّدًا عَنْ قَصْدِ تَرْغِيبٍ فِيهِنَّ.
وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ التَّذْيِيلِ لِلتَّحْذِيرِ مِنَ التَّوَسُّعِ فِي الرُّخْصَةِ أَوْ جَعْلِهَا ذَرِيعَةً لِمَا لَا يُحْمَدُ شَرْعًا، فَوَصْفُ «السَّمِيعِ» تَذْكِيرٌ بِأَنَّهُ يَسْمَعُ مَا تُحَدِّثُهُنَّ بِهِ أَنْفُسُهُنَّ مِنَ الْمَقَاصِدِ، وَوَصْفُ «الْعَلِيمِ» تَذْكِيرٌ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَحْوَالَ وَضْعِهِنَّ الثِّيَابَ وَتَبَرُّجِهِنَّ وَنَحْوِهَا.
[٦١]
[سُورَة النُّور (٢٤) : آيَة ٦١]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ.
اخْتُلِفَ فِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ إِلَخْ مُنْفَصِلٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ وَأَنَّهُ فِي غَرَضٍ غَيْرِ غَرَضِ الْأَكْلِ فِي الْبُيُوتِ، أَيْ فَيَكُونُ مِنْ تَمام آيَة الاستيذان، أَو هُوَ مُتَّصِلٌ بِمَا بَعْدَهُ فِي غَرَضٍ وَاحِدٍ.
فَقَالَ بِالْأَوَّلِ الْحَسَنُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَهُوَ مُخْتَارٌ الْجِبَائِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَأَبِي حَيَّانَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ. وَهُوَ الَّذِي نَخْتَارُهُ تَفَادِيًا مِنَ التَّكَلُّفِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُخَالِفُوهُمْ لِبَيَانِ اتِّصَالِهِ بِمَا بَعْدَهُ فِي بَيَانِ وَجْهِ الرُّخْصَةِ لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ الْأَصْنَافِ فِي الطَّعَامِ فِي الْبُيُوتِ الْمَذْكُورَةِ، وَلِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ إِلَى آخِرِ الْمَعْدُودَاتِ لَا يَظْهَرُ اتِّصَالُهُ بِالْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَالْمَرِيضِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ نَفْيًا لِلْحَرَجِ عَنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ فِيمَا تَجُرُّهُ ضِرَارَتُهُمْ إِلَيْهِمْ مِنَ الْحَرَجِ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَالْحَرَجُ مَرْفُوعٌ عَنْهُمْ فِي كُلِّ مَا تَضْطَرُّهُمْ إِلَيْهِ أَعْذَارُهُمْ، فَتَقْتَضِي نِيَّتُهُمْ الْإِتْيَانَ فِيهِ بِالْإِكْمَالِ وَيَقْتَضِي الْعُذْرُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ.
فَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ عَنِ الْأَعْمَى فِي التَّكْلِيفِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ الْبَصَرُ، وَعَنِ الْأَعْرَجِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْمَشْيُ وَالرُّكُوبُ، وَعَنِ الْمَرِيضِ فِي التَّكْلِيفِ
وَرُتِّبَ عَلَى انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ أَنَّ اللَّهَ أَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ.
وَالْإِحْبَاطُ: جَعْلُ شَيْءٍ حَابِطًا، فَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلْجَعْلِ مِثْلَ الْإِذْهَابِ. وَالْحَبْطُ حَقِيقَتُهُ:
أَنَّهُ فَسَادُ مَا يُرَادُ بِهِ الصَّلَاحُ وَالنَّفْعُ. وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى إِفْسَادِ مَا كَانَ نَافِعًا أَوْ عَلَى كَوْنِ الشَّيْءِ فَاسِدًا وَيُظَنُّ أَنَّهُ يَنْفَعُ يُقَالُ: حَبِطَ حَقُّ فُلَانٍ، إِذَا بَطَلَ. وَالْإِطْلَاقُ الْمَجَازِيُّ وَرَدَ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ. وَفِعْلُهُ مِنْ بَابَيْ سَمِعَ وَضَرَبَ. وَمَصْدَرُهُ: الْحَبْطُ، وَاسْمُ الْمَصْدَرِ:
الْحُبُوطُ. وَيُقَالُ: أَحْبَطَ فُلَانٌ الشَّيْءَ، إِذَا أَبْطَلَهُ، وَمِنْهُ إِحْبَاطُ دَمِ الْقَتِيلِ، أَيْ: إِبْطَالُ حَقِّ الْقَوَدِ بِهِ. فَإِحْبَاطُ الْأَعْمَالِ: إِبْطَالُ الِاعْتِدَادِ بِالْأَعْمَالِ الْمَقْصُودِ بِهَا الْقُرْبَةُ وَالْمَظْنُونِ بِهَا أَنَّهَا أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ لِمَانِعٍ مَنَعَ مِنَ الِاعْتِدَادِ بِهَا فِي الدِّينِ.
