ثَالِثُهَا:
أَنْ يَكُونَ لَهُ مَيْلٌ إِلَى نَزْعَةٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ نِحْلَةً فَيَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ عَلَى وَفْقِ رَأْيِهِ وَيَصْرِفُهُ عَنِ الْمُرَادِ وَيُرْغِمُهُ عَلَى تَحَمُّلِهِ مَا لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ الْمَعْنَى الْمُتَعَارَفُ، فَيُجْرِ شَهَادَةَ الْقُرْآنِ لِتَقْرِيرِ رَأْيِهِ وَيَمْنَعُهُ عَنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ حَقَّ فَهْمِهِ مَا قَيَّدَ عَقْلَهُ مِنَ التَّعَصُّبِ، عَنْ أَنْ يُجَاوِزَهُ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِ غَيْرُ مَذْهَبِهِ حَتَّى إِنْ لَمَعَ لَهُ بَارِقُ حَقٍّ وَبَدَا لَهُ مَعْنًى يُبَايِنُ مَذْهَبَهُ حَمَلَ عَلَيْهِ شَيْطَانُ التَّعَصُّبِ حَمْلَةً وَقَالَ كَيْفَ يَخْطُرُ هَذَا بِبَالِكَ، وَهُوَ خِلَافُ مُعْتَقَدِكَ؟
كَمَنْ يَعْتَقِدُ مِنَ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ التَّمَكُّنَ وَالِاسْتِقْرَارَ، فَإِنْ خَطَرَ لَهُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الْقُدُّوسُ [الْحَشْر: ٢٣] أَنَّهُ الْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ صِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ حَجَبَهُ تَقْلِيدُهُ عَنْ أَنْ يَتَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، وَلَوْ تَقَرَّرَ لَتَوَصَّلَ فَهْمُهُ فِيهِ إِلَى كَشْفِ مَعْنًى ثَانٍ أَوْ ثَالِثٍ، وَلَكِنَّهُ يُسَارِعُ إِلَى دَفْعِ ذَلِكَ عَنْ خَاطِرِهِ لِمُنَاقَضَتِهِ مَذْهَبَهُ. وَجُمُودُ الطَّبْعِ عَلَى الظَّاهِرِ مَانِعٌ مِنَ التَّوَصُّلِ لِلْغَوْرِ. كَذَلِكَ تَفْسِيرُ الْمُعْتَزِلَةِ قَوْلَهُ: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [الْقِيَامَة: ٢٣] بِمَعْنَى أَنَّهَا تَنْتَظِرُ نِعْمَةَ رَبِّهَا عَلَى أَنَّ إِلَى وَاحِدُ الْآلَاءِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْخُرُوجِ عَنِ الظَّاهِرِ وَعَنِ الْمَأْثُورِ وَعَنِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْآيَةِ.
وَقَالَتِ الْبَيَانِيَّةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ [آل عمرَان: ١٣٨] إِنَّهُ بَيَانُ ابْن سَمْعَانَ كَبِيرُ مَذْهَبِهِمْ (١). وَكَانَتِ الْمَنْصُورِيَّةُ أَصْحَابُ أَبِي مَنْصُورٍ الْكِسْفِ (٢) يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ [الطّور: ٤٤] أَنَّ الْكِسْفَ إِمَامَهُمْ نَازِلٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَهَذَا إِنْ صَحَّ عَنْهُمْ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ مُلْصَقَاتِ أَضْدَادِهِمْ فَهُوَ تَبْدِيلٌ لِلْقُرْآنِ وَمُرُوقٌ عَنِ الدِّينِ.
رَابِعُهَا:
أَنْ يُفَسِّرَ الْقُرْآنَ بِرَأْيٍ مُسْتَنِدٍ إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ ثُمَّ يَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ دُونَ غَيْرِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّضْيِيقِ عَلَى الْمُتَأَوِّلِينَ.
خَامِسُهَا:
أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ مِنَ التَّحْذِيرِ أَخْذَ الْحِيطَةِ فِي التَّدَبُّرِ وَالتَّأْوِيلِ وَنَبْذَ التَّسَرُّعِ
إِلَى ذَلِكَ، وَهَذَا مَقَامٌ تَفَاوَتَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ وَاشْتَدَّ الْغُلُوُّ فِي الْوَرَعِ بِبَعْضِهِمْ حَتَّى كَانَ لَا يَذْكُرُ تَفْسِيرَ شَيْءٍ غَيْرَ عَازِيهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَكَانَ الْأَصْمَعِيُّ لَا يُفَسِّرُ كَلِمَةً مِنَ الْعَرَبِيَّةِ إِذَا كَانَتْ وَاقِعَةً فِي الْقُرْآنِ،
_________
(١) وَهُوَ بَيَان بن سمْعَان التَّمِيمِي، والبيانية من غلاة الشِّيعَة، يَقُولُونَ بالحلول وبإلهية عَليّ وَالْحسن وَالْحُسَيْن وَمُحَمّد بن الْحَنَفِيَّة. صلب خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي بَيَانا هَذَا سنة ١١٩ هـ بِالْكُوفَةِ.
(٢) هُوَ أَبُو مَنْصُور الْعجلِيّ الملقب بالكشف- بِكَسْر الْكَاف وَسُكُون السِّين- زعم أَنه خَليفَة الباقر وَزعم أَنه عرج إِلَى السَّمَاء وتلقى من الله الْإِذْن بِأَن يبلغ عَنهُ وَأَنه المُرَاد بقوله تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ [الطّور: ٤٤] قَتله يُوسُف بن عمر الثَّقَفِيّ أَمِير الْعرَاق بَين سنة ١٢٠ و١٢٦ هـ.
فَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِحْضَارُ الذَّاتِ الْمَطْلُوبَةِ بِالْحِسِّ فَاسْتِحْضَارُهَا يَكُونُ بِشَيْءٍ لَهُ انْتِسَابٌ إِلَيْهَا مُبَاشَرَةً كَالدِّيَارِ أَوْ بِوَاسِطَةٍ كَالْبَرْقِ وَالنَّسِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ بِالشَّبَهِ كَالْغَزَالِ عِنْدَ الْمُحِبِّينَ، وَقَدِيمًا مَا اسْتَهْتَرَتِ الشُّعَرَاءُ بِآثَارِ الْأَحِبَّةِ كَالْأَطْلَالِ فِي قَوْلِهِ:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ
وَأَقْوَالِهِمْ فِي الْبَرْقِ وَالرِّيحِ، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ الرَّيْبِ:

دَعَانِي الْهَوَى مِنْ أَهْلِ وِدِّي وَجِيرَتِي بِذِي الطَّيِّسَيْنِ فَالْتَفَتُّ وَرَائِيَا
وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ الْحِسُّ فَوَسِيلَةُ اسْتِحْضَارِ ذَاتِهِ هِيَ اسْتِحْضَارُ مَا فِيهِ مَزِيدُ دَلَالَةٍ عَلَيْهِ تَعَالَى. لَا جَرَمَ أَنَّ أَوْلَى الْمَخْلُوقَاتِ بِأَنْ يُجْعَلَ وَسِيلَةً لِاسْتِحْضَارِ الْخَالِقِ فِي نَفْسِ عَبْدِهِ هِيَ الْمَخْلُوقَاتُ الَّتِي كَانَ وُجُودُهَا لِأَجْلِ الدَّلَالَةِ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ وَوَصْفِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مَعَ تَجَرُّدِهَا عَنْ كُلِّ مَا يُوهِمُ أَنَّهَا الْمَقْصُودَةُ بِالْعِبَادَةِ وَتِلْكَ هِيَ الْمَسَاجِدُ الَّتِي بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَرَّدَهَا مِنْ أَنْ يَضَعَ فِيهَا شَيْئًا يُوهِمُ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْعِبَادَةِ، وَلَمْ يُسَمِّهَا بِاسْمِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَبَنَى الْكَعْبَةَ أَوَّلَ بَيْتٍ، وَبَنَى مَسْجِدًا فِي مَكَانِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَبَنَى مَسَاجِدَ أُخْرَى وَرَدَ ذِكْرُهَا فِي التَّوْرَاةِ بِعُنْوَانِ مَذَابِحَ، فَقَدْ بنت الصابئة وَأهل الشّرك بَعْدَ نُوحٍ هَيَاكِلَ لِتَمْجِيدِ الْأَوْثَانِ وَتَهْوِيلِ شَأْنِهَا فِي النُّفُوسِ فَأَضَافُوهَا إِلَى أَسْمَاءِ أُنَاسٍ مِثْلِ وَدٍّ وَسُوَاعٍ، أَوْ إِلَى أَسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ، وَذَكَرَ الْمَسْعُودِيُّ فِي «مُرُوجِ الذَّهَبِ» عِدَّةً مِنَ الْهَيَاكِلِ الَّتِي أُقِيمَتْ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ لِهَذَا الشَّأْنِ وَمِنْهَا هَيْكَلُ سَنْدُوسَابَ بِبِلَادِ الْهِنْدِ وَهَيْكَلُ مَصْلِينَا فِي جِهَة الرقة بناه الصَّابِئَةُ قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ آزَرُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ مِنْ
سَدَنَتِهِ، وَقِيلَ أَنَّ عَادًا بَنَوْا هَيَاكِلَ مِنْهَا جِلِّقُ هَيْكَلُ بِلَادِ الشَّامِ.
فَإِذَا اسْتَقْبَلَ الْمُؤْمِنُ بِاللَّهِ شَيْئًا مِنَ الْبُيُوتِ الَّتِي أُقِيمَتْ لِمُنَاقِضَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَمْجِيدِهِ كَانَ مِنَ اسْتِحْضَارِ الْخَالِقِ بِمَا هُوَ أَشَدُّ إِضَافَةً إِلَيْهِ، بَيْدَ أَنَّ هَذِهِ الْبُيُوتَ عَلَى كَثْرَتِهَا لَا تَتَفَاضَلُ إِلَّا بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ مِنْ إِقَامَتِهَا، وَبِكَوْنِ إِقَامَتِهَا لِذَلِكَ وَبِأَسْبَقِيَّةِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ فِي هَذَا الْغَرَضِ، وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ كُلَّ هَذِهِ الْمَعَانِي ثَلَاثَةً فِي مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ الْأَسْبَقِيَّةُ لِأَنَّ السَّابِقَ مِنْهَا قَدِ امْتَازَ عَلَى اللَّاحِقِ بِكَوْنِهِ هُوَ الَّذِي دَلَّ مُؤَسِّسُ ذَلِكَ اللَّاحِقِ عَلَى تَأْسِيسِهِ قَالَ تَعَالَى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التَّوْبَة: ١٠٨]، وَقَالَ
فِي قَوْلِهِ: فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ- إِلَى قَوْلِهِ- وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: ١٠١]، وَلِأَنَّ الطَّاغُوتَ كَانُوا أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ آمَنُوا قَبْلَ الْإِيمَانِ فَإِنَّ الْجَمِيعَ كَانُوا مُشْرِكِينَ، وَكَذَلِكَ مَا أَطَالَ بِهِ فَخْرُ الدَّين من وجود الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَاسْتِدْلَالِهِمْ عَلَيْنَا. وَجُمْلَةُ يُخْرِجُهُمْ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ. وَجُمْلَةُ يُخْرِجُونَهُمْ حَالٌ مِنَ الطَّاغُوتِ. وَأُعِيدَ الضَّمِيرُ إِلَى الطَّاغُوتِ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ لِأَنَّهُ أَسْنَدَ إِلَيْهِمْ مَا هُوَ مِنْ فِعْلِ الْعُقَلَاءِ وَإِنْ كَانُوا فِي الْحَقِيقَةِ سَبَبَ الْخُرُوجِ لَا مُخْرِجِينَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الطَّاغُوتِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى [الْبَقَرَة: ٢٥٦].
[٢٥٨]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٥٨]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨)
جَرَى هَذَا الْكَلَامُ مَجْرَى الْحُجَّةِ عَلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَاضِيَةِ أَوِ الْمِثَالِ لَهَا فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَأَنَّ الطَّاغُوتَ يُخْرِجُونَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ، سَاقَ ثَلَاثَةَ شَوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ هَذَا أَوَّلُهَا وَأَجْمَعُهَا لِأَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى ضَلَالِ الْكَافِرِ وَهُدَى الْمُؤْمِنِ، فَكَانَ هَذَا فِي قُوَّةِ الْمِثَالِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَمْثِيلُ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي مُجَادَلَتِهِمُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَعْثِ بِحَالِ
الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا يَرِدُ مِنَ التَّخْيِيرِ فِي التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ [الْبَقَرَة: ٢٥٩] الْآيَةَ.
وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى تَرْكِيبِ أَلَمْ تَرَ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَلَمْ تَرَ مَجَازِيٌّ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى التَّعْجِيبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ مَعْنَاهُ وَأَصْلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [الْبَقَرَة: ٢٤٣]. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ مَسُوقٌ لِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِبْطَالِ إِلَاهِيَّةِ غَيْرِهِ لِانْفِرَادِهِ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَانْفِرَادِهِ بِخَلْقِ الْعَوَالِمِ الْمَشْهُودَةِ لِلنَّاسِ. وَمَعْنَى حَاجَّ خَاصَمَ، وَهُوَ
مُدَّةَ الْحَيَاةِ، وَهُوَ مَجَازٌ تَمْثِيلِيٌّ عِلَاقَتُهُ اللُّزُومُ، لِمَا
شَاعَ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ أَنَّ سَاعَةَ الْمَوْتِ أَمْرٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ كَمَا قَالَ الصِّدِّيقُ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
فَالنَّهْيُ عَنِ الْمَوْتِ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ مُفَارَقَةِ الْإِسْلَامِ فِي سَائِرِ أَحْيَانِ الْحَيَاةِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيُّ، لَكَانَ تَرْخِيصًا فِي مُفَارَقَةِ الْإِسْلَامِ إِلَّا عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ، وَهُوَ مَعْنًى فَاسِدٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
وَقَوْلُهُ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ثَنَّى أَمْرَهُمْ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ أَنْفُسِهِمْ لَأُخْرَاهُمْ، بِأَمْرِهِمْ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ حَالِهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ، وَذَلِكَ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى هَذَا الدِّينِ وَعَدَمِ التَّفَرُّقِ لِيَكْتَسِبُوا بِاتِّحَادِهِمْ قُوَّةً وَنَمَاءً. وَالِاعْتِصَامُ افْتِعَالٌ مِنْ عَصَمَ وَهُوَ طَلَبُ مَا يَعْصِمُ أَيْ يَمْنَعُ.
