يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ [الْبَقَرَة: ٢٠]. الْآيَةَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ عَوْدُهُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ فَلَا يَجِيءُ فِيهِ مَا جَازَ فِي قَوْلِهِ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [الْبَقَرَة: ١٧] إِلَخْ. فَشُبِّهَتْ حَالُ الْمُنَافِقِينَ بِحَالِ قَوْمٍ سَائِرِينَ فِي لَيْلٍ بِأَرْضِ قَوْمٍ أَصَابَهَا الْغَيْثُ وَكَانَ أَهْلُهَا كَانِّينَ فِي مَسَاكِنِهِمْ كَمَا عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [الْبَقَرَة: ٢٠] فَذَلِكَ الْغَيْثُ نَفَعَ أَهْلَ الْأَرْضِ وَلَمْ يُصِبْهُمْ مِمَّا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الرَّعْدِ وَالصَّوَاعِقِ ضُرٌّ وَلَمْ يَنْفَعِ الْمَارِّينَ بِهَا وَأَضَرَّ بِهِمْ مَا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ وَالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ، فَالصَّيِّبُ مُسْتَعَارٌ لِلْقُرْآنِ وَهُدَى الْإِسْلَامِ وَتَشْبِيهُهُ بِالْغَيْثِ وَارِدٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى كَمَثَلِ الْغَيْثِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ»
إِلَخْ. وَفِي الْقُرْآنِ: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ [الْحَدِيد: ٢٠].
وَلَا تَجِدُ حَالَةً صَالِحَةً لِتَمْثِيلِ هَيْئَةِ اخْتِلَاطِ نَفْعٍ وَضُرٍّ مِثْلَ حَالَةِ الْمَطَرِ وَالسَّحَابِ وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ التَّمْثِيلِ الْقُرْآنِيِّ، وَمِنْهُ أَخَذَ أَبُو الطَّيِّبِ قَوْلَهُ:

فَتًى كَالسَّحَابِ الْجَوْنِ يُرْجَى وَيُتَّقَى يَرَجَّى الْحَيَا مِنْهُ وَتُخْشَى الصَّوَاعِقُ
وَالظُّلُمَاتُ مُسْتَعَارٌ لِمَا يَعْتَرِي الْكَافِرِينَ مِنَ الْوَحْشَةِ عِنْدَ سَمَاعِهِ كَمَا تَعْتَرِي السَّائِرَ فِي اللَّيْلِ وَحْشَةُ الْغَيْمِ لِأَنَّهُ يَحْجُبُ عَنْهُ ضَوْءَ النُّجُومِ وَالْقَمَرِ، وَالرَّعْدُ لِقَوَارِعِ الْقُرْآنِ وَزَوَاجِرِهِ، وَالْبَرْقُ لِظُهُورِ أَنْوَارِ هَدْيِهِ مِنْ خِلَالِ الزَّوَاجِرِ فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا الْمُرَكَّبَ التَّمْثِيلِيَّ صَالِحٌ لِاعْتِبَارَاتِ تَفْرِيقِ التَّشْبِيهِ وَهُوَ أَعْلَى التَّمْثِيلِ.
وَالصَّيِّبُ فَيْعَلٌ مِنْ صَابَ يُصُوبُ صَوْبًا إِذَا نَزَلَ بِشِدَّةٍ، قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ إِنَّ يَاءَهُ لِلنَّقْلِ مِنَ الْمَصْدَرِيَّةِ إِلَى الْإِسْمِيَّةِ فَهُوَ وَصْفٌ لِلْمَطَرِ بِشِدَّةِ الظُّلْمَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ كَثَافَةِ السَّحَابِ وَمِنْ ظَلَامِ اللَّيْلِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنَ السَّماءِ لَيْسَ بِقَيْدٍ لِلصَّيِّبِ وَإِنَّمَا هُوَ وَصْفٌ كَاشِفٌ جِيءَ بِهِ
لِزِيَادَةِ اسْتِحْضَارِ صُورَةِ الصَّيِّبِ فِي هَذَا التَّمْثِيلِ إِذِ الْمَقَامُ مَقَامُ إِطْنَابٍ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ
إِذْ قَدْ عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ السَّيْلَ لَا يَحُطُّ جُلْمُودَ صَخْرٍ إِلَّا مِنْ أَعْلَى وَلَكِنَّهُ أَرَادَ التَّصْوِيرَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: ٣٨]، وَقَوْلِهِ: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ [الْأَنْعَام: ٧١] وَقَالَ تَعَالَى: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الْأَنْفَال: ٣٢].