وَقَدْ صَارَ لَفْظُ الْحَبْطِ وَالْحُبُوطِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ، فَأُطْلِقَ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِسَبَبِ الرِّدَّةِ، أَيِ: الرُّجُوعِ إِلَى الْكُفْرِ، أَوْ بِسَبَبِ زِيَادَةِ السَّيِّئَاتِ عَلَى الْحَسَنَاتِ بِحَيْثُ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الْأَعْمَالِ الْعَذَابَ بِسَبَبِ زِيَادَةِ سَيِّئَاتِهِ عَلَى حَسَنَاتِهِ بِحَسَبِ مَا قَدَّرَ اللَّهُ لِذَلِكَ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ عُدَّتْ مَسْأَلَةُ الْحُبُوطِ مَعَ الْمَسَائِلِ الْكَلَامِيَّةِ، أَوْ بِحَيْثُ يُنْظُرُ فِي انْتِفَاعِهِ بِمَا فَعَلَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ عَلَيْهِ إِذَا ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ كَمَنْ حَجَّ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ تُعَدُّ مَسْأَلَةُ الْحُبُوطِ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ:
الرِّدَّةُ تُحْبِطُ الْأَعْمَالَ بِمُجَرَّدِ حُصُولِهَا فَإِذَا عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَكَانَ قَدْ حَجَّ مَثَلًا قَبْلَ رِدَّتِهِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْحَجِّ تَمَسُّكًا بِإِطْلَاقِ هَذِهِ الْآيَةِ إِذْ نَاطَتِ الْحُبُوطَ بِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ، وَلَمْ يَرَيَا أَنَّ هَذَا مِمَّا يُحْمَلُ فِيهِ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ احْتِيَاطًا لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ رَاجِعٌ إِلَى الِاعْتِقَادَاتِ وَلَا يَكْفِي فِيهَا الظَّنُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ رَجَعَتْ إِلَيْهِ أَعْمَالُهُ
الصَّالِحَةُ الَّتِي عَمِلَهَا قَبْلَ الرِّدَّةِ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٧] حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ فِي آيَةِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ وَنَحْوِهَا عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ تَغْلِيبًا لِلْجَانِبِ الْفُرُوعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْجَانِبِ الِاعْتِقَادِيِّ.
دَعَا بِهِ فِي قَادِشَ الْمَذْكُورِ فِي الْإِصْحَاحِ التَّاسِعِ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ، وَوَصِيَّتِهِ فِي عَبْرِ الْأُرْدُنِ الَّتِي فِي الْإِصْحَاحِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ السِّفْرِ الْمَذْكُورِ، وَمِثْلَ نَشِيدِهِ الْوَعْظِيِّ الَّذِي نَطَقَ بِهِ وَأَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِحِفْظِهِ وَالتَّرَنُّمِ بِهِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ مِنْهُ، وَمِثْلَ الدُّعَاءِ الَّذِي بَارَكَ بِهِ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ فِي عَرَبَاتِ مُؤَابَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّالِثِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْهُ.
وَزَبُورُ عِيسَى أَقْوَالُهُ الْمَأْثُورَةُ فِي الْأَنَاجِيلِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَنْسُوبًا إِلَى الْوَحْيِ.
فَالضَّمِيرُ فِي «جَاءُوا» لِلرُّسُلِ وَهُوَ عَلَى التَّوْزِيعِ، أَيْ جَاءَ مَجْمُوعُهُمْ بِهَذِهِ الْأَصْنَافِ مِنَ الْآيَاتِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَجِيءَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْهُمْ بِجَمِيعِهَا كَمَا يُقَالُ بَنُو فُلَانٍ قَتَلُوا فُلَانًا.
وَجَوَابُ إِنْ يُكَذِّبُوكَ مَحْذُوفٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ عِلَّتُهُ وَهِيَ قَوْلُهُ: فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ
قَبْلِكَ
[فاطر: ٤]. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَلَا تَحْزَنْ، وَلَا تَحْسَبْهُمْ مُفْلِتِينَ مِنَ الْعِقَابِ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قَدْ كَذَّبَ الْأَقْوَامُ الَّذِينَ جَاءَتْهُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ وَقَدْ عَاقَبْنَاهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ.
فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَاءٌ فَصِيحَةٌ أَوْ تَفْرِيعٌ عَلَى الْمَحْذُوفِ.
وَجُمْلَةُ جاءَتْهُمْ صِلَةُ الَّذِينَ، ومِنْ قَبْلِهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ مُقَدَّمٍ عَلَيْهِ أَوْ مُتَعَلِّقٍ بِ جاءَتْهُمْ.
وثُمَّ عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ أَخَذْتُ عَلَى جُمْلَةِ جاءَتْهُمْ أَيْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ، وَأُظْهِرَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مَوْضِعِ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ أَخْذَهُمْ لِأَجْلِ مَا تَضَمَّنَتْهُ صِلَةُ الْمَوْصُولِ مِنْ أَنَّهُمْ كَفَرُوا.