وَالْحَبْلُ: مَا يُشَدُّ بِهِ لِلِارْتِقَاءِ، أَوِ التَّدَلِّي، أَوْ لِلنَّجَاةِ مِنْ غَرَقٍ، أَوْ نَحْوِهِ، وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِهَيْئَةِ اجْتِمَاعِهِمْ وَالْتِفَافِهِمْ عَلَى دِينِ اللَّهِ وَوَصَايَاهُ وَعُهُودِهِ بِهَيْئَةِ اسْتِمْسَاكِ جَمَاعَةٍ بِحَبْلٍ أُلْقِيَ إِلَيْهِم من مُنْقِذٍ لَهُمْ مِنْ غَرَقٍ أَوْ سُقُوطٍ، وَإِضَافَةُ الْحَبْلِ إِلَى اللَّهِ قَرِينَةُ هَذَا التَّمْثِيلِ.
وَقَوْلُهُ: جَمِيعاً حَالٌ وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَ إِرَادَةَ التَّمْثِيلِ، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ الْأَمْرَ بِاعْتِصَامِ كُلِّ مُسْلِمٍ فِي حَالِ انْفِرَادِهِ اعْتِصَامًا بِهَذَا الدِّينِ، بَلِ الْمَقْصُودُ الْأَمْرُ بِاعْتِصَامِ الْأُمَّةِ كُلِّهَا، وَيَحْصُلُ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ أَمْرُ كُلِّ وَاحِدٍ بِالتَّمَسُّكِ بِهَذَا الدّين، فَالْكَلَام أَمر لَهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا عَلَى هَاتِهِ الْهَيْئَةِ، وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْمُنَاسِبُ لِتَمَامِ الْبَلَاغَةِ لِكَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي، وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَارَ الِاعْتِصَامُ لِلتَّوْثِيقِ بِالدِّينِ وَعُهُودِهِ، وَعَدَمِ الِانْفِصَالِ عَنْهُ، وَيُسْتَعَارُ الْحَبْلُ لِلدِّينِ وَالْعُهُودِ كَقَوْلِهِ: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمرَان: ١١٢] وَيَكُونُ كُلٌّ مِنَ الِاسْتِعَارَتَيْنِ تَرْشِيحًا لِلْأُخْرَى، لِأَنَّ مَبْنَى التَّرْشِيحِ عَلَى اعْتِبَارِ تَقْوِيَةِ التَّشْبِيهِ فِي نَفْسِ السَّامِعِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ بِمُجَرَّدِ سَمَاعِ لَفْظِ مَا هُوَ مِنْ مُلَائِمَاتِ الْمُسْتَعَارِ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ ذَلِكَ الْمُلَائِمِ مُعْتَبَرَةٌ فِيهِ اسْتِعَارَةٌ أُخْرَى، إِذْ
ثُمَّ مَحَلُّ النَّهْيِ فِي الْآيَةِ: هُوَ التَّمَنِّي، وَهُوَ طَلَبُ مَا لَا قِبَلَ لِأَحَدٍ بِتَحْصِيلِهِ بِكَسْبِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَبْعَثُ عَلَى سُلُوكِ مَسَالِكِ الْعَدَاءِ، فَأَمَّا طَلَبُ مَا يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُهُ مِنْ غَيْرِ ضُرٍّ بِالْغَيْرِ فَلَا نَهْيَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ بِطَلَبِهِ يَنْصَرِفُ إِلَى تَحْصِيلِهِ فَيُحَصِّلُ فَائِدَةً دِينِيَّةً أَوْ دُنْيَوِيَّةً، أَمَّا طَلَبُ مَا لَا قِبَلَ لَهُ بِتَحْصِيلِهِ فَإِنْ رَجَعَ إِلَى الْفَوَائِدِ الْأُخْرَوِيَّةِ فَلَا ضَيْرَ فِيهِ.
وَحِكْمَةُ النَّهْيِ عَنِ الْأَقْسَامِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا مِنَ التَّمَنِّي أَنَّهَا تُفْسِدُ مَا بَيْنَ النَّاسِ فِي
مُعَامَلَاتِهِمْ فينشأ عَنْهَا التحاسد، وَهُوَ أَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ، إِذْ حَسَدَ إِبْلِيسُ آدَمَ، ثُمَّ يَنْشَأُ عَنِ الْحَسَدِ الْغَيْظُ وَالْغَضَبُ فَيُفْضِي إِلَى أَذَى الْمَحْسُود، وَقد قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ [الفلق: ٥]. وَكَانَ سَبَبُ أَوَّلِ جَرِيمَةٍ فِي الدُّنْيَا الْحَسَدَ: إِذْ حسد أحد ابْني آدَمَ أَخَاهُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ إِنَّ تَمَنِّي الْأَحْوَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا يَنْشَأُ فِي النُّفُوسِ أَوَّلَ مَا يَنْشَأُ خَاطِرًا مُجَرَّدًا، ثُمَّ يَرْبُو فِي النَّفْسِ رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى يَصِيرَ مَلَكَةً، فَتَدْعُو الْمَرْءَ إِلَى اجْتِرَامِ الْجَرَائِمِ لِيَشْفِيَ غِلَّتَهُ، فَلِذَلِكَ نُهُوا عَنْهُ لِيَزْجُرُوا نُفُوسَهُمْ عِنْدَ حُدُوثِ هَاتِهِ التَّمَنِّيَاتِ بِزَاجِرِ الدِّينِ وَالْحِكْمَةِ فَلَا يَدَعُوهَا تَرْبُو فِي النُّفُوسِ. وَمَا نَشَأَتِ الثَّوْرَاتُ والدعايات إِلَى ابتراز الْأَمْوَالِ بِعَنَاوِينَ مُخْتَلِفَةٍ إِلَّا مِنْ تَمَنِّي مَا فَضَّلَ بِهِ اللَّهُ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ، أَوْ إِلَّا أَثَرٌ مِنْ آثَارِ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ.
وَقَوْلُهُ: بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ صَالِحٌ لِأَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ آحَادُ النَّاسِ، وَلِأَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ أَصْنَافُهُمْ.
وَقَوْلُهُ: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا الْآيَةَ: إِنْ أُرِيدَ بِذِكْرِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ هُنَا قَصْدُ تَعْمِيمِ النَّاسِ مِثْلَ مَا يُذْكَرُ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ، وَالنَّجْدُ وَالْغَوْرُ، فَالنَّهْيُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى عُمُومِهِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي قَطْعًا لِعُذْرِ الْمُتَمَنِّينَ، وَتَأْنِيسًا بِالنَّهْيِ، وَلِذَلِكَ فَصَّلَتْ وَإِنْ أُرِيدَ بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كُلًّا مِنَ النَّوْعَيْنِ بِخُصُوصِهِ بِمَعْنَى أَنَّ الرِّجَالَ يَخْتَصُّونَ بِمَا اكْتَسَبُوهُ، وَالنِّسَاءَ يَخْتَصِصْنَ بِمَا اكْتَسَبْنَ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَالنَّهْيُ الْمُتَقَدِّمُ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّمَنِّي الَّذِي يُفْضِي إِلَى أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ، أَيْ لَيْسَ لِلْأَوْلِيَاءِ أَكْلُ أَمْوَالِ مَوَالِيهِمْ وَوَلَايَاهُمْ إِذْ لِكُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَا اكْتَسَبَ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ عِلَّةٌ لِجُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ دَلَّتْ هِيَ عَلَيْهَا، تَقْدِيرُهَا: وَلَا تَتَمَنَّوْا فَتَأْكُلُوا أَمْوَالَ مَوَالِيكُمْ.
(١٦٥)
اسْتَأْنَفَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الرَّدَّ عَلَى سُؤَالِ الْيَهُودِ أَنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، بَعْدَ أَنْ حُمِقُوا فِي ذَلِكَ بِتَحْمِيقِ أَسْلَافِهِمْ: بِقَوْلِهِ: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ [النِّسَاء: ١٥٣]، وَاسْتُطْرِدَتْ بَيْنَهُمَا جُمَلٌ مِنْ مُخَالَفَةِ أَسْلَافِهِمْ، وَمَا نَالَهُمْ مِنْ جَرَّاءِ ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ الْآنَ عَلَى بَيَانِ أَنَّ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ بِدَعًا، فَإِنَّهُ شَأْنُ الْوَحْيِ لِلرُّسُلِ، فَلَمْ يُقْدَحْ فِي رِسَالَتِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُنَزَّلْ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ مِنَ السَّمَاءِ.
وَالتَّأْكِيدُ (بِإِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ أَوْ لِتَنْزِيلِ الْمَرْدُودِ عَلَيْهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ كَيْفِيَّةَ الْوَحْيِ لِلرُّسُلِ غَيْرِ مُوسَى، إِذْ لَمْ يَجْرُوا عَلَى مُوجَبِ عِلْمِهِمْ حَتَّى أَنْكَرُوا رِسَالَةَ رَسُولٍ لَمْ يُنْزَلْ إِلَيْهِ كِتَابٌ مِنَ السَّمَاءِ.
وَالْوَحْيُ إِفَادَةُ الْمَقْصُودِ بِطَرِيقٍ غَيْرِ الْكَلَامِ، مِثْلَ الْإِشَارَةِ قَالَ تَعَالَى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مَرْيَم: ١١]. وَقَالَ دَاوُود بْنُ جَرِيرٍ:
يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطِّوَالِ وَتَارَةً وَحْيُ اللَّوَاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ
وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ تَشْبِيهٌ بِجِنْسِ الْوَحْيِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهُ، فَإِنَّ الْوَحْيَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْوَحْيِ وَرَدَ بَيَانُهَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ سُؤَالِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ- بِخِلَافِ الْوَحْيِ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ
سَمَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ بَعْضٌ مِنَ الْأَنْوَاعِ، عَلَى أَنَّ الْوَحْيَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْهُ الْكِتَابُ الْقُرْآنُ وَلَمْ يَكُنْ لِبَعْضِ مَنْ ذُكِرَ مَعَهُ كِتَابٌ. وَعَدَّ اللَّهُ هُنَا جَمْعًا مِنَ النَّبِيئِينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَذَكَرَ أَنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ الرُّسُلَ وَالْأَنْبِيَاءَ يُوحَى إِلَيْهِمْ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ تَفْرِيعٌ عَنْ أَطِيعُوا- واحْذَرُوا. وَالتَّوَلِّي هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِلْعِصْيَانِ، شَبَّهَ الْعِصْيَانَ بِالْإِعْرَاضِ وَالرُّجُوعِ عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ بِهِ الْعَاصِي، بِجَامِعِ الْمُقَاطَعَةِ وَالْمُفَارَقَةِ، وَكَذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْإِدْبَارُ. فَفِي حَدِيثِ ابْنِ صَيَّادٍ «وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقَرَنَّكَ اللَّهُ» أَيْ أَعْرَضْتَ عَنِ الْإِسْلَامِ.
وَقَوْلُهُ: فَاعْلَمُوا هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ بِاعْتِبَارِ لَازِمِ مَعْنَاهُ لِأَنَّ الْمَعْنَى: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ عَنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ فَاعْلَمُوا أَنْ لَا يَضُرَّ تَوَلِّيكُمُ الرَّسُولَ لِأَنَّ عَلَيْهِ الْبَلَاغَ فَحَسْبُ، أَيْ وَإِنَّمَا يَضُرُّكُمْ تَوَلِّيكُمْ، وَلَوْلَا لَازِمُ هَذَا الْجَوَابِ لَمْ يَنْتَظِمِ الرَّبْطُ بَيْنَ التَّوَلِّي وَبَيْنَ عِلْمِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا أُمِرَ إِلَّا بِالتَّبْلِيغِ. وَذِكْرُ فِعْلِ فَاعْلَمُوا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَهَمِّيَّةِ
الْخَبَرِ كَمَا بَيَّنَّاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٣].
وَكَلِمَةُ أَنَّما بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ تُقَيِّدُ الْحَصْرَ، مِثْلَ (إِنَّمَا) الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ، فَكَمَا أَفَادَتِ الْمَكْسُورَةُ الْحَصْرَ بِالِاتِّفَاقِ فَالْمَفْتُوحَتُهَا تُفِيدُ الْحَصْرَ لِأَنَّهَا فَرْعٌ عَنِ الْمَكْسُورَةِ إِذْ هِيَ أُخْتُهَا.
وَلَا يَنْبَغِي بَقَاءُ خِلَافِ مَنْ خَالَفَ فِي إِفَادَتِهَا الْحَصْرَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَمْرَهُ مَحْصُورٌ فِي التَّبْلِيغِ لَا يَتَجَاوَزُهُ إِلَى الْقُدْرَةِ عَلَى هَدْيِ الْمُبَلَّغِ إِلَيْهِمْ.
