وَيُقَالُ: مَثِيلٌ كَمَا يُقَالُ: شِبْهٌ وَشَبَهٌ وَشَبِيهٌ، وَبَدَلٌ وَبِدْلٌ، وَبَدِيلٌ، وَلَا رَابِعَ لِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي مَجِيءِ فَعَلٍ وَفِعْلٍ وَفَعِيلٍ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَقَدِ اخْتَصَّ لَفْظُ الْمَثَلِ (بِفَتْحَتَيْنِ) بِإِطْلَاقِهِ عَلَى الْحَالِ الْغَرِيبَةِ الشَّأْنِ لِأَنَّهَا بِحَيْثُ تُمَثِّلُ لِلنَّاسِ وَتُوَضِّحُ وَتُشَبِّهُ سَوَاءٌ شُبِّهَتْ كَمَا هُنَا، أَمْ لَمْ تُشَبَّهْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الْجَنَّةِ [الرَّعْد: ٣٥].
وَبِإِطْلَاقِهِ عَلَى قَوْلٍ يَصْدُرُ فِي حَالٍ غَرِيبَةٍ فَيُحْفَظُ وَيَشِيعُ بَيْنَ النَّاسِ لِبَلَاغَةٍ وَإِبْدَاعٍ فِيهِ، فَلَا يَزَالُ النَّاسُ يَذْكُرُونَ الْحَالَ الَّتِي قِيلَ فِيهَا ذَلِكَ الْقَوْلُ تَبَعًا لِذِكْرِهِ وَكَمْ مِنْ حَالَةٍ عَجِيبَةٍ حَدَثَتْ وَنُسِيَتْ لِأَنَّهَا لَمْ يَصْدُرْ فِيهَا مِنْ قَوْلٍ بَلِيغٍ مَا يَجْعَلُهَا مَذْكُورَةً تَبَعًا لِذِكْرِهِ فَيُسَمَّى مَثَلًا وَأَمْثَالُ الْعَرَبِ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ بَلَاغَتِهِمْ وَقَدْ خُصَّتْ بِالتَّأْلِيفِ وَيُعَرِّفُونَهُ بِأَنَّهُ قَوْلٌ شُبِّهَ مَضْرِبُهُ بِمَوْرِدِهِ وَسَأَذْكُرُهُ قَرِيبًا.
فَالظَّاهِرُ أَنَّ إِطْلَاقَ الْمَثَلِ عَلَى الْقَوْلِ الْبَدِيعِ السَّائِرِ بَيْنَ النَّاسِ الصَّادِرِ مِنْ قَائِلِهِ فِي حَالَةٍ عَجِيبَةٍ هُوَ إِطْلَاقٌ مُرَتَّبٌ عَلَى إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَثَلِ عَلَى الْحَالِ الْعَجِيبَةِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَكَادُونَ يَضْرِبُونَ مَثَلًا وَلَا يَرَوْنَهُ أَهْلًا لِلتَّسْيِيرِ وَجَدِيرًا بِالتَّدَاوُلِ إِلَّا قَوْلًا فِيهِ بَلَاغَةٌ وَخُصُوصِيَّةٌ فِي فَصَاحَةِ لَفْظٍ وَإِيجَازِهِ وَوَفْرَةِ مَعْنًى، فَالْمَثَلُ قَول عَزِيز غَرِيب لَيْسَ من مُتَعَارَفِ الْأَقْوَالِ الْعَامَّةِ بَلْ هُوَ مِنْ أَقْوَالِ فُحُولِ الْبَلَاغَةِ فَلِذَلِكَ وُصِفَ بِالْغَرَابَةِ (١) أَيِ الْعِزَّةِ مِثْلُ قَوْلِهِمُ: «الصَّيْفُ ضَيَّعْتِ اللَّبَنَ» وَقَوْلِهِمْ: «لَا يُطَاعُ لِقَصِيرٍ أَمْرٌ» وَسَتَعْرِفُ وَجْهَ ذَلِكَ.
وَلَمَّا شَاعَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْمَثَلِ (بِالتَّحْرِيكِ) عَلَى الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ الشَّأْنِ جَعَلَ الْبُلَغَاءُ إِذَا أَرَادُوا تَشْبِيهَ حَالَةٍ مُرَكَّبَةٍ بِحَالَةِ مُرَكَّبَةٍ أَعَنَى وَصْفَيْنِ مُنْتَزَعَيْنِ مِنْ مُتَعَدِّدٍ أَتَوْا فِي جَانِبِ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ مَعًا أَوْ فِي جَانِبِ أَحَدِهِمَا بِلَفْظِ الْمَثَلِ وَأَدْخَلُوا الْكَافَ وَنَحْوَهَا مِنْ حُرُوفِ التَّشْبِيهِ عَلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ مِنْهُمَا وَلَا يُطْلِقُونَ ذَلِكَ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَسِيطِ فَلَا يَقُولُونَ مَثَلُ فُلَانٍ كَمَثَلِ الْأَسَدِ وَقَلَّمَا شَبَّهُوا حَالًا مُرَكَّبَةً بِحَالٍ مُرَكَّبَةٍ مُقْتَصِرِينَ عَلَى الْكَافِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ [الرَّعْد: ١٤] بَلْ يَذْكُرُونَ لَفْظَ الْمَثَلِ فِي الْجَانِبَيْنِ غَالِبًا نَحْوَ الْآيَةِ هُنَا، وَرُبَّمَا ذَكَرُوا لَفْظَ
_________
(١) أَشرت بتفسير معنى الغرابة لدفع الْحيرَة الْوَاقِعَة فِي المُرَاد من قَول صَاحب «الْكَشَّاف» :«إِلَّا قولا فِيهِ غرابة إِلَخ» فقد فَسرهَا الطَّيِّبِيّ بغموض الْكَلَام وَكَونه نَادرا معنى ولفظا وَهَذَا لَا يطرد وَقد سكت عَنهُ الشارحان: السعد وَالسَّيِّد، وَقد حام حوله الخفاجي.
حَدَثَ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ وَعَمَّهُمْ عَاجِلًا فَبَعَثَ اللَّهُ نُوحًا إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَهْلَكَ الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ بِالطُّوفَانِ وَنَجَّى نُوحًا وَنَفَرًا مَعَهُ فَأَصْبَحَ جَمِيعُ النَّاسِ صَالِحِينَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ. فَيَجْدُرُ بِنَا أَنْ نَنْظُرَ الْآنَ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْمَعْنَى فِي تَارِيخِ ظُهُورِ الشَّرَائِعِ وَفِي أَسْبَابِ ذَلِكَ.
النَّاسُ أَبْنَاءُ أَبٍ وَاحِدٍ وَأُمٍّ وَاحِدَةٍ فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانُوا فِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ أُمَّةً وَاحِدَةً لِأَنَّ أَبَوَيْهِمْ لَمَّا وَلَدَا الْأَبْنَاءَ الْكَثِيرِينَ وَتَوَالَدَ أَبْنَاؤُهُمَا تَأَلَّفَتْ مِنْهُمْ فِي أَمَدٍ قَصِيرٍ عَائِلَةٌ وَاحِدَةٌ خُلِقَتْ مِنْ مِزَاجٍ نَقِيٍّ فَكَانَتْ لَهَا أمزجة متماثلة ونشأوا عَلَى سِيرَةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَحْوَالِ الْحَيَاةِ كُلِّهَا وَمَا كَانَتْ لِتَخْتَلِفَ إِلَّا اخْتِلَافًا قَلِيلًا لَيْسَ لَهُ أَثَرٌ يُؤْبَهُ بِهِ وَلَا يُحْدِثُ فِي الْعَائِلَةِ تَنَافُرًا وَلَا تُغَالُبَا.
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ نَوْعَ الْإِنْسَانِ أَرَادَهُ لِيَكُونَ أَفْضَلَ الْمَوْجُودَاتِ فِي هَذَا الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ عَلَى حَالَةٍ صَالِحَةٍ لِلْكَمَالِ وَالْخَيْرِ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التِّين: ٤]. فَآدَمُ خُلِقَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ يَلِيقُ بِالذَّكَرِ جِسْمًا وَعَقْلًا وَأَلْهَمَهُ مَعْرِفَةَ الْخَيْرِ وَاتِّبَاعَهُ وَمَعْرِفَةَ الشَّرِّ وَتَجَنُّبَهُ فَكَانَتْ آرَاؤُهُ مُسْتَقِيمَةً تَتَوَجَّهُ ابْتِدَاءً لِمَا فِيهِ النَّفْعُ وَتَهْتَدِي إِلَى مَا يَحْتَاجُ لِلِاهْتِدَاءِ إِلَيْهِ، وَتَتَعَقَّلُ مَا يُشَارُ بِهِ عَلَيْهِ فَتَمَيَّزَ النَّافِعُ مِنْ غَيْرِهِ وَيُسَاعِدُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ فِكْرُهُ جَسَدٌ سَلِيمٌ قَوِيٌّ مَتِينٌ وَحَوَّاءُ خُلِقَتْ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ يَلِيقُ بِالْأُنْثَى خَلْقًا مُشَابِهًا لِخَلْقِ آدَمَ، إِذْ أَنَّهَا خُلِقَتْ كَمَا خُلِقَ آدَمُ، قَالَ تَعَالَى:
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النِّسَاء: ١] فَكَانَتْ فِي انْسِيَاقِ عَقْلِهَا وَاهْتِدَائِهَا وَتَعَقُّلِهَا وَمُسَاعَدَةِ جَسَدِهَا عَلَى ذَلِكَ عَلَى نَحْوِ مَا كَانَ عَلَيْهِ آدَمُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ أَقْوَى عُنْصُرٍ فِي تَقْوِيمِ الْبَشَرِ عِنْدَ الْخِلْقَةِ هُوَ الْعَقْلُ الْمُسْتَقِيمُ فَبِالْعَقْلِ تَأَتَّى لِلْبَشَرِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي خَصَائِصِهِ، وَأَنْ يَضَعَهَا فِي مَوَاضِعِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا.