وَالْأَخْذُ مُسْتَعَارٌ لِلِاسْتِئْصَالِ وَالْإِفْنَاءِ شُبِّهَ إِهْلَاكُهُمْ جَزَاءً عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِإِتْلَافِ الْمُغِيرِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ يَقْتُلُونَهُمْ وَيَغْنَمُونَ أَمْوَالَهُمْ فَتَبْقَى دِيَارُهُمْ بَلْقَعًا كَأَنَّهُمْ أُخِذُوا مِنْهَا.
وَ (كَيْفَ) اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ وَهُوَ مُفَرَّعٌ بِالْفَاءِ عَلَى أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَالْمَعْنَى: أَخَذْتُهُمْ أَخْذًا عَجِيبًا كَيْفَ تَرَوْنَ أُعْجُوبَتَهُ.
(أَنَّ) الْمَفْتُوحَة الْهمزَة و (مَا) الْكَافَّةِ وَلَيْسَتْ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةَ الْهَمْزَةِ إِلَّا (إِنَّ) الْمَكْسُورَةَ تُغَيَّرُ كَسْرَةُ هَمْزَتِهَا
إِلَى فَتْحَةٍ لِتُفِيدَ مَعْنًى مَصْدَرِيًّا مُشْرَبًا بِ (أَنِ) الْمَصْدَرِيَّةِ إِشْرَابًا بَدِيعًا جُعِلَ شِعَارُهُ فَتْحَ هَمْزَتِهَا لِتُشَابِهَ (أَنِ) الْمَصْدَرِيَّةَ فِي فَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتُشَابِهَ (إِنَّ) فِي تَشْدِيدِ النُّونِ، وَهَذَا مِنْ دَقِيقِ الْوَضْعِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَتَكُونُ أَنَّما مَفْتُوحَةَ الْهَمْزَةِ إِذَا جُعِلَتْ مَعْمُولَةً لِعَامِلٍ فِي الْكَلَامِ.
وَالَّذِي يَقْتَضِيهُ مَقَامُ الْكَلَامِ هُنَا أَنَّ فَتْحَ هَمْزَةِ أَنَّما لِأَجْلِ لَامِ تَعْلِيلٍ مَقْدِرَةٍ مَجْرُورٍ بِهَا أَنَّما. وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا لِأَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ، أَيْ إِلَّا لِعِلَّةِ الْإِنْذَارِ، أَيْ مَا أُوحِيَ إِلَيَّ نَبَأُ الْمَلَأِ الْأَعْلَى إِلَّا لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ، أَيْ لَيْسَ لِمُجَرَّدِ الْقَصَصِ.
فَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عِلَلٍ، وَقَدْ نُزِّلَ فِعْلُ يُوحى مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيْ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَحْيٌ فَلَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ لِقِلَّةِ جَدْوَاهُ وَإِيثَارِ جَدْوَى تَعْلِيلِ الْوَحْيِ.
وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ تَكْمُلُ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ مَوْقِعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَمَوْقِعِ جُمْلَةِ مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ الْمُبَيَّنَةِ بِهَا جُمْلَةُ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ، إِذْ لَا مُنَاسَبَةَ لَوْ جُعِلَ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ مُسْتَثْنًى مِنْ نَائِبِ فَاعِلِ الْوَحْيِ بِأَنْ يُقَدَّرَ: إِنْ يُوحَى إِلَيَّ شَيْءٌ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَيْ مَا يُوحَى إِلَيَّ شَيْءٌ إِلَّا كَوْنِي نَذِيرًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ التَّقْدِيرُ قَدْ يَسْبِقُ إِلَى الْوَهْمِ لَكِنَّهُ بِالتَّأَمُّلِ يَتَّضِحُ رُجْحَانُ تَقْدِيرِ الْعِلَّةِ عَلَيْهِ.
فَأَفَادَتْ جُمْلَةُ إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ حَصْرَ حِكْمَةِ مَا يَأْتِيهُ مِنَ الْوَحْيِ فِي حُصُولِ الْإِنْذَارِ وَحَصْرَ صفة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ النِّذَارَةِ، وَيَسْتَلْزِمُ هَذَانِ الْحَصْرَانِ حَصْرًا ثَالثًا، وَهُوَ أَنَّ إِخْبَار الْقُرْآن وَحي مِنَ اللَّهِ وَلَيْسَتْ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ كَمَا زَعَمُوا.
فَحَصَلَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ ثَلَاثَةُ حُصُورٍ: اثْنَانِ مِنْهَا بِصَرِيحِ اللَّفْظِ، وَالثَّالثُ بِكِنَايَةِ الْكَلَامِ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ [الْقَصَص: ٤٦]. وَهَذِهِ الْحُصُورُ: اثْنَانِ مِنْهَا إِضَافِيَّانِ، وَهُمَا قَصَرُ مَا يُوحَى إِلَيْهِ عَلَى عِلَّةِ النِّذَارَةِ وَقصر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صِفَةِ النِّذَارَةِ، وَكِلَاهُمَا قَلْبٌ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ لِيَتَّخِذُوهُ لَعِبًا
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [فصلت: ١٢]، فَإِنَّ الشَّمْسَ إِحْدَى السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالْقَمَرَ تَابِعٌ لِلشَّمْسِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَدُلُّ عَلَى بَعْضِ أَحْوَالِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مِثْلَ طُلُوعٍ أَوْ غُرُوبٍ أَوْ فَلَكٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لِيَكُونَ صَالِحًا لِلِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِهِمَا وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ، وَلِخَلْقِهِمَا تَأْكِيدٌ لِمَا اسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ:
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ تَوْفِيرًا لِلْمَعَانِي.
وَلَمَّا جَرَى الِاعْتِبَارُ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَكَانَ فِي النَّاسِ أَقْوَامٌ عَبَدُوا الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَهُمُ الصَّابِئَةُ وَمَنْبَعُهُمْ مِنَ الْعِرَاقِ مِنْ زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ قَصَّ اللَّهُ خَبَرَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧٦] فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هَذَا رَبِّي الْآيَاتِ، ثُمَّ ظَهَرَ هَذَا الدِّينُ فِي سَبَأٍ، عَبَدُوا الشَّمْسَ كَمَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ فِي زَمَنِ نُزُولِ الْقُرْآنِ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى ذَلِكَ لِقَوْلِهِ هُنَا: (لَعَلَّ نَاسًا مِنْهُمْ كَانُوا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ) اهـ. وَلَكِنَّ وُجُودَ عِبَادَةِ الشَّمْسِ فِي الْيَمَنِ أَيَّامَ سَبَأٍ قَبْلَ أَنْ يَتَهَوَّدُوا يَقْتَضِي بَقَاءَ آثَارِهِ مِنْ عِبَادَةِ الشَّمْسِ فِي بَعْضِ بِلَادِ الْعَرَبِ. وَقَدْ ذُكِرَ مِنْ أَصْنَامِ الْعَرَبِ صَنَمٌ اسْمُهُ (شَمْسُ) وَبِهِ سُمُّوا (عَبْدَ شَمْسَ)، وَكَذَلِكَ جَعَلَهُمْ مِنْ أَسْمَاءِ الشَّمْسِ الْآلِهَةَ، قَالَتْ مَيَّةُ بِنْتُ أُمِّ عُتْبَةَ:
تَرَوَّحْنَا مِنَ اللَّعْبَاءِ عَصْرًا | فَاعْجَلْنَا الإلهة أَن تؤوبا |
وَفِي «تَلْخِيصِ التَّفْسِيرِ» لِلْكَوَاشِيِّ: (وَكَانَ النَّاسُ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ السُّجُودَ لِلَّهِ كَالصَّابِئِينَ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَأُمِرُوا أَنْ يَخُصُّوهُ تَعَالَى
بِالْعِبَادَةِ) وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ هَؤُلَاءِ النَّاسَ مِنَ الْعَرَبِ، عَلَى أَنَّ هَدْيَ الْقُرْآنِ لَا يَخْتَصُّ بِالْعَرَبِ بَلْ شُيُوعُ دِينِ الصَّابِئَةِ فِي الْبِلَادِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُمْ كَافٍ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ السُّجُودِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.
إِلَيْهِمْ، فَالتَّقْدِيرُ:
فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ، أَوْ فَأَصَرُّوا عَلَى أَذَاهُ وَعَدَمِ مُتَارَكَتِهِ فَدَعَا رَبَّهُ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ الثَّانِي أَلْيَقُ بِقَوْلِهِ: أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ. وَهَذَا كَالتَّعْقِيبِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشُّعَرَاء: ٦٣]، وَقَوْلِهِ: أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ الْعَشَرَةُ عَلَى قِرَاءَتِهِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَشَدِّ النُّونِ فَمَا بَعْدَهَا فِي قُوَّةِ الْمَصْدَرِ، فَلِذَلِكَ تُقَدَّرُ الْبَاءُ الَّتِي يَتَعَدَّى بِهَا فِعْلُ (دَعَا)، أَيْ دَعَا رَبَّهُ بِمَا يَجْمَعُهُ هَذَا التَّرْكِيبُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي التَّعْرِيضِ بِأَنَّهُمُ اسْتَوْجَبُوا تَسْلِيطَ الْعِقَابِ الَّذِي يَدْعُو بِهِ الدَّاعِي، فَالْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِهِمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الْمُجَازَاةِ عَلَى الْإِجْرَامِ أَوْ فِي الشِّكَايَةِ مِنِ اعْتِدَائِهِمْ، أَوْ فِي التَّخَوُّفِ مِنْ شَرِّهِمْ إِذَا اسْتَمَرُّوا عَلَى عَدَمِ تَسْرِيحِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَقْتَضِي الدُّعَاءَ لِكَفِّ شَرِّهِمْ، فَلِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَى هَذَا الْخَبَرِ فعل دَعَا.