وَالسَّمَاء تُطْلَقُ عَلَى الْجَوِّ الْمُرْتَفِعِ فَوْقَنَا الَّذِي نَخَالُهُ قُبَّةً زَرْقَاءَ، وَعَلَى الْهَوَاءِ الْمُرْتَفِعِ قَالَ تَعَالَى: كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ [إِبْرَاهِيم: ٢٤] وَتُطْلَقُ عَلَى السَّحَابِ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْمَطَرُُِ
رُعْبًا، وَالْقَصْدُ مِنْهُ إِكْرَامُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَنَّهَا لَا يَبْلُغُ مَا يَمَسُّهَا مَبْلَغَ مَا مَسَّ مَنْ قَبْلَهَا، وَإِكْرَامٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلَّا يَحْتَاجَ إِلَى قَوْلِ مَا قَالَتْهُ الرُّسُلُ قَبْلَهُ مِنِ اسْتِبْطَاءِ نَصْرِ اللَّهِ بِأَنْ يَجِيءَ نَصْرُ اللَّهِ لَهَاتِهِ الْأُمَّةِ قَبْلَ اسْتِبْطَائِهِ، وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى فتح مَكَّة.
[٢١٥]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢١٥]
يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِابْتِدَاءِ جَوَابٍ عَنْ سُؤَالٍ سَأَلَهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ السَّائِلَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ الْأَنْصَارِيُّ، وَكَانَ ذَا مَالٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: بِمَاذَا يَتَصَدَّقُ وَعَلَى مَنْ يُنْفِقُ؟ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: السَّائِلُونَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَعْنِي أَنَّهُ تَكَرَّرَ السُّؤَالُ عَنْ تَفْصِيلِ الْإِنْفَاقِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ عَلَى الْإِجْمَالِ، فَطَلَبُوا بَيَانَ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِمَّا لِأَنَّ نُزُولَهَا وَقَعَ عَقِبَ نُزُولِ الَّتِي قَبْلَهَا وَإِمَّا لِأَمْرٍ بِوَضْعِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ جَمْعًا لِطَائِفَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ المفتتحة بجملة يَسْئَلُونَكَ وَهِيَ سِتَّةُ أَحْكَامٍ.
ثُمَّ قَدْ قِيلَ إِنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ فرض الزَّكَاة، فالسؤال حِينَئِذٍ عَن الْإِنْفَاق المتطوع بِهِ وَهِي محكمَة وَقيل نزلت قبل فَرْضِ الزَّكَاةِ فَتَكُونُ بَيَانًا لِمَصَارِفِ الزَّكَاةِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِآيَةِ إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ الْآيَةَ فِي [سُورَةِ بَرَاءَةَ: ٦٠]، فَهُوَ بِتَخْصِيصٍ لِإِخْرَاجِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى، وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي آيَةِ بَرَاءَةَ.
وماذا اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْمُنْفِقِ (بِفَتْحِ الْفَاءِ) وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْمُنْفِقِ السُّؤَالُ عَنْ أَحْوَالِهِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا مَوْقِعَ الْقَبُولِ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْإِنْفَاقَ حَقِيقَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْبَشَرِ وَقَدْ عَرَفَهَا السَّائِلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُنْفِقُونَ عَلَى الْأَهْلِ وَعَلَى النَّدَامَى وَيُنْفِقُونَ فِي الْمَيْسِرِ، يَقُولُونَ فُلَانٌ يُتَمِّمُ أَيِسَارَهُ أَيْ يَدْفَعُ عَنْ أَيِسَارِهِ أَقْسَاطَهُمْ مِنْ مَالِ الْمُقَامَرَةِ وَيَتَفَاخَرُونَ بِإِتْلَافِ الْمَالِ. فَسَأَلُوا فِي الْإِسْلَامِ عَنِ الْمُعْتَدِّ بِهِ مِنْ ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ، فَلِذَلِكَ طَابَقَ الْجَوَابُ السُّؤَالَ إِذْ أُجِيبَ: قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، فَجَاءَ