هَكَذَا كَانَ شَأْنُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فَمَا وَلَدَا مِنَ الْأَوْلَادِ نَشَأَ مِثْلَ نَشْأَتِهِمَا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ اهْتَدَى أَحَدُ بَنِي آدَمَ إِلَى دَفْنِ أَخِيهِ مِنْ مُشَاهَدَةِ فِعْلِ الْغُرَابِ الْبَاحِثِ فِي الأَرْض فَكَانَت الِاسْتِنْبَاطُ الْفِكْرِيُّ وَالتَّقْلِيدُ بِهِ أُسَّ الْحَضَارَةِ الْبَشَرِيَّةِ. فَالصَّلَاحُ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي خُلِقَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَدَامَ عَلَيْهِ دَهْرًا لَيْسَ بِالْقَصِيرِ، ثُمَّ أَخَذَ يَرْتَدُّ إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ، ذَلِكَ أَنَّ ارْتِدَادَ الْإِنْسَانِ إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ إِنَّمَا عَرَضَ لَهُ بِعَوَارِضَ كَانَتْ فِي مَبْدَأِ الْخَلِيقَةِ قَلِيلَةَ الْطُرُوِّ أَوْ مَعْدُومَتَهُ، لِأَنَّ أَسْبَابَ الِانْحِرَافِ عَنِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ لَا تَعْدُو أَرْبَعَةَ أَسْبَابٍ:
نَاجُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَالْمَعْنَى مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ. وَقَرَأَهُ الْجَمِيعُ بِإِظْهَارِ حَرْفَيِ الْغَيْنِ مِنْ كَلِمَةِ مَنْ يَبْتَغِ وَكَلِمَةِ غَيْرَ وَرَوَى السُّوَسِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو إِدْغَامَ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى وَهُوَ الْإِدْغَام الْكَبِير.
[٨٦]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٨٦]
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ يُنَاسِبُ مَا سَبَقَهُ مِنَ التَّنْوِيهِ بِشَرَفِ الْإِسْلَامِ.
(وَكَيْفَ) اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ وَالْمَقْصُودُ إِنْكَارُ أَنْ تَحْصُلَ لَهُمْ هِدَايَةٌ خَاصَّةٌ وَهِيَ إِمَّا
الْهِدَايَةُ النَّاشِئَةُ عَنْ عِنَايَةِ اللَّهِ بِالْعَبْدِ وَلُطْفِهِ بِهِ، وَإِسْنَادُهَا إِلَى اللَّهِ ظَاهِرٌ وَإِمَّا الْهِدَايَةُ النَّاشِئَةُ عَنْ إِعْمَالِ الْأَدِلَّةِ وَالِاسْتِنْتَاجِ مِنْهَا، وَإِسْنَادُهَا إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ مُوجِدُ الْأَسْبَابِ وَمُسَبِّبَاتِهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي الِاسْتِبْعَادِ، فَإِنَّهُمْ آمَنُوا وَعَلِمُوا مَا فِي كُتُبِ اللَّهِ، ثُمَّ كَفَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنْبِيَائِهِمْ، إِذْ عَبَدَ الْيَهُودُ الْأَصْنَامَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَعَبَدَ النَّصَارَى الْمَسِيحَ، وَقَدْ شَهِدُوا أَنَّ مُحَمَّدًا صَادِقٌ لِقِيَامِ دَلَائِلِ الصِّدْقِ، ثُمَّ كَابَرُوا، وَشَكَّكُوا النَّاسَ. وَجَاءَتْهُمُ الْآيَاتُ فَلَمْ يَتَّعِظُوا، فَلَا مَطْمَعَ فِي هَدْيِهِمْ بَعْدَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَإِنَّمَا تَسْرِي الْهِدَايَةُ لِمَنْ أَنْصَفَ وَتَهَيَّأَ لِإِدْرَاكِ الْآيَاتِ دُونَ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً. وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْعَرَبِ أَسْلَمُوا ثُمَّ كَفَرُوا وَلَحِقُوا بِقُرَيْشٍ ثُمَّ نَدِمُوا فَرَاسَلُوا قَوْمَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَسْأَلُونَهُمْ هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ فَنَزَلَتْ، وَمِنْهُمُ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ، وَأَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ، وَطُعَيْمَةُ بْنُ أُبَيْرِقٍ.
وَقَوْلُهُ: وَشَهِدُوا عَطْفٌ عَلَى إِيمانِهِمْ أَيْ وَشَهَادَتُهُمْ، لِأَنَّ الِاسْمَ الشَّبِيهَ بِالْفِعْلِ فِي الِاشْتِقَاقِ يَحْسُنُ عَطْفُهُ عَلَى الْفِعْلِ وَعَطْفُ الْفِعْل عَلَيْهِ.
صَالِحٌ لِلتَّفْكِيكِ بِأَنْ يُشَبَّهَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِهَا، بِأَنْ يُشَبَّهَ الِارْتِدَادُ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِذَهَابِ عَقْلِ الْمَجْنُونِ، وَيُشَبَّهَ الْكُفْرُ بِالْهُيَامِ فِي الْأَرْضِ، وَيُشَبَّهَ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ إِلَى الِارْتِدَادِ بِالشَّيَاطِينِ وَتُشَبَّهُ دَعْوَةُ اللَّهِ النَّاسَ لِلْإِيمَانِ وَنُزُولُ الْمَلَائِكَةِ بِوَحْيِهِ بِالْأَصْحَابِ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى الْهُدَى. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِير يكون كَالَّذِي صَادِقًا عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عبد الرحمان بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَ كَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ يَدْعُوَانِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ فَيَأْبَى، وَقَدْ أَسْلَمَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ.
[٧٢، ٧٣]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : الْآيَات ٧٢ الى ٧٣]
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)
جُمْلَةُ: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافَ تَكْرِيرٍ لِمَا أُمِرَ أَنْ يَقُولَهُ لِلْمُشْرِكِينَ حِين يدعونَ الْمُسلمين إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْبُدْ آلِهَتَنَا زَمَنًا وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ زَمَنًا. وَكَانُوا فِي خِلَالِ ذَلِكَ يَزْعُمُونَ أَنَّ دِينَهُمْ هُدًى فَلِذَلِكَ خُوطِبُوا بِصِيغَةِ الْقَصْرِ. وَهِيَ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى فَجِيءَ بِتَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ، وَضَمِيرِ الْفَصْلِ، وَحَرْفِ التَّوْكِيدِ، فَاجْتَمَعَ فِي الْجُمْلَةِ أَرْبَعَةُ مُؤَكِّدَاتٍ، لِأَنَّ الْقَصْرَ بِمَنْزِلَةِ مُؤَكِّدَيْنِ إِذْ لَيْسَ الْقَصْرُ إِلَّا تَأْكِيدًا عَلَى تَأْكِيدٍ، وَضَمِيرُ الْفَصْلِ تَأْكِيدٌ، وَ (إِنَّ) تَأْكِيدٌ، فَكَانَتْ مُقْتَضَى حَالِ الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُدًى.
وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْإِضَافَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْهُدَى الْوَارِدِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الدِّينُ الْمُوصَى بِهِ، وَهُوَ هُنَا الْإِسْلَامُ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ. وَقَدْ وَصَفَ الْإِسْلَامَ بِأَنَّهُ
يُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا يَتَوَلَّوْا عَنْهُ، فَذْلَكَةً لِلْمَقْصُودِ مِنَ الْمَوْعِظَةِ الْوَاقِعَةِ بِطُولِهَا عَقِبَ قَوْلِهِ: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَال: ١] وَذَلِكَ كُلُّهُ يَقْتَضِي فَصْلَ الْجُمْلَةِ عَمَّا قَبْلَهَا، وَلِذَلِكَ افْتُتِحَتْ بِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.
وَافْتِتَاحُ الْخِطَابِ بِالنِّدَاءِ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا سَيُلْقَى إِلَى الْمُخَاطَبِينَ قَصْدًا لِإِحْضَارِ الذِّهْنِ لِوَعْيِ مَا سَيُقَالُ لَهُمْ، فَنَزَّلَ الْحَاضِرَ مَنْزِلَةَ الْبَعِيدِ، فَطَلَبَ حُضُورَهُ بِحَرْفِ النِّدَاءِ الْمَوْضُوعِ لِطَلَبِ الْإِقْبَالِ.
