حِينَ يُجَاذِبُ نُفُوسَهُمْ جَاذِبُ الْخَيْرِ عِنْدَ سَمَاعِ مَوَاعِظِ الْقُرْآنِ وَإِرْشَادِهِ، وَجَاذِبُ الشَّرِّ مِنْ أَعْرَاقِ النُّفُوسِ وَالسُّخْرِيَةِ بِالْمُسْلِمِينَ، بِحَالِ صَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ اخْتَلَطَتْ فِيهِ غُيُوثٌ وَأَنْوَارٌ وَمُزْعِجَاتٌ وَأَكْدَارٌ، جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ فِي التَّفَنُّنِ فِي التَّشْبِيهِ وَهُمْ يتنافسون فِيهِ لَا سِيمَا التَّمْثِيلِيُّ مِنْهُ وَهِيَ طَرِيقَةٌ تَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِ الْوَاصِفِ مِنَ التَّوْصِيفِ وَالتَّوَسُّعِ فِيهِ.
وَقَدِ اسْتَقْرَيْتُ مِنِ اسْتِعْمَالِهِمْ فَرَأَيْتُهُمْ قَدْ يَسْلُكُونَ طَرِيقَةَ عَطْفِ تَشْبِيهٍ عَلَى تَشْبِيهٍ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ فِي مُعَلَّقَتِهِ:

أَصَاحِ تَرَى بَرْقًا أُرِيكَ وَمِيضَهُ كَلَمْعِ الْيَدَيْنِ فِي حَبِيٍّ مُكَلَّلِ
يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيحِ رَاهِبٍ أَمَالَ السَّلِيطُ بِالذُّبَالِ الْمُفَتَّلِ
وَقَوْلِ لَبِيدٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ يَصِفُ رَاحِلَتَهُ:
فَلَهَا هِبَابٌ فِي الزِّمَامِ كَأَنَّهَا صَهْبَاءُ خَفَّ مَعَ الْجَنُوبِ جِهَامُهَا
أَوْ مُلْمِعٍ وَسَقَتْ لِأَحْقَبَ لَاحَهُ طَرْدُ الْفُحُولِ وَضَرْبُهَا وَكِدَامُهَا (١)
وَكَثُرَ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ فِي نَحْوِهِ بَأَوْ دُونَ الْوَاوِ، وَأَوْ مَوْضُوعَةٌ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ فَيَتَوَلَّدُ مِنْهَا مَعْنَى التَّسْوِيَةِ وَرُبَّمَا سَلَكُوا فِي إِعَادَةِ التَّشْبِيهِ مَسْلَكَ الِاسْتِفْهَامِ بِالْهَمْزَةِ
أَيْ لِتَخْتَارَ التَّشْبِيهَ بِهَذَا أَمْ بِذَلِكَ وَذَلِكَ كَقَوْلِ لَبِيدٍ عَقِبَ الْبَيْتَيْنِ السَّابِقِ ذِكْرُهُمَا:
أَفَتِلْكَ أَمْ وَحْشِيَّةٌ مَسْبُوعَةٌ خَذَلَتْ وَهَادِيَةُ الصِّوَارِ قِوَامُهَا (٢)
وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ فِي تَشْبِيهِ سَيْرِ نَاقَتِهِ الْحَثِيثِ:
وَثْبَ الْمُسَحَّجُ مِنْ عَانَاتِ مُعَقُلَةٍ كَأَنَّهُ مُسْتَبَانُ الشَّكِّ أَوْ جَنِبُُُ
_________
(١) الهباب- بِكَسْر الْهَاء- مصدر كالهبوب وَهُوَ النهوض والنشاط. والصهباء: السحابة المائل لَوْنهَا للسواد. والجهام: السَّحَاب لَا مطر فِيهِ وَهُوَ خَفِيف السّير. والملمع: الَّتِي استبان حملهَا، وَأَرَادَ الأتان ووسقت: حملت. والأحقب: هُوَ حمَار الْوَحْش وَقَوله: لأحقب أَي من أحقب. ولاحه:
غَيره. وطرد الفحول: خصامها. والكدام- بِكَسْر الْكَاف- العض.
(٢) المسبوعة: الَّتِي أكل السَّبع وَلَدهَا. وخذلت بِمَعْنى تَأَخَّرت عَن صواحبها فِي الرواح. والهادية الْمُتَقَدّمَة. والصوار- بِكَسْر الصَّاد- قطيع الْغنم. والقوام- بِكَسْر الْقَاف- مَا بِهِ يقوم الْأَمر أَي تَأَخَّرت النعجة الوحشية وَلم تهتد بمقدمة القطيع.
مِنْهُ
مُوجِبٌ لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِك أَن تنالهم الْبَأْسَاءُ فَيَصْبِرُوا وَلَا يَرْتَدُّوا عَنِ الدِّينِ، لِذَلِكَ فَيَكُونُ دُخُولُ الْجَنَّةِ مُتَوَقِّفًا عَلَى الصَّبْرِ عَلَى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَتَطَرُّقُ هَاتِهِ الْحَالَةِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَتْبَاعِ الرُّسُلِ فِي أَوَّلِ ظُهُورِ الدِّينِ وَذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ مَزِيدِ فَضَائِلِ اتِّبَاعِ الرُّسُل، فَلذَلِك هيّء الْمُسْلِمُونَ لِتَلَقِّيهِ مِنْ قَبْلِ وُقُوعِهِ لُطْفًا بِهِمْ لِيَكُونَ حُصُولُهُ أَهْوَنَ عَلَيْهِمْ.
وَقَدْ لَقِيَ الْمُسْلِمُونَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ الْبَأْسَاءَ وَالضَّرَّاءَ وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَتَحَمَّلُوا مَضَضَ الْغُرْبَةِ، فَلَمَّا وَرَدُوا الْمَدِينَةَ لَقُوا مِنْ أَذَى الْيَهُودِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَذَى الْمُشْرِكِينَ فِي قَرَابَتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِمَكَّةَ مَا كَدَّرَ عَلَيْهِمْ صَفْوَ حَفَاوَةِ الْأَنْصَارِ بِهِمْ، كَمَا أَنَّ الْأَنْصَارَ لَقُوا مِنْ ذَلِكَ شِدَّةَ الْمُضَايَقَةِ فِي دِيَارِهِمْ بَلْ وَفِي أَمْوَالِهِمْ فَقَدْ كَانَ الْأَنْصَارُ يَعْرِضُونَ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ أَنْ يَتَنَازَلُوا لَهُمْ عَنْ حَظٍّ مِنْ أَمْوَالِهِمْ.
ولَمَّا أُخْتُ لَمْ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ الْفِعْلِ وَلَكِنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ لَمْ وَمَا النَّافِيَةِ فَأَفَادَتْ تَوْكِيدَ النَّفْيِ، لِأَنَّهَا رُكِّبَتْ مِنْ حَرْفَيْ نَفْيٍ، وَمِنْ هَذَا كَانَ النَّفْيُ بِهَا مُشْعِرًا بِأَنَّ السَّامِعَ كَانَ يَتَرَقَّبُ حُصُولَ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ بِهَا فَيَكُونُ النَّفْيُ بِهَا نَفْيًا لِحُصُولِ قَرِيبٍ، وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّ حُصُولَ الْمَنْفِيِّ بِهَا يَكُونُ بَعْدَ مُدَّةٍ، وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِقْرَاءُ وَاحْتَجُّوا لَهُ بِقَوْلِ النَّابِغَةِ:
أَزِفَ (١) التَّرَحُّلُ غَيْرَ أَنَّ رِكَابَنَا لَمَّا تَزُلْ بِرِحَالِنَا (٢) وَكَأَنْ قَدِ
فَنَفَى بِلَمَّا ثُمَّ قَالَ: وَكَأَنْ قَدِ، أَيْ وَكَأَنَّهُ قَدْ زَالَتْ.
وَالْوَاوُ لِلْحَالِ أَيْ أَحَسِبْتُمْ دُخُولَ الْجَنَّةِ فِي حَالَةِ انْتِفَاءِ مَا يُتَرَقَّبُ حُصُولُهُ لَكُمْ مِنْ مَسِّ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ذَلِكَ الدُّخُولَ السَّالِمَ من المحنة إِلَّا إِذَا تَحَمَّلْتُمْ مَا هُوَ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ.
وَالْإِتْيَانُ مَجَازٌ فِي الْحُصُولِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ الْحَاصِلَ بَعْدَ الْعَدَمِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ أَتَى مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ.