بِبَيَانِ مَصَارِفِ الْإِنْفَاقِ الْحَقِّ وَعُرِفَ هَذَا الْجِنْسُ بِمَعْرِفَةِ أَفْرَادِهِ، فَلَيْسَ فِي هَذَا الْجَوَابِ ارْتِكَابُ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ كَمَا قِيلَ، إِذْ لَا يُعْقَلُ

[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : الْآيَات ٧٦ إِلَى ٧٩]

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩)
فَلَمَّا جَنَّ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْعَام: ٧٥] بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: رَأى كَوْكَباً فَإِنَّ الْكَوْكَبَ مِنْ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، وَقَوْلِهِ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْعَام: ٧٥]. فَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ الْخَاصَّةُ الَّتِي اهْتَدَى بِهَا إِلَى طَرِيق عَجِيب فِيهِ إبكات لِقَوْمِهِ ملجىء إِيَّاهُمْ لِلِاعْتِرَافِ بِفَسَادِ مُعْتَقَدِهِمْ، هِيَ فَرْعٌ مِنْ تِلْكَ الْإِرَاءَةِ الَّتِي عَمَّتْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لِأَنَّ الْعَطْفَ بِالْفَاءِ يَسْتَدْعِي مَزِيدَ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِمَا فِي مَعْنَى الْفَاءِ مِنَ التَّفْرِيعِ وَالتَّسَبُّبِ، وَلِذَلِكَ نَعُدُّ جَعْلَ الزَّمَخْشَرِيَّ فَلَمَّا جَنَّ عَطْفًا عَلَى قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ [الْأَنْعَام: ٧٤]، وَجَعْلَهُ مَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا، غَيْرَ رَشِيقٍ.
وَقَوْلُهُ: جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ أَيْ أَظْلَمَ اللَّيْلُ إِظْلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، أَيْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ مَحُوطًا بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ تَحْتَ السَّمَاءِ وَلَمْ يَكُنْ فِي بَيْتٍ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ بَعْدَهُ قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ أَنَّهُ كَانَ سَائِرًا مَعَ فَرِيقٍ مِنْ قَوْمِهِ يُشَاهِدُونَ الْكَوَاكِبَ، وَقَدْ كَانَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ صَابِئِينَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيُصَوِّرُونَ لَهَا
أَصْنَامًا. وَتِلْكَ دِيَانَةُ الْكِلْدَانِيِّينَ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ.
فَعَلَى عُقَلَاءِ الْأَقْوَامِ وَأَصْحَابِ الْأَحْلَامِ مِنْهُمْ إِذَا رَأَوْا دَبِيبَ الْفَسَادِ فِي عَامَّتِهِمْ أَنْ يُبَادِرُوا لِلسَّعْيِ إِلَى بَيَانِ مَا حَلَّ بِالنَّاسِ مِنَ الضَّلَالِ فِي نُفُوسِهِمْ، وَأَنْ يَكْشِفُوا لَهُمْ مَاهِيَّتَهُ وَشُبْهَتَهُ وَعَوَاقِبَهُ، وَأَنْ يَمْنَعُوهُمْ مِنْهُ بِمَا أُوتُوهُ مِنَ الْمَوْعِظَةِ وَالسُّلْطَانِ، وَيَزْجُرُوا الْمُفْسِدِينَ عَنْ ذَلِكَ الْفَسَادِ حَتَّى يَرْتَدِعُوا، فَإِنْ هُمْ تَرَكُوا ذَلِكَ، وَتَوَانَوْا فِيهِ لَمْ يَلْبَثِ الْفَسَادُ أَنْ يَسْرِيَ فِي النُّفُوسِ وَيَنْتَقِلَ بِالْعَدْوَى مِنْ وَاحِدٍ إِلَى غَيْرِهِ، حَتَّى يَعُمَّ أَوْ يَكَادُ، فَيَعْسُرُ اقْتِلَاعُهُ مِنَ النُّفُوسِ، وَذَلِكَ الِاخْتِلَالُ يُفْسِدُ عَلَى الصَّالِحِينَ صَلَاحُهُمْ وَيُنَكِّدُ عَيْشَهُمْ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ صَلَاحِهِمْ وَاسْتِقَامَتِهِمْ، فَظَهَرَ أَنَّ الْفِتْنَةَ إِذَا حَلَّتْ بِقَوْمٍ لَا تُصِيبُ الظَّالِمَ خَاصَّةً بَلْ تَعُمُّهُ وَالصَّالِحَ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَجَبَ اتِّقَاؤُهَا عَلَى الْكُلِّ، لِأَنَّ أَضْرَارَ حُلُولِهَا تُصِيبُ جَمِيعَهُمْ.
