الْأَعْمَى وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى التَّوْزِيعِ فَلَا يُفْهَمُ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَالْأَصَمِّ وَبَعْضَهُمْ كَالْأَبْكَمِ وَبَعْضَهُمْ كَالْأَعْمَى، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ عِنْدَ مُحَقِّقِي أَهْلِ الْبَيَانِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» :((فَإِنْ قُلْتَ هَلْ يُسَمَّى مَا فِي الْآيَةِ اسْتِعَارَةٌ قُلْتُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى تَسْمِيَتِهِ تَشْبِيهًا بَلِيغًا لَا اسْتِعَارَةً لِأَنَّ الْمُسْتَعَارَ لَهُ مَذْكُورٌ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ)) اهـ أَيْ لِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ تَعْتَمِدُ عَلَى لَفْظِ الْمُسْتَعَارِ مِنْهُ أَوِ الْمُسْتَعَارِ لَهُ فِي جُمْلَةِ الِاسْتِعَارَةِ فَمَتَى ذُكِرَا مَعًا فَهُوَ تَشْبِيهٌ، وَلَا يَضُرُّ ذِكْرُ لَفْظِ الْمُسْتَعَارِ لَهُ فِي غَيْرِ جُمْلَةِ الِاسْتِعَارَةِ لِظُهُورِ أَنَّهُ لَوْلَا الْعِلْمُ بِالْمُسْتَعَارِ لَهُ فِي الْكَلَامِ لَمَا ظَهَرَتِ الِاسْتِعَارَةُ وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَ ابْنِ الْعَمِيدِ:

قَامَتْ تُظَلِّلُنِي مِنَ الشَّمْسِ نَفْسٌ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ نَفْسِي
قَامَتْ تُظَلِّلُنِي وَمِنْ عَجَبٍ شَمَّسٌ تُظَلِّلُنِي مِنَ الشَّمْسِ
أَنَّ قَوْلَهُ شَمْسٌ اسْتِعَارَةٌ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ ذِكْرُ الْمُسْتَعَارِ لَهُ قَبْلُ فِي قَوْلِهِ نَفْسٌ أَعَزُّ، وَضَمِيرُهَا فِي قَوْلِهِ قَامَتْ تُظَلِّلُنِي وَكَذَا إِذَا لَفْظُ الْمُسْتَعَارِ غَيْرَ مَقْصُودِ ابْتِنَاءِ التَّشْبِيهِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنَ الِاسْتِعَارَةِ كَقَوْلِ أَبِي الْحَسَنِ ابْنِ طَبَاطَبَا:
لَا تَعْجَبُوا مِنْ بِلَي غَلَالَتِهِ قَدْ زَرَّ أَزْرَارَهُ عَلَى الْقَمَرِ
فَإِنَّ الضَّمِيرَ لَمْ يُذْكَرْ لِيُبْنَى عَلَيْهِ التَّشْبِيهُ بَلْ جَاءَ التَّشْبِيهُ عَقِبَهُ.
وَالصُّمُّ وَالْبُكْمُ وَالْعُمْيُ جَمْعُ أَصَمَّ وَأَعْمَى وَأَبْكَمَ وَهُمْ مَنِ اتَّصَفَ بِالصَّمَمِ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى، فَالصَّمَمُ انْعِدَامُ إِحْسَاسِ السَّمْعِ عَمَّنْ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ سَمِيعًا، وَالْبَكَمُ انْعِدَامُ النُّطْقِ عَمَّنْ مِنْ شَأْنِهِ النُّطْقُ، وَالْعَمَى انْعِدَامُ الْبَصَرِ عَمَّنْ مِنْ شَأْنِهِ الْإِبْصَارُ.
وَقَوْلُهُ: فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ لِأَنَّ مَنِ اعْتَرَاهُ هَذِهِ
الصِّفَاتُ انْعَدَمَ مِنْهُ الْفَهْمُ وَالْإِفْهَامُ وَتَعَذَّرَ طَمَعُ رُجُوعِهِ إِلَى رُشْدٍ أَوْ صَوَابٍ. وَالرُّجُوعُ الِانْصِرَافُ مِنْ مَكَانِ حُلُولٍ ثَانٍ إِلَى مَكَانِ حُلُولٍ أَوَّلٍ وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْإِقْلَاعِ عَنِ الْكُفْرِ.
[١٩]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٩]
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩)
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ.
عَطْفٌ عَلَى التَّمْثِيلِ السَّابِقِ وَهُوَ قَوْلُهُ: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا [الْبَقَرَة: ١٧] أُعِيدَ تَشْبِيهُ حَالِهِمْ بِتَمْثِيلٍ آخَرَ وَبِمُرَاعَاةِ أَوْصَافٍ أُخْرَى فَهُوَ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُنَافِقِينَ الْمُخْتَلِطَةِ بَيْنَ جَوَاذِبَ وَدَوَافِعَُُ
لِلْمُسْلِمِينَ أُوقِظُوا أَنْ لَا يُزْهَوْا بِهَذَا الثَّنَاءِ فَيَحْسَبُوا أَنَّهُمْ قَضَوْا حَقَّ شُكْرِ النِّعْمَةِ فَعُقِّبَ بِأَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَصْبِرُوا لِمَا عَسَى أَنْ يَعْتَرِضَهُمْ فِي طَرِيقِ إِيمَانِهِمْ مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ اقْتِدَاءً بِصَالِحِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، فَكَمَا حَذَّرَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الضَّالُّونَ مِنْ أُولَئِكَ الْأُمَمِ حَرَّضَهُمْ هُنَا عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهُدَى الْمُهْتَدِينَ مِنْهُمْ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ الْبِشَارَةِ بِالنِّذَارَةِ وَعَكْسِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَمْ حَسِبْتُمْ إِضْرَابًا عَنْ قَوْلِهِ: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلِيَكُونَ ذَلِكَ تَصْبِيرًا لَهُمْ عَلَى مَا نَالَهُمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ تَطَاوُلِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِمْ بِمَنْعِهِمْ مِنَ الْعُمْرَةِ وَمَا اشْتَرَطُوا عَلَيْهِمْ لِلْعَامِ الْقَابِلِ، وَيَكُونَ أَيْضًا تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ [الْبَقَرَة: ٢١٦] الْآيَةَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ الْأَوَّلِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ حِينَ أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْجَهْدِ وَالشَّدَائِدِ فَتَكُونُ تِلْكَ الْحَادِثَةُ زِيَادَةً فِي الْمُنَاسَبَةِ.
وأَمْ فِي الْإِضْرَابِ كَبَلْ إِلَّا أَنَّ أَمْ تُؤْذِنُ بِالِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ هُنَا تَقْرِيرٌ بِذَلِكَ وَإِنْكَارُهُ إِنْ كَانَ حَاصِلًا أَيْ بَلْ أَحَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا دُونَ بَلْوَى وَهُوَ حُسْبَانٌ بَاطِلٌ لَا يَنْبَغِي اعْتِقَادُهُ.
وَحَسِبَ بِكَسْرِ السِّينِ فِي الْمَاضِي: فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ أَخَوَاتِ ظَنَّ، وَفِي مُضَارِعِهِ وَجْهَانِ كَسْرُ السِّينِ وَهُوَ أَجْوَدُ وَفَتْحُهَا وَهُوَ أَقْيَسُ وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا فِي الْمَشْهُورِ، وَمَصْدَرُهُ الْحِسْبَانُ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَأَصْلُهُ مِنَ الْحِسَابِ بِمَعْنَى الْعَدِّ فَاسْتُعْمِلَ فِي الظَّنِّ تَشْبِيهًا لِجَوَلَانِ النَّفْسِ فِي اسْتِخْرَاجِ عِلْمِ مَا يَقَعُ بِجَوَلَانِ الْيَدِ فِي الْأَشْيَاءِ لِتَعْيِينِ عَدَدِهَا وَمِثْلُهُ فِي ذَلِكَ فِعْلُ عَدَّ بِمَعْنَى ظَنَّ.
وَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ إِقْبَالٌ عَلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْكَلَامُ عَلَى غَيْرِهِمْ فَلَيْسَ فِيهِ الْتِفَات، وَجعل صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْتِفَاتًا بِنَاءً عَلَى تَقَدُّمِ قَوْلِهِ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [الْبَقَرَة: ٢١٣] وَأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ أَمْ حَسِبُوا أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ الِانْتِقَالُ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ بِالْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ الْحَاصِلِ بِأَمْ، صَارَ الْكَلَامُ افْتِتَاحًا مَحْضًا وَبِذَلِكَ يُتَأَكَّدُ اعْتِبَارُ الِانْتِقَالِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ، فَالِالْتِفَاتُ هُنَا غَيْرُ مَنْظُورٍ إِلَيْهِ عَلَى التَّحْقِيقِ.