وَالتَّعْرِيفُ بِالْمَوْصُولِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّلَةِ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَتَقَبَّلُوا مَا سَيُؤْمَرُونَ بِهِ، وَأَنَّهُ كَمَا كَانَ الشِّرْكُ مُسَبِّبًا لِمُشَاقَّةٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي قَوْله: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
[الْأَنْفَال: ١٣]، فَخَلِيقٌ بِالْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ بَاعِثًا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَقَوْلُهُ هُنَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يُسَاوِي قَوْلَهُ فِي الْآيَةِ الْمَرْدُودِ إِلَيْهَا: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَال: ١]، مَعَ الْإِشَارَةِ هُنَا إِلَى تَحَقُّقِ وَصْفِ الْإِيمَانِ فِيهِمْ وَأَنَّ إِفْرَاغَهُ فِي صُورَةِ الشَّرْطِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مَا قُصِدَ مِنْهُ إِلَّا شَحْذُ الْعَزَائِمِ، وَبِذَلِكَ انْتَظَمَ هَذَا الْأُسْلُوبُ الْبَدِيعُ فِي الْمُحَاوَرَةِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا انْتِظَامًا بَدِيعًا مُعْجِزًا.
وَالطَّاعَةُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَالتَّوَلِّي الِانْصِرَافُ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلْمُخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ.
وَإِفْرَادُ الضَّمِير الْمَجْرُور ب (عَن) لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ هَذَا الْمُنَاسِبُ لِلتَّوَلِّي بِحَسْبِ الْحَقِيقَةِ. فَإِفْرَادُ الضَّمِيرِ هُنَا يُشْبِهُ تَرْشِيحَ الِاسْتِعَارَةِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّوَلِّي عَنِ الرَّسُولِ نَهْيٌ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [الْأَعْرَاف: ٨٠] وَأَصْلُ تَوَلَّوْا تَتَوَلَّوْا- بِتَاءَيْنِ حُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا تَخْفِيفًا.
وَجُمْلَةُ: وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تَوَلَّوْا وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ تَشْوِيهُ التَّوَلِّي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَإِنَّ الْعِصْيَانَ مَعَ تَوَفُّرِ أَسْبَابِ الطَّاعَةِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي حِينِ انْخِرَامِ بَعْضِهَا. فَالْمُرَادُ بِالسَّمْعِ هُنَا حَقِيقَتُهُ أَيْ فِي حَالٍ لَا يَعُوزُكُمْ تَرْكُ التَّوَلِّي بِمَعْنَى الْإِعْرَاضِ- وَذَلِكَ لِأَنَّ فَائِدَةَ السَّمْعِ الْعَمَلُ بِالْمَسْمُوعِ، فَمَنْ سَمِعَ الْحَقَّ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ فَهُوَ الَّذِي لَا يَسْمَعُ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ الْمَسْمُوعِ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمر بِالطَّاعَةِ كَلَام يُطَاعُ ظَهَرَ مَوْقِعَ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ فَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ الصَّادِرُ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَقِيلَ الْوَاوُ عَطَفَتْ فِعْلًا مُقَدَّرًا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ (أُمِرْتُ). وَالتَّقْدِيرُ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ، وَتَكُونُ (أَنْ) مُفَسِّرَةً لِلْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ، لِأَنَّهُ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ.
وَعِنْدِي: أَنَّ أُسْلُوبَ نَظْمِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَقَعْ إِلَّا لِمُقْتَضًى بَلَاغِيٍّ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِصِيغَةِ أَقِمْ وَجْهَكَ خُصُوصِيَّةٌ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَلْنُعْرِضْ عَمَّا وَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» وَعَنْ جَعْلِ الْآيَةِ مِثَالًا لِمَا سَوَّغَهُ سِيبَوَيْهِ وَلْنَجْعَلِ الْوَاوَ مُتَوَسَّعًا فِي اسْتِعْمَالِهَا بِأَنِ اسْتُعْمِلَتْ نَائِبَةً مَنَابَ الْفِعْلِ الَّذِي عُطِفَتْ عَلَيْهِ، أَيْ فعل أُمِرْتُ [يُونُس: ١٠٤] دُونَ قَصْدِ تَشْرِيكِهَا لِمَعْطُوفِهَا مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بَلِ اسْتُعْمِلَتْ لِمُجَرَّدِ تَكْرِيرِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: أُمِرْتُ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ فَتَكُونُ (أَنْ) تَفْسِيرًا لِمَا فِي الْوَاوِ مِنْ تَقْدِيرِ لَفْظِ فِعْلِ (أُمِرْتُ) لِقَصْدِ حِكَايَةِ اللَّفْظِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ بِلَفْظِهِ، وَلِيَتَأَتَّى عَطْفُ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ. وَهَذَا مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ لَا مَنْ عَطَفِ الْمُفْرَدَاتِ، وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما
أَنْزَلَ اللَّهُ
فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٤٩]، وَهُوَ هُنَا أَوَعْبُ.
وَالْإِقَامَةُ: جَعْلَ الشَّيْءِ قَائِمًا. وَهِيَ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِإِفْرَادِ الْوَجْهِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لَا يَتْرُكُ وَجْهَهُ يَنْثَنِي إِلَى شَيْءٍ آخَرَ. وَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ، أَيْ لِأَجْلِ الدِّينِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: مَحِّضْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ لَا تَجْعَلْ لِغَيْرِ الدِّينِ شَرِيكًا فِي تَوَجُّهِكَ. وَهَذِهِ التَّمْثِيلِيَّةُ كِنَايَةٌ عَنْ تَوْجِيهِ نَفْسِهِ بِأَسْرِهَا لِأَجْلِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ التَّبْلِيغِ وَإِرْشَادِ الْأُمَّةِ وَإِصْلَاحِهَا. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ:
أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٢٠].
وحَنِيفاً حَال من لِلدِّينِ وَهُوَ دِينُ التَّوْحِيدِ، لِأَنَّهُ حَنِفَ أَيْ مَالَ عَنِ الْآلِهَةِ وَتَمَحَّضَ لِلَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
وَالظُّلْمُ: الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْحَقِّ. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ الْمُعَيَّنِ لِلْجَزَاءِ فِي الشَّرِّ وَالْإِجْحَافِ عَنْهُ فِي الْخَيْرِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا عَيَّنَ الْجَزَاءَ عَلَى الشَّرِّ وَوَعَدَ بِالْجَزَاءِ عَلَى الْخَيْرِ صَارَ ذَلِكَ كَالْحَقِّ لِكُلِّ فَرِيقٍ. وَالْعِلْمُ بِمَرَاتِبِ هَذَا التَّحْدِيدِ مُفَوَّضٌ لِلَّهِ تَعَالَى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [سُورَة الْكَهْف: ٤٩].
وضميرا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ عَائِدَانِ إِلَى كُلِّ نَفْسٍ بِحَسَبِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ كُلُّ نَفْسٍ يَدُلُّ عَلَى جَمْعٍ مِنَ النُّفُوسِ.
وَزِيَادَةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِلتَّصْرِيحِ بِمَفْهُومِ وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ، لِأَنَّ تَوْفِيَةَ الْجَزَاءِ عَلَى الْعَمَلِ تَسْتَلْزِمُ كَوْنَ تِلْكَ التَّوْفِيَةِ عَدْلًا، فَصَرَّحَ بِهَذَا اللَّازِمِ بِطَرِيقَةِ نَفْيِ ضِدِّهِ وَهُوَ نَفْيُ الظُّلْمِ عَنْهُمْ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْعَدْلَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَحَصَلَ مَعَ ذَلِكَ تَأْكِيدُ الْمَعْنى الأول.
[١١٢]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١١٢]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢)
عَطْفُ عِظَةٍ عَلَى عِظَةٍ. وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا هِيَ جُمَلُ الِامْتِنَانِ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ من قَوْلِهِ: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النَّحْل: ٥٣] وَمَا اتَّصَلَ بِهَا إِلَى قَوْله: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ [سُورَة النَّحْل: ٨٣]. فَانْتَقَلَ الْكَلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَهْدِيدٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً [سُورَة النَّحْل: ٨٤].
فَبَعْدَ أَنْ تَوَعَّدَهُمْ بِقَوَارِعِ الْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [سُورَة النَّحْل: ١٠٤] وَقَوْلُهُ: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [سُورَة النَّحْل: ١٠٦] إِلَى قَوْلِهِ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ [سُورَة النَّحْل: ١٠٩] عَادَ الْكَلَامُ إِلَى تَهْدِيدِهِمْ بِعَذَابٍ فِي الدُّنْيَا بِأَنْ جَعَلَهُمْ مَضْرِبَ مَثَلٍ لِقَرْيَةٍ عُذِّبَتْ عَذَابَ الدُّنْيَا، أَوْ جَعَلَهُمْ مَثَلًا وَعِظَةً لِمَنْ يَأْتِي بِمِثْلِ مَا أَتَوْا بِهِ مِنْ إِنْكَارِ نِعْمَةِ اللَّهِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانُوا أَيَّامَئِذٍ لَا يَبِينُ لَهُمْ شَيْءٌ إِلَّا وَانْتَقَلُوا إِلَى طَلَبِ شَيْءٍ آخَرَ فَسَأَلُوا عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ وَعَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَطَلَبُوا من النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ الْقُرْآنِ لِلثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٧٣].