وَفِي إِضَافَةِ الرَّسُولِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ تَعْظِيمٌ لِجَانِبِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ وَإِقَامَةٌ لِمَعْذِرَتِهِ فِي التَّبْلِيغِ بِأَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَلَوْ شَاءَ مُرْسِلُهُ لَهَدَى الْمُرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَإِذَا لَمْ يَهْتَدُوا فَلَيْسَ ذَلِكَ لِتَقْصِيرٍ مِنَ الرَّسُولِ.
وَوَصْفُ الْبَلَاغِ بِ الْمُبِينُ اسْتِقْصَاءٌ فِي مَعْذِرَةِ الرَّسُولِ وَفِي الْإِعْذَارِ لِلْمُعْرِضِينَ عَنِ الِامْتِثَالِ بَعْدَ وُضُوحِ الْبَلَاغِ وَكِفَايَتِهِ وَكَوْنِهِ مُؤَيَّدًا بالحجّة الساطعة.
[٩٣]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ٩٣]
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
تَضَمَّنَ إِبْطَالَ مَا أَلْقَاهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الشُّبْهَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ: فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، إِذْ قَالُوا للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «تَزْعُمُ أَنَّ مَا قَتَلْتَ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ وَمَا قَتَلَ الْكَلْبُ وَالصَّقْرُ حَلَالٌ أَكْلُهُ، وَأَنَّ مَا قَتَلَ اللَّهُ حَرَامٌ» وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا شَمِلَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الْأَنْعَام: ١١٦]، فَلَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنِ اتِّبَاعِهِمْ، وَسَمَّى شَرَائِعَهُمْ خَرْصًا، فَرَّعَ عَلَيْهِ هُنَا الْأَمْرَ بِأَكْلِ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، أَيْ عِنْدَ قَتْلِهِ، أَيْ مَا نُحِرَ أَوْ ذُبِحَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَالنَّهْيُ عَنْ أَكْلِ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ الْمَيْتَةُ، فَإِنَّ الْمَيْتَةَ لَا يُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ عُقِّبَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِآيَةِ:
وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الْأَنْعَام:
١٢١]. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمُرَادِ مِنَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ.
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَكُلُوا لِلْإِبَاحَةِ. وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ أَنَّ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَحْرُمُ أَكْلُهُ، لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ، عُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْإِبَاحَةِ لَيْسَ رَفْعَ الْحَرَجِ، وَلَكِنْ بَيَانُ مَا هُوَ الْمُبَاحُ، وَتَمْيِيزُهُ عَنْ ضِدِّهِ مِنَ الْمَيْتَةِ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُّبِ. وَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَقَوْلُهُ: مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُول صَادِق على الذَّبِيحَةِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَذْكُرُونَ عِنْدَ الذَّبْحِ أَوِ النَّحْرِ اسْمَ الْمَقْصُودِ بِتِلْكَ الذَّكَاةِ، يَجْهَرُونَ بِذِكْرِ اسْمِهِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ فِيهِ: أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، أَيْ أُعْلِنَ. وَالْمَعْنَى كُلُوا الْمُذَكَّى وَلَا تَأْكُلُوا الْمَيْتَةَ. فَمَا
ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ كِنَايَةً عَنِ الْمَذْبُوحِ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ إِنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ الذَّبْحِ.
وَتَعْلِيقُ فِعْلِ الْإِبَاحَةِ بِمَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَفْهَمَ أَنَّ غَيْرَ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَا يَأْكُلُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَهَذَا الْغَيْرُ يُسَاوِي مَعْنَاهُ معنى مَا ذُكِرَ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ عَادَتهم أَن لَا يَذْبَحُوا ذَبِيحَةً إِلَّا ذَكَرُوا عَلَيْهَا اسْمَ اللَّهِ، إِنْ كَانَتْ هَدْيًا فِي الْحَجِّ، أَوْ ذَبِيحَةً لِلْكَعْبَةِ، وَإِنْ كَانَتْ قُرْبَانًا لِلْأَصْنَامِ
مُفَرَّعٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ وَقَوله: وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ.
وَثِقَلُ الْمِيزَانِ فِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ رُجْحَانُ الْمِيزَانِ بِالشَّيْءِ الْمَوْزُونِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِاعْتِبَارِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ غَالِبَةً وَوَافِرَةً، أَيْ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ الصَّالِحَاتُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ مَا ثَقُلَتْ بِهِ الْمَوَازِينُ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنِ اعْتِبَارِ الْوَزْنِ، لِأَنَّ مُتَعَارَفَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَزِنُونَ الْأَشْيَاءَ الْمَرْغُوبَ فِي شِرَائِهَا الْمُتَنَافَسَ فِي ضَبْطِ مَقَادِيرِهَا وَالَّتِي يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهَا.
وَالثِّقَلُ مَعَ تِلْكَ الِاسْتِعَارَةِ هُوَ أَيْضًا تَرْشِيحٌ لِاسْتِعَارَةِ الْوَزْنِ لِلْجَزَاءِ، ثُمَّ الْخِفَّةُ مُسْتَعَارَةٌ لِعَدَمِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَخْذًا بِغَايَةِ الْخِفَّةِ عَلَى وِزَانٍ عَكْسِ الثِّقَلِ، وَهِيَ أَيْضًا تَرْشِيحٌ ثَانٍ لِاسْتِعَارَةِ الْمِيزَانِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْخِفَّةُ الشَّدِيدَةُ وَهِيَ انْعِدَامُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِقَوْلِهِ: بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ. وَالْفَلَاحُ حُصُولُ الْخَيْرِ وَإِدْرَاكُ الْمَطْلُوبِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُفْلِحُونَ لِلْجِنْسِ أَوِ الْعَهْدِ وَقَدْ تقدّم فِي تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [٥].
وَمَا صدق (مِنْ) وَاحِدٌ لِقَوْلِهِ: مَوازِينُهُ، وَإِذْ قَدْ كَانَ هَذَا الْوَاحِدُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، بَلْ هُوَ كُلُّ مَنْ تَحَقَّقَ فِيهِ مَضْمُونُ جُمْلَةِ الشَّرْطِ، فَهُوَ عَامٌّ صَحَّ اعْتِبَارُهُ جَمَاعَةً فِي الْإِشَارَةِ وَالضَّمِيرَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
وَالْإِتْيَانُ بِالْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا حَصَّلُوا الْفَلَاحَ لِأَجْلِ ثِقَلِ مَوَازِينِهِمْ، وَاخْتِيرَ اسْمُ إِشَارَةِ الْبُعْدِ تَنْبِيهًا عَلَى الْبُعْدِ الْمَعْنَوِيِّ الِاعْتِبَارِيِّ.
وَضَمِيرُ الْفَصْلِ لِقَصْدِ الِانْحِصَارِ أَيْ هُمُ الَّذِينَ انْحَصَرَ فِيهِمْ تَحَقُّقُ الْمُفْلِحِينَ، أَيْ إِنْ عَلِمْتَ جَمَاعَةً تُعْرَفُ بِالْمُفْلِحِينَ فَهُمْ هُمْ.
وَالْخُسْرَانُ حَقِيقَتُهُ ضِدُّ الرِّبْحِ، وَهُوَ عَدَمُ تَحْصِيلِ التَّاجِرِ عَلَى مَا يَسْتَفْضِلُهُ مِنْ بَيْعِهِ، وَيُسْتَعَارُ لِفُقْدَانِ نَفْعِ مَا يُرْجَى مِنْهُ النَّفْعُ، فَمَعْنَى خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
عَلَى مُبَالَغَةِ النَّفْيِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٧٩]. وَالْمَعْنَى: فَاسْتَمَرَّ عَدَمُ إِيمَانِهِمْ وَتَمَكَّنَ مِنْهُمُ الْكُفْرُ فِي حِينِ كَانَ الشَّأْنُ أَنْ يقلعوا عَنهُ.
وبِما كَذَّبُوا مَوْصُولٌ وَصِلَتُهُ وَحُذِفُ الْعَائِدُ الْمَجْرُورُ عَلَى طَرِيقَةِ حَذْفِ أَمْثَالِهِ إِذَا جُرَّ الْمَوْصُولُ بِمِثْلِ الْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ، وَلَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ مُتَعَلِّقَيِ الْحَرْفَيْنِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمُ الرَّضِيُّ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَة.
وَمَا صدق (مَا) الْمَوْصُولَةِ: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَذَّبُوا، أَيْ: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِشَيْءٍ كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ مِمَّا دُعُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ. وَشَأْنُ (مَا) الْمَوْصُولَةِ أَنْ يُرَادَ بِهَا غَيْرُ الْعَاقِلِ، فَلَا يكون مَا صدق (مَا) هُنَا الرُّسُلَ، بَلْ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، فَلِذَلِكَ كَانَ فِعْلُ كَذَّبُوا هُنَا مُقَدَّرًا مُتَعَلِّقُهُ لَفْظُ (بِهِ) كَمَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ كَذَّبَهُ وَكَذَّبَ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ [الْأَعْرَاف: ٦٤] وَقَالَ: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ [الْأَنْعَام: ٦٦] وَحُذِفَ الْمُتَعَلِّقُ هُنَا إِيجَازًا، لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ ذِكْرُ تَكْذِيبِ أَهْلِ الْقُرَى، ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيءٍ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ [الْأَعْرَاف:
٩٤] وَقَدْ سَبَقَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [الْأَعْرَاف: ٩٦] وَلِهَذَا لَمْ يُحْذَفْ مُتَعَلِّقُ فِعْلِ كَذَّبُوا فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ يُونُسَ.
وَالْمَعْنَى: مَا أَفَادَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ أَنْ يُؤْمِنُوا بِشَيْءٍ كَانَ بَدَرَ مِنْهُمُ التَّكْذِيبُ بِهِ فِي ابْتِدَاءِ الدَّعْوَةِ، فَالْمُضَافُ الْمَحْذُوفُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ بِنَاءُ قَبْلُ عَلَى الضَّمِّ تَقْدِيرُهُ: مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ.
وَأُسْنِدَ نَفْيُ الْإِيمَانِ إِلَى ضَمِيرِ جَمِيعِ أَهْلِ الْقُرَى بِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ، وَسَيَخْرُجُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ
لَفاسِقِينَ.
وَمعنى قولهن: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ مِثْلُ ذَلِكَ الطَّبْعِ الْعَجِيبِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ حِكَايَةِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَالْمُؤْذِنُ بِهِ فِعْلُ يَطْبَعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظَائِرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣].
وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الطَّبْعِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ
الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ: لِأَنَّهُمْ إِذَا نُهُوا عَنِ التَّنَازُعِ بَيْنَهُمْ، فَالتَّنَازُعُ مَعَ وَلِيِّ الْأَمْرِ أَوْلَى بِالنَّهْيِ.
وَلَمَّا كَانَ التَّنَازُعُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَنْشَأَ عَنِ اخْتِلَافِ الْآرَاءِ، وَهُوَ أَمْرٌ مُرْتَكِزٌ فِي الْفِطْرَةِ بَسَطَ الْقُرْآنُ الْقَوْلَ فِيهِ بِبَيَان سيّىء آثَارِهِ، فَجَاءَ بِالتَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ فَحَذَّرَهُمْ أَمْرَيْنِ مَعْلُومًا سُوءُ مَغَبَّتِهِمَا: وَهُمَا الْفَشَلُ وَذَهَابُ الرِّيحِ.
وَالْفَشَلُ: انْحِطَاطُ الْقُوَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ [الْأَنْفَال:
٤٣] وَهُوَ هُنَا مُرَادٌ بِهِ حَقِيقَةُ الْفَشَلِ فِي خُصُوصِ الْقِتَالِ وَمُدَافَعَةِ الْعَدُوِّ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِحَالِ الْمُتَقَاعِسِ عَنِ الْقِتَالِ بِحَالِ مَنْ خَارَتْ قُوَّتُهُ وَفَشِلَتْ أَعْضَاؤُهُ، فِي انْعِدَامِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْعَمَلِ. وَإِنَّمَا كَانَ التَّنَازُعُ مُفْضِيًا إِلَى الْفَشَلِ لِأَنَّهُ يُثِيرُ التَّغَاضُبَ وَيُزِيلُ التَّعَاوُنَ بَيْنَ الْقَوْمِ، وَيُحْدِثُ فِيهِمْ أَنْ يَتَرَبَّصَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ الدَّوَائِرَ، فَيَحْدُثُ فِي نُفُوسِهِمُ الِاشْتِغَالُ بِاتِّقَاءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَتَوَقُّعُ عَدَمِ إِلْفَاءِ النَّصِيرِ عِنْدَ مَآزِقِ الْقِتَالِ، فَيَصْرِفُ الْأُمَّةَ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَى شُغْلٍ وَاحِدٍ فِيمَا فِيهِ نَفْعُ جَمِيعِهِمْ، وَيَصْرِفُ الْجَيْشَ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، فَيَتَمَكَّنُ مِنْهُمُ الْعَدُوُّ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٢] حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ.