وَدُخُولُ الْجَنَّةِ هُنَا دُخُولُهَا بِدُونِ سَبْقِ عَنَاءٍ وَبَلْوَى، وَهُوَ دُخُولُ الَّذِينَ اسْتَوْفَوْا كُلَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُقَصِّرُوا فِي شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِلَّا فَإِنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ مَحْسُوبٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَلَوْ لَمْ تَأْتِهِ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ أَوْ أَتَتْهُ وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَيْهَا، بِمَعْنَى أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى ذَلِكَ وَعَدَمَ الضَّجَرِ
وَالرُّؤْيَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَصَرِيَّةً قُصِدَ مِنْهَا فِي كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ ضَلَالَ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ صَارَ كَالشَّيْءِ الْمُشَاهَدِ لِوُضُوحِهِ فِي أَحْوَالِ تَقَرُّبَاتِهِمْ لِلْأَصْنَامِ مِنَ الْحِجَارَةِ فَهِيَ حَالَةٌ مُشَاهَدٌ مَا فِيهَا مِنَ الضَّلَالِ. وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَيَجُوزُ كَوْنُ الرُّؤْيَةِ عِلْمِيَّةً، وَقَوْلُهُ: فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي.
وَفَائِدَةُ عَطْفِ وَقَوْمَكَ عَلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ رُؤْيَتَهُ أَبَاهُ فِي ضَلَالٍ
يَقْتَضِي أَنْ يَرَى مُمَاثِلِيهِ فِي ضَلَالٍ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ صَرَاحَةٍ لَا يُكْتَفَى فِيهِ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ وَلِيُنَبِّئَهُ مِنْ أَوَّلِ وهلة على أَنَّ مُوَافَقَةَ جَمْعٍ عَظِيمٍ إِيَّاهُ عَلَى ضلاله لَا تعصّد دِينَهُ وَلَا تُشَكِّكُ مَنْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ. ومُبِينٍ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبَانَ بِمَعْنَى بَانَ، أَيْ ظَاهِرٌ.
وَوَصْفُ الضَّلَالِ بِ مُبِينٍ نِدَاءٌ عَلَى قُوَّةِ فَسَادِ عُقُولِهِمْ حَيْثُ لَمْ يَتَفَطَّنُوا لِضَلَالِهِمْ مَعَ أَنَّهُ كَالْمُشَاهَدِ الْمَرْئِيِّ.
وَمُبَاشَرَتُهُ إِيَّاهُ بِهَذَا الْقَوْلِ الْغَلِيظِ كَانَتْ فِي بَعْضِ مُجَادَلَاتِهِ لِأَبِيهِ بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ لَهُ بِالدَّعْوَةِ بِالرِّفْقِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا
- إِلَى قَوْلِهِ- سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا [مَرْيَم: ٤٢- ٤٧]. فَلَمَّا رَأَى تَصْمِيمَهُ عَلَى الْكُفْرِ سَلَكَ مَعَهُ الْغِلْظَةَ اسْتِقْصَاءً لِأَسَالِيبِ الْمَوْعِظَةِ لَعَلَّ بَعْضَهَا أَنْ يَكُونَ أَنْجَعَ فِي نَفْسِ أَبِيهِ مِنْ بَعْضٍ فَإِنَّ لِلنُّفُوسِ مَسَالِكَ وَلِمَجَالِ أَنْظَارِهَا مَيَادِينُ مُتَفَاوِتَةٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْل: ١٢٥]، وَقَالَ لَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَة: ٧٣]. فَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضَ مَوَاقِفِهِ مَعَ أَبِيهِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا تنَافِي الْبُرُورَ بِهِ لِأَنَّ الْمُجَاهَرَةَ بِالْحَقِّ دُونَ سَبٍّ وَلَا اعتداء لَا يُنَافِي الْبُرُورَ. وَلَمْ يَزَلِ الْعُلَمَاءُ يُخَطِّئُونَ أَسَاتِذَتَهُمْ وَأَئِمَّتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ فِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ بِدُونِ تَنْقِيصٍ. وَقَدْ قَالَ أَرِسْطَالِيسُ فِي اعْتِرَاضٍ عَلَى أَفْلَاطُونَ: أَفْلَاطُونُ صَدِيقٌ وَالْحَقُّ صَدِيقٌ لَكِنَّ الْحَقَّ أَصْدَقُ.
التَّنْبِيهَ عَلَى هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ لِدُعَاءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
مُقْتَضَى ارْتِبَاطِ نَظْمِ الْكَلَامِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُرْتَبِطًا بِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَيَكُونُ عَطْفُهَا عَلَيْهَا عَطْفُ التَّكْمِلَةِ عَلَى مَا تُكَمِّلُهُ، وَالْجُمْلَتَانِ مَجْعُولَتَانِ آيَةً وَاحِدَةً فِي الْمُصْحَفِ.
وافتتحت الْجُمْلَة باعلموا لِلِاهْتِمَامِ بِمَا تَتَضَمَّنُهُ وَحَثِّ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى التَّأَمُّلِ فِيمَا بَعْدَهُ، وَذَلِكَ مِنْ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ أَنْ يُفْتَتَحَ بَعْضُ الْجُمَلِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى خَبَرٍ أَوْ طلب فهم بِأَعْلَم أَوْ تَعَلَّمْ لَفْتًا لِذِهْنِ الْمُخَاطَبِ.
وَفِيهِ تَعْرِيضٌ غَالِبًا بِغَفْلَةِ الْمُخَاطَبِ عَنْ أَمْرٍ مُهِمٍّ فَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنَّ الْمُخْبِرَ أَوِ الطَّالِبَ مَا يُرِيدُ إِلَّا عِلْمَ الْمُخَاطَبِ فَالتَّصْرِيحُ بِالْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ مَقْصُودٌ لِلِاهْتِمَامِ، قَالَ تَعَالَى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الْمَائِدَة: ١٩٦]- وَقَالَ- اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [الْحَدِيد: ٢٠] الْآيَةَ وَقَالَ فِي الْآيَةِ، بَعْدَ هَذِهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ [الْأَنْفَال: ٢٥]
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ وَقَدْ رَآهُ يَضْرِبُ عَبْدًا لَهُ «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ: أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ»
وَقَدْ يَفْتَتِحُونَ بِتَعَلَّمْ أَوْ تَعَلَّمْنَ قَالَ زُهَيْرٌ:
قُلْتُ تَعَلَّمْ أَنَّ لِلصَّيْدِ غِرَّةً وَإِلَّا تُضَيِّعْهَا فَإِنَّكَ قَاتِلُهُ
وَقَالَ زِيَادُ بْنُ سَيَّارٍ:
تَعَلَّمْ شِفَاءَ النَّفْسِ قَهْرُ عَدُوِّهَا فَبَالِغْ بِلُطْفٍ فِي التَّحَيُّلِ وَالْمَكْرِ
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ أَبِي خَازِمٍ:
وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُمُ بُغَاةٌ مَا بَقِينَا فِي شِقَاقِ
وأَنَّ بَعْدَ هَذَا الْفِعْلِ مَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ حَيْثُمَا وَقَعَتْ، وَالْمَصْدَرُ الْمُؤَوَّلُ يَسُدُّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ عَلِمَ مَعَ إِفَادَةِ (أَنَّ) التَّأْكِيدَ.
والحول، وَيُقَال الحؤل: مَنْعُ شَيْءٍ اتِّصَالًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ قَالَ تَعَالَى: وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ [هود: ٤٣].

[سُورَة هود (١١) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١)
الر تَقَدَّمَ الْقَوْلُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الْوَاقِعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ نُظَرَائِهَا وَمَا سُورَةُ يُونُسَ بِبَعِيدٍ.
كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ الْقَوْلُ فِي الِافْتِتَاحِ بِقَوْلِهِ: كِتابٌ وَتَنْكِيرُهُ مُمَاثِلٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٢].
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابٌ مِنْ عِنْد الله فَلَمَّا ذَا يَعْجَبُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُونَ بِهِ. فَ (كِتَابٌ) مُبْتَدَأٌ، سَوَّغَ الِابْتِدَاءُ مَا فِيهِ مِنَ التَّنْكِيرِ لِلنَّوْعِيَّةِ.
ومِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ خَبَرٌ وأُحْكِمَتْ آياتُهُ صِفَةٌ لِ (كِتَابٍ)، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ أُحْكِمَتْ آياتُهُ صِفَةً مُخَصَّصَةً، وَهِيَ مُسَوِّغُ الِابْتِدَاءِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ (أُحْكِمَتْ) هُوَ الْخَبَرُ. وَتَجْعَلَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ظَرْفًا لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِ أُحْكِمَتْ وفُصِّلَتْ.
وَالْإِحْكَامُ: إِتْقَانُ الصُّنْعِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْحِكْمَةِ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْكَافِ. وَهِيَ إِتْقَانُ الْأَشْيَاءِ بِحَيْثُ تَكُونُ سَالِمَةً مِنَ الْأَخْلَالِ الَّتِي تَعْرِضُ لِنَوْعِهَا، أَيْ جُعِلَتْ آيَاتُهُ كَامِلَةً فِي نَوْعِ الْكَلَامِ بِحَيْثُ سَلِمَتْ مِنْ مُخَالَفَةِ الْوَاقِعِ وَمِنْ أَخْلَالِ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٧]. وَبِهَذَا الْمَعْنى تنبىء الْمُقَابَلَةُ
بِقَوْلِهِ: مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ.
وَآيَاتُ الْقُرْآنِ: الْجُمَلُ الْمُسْتَقِلَّةُ بِمَعَانِيهَا الْمُخْتَتَمَةِ بِفَوَاصِلَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ تَسْمِيَةِ جُمَلِ الْقُرْآنِ بِالْآيَاتِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٩]، وَفِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
الْإِسْلَامِ مَوْصُوفُونَ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ جَهَالَةٍ وَجَاهِلِيَّةٍ، أَوْ جَاهِلِينَ بِالْعِقَابِ الْمُنْتَظَرِ عَلَى مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَعِنَادِهِمْ إِيَّاهُ.
وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْحُكْمِ مَنْ عَمِلَ حَرَامًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَاهِلًا بِأَنَّهُ حَرَامٌ وَكَانَ غَيْرَ مُقَصِّرٍ فِي جَهْلِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ
بِجَهالَةٍ
فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٧].
وَقَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ لِقَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ عَلَى الِاهْتِمَامِ الْحَاصِلِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ. وَيَتَّصِلُ خَبَرُ إِنَّ بِاسْمِهَا لِبُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا.
وَوَقَعَ الْخَبَرُ بِوَصْفِ اللَّهِ بِصِفَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ غُفْرَانِهِ لَهُمْ وَرَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ فِي ضِمْنِ وَصْفِ اللَّهِ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ.
وَالْبَاءُ فِي بِجَهالَةٍ لِلْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ عَمِلُوا.
وَضَمِيرُ مِنْ بَعْدِها عَائِدٌ إِلَى الْجَهَالَةِ أَوْ إِلَى التَّوْبَة.
[١٢٠- ١٢٢]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ١٢٠ إِلَى ١٢٢]
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلِانْتِقَالِ إِلَى غَرَضِ التَّنْوِيهِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ بِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا [سُورَة النَّحْل: ١١٩] الْمَقْصُودُ بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ اتَّبَعُوا الْإِسْلَامَ، فَبَعْدَ أَنْ بَشَّرَهُمْ بِأَنَّهُ غَفَرَ لَهُمْ مَا عَمِلُوهُ مِنْ قَبْلُ زَادَهُمْ فَضْلًا بِبَيَانِ فَضْلِ الدِّينِ الَّذِي اتَّبَعُوهُ.
وَلَا يُوجَدُ فِي الْعَرَبِيَّةِ لَفْظٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ إِسْتَبْرَقٍ.
هَذِهِ خُلَاصَةُ كَلَامِهِ عَلَى تَطْوِيلٍ فِيهِ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ سُنْدُسٍ لِلْبَيَانِ.
وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْحُلِيِّ عَلَى اللِّبَاسِ هُنَا لِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ صِفَةً لِلْجَنَّاتِ ابْتِدَاءً، وَكَانَتْ مَظَاهِرُ الْحُلِيِّ أَبْهَجَ لِلْجَنَّاتِ، فَقَدَّمَ ذِكْرَ الْحُلِيِّ وَأَخَّرَ اللِّبَاسَ لِأَنَّ اللِّبَاسَ أَشَدُّ اتِّصَالًا بِأَصْحَابِ الْجَنَّةِ لَا بِمَظَاهِرِ الْجَنَّةِ، وَعَكْسُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ [الْإِنْسَان: ٢١] لِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَالِكَ جَرَى عَلَى صِفَاتِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ.
وَجُمْلَةُ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَلْبَسُونَ.
وَالِاتِّكَاءُ: جِلْسَةُ الرَّاحَةِ وَالتَّرَفِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً فِي سُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ [٣١].
وَالْأَرَائِكُ: جَمْعُ أَرِيكَةٍ. وَهِيَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ سَرِيرٍ وَحَجَلَةٍ. وَالْحَجَلَةُ: قُبَّةٌ مِنْ ثِيَابٍ تَكُونُ فِي الْبَيْتِ تَجْلِسُ فِيهَا الْمَرْأَةُ أَوْ تَنَامُ فِيهَا. وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلنِّسَاءِ: رَبَّاتُ الْحِجَالِ. فَإِذَا وُضِعَ فِيهَا سَرِيرٌ لِلِاتِّكَاءِ أَو الِاضْطِجَاع فِيهِ أَرِيكَةٌ. وَيَجْلِسُ فِيهَا الرَّجُلُ وَيَنَامُ مَعَ الْمَرْأَةِ، وَذَلِكَ مِنْ شِعَارِ أَهْلِ التَّرَفِ.
وَجُمْلَةُ نِعْمَ الثَّوابُ اسْتِئْنَافُ مَدْحٍ، وَمَخْصُوصُ فِعْلِ الْمَدْحِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: نِعْمَ الثَّوَابُ الْجَنَّاتُ الْمَوْصُوفَةُ.
وَعُطِفَ عَلَيْهِ فِعْلُ إِنْشَاءٍ ثَانٍ وَهُوَ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً لِأَنَّ (حَسُنَ) وَ (سَاءَ) مُسْتَعْمَلَانِ اسْتِعْمَالَ (نِعْمَ) وَ (بِئْسَ) فَعَمِلَا عَمَلَهُمَا. وَلِذَلِكَ كَانَ التَّقْدِيرُ: وَحَسُنَتِ الْجَنَّاتُ مُرْتَفَقًا. وَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ فِي حِكَايَةِ حَالِ أَهْلِ النَّارِ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً.
وَالْمُرْتَفَقُ: هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ بِخِلَافِ مُقَابِله الْمُتَقَدّم.
بِالتَّنْوِيهِ بِقَصَصِهِ، ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ التَّنْوِيهُ بِهِ كُلِّيًّا عَلَى طَرِيقَةٍ تُشْبِهُ التَّذْيِيلَ لِمَا فِي قَوْلِهِ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا مِنْ مَعْنَى عُمُومِ مَا فِيهِ.
وَالْإِشَارَةُ بِ كَذلِكَ نَحْوَ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ، أَيْ كَمَا سَمِعْتَهُ لَا يُبَيَّنُ بِأَوْضَحَ مِنْ ذَلِكَ.
وقُرْآناً حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي أَنْزَلْناهُ. وَقُرْآنٌ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ.
وَالْمُرَادُ الْمَقْرُوءُ، أَيِ الْمَتْلُوُّ، وَصَارَ الْقُرْآنُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلْفَاظٍ مُعَيَّنَةٍ مُتَعَبَّدًا بِتِلَاوَتِهَا يَعْجِزُ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِ سُورَةٍ مِنْهَا. وَسُمِّيَ قُرْآنًا لِأَنَّهُ نُظِمَ عَلَى أُسْلُوبٍ تَسْهُلُ تِلَاوَتُهُ. وَلُوحِظَ هُنَا الْمَعْنَى الِاشْتِقَاقِيُّ قَبْلَ الْغَلَبَةِ وَهُوَ مَا تُفِيدُهُ مَادَّةُ قَرَأَ مِنْ يُسْرِ تِلَاوَتِهِ وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِفَصَاحَةِ تَأْلِيفِهِ وَتَنَاسُبِ حُرُوفِهِ. وَالتَّنْكِيرُ يُفِيدُ الْكَمَالَ، أَيْ أَكْمَلَ مَا يَقْرَأُ.