وَالْمَعْنَى: لَا تَعْبَأْ بِهِمْ إِنْ كَرِهُوا تِلَاوَةَ بَعْضِ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ وَاتْلُ جَمِيعَ مَا أُوحِي إِلَيْكَ فَإِنَّهُ لَا مُبَدِّلَ لَهُ. فَلَمَّا وَعَدَهُمُ الْجَوَابَ عَنِ الرُّوحِ وَعَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ وَأَبَرَّ اللَّهُ وَعْدَهُ إِيَّاهُمْ قَطْعًا لِمَعْذِرَتِهِمْ بِبَيَانِ إِحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ ذَيَّلَ ذَلِكَ بِأَن أَمر نبيئه أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ كَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ، وَلِكَيْ لَا يُطْمِعَهُمُ الْإِجَابَةُ عَنْ بَعْضِ مَا سَأَلُوهُ بِالطَّمَعِ فِي أَنْ يُجِيبَهُمْ عَنْ كُلِّ مَا طَلَبُوهُ.
وَأَصْلُ النَّفْيِ بِ (لَا) النَّافِيَةِ لِلْجِنْسِ أَنَّهُ نَفْيُ وُجُودِ اسْمِهِ. وَالْمُرَادُ هُنَا نَفْيُ الْإِذْنِ فِي أَنْ يُبَدِّلَ أَحَدٌ كَلِمَاتِ اللَّهِ.
وَالتَّبْدِيلُ: التَّغْيِيرُ بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، أَيْ بِإِخْفَاءِ بَعْضِهِ بِتَرْكِ تِلَاوَةِ مَا لَا يَرْضَوْنَ بِسَمَاعِهِ مِنْ إِبْطَالِ شِرْكِهِمْ وَضَلَالِهِمْ. وَهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّهُمْ طَعَنُوا فِي بَعْضِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِمُ الْقِصَّةُ فِي الْقُرْآنِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ [الْكَهْف: ٢٢] وَقَوْلُهُ: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ [الْكَهْف: ٢٥].
وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٣٤].
فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: وَاتْلُ كِنَايَةٌ عَنِ الِاسْتِمْرَارِ. وَمَا أُوحِيَ مُفِيدٌ لِلْعُمُومِ، أَيْ كُلَّ
مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ. وَمَفْهُومُ الْمَوْصُولِ أَنَّ مَا لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ لَا يَتْلُوهُ، وَهُوَ مَا اقْتَرَحُوا أَنْ يَقُولَهُ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَإِعْطَائِهِمْ شَطْرًا مِنَ التَّصْوِيبِ.
وَالْوِزْرُ: الْإِثْمُ. وَجعل مَحْمُولا تَمْثِيل لِمُلَاقَاةِ الْمَشَقَّةِ مِنْ جَرَّاءِ الْإِثْمِ، أَيْ مِنَ الْعِقَابِ عَنْهُ. فَهُنَا مُضَافٌ مُقَدَّرٌ وَقَرِينَتُهُ الْحَالُ فِي قَوْلِهِ خالِدِينَ فِيهِ، وَهُوَ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ أَوِ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ بِحرف التوكيد، وَمَا صدقهما، مُتَّحِدٌ وَإِنَّمَا اخْتُلِفَ بِالْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ رَعْيًا لِلَفْظِ (مِنْ) مَرَّةً وَلِمَدْلُولِهَا مَرَّةً. وَهُوَ الْجَمْعُ الْمُعْرِضُونَ. فَقَالَ مَنْ أَعْرَضَ ثُمَّ قَالَ خالِدِينَ.
وَجُمْلَةُ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا حَالٌ ثَانِيَةٌ، أَيْ وَمَسُوئِينَ بِهِ. وَ (سَاءَ) هُنَا هُوَ أَحَدُ أَفْعَالِ الذَّمِّ مِثْلَ (بِئْسَ). وَفَاعِلُ ساءَ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ التَّمْيِيزُ الَّذِي بَعْدَهُ وَهُوَ حِمْلًا. وَالْحِمْلُ- بِكَسْرِ الْحَاءِ- اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَحْمُولِ كَالذِّبْحِ بِمَعْنَى الْمَذْبُوحِ.
وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ لَفْظِ وِزْراً عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَسَاءَ لَهُمْ حِمْلًا وِزْرُهُمْ، وَحَذْفُ الْمَخْصُوصِ فِي أَفْعَالِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ شَائِعٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: ٣٠] أَيْ سُلَيْمَانُ هُوَ الْأَوَّابُ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ وَساءَ لَهُمْ لَامُ التَّبْيِينِ. وَهِيَ مُبَيِّنَةٌ لِلْمَفْعُولِ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ: سَاءَهُمُ الْحِمْلُ، فَجِيءَ بِاللَّامِ لِزِيَادَةِ تَبْيِينِ تَعَلُّقِ الذَّمِّ بِحِمْلِهِ، فَاللَّامُ لِبَيَانِ الَّذِينَ تَعَلَّقَ بِهِمْ سُوءُ الْحِمْلِ.
وَالْحِمْلُ- بِكَسْرِ الْحَاءِ- الْمَحْمُولُ مثل الذّبْح.
[١٠٢- ١٠٤]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ١٠٢ إِلَى ١٠٤]
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [طه: ١٠١] فِي قَوْلِهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا [طه: ١٠١]، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ
وَضَمِيرُ أَنَّهُ الْحَقُّ عَائِدٌ إِلَى الْعِلْمِ الَّذِي أُوتُوهُ، أَيْ لِيَزْدَادُوا يَقِينًا بِأَنَّ الْوَحْيَ الَّذِي أُوتُوهُ هُوَ الْحَقُّ لَا غَيْرُهُ مِمَّا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ لَهُمْ مِنَ التَّشْكِيكِ وَالشُّبَهِ وَالتَّضْلِيلِ، فَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ أَنَّهُ عَائِدًا إِلَى مَا
تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ إِلَى قَوْلِهِ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ، أَيْ أَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ الْحَقُّ، كَقَوْلِ رُؤْبَةَ:

فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَواد وبلق كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ
أَي كَانَ كالمذكور.
وَقَوْلُهُ فَيُؤْمِنُوا بِهِ مَعْنَاهُ: فَيَزْدَادُوا إِيمَانًا أَوْ فَيُؤْمِنُوا بِالنَّاسِخِ وَالْمُحْكَمِ كَمَا آمَنُوا بِالْأَصْلِ.
وَالْإِخْبَاتُ: الِاطْمِئْنَانُ وَالْخُشُوعُ. وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ [الْحَج: ٣٤]، أَيْ فَيَسْتَقِرُّ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَة:
٢٦٠].
وَبِمَا تَلَقَّيْتَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الِانْتِظَامِ الْبَيِّنِ الْوَاضِحِ الْمُسْتَقِلِّ بِدَلَالَتِهِ وَالْمُسْتَغْنَى بِنَهْلِهِ عَنْ عُلَالَتِهِ، وَالسَّالِمِ مِنَ التَّكَلُّفَاتِ وَالِاحْتِيَاجِ إِلَى ضَمِيمَةِ الْقَصَصِ تَرَى أَنَّ الْآيَةَ بِمَعْزِلٍ عَمَّا أَلْصَقَهُ بِهَا الْمُلْصِقُونَ وَالضُّعَفَاءُ فِي عُلُومِ السُّنَّةِ، وَتَلَقَّاهُ مِنْهُمْ فَرِيقٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ حُبًّا فِي غَرَائِبِ النَّوَادِرِ دُونَ تَأَمُّلٍ وَلَا تَمْحِيصٍ، مِنْ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِسُورَةِ النَّجْمِ فَلَمْ يَكْتَفُوا بِمَا أَفْسَدُوا مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ حَتَّى تَجَاوَزُوا بِهَذَا الْإِلْصَاقِ إِلَى إِفْسَادِ مَعَانِي سُورَةِ النَّجْمِ، فَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٍ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَابْنِ شِهَابٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرْطُبِيِّ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَالضَّحَّاكِ وَأَقْرَبُهَا رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ قَالُوا: إِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ فِي نَادٍ مِنْ أَنْدِيَةِ قُرَيْشٍ كَثِيرٌ أَهْلُهُ مِنْ مُسْلِمِينَ وَكَافِرِينَ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ
وَالْمَعْنَى: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ يَأْكُلَ الْوَاحِدُ مِنْكُمْ مَعَ جَمَاعَةٍ جَاءُوا لِلْأَكْلِ مِثْلَهُ أَوْ أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ مُتَفَرِّقًا عَنْ مُشَارِكٍ، لِئَلَّا يَحْسَبَ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ إِنْ وَجَدَ مَنْ سَبَقَهُ لِلْأَكْلِ أَنْ يَتْرُكَ الْأَكْلَ حَتَّى يَخْرُجَ الَّذِي سَبَقَهُ، أَوْ أَنْ يَأْكُلَ الْوَاحِدُ مِنْكُمْ مَعَ أَهْلِ الْبَيْتِ. أَوْ أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ.
وَتَقَدَّمَ قِرَاءَةُ بِيُوتٍ بِكَسْرِ الْبَاءِ لِلْجُمْهُورِ وَبِضَمِّهَا لِوِرَشٍ وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٢٧].
فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.