وَالرِّيحُ حَقِيقَتُهَا تَحَرُّكُ الْهَوَاءِ وَتَمَوُّجُهُ، وَاسْتُعِيرَتْ هُنَا لِلْغَلَبَةِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ فِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ هُوَ أَنَّ الرِّيحَ لَا يُمَانِعُ جَرْيَهَا وَلَا عَمَلَهَا شَيْءٌ فَشُبِّهَ بِهَا الْغَلَبُ وَالْحُكْمُ وَأَنْشَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ، لِعُبَيْدِ بْنِ الْأَبْرَصِ:
كَمَا حَمَيْنَاكَ يَوْمَ النَّعْبِ مِنْ شَطِبٍ وَالْفَضْلُ لِلْقَوْمِ مِنْ رِيحٍ وَمِنْ عَدَدِ
وَفِي «الْكَشَّافِ» قَالَ سُلَيْكُ بْنُ السَّلَكَةِ:
يَا صَاحِبَيَّ أَلَا لَا حَيَّ بِالْوَادِي إِلَّا عَبِيدٌ قُعُودٌ بَيْنَ أَذْوَادِ
هَلْ تَنْظُرَانِ قَلِيلًا رَيْثَ غَفْلَتِهِمْ أَوْ تَعْدُوَانِ فَإِنَّ الرِّيحَ لِلْعَادِي (١)
وَقَالَ الْحَرِيرِيُّ، فِي دِيبَاجَةِ «الْمَقَامَاتِ» :«قَدْ جَرَى بِبَعْضِ أَنْدِيَةِ الْأَدَبِ الَّذِي رَكَدَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ رِيحُهُ».
_________
(١) تنظران من النظرة، أَي الِانْتِظَار. وَالْمعْنَى هَل تترقبان سَاعَة غَفلَة العبيد فتختلسا الذود أَو تعدوان على العبيد غصبا.
وَوَجْهُ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ أَنَّ صَلَاةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ تُكْسِبُهُ يُمْنًا وَبَرَكَةً فَلَا يَرَى الْمُسْلِمُونَ لِمَسْجِدِ قُبَاءَ مَزِيَّةً عَلَيْهِ فَيَقْتَصِرُ بَنُو غُنْمٍ وَبَنُو سَالِمٍ عَلَى الصَّلَاةِ فِيهِ لِقُرْبِهِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ، وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ غَرَضُ الْمُنَافِقِينَ مِنْ وَضْعِهِ لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَلَمَّا كَانَتْ صَلَاةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ مُفْضِيَةً إِلَى تَرْوِيجِ مَقْصِدِهِمُ الْفَاسِدِ صَارَ ذَلِكَ وَسِيلَةً إِلَى مَفْسَدَةٍ فَتَوَجَّهَ النَّهْيُ إِلَيْهِ. وَهَذَا لَا يَطَّلِعُ عَلَى مِثْلِهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذَا النَّهْيُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ لَمَّا نُهِيَ النَّبِيءُ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ سَلَبَ عَنْهُ وَصْفَ الْمَسْجِدِيَّةِ فَصَارَتِ الصَّلَاةُ فِيهِ بَاطِلَةً لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ
أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَوَحْشِيًّا مَوْلَى الْمُطْعَمِ بْنِ عَدِيٍّ وَمَالِكَ بْنَ الدَّخْشَمِ وَمَعْنَ بْنَ عَدِيٍّ فَقَالَ: «انْطَلِقُوا إِلَى هَذَا الْمَسْجِدِ الظَّالِمِ أَهْلُهُ فَاهْدِمُوهُ وَحَرِّقُوهُ»، فَفَعَلُوا
. وَتَحْرِيقُهُ تَحْرِيقُ الْأَعْوَادِ الَّتِي يُتَّخَذُ مِنْهَا السَّقْفُ، وَالْجُذُوعِ الَّتِي تُجْعَلُ لَهُ أَعْمِدَةً.
وَقَوْلُهُ: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ احْتِرَاسٌ مِمَّا يَسْتَلْزِمُهُ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ مِنْ إِضَاعَةِ عِبَادَةٍ فِي الْوَقْتِ الَّذِي رَغَّبُوهُ لِلصَّلَاةِ فِيهِ فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يُصَلِّيَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي دَعَوْهُ فِيهِ لِلصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِهِ أَوْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ، لِئَلَّا يَكُونَ لِامْتِنَاعِهِ مِنَ الصَّلَاةِ مِنْ حُظُوظِ الشَّيْطَانِ أَنْ يَكُونَ صَرْفُهُ عَنْ صَلَاةٍ فِي وَقْتٍ دُعِيَ لِلصَّلَاةِ فِيهِ، وَهَذَا أَدَبٌ نَفْسَانِيٌّ عَظِيمٌ.
وَفِيهِ أَيْضًا دَفْعُ مَكِيدَةِ الْمُنَافِقِينَ أَنْ يَطْعَنُوا فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ دُعِيَ إِلَى الصَّلَاةِ فِي
مَسْجِدِهِمْ فَامْتَنَعَ، فَقَوْلُهُ: أَحَقُّ وَإِنْ كَانَ اسْمَ تَفْضِيلِ فَهُوَ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ أَزَالَ كَوْنَهُ حَقِيقًا بِصَلَاتِهِ فِيهِ أَصْلًا.
وَلَعَلَّ نُكْتَةَ الْإِتْيَانِ بِاسْمِ التَّفْضِيلِ أَنَّهُ تَهَكُّمٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ بِمُجَازَاتِهِمْ ظَاهِرًا فِي دَعْوَتِهِمُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّلَاةِ فِيهِ بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ حَقِيقًا بِصَلَاتِهِ بِمَسْجِدٍ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى أَحَقُّ مِنْهُ، فَيُعْرَفُ مِنْ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى أَنَّ هَذَا أُسِّسَ عَلَى ضِدِّهَا.
وَضَمِيرَا الْغَيْبَةِ عَائِدَانِ إِلَى الْقُرْآنِ الَّذِي عَادَ إِلَيْهِ ضمير افْتَراهُ [هود: ١٣].
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ مُسْتَأْنَفَةٌ تَأْكِيدٌ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ مِنْ أَنه لوضوح حَقِيقَته لَا يَنْبَغِي أَنْ يُمْتَرَى فِي صِدْقِهِ. وَحَرْفُ التَّأْكِيدِ يَقُومُ مَقَامَ الْأَمْرِ بِاعْتِقَادِ حَقِّيَّتِهِ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّأْكِيدُ مِنَ الِاهْتِمَامِ.
وَالْمِرْيَةُ: الشَّكُّ. وَهِيَ مُرَادِفَةُ الِامْتِرَاءِ الْمُتَقَدِّمِ فِي أَوَّلِ الْأَنْعَامِ. وَاخْتِيرَ النَّهْيُ عَلَى الْمِرْيَةِ دُونَ النَّهْيِ عَنِ اعْتِقَادِ أَنَّهُ كَذِبٌ كَمَا هُوَ حَالُ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الِامْتِرَاءِ فِيهِ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنِ الْجَزْمِ بِالْكَذِبِ بِالْأَوْلَى، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَا فِيهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْيَقِينِ بِكَذِبِ الْقُرْآنِ أَشَدُّ ذَمًّا وَشَنَاعَةً.
ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ فِي شكّ ناشىء عَنِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ الشَّكُّ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ شَكًّا فِي ذَاتِهِ وَحَقِيقَتِهِ لِأَن حَقِيقَة القرآنية أَنَّهُ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَالشَّكُّ النَّاشِئُ عَلَى نُزُولِهِ شَكٌّ فِي مَجْمُوعِ حَقِيقَتِهِ. وَهَذَا مِثْلُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: يُؤْمِنُونَ بِهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى تَقْدِير مُضَاف يؤول بِهِ إِلَى إِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَى الْأَعْيَانِ الْمُرَادِ أَوْصَافُهَا.
وَتَعْرِيفُ الْحَقُّ لِإِفَادَةِ قَصْرِ جِنْسِ الْحَقِّ عَلَى الْقُرْآنِ. وَهُوَ قَصْرُ مُبَالِغَةٍ لِكَمَالِ جِنْسِ الْحَقِّ فِيهِ حَتَّى كَأَنَّهُ لَا يُوجَدُ حَقٌّ غَيْرُهُ مِثْلُ قَوْلِكَ: حَاتِمٌ الْجَوَادُ.
وَالِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ناشيء عَلَى حُكْمِ الْحَصْرِ، فَإِنَّ الْحَصْرَ يَقْتَضِي أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ كُلُّ مَنْ بَلَغَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ.
وَالْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدِّينِ.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ يُؤْمِنُونَ لِأَنَّ الْمُرَادَ انْتِفَاءُ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ فِي كُلِّ مَا طُلِبَ الْإِيمَانُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، أَيْ أَنَّ فِي طِبَاعِ أَكْثَرِ النَّاسِ تَغْلِيبُ الْهَوَى عَلَى الْحَقِّ فَإِذَا جَاءَ مَا يُخَالِفُ هَوَاهُمْ لم يُؤمنُوا.
أَيْ كَذَلِكَ حُكْمُ قَوْمِنَا فِي جَزَاءِ السَّارِقِ الظَّالِمِ بِسَرِقَتِهِ أَوْ أَرَادُوا أَنَّهُ حُكْمُ الْإِخْوَةِ عَلَى مَنْ يَقْدِرُ مِنْهُمْ أَنْ يُظْهِرَ الصُّوَاعَ فِي رَحْلِهِ، أَيْ فَهُوَ حَقِيقٌ لِأَنْ نَجْزِيَهُ بِذَلِكَ.
وَالْإِشَارَةُ بِ كَذلِكَ إِلَى الْجَزَاءِ الْمَأْخُوذِ مِنْ نَجْزِي، أَيْ نَجْزِي الظَّالِمِينَ جَزَاءً
كَذَلِكَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْله.
[٧٦]
[سُورَة يُوسُف (١٢) : آيَة ٧٦]
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦)
فَبَدَأَ أَيْ أَمَرَ يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالْبَدَاءَةِ بِأَوْعِيَةِ بَقِيَّةِ إِخْوَتِهِ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ الشَّقِيقِ.
وَأَوْعِيَةٌ: جَمْعُ وِعَاءٍ، وَهُوَ الظَّرْفُ،. مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَعْيِ وَهُوَ الْحِفْظُ. وَالِابْتِدَاءُ بِأَوْعِيَةِ غَيْرِ أَخِيهِ لِإِبْعَادِ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يُوجَدُ فِي وِعَائِهِ هُوَ الْمَقْصُودَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ. وَتَأْنِيثُ ضَمِيرِ اسْتَخْرَجَها لِلسِّقَايَةِ. وَهَذَا التَّأْنِيثُ فِي تَمَامِ الرَّشَاقَةِ إِذْ كَانَتِ الْحَقِيقَةُ أَنَّهَا سِقَايَةٌ جُعِلَتْ صُوَاعًا. فَهُوَ كَرَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ.
وَالْقَوْلُ فِي كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ كَالْقَوْلِ فِي كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [سُورَة يُوسُف: ٧٥].
وَالْكَيْدُ: فِعْلٌ يُتَوَصَّلُ بِظَاهِرِهِ إِلَى مَقْصِدٍ خَفِيٍّ. وَالْكَيْدُ: هُنَا هُوَ إِلْهَامُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِهَذِهِ الْحِيلَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي وَضْعِ الصُّوَاعِ وَتَفْتِيشِهِ وَإِلْهَامِ إِخْوَتِهِ إِلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُصْمَتِ.
وَأُسْنِدَ الْكَيْدُ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ مُلْهِمُهُ فَهُوَ مُسَبِّبُهُ. وَجَعَلَ الْكَيْدَ لِأَجَلِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَنَّهُ لِفَائِدَتِهِ.
وَاسْتِرَاقُ السَّمْعِ: سَرِقَتُهُ. صِيغَ وزن الافتعال للتكلف. وَمَعْنَى اسْتِرَاقِهِ الِاسْتِمَاعَ بِخِفْيَةٍ مِنَ الْمُتَحَدِّثِ كَأَنَّ الْمُسْتَمِعَ يَسْرِقُ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ كَلَامَهُ الَّذِي يُخْفِيهِ عَنْهُ.
وَ «أَتْبَعَهُ» بِمَعْنَى تَبِعَهُ. وَالْهَمْزَةُ زَائِدَةٌ مِثْلَ هَمْزَةِ أَبَانَ بِمَعْنَى بَانَ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٧٥].
وَالْمُبِينُ: الظَّاهِرُ الْبَيِّنُ.
وَفِيهِ تَعْلِيمٌ لَهُمْ بِأَنَّ الشُّهُبَ الَّتِي يُشَاهِدُونَهَا مُتَسَاقِطَةً فِي السَّمَاءِ هِيَ رُجُومٌ لِلشَّيَاطِينِ الْمُسْتَرِقَةِ طَرْدًا لَهَا عَنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ كَامِلًا، فَقَدْ عَرَفُوا ذَلِكَ مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَمْ يَعْرِفُوا سَبَبَهُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ مَنْعِ الشَّيَاطِينِ مِنْ ذَلِكَ مَنْعُهُمُ الِاطِّلَاعَ عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ عَدَمَ اطِّلَاعِهِمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ التَّكْوِينِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَوْ أَلْقَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي عِلْمِ أَوْلِيَائِهِمْ لَكَانَ ذَلِكَ فَسَادًا فِي الْأَرْضِ. وَرُبَّمَا اسْتَدْرَجَ اللَّهُ الشَّيَاطِينَ وَأَوْلِيَاءَهُمْ فَلَمْ يَمْنَعِ الشَّيَاطِينَ مِنَ اسْتِرَاقِ شَيْءٍ قَلِيلٍ يُلْقُونَهُ إِلَى الْكُهَّانِ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ عِصْمَةَ الْوَحْيِ مَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ بَتَاتًا فَجَعَلَ لِلشُّهُبِ قُوَّةَ خَرْقِ التَّمَوُّجَاتِ الَّتِي تَتَلَقَّى مِنْهَا الشَّيَاطِينُ الْمُسْتَرِقُونَ السَّمْعَ وَتَمْزِيقَ تِلْكَ التَّدَرُّجَاتِ الْمَوْصُوفَةِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
ثُمَّ إِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ لَا يَقْتَضِي أَكْثَرَ مِنْ تَحَكُّكِ مُسْتَرِقِ السَّمْعِ عَلَى السَّمَاوَاتِ لِتَحْصِيلِ انْكِشَافَاتِ جَبْلِ الْمُسْتَرِقِ عَلَى الْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِهَا. وَفِي آيَةِ الشُّعَرَاءِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الْمُسْتَرِقَ يُلْقِي مَا تَلْقَاهُ مِنَ الِانْكِشَافَاتِ إِلَى غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ: يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ [سُورَة الشُّعَرَاء: ٢٢٣].