وعَرَبِيًّا صِفَةُ قُرْآناً. وَهَذَا وَصْفٌ يُفِيدُ الْمَدْحَ، لِأَنَّ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ أَبْلَغُ اللُّغَاتِ وَأَحْسَنُهَا فَصَاحَةً وَانْسِجَامًا. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالِامْتِنَانِ عَلَى الْعَرَبِ، وَتَحْمِيقٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ حَيْثُ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَكَذَّبُوا بِهِ، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠].
وَالتَّصْرِيفُ: التَّنْوِيعُ وَالتَّفْنِينُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٦]، وَقَوْلِهِ وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٤١].
وَذِكْرُ الْوَعِيدِ هُنَا لِلتَّهْدِيدِ، وَلِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً [طه:
١١١].
وَالتَّقْوَى: الْخَوْفُ. وَهِيَ تُسْتَعْمَلُ كِنَايَةً عَنِ الطَّاعَةِ لِلَّهِ، أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ يُؤْمِنُوا وَيُطِيعُوا. وَالذِّكْرُ هُنَا بِمَعْنَى التَّذَكُّرِ، أَيْ يُحَدِثُ لَهُمُ الْقُرْآنُ تَذَكُّرًا وَنَظًرَا فِيمَا يَحِقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَخْتَارُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ.
لِأَنَّنَا نُعَاقِبُ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ لَا عَلَى قَدْرِ الْغَضَبِ، فَلَيْسَ ذكر وصفي لَعَفُوٌّ غَفُورٌ إِيمَاءً إِلَى التَّرْغِيبِ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِلْوَعْدِ بِجَزَاءِ الْمُهَاجِرِينَ اتِّبَاعًا لِلتَّعْلِيلِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ [الْحَج: ٥٩] لِأَنَّ الْكَلَامَ مُسْتَمِرٌّ فِي شَأْنهمْ.
[٦١]
[سُورَة الْحَج (٢٢) : آيَة ٦١]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١)
لَيْسَ اسْمُ الْإِشَارَةِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْفَصْلِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ مِثْلَ شَبِيهِهِ الَّذِي قَبْلَهُ، بَلِ الْإِشَارَةُ هُنَا إِلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ الدَّالِّ عَلَى تَكَفُّلِ النَّصْرِ، فَإِنَّ النَّصْرَ يَقْتَضِي تَغْلِيبَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ عَلَى ضِدِّهِ وَإِقْحَامَ الْجَيْشِ فِي الْجَيْشِ الْآخَرِ فِي الْمَلْحَمَةِ، فَضَرَبَ لَهُ مَثَلًا بِتَغْلِيبِ
مُدَّةِ النَّهَارِ عَلَى مُدَّةِ اللَّيْلِ فِي بَعْضِ السَّنَةِ، وَتَغْلِيبِ مُدَّةِ اللَّيْلِ عَلَى مُدَّةِ النَّهَارِ فِي بَعْضِهَا، لِمَا تَقَرَّرَ مِنِ اشْتِهَارِ التَّضَادِّ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَيِ الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ، وَقَرِيبٌ مِنْهَا اسْتِعَارَةُ التَّلْبِيسِ لِلْإِقْحَامِ فِي الْحَرْبِ فِي قَوْلِ الْمَرَّارِ السُّلَمِيِّ:
وَكَتِيبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتِيبَةٍ حَتَّى إِذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدِي
فَخَبَرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ هُنَا هُوَ قَوْلُهُ: بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ إِلَخْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْإِشَارَةِ تَكْرِيرًا لِشَبِيهِهِ السَّابِقِ لِقَصْرِ تَوْكِيدِهِ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهِ لِأَنَّ جُمْلَةَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ إِلَخْ، مُرْتَبِطَةٌ بِجُمْلَةِ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ إِلَخْ، وَلِذَلِكَ يَصِحُّ جَعْلُ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ إِلَخْ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ [الْحَج: ٦٠].
وَالْإِيلَاجُ: الْإِدْخَالُ. مُثِّلَ بِهِ اخْتِفَاءُ ظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدَ ظُهُورِ نُورِ النَّهَارِ وَعَكْسِهِ تَشْبِيهًا لِذَلِكَ التَّصْيِيرِ بِإِدْخَالِ جِسْمٍ فِي جِسْمٍ آخَرَ،
وَأُسْلُوبُ السُّورَةِ وَأَغْرَاضُهَا شَاهِدَةٌ بِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ.
وَهِيَ السُّورَةُ الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي تَرْتِيبِ النُّزُولِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ يس وَقَبْلَ سُورَةِ فاطر، وَعدد آيها سَبْعٌ وَسَبْعُونَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعَدَدِ.
أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ
وَاشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ على الِابْتِدَاء بتمجيد اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْشَاءِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَوَصْفِهِ بِصِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ فِيهَا.
وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ، وَجَلَالُ مَنْزِلِهِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْهُدَى، وَتَعْرِيضٌ بِالِامْتِنَانِ عَلَى النَّاسِ بِهَدْيِهِ وَإِرْشَادِهِ إِلَى اتِّقَاءِ الْمَهَالِكِ، وَالتَّنْوِيهُ بِشَأْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأُقِيمَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى ثَلَاثِ دَعَائِمَ:
الْأُولَى: إِثْبَاتُ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالتَّنْوِيهُ بِالرَّسُولِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَلَائِلُ صِدْقِهِ، وَرِفْعَةِ شَأْنِهِ عَنْ أَنْ تَكُونَ لَهُ حُظُوظُ الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ، وَمِنْ ذَلِكَ تَلَقِّي قَوْمِهِ دَعْوَتَهُ بِالتَّكْذِيبِ.
الدِّعَامَةُ الثَّانِيَةُ: إِثْبَاتُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَالْإِنْذَارُ بِالْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، وَالتَّبْشِيرُ بِالثَّوَابِ فِيهَا لِلصَّالِحِينَ، وَإِنْذَارُ الْمُشْرِكِينَ بِسُوءِ حَظِّهِمْ يَوْمَئِذٍ، وَتَكُونُ لَهُمُ النَّدَامَةُ عَلَى تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ وَعَلَى إِشْرَاكِهِمْ وَاتِّبَاعِ أَيِمَّةِ كُفْرِهِمْ.
الدِّعَامَةُ الثَّالِثَةُ: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَتَفَرُّدِهِ بِالْخَلْقِ، وَتَنْزِيهِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ شَرِيكٌ، وَإِبْطَالُ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ، وَإِبْطَالُ مَا زَعَمُوهُ مِنْ بُنُوَّةِ الْمَلَائِكَةِ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَافْتُتِحَتْ فِي آيَاتِ كُلِّ دِعَامَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ بِجُمْلَةِ «تَبَارَكَ الَّذِي» إِلَخْ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: مَدَارُ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى كَوْنِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثًا إِلَى النَّاسِ كَافَّةً يُنْذِرُهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلِهَذَا جَعَلَ بَرَاعَةَ اسْتِهْلَالِهَا

[٢٨- ٢٩]

[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : الْآيَات ٢٨ الى ٢٩]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩)
يُسْتَخْلَصُ مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ رِوَايَةً عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَمِمَّا ذَكَرَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ
الْمُحِيطِ»
وَغَيْرِ ذَلِكَ: أَنَّ وَجْهَ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا فُتِحَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَرْضُ قُرَيْظَةَ وَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ وَكَانَتْ أَرْضُ النَّضِيرِ قُبَيْلَ ذَلِكَ فَيْئًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسِبَ أَزْوَاجُ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّ مِثْلَهُ مِثْلُ أَحَدٍ مِنَ الرِّجَالِ إِذَا وُسِّعَ عَلَيْهِمُ الرِّزْقُ تَوَسَّعُوا فِيهِ هُمْ وَعِيَالُهُمْ فَلَمْ يَكُنْ أَزْوَاجُ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَسْأَلْنَهُ تَوْسِعَةً قَبْلَ أَنْ يَفِيءَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ النَّضِيرِ وَقَبْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْخُمْسُ مِنَ الْغَنَائِمِ، فَلَمَّا رَأَيْنَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لِنَفْسِهِ وَلِأَزْوَاجِهِ أَقْوَاتَهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ وَرَأَيْنَ وَفْرَةَ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ حَسِبْنَ أَنَّهُ يُوَسِّعُ فِي الْإِنْفَاقِ فَصَارَ بَعْضُهُنَّ يَسْتَكْثِرْنَهُ مِنَ النَّفَقَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ عُمَرَ لِحَفْصَةَ ابْنَتِهِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: «لَا تَسْتَكْثِرِي النَّبِيءَ وَلَا تُرَاجِعِيهِ فِي شَيْءٍ وَسَلِينِي مَا بَدَا لَكِ». وَلَكِنَّ اللَّهَ أَقَامَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَامًا عَظِيمًا فَلَا يَتَعَلَّقُ قَلْبُهُ بِمَتَاعِ الدُّنْيَا إِلَّا بِمَا يَقْتَضِيهِ قِوَامُ الْحَيَاةِ وَقَدْ كَانَ
يَقُولُ: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا»
وَقَالَ: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ»
. وَقَدْ بَيَّنْتُ وَجْهَ اسْتِثْنَاءِ هَذَيْنِ فِي رِسَالَةٍ كَتَبْتُهَا فِي الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ مِنْ رِيَاضَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَفْسَهُ بِتَقْلِيلِ الطَّعَامِ.