تَفْرِيعٌ عَلَى الْإِذْنِ لَهُمْ فِي الْأَكْلِ مِنْ هَذِهِ الْبُيُوتِ بِأَنْ ذَكَّرَهُمْ بِأَدَبِ الدُّخُولِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها [النُّور: ٢٧] لِئَلَّا يَجْعَلُوا الْقَرَابَةَ وَالصَّدَاقَةَ وَالْمُخَالَطَةَ مُبِيحَةً لِإِسْقَاطِ الْآدَابِ فَإِنَّ وَاجِبَ الْمَرْءِ أَنْ يُلَازِمَ الْآدَابَ مَعَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ وَلَا يَغُرَّنَّهُ قَوْلُ النَّاسِ: إِذَا اسْتَوَى الْحُبُّ سَقَطَ الْأَدَبُ.
وَمَعْنَى فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ فَلْيُسَلِّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء: ٢٩].
وَلَقَدْ عَكَفَ قَوْمٌ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ وَأَهْمَلُوا دَقِيقَتَهُ فَظَنُّوا أَنَّ الدَّاخِلَ يُسَلِّمُ عَلَى نَفْسِهِ إِذَا لَمْ يَجِدْ أَحَدًا وَهَذَا بَعِيدٌ مِنْ أَغْرَاضِ التَّكْلِيفِ وَالْآدَابِ. وَأَمَّا مَا
وَرَدَ فِي التَّشَهُّد من قَول: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَذَلِكَ سَلَامٌ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ بِالسَّلَامَةِ جعله النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ عِوَضًا عَمَّا كَانُوا يَقُولُونَ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَى النَّبِيءِ، السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِكَائِيلَ، السَّلَامُ
أُسْلُوبِ مَا يُسَمَّى بِالتَّجْرِيدِ الْمُفِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ إِذْ يُجَرَّدُ مِنَ الْمَوْصُوفِ بِصِفَةِ مَوْصُوفٍ مِثْلِهِ لِيَكُونَ كَذَاتَيْنِ، كَقَوْلِ أَبِي خَالِدٍ الْخَارِجِي:
وَفِي الرحمان لِلضُّعَفَاءِ كَاف أَي الرحمان كَافِ. فَالْأَصْلُ: رَسُولُ اللَّهِ إِسْوَةٌ، فَقِيلَ: فِي رَسُولِ اللَّهِ إِسْوَةٌ. وَجُعِلَ مُتَعَلِّقُ الِائْتِسَاءِ ذَاتَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ وَصْفٍ خَاصٍّ لِيَشْمَلَ الِائْتِسَاءَ بِهِ فِي أَقْوَالِهِ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ مَا يُنْهَى عَنْهُ، وَالِائْتِسَاءَ بِأَفْعَالِهِ مِنَ الصَّبْرِ وَالشَّجَاعَةِ وَالثَّبَاتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أُسْوَةٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَهُمَا لُغَتَانِ.
ولِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَكُمْ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ أَوْ شِبْهَ الِاشْتِمَالِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِضَمِيرِ لَكُمْ يَشْتَمِلُونَ عَلَى مَنْ يَرْجُونَ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ، أَوْ هُوَ بَدَلٌ مُطَابِقٌ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِضَمِيرِ لَكُمْ خُصُوصُ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي إِعَادَةِ اللَّامِ فِي الْبَدَلِ تَكْثِيرٌ لِلْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ بِكَثْرَةِ الِاحْتِمَالَاتِ وَكُلٌّ يَأْخُذُ حَظَّهُ مِنْهَا.
فَالَّذِينَ ائْتَسَوْا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ ثَبَتَ لَهُمْ أَنَّهُمْ مِمَّنْ يَرْجُونَ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِفَرِيقٍ مِنَ الَّذِينَ صَدَّهُمْ عَنِ الِائْتِسَاءِ بِهِ مِمَّنْ كَانُوا مُنَافِقِينَ أَوْ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مِنَ الشَّكِّ فِي الدِّينِ.
وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى فَضْلِ الِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ الْإِسْوَةُ الْحَسَنَةُ لَا مَحَالَةَ وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهَا تَفْصِيلٌ وَتَحْدِيدٌ لِمَرَاتِبِ الِائْتِسَاءِ وَالْوَاجِبِ مِنْهُ وَالْمُسْتَحَبِّ وَتَفْصِيلُهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَاصْطِلَاحُ أَهْلِ الْأُصُولِ عَلَى جَعْلِ التَّأَسِّي لَقَبًا لِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ فِي أَعْمَالِهِ الَّتِي لَمْ يُطَالِبْ بِهَا الْأُمَّةَ عَلَى وَجْهِ التَّشْرِيعِ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ حَسَّانَ الْهَجَرِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ قَالَ: فِي جُوعِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَالْغِرْبِيبُ يَدُلُّ عَلَى أَشَدَّ مِنْ مَعْنَى أَسْوَدَ، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ غَرابِيبُ مُتَأَخِّرًا عَنْ سُودٌ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَسْوَدُ غِرْبِيبٌ، كَمَا يَقُولُونَ: أَبْيَضُ يَقَقٌ وَأَصْفَرُ فَاقِعٌ وَأَحْمَرُ قَانٍ، وَلَا يَقُولُونَ: غِرْبِيبٌ أَسَوْدُ وَإِنَّمَا خُولِفَ ذَلِكَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَوَاصِلِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْوَاوِ وَالْيَاءِ السَّاكِنَتَيْنِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: ١٥]، عَلَى أَنَّ فِي دَعْوَى أَن يكون غربيبا تَابِعًا لِأَسْوَدَ نَظَرًا وَالْآيَةُ تُؤَيِّدُ هَذَا النَّظَرَ، وَدَعْوَى كَوْنِ غَرابِيبُ صِفَةً لِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ سُودٌ تَكَلُّفٌ وَاضِحٌ، وَكَذَلِكَ دَعْوَى الْفَرَّاءِ: أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَغَرَضُ التَّوْكِيدِ حَاصِلٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
[٢٨]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٢٨]
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨)
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ.
مَوْقِعُهُ كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ [فاطر: ٢٧]، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُسَوِّغُ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ غَيْرَ مُفِيدٍ مَعْنًى آخَرَ فَإِنَّ تَقْدِيمَ الْخَبَرِ هُنَا سَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِالنَّكِرَةِ.
وَاخْتِلَافُ أَلْوَانِ النَّاسِ مِنْهُ اخْتِلَافٌ عَامٌّ وَهُوَ أَلْوَانُ أَصْنَافِ الْبَشَرِ وَهِيَ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ وَالْأَصْفَرُ وَالْأَحْمَرُ حَسَبَ الِاصْطِلَاحِ الْجُغْرَافِيِّ. وَلِلْعَرَبِ فِي كَلَامِهِمْ تَقْسِيمٌ آخَرُ لِأَلْوَانِ أَصْنَافِ الْبَشَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ فِي سُورَةِ الرُّومِ [٢٢].
ومِنَ تَبْعِيضِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُخْتَلِفَ أَلْوَانُهُ بَعْضٌ مِنَ النَّاسِ، وَمَجْمُوعُ الْمُخْتَلِفَاتِ كُلُّهُ هُوَ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَكَذَلِكَ الدَّوَابُّ وَالْأَنْعَامُ، وَهُوَ نَظْمٌ دَقِيقٌ دَعَا إِلَيْهِ الْإِيجَازُ.
وَجِيءَ فِي جُمْلَةِ وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ [فاطر: ٢٧] ومِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ بِالِاسْمِيَّةِ دُونَ الْفِعْلِيَّةِ كَمَا فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ لِأَنَّ اخْتِلَافَ أَلْوَانِ الْجِبَالِ وَالْحَيَوَانِ الدَّالِّ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْإِيجَادِ اخْتِلَافًا دَائِمًا لَا يَتَغَيَّرُ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ مَرَّةً وَاحِدَةً عِنْدَ الْخَلْقِ وَعِنْدَ تَوَلُّدِ النَّسْلِ.
الْمُرَتَّبَةِ لَهَا أَسْبَابٌ تُبَاشِرُهَا مِنْ حَمَلٍ وَوِلَادَةٍ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي تَخَلُّقِ الْمَوْجُودَاتِ عَنْ أُصُولِهَا. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ خَلْقَ آدَمَ فِيهِ عِنَايَةٌ زَائِدَةٌ وَتَشْرِيفُ اتِّصَالٍ أَقْرَبُ. فَالْيَدَانِ تَمْثِيلٌ لِتَكَوُّنِ آدَمَ مِنْ مُجَرَّدِ أَمْرِ التَّكْوِينِ لِلطِّينِ بِهَيْئَةِ صُنْعِ الْفَخَّارِيِّ لِلْإِنَاءِ مِنْ طِينٍ إِذْ يُسَوِّيهِ بِيَدَيْهِ. وَكَانَ السَّلَفُ يُقِرُّونَ أَنَّ الْيَدَيْنِ صِفَةٌ خَاصَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى لِوُرُودِهِمَا فِي الْقُرْآنِ مَعَ جَزْمِهِمْ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَعَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَقَصْدُهُمُ الْحَذَرُ مِنْ تَحْكِيمِ الْآرَاءِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ، أَوْ أَنْ تَحْمِلَ الْعُقُولُ الْقَاصِرَةُ صِفَاتِ اللَّهِ عَلَى مَا تَعَارَفَتْهُ وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه: ٣٩] وَقَالَ مَرَّةً فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: ٤٨]. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْآيَات المشاهبة فِي أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.