وَمُقْتَضَى تَكْوِينِ الشُّهُبِ لِلرَّجْمِ أَنَّ هَذَا الِاسْتِرَاقَ قَدْ مُنِعَ عَنِ الشَّيَاطِينِ.
وَفِي سُورَةِ الْجِنِّ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ مُنِعَ بَعْدَ الْبِعْثَةِ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ إِحْكَامًا لِحِفْظِ الْوَحْيِ مِنْ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَى النَّاسِ بِالْكِهَانَةِ، فَيَكُونُ مَا اقْتَضَاهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ وَأَبِي
الْمَمْلُوكُونَ
بِالرِّقِّ قِيلَ: عَبِيدٌ، لَا غَيْرُ. وَالْمَقْصُودُ بِعِبَادِ اللَّهِ هُنَا الْأَشُورِيُّونَ أَهْلُ بَابِلَ وَهُمْ جُنُودُ بُخْتُنَصَّرَ.
وَالْبَأْسُ: الشَّوْكَةُ وَالشِّدَّةُ فِي الْحَرْب. وَوَصفه بالشديد لِقُوَّتِهِ فِي نَوْعِهِ كَمَا فِي آيَةِ سُورَة سُلَيْمَان [النَّمْل: ٣٣] : قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ.
وَجُمْلَةُ فَجاسُوا عَطْفٌ عَلَى بَعَثْنا فَهُوَ مِنَ الْمُقْضَى فِي الْكتاب. وَالْجُلُوس:
التَّخَلُّلُ فِي الْبِلَادِ وَطَرْقُهَا ذِهَابًا وَإِيَابًا لِتَتَبُّعِ مَا فِيهَا. وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا تَتَبُّعُ الْمُقَاتَلَةِ فَهُوَ جَوْسُ مَضَرَّةٍ وَإِسَاءَةٍ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ.
وَ (خِلَالَ) اسْمٌ جَاءَ عَلَى وَزْنِ الْجُمُوعِ وَلَا مُفْرَدَ لَهُ، وَهُوَ وَسَطُ الشَّيْءِ الَّذِي يُتَخَلَّلُ مِنْهُ. قَالَ تَعَالَى: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [الرّوم: ٤٨].
وَالتَّعْرِيفُ فِي الدِّيارِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيْ دِيَارِكُمْ، وَذَلِكَ أَصْلُ جَعْلِ (اَلْ) عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَهِيَ دِيَارُ بَلَدِ أُورْشَلِيمَ فَقَدْ دَخَلَهَا جَيْشُ بُخْتُنَصَّرَ وَقَتَلَ الرِّجَالَ وَسَبَى، وَهَدَمَ الدِّيَارَ، وَأَحْرَقَ الْمَدِينَةَ وَهَيْكَلَ سُلَيْمَانَ بِالنَّارِ. وَلَفْظُ (الدِّيَارِ) يَشْمَلُ هَيْكَلَ سُلَيْمَانَ لِأَنَّهُ بَيْتُ عِبَادَتِهِمْ، وَأُسِرَ كُلُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبِذَلِكَ خَلَتْ بِلَادُ الْيَهُودِ مِنْهُمْ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ: وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
[٦- ٨]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : الْآيَات ٦ الى ٨]
ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨)
ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها.
عَطَفَ جملَة فَجاسُوا [الْإِسْرَاء: ٥] فَهُوَ مِنْ تَمَامِ جَوَابِ (إِذَا) مِنْ قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما [الْإِسْرَاء: ٥]، وَمِنْ بَقِيَّةِ الْمَقْضِيِّ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ مَاضٍ لَفْظًا مُسْتَقْبَلٌ
وَقَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ، وَيَعْقُوبُ- بِضَمِّ السِّينِ- وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ- بِفَتْحِ السِّينِ- عَلَى لُغَةِ عَدَمِ التَّفْرِقَةِ.
وَالْمُرَادُ بِالسَّدَّيْنِ هُنَا الْجَبَلَانِ، وَبِالسَّدِّ الْمُفْرَدِ الْجِدَارُ الْفَاصِلُ، وَالْقَرِينَةُ هِيَ الَّتِي عَيَّنَتِ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ الْمُشْتَرك.
وتعريف السَّدَّيْنِ تَعْرِيف الْجِنْسِ، أَيْ بَيْنِ سَدَّيْنِ مُعَيَّنَيْنِ، أَيِ اتَّبَعَ طَرِيقًا آخَرَ فِي غَزْوَةٍ حَتَّى بَلَغَ بَيْنَ جَبَلَيْنِ مَعْلُومَيْنِ.
وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا السَّبَبَ اتَّجَهَ بِهِ إِلَى جِهَةٍ غَيْرِ جِهَتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْمَشْرِقِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا الشَّمَالُ أَوِ الْجَنُوبُ. وَعَيَّنَهُ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ لِلشَّمَالِ، وَبَنَوْا عَلَى أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ هُوَ إِسْكَنْدَرُ الْمَقْدُونِيُّ، فَقَالُوا: إِنَّ جِهَةَ السَّدَّيْنِ بَيْنَ (أَرْمِينِيَا وَأَذْرَبِيجَانَ). وَنَحْنُ نَبْنِي عَلَى مَا عَيَّنَّاهُ فِي الْمُلَقَّبِ بِذِي الْقَرْنَيْنِ، فَنَقُولُ: إِنَّ مَوْضِعَ السَّدَّيْنِ هُوَ الشَّمَالُ الْغَرْبِيُّ لِصَحْرَاءِ (قُوبِي) الْفَاصِلَةِ بَيْنَ الصِّينِ وَبِلَادِ الْمَغُولِ شَمَالَ الصِّينِ وَجَنُوبِ (مَنْغُولْيَا). وَقَدْ وُجِدَ السَّدُّ هُنَالِكَ وَلَمْ تَزَلْ آثَارُهُ إِلَى الْيَوْمِ شَاهَدَهَا الْجُغْرَافِيُّونَ وَالسَّائِحُونَ وَصُوِّرَتْ صُوَرًا شَمْسِيَّةً فِي كُتُبِ الْجُغْرَافِيَا وَكُتُبِ التَّارِيخِ الْعَصْرِيَّةِ.
وَمَعْنَى لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِمْ فَلُغَتُهُمْ مُخَالِفَةٌ لِلُغَاتِ الْأُمَمِ الْمَعْرُوفَةِ بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُهَا تَرَاجِمَةُ ذِي الْقَرْنَيْنِ لِأَنَّ شَأْنَ الْمُلُوكِ أَنْ يَتَّخِذُوا تَرَاجِمَةً لِيُتَرْجِمُوا لُغَاتِ الْأُمَمِ الَّذِينَ يَحْتَاجُونَ إِلَى مُخَاطَبَتِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَةٍ غَرِيبَةٍ لِانْقِطَاعِ أَصْقَاعِهِمْ عَنِ الْأَصْقَاعِ الْمَعْرُوفَةِ فَلَا يُوجَدُ مَنْ يَسْتَطِيعُ إِفْهَامَهُمْ مُرَادَ الْمَلِكِ وَلَا هُمْ يَسْتَطِيعُونَ الْإِفْهَامَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَوْمٌ مُتَوَغِّلُونَ فِي الْبَدَاوَةِ وَالْبَلَاهَةِ فَلَا يَفْهَمُونَ مَا يَقْصِدُهُ مَنْ يُخَاطِبُهُمْ.
إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ فِي سُورَةِ [ص: ٢٦- ٢٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ فِي سُورَةِ [الدُّخَانِ: ٣٧- ٤٠]، وَقَوْلِهِ
تَعَالَى: مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ فِي سُورَةِ [الْأَحْقَافِ: ٣] إِلَى غير هَذِه من الْآيَاتِ.
فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ عُقِّبَ بِهَا ذِكْرُ الْقَوْمِ الْمُهْلَكِينَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ إِيقَاظُ الْعُقُولِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِمَا فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ دَقَائِقِ الْمُنَاسَبَاتِ وَإِعْطَاءِ كُلِّ مَخْلُوقٍ مَا بِهِ قِوَامَهُ، فَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ سُنَّةَ اللَّهِ فِي خَلْقِ الْعَوَالِمِ ظَرْفِهَا وَمَظْرُوفِهَا، اسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ تِلْكَ السُّنَّةَ لَا تَتَخَلَّفُ فِي تَرَتُّبِ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا فِيمَا يَأْتِيهِ جِنْسُ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَإِذَا مَا لَاحَ لَهُمْ تَخَلُّفُ سَبَبٍ عَنْ سَبَبِهِ أَيْقَنُوا أَنَّهُ تَخَلُّفٌ مُؤَقّت فَإِذا علمهمْ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ شَرَائِعِهِ بِأَنَّهُ ادَّخَرَ الْجَزَاءَ الْكَامِلَ عَلَى الْأَعْمَالِ إِلَى يَوْمٍ آخَرَ آمَنُوا بِهِ، وَإِذَا عَلَّمَهُمْ أَنهم لَا يفوتون ذَلِكَ بِالْمَوْتِ بَلْ إِنَّ لَهُمْ حَيَاةً آخِرَةً وَأَنَّ اللَّهَ بَاعِثُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ أَيْقَنُوا بهَا، وَإِذا علمهمْ أَنَّهُ رُبَّمَا عَجَّلَ لَهُمْ بَعْضَ الْجَزَاءِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَيْقَنُوا بِهِ.
وَلِذَلِكَ كَثُرَ تَعْقِيبُ ذِكْرِ نِظَامِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِذِكْرِ الْجَزَاءِ الْآجِلِ وَالْبَعْثِ وَإِهْلَاكِ بَعْضِ الْأُمَمِ الظَّالِمَةِ، أَوْ تَعْقِيبُ ذِكْرِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ الْآجِلِ وَالْعَاجِلِ بِذِكْرِ نِظَامِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ هُنَالِكَ نَفْيُ مَاءٍ خَاصٍّ أَعْنِي الْمَعِينَ بِخِلَافِهِ هَاهُنَا.
الثَّامِنَ عَشَرَ: اعْتِبَارُ مَجْمُوعِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يَكْفِي كُلٌّ مِنْهَا مُؤَكِّدًا.
وَزَادَ الْآلُوسِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» فَقَالَ:
التَّاسِعَ عَشَرَ: إِخْبَارُهُ تَعَالَى نَفْسُهُ بِهِ مِنْ دُونِ أَمْرٍ لِلْغَيْرِ هَاهُنَا بِخِلَافِهِ هُنَالِكَ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ.
الْعِشْرُونَ: عَدَمُ تَخْصِيصِ مُخَاطَبٍ هَاهُنَا وَتَخْصِيصُ الْكُفَّارِ بِالْخِطَابِ هُنَالِكَ.
الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: التَّشْبِيهُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ جَعْلِ الْجُمْلَةِ حَالًا فَإِنَّهُ يُفِيدُ تَحْقِيقَ الْقُدْرَةِ وَلَا تَشْبِيهَ ثَمَّتَ.
الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: إِسْنَادُ الْقُدْرَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى مَرَّتَيْنِ.
وَنَقَلَ الْآلُوسِيُّ عَنْ عَصْرِيِّهِ الْمَوْلَى مُحَمَّدٍ الزَّهَاوِيِّ وُجُوهًا وَهِيَ:
الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: تَضْمِينُ الْإِيعَادِ هُنَا إِيعَادُهُمْ بِالْإِبْعَادِ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ (ذَهَبَ بِهِ) يَسْتَلْزِمُ مُصَاحَبَةَ الْفَاعِلِ الْمَفْعُولَ، وَذَهَابَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ مَعَ الْمَاءِ بِمَعْنَى ذَهَابِ رَحْمَتِهِ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ وَلَعْنِهِمْ وَطَرْدِهِمْ عَنْهَا وَلَا كَذَلِكَ مَا هُنَاكَ.
الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ لَيْسَ الْوَقْتُ لِلذَّهَابِ مُعَيَّنًا هُنَا بِخِلَافِهِ فِي إِنْ أَصْبَحَ [الْملك:
٣٠] فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الصَّيْرُورَةَ فِي الصُّبْحِ عَلَى أَحَدِ اسْتِعْمَالَيْ (أَصْبَحَ) نَاقِصًا.
الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ جِهَةَ الذَّهَابِ بِهِ لَيْسَتْ مُعَيَّنَةً بِأَنَّهَا السُّفْلُ (أَيْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ غَوْرًا).
السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الْإِيعَادَ هُنَا بِمَا لَمْ يُبْتَلُوا بِهِ قطّ بِخِلَافِهِ بِمَا هُنَالِكَ.
السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الْمُوعَدَ بِهِ هُنَا إِنْ وَقَعَ فَهُمْ هَالِكُونَ أَلْبَتَّةَ.
الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ هُنَا لَهُمْ مُتَشَبِّثٌ وَلَوْ ضَعِيفًا فِي تَأْمِيلِ امْتِنَاعِ الْمَوْعِدِ بِهِ وَهُنَاكَ حَيْثُ أَسْنَدَ الْإِصْبَاحَ غَوْرًا إِلَى الْمَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَاءَ
انْتِقَالًا مِنْ وَصْفِ تَكْذِيبِهِمْ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَدَمِ اتِّعَاظِهِمْ بِمَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ مِنَ الْأُمَمِ إِلَى ذِكْرِ تَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ، فَيَكُونُ انْتِهَاءُ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي الِاسْتِفْهَامِ. وَعَبَّرَ عَنْ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ بِعَدَمِ رَجَائِهِ لِأَنَّ مُنْكِرَ الْبَعْثِ لَا يَرْجُو مِنْهُ نَفْعًا وَلَا يَخْشَى مِنْهُ ضُرًّا، فَعَبَّرَ عَنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ بِأَحَدِ شِقَّيِ الْإِنْكَارِ تَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِثْلَ الْمُؤْمِنِينَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ.
وَالنُّشُورُ: مَصْدَرُ نَشَرَ الْمَيِّتَ أَحْيَاهُ، فَنَشَرَ، أَيْ حَيِيَ. وَهُوَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي جَرَتْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى مَعْنَى التَّخَيُّلِ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَهُ، وَيُرْوَى لِلْمُهَلْهِلِ فِي قِتَالِهِ لِبَنِي بَكْرِ ابْن وَائِلٍ الَّذِينَ قَتَلُوا أَخَاهُ كُلَيْبًا قَوْلُهُ:
يَا لَبَكْرٍ انْشُرُوا لِي كُلَيْبًا يَا لَبَكْرٍ أَيْنَ أَيْنَ الْفِرَارُ
فَإِذَا صَحَّتْ نِسْبَةُ الْبَيْتِ إِلَيْهِ كَانَ مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ تَعْجِيزَهُمْ لِيُتَوَسَّلَ إِلَى قِتَالِهِمْ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ اسْتِعْدَادٌ لِلِاعْتِبَارِ، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ يَنْشَأُ عَنِ الْمُرَاقَبَةِ وَمُحَاسَبَةِ النَّفْسِ لِطَلَبِ النَّجَاةِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُشْركُونَ لما نشأوا عَلَى إِهْمَالِ الِاسْتِعْدَادِ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ قَصُرَتْ أَفْهَامُهُمْ عَلَى هَذَا الْعَالَمِ الْعَاجِلِ فَلَمْ يُعْنَوْا إِلَّا بِأَسْبَابِ وَسَائِلِ الْعَاجِلَةِ، فَهُمْ مَعَ زَكَانَتِهِمْ فِي تَفَرُّسِ الذَّوَاتِ وَالشِّيَاتِ وَمُرَاقَبَةِ سَيْرِ النُّجُومِ وَأَنْوَاءِ الْمَطَرِ وَالرِّيحِ وَرَائِحَةِ أَتْرِبَةِ مَنَازِلِ الْأَحْيَاءِ، هُمْ مَعَ ذَلِكَ كُلِّه مُعْرِضُونَ بِأَنْظَارِهِمْ عَنْ تَوَسُّمِ الْإِلَهِيَّاتِ وَحَيَاةِ الْأَنْفُسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَصْلُ ذَلِكَ الضَّلَالِ كُلِّهِ انْجَرَّ لَهُمْ مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ فَلِذَلِكَ جُعِلَ هُنَا عِلَّةً لِانْتِفَاءِ اعْتِبَارِهِمْ بِمَصِيرِ أُمَّةٍ كَذَّبَتْ رَسُولهَا وَعَصَتْ رَبَّهَا. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الْحجر: ٧٥] أَيْ دُونَ مَنْ لَا
يتوسمون.
[٤١، ٤٢]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : الْآيَات ٤١ إِلَى ٤٢]
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢)
كَانَ مَا تَقَدَّمَتْ حِكَايَتُهُ مِنْ صُنُوفِ أَذَاهُمُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقْوَالًاِِ
الْأَكْثَرِ مَا لَا مَصْلَحَةَ فِي بَيَانِهِ لَهُمْ.
وَمِنْ مُنَاسَبَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ مَا هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ، أَنَّ مَا قَصَّهُ مِمَّا جَرَى بَيْنَ مَلِكَةِ سَبَأٍ مَعَ سُلَيْمَانَ كَانَ فِيهِ مِمَّا يُخَالِفُ مَا فِي كِتَابِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ وَكِتَابِ الْأَيَّامِ الثَّانِي فَفِي ذَيْنِكَ الْكِتَابَيْنِ أَنَّ مَلِكَةَ سَبَأٍ تَحَمَّلَتْ وَجَاءَتْ إِلَى أُورَشْلِيمَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهَا مَحَبَّةً مِنْهَا فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا بَلَغَ مَسَامِعَهَا مِنْ عَظَمَةِ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَحِكْمَتِهِ، وَأَنَّهَا بَعْدَ ضِيَافَتِهَا عِنْدَ سُلَيْمَانَ قَفَلَتْ إِلَى مَمْلَكَتِهَا. وَلَيْسَ مِمَّا يَصِحُّ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ وَشَوَاهِدِ التَّارِيخِ فِي تِلْكَ الْعُصُورِ أَنَّ مَلِكَةً عَظِيمَةً كَمَلِكَةِ سَبَأٍ تَعْمِدُ إِلَى الِارْتِحَالِ عَنْ بَلَدِهَا وَتَدْخُلُ بَلَدَ مَلِكٍ آخَرَ غَيْرَ هَائِبَةٍ، لَوْلَا أَنَّهَا كَانَتْ مُضْطَرَّةً إِلَى ذَلِكَ بِسِيَاسَةِ ارْتِكَاب أخف الضررين إِذْ كَانَ سُلَيْمَانُ قَدْ أَلْزَمَهَا بِالدُّخُولِ فِي دَائِرَةِ نُفُوذِ مُلْكِهِ، فَكَانَ حُضُورهَا لَدَيْهِ استسلاما وَاعْتِرَافًا لَهُ بِالسِّيَادَةِ بَعْدَ أَنْ تَنَصَّلَتْ مِنْ ذَلِكَ بِتَوْجِيهِ الْهَدِيَّةِ وَبَعْدَ أَنْ رَأَتِ الْعَزْمَ مِنْ سُلَيْمَان على وجوب امْتِثَالِ أَمْرِهِ.
وَمِنَ الْعَجِيبِ إِهْمَالُ كِتَابِ الْيَهُودِ دَعْوَةَ سُلَيْمَانَ بِلْقِيسَ إِلَى عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ وَهل يظنّ بِنَبِي أَنْ يُقِرَّ الشِّرْكَ على منتحليه.
[٧٧]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٧٧]
وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧)
هَذَا رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ فِي طَالِعِ السُّورَةِ هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [النَّمْل: ٢] ذُكِرَ هُنَا لِاسْتِيعَابِ جِهَاتِ هَدْيِ الْقُرْآنِ. أَمَّا كَوْنُهُ هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا كَوْنُهُ رَحْمَةً لَهُمْ فَلِأَنَّهُمْ لَمَّا اهْتَدَوْا بِهِ قَدْ نَالُوا الْفَوْزَ فِي الدُّنْيَا بِصَلَاحِ نُفُوسِهِمْ وَاسْتِقَامَةِ أَعْمَالِهِمْ وَاجْتِمَاعِ كَلِمَتِهِمْ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ. وَالرِّسَالَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ وَإِنْ كَانَتْ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ كُلِّهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ فِي سُورَة [الْأَنْبِيَاء: ١٠٧] فَرَحْمَتُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أخص.
والتأكيد بإن مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى الْمَعْرِضِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ [النَّمْل: ٧٣].
وَاللَّهْوُ: مَا يَلْهُو بِهِ النَّاسُ، أَيْ يَشْتَغِلُونَ بِهِ عَنِ الْأُمُورِ الْمُكَدِّرَةِ أَوْ يَعْمُرُونَ بِهِ أَوْقَاتُهُمُ الْخَلِيَّةُ عَنِ الْأَعْمَالِ.
وَاللَّعِبُ: مَا يُقْصَدُ بِهِ الْهَزْلُ وَالِانْبِسَاطُ. وَتَقَدَّمُ تَفْسِيرُ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ وَوَجْهُ حَصْرِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِيهِمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٣٢].
وَالْحَصْرُ: ادِّعَائِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ زَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِتَوْجِيهِ اسْمِ الْإِشَارَةِ إِلَى الْحَيَاةِ وَهِيَ إِشَارَةُ تَحْقِيرٍ وَقِلَّةِ اكْتِرَاثٍ، كَقَوْلِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ مُشِيرًا إِلَى الْمَوْتِ:
مَتَى يَأْتِ هَذَا الْمَوْتُ لَا يُلْفِ حَاجَةً لِنَفْسِي إِلَّا قَدْ قَضَيْتُ قَضَاءَهَا
وَلَمْ تُوَجَّهِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْحَيَاةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهَا مَا يَقْتَضِي تَحْقِيرُ الْحَيَاةِ فَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِإِفَادَةِ تَحْقِيرِهَا، وَأَمَّا آيَةُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ فَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها [الْأَنْعَام: ٣١ فَذَكَرَ لَهُمْ فِي تِلْكَ الْآيَةِ مَا سَيَظْهَرُ لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ مِنْ ذَهَابِ حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا سدى.
وَأمر تَقْدِيمُ ذِكْرِ اللَّهْوِ هُنَا وَذِكْرِ اللَّعِبِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فَلِأَنَّ آيَةَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَى اسْمِ إِشَارَةٍ يُقْصَدُ مِنْهُ تَحْقِيرُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَكَانَ الِابْتِدَاءُ بِأَنَّهَا لَعِبٌ مُشِيرًا إِلَى تَحْقِيرِهَا لِأَنَّ اللَّعِبَ أَعْرَقُ فِي قِلَّةِ الْجَدْوَى مِنَ اللَّهْوِ.
وَلَمَّا أُشِيرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ فِي قَوْلِهِ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها [العنكبوت: ٦٣] زَادَهُ تَصْرِيحًا بِأَنَّ الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ هِيَ الْحَيَاةُ الْحَقُّ فَصِيغَ لَهَا وَزْنُ الْفِعْلَانِ الَّذِي هُوَ صِيغَة تنبىء عَنْ مَعْنَى التَّحَرُّكِ تَوْضِيحًا لِمَعْنَى كَمَالِ الْحَيَاةِ بِقَدْرِ الْمُتَعَارَفِ، فَإِنَّ التَّحَرُّكَ وَالِاضْطِرَابَ أَمَارَةٌ عَلَى قُوَّةِ الْحَيَوِيَّةِ فِي الشَّيْءِ مِثْلَ الْغَلَيَانِ وَاللَّهَبَانِ. وَهُمْ قَدْ جَهِلُوا الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ مِنْ أَصْلهَا فَلذَلِك قَالُوا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ دَلِيلُهُ مَا تَقَدَّمَ، أَوْ هُوَ الْجَواب مقدّما.
النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدًا على إِمْسَاكِ زَوْجِهِ وَأَنْ لَا يُطَلِّقَهَا، وَمُعَاوَدَتِهِ عَلَيْهِ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ هُنَا بِالْمَوْصُولِ دُونَ اسْمِهِ الْعَلَمِ الَّذِي يَأْتِي فِي قَوْلِهِ:
فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ لِمَا تُشْعِرُ بِهِ الصِّلَةُ الْمَعْطُوفَةُ وَهِيَ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ مِنْ تَنَزُّهِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اسْتِعْمَالِ وَلَائِهِ لِحَمْلِهِ عَلَى تَطْلِيقِ زَوْجِهِ، فَالْمَقْصُودُ هُوَ الصِّلَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا أَنَّ زَيْدًا أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
أَحْرَصُ عَلَى صَلَاحِهِ وَأَنَّهُ أَشَارَ عَلَيْهِ بِإِمْسَاكِ زَوْجِهِ لِصَلَاحِهَا بِهِ، وَأَمَّا صِلَةُ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَهِيَ تَوْطِئَةٌ لِلثَّانِيَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَأْثُورَ الصَّحِيحَ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ: أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ بَقِيَتْ عِنْدَهُ زَيْنَبُ سِنِينَ فَلَمْ تَلِدْ لَهُ، فَكَانَ إِذَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مَا يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ تَارَةً مِنْ خِلَافٍ أَدْلَتْ عَلَيْهِ بِسُؤْدُدِهَا وَغَضَّتْ مِنْهُ بِوِلَايَتِهِ فَلَمَّا تَكَرَّرَ ذَلِكَ عَزَمَ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا وَجَاءَ يُعْلِمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَزْمِهِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا مِنْ عِنْدِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ زَيْنِ الْعَابِدِينَ: أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَيَنْكِحُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ.
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ: نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْلِمُهُ أَنَّ اللَّهَ زَوَّجَهُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ وَذَلِكَ هُوَ مَا فِي نَفْسِهِ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ مُخْتَارُ بَكْرِ بْنِ الْعَلَاءِ الْقُشَيْرِيِّ (١) وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ.
وَالظَّاهِرُ عِنْدِي: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الرُّؤْيَا كَمَا أُرِيَ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ: «أَتَانِي بِكِ الْمَلَكُ فِي الْمَنَامِ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ يَقُولُ لِي: هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَاكْشِفْ فَإِذَا هِيَ أَنْتِ فَأَقُولُ: إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يمضه».