وَقَالَ عُمَرُ: «كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ خَالِصَةً يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ عُدَّةً لِلْمُسْلِمِينَ». وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ أَرْضَ قُرَيْظَةَ قُسِّمَتْ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ بِحُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَلَعَلَّ الْمُهَاجِرِينَ لَمَّا اتَّسَعَتْ أَرْزَاقُهُمْ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَمَّلَ أَزْوَاجُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُنَّ كَالْمُهَاجِرِينَ فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَعَلِّمَهُنَّ سِيرَةَ الصَّالِحَاتِ فِي الْعَيْشِ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ بَعْضَهُنَّ سَأَلْنَهُ أَشْيَاءَ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا فَأَوْحَى إِلَى رَسُولِهِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْمُتَتَابِعَاتِ. وَهَذَا مِمَّا يُؤْذِنُ بِهِ
مَعَ ضَمِيمَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا. تَسْتَغْنِي عَنِ التِّيهِ فِي مَهَامِّهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ فِي تَفْسِيرِهَا تَجَاوَزَتِ الْأَرْبَعِينَ قَوْلًا.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ إِلَى الِاصْطِفَاءِ الْمَفْهُومِ مِنِ اصْطَفَيْنا أَوْ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ الِاصْطِفَاءِ وَإِيرَاثِ الْكِتَابِ.
والْفَضْلُ: الزِّيَادَةُ فِي الْخَيْرِ، والْكَبِيرُ مُرَادٌ بِهِ ذُو الْعِظَمِ الْمَعْنَوِيِّ وَهُوَ الشَّرَفُ وَهُوَ فَضْلُ الْخُرُوجِ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ. وَهَذَا الْفَضْلُ مَرَاتِبُ فِي الشَّرَفِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ تَقْسِيمُ أَصْحَابِهِ إِلَى: ظَالِمٍ، وَمُقْتَصِدٍ، وَسَابِقٍ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ لِتَأْكِيدِ الْقَصْرِ الْحَاصِلِ مِنْ تَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ، وَهُوَ حَقِيقِيٌّ لِأَنَّ الْفَضْلَ الْكَبِيرَ مُنْحَصِرٌ فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ فَضْلٍ هُوَ غَيْرُ كَبِيرٍ إِلَّا ذَلِكَ الْفَضْلَ.
وَوَجْهُ هَذَا الِانْحِصَارِ أَنَّ هَذَا الِاصْطِفَاءَ وَإِيرَاثَ الْكِتَابِ جَمَعَ فَضِيلَةَ الدُّنْيَا وَفَضْلَ الْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [النَّحْل: ٩٧]، وَقَالَ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النُّور: ٥٥].
[٣٣]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٣٣]
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣)
الْأَظْهَرُ أَنَّهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ قَوْلِهِ: ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر: ٣٢] فَإِنَّ مِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْفَضْلُ دُخُولَهُمُ الْجَنَّةَ كَمَا عَلِمْتَ وَتَخْصِيصُ هَذَا الْفَضْلِ مِنْ بَيْنِ أَصْنَافِهِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْفَضْلِ لِأَنَّهُ أَمَارَةٌ عَلَى رِضْوَانِ اللَّهِ عَنْهُمْ حِينَ إِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ، وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَة: ٧٢].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِبَيَانِ الْفَضْلِ الْكَبِيرِ وَقَدْ بُيِّنَ بِأَعْظَمِ أَصْنَافِهِ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.
وَضَمِيرُ الْجَمَاعَةِ فِي يَدْخُلُونَها رَاجِعٌ إِلَى الَّذِينَ اصْطَفَيْنا [فاطر: ٣٢] الْمُقَسَّمِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: ظَالِمٍ، وَمُقْتَصِدٍ، وَسَابِقٍ، أَيْ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ لِأَنَّ
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢)
فَاتِحَةٌ أَنِيقَةٌ فِي التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ جُعِلَتْ مُقَدِّمَةً لِهَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ جَامِعٌ لِمَا حَوَتْهُ وَغَيْرَهُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ.
فَ تَنْزِيلُ مَصْدَرٌ مُرَادٌ بِهِ مَعْنَاهُ الْمَصْدَرِيُّ لَا مَعْنَى الْمَفْعُولِ، كَيْفَ وَقَدْ أُضِيفَ إِلَى الْكِتَابِ وَأَصْلُ الْإِضَافَةِ أَنْ لَا تَكُونَ بَيَانِيَّةً.
وَتَنْزِيلُ: مَصْدَرُ نَزَّلَ الْمُضَاعَفِ وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ مُنَجَّمًا. وَاخْتِيَارُ هَذِهِ الصِّيغَةِ هُنَا لِلرَّدِّ عَلَى الطَّاعِنِينَ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَعَلَّلُوا بِهِ قَوْلُهُمْ: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: ٣٢]. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُضَاعَفِ وَالْمَهْمُوزِ فِي مِثْلِهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْكِتابِ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمَعْهُودُ بَيْنَهُمْ عِنْدَ كُلِّ تَذْكِيرٍ وَكُلِّ مُجَادَلَةٍ. وَأَجْرَى عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ الْوَصْفَ بِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ مَا يُنَزَّلُ مِنْهُ يَأْتِي عَلَى مَا يُنَاسِبُ الصِّفَتَيْنِ، فَيَكُونُ عَزِيزًا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ [فصلت: ٤١]، أَيِ الْقُرْآنُ، عَزِيزٌ غَالِبٌ بِالْحُجَّةِ لِمَنْ كَذَّبَ بِهِ، وَغَالِبٌ بِالْفَضْلِ لِمَا سِوَاهُ مِنَ الْكُتُبِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْغَلَبَةَ تَسْتَلْزِمُ التَّفَضُّلَ وَالتَّفَوُّقَ، وَغَالِبٌ لِبُلَغَاءِ الْعَرَبِ إِذْ أَعْجَزَهُمْ عَنْ مُعَارَضَةِ سُورَةٍ مِنْهُ، وَيَكُونُ حَكِيمًا مِثْلَ صِفَةِ مُنْزِلِهِ.
وَالْحَكِيمُ: إِمَّا بِمَعْنَى الْحَاكِمِ، فَالْقُرْآنُ أَيْضا حَاكم عَن مُعَارِضِيهِ بِالْحُجَّةِ، وَحَاكِمٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ بِمَا فِيهِ مِنَ التَّفْصِيلِ وَالْبَيَانِ قَالَ تَعَالَى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الْمَائِدَة: ٤٨].
وَإِمَّا بِمَعْنَى: الْمُحْكَمِ الْمُتْقَنِ، فَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْبَيَانِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ، وَإِمَّا بِمَعْنَى الْمَوْصُوفِ بِالْحِكْمَةِ، فَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحِكْمَةِ كَاتِّصَافِ مُنَزِّلِهِ بِهَا. وَهَذِهِ
مَعَانٍ مُرَادَةٌ مِنَ الْآيَةِ فِيمَا نَرَى، عَلَى أَنَّ فِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ ببلاغة لَفظه وبإعجازه العلمي، إِذا اشْتَمَلَ عَلَى عُلُومٍ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ عِلْمٌ بِهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ.
وَفِي وَصْفِ الْحَكِيمِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ أَنْزَلَهُ بِالْحِكْمَةِ وَهِيَ الشَّرِيعَةُ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَة: ٢٦٩].