وَفِي إِلْقَاءِ هَذَا السُّؤَالِ إِلَى إِبْلِيسَ قَطْعٌ بِمَعْذِرَتِهِ. وَالْمَعْنَى: أَمِنْ أَجْلِ أَنَّكَ تَتَعَاظَمُ بِغَيْرِ حَقٍّ أَمْ لِأَنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْعُلُوِّ، وَالْمُرَادُ بِالْعُلُوِّ الشَّرَفُ، أَيْ مِنَ الْعَالِينَ عَلَى آدَمَ فَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ تُعَظِّمَهُ فَأَجَابَ إِبْلِيسُ مِمَّا يُشَقُّ الثَّانِي. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ يَعُدُّ نَفْسَهُ أَفْضَلَ مِنْ آدَمَ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ النَّارِ وَآدَمَ مَخْلُوقٌ مِنَ الطِّينِ، يَعْنِي وَالنَّارُ أَفْضَلُ مِنَ الطِّينِ، أَيْ فِي رَأْيِهِ. وَعَبَّرَ عَنْ آدَمَ بَاسِمِ «مَا» الْمَوْصُولَةِ وَهُوَ حِينَئِذٍ إِنْسَانٌ لِأَنَّ سُجُودَ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ كَانَ بَعْدَ خَلْقِهِ وَتَعْلِيمِهِ الْأَسْمَاءَ كَمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ أَنَّ «مَا» لَا تَخْتَصُّ بِغَيْرِ الْعَاقِلِ وَشَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ.
وَقَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ قَوْلٌ مِنَ الشَّيْطَانَ حُكِيَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ. وَجُمْلَةُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ. وَقَدْ جَعَلَ إِبْلِيسُ عُذْرَهُ مَبْنِيًّا عَلَى تَأْصِيلِ أَنَّ النَّارَ خَيْرٌ مِنَ الطِّينِ وَلَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ اللَّهَ رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا التَّأْصِيلَ لِأَنَّهُ أَحْقَرُ مِنْ ذَلِكَ فَلَعَنَهُ وَأَطْرَدَهُ لِأَنَّهُ ادَّعَى بَاطِلًا وَعَصَى رَبَّهُ اسْتِكْبَارًا: وَطَرْدُهُ أَجْمَعُ لِإِبْطَالِ عِلْمِهِ وَدَحْضِ دَلِيلِهِ، غَيْرَ أَنَّ النُّورَ الَّذِي فِي النَّارِ نُورٌ عَارِضٌ قَائِمٌ بِالْأَجْسَامِ الْمُلْتَهِبَةِ
الَّتِي تُسَمَّى نَارًا، وَلَيْسَ لِلنَّارِ قِيَامٌ بِنَفْسِهَا وَلِذَلِكَ لَمْ تُعَدَّ أَنْ يَكُونَ كِيَانُهَا مَخْلُوطًا بِمَا يُلْهِبُهَا.
وَمَعْنَى كَوْنِ الشَّيْطَانِ مَخْلُوقًا مِنَ النَّارِ أَنَّ ابْتِدَاءَ تَكَوُّنِ الذَّرَّةِ الْأَصْلِيَّةِ لِقِوَامِ
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَرَبَأَتْ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْمُوَحَّدَةِ مِنْ (رَبَأَ) بِالْهَمْزِ، إِذَا ارْتَفَعَ.
إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِدْمَاجٌ لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ فِي أَثْنَاءِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ، وَوُقُوعِهِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّفَنُّنِ وَانْتِهَازِ فُرَصِ الْهُدَى إِلَى الْحَقِّ.
وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَالْمُنَاسَبَةُ مُشَابَهَةُ الْإِحْيَاءَيْنِ، وَحَرْفُ التَّوْكِيدِ لِمُرَاعَاةِ إِنْكَارِ الْمُخَاطَبِينَ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى.
وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا فِي الْمَوْصُولِ مِنْ تَعْلِيلِ الْخَبَرِ، وَشُبِّهَ إِمْدَادُ الْأَرْضِ بِمَاءِ الْمَطَرِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ انْبِثَاقِ الْبُزُورِ الَّتِي فِي بَاطِنِهَا الَّتِي تَصِيرُ نَبَاتًا بِإِحْيَاءِ الْمَيِّتِ، فَأَطْلَقَ عَلَى ذَلِكَ أَحْياها عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ، ثُمَّ ارْتُقِيَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى جَعْلِ ذَلِكَ الَّذِي سُمِّيَ إِحْيَاءً لِأَنَّهُ شَبِيهُ الْإِحْيَاءِ دَلِيلًا عَلَى إِمْكَانِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى بِطَرِيقَةِ قِيَاسِ
الشَّبَهِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي الْمَنْطِقِ قِيَاسَ التَّمْثِيلِ، وَهُوَ يُفِيدُ تَقْرِيبَ الْمَقِيسِ بِالْمَقِيسِ عَلَيْهِ.
وَلَيْسَ الِاسْتِدْلَالُ بِالشَّبَهِ وَالتَّمْثِيلِ بِحُجَّةٍ قَطْعِيَّةٍ، بَلْ هُوَ إِقْنَاعِيٌّ وَلَكِنَّهُ هُنَا يَصِيرُ حُجَّةً لِأَنَّ الْمَقِيسَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ أَضْعَفَ مِنَ الْمَقِيسِ إِذِ الْمُشَبَّهُ لَا يَبْلُغُ قُوَّةَ الْمُشَبَّهِ بِهِ، فَالْمُشَبَّهُ بِهِ حَيْثُ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ إِلَّا الْخَالِقُ الَّذِي اتَّصَفَ بِالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ لِذَاتِهِ فَقَدْ تَسَاوَى فِيهِ قَوِيُّهُ وَضَعِيفُهُ، وَهُمْ كَانُوا يُحِيلُونَ إِحْيَاءَ الْأَمْوَاتِ اسْتِنَادًا لِلِاسْتِبْعَادِ الْعَادِيِّ، فَلَمَّا نُظِّرَ إِحْيَاءُ الْأَمْوَاتِ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ الْمُشَبَّهِ تَمَّ الدَّلِيلُ الْإِقْنَاعِيُّ الْمُنَاسِبُ لِشُبْهَتِهِمُ الْإِقْنَاعِيَّةِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا تَذْيِيلُهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
[٤٠]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٤٠]
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠)
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ قُصِدَ بِهِ تَهْدِيدُ الَّذِينَ أَهْمَلُوا الِاسْتِدْلَالَ بِآيَاتِ اللَّهِ عَلَى تَوْحِيدِهِ.
وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ.
عَطْفٌ عَلَى تَرَكُوا أَيْ تَرَكُوهَا وَأَوْرَثْنَاهَا غَيْرَهُمْ، أَيْ لِفِرْعَوْنَ الَّذِي وَلِيَ بَعْدَ مَوْتِ منفطا وَسمي صطفا مَنْفَطَا وَهُوَ أَحَدُ أُمَرَاءِ فِرْعَوْنَ مَنْفَطَا تَزَوَّجَ ابْنَةَ مَنْفَطَا الْمُسَمَّاةَ طُوسِيرَ الَّتِي خَلَفَتْ أَبَاهَا مَنْفَطَا عَلَى عَرْشِ مِصْرَ، وَلِكَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ نَسْلِ فِرْعَوْنَ وُصِفَ هُوَ وَجُنْدُهُ
بِقَوْمٍ آخَرِينَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: قَوْماً آخَرِينَ قَوْمًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ أُعِيدَ الِاسْمُ الظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ عَقِبِهِ وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ [الدُّخان: ٣٠]، وَلَمْ يَقُلْ وَلَقَدْ نَجَّيْنَاهُمْ.
وَوَقَعَ فِي آيَةِ الشُّعَرَاءِ فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاء: ٥٧- ٥٩] وَالْمُرَادُ هُنَالِكَ أَنَّ أَنْوَاعًا مِمَّا أَخْرَجْنَا مِنْهُ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يُقْصَدْ أَنْوَاعُ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ فِي خُصُوصِ أَرْضِ فِرْعَوْنَ. وَمُنَاسَبَةُ ذَلِكَ هُنَالِكَ أَنَّ الْقَوْمَيْنِ أُخْرِجَا مِمَّا كَانَا فِيهِ، فَسَلَبَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ مَا كَانَ لَهُ دُونَ إِعَادَةٍ لِأَنَّهُمْ هَلَكُوا، وَأُعْطِي الْفَرِيقُ الْآخَرُ أَمْثَالَ ذَلِكَ فِي أَرْضِ فَلَسْطِينَ، فَفِي قَوْلِهِ: وَأَوْرَثْناها تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ وَانْظُرْ آيَةَ سُورَة الشُّعَرَاء.
