ثُمَّ قَالَ:
أَذَاكَ أَمْ نَمِشٌ بِالْوَشْيِ أَكْرُعُهُ | مُسَفَّعُ الْخَدِّ غَادٍ نَاشِعٌ شَبَبُ |
أَذَاكَ أَمْ خَاضِبٌ بِالسِّيِّ مَرْتَعُهُ | أَبُو ثَلَاثِينَ أَمْسَى وَهْوَ مُنْقَلِبُ (١) |
مَا يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ [فاطر:
١٩- ٢١] الْآيَةَ بَلْ وَرُبَّمَا جَمَعُوا بِلَا عَطْفٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ [الْأَنْبِيَاء: ١٥] وَهَذِهِ تَفَنُّنَاتٌ جَمِيلَةٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ فَمَا ظَنُّكَ بِهَا إِذَا وَقَعَتْ فِي التَّشْبِيهِ التَّمْثِيلِيِّ فَإِنَّهُ لِعِزَّتِهِ مُفْرَدًا تَعِزُّ استطاعة تكريره.
و (أَو) عَطَفَتْ لَفْظَ (صَيِّبٍ) عَلَى الَّذِي اسْتَوْقَدَ [الْبَقَرَة: ١٧] بِتَقْدِيرِ مَثَلِ بَيْنِ الْكَافِ وَصَيِّبٍ. وَإِعَادَةُ حَرْفِ التَّشْبِيهِ مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ الْمُغْنِي عَنْ إِعَادَةِ الْعَامِلِ، وَهَذَا التَّكْرِيرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي كَلَامِهِمْ وَحُسْنُهُ هُنَا أَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ الْمُشَبَّهَيْنِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ
وَهُمْ فِي الْغَالِبِ لَا يُكَرِّرُونَهُ فِي الْعَطْفِ.
وَالتَّمْثِيلُ هُنَا لِحَالِ الْمُنَافِقِينَ حِينَ حُضُورِهِمْ مَجْلِسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمَاعِهِمُ الْقُرْآنَ وَمَا فِيهِ مِنْ آيِ الْوَعِيدِ لِأَمْثَالِهِمْ وَآيِ الْبِشَارَةِ، فَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ تَمْثِيلُ حَالَةٍ مُغَايِرَةٍ لِلْحَالَةِ الَّتِي مُثِّلَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ [الْبَقَرَة: ١٧] بِنَوْعِ إِطْلَاقٍ وَتَقْيِيدٍ.
فَقَوْلُهُ: أَوْ كَصَيِّبٍ تَقْدِيرُهُ أَوْ كَفَرِيقٍ ذِي صَيْبٍ أَيْ كَقَوْمٍ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ دَلَّ عَلَى تَقْدِيرِ قَوْمٍ قَوْلُهُ: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَقَوْلُهُُُ:
_________
(١) قَوْله: أذاك: الْإِشَارَة إِلَى حمَار الْوَحْش فِي الأبيات قبله، وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ بالمسحج. والمسحج:
المكدوم وَهُوَ من الصِّفَات الْغَالِبَة على حمَار الْوَحْش لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَن كدام فِي جلده من العراك مَعَ الْحمر، والنمش- بِكَسْر الْمِيم- الَّذِي بِهِ النمش بِفَتْحِهَا وَهُوَ نقط بيض وسود، وَأَرَادَ بِهِ الثور الوحشي. والوشي: التخطيط. والمسفع: الْأسود. والشبب: المسن من ثيران الْوَحْش. وَقَوله خاضب أَرَادَ ذكر النعام فَإِنَّهُ إِذا أكل بقل الرّبيع احْمَرَّتْ ساقاه. والسي- بِكَسْر السِّين وَتَشْديد الْيَاء- المستوي من الأَرْض. وَأَبُو ثَلَاثِينَ أَي لَهُ ثَلَاثِينَ فرخا وَذَلِكَ عدد مَا يبيض النعام. ومنقلب: رَاجع لفراخه فَهُوَ شَدِيد السّير.
وَ (مِنْ) قَبْلِكُمْ مُتَعَلِّقٌ بَخَلَوْا لِمُجَرَّدِ الْبَيَانِ وَقَصْدِ إِظْهَارِ الْمُلَابَسَةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ.
وَالْمَسُّ حَقِيقَتُهُ: اتِّصَالُ الْجِسْمِ بِجِسْمٍ آخَرَ وَهُوَ مَجَازٌ فِي إِصَابَةِ الشَّيْءِ وَحُلُولِهِ، فَمِنْهُ مَسُّ الشَّيْطَانِ أَيْ حُلُولُ ضُرِّ الْجِنَّةِ بِالْعَقْلِ، وَمَسُّ سَقَرٍ: مَا يُصِيبُ مِنْ نَارِهَا، وَمَسَّهُ الْفَقْرُ وَالضُّرُّ: إِذَا حَلَّ بِهِ، وَأَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ فِي إِصَابَةِ الشَّرِّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا [الزمر: ٨] وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا [يُونُس: ١٢] وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: ٥١] وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ [الْأَعْرَاف: ٧٣] فَالْمَعْنَى هُنَا: حَلَّتْ بِهِمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ [الْبَقَرَة: ١٧٧].
وَقَوْلُهُ: وَزُلْزِلُوا أَيْ أُزْعِجُوا أَوِ اضْطَرَبُوا، وَإِنَّمَا الَّذِي اضْطَرَبَ نِظَامُ مَعِيشَتِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً [الْأَحْزَاب: ١١]، وَالزَّلْزَلَةُ تَحَرُّكُ الْجِسْمُ مِنْ مَكَانِهِ بِشِدَّةٍ، وَمِنْهُ زِلْزَالُ الْأَرْضِ، فَوَزْنُ زُلْزِلَ فُعْفِلَ، وَالتَّضْعِيفُ فِيهِ دَالٌّ على تكَرر الْفِعْل كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَكُبْكِبُوا فِيها [الشُّعَرَاء: ٩٤] وَقَالُوا لَمْلَمَ بِالْمَكَانِ إِذَا نَزَلَ بِهِ نُزُولَ إِقَامَةٍ.
وحَتَّى غَايَةٌ لِلْمَسِّ وَالزَّلْزَالِ، أَيْ بَلَغَ بِهِمُ الْأَمْرُ إِلَى غَايَةٍ يَقُولُ عِنْدَهَا الرَّسُولُ وَالَّذِينَ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ.
وَلَمَّا كَانَتِ الْآيَةُ مُخْبِرَةً عَنْ مَسٍّ حَلَّ بِمَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ وَمُنْذِرَةً بِحُلُولِ مِثْلِهِ بِالْمُخَاطَبِينَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ، جَازَ فِي فِعْلِ يَقُولُ أَنْ يُعْتَبَرَ قَوْلَ رَسُولِ أُمَّةٍ سَابِقَةٍ أَيْ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ رَسُول المزلزلين فأل لِلْعَهْدِ، أَوْ حَتَّى يَقُولَ كُلُّ رَسُولٍ لِأُمَّةٍ سَبَقَتْ فَتَكُونَ الْ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَيَكُونَ الْفِعْلُ مَحْكِيًّا بِهِ تِلْكَ الْحَالَةُ الْعَجِيبَةُ فَيُرْفَعُ بَعْدَ حَتَّى لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُرَادَ بِهِ الْحَالُ يَكُونُ مَرْفُوعًا، وَبِرَفْعِ الْفِعْلِ قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَجَازَ فِيهِ أَنْ يُعْتَبَرَ قَوْلُ رَسُولِ الْمُخَاطَبِينَ عَلَيْهِ السَّلَام فأل فِيهِ لِلْعَهْدِ وَالْمعْنَى: وزلزلوا وتزلزلون مِثْلَهُمْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ فَيَكُونُ الْفِعْلُ مَنْصُوبًا لِأَنَّ الْقَوْلَ لَمَّا يَقَعْ وَقْتَئِذٍ، وَبِذَلِكَ قَرَأَ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ، فَقِرَاءَةُ الرَّفْعِ أَنْسَبُ بِظَاهِرِ السِّيَاقِ وَقِرَاءَةُ النَّصْبِ أَنْسَبُ بِالْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ، وَبِكِلْتَا
الْقِرَاءَتَيْنِ يَحْصُلُ كِلَا الْغَرَضَيْنِ.
وَمَتَى اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي اسْتِبْطَاءِ زَمَانِ النَّصْرِ.