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْفِتْنَةَ قَدْ تَكُونُ عِقَابًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا، فَهِيَ تَأْخُذُ حُكْمَ الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي تُصِيبُ الْأُمَمَ، فَإِنَّ مِنْ سُنَّتِهَا أَنْ لَا تَخُصَّ الْمُجْرِمِينَ إِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ هُوَ الْفَسَادُ، لِأَنَّهَا عُقُوبَاتٌ تَحْصُلُ بِحَوَادِثَ كَوْنِيَّةٍ يَسْتَتِبُّ فِي نِظَامِ الْعَالِمِ الَّذِي سَنَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ أَنْ يُوَزَّعَ عَلَى الْأَشْخَاصِ كَمَا
وَرَدَ فِي حَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مِثْلَ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا»
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أَنَّهَا قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ- قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ ثُمَّ يَحْشُرُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ»
. وَحَرْفُ لَا فِي قَوْلِهِ: لَا تُصِيبَنَّ نَهْيٌ بِقَرِينَةِ اتِّصَالِ مَدْخُولِهَا بِنُونِ التَّوْكِيدِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْإِثْبَاتِ فِي الْخَبَرِ وَبِالطَّلَبِ، فَالْجُمْلَةُ الطَّلَبِيَّةُ: إِمَّا نعت ل فِتْنَةً بِتَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، وَمِثْلُهُ وَارِدٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَقَوْلِ الْعَجَّاجِ:
حَتَّى إِذَا جَنَّ الظَّلَامُ وَاخْتَلَطَ جَاءُوا بِمَذْقٍ هَلْ رَأَيْتَ الذِّئْبَ قَطْ
أَيْ مَقُولٌ فِيهِ. وَبَابُ حَذْفِ الْقَوْلِ بَابٌ مُتَّسِعٌ، وَقَدِ اقْتَضَاهُ مَقَامُ الْمُبَالِغَةِ فِي

[٣]

[سُورَة هود (١١) : آيَة ٣]
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣)
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [هود: ٢] وَهُوَ تَفْسِيرٌ ثَانٍ يَرْجِعُ إِلَى مَا فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى مِنْ لَفْظِ التَّفْصِيلِ، فَهَذَا ابْتِدَاءُ التَّفْصِيلِ لِأَنَّهُ بَيَانٌ وَإِرْشَادٌ لِوَسَائِلِ نَبْذِ عِبَادَةِ مَا عَدَا اللَّهَ تَعَالَى، وَدَلَائِلُ عَلَى ذَلِكَ وَأَمْثَالٌ وَنُذُرٌ، فَالْمَقْصُودُ: تَقْسِيمُ التَّفْسِيرِ وَهُوَ وَجْهُ إِعَادَةِ حَرْفِ التَّفْسِيرِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَعَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِالَّذِي فِي الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا.
وَالِاسْتِغْفَارُ: طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ، أَيْ طَلَبُ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِذَنْبٍ مَضَى، وَذَلِكَ النَّدَمُ.
وَالتَّوْبَةُ: الْإِقْلَاعُ عَنْ عَمَلِ ذَنْبٍ، وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يعود إِلَيْهِ.
و (ثمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، لِأَنَّ الِاعْتِرَافَ بِفَسَادِ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ أَهَمُّ مِنْ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ، فَإِنَّ تَصْحِيحَ الْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدَةِ إِلَيْهَا هُوَ مُسَمَّى التَّوْبَةِ، وَهَذَا تَرْغِيبٌ فِي نَبْذِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَبَيَانٌ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَالْمَتَاعُ: اسْمُ مَصْدَرِ التَّمْتِيعِ لِمَا يُتَمَتَّعُ بِهِ، أَيْ يُنْتَفَعُ. وَيُطْلَقُ عَلَى مَنَافِعِ الدُّنْيَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٢٤].
وَالْحَسَنُ: تَقْيِيدٌ لِنَوْعِ الْمَتَاعِ بِأَنَّهُ الْحَسَنُ فِي نَوْعِهِ، أَيْ خَالِصًا مِنَ الْمُكَدِّرَاتِ طَوِيلًا بَقَاؤُهُ لِصَاحِبِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى. وَالْمُرَادُ بِالْمَتَاعِ: الْإِبْقَاءُ، أَيِ الْحَيَاةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَسْتَأْصِلُهُمْ. وَوَصَفَهُ بِالْحُسْنِ لِإِفَادَةِ أَنَّهَا حَيَاةٌ طَيِّبَةٌ.