فَقَوْل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْدٍ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ»
تَوْفِيَةً بِحَقِّ النَّصِيحَةِ وَهُوَ أَمْرُ نُصْحٍ وَإِشَارَةٍ بِخَيْرٍ لَا أَمْرُ تَشْرِيعٍ لِأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُتَصَرِّفٌ بِحَقِّ الْوَلَاءِ وَالصُّحْبَةِ لَا بِصِفَةِ التَّشْرِيعِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَدَاءُ هَذِهِ الْأَمَانَةِ لَا يَتَأَكَّدُ أَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ زَيْنَبَ صَائِرَةٌ زَوْجًا لَهُ لِأَنَّ عِلْمَ النَّبِيءِ بِمَا سَيَكُونُ لَا يَقْتَضِي إِجْرَاءَهُ إرشاده أَوْ تَشْرِيعَهُ بِخِلَافِ عِلْمِهِ أَوْ ظَنّه فَإِن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ أَبَا
_________
(١) هُوَ من الْمَالِكِيَّة، توفّي سنة ٣٤٤. تَرْجمهُ فِي «المدارك».
وَهُوَ عَنْ قَتَادَةَ وَسُفْيَانَ. وَمَتَى حُمِلَ أَحَدُ الْمَوْصُولَيْنِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ وَجَبَ تَقْدِيرُ مُضَافَيْنِ قَبْلَ مَا الْمَوْصُولَةِ هُمَا الْمَفْعُولُ، أَيِ اتَّقُوا مِثْلَ أَحْوَالِ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُم، أَو مثل أَحْوَالِ مَا خَلْفَكُمْ، وَلَا يُقَدَّرُ مُضَافَانِ فِي مُقَابَلَهِ لِأَن مَا صدق مَا الْمَوْصُولَةِ فِيهِ حِينَئِذٍ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ فَهُوَ مَفْعُولُ اتَّقُوا. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها فِي سُورَة الْبَقَرَة [٦٦].
و (لعلّ) لِلرَّجَاءِ، أَيْ تُرْجَى لَكُمْ رَحْمَةُ اللَّهِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا اتَّقَوْا حَذِرُوا مَا يُوقِعُ فِي الْمُتَّقَى فَارْتَكَبُوا وَاجْتَنَبُوا وَبَادَرُوا بِالتَّوْبَةِ فِيمَا فَرَطَ فَرَضِيَ رَبُّهُمْ عَنْهُمْ فَرَحِمَهُمْ بِالثَّوَابِ وَجَنَّبَهُمُ الْعِقَابَ. وَالْكَلَامُ فِي (لَعَلَّ) الْوَارِدَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١].
وَجَوَابُ إِذا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ. فَالتَّقْدِيرُ هُنَا: كَانُوا مُعْرِضِينَ.
وَجُمْلَةُ مَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّذْيِيلِ لِمَا قَبْلَهَا، فَفِيهَا تَعْمِيمُ أَحْوَالِهِمْ وَأَحْوَالِ مَا يَبَلَّغُونَهُ مِنَ الْقُرْآنِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا أَعْرَضُوا، وَالْإِعْرَاضُ دَأْبُهُمْ فِي كُلِّ مَا يُقَالُ لَهُمْ.
وَالْآيَاتُ: آيَاتُ الْقُرْآنِ الَّتِي تَنْزِلُ فَيَقْرَؤُهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَأُطْلِقَ عَلَى بُلُوغِهَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْإِتْيَانِ وَوَصْفُهَا بِأَنَّهَا مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ لِلتَّنْوِيهِ بِالْآيَاتِ وَالتَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ كَلَامِ رَبِّهِمْ كُفْرًا بِنِعْمَةِ خَلْقِهِ إِيَّاهُمْ.
وَمَا نَافِيَةٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَحْوَالٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ مَا تَأْتِيهِمْ آيَةٌ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ. وَجُمْلَةُ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ فِي مَوضِع الْحَال.
[٤٧]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٤٧]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧)
كَانُوا مَعَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكَرَمِ يَشِحُّونَ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَيَمْنَعُونَهُمُ الْبَذْلَ تَشَفِّيًا مِنْهُمْ فَإِذَا سَمِعُوا مِنَ الْقُرْآنِ مَا فِيهِ الْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ أَوْ سَأَلَهُمْ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ
الْقَوْلَ تَنْفِيسًا عَنْهُ مِنْ كَدْرِ الْأَسَى عَلَى قَوْمِهِ، وَإِعْذَارًا لَهُمْ بِالنِّذَارَةِ، وَإِشْعَارًا لَهُمْ بِأَنَّ الْحَقَّ فِي جَانِبِهِمْ مُضَاعٌ، وَأَنَّ الْأَجْدَرَ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَارِكَتُهُمْ وَأَنْ يُفَوِّضَ الْحُكْمَ فِي خِلَافِهِمْ إِلَى اللَّهِ. وَفِي هَذَا التَّفْوِيضِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الَّذِي فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ هُوَ الْوَاثِقُ بِحَقِيَّةِ دِينِهِ الْمُطْمَئِنُّ بِأَنَّ التَّحْكِيمَ يُظْهِرُ حَقَّهُ وَبَاطِلَ خَصْمِهِ.
وَابْتُدِئَ خِطَابُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ بِالنِّدَاءِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَوْجِيهٍ وَتَحَاكُمٍ. وَإِجْرَاءُ الْوَصْفَيْنِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ بِخُضُوعِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ لِحُكْمِهِ وَشُمُولِ عِلْمِهِ لِدَخَائِلِهِمْ مِنْ مُحِقٍّ وَمُبْطِلٍ.
وَالْفَاطِرُ: الْخَالِقُ، وَفَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَاطِرٌ لِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ. وَوَصْفُ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُشْعِرٌ بِصِفَةِ الْقُدْرَةِ، وَتَقْدِيمُهُ قَبْلَ وَصْفِ الْعِلْمِ لِأَنَّ شُعُورَ النَّاسِ بِقُدْرَتِهِ سَابِقٌ عَلَى شُعُورِهِمْ بِعِلْمِهِ، وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِطَلَبِ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْحُكْمَ إِلْزَامٌ وَقَهْرٌ فَهُوَ مِنْ آثَارِ الْقُدْرَةِ مُبَاشَرَةً.
وَالْغَيْبُ: مَا خَفِيَ وَغَابَ عَنْ عِلْمِ النَّاسِ، وَالشَّهَادَةُ: مَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِحْسَاسِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْعُلُومِ.
وَالْعُدُولُ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ فِي قَوْلِهِ: بَيْنَ عِبادِكَ دُونَ أَنْ يَقُولَ:
بَيْنَنَا، لِمَا فِي عِبادِكَ مِنَ الْعُمُومِ لِأَنَّهُ جَمْعٌ مُضَافٌ فَيَشْمَلُ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ فِي قَضِيَّتِهِمْ هَذِهِ وَالْحُكْمَ بَيْنَ كُلِّ مُخْتَلِفِينَ لِأَنَّ التَّعْمِيمَ أَنْسَبُ بِالدُّعَاءِ وَالْمُبَاهَلَةِ.
وَجُمْلَةُ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدُّعَاءِ. وَالْمَعْنَى: احْكُمْ بَيْنَنَا.
وَفِي تَلْقِينِ هَذَا الدُّعَاءِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ الْحَقُّ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: أَنْتَ تَحْكُمُ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ أَنْتَ لَا غَيْرُكَ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْفَرِيقَيْنِ مَنْ يعْتَقد أَن غير اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ فِي مِثْلِ هَذَا الِاخْتِلَافِ فَيَكُونُ الرَّدُّ عَلَيْهِ بِمُفَادِ الْقَصْرِ، تَعَيَّنَ أَنَّ الْقَصْرَ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً تَلْوِيحِيَّةً
وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
جُمْلَةٌ عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةِ يَكَادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ لِإِفَادَتِهَا تَقْرِيرَ مَعْنَى عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَلَالِهِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِمَا بَقَوْلِهِ: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [الشورى: ٤].
مَرْتَبَةُ وَاجِبِ الْوُجُودِ سُبْحَانَهُ وَهُوَ أَهْلُ التَّنْزِيهِ وَالْحَمْدِ وَمَرْتَبَةُ الرَّوْحَانِيَّاتِ وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ وَهِيَ وَاسِطَةُ الْمُتَصَرِّفِ الْقَدِيرِ وَمُفِيضِ الْخَيْرِ فِي تَنْفِيذِ أَمْرِهِ مِنْ تَكْوِينٍ وَهُدًى وَإِفَاضَةِ خَيْرٍ عَلَى النَّاسِ، فَهِيَ حِينُ تَتَلَقَّى مِنَ اللَّهِ أَوَامِرَهُ تُسَبِّحُهُ وَتَحْمَدُهُ، وَحِينَ تَفِيضُ خَيْرَاتُ رَبِّهَا عَلَى عِبَادِهِ تَسْتَغْفِرُ لِلَّذِينِ يَتَقَبَّلُونَهَا تَقَبُّلَ الْعَبِيدِ الْمُؤْمِنِينَ بِرَبِّهِمْ، وَتِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى حُصُولِ ثَمَرَاتِ إِبْلَاغِهَا، وَذَلِكَ بِتَأْثِيرِهَا فِي نَظْمِ أَحْوَالِ الْعَالَمِ الْإِنْسَانِيِّ. وَمَرْتَبَةُ الْبَشَرِيَّةِ الْمُفَضَّلَةِ بِالْعَقْلِ إِذْ أَكْمَلُهُ الْإِيمَانُ وَهِيَ الْمُرَادُ بِ (مَنْ فِي الأَرْض).
[٦]
[سُورَة الشورى (٤٢) : آيَة ٦]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦)
جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الشورى: ٤] بَعْدَ أَنْ أُفِيدَ مَا هُوَ كَالْحُجَّةِ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ قَوْلِهِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ يكَاد السَّمَاوَات [الشورى: ٤، ٥] الْآيَتَيْنِ. فَالْمَعْنَى: قَدْ نَهَضَتْ حُجَّةُ انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْعِزَّةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعُلُوِّ وَالْعَظَمَةِ وَعَلِمَهَا الْمُؤْمِنُونَ فَاسْتَغْفَرَتْ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يُبْصِرُوا تِلْكَ الْحُجَّةَ وَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَدِلَّةُ فَلَا تَهْتَمَّ بِشَأْنِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ حَسْبُهُمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ. فَهَذَا تَسْكِينٌ لحزن الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَهَذِهِ مقدّمة لما سيأمر بِهِ الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدَّعْوَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى [الشورى: ٧]
فَأَتَاهُ فَقَالَ: أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَالَ: بلَى. قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَهُ: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً، وَقَالَ: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ فَلَمْ نَجِدْهُ بَقِيَ إِلَّا سِتَّةَ أَشْهُرٍ. فَرَجَعَ عُثْمَانُ إِلَى ذَلِكَ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بُنِيَ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ شُمُولَ الصُّوَرِ النَّادِرَةِ الَّتِي يَحْتَمِلُهَا لَفْظُ الْقُرْآنِ هُوَ اللَّائِقُ بِكَلَامِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ الَّذِي أَنْزَلَهُ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ مِثْلِ هَذَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَحْكَامِ الْحَمْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
حَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ وَمَعْنَاهَا مَعْنَى فَاءُ التَّفْرِيعِ عَلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ، وَإِذْ كَانَتْ حَتَّى لَا يُفَارِقُهَا مَعْنَى الْغَايَةِ كَانَتْ مُؤْذِنَةً هُنَا بِأَنَّ الْإِنْسَانَ تَدَرَّجَ فِي أَطْوَارِهِ مِنْ وَقْتِ فِصَالِهِ إِلَى أَنْ بَلَغَ أَشُدَّهُ، أَيْ هُوَ مُوصًى بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا فِي الْأَطْوَارِ الْمُوَالِيَةِ لِفِصَالِهِ، أَيْ يُوصِيهِ وَلِيُّهُ فِي أَطْوَارِ طُفُولَتِهِ ثُمَّ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ وَصِيَّةِ اللَّهِ فِي وَقْتِ تَكْلِيفِهِ.
وَوُقُوعُ إِذا بَعْدَ حَتَّى لِيُرَتَّبَ عَلَيْهَا تَوْقِيتُ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ مِنَ الْخَبَرِ، أَيْ كَانَتِ الْغَايَةُ وَقْتَ بُلُوغِهِ الْأَشُدَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ نَظَائِرُ ذَلِكَ قَرِيبًا وَبَعِيدًا مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٢].
وَلَمَّا كَانَ إِذا ظَرْفًا لِزَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ كَانَ الْفِعْلُ الْمَاضِي بَعْدَهَا مُنْقَلِبًا إِلَى الِاسْتِقْبَالِ، وَإِنَّمَا صِيغَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي تَشْبِيهًا لِلْمُؤَكَّدِ تَحْصِيلُهُ بِالْوَاقِعِ، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ.
وإِذا تَجْرِيدٌ لِلِاسْتِعَارَةِ، وَالْمَعْنَى: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، أَيْ يَسْتَمِرَّ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا إِلَى أَنْ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ فَإِذَا بَلَغَهُ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي، أَيْ طَلَبَ الْعَوْنَ مِنَ اللَّهِ عَلَى زِيَادَةِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا بِأَنْ يُلْهِمَهُ الشُّكْرَ عَلَى نِعَمِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَيْهِ. وَمِنْ جُمْلَةِ النِّعَمِ عَلَيْهِ أَنْ أَلْهَمَهُ الْإِحْسَانَ لِوَالِدَيْهِ.