[٢٣]
[سُورَة الدُّخان (٤٤) : آيَة ٢٣]
فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣)
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ [الدُّخان: ٢٢]، وَالْمُفَرَّعُ قَوْلٌ مَحْذُوفٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْكَلَامِ، أَيْ فَدَعَا فَقُلْنَا: أَسْرِ بِعِبَادِي. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ فَأَسْرِ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ مِنْ (سَرَى)، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مِنْ (أَسْرَى)
يُقَالُ: سَرَى وَأَسْرَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاء: ١] فَتَقْيِيدُهُ بِزَمَانِ اللَّيْلِ هَنَا نَظِيرُ تَقْيِيدِهِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَأْكِيدُ مَعْنَى الْإِسْرَاءِ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَلَيْسَ مُسْتَعْمَلًا مَجَازًا فِي التَّبْكِيرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُتَعَارَفَ فِي الرَّحِيلِ أَنْ يَكُونَ فَجْرًا.
وَفَائِدَةُ التَّأْكِيدِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ سَعَةِ الْوَقْتِ مَا يَبْلُغُونَ بِهِ إِلَى شاطىء الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ تُقَيِّدُ تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ بِالْإِسْرَاءِ لَيْلًا لِأَنَّهُ مِمَّا يُسْتَغْرَبُ، أَيْ إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ فَأَرَدْنَا أَنْ تَقْطَعُوا مَسَافَةً يَتَعَذَّرُ عَلَى فِرْعَوْنَ لَحَاقُكُمْ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) لِتَنْزِيلِ غَيْرِ السَّائِلِ مَنْزِلَةَ السَّائِلِ إِذَا قُدِّمَ إِلَيْهِ مَا يُلَوِّحُ لَهُ
[سُورَة ق (٥٠) : آيَة ١٦]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦)هَذَا تَفْصِيلٌ لِبَعْضِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ بِذِكْرِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ أَهَمُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ مِنَ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ الَّذِي هُوَ تَتْمِيمٌ لِإِحَاطَةِ صِفَةِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ [ق: ٤] ولينتقل مِنْهُ الْإِنْذَارُ بِإِحْصَاءِ أَعْمَالِ النَّاسِ عَلَيْهَا وَهُوَ مَا اسْتَرْسَلَ فِي وَصْفِهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ [ق: ١٧] إِلَخْ.
وَوَصَفَ الْبَعْثَ وَصْفَ الْجَزَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَدَيْنا مَزِيدٌ [ق: ٢٠- ٣٥].
وَتَأْكِيدُ هَذَا الْخَبَرِ بِاللَّامِ وَ (قَدْ) مُرَاعًى فِيهِ الْمُتَعَاطِفَاتُ وَهِيَ نَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ النَّاسَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِأَحْوَالِهِمْ.
والْإِنْسانَ يَعُمُّ جَمِيعَ النَّاسِ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُمْ أَوَّلًا الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمُ الْمَسُوقُ إِلَيْهِمْ هَذَا الْخَبَرُ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْإِنْذَارِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ
[ق: ١٩] وَقَوْلُهُ: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا [ق: ٢٢] وَقَوْلُهُ: ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ [ق:
٢٠].
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِهِ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ اللُّصُوقِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدُ الصِّلَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا تَتَكَلَّمُهُ نَفْسُهُ عَلَى طَريقَة وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: ٦].
وَفَائِدَةُ الْإِخْبَارِ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُ كُلِّ إِنْسَانٍ التَّنْبِيهُ عَلَى سِعَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَحْوَالِهِمْ كُلِّهَا فَإِذَا كَانَ يَعْلَمُ حَدِيثَ النَّفْسِ فَلَا عَجَبَ أَنْ يَعْلَمَ مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ.
وَالْإِخْبَارُ عَنْ فِعْلِ الْخَلْقِ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْإِخْبَارُ عَنْ عِلْمِ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ النَّفْسُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ تَعَلُّقَ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْوَسْوَسَةِ مُتَجَدِّدٌ غَيْرُ مُنْقَضٍ وَلَا مَحْدُودٍ لِإِثْبَاتِ عُمُومِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْكِنَايَةُ عَنِ التَّحْذِيرِ مِنْ إِضْمَارِ مَا لَا يُرْضِي اللَّهَ.
وَلَمَّا كَانَ السِّدْرُ مِنْ شَجَرِ الْبَادِيَةِ وَكَانَ مَحْبُوبًا لِلْعَرَبِ وَلَمْ يَكُونُوا مُسْتَطِيعِينَ أَنْ يَجْعَلُوا مِنْهُ فِي جَنَّاتِهِمْ وَحَوَائِطِهِمْ لِأَنَّهُ لَا يَعِيشُ إِلَّا فِي الْبَادِيَةِ فَلَا يَنْبُتُ فِي جَنَّاتِهِمْ خُصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ شَجَرِ الْجَنَّةِ إِغْرَابًا بِهِ وَبِمَحَاسِنِهِ الَّتِي كَانَ مَحْرُومًا مِنْهَا مَنْ لَا يَسْكُنُ الْبَوَادِي وَبِوَفْرَةِ ظِلِّهِ وَتَهَدُّلِ أَغْصَانِهِ وَنَكْهَةِ ثَمَرِهِ.