وَقَوْلُهُ: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ بِقَرِينَةِ افْتِتَاحِهِ بِأَلَا، وَهُوَ بِشَارَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ بِقُرْبِ النَّصْرِ بَعْدَ أَنْ حَصَلَ لَهُمْ مِنْ قَوَارِعِ صَدْرِ الْآيَةِ مَا مَلَأَ الْقُلُوبَ
وَفِي «اللِّسَانِ» : مُلْكُ اللَّهِ وَمَلَكُوتُهُ سُلْطَانُهُ وَلِفُلَانٍ مَلَكُوتُ الْعِرَاقِ، أَيْ سُلْطَانُهُ وَمِلْكُهُ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مُرَادِفٌ لِلْمُلْكِ- بِضَمِّ الْمِيمِ- وَفِي طَبْعَةِ «اللِّسَانِ» فِي بُولَاقَ رُقِّمَتْ عَلَى مِيمِ مُلْكِهِ ضَمَّةٌ.
وَفِي «الْإِتْقَانِ» عَنْ عِكْرِمَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمَلَكُوتَ كَلِمَةٌ نَبَطِيَّةٌ. فَيَظْهَرُ أَنَّ صِيغَةَ (فَعَلَوْتٍ) فِي جَمِيعِ الْمَوَارِدِ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهَا أَنَّهَا مِنَ الصِّيَغِ الدَّخِيلَةِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَأَنَّهَا فِي النَّبَطِيَّةِ دَالَّةٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، فَنَقَلَهَا الْعَرَبُ إِلَى لُغَتِهِمْ لِمَا فِيهَا مِنْ خُصُوصِيَّةِ الْقُوَّةِ.
وَيُسْتَخْلَصُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمَلَكُوتَ يُطْلَقُ مَصْدَرًا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْمُلْكِ، وَأَنَّ الْمُلْكَ (بِالضَّمِّ) لَمَّا كَانَ مِلْكًا (بِالْكَسْرِ) عَظِيمًا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَيْضًا الْمَلَكُوتُ. فَأَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ مُجَازٌ عَلَى كِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ لِأَنَّهُ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ الْمَمْلُوكُ، كَالْخَلْقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ، إِمَّا مِنَ الْمِلْكِ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- أَوْ مِنَ الْمُلْكِ- بِضَمِّهَا-.
وَإِضَافَةُ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى مَعْنَى (فِي). وَالْمَعْنَى مَا يَشْمَلُهُ الْمُلْكُ أَوِ الْمِلْكُ، وَالْمُرَادُ مُلْكُ اللَّهِ. وَالْمَعْنَى نَكْشِفُ لِإِبْرَاهِيمَ دَلَائِلَ مَخْلُوقَاتِنَا أَوْ عَظَمَةَ سُلْطَانِنَا كَشْفًا يُطْلِعُهُ عَلَى حَقَائِقِهَا وَمَعْرِفَةِ أَنْ لَا خَالِقَ وَلَا مُتَصَرِّفَ فِيمَا كَشَفْنَا لَهُ سِوَانَا.
وَعَطْفُ قَوْلِهِ: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ عَلَى قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ لِأَنَّ وَكَذلِكَ أَفَادَ كَوْنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ تَعْلِيمًا فَائِقًا. فَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ عِلَّةٌ لِأَمْرٍ مُهِمٍّ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُشَبَّهِ بِهِ.
فَالتَّقْدِيرُ: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِرَاءَ تَبْصِيرٍ وَفَهْمٍ لِيَعْلَمَ عِلْمًا عَلَى وَفْقٍ لِذَلِكَ التَّفْهِيمِ، وَهُوَ الْعِلْمُ الْكَامِلُ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ (١) الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٥٦].
وَالْمُوقِنُ هُوَ الْعَالِمُ عِلْمًا لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ، وَهُوَ الْإِيقَانُ. وَالْمُرَادُ الْإِيقَانُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ. وَقَوْلُهُ: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: وَلِيَكُونَ مُوقِنًا كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي هَذِه السُّورَة [٥٦].
[٧٦- ٧٩]
_________
(١) فِي المطبوعة: (نصرف)، وَهُوَ خطأ، والمثبت هُوَ الْمُوَافق للمصحف.
أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ إِلَّا تَعَلُّقُ شَأْن من شؤون اللَّهِ بِالْمَرْءِ وَقَلْبِهِ أَيْ جُثْمَانِهِ وَعَقْلِهِ دُونَ شَيْءٍ آخَرَ خَارِجٍ عَنْهُمَا، مِثْلَ دَعْوَةِ الْإِيمَانِ وَدَعْوَةِ الْكُفْرِ، وَأَنَّ كَلِمَةَ بَيْنَ تَقْتَضِي شَيْئَيْنِ فَمَا يَكُونُ تَحَوُّلٌ إِلَّا إِلَى أَحَدِهِمَا لَا إِلَى أَمْرٍ آخَرَ خَارِجٍ عَنْهُمَا كَالطَّبَائِعِ، فَإِنَّ ذَلِكَ تَحْويل وَلَيْسَ حؤلا.
وَجُمْلَةُ: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ عَطْفٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَالضَّمِيرُ الْوَاقِعُ اسْمُ (أَنَّ) ضَمِيرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَلَيْسَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ، وَلِإِجْرَاءِ أُسْلُوبِ
الْكَلَامِ عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ: أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ إِلَخْ.
وَتَقْدِيمُ مُتَعَلِّقِ تُحْشَرُونَ عَلَيْهِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ أَيْ: إِلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ تُحْشَرُونَ، وَهَذَا الِاخْتِصَاصُ لِلْكِنَايَةِ عَنِ انْعِدَامِ مَلْجَأٍ أَوْ مَخْبَأٍ تَلْتَجِئُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْحَشْرِ إِلَى اللَّهِ فَكَنَّى عَنِ انْتِفَاءِ الْمَكَانِ بِانْتِفَاءِ مَحْشُورٍ إِلَيْهِ غَيْرَ اللَّهِ بِأَبْدَعِ أُسْلُوبٍ، وَلَيْسَ الِاخْتِصَاصُ لِرَدِّ اعْتِقَادٍ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، فَلَا مُقْتَضَى لِقَصْرِ الْحَشْرِ عَلَى الْكَوْنِ إِلَى اللَّهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِم.
[٢٥]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٢٥]
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥)
عَقِبَ تَحْرِيضِ جَمِيعِهِمْ عَلَى الِاسْتِجَابَةِ، الْمُسْتَلْزَمِ تَحْذِيرَهُمْ مِنْ ضِدِّهَا بِتَحْذِيرِ الْمُسْتَجِيبِينَ مِنْ إِعْرَاضِ الْمُعْرِضِينَ، لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ يَلْحَقُهُمْ أَذًى مِنْ جَرَّاءِ فِعْلِ غَيْرِهِمْ إِذَا هُمْ لَمْ يُقَوِّمُوا عِوَجَ قَوْمِهِمْ، كَيْلَا يَحْسَبُوا أَنَّ امْتِثَالَهُمْ كَافٍ إِذَا عَصَى دَهْمَاؤُهُمْ، فَحَذَّرَهُمْ فِتْنَةً تَلْحَقُهُمْ فَتَعُمُّ الظَّالِمَ وَغَيْرَهُ.
فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إِنْ لَمْ يَكُونُوا كَلِمَةً وَاحِدَةً فِي الِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَبَّ بَيْنَهُمُ الِاخْتِلَافُ وَاضْطَرَبَتْ أَحْوَالُهُمْ وَاخْتَلَّ نِظَامُ جَمَاعَتِهِمْ بِاخْتِلَافِ الْآرَاءِ وَذَلِكَ الْحَالُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفِتْنَةِ.
وَحَاصِلُ مَعْنَى الْفِتْنَةِ يَرْجِعُ إِلَى اضْطِرَابِ الْآرَاءِ، وَاخْتِلَالِ السَّيْرِ، وَحُلُولِ الْخَوْفِ وَالْحَذَرِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، قَالَ تَعَالَى: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً [طه: ٤٠] وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْفِتْنَةِ فِي قَوْلِهِ: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
الْأَمْرُ بِالتَّوْحِيدِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، وَأَنَّ أَوَّلَ آيَةٍ نَزَلَتْ كَانَ فِيهَا الْأَمْرُ بِمُلَابَسَةِ اسْمِ اللَّهِ لِأَوَّلِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق: ١].