[٢٩]
[سُورَة الدُّخان (٤٤) : آيَة ٢٩]
فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩)
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ إِلَى قَوْلِهِ: قَوْماً آخَرِينَ [الدُّخان: ٢٥- ٢٨]، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ هَلَكُوا وَانْقَرَضُوا، أَيْ فَمَا كَانَ مَهْلِكُهُمْ إِلَّا كَمَهْلِكِ غَيْرِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ حَدَثًا عَظِيمًا كَمَا كَانُوا يَحْسَبُونَ وَيَحْسَبُ قَوْمُهُمْ، وَكَانَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا هَلَكَ عَظِيمٌ أَنْ يُهَوِّلُوا أَمْرَ مَوْتِهِ بِنَحْوِ: بَكَتْ عَلَيْهِ السَّمَاءُ، وَبَكَتْهُ الرِّيحُ، وَتَزَلْزَلَتِ الْجِبَالُ، قَالَ النَّابِغَةُ فِي تَوَقُّعِ مَوْتِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ مِنْ مَرَضِهِ:
فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسٍ يَهْلِكُ رَبِيعُ النَّاسِ وَالْبَلَدُ الْحَرَامُ
وَقَالَ فِي رِثَاءِ النُّعْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ الْغَسَّانِيِّ:
وَاللَّفْظُ: النُّطْقُ بِكَلِمَةٍ دَالَّةٍ عَلَى مَعْنًى وَلَوْ جُزْءِ مَعْنًى، بِخِلَافِ الْقَوْلِ فَهُوَ الْكَلَامُ الْمُفِيدُ مَعْنًى.
ومِنْ زَائِدَةٌ فِي مَفْعُولِ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي
قَوْلِهِ: إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحْوَالٍ عَامَّةٍ، أَيْ مَا يَقُولُ قَوْلًا فِي حَالَةٍ إِلَّا فِي حَالَةِ وُجُودِ رَقِيبٍ عَتِيدٍ لَدَيْهِ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ لِأَنَّ الْمُرَاقَبَةَ هُنَا تَتَعَلَّقُ بِمَا فِي الْأَقْوَالِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ لِيَكُونَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ فَلَا يَكْتُبُ الْحَفَظَةُ إِلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ صَلَاحُ الْإِنْسَانِ أَوْ فَسَادُهُ إِذْ لَا حِكْمَةَ فِي كِتَابَةِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَكْتُبُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَكْتُبَانِ كُلَّ مَا صَدَرَ مِنَ الْعَبْدِ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ: حَتَّى أَنِينَهُ فِي مَرَضِهِ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. وَإِنَّمَا خُصَّ الْقَوْلُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ابْتِدَاءً مِنْ هَذَا التَّحْذِيرِ الْمُشْرِكُونَ وَإِنَّمَا كَانُوا يُؤَاخَذُونَ بِأَقْوَالِهِمُ الدَّالَّةِ عَلَى الشِّرْكِ أَوْ عَلَى تَكْذِيب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَذَاهُ وَلَا يُؤَاخَذُونَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ إِذْ لَيْسُوا مُكَلَّفِينَ بِالْأَعْمَالِ فِي حَالِ إِشْرَاكِهِمْ.
وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الَّتِي هِيَ مِنْ أَثَرِ الشِّرْكِ كَالتَّطْوَافِ بِالصَّنَمِ، أَوْ مِنْ أَثَرِ أَذَى النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَإِلْقَاءِ سَلَا الْجُذُورِ عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهُمْ مُؤَاخَذُونَ بِهِ فِي ضِمْنِ أَقْوَالِهِمْ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْأَفْعَالَ لَا تَخْلُو مِنْ مُصَاحَبَةِ أَقْوَالٍ مُؤَاخَذٍ عَلَيْهَا بِمِقْدَارِ مَا صَاحَبَهَا.
وَلِأَنَّ مِنَ الْأَقْوَالِ السَّيِّئَةِ مَا لَهُ أَثَرٌ شَدِيدٌ فِي الْإِضْلَالِ كَالدُّعَاءِ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَنَهْيِ النَّاسِ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَتَرْوِيجِ الْبَاطِلِ بِإِلْقَاءِ الشُّبَهِ، وَتَغْرِيرِ الْأَغْرَارِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ»
، عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى الْأَعْمَالِ أَوْلَى مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الْأَقْوَالِ وَتِلْكَ الدَّلَالَةُ كَافِيَةٌ فِي تَذْكِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَجُمْلَةُ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَضَمِيرُ لَدَيْهِ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسانَ [ق: ١٦]، وَالْمَعْنَى: لَدَى لَفْظِهِ بِقَوْلِهِ.
تَوْكِيدِ الْاِعْتِنَاءِ بِأَصْحَابِ الْيَمِينِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْمَقَامِ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحابُ الْيَمِينِ [الْوَاقِعَة: ٢٧] الْآيَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أُعْطِي لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ لَيْسَ مُخَالِفًا لِأَنْوَاعِ مَا أُعْطِيَ لِلسَّابِقِينَ وَلَا أَنَّ مَا أُعْطِيَ لِلسَّابِقِينَ مُخَالِفٌ لِمَا أُعْطِيَ أَصْحَابُ الْيَمِينِ فَإِنَّ الظِّلَّ وَالْمَاءَ الْمَسْكُوبَ وَكَوْنَ أَزْوَاجِهِمْ عُرُبَا أَتْرَابًا لَمْ يَذْكَرْ مِثْلُهُ لِلسَّابِقِينَ وَهُوَ ثَابِتٌ لَهُمْ لَا مَحَالَةَ إِذْ لَا يَقْصُرُونَ عَنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَكَذَلِكَ مَا ذُكِرَ لِلسَّابِقِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَكْوَابِهِمْ وَأَبَارِيقِهِمْ وَلَحْمِ الطَّيْرِ وَكَوْنِ أَزْوَاجِهِمْ حُورًا عِينًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا، لَمْ يَذْكُرْ مَثَلَهُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ مَعَ أَنَّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُمْ أُعْطُوا أَشْيَاءَ لَمْ يُذْكَرْ إِعْطَاؤُهَا لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [يُونُس: ١٠]، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ تَوْزِيعَ النَّعِيمِ وَلَا قَصْرَهُ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ تَعْدَادُهُ وَالتَّشْوِيقُ إِلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ السَّابِقِينَ أَعْلَى مَقَامًا مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ بِمُقْتَضَى السِّيَاقِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى تَفَاوُتِ الْمَقَامَيْنِ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي نَعِيمِ السَّابِقِينَ أَنَّهُ جَزَاءٌ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لِلْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِيهَا وَلَمْ يُذْكَرْ مِثْلُهُ فِي نَعِيمِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَجُمَاعُ الْغَرَضِ مِنْ ذَلِكَ التَّنْوِيهُ بكلا الْفَرِيقَيْنِ.
[٣٩، ٤٠]
[سُورَة الْوَاقِعَة (٥٦) : الْآيَات ٣٩ إِلَى ٤٠]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠)
أَيْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ، وَالكَّلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ
فِي قَوْلِهِ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الْوَاقِعَة: ١٣، ١٤] فَاذْكُرْهُ. وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: أَنَّ كِلْتَا الثُّلَّتَيْنِ مِنَ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ ثُلَّةٌ مِنْ صَدْرِهَا وَثُلَّةٌ مِنْ بَقِيَّتِهَا وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَى سَنَدِ هَذَا النَّقْلِ.
وَإِنَّمَا أَخَّرَ هَذَا عَنْ ذِكْرِ مَا لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ عِزَّةَ هَذَا الصِّنْفِ وَقِلَّتِهِ دُونَ عِزَّةِ صِنْفِ السَّابِقِينِ، فَالسَّابِقُونَ أَعَزُّ، وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ تَرْتِيبِ نظم الْكَلَام.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ الْخُرُوجَ لِلْحَدَثِ وَالْبَذَاءِ وَالْحَاجَةِ إِلَى الْمَعَايِشِ وَخَوْفِ الْعَوْدَةِ مِنَ الْمَسْكَنِ جَائِزٌ بِالسُّنَّةِ.
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَوَّزَ الِانْتِقَالَ لِلضَّرُورَةِ وَجَعَلُوا ذَلِكَ مَحْمِلَ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَإِنَّهَا خِيفَ عَلَيْهَا فِي مَكَانٍ وَحْشٍ وَحَدَثَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَهْلِ زَوْجِهَا شَرٌّ وَبَذَاءٌ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: تِلْكَ امْرَأَةٌ اسْتَطَالَتْ عَلَى أَحْمَائِهَا بِلِسَانِهَا أَنَّهَا كَانَتْ لَسِنَةً فَأَمَرَهَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَنْتَقِلَ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ قَرِيبٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافًا لَفْظِيًّا لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَدَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَى أَنَّ انْتِقَالَهَا كَانَ لِعُذْرٍ قبله النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَكُونُ تِلْكَ الْقَضِيَّةُ مُخَصِّصَةً لِلْآيَةِ وَيَجْرِي الْقِيَاسُ عَلَيْهَا إِذَا تَحَقَّقَتْ عِلَّةُ الْقِيَاسِ.