وَالْمَثَلُ: الْمُشَابِهُ فِي الْهَيْئَةِ وَالْحَالَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ نَارا [الْبَقَرَة: ١٧].
والَّذِينَ خَلَوْا هُمُ الْأُمَمُ الَّذِينَ مَضَوْا وَانْقَرَضُوا وَأَصْلُ خَلَوْا خَلَا مِنْهُمُ الْمَكَانُ فَبُولِغَ فِي إِسْنَادِ الْفِعْلِ فَأُسْنِدَ إِلَيْهِمْ مَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ مَكَانِهِمْ.
_________
(١) رِوَايَة «اللِّسَان» (أفد الترحل).
(٢) فِي «تَاج الْعَرُوس» (برحالها).
عَلَى أَنَّ مَرَاتِبَ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الشَّرَائِعِ. وَقَدْ قَالَ أَبْنَاءُ يَعْقُوبَ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [يُوسُف: ٩٥].
[٧٥]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٧٥]
وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ: قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً [الْأَنْعَام: ٧٤]. فَالْمَعْنَى وَإِذْ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض إراءة لَا إراءة أَوْضَحَ مِنْهَا فِي جِنْسِهَا وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ إِلَى الْإِرَاءِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ نُرِي إِبْراهِيمَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْإِرَاءِ الْعَجِيبِ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: ١٤٣]. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ يُلَازِمُ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ لِأَنَّهُ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ.
وَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى حُجَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ مِنْ دَلَالَةِ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى وُجُودِ صَانِعِهَا.
وَالرُّؤْيَةُ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ لِلِانْكِشَافِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَالْإِرَاءَةُ بِمَعْنَى الْكَشْفِ وَالتَّعْرِيفِ، فَتَشْمَلُ الْمُبْصَرَاتِ وَالْمَعْقُولَاتِ الْمُسْتَدَلَّ بِجَمِيعِهَا عَلَى الْحَقِّ وَهِيَ إِرَاءَةُ إِلْهَامٍ وَتَوْفِيقٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَعْرَاف: ١٨٥]، فَإِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- ابْتُدِئَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ بِالْإِلْهَامِ إِلَى الْحَقِّ كَمَا ابْتُدِئَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرُّؤْيَةِ الصَّادِقَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِرَاءَةِ الْعِلْمُ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ. وَقَدْ حَصَلَتْ هَذِهِ الْإِرَاءَةُ فِي الْمَاضِي فَحَكَاهَا الْقُرْآنُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الْإِرَاءَةِ الْعَجِيبَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [فاطر: ٩].
وَالْمَلَكُوتُ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ كَالرَّغَبُوتِ وَالرَّحَمُوتِ وَالرَّهَبُوتِ وَالْجَبَرُوتِ. وَقَالُوا: إِنَّ الْوَاوَ وَالتَّاءَ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ مَعْنَاهُ الْمِلْكُ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- لِأَنَّ مَصْدَرَ مَلَكَ الْمِلْكُ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- وَلَمَّا كَانَ فِيهِ زِيَادَةٌ تُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ كَانَ مَعْنَاهُ الْمِلْكَ الْقَوِيَّ الشَّدِيدَ. وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ.
وَإِسْنَادُ الْحَوْلِ إِلَى اللَّهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَكَانِ، وَالْمَعْنَى يَحُولُ شَأْن من شؤون صِفَاتِهِ، وَهُوَ تَعَلُّقُ صِفَةِ الْعِلْمِ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى مَا يُضْمِرُهُ الْمَرْءُ أَوْ تَعَلُّقُ صِفَةِ الْقُدْرَةِ بِتَنْفِيذِ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ الْمَرْءُ أَوْ بِصَرْفِهِ عَنْ فِعْلِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْقَلْبِ هُنَا الْبَضْعَةَ الصَّنَوْبَرِيَّةَ الْمُسْتَقِرَّةَ فِي بَاطِنِ الصَّدْرِ، وَهِيَ الْآلَةُ الَّتِي تَدْفَعُ الدَّمَ إِلَى عُرُوقِ الْجِسْمِ، بَلِ الْمُرَادُ عَقْلُ
الْمَرْءِ وَعَزْمُهُ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ.
فَلَمَّا كَانَ مَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَكْمِلَةً لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَاعْلَمُوا أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ يَخْلُصُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَعَقْلِهِ خُلُوصَ الْحَائِلِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَإِنَّهُ يَكُونُ شَدِيدَ الِاتِّصَالِ بكليهما.
وَالْمرَاد ب الْمَرْءِ عَمَلُهُ وَتَصَرُّفَاتُهُ الْجُسْمَانِيَّةُ.
فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ عَزْمَ الْمَرْءِ وَنِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَعِلَ بِعَزْمِهِ جَوَارِحُهُ، فَشُبِّهَ عِلْمُ اللَّهِ بِذَلِكَ بِالْحَائِلِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فِي كَوْنِهِ أَشَدَّ اتِّصَالًا بِالْمَحُولِ عَنْهُ مِنْ أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ.
وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ يَحُولُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَتَجَدَّدُ وَيَسْتَمِرُّ، وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: ١٦] قَالَهُ قَتَادَةُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَحْذِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كُلِّ خَاطِرْ يَخْطُرُ فِي النُّفُوسِ: مِنَ التَّرَاخِي فِي الِاسْتِجَابَةِ إِلَى دَعْوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّنَصُّلِ مِنْهَا، أَوِ التَّسَتُّرِ فِي مُخَالَفَتِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ:
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [الْبَقَرَة: ٢٣٥].
وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَقْعُ قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ عَقِبَهُ فَكَانَ مَا قَبْلَهُ تَحْذِيرًا وَكَانَ هُوَ تَهْدِيدًا وَفِي «الْكَشَّاف»، و «ابْن عَطِيَّةَ» : قِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ الْحَثُّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالِامْتِثَالِ وَعَدَمِ إِرْجَاءِ ذَلِكَ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ خَشْيَةَ أَنْ تَعْتَرِضَ الْمَرْءَ مَوَانِعُ مِنْ تَنْفِيذِ عَزْمِهِ عَلَى الطَّاعَةِ أَيْ فَيَكُونُ الْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، أَيْ بَيْنَ عَمَلِهِ وَعَزْمِهِ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [المُنَافِقُونَ: ١٠] الْآيَةَ.
وَهُنَالِكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى لِلْمُفَسِّرِينَ يَحْتَمِلُهَا اللَّفْظُ وَلَا يُسَاعِدُ عَلَيْهَا ارْتِبَاطُ الْكَلَامِ وَالَّذِي حَمَلَنَا عَلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِهَذَا دُونَ مَا عَدَاهُ أَنْ لَيْسَ فِي جُمْلَةِ:
وَالتَّفْصِيلُ: التَّوْضِيحُ وَالْبَيَانُ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَصْلِ بِمَعْنَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الشَّيْءِ وَغَيْرِهِ بِمَا يُمَيِّزُهُ، فَصَارَ كِنَايَةً مَشْهُورَةً عَنِ الْبَيَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَصْلِ الْمَعَانِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٥].
وَنَظِيرُهُ: الْفَرْقُ، كَنَّى بِهِ عَنِ الْبَيَانِ فَسُمِّيَ الْقُرْآنُ فُرْقَانًا. وَعَنِ الْفَصْلِ فَسُمِّيَ يَوْمُ بَدْرٍ يَوْمَ الْفَرْقَانِ، وَمِنْهُ فِي ذِكْرِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدُّخان: ٤].
و (ثمَّ) لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ لِمَا فِي التَّفْصِيلِ مِنَ الِاهْتِمَامِ لَدَى النُّفُوسِ لِأَنَّ الْعُقُولَ تَرْتَاحُ إِلَى الْبَيَانِ وَالْإِيضَاحِ.
ومِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَيْ مِنْ عِنْدِ الْمَوْصُوفِ بِإِبْدَاعِ الصُّنْعِ لِحِكْمَتِهِ، وَإِيضَاحِ التَّبْيِينِ لِقُوَّةِ عِلْمِهِ. وَالْخَبِيرُ: الْعَالِمُ بِخَفَايَا الْأَشْيَاءِ، وَكُلَّمَا كَثُرَتِ الْأَشْيَاءُ كَانَتِ الْإِحَاطَةُ بِهَا أَعَزَّ، فَالْحَكِيمُ مُقَابِلٌ لِ أُحْكِمَتْ، وَالْخَبِيرُ مُقَابِلٌ لِ فُصِّلَتْ. وَهُمَا وَإِنْ كَانَا مُتَعَلِّقَ الْعِلْمِ وَمُتَعَلِّقَ الْقُدْرَةِ إِذِ الْقُدْرَةُ لَا تَجْرِي إِلَّا عَلَى وِفْقِ الْعِلْمِ، إِلَّا أَنَّهُ رُوعِيَ فِي الْمُقَابَلَةِ الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ أَثَرُ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ أَشَدُّ تَبَادُرًا فِيهِ لِلنَّاسِ مِنَ الْآخَرِ وَهَذَا مِنْ بليغ المزاوجة.
[٢]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٢]
أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢)
(أَنْ) تَفْسِيرِيَّةٌ لِمَا فِي مَعْنَى أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود: ١] مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَقْوَالٍ مُحْكَمَةٍ وَمُفَصَّلَةٍ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أُوحِيَ إِلَيْكَ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَفْسِيرِيَّةٌ لِمَا أُحْكِمَ مِنَ الْآيَاتِ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَإِيجَابِ عِبَادَةِ اللَّهِ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ، وَإِلَيْهِ مَرْجِعُ جَمِيعِ الصِّفَاتِ الَّتِي ثَبَتَتْ لِلَّهِ تَعَالَى بِالدَّلِيلِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَفَرَّعُ عَنْهُ جَمِيعُ التَّفَاصِيلِ، وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ
وَجَعَلَ الثَّنَاءَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُقَدِّمَةً لِذَلِكَ لِبَيَانِ أَنَّ فَضْلَ الْإِسْلَامِ فَضْلٌ زَائِدٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ بِأَنَّ مَبْدَأَهُ بِرَسُولٍ وَمُنْتَهَاهُ بِرَسُولٍ. وَهَذَا فَضْلٌ لَمْ يَحْظَ بِهِ دِينٌ آخَرُ.
فَالْمَقْصُودُ بَعْدَ هَذَا التَّمْهِيدِ وَهَاتِهِ الْمُقَدِّمَةِ هُوَ الْإِفْضَاءُ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سُورَة النَّحْل: ١٢٣]، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ [سُورَة الْحَج: ٧٨].
وَالْأَصْلُ الْأَصِيلُ الَّذِي تَفَرَّعَ عَنْهُ وَعَنْ فُرُوعِهِ هَذَا الِانْتِقَالُ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا مِنْ تَحْرِيمِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَثِيرًا مِمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى النَّاسِ.
وَنَظَّرَهُمْ بِالْيَهُودِ إِذْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَشْيَاءَ، تَشْدِيدًا عَلَيْهِمْ، فَجَاءَ بِهَذَا الِانْتِقَالِ لِإِفَادَةِ أَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ قَدْ حَادُوا عَنِ الْحَنِيفِيَّةِ الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُتَابِعُوهَا، وَأَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ هِيَ مَا
جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ مِنْ إِبَاحَةِ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنَ الطَّيِّبَاتِ، إِلَّا مَا بَيَّنَ اللَّهُ تَحْرِيمَهُ فِي آيَةِ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً [سُورَة الْأَنْعَام: ١٤٥] الْآيَةَ.
وَقَدْ وُصِفَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَنَّهُ كَانَ أُمَّةً. وَالْأُمَّةُ: الطَّائِفَةُ الْعَظِيمَةُ مِنَ النَّاسِ الَّتِي تَجْمَعُهَا جِهَةٌ جَامِعَةٌ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٣]. وَوَصْفَ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِذَلِكَ وصف بديع جَامع لِمَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ فِي الْفَضْلِ وَالْفُتُوَّةِ وَالْكَمَالِ بِمَنْزِلَةِ أُمَّةٍ كَامِلَةٍ. وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ: أَنْتَ الرَّجُلُ كل الرجل، وَقَول الْبُحْتُرِيُّ:
وَلَمْ أَرَ أَمْثَالَ الرِّجَالِ تَفَاوُتًا لَدَى الْفَضْلِ حَتَّى عُدَّ أَلْفٌ بِوَاحِدِ
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مُعَاذٌ أُمَّةٌ قَانِتٌ لِلَّهِ».

[سُورَة الْكَهْف (١٨) : الْآيَات ٣٢ إِلَى ٣٦]

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ الْآيَاتِ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ مَا أَعَدَّ لِأَهْلِ الشِّرْكِ وَذَكَرَ مَا يُقَابِلُهُ مِمَّا أَعَدَّهُ لِلَّذِينَ آمَنُوا ضَرَبَ مَثَلًا لِحَالِ الْفَرِيقَيْنِ بِمِثْلِ قِصَّةٍ أَظْهَرَ اللَّهُ فِيهَا تَأْيِيدَهُ لِلْمُؤْمِنِ وَإِهَانَتَهُ لِلْكَافِرِ، فَكَانَ لِذَلِكَ الْمَثَلِ شَبَهٌ بِمَثَلِ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ مِنْ عَصْرٍ أَقْرَبَ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ عَصْرِ أَهْلِ الْكَهْفِ، فَضَرَبَ مَثَلًا لِلْفَرِيقَيْنِ لِلْمُشْرِكِينَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِمَثَلِ رَجُلَيْنِ كَانَ حَالُ أَحَدِهِمَا مُعْجَبًا مُؤْنِقًا وَحَالُ الْآخَرِ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَكَانَتْ عَاقِبَةُ صَاحب الْحَال المونقة تَبَابًا وَخَسَارَةً، وَكَانَتْ عَاقِبَةُ الْآخَرِ نَجَاحًا، لِيُظْهِرَ لِلْفَرِيقَيْنِ مَا يَجُرُّهُ الْغُرُورُ وَالْإِعْجَابُ وَالْجَبَرُوتُ إِلَى صَاحِبِهِ مِنَ الْأَرْزَاءِ، وَمَا يَلْقَاهُ الْمُؤْمِنُ الْمُتَوَاضِعُ الْعَارِفُ بِسُنَنِ اللَّهِ فِي الْعَالَمِ مِنَ التَّذْكِيرِ وَالتَّدَبُّرِ فِي الْعَوَاقِبِ فَيَكُونُ مُعَرَّضًا لِلصَّلَاحِ وَالنَّجَاحِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِفِعْلِ وَاضْرِبْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ [الرّوم: ٢٨]. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: مَثَلًا تَعَلُّقَ الْحَالِ
وَعَبَّرَ بِ يُحْدِثُ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الذِّكْرَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمْ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، فَالْقُرْآنُ أَوْجَدَ فِيهِمْ ذِكْرًا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
وَلَمَّا جَرَتْ فِي الْجَزْلِ جَرْيًا كَأَنَّهُ سَنَا الْفَجْرِ أَحْدَثْنَا لِخَالِقِهَا شُكْرًا
وَ (لَعَلَّ) لِلرَّجَاءِ، أَيْ أَنَّ حَالَ الْقُرْآنِ أَنْ يُقَرِّبَ النَّاسَ مِنَ التَّقْوَى وَالتَّذَكُّرِ، بِحَيْثُ يُمَثَّلُ شَأْنَ مَنْ أَنْزَلَهُ وَأَمَرَ بِمَا فِيهِ بِحَالِ مَنْ يَرْجُو فَيَلْفِظُ بِالْحَرْفِ الْمَوْضُوعِ لِإِنْشَاءِ الرَّجَاءِ.
فَحَرْفُ (لَعَلَّ) اسْتِعَارَة تَبَعِيَّة تنبىء عَنْ تَمْثِيلِيَّةٍ مَكْنِيَّةٍ، وَقَدْ مَضَى مَعْنَى (لَعَلَّ) فِي الْقُرْآنِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١].
وَجُمْلَةُ فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ. وَهَذَا إِنْشَاءُ ثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ مُنَزِّلِ الْقُرْآنِ وَعَلَى مِنَّةِ هَذَا الْقُرْآنِ، وَتَلْقِينٌ لِشُكْرِهِ عَلَى مَا بَيَّنَ لِعِبَادِهِ مِنْ وَسَائِلِ الْإِصْلَاحِ وَحَمْلِهِمْ عَلَيْهِ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَتَوْجِيهِهِ إِلَيْهِمْ بِأَبْلَغِ كَلَامٍ وَأَحْسَنِ أُسْلُوبٍ فَهُوَ مُفَرَّعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا إِلَى آخِرِهَا...