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» :«أَنَّهُمْ كَانُوا لِتَعَنُّتِهِمْ يَقُولُونَ: هَلَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَةِ الْعَجَمِ؟ فَقِيلَ: لَوْ كَانَ كَمَا يَقْتَرِحُونَ لَمْ يَتْرُكُوا الِاعْتِرَاضَ وَالتَّعَنُّتَ، وَقَالُوا: لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ إِلَخْ». فَلَمْ نَقِفْ عَلَى مَنْ ذَكَرَ مِثْلَهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَأَصْحَابِ أَسْبَابِ النُّزُولِ وَمَا هُوَ إِلَّا مِنْ صِنْفِ مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ. وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ نَظْمُ الْآيَةِ: وَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى طَرِيقَةِ لَوْ وَجَوَابِهَا. وَلَا يُظَنُّ بِقُرَيْشٍ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ.
وَضَمِيرُ جَعَلْناهُ عَائِدٌ إِلَى الذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ [فصلت:
٤١].
وَقَوله: أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ بَقِيَّةُ مَا يَقُولُونَهُ عَلَى فَرْضِ أَنْ يُجْعَلَ الْقُرْآنُ أَعْجَمِيًّا، أَيْ أَنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ مِنَ الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ.
ولَوْلا حَرْفُ تَحْضِيضٍ.
وَمَعْنَى: فُصِّلَتْ هُنَا: بُيِّنَتْ وَوُضِّحَتْ، أَيْ لَوْلَا جُعِلَتْ آيَاتُهُ عَرَبِيَّةً نَفْهَمُهَا.
وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَعَرَبِيٌّ لِلْعَطْفِ بِمَعْنَى الْمَعِيَّةِ. وَالْمَعْنَى: وَكَيْفَ يَلْتَقِي أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ، أَيْ كَيْفَ يَكُونُ اللَّفْظُ أَعْجَمِيًّا وَالْمُخَاطَبُ بِهِ عَرَبِيًّا كَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَيُلْقَى لَفْظٌ أَعْجَمِيٌّ إِلَى مُخَاطَبٍ عَرَبِيٍّ.
وَمَعْنَى: قُرْآناً كِتَابًا مَقْرُوءًا.
وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ تَسْمِيَةُ كِتَابِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قُرْآنًا، وَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ دَاوُدَ يُسِّرَ لَهُ الْقُرْآنُ فَكَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي حِينِ يُسْرَجُ لَهُ فَرَسُهُ
(أَوْ كَمَا قَالَ).
وَالْأَعْجَمِيُّ: الْمَنْسُوبُ إِلَى أَعْجَمَ، وَالْأَعْجَمُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُجْمَةِ وَهِيَ الْإِفْصَاحُ، فَالْأَعْجَمُ: الَّذِي لَا يُفْصِحُ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَزِيَادَةُ الْيَاءِ فِيهِ لِلْوَصْفِ نَحْوَ: أَحَمِرَيٌّ وَدَوَّارِيٌّ.
فَالْأَعْجَمِيُّ مِنْ صِفَاتِ الْكَلَامِ.
وَأَفْرَدَ وَعَرَبِيٌّ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِجِنْسِ السَّامِعِ، وَالْمَعْنَى: أَكِتَابٌ عَرَبِيٌّ لِسَامِعِينَ عَرَبٍ
فَكَانَ حَقُّ عَرَبِيٌّ أَنْ يُجْمَعَ وَلَكِنَّهُ أُفْرِدَ لِأَنَّ مَبْنَى الْإِنْكَارِ عَلَى تَنَافُرِ حَالَتَيِ الْكِتَابِ وَالْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْجِنْسُ دُونَ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى إِفْرَادٍ، أَوْ جَمْعٍ.

[سُورَة الدُّخان (٤٤) : الْآيَات ٤٣ إِلَى ٥٠]

إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧)
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠)
لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ فَرِيقًا مَرْحُومِينَ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ قَابَلَهُ هُنَا بفريق معذّبون وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَوَصَفَ بَعْضَ أَصْنَافِ عَذَابِهِمْ وَهُوَ مَأْكَلُهُمْ وَإِهَانَتُهُمْ وَتَحْرِيقُهُمْ، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُبْتَدَأَ الْكَلَامُ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [٥١، ٥٢] ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ الْآيَةَ، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ بِأَنَّهَا طَعَامُ الْأَثِيمِ اهْتِمَامًا بِالْإِعْلَامِ بِحَالِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ. وَقَدْ جُعِلَتْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ شَيْئًا مَعْلُومًا لِلسَّامِعِينَ فَأَخْبَرَ عَنْهَا بِطَرِيقِ تَعْرِيفِ الْإِضَافَةِ لِأَنَّهَا سَبَقَ ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الدُّخَانِ فَإِنَّ الْوَاقِعَةَ عُدَّتِ السَّادِسَةَ وَالْأَرْبَعِينَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ وَسُورَةُ الدُّخَانِ ثَالِثَةٌ وَسِتِّينَ. وَمَعْنَى كَوْنِ الشَّجَرَةِ طَعَامًا أَنَّ ثَمَرَهَا طَعَامٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها [الصافات: ٦٥، ٦٦].
وكتبت كلمة شَجَرَةَ فِي الْمَصَاحِفِ بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ مُرَاعَاةً لِحَالَةِ الْوَصْلِ وَكَانَ الشَّائِعُ فِي رَسْمِ أَوَاخِرِ الْكَلِمِ أَنْ تُرَاعَى فِيهِ حَالَةُ الْوَقْفِ، فَهَذَا مِمَّا جَاءَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ.
والْأَثِيمِ: الْكَثِيرُ الْآثَامِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ زِنَةُ فَعِيلٍ. وَالْمُرَادُ بِهِ: الْمُشْرِكُونَ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى [الدُّخان: ٣٤، ٣٥]، فَهَذَا مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُهِمَّ بِالشِّرْكِ مَعَ سَبَبِ مُعَامَلَتِهِمْ هَذِهِ.
وَالطُّغْيَانُ: تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي التَّعَاظُمِ وَالظُّلْمِ وَالْكُفْرِ، وَفِعْلُهُ يَائِيٌّ وَوَاوِيٌّ، يُقَالُ: طَغِيَ يَطْغَى كَرَضِيَ، وَطَغَا يَطْغُو كَدَعَا. فَمَعْنَى مَا أَطْغَيْتُهُ مَا جَعَلْتُهُ طَاغِيًا، أَيْ مَا أَمَرْتُهُ بِالطُّغْيَانِ وَلَا زَيَّنْتُهُ لَهُ. والاستدراك ناشىء عَنْ شِدَّةِ الْمُقَارَنَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَرِينِهِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْقَرِينِ شَيْطَانَهُ الْمُقَيَّضَ لَهُ فَإِنَّهُ قُرِنَ بِهِ مِنْ وَقْتِ إِدْرَاكِهِ، فَالِاسْتِدْرَاكُ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ الْمُقَارَنَةَ بَيْنَهُمَا تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا بِهِ مِنَ الطُّغْيَانِ بِتَلْقِينِ الْقَرِينِ فَهُوَ يَنْفِي ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَ الِاسْتِدْرَاكَ بِجُمْلَةِ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ فَأَخْبَرَ الْقَرِينُ بِأَنَّ صَاحِبَهُ ضَالٌّ مِنْ قَبْلُ فَلَمْ يَكُنِ اقْتِرَانُهُ مَعَهُ فِي التَّقْيِيضِ أَوْ فِي الصُّحْبَةِ بِزَائِدِ إِيَّاهُ إِضْلَالًا، وَهَذَا نَظِيرُ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ فِي قَوْلِهِ: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [الْبَقَرَة:
١٦٦]. وَفِعْلُ كانَ لِإِفَادَةِ أَنَّ الضَّلَالَ ثَابِتٌ لَهُ بِالْأَصَالَةِ مُلَازِمٌ لِتَكْوِينِهِ.
وَالْبَعِيدُ: مُسْتَعَارٌ لِلْبَالِغِ فِي قُوَّةِ النَّوْعِ حَدًّا لَا يَبْلُغُ إِلَيْهِ إِدْرَاكُ الْعَاقِلِ بِسُهُولَةٍ كَمَا لَا يَبْلُغُ سَيْرُ السَّائِرِ إِلَى الْمَكَانِ الْبَعِيدِ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ أَوْ بَعِيدُ الزَّمَانِ، أَيْ قَدِيمٌ أَصِيلٌ فَيَكُونُ تَأْكِيدًا لِمُفَادِ فِعْلِ كانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١١٦].