وَالْخِطَابُ فِي أَلَّا تَعْبُدُوا وَضَمَائِرُ الْخِطَابِ الَّتِي بَعْدَهُ مُوَجَّهَةٌ إِلَى الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا وَهُمْ كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ هَذَا الْكَلَامَ الْمَأْمُورَ بِإِبْلَاغِهِ إِلَيْهِمْ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [هود:
١] وَجُمْلَةِ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ [هود: ٣] الْآيَةَ، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ لِلتَّحْذِيرِ مِنْ مُخَالَفَةِ النَّهْيِ وَالتَّحْرِيضِ عَلَى امْتِثَالِهِ.
وَوُقُوعُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ عَقِبَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى الَّتِي هِيَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ مَضْمُونَهُ مِنَ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْجُمْلَةُ تَفْسِيرِيَّةً وَذَلِكَ لِأَنَّ شَأْنَ الِاعْتِرَاضِ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا لِمَا وَقَعَ بَعْدَهُ وَنَاشِئًا مِنْهُ فَإِنَّ مَضْمُونَ الْبَشِيرِ وَالنَّذِيرِ هُوَ جَامِعُ عَمَلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِسَالَتِهِ فَهُوَ بَشِيرٌ لِمَنْ آمَنَ وَأَطَاعَ، وَنَذِيرٌ لِمَنْ أَعْرَضَ وَعَصَى، وَذَلِكَ أَيْضًا جَامِعٌ لِلْأُصُولِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرِّسَالَةِ وَأَحْوَالِ الرُّسُلِ وَمَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنَ الْغَيْبِ فَانْدَرَجَ فِي ذَلِكَ الْعَقَائِدُ السَّمْعِيَّةُ، وَهَذَا عين الإحكام.
و (من) فِي قَوْلِهِ: إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ إِنِّي نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لَكُمْ جَائِيًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ النِّذَارَةِ وَالْبِشَارَةِ لِمُقَابَلَةِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الْأَوْلَى مِنْ طَلَبِ تَرْكِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ بِطَرِيقِ النَّهْيِ وَطَلَبِ عِبَادَةِ اللَّهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَالنِّذَارَةُ تَرْجِعُ إِلَى الْجُزْءِ الْأَوَّلِ، وَالْبِشَارَةُ تَرْجِعُ إِلَى الْجُزْءِ الثَّانِي
وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ أُمَّةً وَحْدَهُ فِي الدِّينِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي وَقْتِ بِعْثَتِهِ، مُوَحِّدٌ لِلَّهِ غَيْرُهُ.
فَهُوَ الَّذِي أَحْيَا اللَّهُ بِهِ التَّوْحِيدَ، وَبَثَّهُ فِي الْأُمَمِ وَالْأَقْطَارِ، وَبَنَى لَهُ مَعْلَمًا عَظِيمًا، وَهُوَ الْكَعْبَةُ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى حَجِّهِ لِإِشَاعَةِ ذِكْرِهِ بَيْنَ الْأُمَمِ، وَلَمْ يَزَلْ بَاقِيًا عَلَى الْعُصُورِ. وَهَذَا
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَطَرِ بْنِ مَالِكٍ الْكَاهِنِ: «وَأَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ»، رَوَاهُ السُّهَيْلِيُّ فِي «الرَّوْضِ الْأُنُفِ»
. وَرَأَيْتُ رِوَايَةً أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ.
وَالْقَانِتُ: الْمُطِيعُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣٨].
وَاللَّامُ لَامُ التَّقْوِيَةِ لِأَنَّ الْعَامِلَ فَرْعٌ فِي الْعَمَلِ.
وَالْحَنِيفُ: الْمُجَانِبُ لِلْبَاطِلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣٥]، وَالْأَسْمَاءُ الثَّلَاثَةِ أَخْبَارُ كانَ وَهِيَ فَضَائِلُ.
وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اعْتِرَاضٌ لِإِبْطَالِ مَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَقَدْ صَوَّرُوا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- يَسْتَقْسِمَانِ بِالْأَزْلَامِ وَوَضَعُوا الصُّورَةَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ غَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ:
وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَسُوقًا مَسَاقَ الثَّنَاءِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَلَكِنَّهُ تَنْزِيهٌ لَهُ عَمَّا اخْتَلَقَهُ عَلَيْهِ الْمُبْطِلُونَ. فَوِزَانُهُ وِزَانُ قَوْلِهِ: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [سُورَة التكوير: ٢٢]. وَهُوَ
كَالتَّأْكِيدِ لِوَصْفِ الْحَنِيفِ بِنَفْيِ ضِدِّهِ مِثْلُ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [سُورَة طه:
٧٩].
وَنُفِيَ كَوْنُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِحَرْفِ لَمْ لِأَنَّ لَمْ تَقْلِبُ زَمَنَ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ إِلَى الْمَاضِي، فَتُفِيدُ انْتِفَاءَ مَادَّةِ الْفِعْلِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَتُفِيدُ تَجَدُّدَ ذَلِكَ الْمَنْفِيِّ الَّذِي هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فَيَحْصُلُ مَعْنَيَانِ: انْتِفَاءُ مَدْلُولِ الْفِعْلِ بِمَادَّتِهِ، وَتَجَدُّدُ الِانْتِفَاءِ بِصِيغَتِهِ، فَيُفِيدُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ
بِصَاحِبِهَا، أَيْ شَبَهًا لَهُمْ، أَيْ لِلْفَرِيقَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ [النَّحْل: ٧٤]، وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ مُتَنَازَعًا فِيهِ بَيْنَ «ضَرَبَ، وَمَثَلًا».
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ يَعُودُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ، وَيَعُودُ إِلَى جَمَاعَةِ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي.
ثُمَّ إِنْ كَانَ حَالُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ الْمُمَثَّلُ بِهِ حَالًا مَعْرُوفًا فَالْكَلَامُ تَمْثِيلُ حَالٍ مَحْسُوسٍ بِحَالٍ مَحْسُوسٍ. فَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَعْنِيُّ بِالرَّجُلَيْنِ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَخَوَانِ أَحَدُهُمَا كَافِرٌ وَهُوَ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَشَدِّ- بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ- وَقِيلَ- بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ- بن عَبْدِ يَالِيلَ، وَالْآخَرُ مُسْلِمٌ وَهُوَ أَخُوهُ: أَبُو سَلَمَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْأَشَدِّ بْنِ عَبْدِ يَالِيلَ.
وَوَقَعَ فِي «الْإِصَابَةِ» : بن هِلَالٍ، وَكَانَ زَوْجَ أُمِّ سَلَمَةَ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا رَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم.
وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُفَسِّرُونَ أَيْنَ كَانَتِ الْجَنَّتَانِ، وَلَعَلَّهُمَا كَانَتَا بِالطَّائِفِ فَإِنَّ فِيهِ جَنَّاتِ أَهْلِ مَكَّةَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمَا أَخَوَانِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَاتَ أَبُوهُمَا وَتَرَكَ لَهُمَا مَالًا فَاشْتَرَى أَحَدَهُمَا أَرْضًا وَجَعَلَ فِيهَا جَنَّتَيْنِ، وَتَصَدَّقَ الْآخَرُ بِمَالِهِ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا فِي الدُّنْيَا مَا قَصَّهُ
اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَحَكَى مَصِيرَهُمَا فِي الْآخِرَةِ بِمَا حَكَاهُ اللَّهُ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [٥٠- ٥٢] فِي قَوْلِهِ: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ الْآيَاتِ.. فَتَكُونُ قِصَّتُهُمَا مَعْلُومَةً بِمَا نَزَلَ فِيهَا مِنَ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ قَبْلَ سُورَةِ الْكَهْفِ.
وَإِنْ كَانَ حَالُ الرَّجُلَيْنِ حَالًا مَفْرُوضًا كَمَا جَوَّزَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ عَطِيَّةَ فَالْكَلَامُ عَلَى كُلِّ حَالٍ تَمْثِيلُ مَحْسُوسٍ بِمَحْسُوسٍ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ مُتَصَوَّرَةٌ مُتَخَيَّلَةٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَهَذِهِ الْهَيْئَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَكَادُ الْمَرْءُ يَتَخَيَّلُ أَجْمَلَ مِنْهَا فِي مَكَاسِبِ النَّاسِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ هَذَا التَّمْثِيلُ كَالَّذِي
وَالْجَمْعُ بَيْنَ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَاسْمِهِ (الْمَلِكُ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِعْظَامَهُ وَإِجْلَالَهُ مُسْتَحِقَّانِ لِذَاتِهِ بِالِاسْمِ الْجَامِعِ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَهُوَ الدَّالُّ عَلَى انْحِصَارِ الْإِلَهِيَّةِ وَكَمَالِهَا.