وَوُصِفِ بِالْمِخْضُودِ، أَيِ الْمُزَالِ شَوْكَهُ فَقَدْ كَمُلَتْ مَحَاسِنُهُ بِانْتِفَاءِ مَا فِيهِ مِنْ أَذًى.
وَالطَّلْحُ: شَجَرٌ مِنْ شَجَرِ الْعِضَاهِ وَاحِدُهُ طَلْحَةٌ، وَهُوَ مِنْ شَجَرِ الْحِجَازِ يَنْبُتُ فِي بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ، شَدِيدُ الطُّولِ، غَلِيظُ السَّاقِ. مِنْ أَصْلَبِ شَجَرِ الْعِضَاهِ عُودًا، وَأَغْصَانُهُ طُوَالٌ عِظَامٌ شَدِيدَةُ الْاِرْتِفَاعِ فِي الْجَوِّ وَلَهَا شَوْكٌ كَثِيرٌ قَلِيلَةُ الْوَرَقِ شَدِيدَةُ الْخُضْرَةِ كَثِيرَةُ الظِّلِّ مِنَ الْتِفَافِ أَغْصَانِهَا، وَصَمْغُهَا جَيِّدٌ وَشَوْكُهَا أَقَلُّ الشَّوْكِ أَذًى، وَلَهَا نُورٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الشَّجَرَةُ أُمَّ غَيْلَانَ، وَتُسَمَّى فِي صَفَاقُسَ غِيلَانَ وَفِي أَحْوَازِ تُونُسَ تُسَمَّى مِسْكَ صَنَادِقَ.
وَالْمَنْضُودُ: الْمُتَرَاصُّ الْمُتَرَاكِبُ بِالْأَغْصَانِ لَيْسَتْ لَهُ سُوقٌ بَارِزَةٌ، أَوِ الْمُنَضَّدُ بِالْحِمْلِ، أَيِ النُّوَّارِ فَتَكْثُرُ رَائِحَتُهُ.
وَعَلَى ظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ يَكُونُ الْقَوْلُ فِي الْبِشَارَةِ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ بِالطَّلْحِ عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرَ فِي قَوْلِهِ: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَيُعْتَاضُ عَنْ نِعْمَةِ نَكْهَةِ ثَمَرِ السِّدْرِ بِنِعْمَةِ عَرْفِ نَوْرِ الطَّلْحِ.
وَفُسِّرَ الطَّلْحُ بِشَجَرِ الْمَوْزِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ كَثِيرٍ، وَنُسِبَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
وَالْاِمْتِنَانُ بِهِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ امْتِنَانٌ بِثَمَرِهِ لِأَنَّهُ ثَمَر طيب لذيد وَلِشَجَرِهِ مِنْ حُسْنِ الْمَنْظَرِ، وَلَمْ يَكُنْ شَائِعًا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى كَثْرَةِ الْمَاءِ.
وَالظِّلُّ الْمَمْدُودُ: الَّذِي لَا يَتَقَلَّصُ كَظِلِّ الدُّنْيَا، وَهُوَ ظِلٌّ حَاصِلٌ مِنَ الْتِفَافِ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ وَكَثْرَةِ أَوْرَاقِهَا.
شَدِيدَةَ اللَّهْجَةِ فِي التَّحَدِّي، وَعَبَّرَ عَنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ بِالتَّقْوَى وَبِحُدُودِ اللَّهِ وَلِزِيَادَةِ الْحِرْصِ عَلَى التَّقْوَى اتْبُعَ اسْمُ الْجَلَالَةِ بِوَصْفِ رَبَّكُمُ لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ حَقِيقٌ بِأَنْ يُتَّقَى غَضَبُهُ.
لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ.
اسْتِئْنَافٌ أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ أَحْصُوا الْعِدَّةَ، أَيْ حَالَةَ كَوْنِ الْعِدَّةِ فِي بِيُوتِهِنَّ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ أَحْصُوا الْعِدَّةَ لِأَنَّ مَكْثَهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ يُحَقِّقُ مَعْنَى إِحْصَاءِ الْعِدَّةِ.
وَلِكِلَا الْوَجْهَيْنِ جُرِّدَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الِاقْتِرَانِ بِالْوَاوِ جَوَازًا أَوْ وُجُوبًا.