السَّلَامُ- لَمْ يَتَلَبَّسْ بِالْإِشْرَاكِ قَطُّ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ مُنْذُ صَارَ مُمَيِّزًا، وَأَنَّهُ لَا يَتَلَبَّسُ بِالْإِشْرَاكِ أَبَدًا.
وشاكِراً لِأَنْعُمِهِ خَبَرٌ رَابِعٌ عَنْ كانَ. وَهُوَ مَدْحٌ لِإِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَتَعْرِيضٌ بِذُرِّيَّتِهِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَكَفَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ مُقَابِلَ قَوْلِهِ: فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ [سُورَة النَّحْل: ١١٢]. وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا الْكَلَامُ عَلَى أَنْعُمِ اللَّهِ.
وَجُمْلَةُ اجْتَباهُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ الثَّنَاءَ الْمُتَقَدِّمَ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَنْ سَبَبِ فَوْزِ إِبْرَاهِيمَ بِهَذِهِ الْمَحَامِدِ، فَيُجَابُ بِأَنَّ اللَّهَ اجْتَبَاهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته [سُورَة الْأَنْعَام: ١٢٤].
وَالِاجْتِبَاءُ: الِاخْتِيَارُ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مَنْ جَبَى إِذَا جَمَعَ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى واجتباهم وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٨٧].
وَالْهِدَايَةُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ: الْهِدَايَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَدِينِ الْحَنِيفِيَّةِ.
وَضَمِيرُ آتَيْناهُ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ تَفَنُّنًا فِي الْأُسْلُوبِ لِتَوَالِي ثَلَاثَةِ ضَمَائِرَ غَيْبَةٍ.
وَالْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا: كُلُّ مَا فِيهِ رَاحَةُ الْعَيْشِ مِنِ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالدِّينِ، وَالصِّحَّةِ، وَالسَّلَامَةِ، وَطُولِ الْعُمْرِ، وَسَعَةِ الرِّزْقِ الْكَافِي، وَحُسْنِ الذِّكْرِ بَيْنَ النَّاسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً [سُورَة الْبَقَرَة: ٢٠١].
وَالصَّلَاحُ: تَمَامُ الِاسْتِقَامَةِ فِي دِينِ الْحَقِّ. وَاخْتِيرَ هَذَا الْوَصْفُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمُهُ بِإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ، إِذْ حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [سُورَة الشُّعَرَاء: ٨٣].
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [الْبَقَرَة: ٢٦٥] الْآيَاتِ.
وَالْأَظْهَرُ- مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَصَنْعِ التَّرَاكِيبِ مِثْلُ قَوْلِهِ: قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ [الْكَهْف: ٣٧] إِلَخْ فَقَدْ جَاءَ (قَالَ) غَيْرُ مُقْتَرِنٍ بِفَاءٍ وَذَلِكَ مِنْ شَأْنِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ الْوَاقِعَةِ، وَمِثْلُ قَوْلِهِ: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً [الْكَهْف: ٤٣]- أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَثَلُ قِصَّةً مَعْلُومَةً وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَوْقَعُ فِي الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ مِثْلُ الْمَوَاعِظِ بِمَصِيرِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ.
وَمَعْنَى جَعَلْنا لِأَحَدِهِما قَدَّرْنَا لَهُ أَسْبَابَ ذَلِكَ.
وَذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالْأَعْنَابِ وَالنَّخْلِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦٦].
وَمَعْنَى حَفَفْناهُما أَحَطْنَاهُمَا، يُقَالُ: حَفَّهُ بِكَذَا، إِذَا جَعَلَهُ حَافًّا بِهِ، أَيْ مُحِيطًا، قَالَ تَعَالَى: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر: ٧٥]، لِأَنَّ (حَفَّ) يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ فَإِذَا أُرِيدَ تَعْدِيَتُهُ إِلَى ثَانٍ عُدِّيَ إِلَيْهِ بِالْبَاءِ، مِثْلُ: غَشِيَهُ وَغَشَّاهُ بِكَذَا. وَمِنْ مَحَاسِنِ الْجَنَّاتِ أَنْ تَكُونَ مُحَاطَةً بِالْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ.