أَمَّا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: لَا نَدَعُ كِتَابَ الله وَسنة نَبينَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ أَحَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ. فَهُوَ دَحْضٌ لِرِوَايَةِ فَاطِمَةَ ابْنَةِ قَيْسٍ بِشَكٍّ لَهُ فِيهِ فَلَا تَكُونُ مُعَارِضَةً لِآيَةٍ حَتَّى يُصَارَ إِلَى الْجَمْعِ بِالتَّخْصِيصِ وَالتَّرْخِيصِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قِيلَ إِنَّ عُمَرَ لَمْ يُخَصِّصِ الْقُرْآنَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
وَأَمَّا تَحْدِيدُ مَنْعِ خُرُوجِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ بَيْتِهَا فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ مَبِيتَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِهَا حَرَامٌ. وَأَمَّا خُرُوجُهَا نَهَارا لقَضَاء شؤون نَفْسِهَا فَجَوَّزَهُ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَأَحْمَدُ لِلْمُعْتَدَّةِ مُطْلَقًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ لَا تَخْرُجُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا وَالْمَبْتُوتَةُ تَخْرُجُ نَهَارًا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَخْرُجُ الْمُعْتَدَّةُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ نَهَارًا وَلَا تَخْرُجُ غَيْرُهَا، لَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا.
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أَرْسَلَ إِلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ يَسْأَلُهَا عَنْ حَدِيثِهَا فَلَمَّا أُبْلِغَ إِلَيْهِ قَالَ: لَمْ نَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا مِنَ امْرَأَةٍ سَنَأْخُذُ بِالْعِصْمَةِ الَّتِي وَجَدْنَا عَلَيْهَا النَّاسَ. فَقَالَتْ فَاطِمَةُ حِينَ بَلَغَهَا قَوْلُ مَرْوَانَ: «فَبَيْنِي وَبَيْنَكُمُ الْقُرْآنُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً. هَذَا لِمَنْ كَانَ لَهُ رَجْعَةٌ فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلَاثِ فَكَيْفَ تَقُولُونَ لَا نَفَقَةَ لَهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا فَعَلَامَ تَحْبِسُونَهَا فَظَنَّتْ أَنَّ مُلَازمَة بَيتهَا لاستبقاء الصِّلَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مفارقها وَأَنَّهَا مُلَازمَة بِذَلِكَ لِأَجْلِ الْإِنْفَاقِ.
أَمْرِ مُحَمَّدٍ وَإِنَّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ فِيهِ أَنْ تَقُولُوا: سَاحِرٌ جَاءَ بِقَوْلٍ هُوَ سِحْرٌ، يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَبِيهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجَتِهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَعَشِيرَتِهِ، فَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَوْلَهُ: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً الْآيَاتِ.
وَعَنْ أَبِي نَصْرٍ الْقُشَيْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ بَلَغَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُ كُفَّارِ مَكَّةَ: أَنْتَ سَاحِرٌ فَوَجَدَ مِنْ ذَلِكَ غَمًّا وَحُمَّ فَتَدَثَّرَ بِثِيَابِهِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُمْ فَأَنْذِرْ
[المدثر: ٢].
وأيّاما كَانَ فَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ صَدَرَ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَنَّهُ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً فَإِنَّ كَانَ قَوْلُ الْوَلِيدِ صَدَرَ مِنْهُ بَعْدَ نُزُولِ صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ فَجُمْلَةُ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا وَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْوَلِيدِ هُوَ سَبَبَ نُزُولِ السُّورَةِ، كَانَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر: ٧] عَلَى أَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالصَّبْرِ بِأَنَّ اللَّهَ يَتَوَلَّى جَزَاءَ هَذَا الْقَائِلِ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنْ ابْتِدَاءَ الْوَحْيِ كَانَ فِي رَمَضَانَ وَأَنَّ فَتْرَةَ الْوَحْيِ دَامَتْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَى الْأَصَحِّ سَوَاءٌ نَزَلَ وَحي بَين يدء الْوَحْيِ وَفَتْرَتِهِ مُدَّةَ أَيَّامٍ، أَوْ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ بَدْئِهِ شَيْءٌ وَوَقَعَتْ فَتْرَتُهُ، فَيَكُونُ قَدْ أَشْرَفَ شَهْرُ ذِي الْقَعْدَةِ عَلَى الِانْصِرَامِ فَتِلْكَ مُدَّةُ اقْتِرَابِ الْمَوْسِمِ فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِمَا يَقُولُونَهُ لِلْوُفُودِ إِذَا اسْتَخْبَرُوهُمْ خَبَرَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَتَصْدِيرُ الْجُمْلَةِ بِفِعْلِ ذَرْنِي إِيمَاء إِلَى أَن الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُهْتَمًّا وَمُغْتَمًّا مِمَّا اخْتَلَقَهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، فَاتِّصَالُهُ بِقَوْلِهِ: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ يَزْدَادُ وُضُوحًا.
وَتَقَدَّمَ مَا فِي نَحْوِ ذَرْنِي وَكَذَا، مِنَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ لِلْمَذْكُورِ بَعْدَ وَاوِ الْمَعِيَّةِ، فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ [٤٤].
وَجِيءَ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً لِإِدْمَاجِ تَسْجِيلِ كُفْرَانِ الْوَلِيدِ النِّعْمَةَ فِي الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ.
وَانْتَصَبَ وَحِيداً عَلَى الْحَالِ مِنْ مَنْ الْمَوْصُولَةِ.
وَالْوَحِيدُ: الْمُنْفَرِدُ عَنْ غَيْرِهِ فِي مَكَانٍ أَوْ حَالٍ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، أَوْ شُهْرَةٍ أَوْ قِصَّةٍ، وَهُوَ فَعِيلٌ مِنْ وَحُدَ مِنْ بَابِ كَرُمَ وَعَلِمَ، إِذَا انْفَرَدَ.
وَالْمَبْثُوثَةُ: الْمُنْتَشِرَةُ عَلَى الْأَرْضِ بِكَثْرَةٍ وَذَلِكَ يُفِيدُ كِنَايَةً عَنِ الْكَثْرَةِ.
وَقَدْ قُوبِلَتْ صِفَاتُ وُجُوهِ أَهْلِ النَّارِ بِصِفَاتِ وُجُوهِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَقُوبِلَتْ صِفَات خاشِعَةٌ [الغاشية: ٢]، عامِلَةٌ، ناصِبَةٌ [الغاشية: ٣] بِصِفَاتِ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ
[الغاشية: ٨، ٩]، وَقُوبِلَ قَوْلُهُ: تَصْلى نَارا حامِيَةً [الغاشية: ٤] بِقَوْلِهِ: فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ [الغاشية: ١٠]. وَقُوبِلَ: تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية: ٥] بِقَوْلِهِ: فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ [الغاشية:
١٢]، وَقُوبِلَ شَقَاءُ عَيْشِ أَهْلِ النَّارِ الَّذِي أَفَادَهُ قَوْله: يْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لَا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ
[الغاشية: ٦، ٧]، بِمَقَاعِدِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْمُشْعِرَةِ بِتَرَفِ الْعَيْشِ مِنْ شَرَابٍ وَمَتَاعٍ.
وَهَذَا وَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ مَا يَعْرِفُونَ مِنَ النَعِيمِ فِي الدُّنْيَا وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ تَرَفَ الْجَنَّةِ لَا يَبْلُغُهُ الْوَصْفُ بِالْكَلَامِ وَجُمِعَ ذَلِكَ بِوَجْهِ الْإِجْمَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزخرف: ٧١]، وَلَكِنَّ الْأَرْوَاحَ تَرْتَاحُ بمألوفاتها فتعطاها فَيكون نَعِيمَ أَرْوَاحِ النَّاسِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِنْ كُلِّ مِصْرٍ فِي الدَّرَجَةِ الْقُصْوَى مِمَّا أَلِفُوهُ وَلَا سِيَّمَا مَا هُوَ مَأْلُوفٌ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْحَضَارَةِ وَالتَّرَفِ وَكَانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ يُزَادُونَ مِنَ النَعِيمِ «مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قلب بشر».
[١٧- ٢٠]
[سُورَة الغاشية (٨٨) : الْآيَات ١٧ إِلَى ٢٠]
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠)
لَمَّا تَقَدَّمَ التَّذْكِيرُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَوَصْفُ حَالِ أَهْلِ الشَّقَاءِ بِمَا وُصِفُوا بِهِ، وَكَانَ قَدْ تَقَرَّرُ فِيمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّ أَهْلَ الشَّقَاءِ هُمْ أَهْلُ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ، فُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ إِعْرَاضَهُمْ عَنِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ، فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: أَفَلا يَنْظُرُونَ تَفْرِيعُ التَّعْلِيلِ عَلَى الْمُعَلَّلِ لِأَنَّ فَظَاعَةَ ذَلِكَ الْوَعِيدِ تَجْعَلُ الْمَقَامَ مَقَامَ اسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُمْ مَحْقُوقُونَ بِوُجُوبِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَصِلُ الِاهْتِدَاءِ إِلَى تَصْدِيقِ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَإِلَى الِاهْتِدَاءِ إِلَى أَن منشىء النَّشْأَةِ الْأَوْلَى عَنْ عَدَمٍ بِمَا فِيهَا مِنْ عَظِيمِ الْمَوْجُودَاتِ كَالْجِبَالِ وَالسَّمَاءِ، لَا يُسْتَبْعَدُ فِي جَانِبِ قُدْرَتِهِ إِعَادَةُ إِنْشَاءِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ فَنَائِهِ عَنْ عَدَمٍ، وَهُوَ دُونَ


الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
بَكَى حَارِثُ الْجَوْلَانِ مِنْ فَقْدِ رَبِّهِ وَحَوْرَانُ مِنْهُ مُوحَشٌ مُتَضَائِلُِِ