وَالتَّفْرِيعُ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ ذَلِكَ الْإِنْزَالَ وَالتَّصْرِيفَ وَوَسَائِلَ الْإِصْلَاحِ كلّ ذَلِك ناشىء عَنْ جَمِيلِ آثَارٍ يَشْعُرُ جَمِيعُهَا بِعُلُوِّهِ وَعَظَمَتِهِ وَأَنَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُدَبِّرُ لِأُمُورِ مَمْلُوكَاتِهِ عَلَى أَتَمِّ وُجُوهِ الْكَمَالِ وَأَنْفَذِ طُرُقِ السِّيَاسَةِ.
وَفِي وَصْفِهِ بِالْحَقِّ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مُلْكَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُتَسَمَّيْنَ بِالْمُلُوكِ لَا يَخْلُو مِنْ نَقْصٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [الْفرْقَان: ٢٦].
وَفِي الْحَدِيثِ: «فَيَقُولُ اللَّهُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ»
، أَيْ أَحْضِرُوهُمْ هَلْ تَجِدُونَ مِنْهُمْ مَنْ يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ، كَقَوْلِ الْخَلِيفَةِ مُعَاوِيَةَ حِينَ خَطَبَ فِي الْمَدِينَةِ «يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ».
فَإِيلَاجُ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ: غَشَيَانُ ضَوْءِ النَّهَارِ عَلَى ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَإِيلَاجُ النَّهَارِ فِي اللَّيْلِ: غَشَيَانُ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ ضَوْءِ النَّهَارِ. فَالْمُولَجُ هُوَ الْمُخْتَفِي، فَإِيلَاجُ اللَّيْلِ انْقِضَاؤُهُ. وَاسْتِعَارَةُ الْإِيلَاجِ لِذَلِكَ اسْتِعَارَةٌ بَدِيعَةٌ لِأَنَّ تَقَلُّصَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ يَحْصُلُ تَدْرِيجًا، وَكَذَلِكَ تَقَلُّصُ ضَوْءِ النَّهَارِ يَحْصُلُ تَدْرِيجًا، فَأَشْبَهَ ذَلِكَ إِيلَاجَ شَيْءٍ فِي شَيْءٍ إِذْ يَبْدُو دَاخِلًا فِيهِ شَيْئًا فَشَيْئًا.
وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ لَا عَجَبَ فِي النَّصْرِ الْمَوْعُودِ بِهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْكَافِرِينَ مَعَ قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى تَغْلِيبِ النَّهَارِ عَلَى اللَّيْلِ حِينًا بَعْدَ أَنْ كَانَ أَمْرُهُمَا عَلَى الْعَكْسِ حِينًا آخَرَ قَادِرٌ عَلَى تَغْلِيبِ الضَّعِيفِ عَلَى الْقَوِيِّ، فَصَارَ حَاصِلُ الْمَعْنَى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى نَصْرِهِمْ.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ ذِكْرِ إِيلَاجِ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ وَإِيلَاجِ النَّهَارِ فِي اللَّيْلِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى تَقَلُّبِ أَحْوَالِ الزَّمَانِ فَقَدْ يَصِيرُ الْمَغْلُوبُ غَالِبًا، وَيَصِيرُ ذَلِكَ الْغَالِبُ مَغْلُوبًا. مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى تَمَامِ الْقُدْرَةِ بِحَيْثُ تَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ الْمُتَضَادَّةِ وَلَا تَلْزَمُ طَرِيقَةً وَاحِدَةً كَقُدْرَةِ الصُّنَّاعِ مِنَ الْبَشَرِ. وَفِيهِ إِدْمَاجُ التَّنْبِيهِ بِأَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي اسْتَبْطَأَهُ الْمُشْرِكُونَ مَنُوطٌ بِحُلُولِ أَجَلِهِ، وَمَا الْأَجَلُ إِلَّا إِيلَاجُ لَيْلٍ فِي نَهَارٍ وَنَهَارٍ فِي لَيْلٍ.
وَفِي ذِكْرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِدْمَاجُ تَشْبِيهِ الْكُفْرِ بِاللَّيْلِ وَالْإِسْلَامِ بِالنَّهَارِ لِأَنَّ الْكُفْرَ ضَلَالَةُ اعْتِقَادٍ، فَصَاحِبُهُ مِثْلُ الَّذِي يَمْشِي فِي ظُلْمَةٍ، وَلِأَنَّ الْإِيمَانَ نُورٌ يَتَجَلَّى بِهِ
الْحَقُّ وَالِاعْتِقَادُ الصَّحِيحُ، فَصَاحِبُهُ كَالَّذِي يَمْشِي فِي النَّهَارِ، فَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْإِيلَاجَ الْمَقْصُودَ هُوَ ظُهُورُ النَّهَارِ بَعْدَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، أَيْ ظُهُورُ الدِّينِ الْحَقِّ بَعْدَ ظُلْمَةِ الْإِشْرَاكِ، وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ فِي الْآيَةِ بِإِيلَاجِ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ، أَيْ دُخُولِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ تَحْتَ ضَوْءِ النَّهَارِ.
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الْفرْقَان: ١].
وَذَكَرَ بَدَائِعَ مِنْ صُنْعِهِ تَعَالَى جَمْعًا بَيْنَ الِاسْتِدْلَالِ وَالتَّذْكِيرِ.
وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَثْبِيتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دَعْوَتِهِ وَمُقَاوَمَتِهِ الْكَافِرِينَ.
وَضَرَبَ الْأَمْثَالَ لِلْحَالَيْنِ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ وَمَا لَقَوْا مِنْ أَقْوَامِهِمْ مِثْلَ قَوْمِ مُوسَى وَقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَأَصْحَابِ الرَّسِّ وَقَوْمِ لُوطٍ.
وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ، وَالثَّنَاءُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَمَدْحُ خِصَالِهِمْ وَمَزَايَا أَخْلَاقِهِمْ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى عَذَابٍ قَرِيبٍ يحل بالمكذبين.
[١]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١)
افْتِتَاحٌ بَدِيعٌ لِنُدْرَةِ أَمْثَالِهِ فِي كَلَامِ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ لِأَنَّ غَالِبَ فَوَاتِحِهِمْ أَنْ تَكُونَ بِالْأَسْمَاءِ مُجَرَّدَةً أَوْ مُقْتَرِنَةً بِحَرْفٍ غَيْرِ مُنْفَصِلٍ، مِثْلَ قَوْلِ طَرَفَةَ:
لِخَوْلَةَ أَطْلَالٌ بِبُرْقَةِ ثَهْمَدِ أَوْ بِأَفْعَالِ الْمُضَارَعَةِ وَنَحْوِهَا كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
قِفَا نَبْكِ الْبَيْتَ أَوْ بِحُرُوفِ التَّأْكِيدِ أَوْ الِاسْتِفْهَامِ أَوِ التَّنْبِيهِ مِثْلَ (إِنَّ) وَ (قَدْ) وَالْهَمْزَةُ وَ (هَلْ).
وَمِنْ قَبِيلِ هَذَا الِافْتِتَاحِ قَوْلُ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ:
آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ وَقَوْلُ النَّابِغَةِ:
كَتَمْتُكَ لَيْلًا بِالْجَمُومَيْنِ سَاهِرًا وَهَمَّيْنِ هَمًّا مُسْتَكِنًّا وَظَاهِرَا
وَبِهَذِهِ النُّدْرَةِ يَكُونُ فِي طَالِعِ هَذِهِ السُّورَةِ بَرَاعَةُ الْمَطْلَعِ لِأَنَّ النُّدْرَةَ مِنَِِ
وَقْعُ هَذِهِ الْآيَاتِ عَقِبَ ذِكْرِ وَقْعَةِ قُرَيْظَةَ وَذِكْرِ الْأَرْضِ الَّتِي لم يطؤوها وَهِيَ أَرْضُ بَنِي النَّضِيرِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ شَأْنُ هَذِهِ السِّيرَةِ أَنْ يَشُقَّ عَلَى غَالِبِ النَّاسِ وَخَاصَّةً النِّسَاءَ أَمَرَ اللَّهُ رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن ينبىء أَزْوَاجَهُ بِهَا وَيُخَيِّرَهُنَّ عَنِ السَّيْرِ عَلَيْهَا تَبَعًا لِحَالِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُفَارِقَهُنَّ. لِذَا فَافْتِتَاحُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ بِنِدَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَا سَيُذْكَرُ بَعْدَ النِّدَاءِ لَهُ مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِهِ وَهُوَ غَرَضُ تَحْدِيدِ سِيرَةِ أَزْوَاجِهِ مَعَهُ سِيرَةً تُنَاسِبُ مَرْتَبَةَ النُّبُوءَةِ، وَتَحْدِيدِ تَزَوُّجِهِ وَهُوَ الْغَرَضُ الثَّانِي مِنَ الْأَغْرَاضِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي قَوْلِهِ يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ اتَّقِ اللَّهَ [الْأَحْزَاب: ١].