وَمَعْنَى وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً أَلْهَمْنَاهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُمَا. وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّ هَذَا الزَّرْعَ كَانَ فَاصِلًا بَيْنَ الْجَنَّتَيْنِ: كَانَتِ الْجَنَّتَانِ تَكْتَنِفَانِ حَقْلَ الزَّرْعِ فَكَانَ الْمَجْمُوعُ ضَيْعَةً وَاحِدَةً.
وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الزَّرْعِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ.
وكِلْتَا اسْمٌ دَالٌّ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِالْمُثَنَّى يُفَسِّرُهُ الْمُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ، فَهُوَ اسْمٌ مُفْرَدٌ دَالٌّ
عَلَى شَيْئَيْنِ نَظِيرُ زَوْجٍ، وَمُذَكَّرُهُ (كِلَا). قَالَ سِيبَوَيْهِ: أَصْلُ كِلَا كِلَوْ وَأَصْلُ كِلْتَا كِلْوَا فَحَذَفَتْ لَامُ الْفِعْلِ مِنْ كِلْتَا وَعُوِّضَتِ التَّاءُ عَنِ اللَّامِ الْمَحْذُوفَةِ لِتَدُلَّ التَّاءُ عَلَى التَّأْنِيثِ.
وَيَجُوزُ فِي خَبَرِ كِلَا وَكِلْتَا الْإِفْرَادُ اعْتِبَارًا لِلَفْظِهِ وَهُوَ أَفْصَحُ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَيَجُوزُ تَثْنِيَتُهُ اعْتِبَارًا لِمَعْنَاهُ كَمَا فِي قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْعَجَلَةِ بِالْقُرْآنِ الْعَجَلَةَ بِقِرَاءَتِهِ حَالَ إِلْقَاءِ جِبْرِيلَ آيَاتِهِ. فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِيءُ يُبَادِرُ جِبْرِيلَ فَيَقْرَأُ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ جِبْرِيلُ حِرْصًا عَلَى الْحِفْظِ وَخَشْيَةً مِنَ النِّسْيَانِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ الْآيَةَ. وَهَذَا كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
[الْقِيَامَة: ١٦] كَمَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ». وَعَلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِقَضَاءِ وحيه إِتْمَامه وانتهاؤه، أَيِ انْتِهَاءَ الْمِقْدَارِ الَّذِي هُوَ بِصَدَدِ النُّزُولِ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ أَنَّ مَعْنَاهُ: لَا تَعْجَلْ بِقِرَاءَةِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ لِأَصْحَابِكَ وَلَا تُمْلِهِ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَتَبَيَّنَ لَكَ مَعَانِيهِ. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ قَضَاءُ الْوَحْيِ تَمَامَ مَعَانِيهِ. وَعَلَى كِلَا التَّفْسِيرَيْنِ يَجْرِي اعْتِبَارُ مَوْقِعِ قَوْلِهِ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُقْضى بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ، وَرَفْعِ وَحْيُهُ عَلَى أَنَّهُ نَائِب الْفَاعِل. وقرأه يَعْقُوبُ- بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَكَسْرِ الضَّادِ وَبِفَتْحَةٍ عَلَى آخِرَ نَقْضِي وَبِنَصْبِ وَحْيَهُ.
وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ اسْتِعْجَالٌ مَخْصُوصٌ وَأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى الِاسْتِعْجَالِ مَحْمُودٌ. وَفِيهِ تَلَطُّفٌ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَتْبَعَ نَهْيَهُ عَنِ التَّعَجُّلِ
الَّذِي يَرْغَبُهُ بِالْإِذْنِ لَهُ بِسُؤَالِ الزِّيَادَةِ مِنَ الْعِلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَجْمَعُ كُلِّ زِيَادَةٍ سَوَاءً كَانَتْ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ أَمْ بِغَيْرِهِ مِنَ الْوَحْيِ وَالْإِلْهَامِ إِلَى الِاجْتِهَادِ تَشْرِيعًا وَفَهْمًا، إِيمَاءً إِلَى أَنَّ رَغْبَتَهُ فِي التَّعَجُّلِ رَغْبَةٌ صَالِحَةٌ
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَ النَّبِيءَ رَاكِعًا فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ بَلْ رَكَعَ وَدَبَّ إِلَى الصَّفِّ رَاكِعًا فَقَالَ لَهُ: «زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تعد»
الْمَقَامَ مَقَامُ مُنَاضَلَةٍ وَتَوَعُّدٍ، وَإِلَّا فَكَثِيرٌ مِنْ أَصْنَامِ وَأَوْثَانِ غَيْرِ الْعَرَبِ بَاطِلٌ أَيْضًا.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ تَدْعُونَ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الِالْتِفَاتِ إِلَى خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ الَّذِي جَرَتْ عَلَيْهِمْ فِيهِ ضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ مَقْصُودٌ مِنْهُ إِسْمَاعُهُمْ وَالتَّعْرِيضُ بِاقْتِرَابِ الِانْتِصَارِ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ
الْكَلَامِ السَّابِقِ.