وَالْمَعْنَى: أَنَّ تَمَكُّنَ الضَّلَالِ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بِتَابِعٍ لِمَا يُمْلِيهِ غَيْرُهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ شَأْنَ التَّابِعِ فِي شَيْءٍ أَنْ لَا يَكُونَ مَكِينًا فِيهِ مِثْلَ عِلْمِ الْمُقَلَّدِ وَعلم النظّار.
[٢٨، ٢٩]
[سُورَة ق (٥٠) : الْآيَات ٢٨ إِلَى ٢٩]
قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩)
هَذَا حِكَايَةُ كَلَامٍ يَصْدُرُ يَوْمَئِذٍ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْفَرِيقَيْنِ الَّذِي اتَّبَعُوا وَالَّذِينَ اتُّبِعُوا، فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ [ق: ٢٢].
وَعَدَمُ عَطْفِ فِعْلِ قالَ عَلَى مَا قَبْلَهُ لِوُقُوعِهِ فِي مَعْرِضِ الْمُقَاوَلَةِ، وَالتَّعْبِيرِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ فَقَدْ صَارَتِ المقاولة بَين ثَلَاثَة جَوَانِبَ.
ومَا تُمْنُونَ مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِفِعْلِ أَفَرَأَيْتُمْ. وَفِي تَعْدِيَةِ فِعْلِ «أَرَأَيْتُمْ» إِلَيْهِ إِجْمَالٌ إِذْ مَوْرِدُ فِعْلِ الْعِلْمَ عَلَى حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ مَا تُمْنُونَ، فَفِعْلُ «رَأَيْتُمْ» غَيْرُ وَارِدٍ عَلَى نَفْسِ مَا تُمْنُونَ. فَكَانَتْ جُمْلَةُ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ بَيَانًا لِجُمْلَةِ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، وَأُعِيدَ حَرْفُ الْاِسْتِفْهَامِ لِيُطَابِقَ الْبَيَانُ مُبَيَّنَهُ.
وَبِهَذَا الْاِسْتِفْهَامِ صَار فعل أَفَرَأَيْتُمْ مُعَلَّقًا عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولٍ ثَانٍ لِوُجُودِ مُوجَبِ التَّعْلِيقِ وَهُوَ الْاِسْتِفْهَامُ. قَالَ الرضيّ: إِذْ صُدِّرَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي بِكَلِمَةِ الْاِسْتِفْهَامِ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُعَلَّقُ فِعْلُ الْقَلْبِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ نَحْوُ: علمت زيدا أَي من هُوَ». اه.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ لِإِفَادَةِ التَّقَوِّي لِأَنَّهُمْ لَمَّا نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَزْعُمُ ذَلِكَ كَمَا عَلِمْتَ صِيغَتْ جُمْلَةُ نَفْيِهِ بِصِيغَةٍ دَالَّةٍ عَلَى زَعْمِهِمْ تُمَكِّنُ التَّصَرُّفَ فِي تَكْوِينِ النَّسْلِ.
وَقَدْ حَصَلَ مِنْ نَفْيِ الْخَلْقِ عَنْهُمْ وَإِثْبَاتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى مَعْنَى قَصْرِ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وأَمْ مُتَّصِلَة معادلة الْهَمْزَةِ، وَمَا بَعْدَهَا مَعْطُوفٌ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنْ لَا يُذْكَرُ لَهُ خَبَرٌ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ خَبَرِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْمَحْذُوفِ، وَهَاهُنَا أُعِيدَ الْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ: أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ زِيَادَةً فِي تَقْرِيرِ إِسْنَادِ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ فِي الْمَعْنَى وَلِلْإِيفَاءِ بِالْفَاصِلَةِ وَامْتِدَادِ نَفْسِ الْوَقْفِ، وَيَجُوزُ أَنْ نَجْعَلَ أَمْ مُنْقَطِعَةً بِمَعْنَى (بَلْ) لِأَنَّ الْاِسْتِفْهَامَ لَيْسَ بِحَقِيقِيٍّ فَلَيْسَ مِنْ غَرَضِهِ طَلَبُ تَعْيِينِ الْفَاعِلِ وَيَكُونُ الكَلَامُ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: تَخْلُقُونَهُ.
وَالْمَعْنَى: أَتَظُنُّونَ أَنْفُسَكُمْ خَالِقِينَ النَّسَمَةَ مِمَّا تَمْنُونَ.
[٦٠، ٦١]
[سُورَة الْوَاقِعَة (٥٦) : الْآيَات ٦٠ الى ٦١]
نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (٦١)
نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ.
اسْتِدْلَالٌ بِإِمَاتَةِ الْأَحْيَاءِ عَلَى أَنَّهَا مَقْدُورَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى ضَرُورَةَ أَنَّهُمْ مُوقِنُونَ بِهَا
فَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ الْبَيَانِيُّ وَقَعَ عَقِبَ الْوَعْدِ تَذْكِيرًا بِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَوَاعِيدَهُ وَهَيَّأَ لَهَا مَقَادِيرَ حُصُولِهَا لِأَنَّهُ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا.
وَلَهَا مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [الطَّلَاق: ١] فَإِنَّ الْعِدَّةَ مِنَ الْأَشْيَاءِ فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِإِحْصَاءِ أَمْرِهَا عَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ تَقْدِيرَ مُدَّةِ الْعِدَّةِ جَعَلَهُ اللَّهُ، فَلَا يُسَوَّغُ التهاون فِيهِ.
وَلِهَذَا مَوْقِعُ التَّذْيِيلِ لِجُمْلَةِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطَّلَاق: ١]، أَيِ الَّذِي وَضَعَ تِلْكَ الْحُدُودَ قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا لَا يَعْدُوهُ كَمَا جَعَلَ الْحُدُودَ.
وَلَهَا مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى إِذَا بَلَغْنَ الْقَدْرَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِمُدَّةِ الْعِدَّةِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [الطَّلَاق: ١] فَالْمَعْنَى: فَإِنَّ لَمْ يُحْدِثِ اللَّهُ أَمْرَ الْمُرَاجَعَةِ فَقَدْ رَفُقَ بِكُمْ وَحَطَّ عَنْكُمُ امْتِدَادَ الْعِدَّةِ.
وَلَهَا مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الشَّهَادَةَ قَدْرًا لِرَفْعِ النِّزَاعِ.
فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ جُزْءُ آيَةٍ وَهِيَ تَحْتَوِي عَلَى حَقَائِقَ مِنَ الْحِكْمَةِ.
وَمَعْنَى لِكُلِّ شَيْءٍ لِكُلِّ مَوْجُودٍ، أَيْ لِكُلِّ حَادِثٍ فَالشَّيْءُ الْمَوْجُودُ سَوَاءً كَانَ ذَاتًا أَوْ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي قَالَ تَعَالَى: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ [الْقَمَر: ٥٢]. فَعُمُومُ قَوْلِهِ:
لِكُلِّ شَيْءٍ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ يَجْعَلُ لَهُ حِينَ تَكْوِينِهِ قَدْرًا.
قَالَ الرَّاغِبُ فِي «مُفْرَدَاتِهِ» : وَذَلِكَ أَنَّ فِعْلَ اللَّهِ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ أَوْجَدَهُ بِالْفِعْلِ، وَمَعْنَى إِيجَادِهِ بِالْفِعْلِ أَنَّهُ أَبْدَعَهُ كَامِلًا دَفْعَةً لَا تَعْتَرِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ إِلَى أَنْ يَشَاءَ أَنْ يُغْنِيَهُ أَوْ يُبَدِّلَهُ كَالسَّمَاوَاتِ وَمَا فِيهَا. وَمِنْهَا مَا جَعَلَ أُصُولَهُ مَوْجُودَةً بِالْفِعْلِ وَأَجْزَاءَهُ بِالصَّلَاحِيَّةِ وَقَدَّرَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ غَيْرُ مَا قَدَّرَهُ فِيهِ كَتَقْدِيرِهِ فِي النَّوَاةِ أَنْ يَنْبُتَ مِنْهَا النَّخْلُ دُونَ أَنْ يَنْبُتَ مِنْهَا تُفَّاحٌ أَوْ زَيْتُونٌ. وَتَقْدِيرِهِ نُطْفَةَ الْإِنْسَانِ لِأَنْ يَكُونَ مِنْهَا إِنْسَانٌ دُونَ حَيَوَانٍ آخَرَ. فَتَقْدِيرُ اللَّهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِالْحُكْمِ
وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» عَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّ أَبَا الْأَشَدِّ بْنَ كَلَدَةَ الْجُمَحِيَّ قَالَ مُسْتَهْزِئًا: لَا
يَهُولَنَّكُمُ التِّسْعَةَ عَشَرَ، أَنَا أَدْفَعُ بِمَنْكِبِي الْأَيْمَنِ عَشَرَةً وَبِمَنْكِبِي الْأَيْسَرِ تِسْعَةً ثُمَّ تَمُرُّونَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: قَالَ الْحَارِثُ بْنُ كَلَدَةَ: أَنَا أَكْفِيكُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ وَاكْفُونِي أَنْتُمُ اثْنَيْنِ، يُرِيدُ التَّهَكُّمَ مَعَ إِظْهَارِ فَرْطِ قُوَّتِهِ بَيْنَ قَوْمِهِ.