وَالْأَزْوَاجُ الْمَعْنِيَّاتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُنَّ أَزْوَاجُهُ التِّسْعُ اللَّاتِي تُوُفِّيَ عَلَيْهِنَّ. وَهُنَّ:
عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَحَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَأُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيَّةُ، وَجُوَيْرِيَّةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْخُزَاعِيَّةُ، وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ
الْهِلَالِيَّةُ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ الْعَامِرِيَّةُ الْقُرَشِيَّةُ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الْأَسْدِيَةُ، وَصَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ النَّضِيرِيَّةُ. وَأَمَّا زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ الْهِلَالِيَّةُ الْمُلَقَّبَةُ أُمَّ الْمَسَاكِينِ فَكَانَتْ مُتَوَفَّاةً وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها: إِنْ كُنْتُنَّ تُؤْثِرْنَ مَا فِي الْحَيَاةِ مِنَ التَّرَفِ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالطَّاعَاتِ وَالزُّهْدِ، فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ يُقَدَّرُ صَالِحًا لِلْعُمُومِ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى إِرَادَةِ شَأْنٍ خَاص من شؤون الدُّنْيَا. وَهَذِهِ نُكْتَةُ تَعْدِيَةِ فِعْلِ تُرِدْنَ إِلَى اسْمِ ذَاتِ الْحَياةَ دُونَ حَال من شؤونها.
وَعَطْفُ زِينَتَها عَطْفٌ خَاصٌّ عَلَى عَامٍّ، وَفِي عَطْفِهِ زِيَادَةُ تَنْبِيهٍ عَلَى أَنَّ الْمُضَافَ الْمَحْذُوفَ عَامٌّ، وَأَيْضًا فَفِعْلُ تُرِدْنَ يُؤْذِنُ بِاخْتِيَارِ شَيْءٍ عَلَى غَيْرِهِ فَالْمَعْنَى: إِنَّ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الانغماس فِي شؤون الدُّنْيَا، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى هَذَا مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كَمَا سَيَأْتِي.
الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ مَآلُهُمُ الْجَنَّةُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ الَّتِي تَكَاثَرَتْ. وَقَدْ
رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ مَجْهُولَانِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر:
٣٢] قَالَ: «هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَكُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ»

. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» : مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ:
إِنَّ هَذِهِ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ هُمُ الَّذِينَ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [٨- ١٠] : أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ- وأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ- والسَّابِقُونَ. وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ أَصْحَابَ الْمَشْأَمَةِ فِي النَّارِ الْحَامِيَةِ، وَأَصْحَابَ سُورَةِ فَاطِرٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَهُمْ بَيْنَ فَاتِحَةٍ وَخَاتِمَةٍ فَأَمَّا الْفَاتِحَةُ فَهِيَ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا [فاطر: ٣٢] فَجَعَلَهُمْ مُصْطَفَيْنَ. ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها [فاطر: ٣٣] وَلَا يُصْطَفَى إِلَّا مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَلَكِنَّ أَهْلِ الْجَنَّةِ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ فَقَالَ: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ [فاطر: ٣٢] وَهُوَ الْعَاصِي وَالظَّالِمُ الْمُطْلَقُ
هُوَ الْكَافِرُ، وَقِيلَ عَنْهُ: الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ رِفْقًا بِهِ، وَقِيلَ لِلْآخَرِ: السَّابِقِ بِإِذْنِ اللَّهِ إِنْبَاءً أَنَّ ذَلِكَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ لَا مِنْ حَالِ الْعَبْدِ اهـ.
وَفِي الْإِخْبَارِ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ إِفَادَةٌ تُقَوِّي الْحُكْمَ وَصَوْغُ الْفِعْلِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِأَنَّهُ مُسْتَقْبِلٌ، وَكَذَلِكَ صَوْغُ يُحَلَّوْنَ وَهُوَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ جَنَّاتُ عَدْنٍ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي سُورَةِ الْحَجِّ فَانْظُرْهُ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَلُؤْلُؤاً بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ أَساوِرَ لِأَنَّهُ لَمَّا جُرَّ بِحَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدِ كَانَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِفِعْلِ يُحَلَّوْنَ فَجَازَ فِي الْمَعْطُوفِ أَنْ يُنْصَبَ عَلَى مُرَاعَاةِ مَحَلِّ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالْجَرِّ عَلَى مُرَاعَاةِ اللَّفْظِ، وهما وَجْهَان.
[٣٤، ٣٥]
[سُورَة فاطر (٣٥) : الْآيَات ٣٤ إِلَى ٣٥]
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥)
الْأَظْهَرُ أَنَّ جُمْلَةَ وَقالُوا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضمير يُحَلَّوْنَ [فاطر: ٣٣] لِئَلَّا يَلْزَمَ تَأْوِيلُ
وَفِي هَذَا إرشاد إِلَى وجود التَّدَبُّرِ فِي مَعَانِي هَذَا الْكِتَابِ لِيُتَوَصَّلَ بِذَلِكَ التَّدَبُّرِ إِلَى الْعِلْمِ بِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: ٥٣].
وَمَعْنَى الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠٩].
وَافْتِتَاحُ جُمْلَةِ إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ بِحَرْفِ (إِنَّ) مُرَاعًى فِيهِ مَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ الْخَبَرُ مِنَ الِامْتِنَانِ. فَيُحْمَلُ حَرْفُ (إِنَّ) عَلَى الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ. وَمَا أُرِيدَ بِهِ مِنَ التَّعْرِيضِ بِالَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مُنَزَّلًا مِنَ اللَّهِ فَيُحْمَلُ حَرْفُ (إِنَّ) عَلَى التَّأْكِيدِ اسْتِعْمَالًا لِلْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. وَلِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِعْلَانِ بِصِدْقِ النَّبِيءِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ الْكِتَابُ جَدِيرٌ بِالتَّأْكِيدِ لِأَنَّ دَلِيلَ صِدْقِهِ لَيْسَ فِي ذَاتِهِ بَلْ هُوَ قَائِمٌ بِالْإِعْجَازِ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ المعجزات، فَكَانَ مقضى التَّأْكِيدِ مَوْجُودًا بِخِلَافِ مُقْتَضَى الْحَالِ فِي قَوْلِهِ: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ.
فَجُمْلَةُ إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ. وَإِعَادَةُ لَفْظِ الْكِتابِ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ جَرْيًا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِالْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ. وَتَعْدِيَةُ أَنْزَلْنا بِحَرْفِ الِانْتِهَاءِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ [٤].
وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ حَالًا مِنَ الْكِتابَ، أَيْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْقُرْآنَ مُلَابِسًا لِلْحَقِّ فِي جَمِيعِ مَعَانِيهِ لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت: ٤٢].
وَفُرِّعَ عَلَى الْمَعْنَى الصَّرِيحِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أَنْ أُمِرَ بِأَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الْعِبَادَةَ. وَفِي هَذَا التَّفْرِيعِ تَعْرِيضٌ بِمَا يُنَاسِبُ الْمَعْنَى التَّعْرِيضِيِّ فِي الْمُفَرَّعِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ الْمُعَرَّضَ بِهِمْ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَدَّبَّرُوا فِي الْمَعْنَى الْمُعَرَّضِ بِهِ.
وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهَا تُؤْذِنُ بِكَلَامٍ مُقَدَّرٍ دَاخِلٍ فِي صِفَاتِ الذِّكْرِ، وَهُوَ أَنَّهُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ بِلُغَتِكُمْ إِتْمَامًا لِهَدْيِكُمْ فَلَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ وَكَفَرْتُمْ وَتَعَلَّلْتُمْ بِالتَّعَلُّلَاتِ الْبَاطِلَةِ فَلَوْ جَعَلْنَاهُ أَعْجَمِيًّا لَقُلْتُمْ: هَلَّا بُيِّنَتْ لَنَا حَتَّى نَفْهَمَهُ.
قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ هَذَا جَوَابٌ تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: مَا يُقالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت:
٤٣]، أَيْ مَا يُقَالُ مِنَ الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ، فَجَوَابُهُ: أَنَّ ذَلِكَ الذِّكْرَ أَوِ الْكِتَابَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ، أَيْ أَنَّ تِلْكَ الْخِصَالَ الْعَظِيمَةَ لِلْقُرْآنِ حَرَمَهُمْ كُفْرُهُمُ الِانْتِفَاعَ بِهَا وَانْتَفَعَ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ فَكَانَ لَهُمْ هَدْيًا وَشِفَاءً. وَهَذَا نَاظِرٌ إِلَى مَا حَكَاهُ عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: ٥]، فَهُوَ إِلْزَامٌ لَهُمْ بِحُكْمٍ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
وَحَقِيقَةُ الشِّفَاءِ: زَوَالُ الْمَرَضِ وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلْبَصَارَةِ بِالْحَقَائِقِ وَانْكِشَافِ الِالْتِبَاسِ مِنَ النَّفْسِ كَمَا يَزُولُ الْمَرَضُ عِنْدَ حُصُولِ الشِّفَاءِ، يُقَالُ: شُفِيَتْ نَفْسُهُ، إِذَا زَالَ حَرَجُهُ، قَالَ قَيْسُ بْنُ زُهَيْرٍ:
شَفَيْتُ النَّفْسَ مِنْ حَمَلِ بْنِ بَدْرٍ وَسَيْفِي مِنْ حُذَيْفَةَ قَدْ شَفَانِي
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: شُفِيَ غَلِيلُهُ، وَبُرِدَ غَلِيلُهُ، فَإِنَّ الْكُفْرَ كَالدَّاءِ فِي النَّفْسِ لِأَنَّهُ يُوقِعُ فِي الْعَذَابِ وَيَبْعَثُ عَلَى السَّيِّئَاتِ.
وَجُمْلَةُ: وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَخْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً فَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، أَيْ وَأَمَّا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فَلَا تَتَخَلَّلُ آيَاتُهُ نُفُوسَهُمْ لِأَنَّهُمْ كَمَنْ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ دُونَ سَمَاعِهِ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ فِي حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ: وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت:
٥]، وَلِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَ مَعْنَى الْجُمْلَةِ مُتَعَلِّقًا بِأَحْوَالِ الْقُرْآنِ مَعَ الْفَرِيقِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ لِتَقْدِيرِ جَعْلِ الْجُمْلَةِ خَبَرًا عَنِ الْقُرْآنِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شَجَرَةِ الزَّقُّومِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [٦٢] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ.
وَالْمُهْلُ بِضَمِّ الْمِيمِ دُرْدِيُّ الزَّيْتِ. وَالتَّشْبِيهُ بِهِ فِي سَوَادِ لَوْنِهِ وَقِيلَ فِي ذَوَبَانِهِ.
والْحَمِيمِ: الْمَاءُ الشَّدِيدُ الْحَرَارَةِ الَّذِي انْتَهَى غَلَيَانُهُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧٠]. وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ هَيْئَةُ غَلَيَانِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَغْلِي بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ. وَإِسْنَادُ الْغَلَيَانِ إِلَى الشَّجَرَةِ مَجَازٌ وَإِنَّمَا الَّذِي يَغْلِي ثَمَرُهَا. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى رُجُوعِ الضَّمِيرِ إِلَى الطَّعَامِ لَا إِلَى الْمُهْلِ.
وَالْغَلَيَانُ: شِدَّةُ تَأَثُّرِ الشَّيْءِ بِحَرَارَةِ النَّارِ يُقَالُ: غَلَى الْمَاءُ وَغَلَتِ الْقِدْرُ، قَالَ النَّابِغَةُ:
يَسِيرُ بِهَا النُّعْمَانُ تَغْلِي قُدُورُهُ وَجُمْلَةُ خُذُوهُ إِلَخْ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ يُقَالُ لِمَلَائِكَةِ الْعَذَابِ: خُذُوهُ، وَالضَّمِيرُ الْمُفْرَدُ عَائِدٌ إِلَى الْأَثِيمِ بِاعْتِبَارِ آحَادِ جِنْسِهِ.
وَالْعَتْلُ: الْقَوْدُ بِعُنْفٍ وَهُوَ أَنْ يُؤْخَذَ بِتَلْبِيبِ أَحَدٍ فَيُقَادَ إِلَى سَجْنٍ أَوْ عَذَابٍ، وَمَاضِيهِ جَاءَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا.
وَقَرَأَهُ بِالضَّمِّ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِكَسْرِ التَّاءِ.
وَسَوَاءُ الشَّيْءِ: وَسَطُهُ وَهُوَ أَشَدُّ الْمَكَانِ حَرَارَةً.
وَقَوْلُهُ: إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ يَتَنَازَعُهُ فِي التَّعَلُّقِ كُلُّ مِنْ فِعْلَيْ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ لِتَضَمُّنِهِمَا: سُوقُوهُ سَوْقًا عَنِيفًا.
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ صَبَّ الْحَمِيمِ عَلَى رَأْسِهِ أَشُدُّ عَلَيْهِ مِنْ أَخْذِهِ وَعَتْلِهِ.
وَالصَّبُّ: إِفْرَاغُ الشَّيْءِ الْمَظْرُوفِ مِنَ الظَّرْفِ وَفِعْلُ الصَّبِّ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْعَذَابِ لِأَنَّ الْعَذَابَ أَمْرٌ مَعْنَوِيٌّ لَا يُصَبُّ. فَالصَّبُّ مُسْتَعَارٌ لِلتَّقْوِيَةِ وَالْإِسْرَاعِ فَهُوَ تَمْثِيلِيَّةٌ
وَالِاخْتِصَامُ: الْمُخَاصَمَةُ وَهُوَ مَصْدَرٌ بِصِيغَةِ الِافْتِعَالِ الَّتِي الْأَصْلُ فِيهَا أَنَّهَا لِمُطَاوَعَةِ بَعْضِ الْأَفْعَالِ فَاسْتُعْمِلَتْ لِلتَّفَاعُلِ مَثَلَ: اجْتَوَرُوا وَاعْتَوَرُوا وَاخْتَصَمُوا.
وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُخَاصَمَةِ بَيْنَهُمْ يَقْتَضِي أَنَّ النُّفُوسَ الْكَافِرَةَ ادَّعَتْ أَنَّ قُرَنَاءَهَا أَطْغَوْهَا، وَأَنَّ الْقُرَنَاءَ تَنَصَّلُوا مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّ النُّفُوسَ أَعَادَتْ رَمْيَ قُرَنَائِهَا بِذَلِكَ فَصَارَ خِصَامًا فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَطُوِيَ ذِكْرُهُ لِدَلَالَةِ لَا تَخْتَصِمُوا عَلَيْهِ إِيثَارًا لِحَقِّ الْإِيجَازِ فِي الْكَلَامِ. وَالنَّهْيُ عَنِ الِاخْتِصَامِ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِتَأْوِيلِ النَّهْيِ عَنِ الدَّوَامِ عَلَيْهِ، أَيْ كَفُّوا عَنِ الْخِصَامِ.
وَمَعْنَى النَّهْيُ أَنَّ الْخِصَامَ فِي ذَلِكَ لَا جَدْوَى لَهُ لِأَنَّ اسْتِوَاءَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْكُفْرِ كَافٍ فِي مُؤَاخَذَةِ كِلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ [الْأَعْرَاف: ٣٨]، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ تَقَرَّرَ فَلَا يُفِيدُهُمُ التَّخَاصُمُ لِإِلْقَاءِ التَّبِعَةِ عَلَى أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ.
وَوَجْهُ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْعَذَابِ أَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى إِضْلَالِهِ قَائِمٌ بِمَا اشْتَهَتْهُ نَفْسُهُ مِنْ تَرْوِيجِ الْبَاطِلِ دُونَ نَظَرٍ فِي الدَّلَائِلِ الْوِزَاعَةِ عَنْهُ وَأَنَّ مُتَلَقِّيَ الْبَاطِلِ مِمَّنْ دَعَاهُ إِلَيْهِ قَائِمٌ بِمَا اشْتَهَتْهُ نَفْسُهُ من الطَّاعَة لأيمة الضَّلَالِ فَاسْتَوَيَا فِي الدَّاعِي وَتَرَتُّبِ أَثَرِهِ.