ثُمَّ أُتْبِعَ بِ (الْحَقُّ) لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِهِ وَاضِحَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مُلْكَهُ مُلْكُ حَقٍّ لَا تَصَرُّفَ فِيهِ إِلَّا بِمَا هُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ.
وَالْحَقُّ: الَّذِي لَيْسَ فِي مُلْكِهِ شَائِبَةُ عَجْزٍ وَلَا خُضُوعٍ لِغَيْرِهِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مُلْكَ غَيْرِهِ زَائِفٌ.
وَفِي تَفْرِيعِ ذَلِكَ عَلَى إِنْزَالِ الْقُرْآنِ إِشَارَةٌ أَيْضًا إِلَى أَنَّ الْقُرْآنَ قَانُونُ ذَلِكَ الْمَلِكِ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ السِّيَاسَةُ الْكَامِلَةُ الضَّامِنَةُ صَلَاحَ أَحْوَالِ مُتَّبِعِيهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَجُمْلَةُ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ نَاشِئَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ تَصَارِيفِ إِصْلَاحِ النَّاسِ. فَلَمَّا كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرِيصًا عَلَى صَلَاحِ الْأُمَّةِ شَدِيدَ الِاهْتِمَامِ بِنَجَاتِهِمْ لَا جَرَمَ خَطَرَتْ بِقَلْبِهِ الشَّرِيفِ عَقِبَ سَمَاعِ تِلْكَ الْآيَاتِ رَغْبَةٌ أَوْ طِلْبَةٌ فِي الْإِكْثَارِ مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَفِي التَّعْجِيلِ بِهِ إِسْرَاعًا بِعِظَةِ النَّاسِ وَصَلَاحِهِمْ، فَعَلَّمَهُ اللَّهُ أَنْ يَكِلَ الْأَمْرَ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِحَيْثُ يُنَاسِبُ حَالَ الْأُمَّةِ الْعَامَّ.
وَمَعْنَى مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتِمَّ وَحْيُ مَا قُضِيَ وَحْيُهُ إِلَيْكَ، أَيْ مَا نُفِّذَ إِنْزَالُهُ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُنَاسِبُ. فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ سُؤَالُ التَّعْجِيلِ أَوِ الرَّغْبَةُ الشَّدِيدَةُ فِي النَّفْسِ الَّتِي تُشْبِهُ الِاسْتِبْطَاءَ لَا مُطْلَقُ مَوَدَّةِ الِازْدِيَادِ، فَقَدْ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ قِصَّةِ مُوسَى مَعَ الْخضر- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- «وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا أَوْ مِنْ خَبَرِهِمَا»
وَقَوْلُهُ: وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ تَتْمِيمٌ لِإِظْهَارِ صَلَاحِيَّةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ [آلِ عِمْرَانَ: ٢٧] تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ.
وَعَطْفُ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ عَلَى السَّبَبِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ بِالْأَحْوَالِ كُلِّهَا فَهُوَ يَنْصُرُ مَنْ يَنْصُرُهُ بِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَيَعِدُ بِالنَّصْرِ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ نَاصِرُهُ لَا مَحَالَةَ، فَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا عَن حِكْمَة.
[٦٢]
[سُورَة الْحَج (٢٢) : آيَة ٦٢]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢)
اسْمُ الْإِشَارَةِ هُنَا تَكْرِيرٌ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ الَّذِي سَبَقَهُ وَلِذَلِكَ لَمْ يُعْطَفْ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُ بِسَبَبٍ آخَرَ لِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّبُّ الْحَقُّ الَّذِي إِذَا أَرَادَ فَعَلَ وَقَدَّرَ فَهُوَ يَنْصُرُ أَوْلِيَاءَهُ وَأَنَّ مَا يَدْعُوهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هُوَ الْبَاطِلُ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ. وَهَذَا عَلَى حَمْلِ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ عَلَى مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ، وَهُوَ مَحْمِلُ الْمُفَسِّرِينَ. وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ لُقْمَانَ فِي نَظِيرِهَا: أَنَّ الْأَظْهَرَ حَمْلُ الْبَاءِ عَلَى الْمُلَابَسَةِ لِيَلْتَئِمَ عَطْفُ وَأَنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ.
وَالْحَقُّ: الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ، أَيِ الصِّدْقُ، مَأْخُوذٌ مِنْ حَقَّ الشَّيْءُ إِذَا ثَبَتَ: وَالْمَعْنَى:
أَنَّهُ الْحَقُّ فِي الْإِلَهِيَّةِ، فَالْقَصْرُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ضَمِيرِ الْفَصْلِ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ.
وَأَمَّا الْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ وَأَنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ضَمِيرِ الْفَصْلِ فَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِبَاطِلٍ غَيْرِهَا حَتَّى كَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْبَاطِلِ. وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي تَحْقِيرِ أَصْنَامِهِمْ لِأَنَّ
الْعِزَّةِ، وَالْعِزَّةُ مِنْ مَحَاسِنِ الْأَلْفَاظِ وَضِدُّهَا الِابْتِذَالُ.
وَتَبَارَكَ: تَعَاظَمَ خَيْرُهُ وَتَوَفَّرَ، وَالْمُرَادُ بِخَيْرِهِ كَمَالَاتُهُ وَتَنَزُّهَاتُهُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٤].
وَالْبَرَكَةُ: الْخَيْرُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ فِي سُورَةِ هُودٍ [٤٨] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً فِي سُورَةِ النُّورِ [٦١].
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ عَظَمَةِ اللَّهِ وَتَوَفُّرِ كَمَالَاتِهِ فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ بِهِ التَّعْلِيمُ وَالْإِيقَاظُ، وَيَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ إِنْشَاءِ ثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْشَأَ اللَّهُ بِهِ ثَنَاءً عَلَى نَفْسِهِ كَقَوْلِهِ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاء: ١] عَلَى طَرِيقَةِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ فِي إِنْشَاءِ التَّعَجُّبِ مِنْ صِفَاتِ الْمُتَكَلِّمِ فِي مَقَامِ الْفَخْرِ وَالْعَظَمَةِ، أَو إِظْهَار غرايب صَدَرَتْ، كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَيَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَى مَطِيَّتِي | فِيَا عَجَبًا مِنْ كَوْرِهَا الْمُتَحَمِّلِ |
أَيَا طَعْنَةَ مَا شَيْخٍ | كَبِيرٍ يَفَنٍ بَالِي |
وَالَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذْ قَدْ كَانَتِ الصِّلَةُ مِنْ خَصَائِصِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ الْفِعْلُ كَالْمُسْنَدِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: تَبَارَكت.
والموصول يومىء إِلَى عِلَّةِ مَا قَبْلَهُ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ الْفُرْقَانِ وَبَرَكَتِهِ عَلَى النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً. فَتِلْكَ مِنَّةٌ عَظِيمَةٌ تُوجِبُ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ. وَهُوَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ السَّلَام.
وَالتَّعْرِيفُ بِالْمَوْصُولِ هُنَا لِكَوْنِ الصِّلَةِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَعِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كَانَ الْكُفَّارُ يُنْكِرُونَهَا لَكِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّ الرَّسُولَ أَعْلَنَهَا فَاللَّهُ مَعْرُوفٌ بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ مَعْرِفَةً بِالْوَجْهِ لَا بِالْكُنْهِ الَّذِي يُنْكِرُونَهُ.
وَ (تَعالَيْنَ) : اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ بِمَعْنَى: أَقْبِلْنَ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ تَمْثِيلًا لِحَالِ تَهَيُّؤِ الْأَزْوَاجِ لِأَخْذِ التَّمْتِيعِ وَسَمَاعِ التَّسْرِيحِ بِحَالِ مَنْ يَحْضُرُ إِلَى مَكَانِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ عَلَى (تَعَالَ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٦١].
وَالتَّمْتِيعُ: أَنْ يُعْطِيَ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ حِينَ يُطَلِّقُهَا عَطِيَّةً جَبْرًا لِخَاطِرِهَا لِمَا يَعْرِضُ لَهَا مِنَ الِانْكِسَارِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا مُفَصَّلًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣٦]. وَجُزِمَ أُمَتِّعْكُنَّ فِي جَوَاب فَتَعالَيْنَ وَهُوَ اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ وَلَيْسَ أَمْرًا صَرِيحًا فَجَزْمُ جَوَابِهِ غَيْرُ وَاجِبٍ فَجِيءَ بِهِ مَجْزُومًا لِيَكُونَ فِيهِ مَعْنَى الْجَزَاءِ فَيُفِيدَ حُصُولَ التَّمْتِيعِ بِمُجَرَّدِ إِرَادَةِ إِحْدَاهُنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا.