وَتُشَبَّهُ الْأُمَمُ الْمَاضِيَةُ بِجَمَاعَةٍ سَبَقَتْهُمْ لِلْمَاءِ، وَيُشَبَّهُ نَصِيبُ كُلِّ جَمَاعَةٍ بِالدَّلْوِ الَّتِي يَأْخُذُونَهَا مِنَ الْمَاءِ.
قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ يَمْدَحُ الْمَلِكَ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي شِمْرٍ، وَيَشْفَعُ عِنْدَهُ لِأَخِيهِ شَأْسِ بْنِ عَبْدَةَ وَكَانَ قَدْ وَقَعَ فِي أَسْرِهِ مَعَ بَنِي تَمِيمٍ يَوْمَ عَيْنِ أَبَاغٍ:
وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ فَحُقَّ لِشَأْسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ
فَلَمَّا سَمِعَهُ الْمَلِكُ قَالَ: «نَعَمْ وَأَذْنِبَةٌ» وَأَطْلَقَ لَهُ أَخَاهُ شَأْسَ بْنَ عَبْدَةَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَسْرَى تَمِيمٍ، وَهَذَا تَسْلِيَة لنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَقْصُودُ: أَنْ يَسْمَعَهُ الْمُشْرِكُونَ فَهُوَ تَعْرِيضٌ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ أكد الْخَبَر ب (إنّ) لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِالْوَعِيدِ، وَلِذَلِكَ فُرِّعَ على التَّأْكِيد قَالَ:
فَلا يَسْتَعْجِلُونِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ بِالْعَذَابِ اسْتِهْزَاءً وَإِشْعَارًا بِأَنَّهُ وَعْدٌ مَكْذُوبٌ فِي الْوَاقِعِ يَسْتَعْجِلُونَ اللَّهَ تَعَالَى بِوَعِيدِهِ.
وَعُدِّيَ الِاسْتِعْجَالُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ وَهُمْ إِنَّمَا اسْتَعْجَلُوهُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِظْهَارِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْبِرٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى تَوْبِيخًا لَهُمْ وَإِنْذَارًا بِالْوَعِيدِ. وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمُ لِلتَّخْفِيفِ.
وَالنَّهْيُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ إِظْهَارًا لِغَضَبِ الله عَلَيْهِم.
[٦٠]
[سُورَة الذاريات (٥١) : آيَة ٦٠]
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠)
فُرِّعَ عَلَى وَعِيدِهِمْ إِنْذَارٌ آخَرُ بِالْوَيْلِ، أَوْ إِنْشَاءُ زَجْرٍ.
وَالْوَيْلُ: الشَّرُّ وَسُوءُ الْحَالِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧٩]، وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّعْظِيمِ.
وَالْكَلَامُ يَحْتَمِلُ الْإِخْبَارَ بِحُصُولِ وَيْلٍ، أَيْ عَذَابٌ وَسُوءُ حَالٍ لَهُمْ يَوْمَ أُوعِدُوا بِهِ، وَيَحْتَمِلُ إِنْشَاءَ الزَّجْرِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ سُوءِ حَالِهِمْ فِي يَوْمٍ أُوعِدُوهُ.
وَ (مِنْ) لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ، أَيْ سُوءُ حَالٍ بِتَرَقُّبِهِمْ عَذَابًا آتِيًا مِنَ الْيَوْم الَّذِي أعدوه.
يَنْهَى الْيَهُودَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ. وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى الْيَهُودِ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ، بَلِ الْحَقُّ مَا فِي ابْنِ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقين.
وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حَالَهُمْ فِي اخْتِلَاءِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ذَكَرَ حَالَ نِيَّاتِهِمُ الْخَبِيثَةِ عِنْدَ الْحُضُورِ فِي مجْلِس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ يَتَتَبَّعُونَ سُوءَ نِيَّاتِهِمْ مِنْ كَلِمَاتٍ يَتَبَادَرُ مِنْهَا لِلسَّامِعِينَ أَنَّهَا صَالِحَةٌ فَكَانُوا إِذَا دَخَلُوا على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْفِتُونَ لَفْظَ «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ» لِأَنَّهُ شِعَارُ الْإِسْلَامِ وَلِمَا فِيهِ من جمع مَعْنَى السَّلَامَةِ يَعْدِلُونَ عَنْ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ: أَنْعِمْ صَبَاحًا، وَهِيَ تَحِيَّةُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّهُمْ لَا يُحِبُّونَ أَنْ يَتْرُكُوا عَوَائِدَ الْجَاهِلِيَّةِ. نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
فَمَعْنَى بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ، بِغَيْرِ لَفْظِ السَّلَامِ، فَإِنَّ اللَّهَ حَيَّاهُ بِذَلِكَ بِخُصُوصِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الْأَحْزَاب: ٥٦]. وَحَيَّاهُ بِهِ فِي عُمُومِ الْأَنْبِيَاءِ بِقَوْلِهِ: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النَّمْل: ٥٩] وَتَحِيَّةُ اللَّهِ هِيَ التَّحِيَّةُ الْكَامِلَةُ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا
وَرَدَ فِي حَدِيثِ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حيّوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، وَأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: «وَعَلَيْكُمْ»
. فَإِنَّ ذَلِكَ وَارِدٌ فِي قَوْمٍ مَعْرُوفٌ أَنَّهُمْ مِنَ الْيَهُودِ. وَمَا ذُكِرَ أَوَّلَ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَلِيقُ حَمْلُهُ عَلَى أَحْوَالِ الْيَهُودِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا وَلَوْ حمل ضمير جاؤُكَ عَلَى الْيَهُودِ لَزِمَ عَلَيْهِ تَشْتِيتُ الضَّمَائِرِ.
أَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَفِي أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَهَذَا مِثْلُ مَا كَانَ بَعضهم يَقُول للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
راعِنا [الْبَقَرَة: ١٠٤] تَعَلَّمُوهَا مِنَ الْيَهُودِ وَهُمْ يُرِيدُونَ التَّوْجِيهَ بِالرُّعُونَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ [الْبَقَرَة:
١٠٤] وَلَمْ يُرِدْ مِنْهُ نَهْيَ الْيَهُودِ.
وَمَعْنَى يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ خَلَقَ فَاعِلَ يَعْلَمُ وَالْمُرَادُ اللَّهُ تَعَالَى، وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَعْلَمُ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: ألَا يَعْلَمُ خَالِقُكُمْ سِرَّكَمْ وَجَهْرَكُمْ وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِلَطِيفٍ خَبِيرٍ.
وَالْعِلْمُ يَتَعَلَّقُ بِذَوَاتِ النَّاسِ وَأَحْوَالِهِمْ لِأَنَّ الْخَلْقَ إِيجَادٌ وَإِيجَادُ الذَّوَاتِ عَلَى نِظَامٍ مَخْصُوصٍ دَالٌّ عَلَى إِرَادَةِ مَا أُودِعَ فِيهِ مِنَ النِّظَامِ وَمَا يَنْشَأُ عَنْ قُوَى ذَلِكَ النِّظَامِ، فَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى عُمُومِ عَلْمِهِ تَعَالَى وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لِلْانْفِكَاكِ الظَّاهِرِ بَيْنَ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ وَتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ.
وَجُمْلَةُ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ الْأَحْسَنُ أَنْ تُجْعَلَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ لِتُفِيدَ تَعْلِيمًا لِلنَّاسِ بِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مُحِيطٌ بِذَوَاتِ الْكَائِنَاتِ وَأَحْوَالِهَا فَبَعْدَ أَنْ أَنْكَرَ ظَنَّهُمُ انْتِفَاءً عَلَى اللَّهِ بِمَا يُسِرُّونَ، أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَمَا هُوَ أَخْفَى مِنَ الْإِسْرَارِ مِنَ الْأَحْوَالِ.
واللَّطِيفُ: الْعَالم خبايا الْأُمُورِ وَالْمُدَبِّرُ لَهَا بِرِفْقٍ وَحِكْمَةٍ.
والْخَبِيرُ: الْعَلِيمُ الَّذِي لَا تَعْزُبُ عَنْهُ الْحَوَادِثُ الْخَفِيَّةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُخْبِرَ النَّاسُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا بِحُدُوثِهَا فَلِذَلِكَ اشْتُقَّ هَذَا الْوَصْفُ مِنْ مَادَّةِ الْخَبَرِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ
فِي الْأَنْعَامِ [١٠٣] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ فِي سُورَة لُقْمَان [١٦].
[١٥]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ١٥]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥)
اسْتِئْنَافٌ فِيهِ عَوْدٌ إِلَى الْاسْتِدْلَالِ، وَإِدْمَاجٌ لِلْامْتِنَانِ، فَإِنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ الَّتِي تَحْوِي النَّاسَ عَلَى وَجْهِهَا أَدَلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلِمِهِ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ إِذْ مَا الْإِنْسَانُ إِلَّا جُزْءٌ مِنَ الْأَرْضِ أَوْ كَجُزْءٍ مِنْهَا قَالَ تَعَالَى: مِنْها خَلَقْناكُمْ [طه: ٥٥]، فَلَمَّا ضَرَبَ لَهُمْ بِخَلْقِ أَنْفُسِهِمْ دَلِيلًا عَلَى عِلْمِهِ الدَّالِّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ شَفَعَهُ بِدَلِيلِ خَلْقِ الْأَرْضِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا، مَعَ
الْمِنَّةِ بِأَنَّهُ خَلَقَهَا هَيِّنَةً لَهُمْ صَالِحَةً لِلسَّيْرِ فِيهَا مُخْرِجَةً لِأَرْزَاقِهِمْ، وَذَيَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ النُّشُورَ مِنْهَا وَأَنَّ النُّشُورَ إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ.
وَالذَّلُولُ مِنَ الدَّوَابِّ الْمُنْقَادَةُ الْمُطَاوِعَةُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الذُّلِّ وَهُوَ الْهَوَانُ وَالْانْقِيَادُ،
الْخَشَبِ أَوْ مِنَ النُّحَاسِ، يَنْفُخُ فِيهِ النَّافِخُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الصَّوْتُ قَوِيًّا لِنِدَاءِ النَّاسِ إِلَى الِاجْتِمَاعِ، وَأَكْثَرُ مَا يُنَادَى بِهِ الْجَيْشُ وَالْجُمُوعُ الْمُنْتَشِرَةُ لِتَجْتَمِعَ إِلَى عَمَلٍ يُرِيدُهُ الْآمِرُ بِالنَّفْخِ.
وَبُنِيَ يُنْفَخُ إِلَى النَّائِبِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِمَعْرِفَةِ النَّافِخِ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ مَعْرِفَةُ هَذَا الْحَادِثِ الْعَظِيمِ وَصُورَةِ حُصُولِهِ.
وَالنَّفْخُ فِي الصُّورِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِهَيْئَةِ دُعَاءِ النَّاسِ وَبَعْثِهِمْ إِلَى الْحَشْرِ بِهَيْئَةِ جَمْعِ الْجَيْشِ الْمُتَفَرِّقِ لِرَاحَةٍ أَوْ تَتَبُّعِ عَدُوٍّ فَلَا يَلْبَثُونَ أَنْ يَتَجَمَّعُوا عِنْدَ مَقَرِّ أَمِيرِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَفْخٌ يَحْصُلُ بِهِ الْإِحْيَاءُ لَا تُعْلَمُ صِفَتُهُ فَإِنَّ أَحْوَالَ الْآخِرَةِ لَيْسَتْ عَلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا، فَيَكُونُ النَّفْخُ هَذَا مُعَبَّرًا بِهِ عَنْ أَمْرِ التَّكْوِينِ الْخَاصِّ وَهُوَ تَكْوِينُ الْأَجْسَادِ بَعْدَ بِلَاهَا وَبَثُّ أَرْوَاحِهَا فِي بَقَايَاهَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْآثَارِ أَنَّ الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِهَذَا النَّفْخِ هُوَ إِسْرَافِيلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَعَطْفُ (تَأْتُونَ) بِالْفَاءِ لِإِفَادَةِ تَعْقِيبِ النَّفْخِ بِمَجِيئِهِمْ إِلَى الْحِسَابِ.
وَالْإِتْيَانُ: الْحُضُورُ بِالْمَكَانِ الَّذِي يَمْشِي إِلَيْهِ الْمَاشِي فَالْإِتْيَانُ هُوَ الْحُصُولُ.
وَحَذْفُ مَا يَحْصُلُ بَيْنَ النَّفْخِ فِي الصُّورِ وَبَيْنَ حُضُورِهِمْ لِزِيَادَةِ الإيذان بِسُرْعَة حصور الْإِتْيَانِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَحْصُلُ عِنْدَ النَّفْخِ فِي الصُّور وَإِن كَانَ الْمَعْنى: ينْفخ فِي الصُّورِ فَتَحْيَوْنَ فَتَسِيرُونَ فَتَأْتُونَ.
وأَفْواجاً حَالٌ من ضمير فَتَأْتُونَ، وَالْأَفْوَاجُ: جَمْعُ فَوْجٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَالْفَوْجُ: الْجَمَاعَةُ الْمُتَصَاحِبَةُ مِنْ أُنَاسٍ مُقَسَّمِينَ بِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ، فَتَكُونُ الْأُمَمُ أَفْوَاجًا، وَيَكُونُ الصَّالِحُونَ وَغَيْرُهُمْ أَفْوَاجًا قَالَ تَعَالَى: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها [الْملك: ٨] الْآيَةَ.
وَالْمَعْنَى: فَتَأْتُونَ مُقَسَّمِينَ طَوَائِفَ وَجَمَاعَاتٍ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ
كَالْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَكُلُّ أُولَئِكَ أَقسَام ومراتب.


الصفحة التالية
Icon