فَالْمُرَادُ مِنْ أَصْحابَ النَّارِ خَزَنَتُهَا، وَهُمُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمْ بِقَوْلِهِ: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: ٣٠].
وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ الْأَنْوَاعِ، أَيْ مَا جَعَلْنَا خَزَنَةَ النَّارِ مِنْ نَوْعٍ إِلَّا مِنْ نَوْعِ الْمَلَائِكَةِ.
وَصِيغَةُ الْقَصْرِ تُفِيدُ قَلْبَ اعْتِقَادِ أَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِ مَا تَوَهَّمُوهُ أَوْ تَظَاهَرُوا بِتَوَهُّمِهِ أَنَّ الْمُرَادَ تِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَطَمِعَ أَنْ يَخْلُصَ مِنْهُمْ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْقُوَّةِ فَقَدْ قَالَ أَبُو الْأَشَدِّ بْنُ أُسَيْدٍ الْجُمَحِيُّ: لَا يَبْلُغُونَ ثَوْبِي حَتَّى أُجْهِضَهُمْ عَنْ جَهَنَّمَ، أَيْ أُنَحِّيَهُمْ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا تَتْمِيمٌ فِي إِبْطَالِ تَوَهُّمِ الْمُشْرِكِينَ حَقَارَةَ عَدَدِ خَزَنَةِ النَّارِ، وَهُوَ كَلَامٌ جَارٍ عَلَى تَقْدِيرِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ إِذِ الْكَلَامُ قَدْ أَثَارَ فِي النُّفُوسِ تَسَاؤُلًا عَنْ فَائِدَةِ جَعْلِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ تِسْعَةَ عَشَرَ وَهَلَّا كَانُوا آلَافًا لِيَكُونَ مَرْآهُمْ أَشَدَّ هَوْلًا عَلَى أَهْلِ النَّارِ، أَوْ هَلَّا كَانُوا مَلَكًا وَاحِدًا فَإِنَّ قُوَى الْمَلَائِكَةِ تَأْتِي كُلَّ عَمَلٍ يُسَخِّرُهَا اللَّهُ لَهُ، فَكَانَ جَوَابُ هَذَا السُّؤَالِ: أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ قَدْ أَظْهَرَ لِأَصْنَافِ النَّاسِ مَبْلَغَ فَهْمِ الْكُفَّارِ لِلْقُرْآنِ. وَإِنَّمَا حَصَلَتِ الْفِتْنَةُ مِنْ ذِكْرِ عَدَدِهِمْ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ. فَقَوْلُهُ:
وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ تَقْدِيرُهُ: وَمَا جَعَلْنَا ذِكْرَ عِدَّتِهِمْ إِلَّا فِتْنَةً، وَلِاسْتِيقَانِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، وَازْدِيَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا، وَاضْطِرَابِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَيَظْهَرُ ضَلَالُ الضَّالِّينَ وَاهْتِدَاءُ الْمُهْتَدِينَ. فَاللَّهُ جَعَلَ عِدَّةَ خَزَنَةِ النَّارِ تِسْعَةَ عَشَرَ لِحِكْمَةٍ أُخْرَى غَيْرِ مَا ذُكِرَ هُنَا اقْتَضَتْ ذَلِكَ الْجَعْلَ يَعْلَمُهَا الله.
وَالِاسْتِثْنَاء مفرغ لِمَفْعُولٍ ثَانٍ لِفِعْلِ جَعَلْنا تَقْدِيرُهُ جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ فِتْنَةً لَا غَيْرَ، وَلَمَّا كَانَتِ الْفِتْنَةُ حَالًا مِنْ أَحْوَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا لَمْ تَكُنْ مُرَادًا مِنْهَا ذَاتُهَا بَلْ عُرُوضُهَا لِلَّذِينَ كَفَرُوا فَكَانَتْ حَالًا لَهُمْ.
مَوَاقِيتُهَا بِمَا أَدْخَلَهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ مِنَ النَّسِيءِ فَاضْطَرَبَتِ السِّنِينُ الْمُقَدَّسَةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَلَا يُعْرَفُ مَتَى بَدَأَ ذَلِكَ الِاضْطِرَابُ، وَلَا مَقَادِيرُ مَا أُدْخِلَ عَلَيْهَا مِنَ النَّسِيءِ، وَلَا مَا يَضْبُطُ أَيَّامَ النَّسِيءِ فِي كُلِّ عَامٍ لِاخْتِلَافِ اصْطِلَاحِهِمْ فِي ذَلِكَ وَعَدَمِ ضَبْطِهِ فَبِذَلِكَ يَتَعَذَّرُ تَعْيِينُ اللَّيَالِي الْعَشْرِ الْمَأْمُورِ بِهَا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّنَا نُوقِنُ بوجودها فِي خِلَالِ السّنة إِلَى أَو أَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيئِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ مِنَ الْهِجْرَةِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، بِأَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ وَافَقَتْ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ السَّنَةُ فِي عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «إِن الزَّمَان قد اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقِ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ».
وَهَذَا التَّغْيِيرُ لَا يَرْفَعُ بَرَكَةَ الْأَيَّامِ الْجَارِيَةِ فِيهَا الْمَنَاسِكُ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِأَنَّ اللَّهَ عَظَّمَهَا لِأَجْلِ مَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ إِذْ هُوَ عِبَادَةٌ لِلَّهِ خَاصَّةً.
فَأَوْقَاتُ الْعِبَادَاتِ تَعْيِينٌ لِإِيقَاعِ الْعِبَادَةِ فَلَا شَكَّ أَنَّ لِلْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لِإِيقَاعِهَا حِكْمَةً عَلِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَلِذَلِكَ غَلَبَ فِي عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْأُصُولِ إِطْلَاقُ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْوَقْتِ لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِالسَّبَبِ الْمُعَرَّفَ بِالْحُكْمِ وَلَا يُرِيدُونَ بِهِ نَفْسَ الْحِكْمَةِ.
وَتَعْيِينُ الْأَوْقَاتِ لِلْعِبَادَاتِ مِمَّا انْفَرَدَ اللَّهُ بِهِ، فَلِأَوْقَاتِ الْعِبَادَاتِ حُرُمَاتٌ بِالْجَعْلِ الرَّبَّانِيِّ، وَلَكِن إِذا اختلت أَوِ اخْتَلَطَتْ لَمْ يَكُنِ اخْتِلَالُهَا أَوِ اخْتِلَاطُهَا بِقَاضٍ بِسُقُوطِ الْعِبَادَاتِ الْمُعَيَّنَةِ لَهَا.
فَقَسَمُ اللَّهِ تَعَالَى بِاللَّيَالِي الْعَشْرِ فِي هَذِهِ مِمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ قَسَمٌ بِمَا فِي عِلْمِهِ مِنْ تَعْيِينِهَا فِي عِلْمِهِ.
والشَّفْعِ: مَا يَكُونُ ثَانِيًا لِغَيْرِهِ، والْوَتْرِ: الشَّيْءُ الْمُفْرَدُ، وَهُمَا صِفَتَانِ لِمَحْذُوفٍ،
فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ الشَّفْعَ يَوْمُ النَّحْرِ
ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَاشِرُ ذِي الْحِجَّةِ وَمُنَاسَبَةُ الِابْتِدَاءِ بِالشَّفْعِ أَنَّهُ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ فَنَاسَبَ قَوْلَهُ: وَلَيالٍ عَشْرٍ، وَأَنَّ الْوَتْرَ يَوْمُ عَرَفَةَ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالنَّسَائِيُّ وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَذِكْرُ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ تَخْصِيصٌ لِهَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ بِالذِّكْرِ لِلِاهْتِمَامِ، بَعْدَ شُمُولِ اللَّيَالِي الْعَشْرِ لَهُمَا.


الصفحة التالية
Icon