وَالسَّرَاحُ: الطَّلَاقُ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِيَغِهِ، قَالَ تَعَالَى: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [الْبَقَرَة: ٢٣١].
وَالْجَمِيلُ: الْحَسَنُ حُسْنًا بِمَعْنَى الْقَبُولِ عِنْدَ النَّفْسِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ دُونَ غَضَبٍ وَلَا كَرَاهِيَةٍ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ مُرَاعًى فِيهِ اجْتِنَابُ تَكْلِيفِ الزَّوْجَةِ مَا يَشُقُّ عَلَيْهَا. وَلَيْسَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ مِنْ قَبِيلِ التَّخْيِيرِ وَالتَّمْلِيكِ اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ إِلَى الزَّوْجَةِ، وَإِنَّمَا هَذَا تَخْيِيرُ الْمَرْأَةِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يَكُونُ اخْتِيَارُهَا أَحَدَهُمَا دَاعِيًا زَوْجَهَا لِأَنْ يُطَلِّقَهَا إِنْ أَرَادَ ذَلِكَ.
وَمَعْنَى وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُنَّ تُؤْثِرْنَ اللَّهَ عَلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، أَيْ:
تُؤْثِرْنَ رِضَى اللَّهِ لِمَا يُرِيدُهُ لِرَسُولِهِ، فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. وَإِرْضَاءُ اللَّهِ: فِعْلُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَقَرَّبُ إِلَيْهِ، فَتَعْدِيَةُ فِعْلِ تُرِدْنَ إِلَى اسْمِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى تَقْدِيرٍ تَقْتَضِيهِ صِحَّةُ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِاسْمِ ذَاتٍ لِأَنَّ الذَّاتَ لَا تُرَادُ حَقِيقَةً فَوَجَبَ تَقْدِيرُ مُضَافٍ وَلَزِمَ أَنْ يُقَدَّرَ عَامًّا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَإِرَادَةُ رِضَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرٍ، أَيْ: كُلَّ مَا يُرْضِي الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنْ يَبْقَيْنَ فِي عِشْرَتِهِ طَيِّبَاتِ الْأَنْفُسِ.
الْمَاضِي بِتَحْقِيقِ الْوُقُوعِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ فِي قَوْله: يَدْخُلُونَها [فاطر: ٣٣].
وَتِلْكَ الْمَقَالَةُ مُقَارِنَةٌ لِلتَّحْلِيَةِ وَاللِّبَاسِ، وَهُوَ كَلَامٌ يَجْرِي بَيْنَهُمْ سَاعَتَئِذٍ لِإِنْشَاءِ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ عَلَى مَا خَوَّلَهُمْ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْكَرَامَةِ.
وَإِذْهَابُ الْحَزَنِ مَجَازٌ فِي الْإِنْجَاءِ مِنْهُ فَتَصْدُقُ بِإِزَالَتِهِ بَعْدَ حُصُولِهِ وَيَصْدُقُ بِعَدَمِ حُصُولِهِ.
والْحَزَنَ الْأَسَفُ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ لَمَّا أُعْطَوْا مَا أُعْطَوْهُ زَالَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ قَبْلُ مِنْ هَوْلِ الْمَوْقِفِ وَمِنْ خَشْيَةِ الْعِقَابِ بِالنِّسْبَةِ لِلسَّابِقِينَ وَالْمُقْتَصِدِينَ وَمِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنْ عِقَابٍ بِالنِّسْبَةِ لِظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ اسْتِئْنَافُ ثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ شَكَرُوا بِهِ نِعْمَةَ السَّلَامَةِ أَثْنَوْا عَلَيْهِ بِالْمَغْفِرَةِ لِمَا تَجَاوَزَ عَمَّا اقْتَرَفُوهُ مِنَ اللَّمَمِ وَحَدِيثِ الْأَنْفُسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُقْتَصِدِينَ وَالسَّابِقِينَ، وَلِمَا تَجَاوَزَ عَنْهُ مِنْ تَطْوِيلِ الْعَذَابِ وَقَبُولِ الشَّفَاعَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمُخْتَلَفِ أَحْوَالِ الظَّالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَثْنَوْا عَلَى اللَّهِ بِأَنَّهُ شَكُورٌ لِمَا رَأَوْا مِنْ إِفَاضَتِهِ الْخَيْرَاتِ عَلَيْهِمْ وَمُضَاعَفَةِ الْحَسَنَاتِ مِمَّا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ صَالِحَاتِ أَعْمَالِهِمْ. وَهَذَا عَلَى نَحْوِ
مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر: ٣٠].
والْمُقامَةِ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنْ أَقَامَ بِالْمَكَانِ إِذَا قَطَنَهُ. وَالْمُرَادُ: دَارُ الْخُلُودِ. وَانْتَصَبَ دارَ الْمُقامَةِ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِ أَحَلَّنا أَيْ أَسْكَنَنَا.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ فَضْلِهِ ابْتِدَائِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ دارَ الْمُقامَةِ.
وَالْفَضْلُ: الْعَطَاءُ، وَهُوَ أَخُو التَّفَضُّلِ فِي أَنَّهُ عَطَاءٌ مِنْهُ وَكَرَمٌ.
وَمِنْ فَضْلِ اللَّهِ أَنْ جَعَلَ لَهُمُ الْجَنَّةَ جَزَاءً عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَمَا جَعَلَ لِلصَّالِحَاتِ عَطَاءً وَلَكَانَ جَزَاؤُهَا مُجَرَّدَ السَّلَامَةِ مِنَ الْعِقَابِ، وَكَانَ أَمْرُ مَنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ كِفَافًا، أَيْ لَا عِقَابَ وَلَا ثَوَابَ فَيَبْقَى كَالسَّوَائِمِ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا مِنْ هَذَا تَمَامَ الشُّكْرِ وَالْمُبَالَغَةَ فِي التَّأَدُّبِ.
وَجُمْلَةُ لَا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ حَالٌ ثَانِيَةٌ.
وَهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِنْزَالَ الْكِتَابِ عَلَيْهِ نِعْمَةٌ كُبْرَى تَقْتَضِي أَنْ يُقَابِلَهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّكْرِ بِإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِشْرَاكَ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ كُفْرٌ لِنِعَمِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا، فَإِنَّ الشُّكْرَ صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ فِيمَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ، وَفِي الْعِبَادَةِ تَحْقِيقُ هَذَا الْمَعْنى قَالَ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:
٥٦].
فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ التَّوْطِئَةُ إِلَى تَقْيِيدِ الْعِبَادَةِ بِحَالَةِ الْإِخْلَاصِ مِنْ قَوْلِهِ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، فَالْمَأْمُورُ بِهِ عِبَادَةٌ خَاصَّةٌ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الْأَمْرِ بِالدَّوَامِ عَلَيْهَا. وَلِذَلِكَ أَيْضًا لَمْ يُؤْتَ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ بِصِيغَةِ قَصْرٍ خِلَافَ قَوْلِهِ: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ [الزمر: ٦٦] لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا زِيَادَةُ التَّصْرِيحِ بِالْإِخْلَاصِ وَالرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ. وَقَدْ تَوَهَّمَ ابْنُ الْحَاجِبِ مِنْ عَدَمِ تَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ هُنَا أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ لَا يُفِيدُ الْقَصْرَ وَهِيَ زَلَّةُ عَالِمٍ.
وَالْإِخْلَاصُ: الْإِمْحَاضُ وَعَدَمُ الشَّوْبِ بِمُغَايِرٍ، وَهُوَ يَشْمَلُ الْإِفْرَادَ. وَسُمِّيَتِ السُّورَةُ الَّتِي فِيهَا تَوْحِيدُ اللَّهِ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ، أَيْ إِفْرَادِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَأُوثِرَ الْإِخْلَاصُ هُنَا لِإِفَادَةِ التَّوْحِيدِ وَأَخَصِّ مِنْهُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ عِبَادَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ غَيْرَ مَشُوبَةٍ بِحَظٍّ دُنْيَوِيٍّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [ص: ٨٦].
وَالدِّينُ: الْمُعَامَلَةُ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مُعَامَلَةُ الْمَخْلُوقِ رَبَّهُ وَهِيَ عِبَادَتُهُ. فَالْمَعْنَى:
مُخْلِصًا لَهُ الْعِبَادَةَ غَيْرَ خَالِطٍ بِعِبَادَتِهِ عِبَادَةَ غَيْرِهِ. وَانْتُصِبَ مُخْلِصاً عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتر فِي فَاعْبُدِ.