وَعُلُوُّ اللَّهِ: مُسْتَعَارٌ لِلْجَلَالِ وَالْكَمَالِ التَّامِّ.
وَالْكِبَرُ: مُسْتَعَارٌ لِتَمَامِ الْقُدْرَةِ، أَيْ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ دُونَ الْأَصْنَامِ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا إِذْ لَيْسَ لَهَا كَمَالٌ وَلَا قُدْرَةٌ ببرهان الْمُشَاهدَة.
[٦٣]
[سُورَة الْحَج (٢٢) : آيَة ٦٣]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣)
انْتِقَالٌ إِلَى التَّذْكِيرِ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ بِمُنَاسَبَةِ مَا جَرَى مِنْ قَوْلِهِ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ [الْحَج: ٦٢] الْآيَةَ. وَالْمَقْصُودُ: التَّعْرِيضُ بِشُكْرِ اللَّهِ عَلَى نِعَمِهِ وَأَنْ لَا يَعْبُدُوا غَيْرَهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّذْيِيلُ عَقِبَ تَعْدَادِ هَذِهِ النِّعَمِ بِقَوْلِهِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ [الْحَج:
٦٦]، أَيِ الْإِنْسَانُ الْمُشْرِكُ. وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِدْمَاجُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ فَهُوَ الرَّبُّ الْحَقُّ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ. وَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ مَا جَرَى مِنْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَهُ الْبَاطِلُ، فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا.
وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ تَصْلُحُ مِنْهُ الرُّؤْيَةُ لِأَنَّ الْمَرْئِيَّ مَشْهُورٌ.
وَالْفُرْقَانُ: الْقُرْآنُ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ فَرَّقَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ [الْأَنْفَال: ٤١] وَقَوْلِهِ: يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً [الْأَنْفَال: ٢٩]. وَجُعِلَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ لِمَا بَيَّنَ مَنْ دَلَائِلِ الْحَقِّ وَدَحْضِ الْبَاطِلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٤].
وَإِيثَارُ اسْمِ الْفُرْقَانِ بِالذِّكْرِ هُنَا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ مَا سَيُذْكَرُ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ دَلَائِلُ قَيِّمَةٌ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.
وَوَصْفُ النَّبِيءِ بِ عَبْدِهِ تَقْرِيبٌ لَهُ وَتَمْهِيدٌ لِإِبْطَالِ طَلَبِهِمْ مِنْهُ فِي قَوْله: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ [الْفرْقَان: ٧] الْآيَةَ.
وَالْمرَاد ب لِلْعالَمِينَ جَمِيعُ الْأُمَمِ مِنَ الْبَشَرِ لِأَنَّ الْعَالَمَ يُطْلَقُ عَلَى الْجِنْسِ وَعَلَى النَّوْعِ وَعَلَى الصِّنْفِ بِحَسَبِ مَا يَسْمَحُ بِهِ الْمَقَامُ، وَالنِّذَارَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلْعُقَلَاءِ مِمَّنْ قُصِدُوا بِالتَّكْلِيفِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ الْعالَمِينَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [٢].
وَالنَّذِيرُ: الْمُخْبِرُ بِسُوءٍ يَقَعُ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٌ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِثْلَ الْحَكِيمِ.
وَالِاقْتِصَارُ فِي وَصْفِ الرَّسُولِ هُنَا عَلَى النَّذِيرِ دُونَ الْبَشِيرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا
كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً
[سبأ: ٢٨] لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا لِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ وَبِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَكَانَ مُقْتَضِيًا لِذِكْرِ النِّذَارَةِ دُونَ الْبِشَارَةِ، وَفِي ذَلِكَ اكْتِفَاءٌ لِأَنَّ الْبِشَارَةَ تَخْطُرُ بِبَالِ السَّامِعِ عِنْدَ ذِكْرِ النِّذَارَةِ. وَسَيَجِيءُ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٥٦].