وَفِي إِضَافَةِ الْبُيُوتِ إِلَى ضَمِيرِ النِّسَاءِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُنَّ مُسْتَحِقَّاتٌ الْمَكْثَ فِي الْبُيُوتِ مُدَّةَ الْعِدَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَالِكِ الشَّيْءِ وَهَذَا مَا يُسَمَّى فِي الْفِقْهِ مِلْكَ الِانْتِفَاعِ دُونَ الْعَيْنِ وَلِأَنَّ بَقَاءَ الْمُطَلَّقَاتِ فِي الْبُيُوتِ اللَّاتِي كُنَّ فِيهَا أَزْوَاجًا اسْتِصْحَابٌ لِحَالِ الزَّوْجِيَّةِ إِذِ الزَّوْجَةُ هِيَ الْمُتَصَرِّفَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَلِذَلِكَ يَدْعُوهَا الْعَرَبُ «رَبَّةَ الْبَيْتِ» وَلِلْمُطَلَّقَةِ حُكْمُ الزَّوْجَةِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ إِلَّا فِي اسْتِمْتَاعِ الْمُطَلِّقِ.
وَهَذَا الْحُكْمُ سَبَبُهُ مُرَكَّبٌ مِنْ قَصْدِ الْمُكَارَمَةِ بَيْنَ الْمُطَلِّقِ وَالْمُطَلَّقَةِ. وَقَصْدُ الِانْضِبَاطِ فِي عِلَّةِ الِاعْتِدَادِ تَكْمِيلًا لِتَحَقُقِ لِحَاقِ مَا يَظْهَرُ مِنْ حَمْلٍ بِأَبِيهِ الْمُطَلِّقِ حَتَّى يَبْرَأَ النَّسَبُ مِنْ
كُلِّ شَكٍّ.
وَجُمْلَةُ وَلا يَخْرُجْنَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةٍ لَا تُخْرِجُوهُنَّ وَهُوَ نَهْيٌ لَهُنَّ عَنِ الْخُرُوجِ فَإِنَّ الْمُطَلِّقَ قَدْ يُخْرِجُهَا فَتَرْغَبُ الْمُطَلَّقَةُ فِي الْخُرُوجِ لِأَنَّهَا تَسْتَثْقِلُ الْبَقَاءَ فِي بَيْتٍ زَالَتْ عَنْهُ سِيَادَتُهَا فَنَهَاهُنَّ اللَّهُ عَنِ الْخُرُوجِ. فَإِذَا كَانَ الْبَيْتُ مُكْتَرًى سَكَنَتْهُ الْمُطَلَّقَةُ وَكِرَاؤُهُ عَلَى الْمُطَلِّقِ وَإِذَا انْتَهَى أَمَدُ كَرَائِهِ فَعَلَى الْمُطَلِّقِ تَجْدِيدُهُ إِلَى انْتِهَاءِ عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ.
وَهَذَا التَّرْتِبُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ يُشْعِرُ بِالسَّبَبِيَّةِ وَأَنَّ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مُعْتَدَّةٍ حَقَّ السُّكْنَى فِي بَيْتِ زَوْجِهَا مُدَّةَ الْعِدَّةِ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ لِأَجْلِهِ أَيْ لِأَجْلِ حِفْظِ نَسَبِهِ وَعِرْضِهِ فَهَذَا
لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فَقَدْ قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ «إِنَّكَ تَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ».
فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى التَّصَدُّقِ، كَمَا كَانَ فِيهَا إِيمَاءٌ إِلَى الصَّلَاةِ، وَمِنْ عَادَةِ الْقُرْآنِ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ.
وَالْمَنُّ: تَذْكِيرُ الْمُنْعِمِ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِ بِإِنْعَامِهِ.
وَالِاسْتِكْثَارُ: عَدُّ الشَّيْءِ كَثِيرًا، أَيْ لَا تَسْتَعْظِمْ مَا تُعْطِيهِ.
وَهَذَا النَّهْيُ يُفِيدُ تَعْمِيمَ كُلِّ اسْتِكْثَارٍ كَيْفَمَا كَانَ مَا يُعْطِيهِ مِنَ الْكَثْرَةِ. وَلِلْأَسْبَقِينَ مِنَ الْمُفَسّرين تفسيرات لِمَعْنى وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا بِمُنَاسِبٍ، وَقَدْ أَنْهَاهَا الْقُرْطُبِيُّ إِلَى أَحَدَ عَشَرَ.
وتَسْتَكْثِرُ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تَمْنُنْ وَهِيَ حَال مقدرَة.
[٧]
[سُورَة المدثر (٧٤) : آيَة ٧]
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧)
تَثْبِيتٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَحَمُّلِ مَا يَلْقَاهُ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَعَلَى مَشَاقِّ الدَّعْوَةِ.
وَالصَّبْرُ: ثَبَاتُ النَّفْسِ وَتَحَمُّلُهَا الْمَشَاقَّ وَالْآلَامَ وَنَحْوَهَا.
وَمَصْدَرُ الصَّبْرِ وَمَا يُشْتَقُّ مِنْهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى التَّحَمُّلِ لِلشَّيْءِ الشَّاقِّ.