وَلَمَّا أَفَادَ قَوْلُهُ: مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ مَعْنَى إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ لَمْ يَكُنْ هُنَا مُقْتَضٍ لتقديم مفعول فَاعْبُدِ اللَّهَ عَلَى عَامِلِهِ لِأَنَّ الِاخْتِصَاصَ قَدِ اسْتُفِيدَ مِنَ الْحَالِ فِي قَوْلِهِ: مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، وَبِذَلِكَ يَبْطُلُ اسْتِنَادُ الشَّيْخِ ابْنِ الْحَاجِبِ لِهَذِهِ الْآيَةِ فِي تَوْجِيهِ رَأْيِهِ بِأَنْكَارِ إِفَادَةِ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ عَلَى فِعْلِهِ التَّخْصِيصَ، وَتَضْعِيفِهِ لِاسْتِدْلَالِ أَيِمَّةِ الْمَعَانِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ آخِرَ السُّورَةِ [٦٦] بِأَنَّهُ تَقْدِيمٌ لِمُجَرَّدِ
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ خَبَرًا ثَانِيًا عَنْ ضَمِيرِ الذِّكْرِ، أَيِ الْقُرْآنِ، فَتَكُونُ مِنْ مَقُولِ الْقَوْلِ وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى.
وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِ وَقْرٌ وعَمًى تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ بِهِ مَعَ سَمَاعِ أَلْفَاظِهِ، وَالْوَقْرُ: دَاءٌ فَمُقَابَلَتُهُ بِالشِّفَاءِ مِنْ مُحَسِّنِ الطِّبَاقِ.
وَضَمِيرُ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى يَتَبَادَرُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الذِّكْرِ أَوِ الْكِتَابِ كَمَا عَادَ ضَمِيرُ
هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً. وَالْعَمَى: عَدَمُ الْبَصَرِ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِضِدِّ الِاهْتِدَاءِ فَمُقَابَلَتُهُ بِالْهُدَى فِيهَا مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ.
وَالْإِسْنَادُ إِلَى الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي مُعَادِ الضَّمِيرِ بِأَنَّهُ عَلَيْهِمْ عَمًى مِنَ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ لِأَنَّ عِنَادَهُمْ فِي قَبُولِهِ كَانَ سَبَبًا لِضَلَالِهِمْ فَكَانَ الْقُرْآنُ سَبَبَ سَبَبٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَة: ١٢٥].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ وَهُوَ ضَمِيرَ شَأْنٍ تَنْبِيهًا عَلَى فَظَاعَةِ ضَلَالِهِمْ. وَجُمْلَةُ عَلَيْهِمْ عَمًى خَبَرَ ضَمِيرِ الشَّأْنِ، أَيْ وَأَعْظَمُ مِنَ الْوَقْرِ أَنَّ عَلَيْهِمْ عَمًى، أَيْ عَلَى أَبْصَارِهِمْ عَمًى كَقَوْلِهِ: وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [الْبَقَرَة: ٧].
وَإِنَّمَا عَلَّقَ الْعَمَى بِالْكَوْنِ عَلَى ذَوَاتِهِمْ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَمًى مُجَازِيًا تَعَيَّنَ أَنَّ مُصِيبَتَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ كُلِّهَا لَا عَلَى أَبْصَارِهِمْ خَاصَّةً فَإِنَّ عَمَى الْبَصَائِرِ أَشَدُّ ضُرًّا مِنْ عَمَى الْأَبْصَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الْحَج:
٤٦].
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ خَبَرٌ ثَالِثٌ عَنِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ.
وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الدَّعْوَةِ عِنْدَ سَمَاعِهَا بِحَالِ مَنْ يُنَادَى مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ لَا يَبْلُغُ إِلَيْهِ فِي مِثْلِهِ صَوْتُ الْمُنَادِي عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧١]. وَتَقُولُ الْعَرَبُ لِمَنْ لَا يَفْهَمُ: أَنْتَ تُنَادَى مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. وَالْإِشَارَةُ بِ أُولئِكَ إِلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ لِقَصْدِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ
اقْتَضَاهَا تَرْوِيعُ الْأَثِيمِ حِينَ سَمِعَهَا، فَلَمَّا كَانَ الْمَحْكِيُّ هُنَا الْقَوْلَ الَّذِي يَسْمَعُهُ الْأَثِيمُ صِيغَ بِطَرِيقَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ تَهْوِيلًا، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ [الْحَج: ١٩] الَّذِي هُوَ إِخْبَارٌ عَنْهُمْ فِي زَمَنٍ هُمْ غَيْرُ سَامِعِيهِ فَلَمْ يُؤْتَ بِمِثْلِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ إِذْ لَا مُقْتَضَى لَهَا.
وَجُمْلَةُ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ مَقُولُ قَوْلٍ آخَرَ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: قُولُوا لَهُ أَوْ يُقَالُ لَهُ.
وَالذَّوْقُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِحْسَاسِ وَصِيغَةُ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِهَانَةِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ بِعَلَاقَةِ الضِّدِّيَّةِ.
وَالْمَقْصُودُ عَكْسُ مَدْلُولِهِ، أَيْ أَنْتَ الذَّلِيلُ الْمُهَانُ، وَالتَّأْكِيدُ لِلْمَعْنَى التَّهَكُّمِيِّ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنَّكَ. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ بِفَتْحِهَا عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ وَضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ الْمُنْفَصِلِ فِي قَوْلِهِ: أَنْتَ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ فِي إِنَّكَ وَلَا يُؤَكَّدُ ضَمِيرُ النَّصْبِ الْمُتَّصِلِ إِلَّا بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُنْفَصِلٍ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ بَقِيَّةُ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ، أَيْ وَيُقَالُ لِلْآثِمِينَ جَمِيعًا: إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ فِي الدُّنْيَا. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْدِيمِ وَالتَّوْبِيخِ وَاسْمُ
الْإِشَارَةِ مُشَارٌ بِهِ إِلَى الْحَالَةِ الْحَاضِرَةِ لَدَيْهِمْ، أَيْ هَذَا الْعَذَابُ وَالْجَزَاءُ هُوَ مَا كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا.
وَالِامْتِرَاءُ: الشَّكُّ، وَأَطْلَقَ الامتراء على جزيتهم بِنَفْيِ يَقِينِهِمْ بِانْتِفَاءِ الْبَعْثِ لِأَنَّ يَقِينَهُمْ لَمَّا كَانَ خَلِيًّا عَنْ دَلَائِلِ الْعِلْمِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الشَّكِّ، أَيْ أَنَّ الْبَعْثَ هُوَ بِحَيْثُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَنَ بِنَفْيِهِ عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: ٢].
[٥١- ٥٣]
[سُورَة الدُّخان (٤٤) : الْآيَات ٥١ إِلَى ٥٣]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ انْتَقَلَ بِهِ الْكَلَامُ مِنْ وَصْفِ عَذَابِ الْأَثِيمِ إِلَى وَصْفِ نَعِيمِ الْمُتَّقِينَ لِمُنَاسَبَةِ التَّضَادِّ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ الْوَعِيدِ بِالْوَعْدِ وَالْعَكْسُ.
وَالتَّقْدِيمُ: جَعْلُ الشَّيْءِ قُدَّامَ غَيْرِهِ.
وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: كَوْنُهُ سَابِقًا عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِالشِّرْكِ لِأَنَّ اللَّهَ تَوَعَّدَهُمْ بِوَاسِطَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ الْمُكَنَّى عَنْهُ بُيِّنَ بِجُمْلَةِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، أَيْ لَسْتُ مُبْطِلًا ذَلِكَ الْوَعِيدَ، وَهُوَ الْقَوْلُ، إِذِ الْوَعِيدُ مِنْ نَوْعِ الْقَوْلِ، وَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ، أَيْ فَمَا أَوْعَدْتُكُمْ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَهَّدَ أَنْ لَا يَغْفِرَ لِمَنْ يُشْرِكُ بِهِ وَيَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ.
وَالْمَعْنَى الثَّانِي الْمُكَنَّى عَنْهُ بُيِّنَ بِجُمْلَةِ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، أَيْ فَلِذَلِكَ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمُ الْوَعِيدَ.