وَالْوَاوُ فِي وَقَدْ قَدَّمْتُ وَاوُ الْحَالِ. وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تَخْتَصِمُوا وَهِيَ حَالٌ مُعَلِّلَةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الِاخْتِصَامِ.
وَالْمَعْنَى: لَا تَطْمَعُوا فِي أَنَّ تَدَافُعَكُمْ فِي إِلْقَاءِ التَّبِعَةِ يُنْجِيكُمْ مِنَ الْعِقَابِ بَعْدَ حَالِ إِنْذَارِكُمْ بِالْوَعِيدِ مِنْ وَقْتِ حَيَاتِكُمْ فَمَا اكْتَرَثْتُمْ بِالْوَعِيدِ فَلَا تَلُومُوا إِلَّا أَنْفُسَكُمْ لِأَنَّ مَنْ أَنْذَرَ
فَقَدْ أَعْذَرَ.
فَقَوْلُهُ: وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالْخِصَامِ كَوْنَ الْعِقَابِ عَدْلًا مِنَ اللَّهِ. وَالْبَاءُ فِي بِالْوَعِيدِ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِه: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة:
٦]. وَالْمَعْنَى: وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمُ الْوَعِيدَ قَبْلَ الْيَوْمِ.
وَمُشَاهِدُونَهَا وَوَادُّونَ دَفْعَهَا أَوْ تَأْخِيرَهَا، فَإِنَّ الَّذِي قَدِرَ عَلَى خَلْقِ الْمَوْتِ بَعْدَ الْحَيَاةِ قَادِرٌ عَلَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ إِذِ الْقُدْرَةُ عَلَى حُصُولِ شَيْءٍ تَقْتَضِي الْقُدْرَةَ عَلَى ضِدِّهِ فَلَا جَرَمَ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى خَلْقِ حَيٍّ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ حَيَاةٌ وَعَلَى إِمَاتَتِهِ بَعْدَ الْحَيَاةِ قَدِيرٌ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي حَالَتَيْ إِحْيَائِهِ وَإِمَاتَتِهِ، وَمَا الْإِحْيَاءُ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ إِلَّا حَالَةٌ مِنْ تَيْنِكَ الْحَقِيقَتَيْنِ، فَوَضَحَ دَلِيلُ إِمْكَانِ الْبَعْثِ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ [الْحَج: ٦٦].
هَذَا أصل المفاد من قَوْله: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ثمَّ هُوَ مَعَ ذَلِك تَنْبِيه على أَن الْمَوْت جعله الله طورا من أطوار الْإِنْسَان لحكمة الِانْتِقَال بِهِ إِلَى الْحَيَاة الأبدية بعد إعداده لَهَا بِمَا تهيئه لَهُ أَسبَاب الْكَمَال المؤهلة لتِلْك الْحَيَاة لتتم الْمُنَاسبَة بَين ذَلِك الْعَالم وَبَين عامريه. وَقد مضى الْكَلَام على ذَلِك عِنْد تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ فِي سُورَة الْمُؤمنِينَ [١١٥].
فَهَذَا وَجْهُ التَّعْبِيرِ بِ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ دُونَ: نَحْنُ نُمِيتُكُمْ، أَيْ أَنَّ الْمَوْتَ مَجْعُولٌ عَلَى تَقْدِيرٍ مَعْلُومٍ مُرَادٍ، مَعَ مَا فِي مَادَّةِ قَدَّرْنا مِنَ التَّذْكِيرِ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ لِتَتَوَجَّهَ أَنْظَارُ الْعُقُولِ إِلَى مَا فِي طَيِّ ذَلِكَ مِنْ دَقَائِقَ وَهِيَ كَثِيرَةٌ، وَخَاصَّةٌ فِي تَقْدِيرِ مَوْتِ الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ سَبِيلٌ إِلَى الْحَيَاةِ الْكَامِلَةِ إِنْ أَخَذَ لَهَا أَسْبَابَهَا.
وَفِي كَلِمَةِ بَيْنَكُمُ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْمَوْتَ يَأْتِي عَلَى آحَادِهِمْ تَدَاوُلًا وَتَنَاوُبًا، فَلَا يُفْلِتُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَلَا يَتَعَيَّنُ لِحُلُولِهِ صِنْفٌ وَلَا عُمُرٌ فَآذَنَ ظَرْفُ (بَيْنَ) بِأَنَّ الْمَوْتَ كَالشَّيْءِ الْمَوْضُوعِ لِلتَّوْزِيعِ لَا يدْرِي أحد مَتَى يُصِيبُهُ قِسْطُهُ مِنْهُ، فَالنَّاسُ كَمَنْ دُعُوا إِلَى قِسْمَةِ مَالٍ أَوْ ثَمَرٍ أَوْ نَعَمٍ لَا يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يُنَادَى عَلَيْهِ لِيَأْخُذَ قِسْمَهُ، أَوْ مَتَى يَطِيرُ إِلَيْهِ قِطُّهُ وَلَكِنَّهُ يُوقِنُ بِأَنَّهُ نَائِلُهُ لَا مَحَالَةَ.
وَبِهَذَا كَانَ فِي قَوْلِهِ: بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ إِذْ شَبَّهَ الْمَوْتَ بِمَقْسُومٍ وَرَمَزَ إِلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ بِكَلِمَةِ بَيْنَكُمُ الشَّائِعِ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْقِسْمَةِ، قَالَ تَعَالَى: أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ [الْقَمَر: ٢٨]. وَفِي هَذِهِ الْاِسْتِعَارَةِ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ الْمَوْتِ فَائِدَةً وَمَصْلَحَةً لِلنَّاسِ أَمَّا فِي الدُّنْيَا لِئَلَّا تَضِيقَ بِهُمُ الْأَرْضُ وَالْأَرْزَاقُ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلِلْجَزَاءِ الْوِفَاقِ.
مِنْهُ أَنْ يَكُونَ كَذَا أَوْ لَا يَكُونَ، كَذَا إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْإِمْكَانِ. وَعَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً. وَالثَّانِي بِإِعْطَاءِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَعَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ [المرسلات:
٢٣] أَوْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً اه.
وَالْقَدْرُ: مُصْدَرُ قَدَرَهُ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولٍ- بِتَخْفِيفِ الدَّالِ- الَّذِي مَعْنَاهُ وَضَعَ فِيهِ بِمِقْدَارٍ كِمِّيَّةً ذَاتِيَّةً أَوْ مَعْنَوِيَّةً تُجْعَلُ عَلَى حَسَبِ مَا يَتَحَمَّلُهُ الْمَفْعُولُ. فَقَدْرُ كُلِّ مَفْعُولٍ لِفِعْلٍ قَدْرُ مَا تَتَحَمَّلُهُ طَاقَتُهُ وَاسْتِطَاعَتُهُ مِنْ أَعْمَالٍ، أَوْ تَتَحَمَّلُهُ مِسَاحَتُهُ مِنْ أَشْيَاءَ أَوْ يَتَحَمَّلُهُ وَعْيُهُ لِمَا يَكِدُّ بِهِ ذِهْنُهُ مِنْ مَدَارِكَ وَأَفْهَامٍ. وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْمَعْنَى مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨٦]. وَقَوْلِهِ هُنَا: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتاها [الطَّلَاق: ٧].
وَمِنْ جُزْئِيَّاتِ مَعْنَى الْقَدْرِ مَا يُسَمَّى التَّقْدِيرُ: مَصْدَرُ قَدَّرَ الْمُضَاعَفِ إِذَا جَعَلَ شَيْئًا أَوْ
أَشْيَاءَ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مُنَاسِبٍ لِمَا جُعِلَ لِأَجْلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ فِي سُورَةِ سَبَأٍ [١١].
[٤، ٥]
[سُورَة الطَّلَاق (٦٥) : الْآيَات ٤ الى ٥]
وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ.
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطَّلَاق: ١] فَإِنَّ الْعِدَّةَ هُنَالِكَ أُرِيدَ بِهَا الْأَقْرَاءُ فَأَشْعَرَ ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْمُعْتَدَّةَ مِمَّنْ لَهَا أَقْرَاءٌ، فَبَقِيَ بَيَانُ اعْتِدَادِ الْمَرْأَةِ الَّتِي تَجَاوَزَتْ سِنَّ الْمَحِيضِ أَوِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ سِنَّ مَنْ تَحِيضُ وَهِيَ الصَّغِيرَةُ. وَكِلْتَاهُمَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا آيِسَةٌ مِنَ الْمَحِيضِ، أَيْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
وَالْوُقُفُ عَلَى قَوْلِهِ: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ، أَيْ هُنَّ مَعْطُوفَاتٌ عَلَى الْآيِسِينَ.