وَيُعَدَّى فِعْلُ الصَّبْرِ إِلَى اسْمِ الَّذِي يَتَحَمَّلُهُ الصَّابِرُ بِحَرْفِ (عَلَى)، يُقَالُ: صَبَرَ عَلَى الْأَذَى. وَيَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْخُضُوعِ لِلشَّيْءِ الشَّاقِّ فَيُعَدَّى إِلَى اسْمِ مَا يَتَحَمَّلُهُ الصَّابِرُ بِاللَّامِ.
وَمُنَاسَبَةُ الْمَقَامِ تُرَجِّحُ إِحْدَى التَّعْدِيَتَيْنِ، فَلَا يُقَالُ: اصْبِرْ عَلَى اللَّهِ، وَيُقَالُ: اصْبِرْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، أَوْ لِحُكْمِ اللَّهِ. فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِرَبِّكَ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الصَّبْرِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ اصْبِرْ لِأَمْرِهِ وَتَكَالِيفِ وَحْيِهِ كَمَا قَالَ: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا فِي
سُورَةِ الطّور [٤٨] وَقَوله: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ [٢٤] فَيُنَاسِبُ نِدَاءَهُ بِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [الْمُدَّثِّرُ: ١] لِأَنَّهُ تَدَثَّرَ مِنْ شِدَّةِ وَقْعِ رُؤْيَةِ الْمَلَكِ، وَتَرْكُ ذِكْرِ الْمُضَافِ لِتَذْهَبَ النَّفْسُ إِلَى كُلِّ مَا هُوَ مِنْ شَأْنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْمُخَاطَبِ.
وَالْقَوْلُ فِي تَنْكِيرِ وُجُوهٌ، وَالْمُرَادِ بِهَا، وَالْإِخْبَارِ عَنْهَا بِمَا بَعْدَهَا، كَالْقَوْلِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي سَبَقَتْهَا.
وناعِمَةٌ: خَبَرٌ عَنْ وُجُوهٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ نَعُمَ بِضَمِّ الْعَيْنِ يَنْعُمُ بِضَمِّهَا الَّذِي مَصْدَرُهُ نُعُومَةٌ وَهِيَ اللِّينُ وَبَهْجَةُ الْمَرْأَى وَحُسْنُ الْمَنْظَرِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ نَعِمَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ يَنْعَمُ مِثْلَ حَذِرَ، إِذَا كَانَ ذَا نِعْمَةٍ، أَيْ حَسَنُ الْعَيْشِ وَالتَّرَفِ.
وَيَتَعَلَّقُ لِسَعْيِها بِقَوْلِهِ: راضِيَةٌ، وراضِيَةٌ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ وُجُوهٌ وَالْمُرَادُ بِالسَّعْيِ: الْعَمَلُ الَّذِي يَسَعَاهُ الْمَرْءُ لِيَسْتَفِيدَ مِنْهُ. وَعَبَّرَ بِهِ هُنَا مُقَابِلَ قَوْلِهِ فِي ضِدّه عامِلَةٌ [الغاشية: ٣].
وَالرِّضَى: ضِدَّ السُّخْطِ، أَيْ هِيَ حَامِدَةٌ مَا سَعَتْهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ امْتِثَالُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ: فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ خَبَرٌ ثَالِثٌ عَنْ وُجُوهٌ وَالْجَنَّةُ أُرِيدَ بِهِ مَجْمُوعُ دَارِ الثَّوَابِ الصَّادِقِ بِجَنَّاتٍ كَثِيرَةٍ أَوْ أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ مِثْلَ عَلِمَتْ نَفْسٌ [التكوير: ١٤].
وَوصف جَنَّةٍ بِ عالِيَةٍ لِزِيَادَةِ الْحُسْنِ لِأَنَّ أَحْسَنَ الْجَنَّاتِ مَا كَانَ فِي الْمُرْتَفَعَاتِ، قَالَ تَعَالَى: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [الْبَقَرَة: ٢٦٥] فَذَلِكَ يُزِيدُ حُسْنَ بَاطِنِهَا بِحُسْنِ مَا يُشَاهِدُهُ الْكَائِنُ فِيهَا مِنْ مَنَاظِرَ، وَهَذَا وَصْفٌ شَامِلٌ لِحُسْنِ موقع الْجنَّة.
[١١]
[سُورَة الغاشية (٨٨) : آيَة ١١]
لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١)
اللَّاغِيَةُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى اللَّغْوِ مِثْلُ الْكَاذِبَةِ لِلْكَذِبِ. وَالْخَائِنَةِ وَالْعَافِيَةِ، أَيْ لَا يُسْمَعُ فِيهَا لَغْوٌ، أَوْ هُوَ وَصْفٌ لِمَوْصُوفٍ مُقَدَّرِ التَّأْنِيثِ، أَيْ كَلِمَةٌ لَاغِيَةٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ لاغِيَةً مِنْ أَنَّهَا كَلِمَاتٌ، وَوَصْفُ الْكَلِمَةِ بِذَلِكَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ اللَّاغِيَ صَاحِبُهَا.