وَالْمُبَالَغَةُ الَّتِي فِي وصف بِظَلَّامٍ رَاجِعَةٌ إِلَى تَأْكِيدِ النَّفْيِ. وَالْمُرَادُ: لَا أَظْلِمُ شَيْئًا مِنَ الظُّلْمِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى: مَا أَنَا بِشَدِيدِ الظُّلْمِ كَمَا قَدْ يُسْتَفَادُ مِنْ تَوَجُّهِ النَّفْيِ إِلَى الْمُقَيَّدِ يُفِيدُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى الْقَيْدِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَغْلَبِيٌّ. وَالْأَكْثَرُ فِي نَفْيِ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ أَنْ يُقْصَدَ بِالْمُبَالَغَةِ مُبَالَغَةُ النَّفْيِ، قَالَ طَرَفَةُ:
وَلَسْتُ بِحَلَّالِ التِّلَاعِ مَخَافَةً | وَلَكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ الْقَوْمُ أَرْفِدِ |
وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» تَوَجُّهَ نَفْيِ الشَّيْءِ الْمُقَيَّدِ إِلَى خُصُوصِ الْقَيْدِ كَتَوَجُّهِ الْإِثْبَاتِ سَوَاءً، وَلَكِن كَلَام التفتازانيّ فِي كِتَابِ «الْمَقَاصِدِ فِي أُصُولِ الدِّينِ» فِي مَبْحَثِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَشَارَ إِلَى اسْتِعْمَالَيْنِ فِي ذَلِكَ، فَالْأَكْثَرُ أَنَّ النَّفْيَ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْقَيْدِ فَيَكُونُ الْمَنْفِيُّ الْقَيْدَ، وَقَدْ يُعْتَبَرُ الْقَيْدُ قَيْدًا لِلنَّفْيِ وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ. عَلَى أَنِّي أَرَى أَنَّ عَدَّ مِثْلِ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي عِدَادِ الْقُيُودِ مَحَلَّ نَظَرٍ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ مِنَ الْقُيُودِ هُوَ مَا كَانَ لَفْظًا زَائِدًا عَلَى اللَّفْظِ الْمَنْفِيِّ مِنْ صِفَةٍ أَوْ حَالٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: لَسْتُ ظَلَّامًا، وَلَكِنْ أَظْلِمُ، وَيَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لَا آتِيكَ مُحَارِبًا وَلَكِنْ مُسَالِمًا.
وَقَدْ أَشَارَ فِي «الْكَشَّافِ» إِلَى أَنَّ إِيثَار وصف بِظَلَّامٍ هُنَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الْحُكْمِ وَتَحْقِيقِهِ، وَالتَّحْقِيقُ رَاجِعٌ إِلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ التَّرْكِيبُ مِنْ فِعْلِ قَدَّرْنا وَظَرْفُ بَيْنَكُمُ فِي دَلَالَتِهِمَا عَلَى مَا فِي خَلْقِ الْمَوْتِ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قَدَّرْنا بِتَشْدِيدِ الدَّالِّ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِالتَّخْفِيفِ وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَالتَّشْدِيدُ مَصْدَرُهُ التَّقْدِيرُ، وَالتَّخْفِيفُ مَصْدَرُهُ الْقَدْرُ.
وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (٦١).
هَذَا نَتِيجَةٌ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْاِسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَعْطِفَ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ وَيَتْرُكَ عَطْفَهُ فَعَدَلَ عَنِ الْأَمْرَيْنِ، وَعَطَفَ بِالْوَاوِ عَطْفَ الْجُمَلِ فَيَكُونُ جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً مَقْصُودًا لِذَاتِهِ لِأَنَّ مَضْمُونَهُ يُفِيدُ النَّتِيجَةَ، وَيُفِيدُ تَعْلِيمًا اعْتِقَادِيًّا، فَيَحْصُلُ الْإِعْلَامُ بِهِ تَصْرِيحًا وَتَعْرِيضًا، فَالصَّرِيحُ مِنْهُ التَّذْكِيرُ بِتَمَامِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ وَلَا تَضِيقُ قُدْرَتُهُ عَنْ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ يُبَدِّلُهُمْ خَلْقًا آخَرَ فِي الْبَعْثِ مُمَاثِلًا لِخَلْقِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَيُفِيدُ تَعْرِيضًا بِالتَّهْدِيدِ بِاسْتِئْصَالِهِمْ وَتَعْوِيضِهِمْ بِأُمَّةٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [إِبْرَاهِيم: ١٩، ٢٠] وَلَوْ جِيءَ بِالْفَاءِ لَضَاقَتْ دلَالَة الْكَلَام عَن الْمَعْنَيَيْنِ الْآخَرَيْنِ.
وَالسَّبْقُ: مَجَازٌ مِنَ الْغَلَبَةِ وَالتَّعْجِيزِ لِأَنَّ السَّبْقَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ السَّابِقَ غَالِبٌ لِلْمَسْبُوقِ، فَالْمَعْنَى: وَمَا نَحْنُ بِمَغْلُوبِينَ، قَالَ الْفَقْعَسِيُّ مُرَّةُ بْنُ عَدَّاءٍ:
كَأَنَّكَ لَمْ تُسْبَقْ مِنَ الدَّهْرِ مَرَّةً | إِذَا أَنْتَ أَدْرَكْتَ الَّذِي كُنْتَ تَطْلُبُ |
بِمَسْبُوقِينَ لِأَنَّهُ يُقَالُ: غَلَبَهُ عَلَى كَذَا، إِذَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَوَالِهِ، وَأَصْلُهُ: غَلَبَهُ عَلَى كَذَا، أَيْ تَمَكَّنَ مِنْ كَذَا دُونَهُ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ [يُوسُف: ٢١]. وَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: أَمْثالَكُمْ.
اخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِ هَذَا السِّنِّ بِعَدَدِ السِّنِينَ فَقِيلَ: سِتُّونَ سَنَةً، وَقِيلَ: خَمْسٌ وَخَمْسُونَ، وَتَرْكُ الضَّبْطِ بِالسِّنِينَ أَوْلَى وَإِنَّمَا هَذَا تَقْرِيبٌ لِإِبَانِ الْيَأْسِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ بَيِّنٌ وَهِيَ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٨]. وَقَدْ نَزَلَتْ سُورَةُ الطَّلَاقِ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَقَدْ خُفِيَ مَفَادُ الشَّرْطِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنِ ارْتَبْتُمْ وَمَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ. وَجُمْهُورُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ جَعَلُوا هَذَا الشَّرْطَ مُتَّصِلًا بِالْكَلَامِ الَّذِي وَقَعَ هُوَ فِي أَثْنَائِهِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ:
لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطَّلَاق: ١] فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ خِلَافًا لِشُذُوذِ تَأْوِيلٍ بَعِيدٍ وَتَشْتِيتٍ لِشَمْلِ الْكَلَامِ، ثُمَّ خُفِيَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ بِقَوْلِهِ: إِنِ ارْتَبْتُمْ.
وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ طَرِيقَتَانِ:
الطَّرِيقَةُ الْأُولَى: مَشَى أَصْحَابُهَا إِلَى أَنَّ مَرْجِعَ الْيَأْسِ غَيْرُ مَرْجِعِ الِارْتِيَابِ بِاخْتِلَافِ
الْمُتَعَلِّقِ، فَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ عِدَّةَ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ وَذَوَاتِ الْحَمْلِ، أَيْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَبَقِيَتِ الْيَائِسَةُ وَالَّتِي لَمْ تَحِضِ ارْتَابَ أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِهِمَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَمِثْلُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ،
وَرَوَى الطَّبَرِيُّ خَبَرًا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اعْتِدَادِ هَاتَيْنِ اللَّتَيْنِ لَمْ تُذْكَرَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
. فَجَعَلُوا حَرْفَ إِنِ بِمَعْنَى (إِذْ) وَأَنَّ الِارْتِيَابَ وَقَعَ فِي حُكْمِ الْعِدَّةِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، أَيْ إِذِ ارْتَبْتُمْ فِي حُكْمِ ذَلِكَ فَبَيَّنَّاهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: حَدِيثُ أُبَيٍّ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَأَنَا أَقُولُ: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «سُنَنِهِ» وَالْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ» وَصَحَّحَهُ. وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَالِمٍ أَنَّ أُبَيًّا قَالَ: وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى إِسْنَادِ الْحَدِيثِ.
وَهُوَ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي عُثْمَانَ عُمَرَ بْنِ سَالِمٍ الْأَنْصَارِيِّ (١) عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ أَبَا عُثْمَانَ لَمْ يَلْقَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَأَحْسَبُ أَنَّهُ فِي
_________
(١) هُوَ قَاضِي مرو، وروى عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد.