وَالْيَأْسُ: عَدَمُ الْأَمَلِ. وَالْمَأْيُوسُ مِنْهُ فِي الْآيَةِ يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ مِنْ قَوْلِهِ: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطَّلَاق: ١]، أَيْ يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ سَوَاءً كَانَ الْيَأْسُ مِنْهُ بَعْدَ تَعَدُّدِهِ أَوْ كَانَ بِعَدَمِ ظُهُورِهِ، أَيْ لَمْ يَكُنِ انْقِطَاعَهُ لِمَرَضٍ أَوْ إِرْضَاعٍ. وَهَذَا السِّنُّ يَخْتَلِفُ تَحْدِيدُهُ بِاخْتِلَافِ الذَّوَاتِ وَالْأَقْطَارِ كَمَا يَخْتَلِفُ سِنُّ ابْتِدَاءِ الْحَيْضِ كَذَلِكَ. وَقَدْ
وَالتَّقْدِيرُ: مَا جَعَلْنَا ذِكْرَ عِدَّتِهِمْ لِعِلَّةٍ وَغَرَضٍ إِلَّا لِغَرَضِ فِتْنَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَانْتَصَبَ فِتْنَةً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِفِعْلِ جَعَلْنا على الِاسْتِثْنَاء المفرغ، وَهُوَ قَصْرٌ قُلِبَ لِلرَّدِّ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا إِذِ اعْتَقَدُوا أَنَّ عِدَّتَهُمْ أَمْرٌ هَيِّنٌ.
وَقَوْلُهُ: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَخْ. عِلَّةٌ ثَانِيَةٌ لِفِعْلِ وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً.
وَلَوْلَا أَنَّ كَلِمَةَ فِتْنَةً مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِفِعْلِ جَعَلْنا. لَكَانَ حَقٌّ لِيَسْتَيْقِنَ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى فِتْنَةً وَلَكِنَّهُ جَاءَ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ جَعَلْنا وب فِتْنَةً، عَلَى وَجْهِ التَّنَازُعِ فِيهِ، أَيْ مَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِلَّا فِتْنَةً لَهُمْ إِذْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مِنْ ذِكْرِهَا إِلَّا فَسَادُ التَّأْوِيلِ، وَتِلْكَ الْعِدَّةُ مَجْعُولَةٌ لِفَوَائِدَ أُخْرَى لِغَيْرِ الَّذِينَ كَفَرُوا الَّذِينَ يُفَوِّضُونَ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ وَإِلَى تَدَبُّرٍ مُفِيدٍ.
وَالِاسْتِيقَانُ: قُوَّةُ الْيَقِينِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَالْمَعْنَى: لِيَسْتَيْقِنُوا صِدْقَ الْقُرْآنِ حَيْثُ يَجِدُونَ هَذَا الْعَدَدَ مُصَدِّقًا لِمَا فِي كُتُبِهِمْ.
وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الْيَهُودُ حِينَ يَبْلُغُهُمْ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ مِثْلِ مَا فِي كُتُبِهِمْ أَو أخبارهم. وَكَانَ الْيَهُودُ يَتَرَدَّدُونَ عَلَى مَكَّةَ فِي التِّجَارَةِ وَيَتَرَدَّدُ عَلَيْهِمْ أَهْلُ مَكَّةَ لِلْمِيرَةِ فِي خَيْبَرَ وَقُرَيْظَةَ وَيَثْرِبَ فَيَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَمَّا يَقُولُهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَوَدُّ الْمُشْرِكُونَ لَوْ يَجِدُونَ عِنْدَ الْيَهُودِ مَا يُكَذِّبُونَ بِهِ أَخْبَارَ الْقُرْآنِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَجِدُوهُ وَلَوْ وَجَدُوهُ لَكَانَ أَيْسَرَ مَا يَطْعَنُونَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ.
وَالِاسْتِيقَانُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعْقُبَهُ الْإِيمَانُ إِذَا صَادَفَ عَقْلًا بَرِيئًا مِنْ عَوَارِضِ الْكُفْرِ كَمَا وَقَعَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَقَدْ لَا يَعْقُبُهُ الْإِيمَانُ لِمُكَابَرَةٍ أَوْ حَسَدٍ أَوْ إِشْفَاقٍ مِنْ فَوَاتِ جَاهٍ أَوْ مَالٍ كَمَا كَانَ شَأْنُ كَثِيرٍ من الْيَهُود الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ١٤٦] وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَتِ الْآيَةُ عَلَى حُصُولِ الِاسْتِيقَانِ لَهُمْ.
رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ لِأُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ يَعْلَمُ نَبِيئُكُمْ عَدَدَ خَزَنَةِ النَّارِ؟، قَالُوا: لَا نَدْرِي حَتَّى نسْأَل نبيئنا.
فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيءِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ غُلِبَ أَصْحَابُكُمُ الْيَوْمَ،
وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الشَّفْعُ وَالْوَتْرُ وَالصَّلَاة مِنْهَا شَفْعٌ وَمِنْهَا وَتْرٌ»
. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَفِي «الْعَارِضَةِ أَنَّ فِي سَنَدِهِ مَجْهُولًا، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: «وَعِنْدِي أَنَّ وَقْفَهُ عَلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَشْبَهُ».
وَيَنْبَغِي حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى كِلَا التَّفْسِيرَيْنِ.
وَقِيلَ: الشَّفْعُ يَوْمَانِ بَعْدَ يَوْمِ مِنًى، وَالْوَتْرُ الْيَوْمُ الثَّالِثُ وَهِيَ الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ فَتَكُونُ غَيْرَ اللَّيَالِي الْعَشْرِ.
وَتَنْكِيرُ لَيالٍ وَتَعْرِيفُ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ اللَّيَالِيَ الْعَشْرَ لَيَالٍ مُعَيَّنَةٌ وَهِيَ عَشْرُ لَيَالٍ فِي كُلِّ عَامٍ، وَتَعْرِيفُ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُمَا مَعْرُوفَانِ وَبِأَنَّهُمَا الشَّفْعُ وَالْوَتْرُ مِنَ اللَّيَالِي الْعَشْرِ.
وَفِي تَفْسِيرِ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ أَقْوَالٌ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَبَعْضُهَا مُتَدَاخِلٌ اسْتَقْصَاهَا الْقُرْطُبِيُّ، وَأَكْثَرُهَا لَا يَحْسُنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ إِذْ لَيْسَتْ فِيهَا مُنَاسَبَةٌ لِلْعَطْفِ عَلَى لَيَالٍ عَشْرٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْوَتْرِ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَأَهْلِ الْحِجَازِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَبَكْرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ وَهُمْ بَنُو سَعْدٍ أَظْآرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ أَهْلُ الْعَالِيَةِ، فَهُمَا لُغَتَانِ فِي الْوَتْرِ. بِمَعْنَى الْفَرْدِ.
واللَّيْلِ عَطْفٌ عَلَى لَيالٍ عَشْرٍ عَطَفَ الْأَعَمَّ عَلَى الْأَخَصِّ أَوْ عَطَفَ عَلَى الْفَجْرِ بِجَامِعِ التَّضَادِّ. وَأَقْسَمَ بِهِ لِمَا أَنَّهُ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَبَدِيعِ حِكْمَتِهِ.
وَمَعْنَى يَسْرِي: يَمْضِي سَائِرًا فِي الظَّلَامِ، أَيْ إِذَا انْقَضَى مِنْهُ جُزْءٌ كَثِيرٌ، شُبِّهَ تَقَضِّي اللَّيْلِ فِي ظَلَامِهِ بِسَيْرِ السَّائِرِ فِي الظَّلَامِ وَهُوَ السُّرَى كَمَا شُبِّهَ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [المدثر: ٣٣] وَقَالَ: وَاللَّيْلِ إِذا سَجى [الضُّحَى: ٢]، أَيْ تَمَكَّنَ ظَلَامُهُ وَاشْتَدَّ.
وَتَقْيِيدُ اللَّيْلِ بِظَرْفِ إِذا يَسْرِ لِأَنَّهُ وَقْتُ تَمَكُّنِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ النَّاسُ أَخَذُوا حَظَّهُمْ مِنَ النَّوْمِ فَاسْتَطَاعُوا التَّهَجُّدَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: ٦] وَقَالَ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ [الْإِنْسَان: ٢٦].


الصفحة التالية
Icon