قَالَ: وَبِمَ غُلِبُوا قَالَ: سَأَلَهُمْ يَهُودُ: هَل يعلم نبيئكم عَدَدَ خَزَنَةِ النَّارِ، قَالَ: فَمَا قَالُوا؟ قَالَ: قَالُوا لَا نَدْرِي حَتَّى نسْأَل نبيئنا، قَالَ: أَفَغُلِبَ قَوْمٌ سُئِلُوا عَمَّا لَا يَعْلَمُونَ؟ فَقَالُوا: لَا نَعْلَمُ حَتَّى نسْأَل نبيئنا إِلَى أَنْ قَالَ جَابِرٌ: فَلَمَّا جَاءُوا قَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ كَمْ عَدَدُ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ؟ قَالَ. هَكَذَا وَهَكَذَا فِي مَرَّةٍ عَشَرَةً وَفِي مَرَّةٍ عَشَرَةً وَفِي مرّة تسع (بِإِشَارَةِ الْأَصَابِعِ) قَالُوا: نَعَمْ
إِلَخْ. وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يلجىء إِلَى اعْتِبَارِ هَذِهِ الْآيَةِ نَازِلَةً بِالْمَدِينَةِ كَمَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ لِأَنَّ الْمُرَاجَعَةَ بَيْنَ
الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ فِي أَخْبَارِ الْقُرْآنِ مَأْلُوفَةٌ مِنْ وَقْتِ كَوْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَّةَ.
قَالَ أَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» : حَدِيثُ جَابِرٍ صَحِيحٌ وَالْآيَةُ الَّتِي فِيهَا عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: ٣٠] مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ، فَكَيْفَ تَقُولُ الْيَهُودُ هَذَا وَيَدْعُوهُمُ النَّبِيءُ لِلْجَوَابِ وَذَلِكَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَالُوا: لَا نَعْلَمُ، لِأَنَّهُمْ لم يَكُونُوا قرأوا الْآيَةَ وَلَا كَانَتِ انْتَشَرَتْ عِنْدَهُمْ (أَيْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنَ الْأَنْصَارِ الَّذِينَ لَمْ يَتَلَقَّوْا هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ لِبُعْدِ عَهْدِ نُزُولِهَا بِمَكَّةَ وَكَانَ الَّذِينَ يَجْتَمِعُونَ بِالْيَهُودِ وَيَسْأَلُهُمُ الْيَهُودُ هُمُ الْأَنْصَارُ.
قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يُعَيِّنُوا أَنَّ التِّسْعَةَ عَشَرَ هُمُ الْخَزَنَةُ دُونَ أَنْ يُعَيِّنَهُمُ اللَّهُ حَتَّى صَرَّحَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهـ. فَقَدْ ظَهَرَ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بَعْدَ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ نُزُولِهِ.
وَمَعْنَى وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ فِي جُمْلَةِ مَا يُؤْمِنُونَ بِهِ مِنَ الْغَيْبِ فَيَزْدَادُ فِي عُقُولِهِمْ جُزْئِيٌّ فِي جُزْئِيَّاتِ حَقِيقَةِ إِيمَانِهِمْ بِالْغَيْبِ، فَهِيَ زِيَادَةٌ كَمِّيَّةٌ لَا كَيْفِيَّةٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ وَالْجَزْمُ وَذَلِكَ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ، وَبِمِثْلِ هَذَا يَكُونُ تَأْوِيلُ كُلِّ مَا وَرَدَ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ مِنْ أَقْوَالِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ سَلَفِ الْأُمَّةِ.
وَقَوْلُهُ: وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ عَطْفٌ عَلَى لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، أَيْ لِيَنْتَفِيَ عَنْهُمُ الرَّيْبُ فَلَا تَعْتَوِرُهُمْ شُبْهَةٌ مِنْ بَعْدِ عِلْمِهِ لِأَنَّهُ إِيقَانٌ عَنْ دَلِيلٍ. وَإِنْ كَانَ الْفَرِيقَانِ فِي الْعَمَلِ بِعِلْمِهِمْ مُتَفَاوِتَيْنِ، فَالْمُؤْمِنُونَ عَلِمُوا وَعَمِلُوا، وَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ عَلِمُوا وَعَانَدُوا فَكَانَ عِلْمُهُمْ حَجَّةً عَلَيْهِمْ وَحَسْرَةً فِي نُفُوسِهِمْ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِ التَّمْهِيدُ لِذِكْرِ مُكَابَرَةِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرِينَ فِي
وَقَرَأَ نَافِع وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ: إِذَا يَسْرِي بِيَاءٍ بَعْدَ الرَّاءِ فِي الْوَصْلِ عَلَى الْأَصْلِ وَبِحَذْفِهَا فِي الْوَقْفِ لِرَعْيِ بَقِيَّةِ الْفَوَاصِلِ: «الْفَجْرِ، عَشْرٍ، وَالْوَتْرِ، حِجْرٍ» فَفَوَاصِلُ الْقُرْآنِ كَالْأَسْجَاعِ فِي النَّثْرِ وَالْأَسْجَاعُ تُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْقَوَافِي، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَلَيْسَ إِثْبَاتُ الْيَاءِ فِي الْوَقْفِ بِأَحْسَنَ مِنَ الْحَذْفِ، وَجَمِيعُ مَا لَا يَحْذِفُ وَمَا يُخْتَارُ فِيهِ أَنْ لَا يُحْذَفَ (نَحْوَ الْقَاضِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ) يُحْذَفُ إِذَا كَانَ فِي قَافِيَةٍ أَوْ فَاصِلَةٍ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَاصِلَةً فَالْأَحْسَنُ إِثْبَاتُ الْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ بِثُبُوتِ الْيَاءِ بَعْدَ الرَّاءِ فِي الْوَصْلِ وَفِي الْوَقْفِ عَلَى الْأَصْلِ.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِدُونِ يَاء وَصْلًا وَوَقْفًا، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ يُوَافِقُهَا رَسْمُ الْمُصْحَفِ إِيَّاهَا بِدُونِ يَاءٍ، وَالَّذِينَ أَثْبَتُوا الْيَاءَ فِي الْوَصْل وَالْوَقْف اعْتَمَدُوا الرِّوَايَةَ وَاعْتَبَرُوا رَسْمَ الْمُصْحَفِ سُنَّةً أَوِ اعْتِدَادًا بِأَنَّ الرَّسْمَ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ حَالَةِ الْوَقْفِ.
وَأَمَّا نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ فَلَا يُوهِنُ رَسْمُ الْمُصْحَفِ رِوَايَتَهُمْ لِأَنَّ رَسْمَ الْمُصْحَفِ جَاءَ عَلَى مُرَاعَاةِ حَالِ الْوَقْفِ وَمُرَاعَاةُ الْوَقْفِ تَكْثُرُ فِي كيفيات الرَّسْم.
[٥]
[سُورَة الْفجْر (٨٩) : آيَة ٥]
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥)
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْقَسَمِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ جَوَابِهِ أَوْ دَلِيلِ جَوَابِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [الْوَاقِعَة: ٧٦].
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَكَوْنُهُ بِحَرْفِ هَلْ لِأَنَّ أَصْلَ هَلْ أَنْ تَدُلَّ عَلَى التَّحْقِيقِ إِذْ هِيَ بِمَعْنَى (قَدْ).
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورِ مِمَّا أَقْسَمَ بِهِ، أَيْ هَل فِي الْقسم بذلك قَسَمٌ.
وَتَنْكِيرُ قَسَمٌ لِلتَّعْظِيمِ أَيْ قَسَمٌ كَافٍ وَمُقْنِعٌ لِلْمُقْسَمِ لَهُ، إِذَا كَانَ عَاقِلًا أَنْ يَتَدَبَّرَ بِعَقْلِهِ.
فَالْمَعْنَى: هَلْ فِي ذَلِكَ تَحْقِيقٌ لِمَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ لِلسَّامِعِ الْمَوْصُوفِ بِأَنَّهُ صَاحِبُ حِجْرٍ.
وَالْحِجْرُ: الْعَقْلُ لِأَنَّهُ يَحْجُرُ صَاحِبَهُ عَنِ ارْتِكَابِ مَا لَا يَنْبَغِي، كَمَا سُمِّيَ عَقْلًا لِأَنَّهُ يَعْقِلُ صَاحِبَهُ عَنِ التَّهَافُتِ كَمَا يَعْقِلُ الْعِقَالُ الْبَعِيرَ عَنِ الضَّلَالِ.