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ جَمَعَ بَيْنَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ وَتَنْوِيهٌ بِشَأْنِ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَرِفْعَةِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَعُمُوم رسَالَته.
[٢]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٢]
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً
وَإِرَادَةُ الدَّارِ الْآخِرَةِ: إِرَادَةُ فَوْزِهَا، فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ أَيْضًا، فَأُسْلُوبُ الْكَلَامِ جَرَى عَلَى إِنَاطَةِ الْحُكْمِ بِالْأَعْيَانِ وَهُوَ أُسْلُوبٌ يَقْتَضِي تَقْدِيرًا فِي الْكَلَامِ مِنْ قَبِيلِ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ. وَفِي حَذْفِ الْمُضَافَاتِ وَتَعْلِيقِ الْإِرَادَةِ بِأَسْمَاءِ الْأَعْيَانِ الثَّلَاثَةِ مَقْصِدُ أَنْ تَكُونَ الْإِرَادَة مُتَعَلقَة بشؤون الْمُضَافِ إِلَيْهِ الَّتِي تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ ذَاتِهِ مَعَ قَضَاءِ حَقِّ الْإِيجَازِ بَعْدَ قَضَاءِ حَقِّ الْإِعْجَازِ. فَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُنَّ تُؤْثِرْنَ مَا يُرْضِي اللَّهَ وَيُحِبُّهُ رَسُولُهُ وَخَيْرَ الدَّارِ الْآخِرَةِ فَتَخْتَرْنَ ذَلِكَ عَلَى مَا يُشْغِلُ عَنْ ذَلِكَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مُقَابَلَةُ إِرَادَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ بِإِرَادَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، فَإِنَّ الْمُقَابَلَةَ تَقْتَضِي إِرَادَتَيْنِ يُجْمَعُ بَيْنَ إِحْدَاهُمَا وَبَيْنَ الْأُخْرَى، فَإِنَّ التَّعَلُّقَ بِالدُّنْيَا يَسْتَدْعِي الِاشْتِغَالَ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَة من شؤون الدُّنْيَا لَا مَحِيصَ مِنْ أَنْ تُلْهِيَ صَاحِبَهَا عَنِ الِاشْتِغَالِ بِأَشْيَاءَ عَظِيمَة من شؤون مَا يُرْضِي اللَّهَ وَمَا يُرْضِي رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَنِ التَّمَلِّي مِنْ أَعْمَالٍ كَثِيرَةٍ مِمَّا يُكْسِبُ الْفَوْزَ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تَرْتَقِيَ النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ إِلَى مَرَاتِبِ الْمَلَكِيَّةِ وَالرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْتَغِي أَنْ يَكُونَ أَقْرَبُ النَّاس إِلَيْهِ وأعلقهم بِهِ سَائِرًا عَلَى طَرِيقَتِهِ لِأَنَّ طَرِيقَتَهُ هِيَ الَّتِي اخْتَارَهَا اللَّهُ لَهُ. وَبِمِقْدَارِ الِاسْتِكْثَارِ مِنْ ذَلِكَ يَكْثُرُ الْفَوْزُ بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ، فَالنَّاسُ مُتَسَابِقُونَ فِي هَذَا الْمِضْمَارِ وَأَوْلَاهُمْ بِقَصَبِ السَّبْقِ فِيهِ أَشَدُّهُمْ تَعَلُّقًا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ كَانَتْ هِمَمُ أَفَاضِلِ السَّلَفِ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ أَزْوَاجُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ وَقَدْ ذَكَّرَهُنَّ اللَّهُ تَذْكِيرًا بَدِيعًا بِقَوْلِهِ:
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الْأَحْزَاب: ٣٤] كَمَا سَيَأْتِي.
وَلَمَّا كَانَتْ إِرَادَتُهُنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ مُقْتَضِيَةً عَمَلَهُنَّ الصَّالِحَاتِ وَكَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ مُتَفَاوِتًا، وَجَعَلَ الْجَزَاءَ عَلَى ذَلِكَ بِالْإِحْسَانِ فَقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً لِيَعْلَمْنَ أَنَّ هَذَا الْأَجْرَ حَاصِلٌ لَهُنَّ عَلَى قَدْرِ إِحْسَانِهِنَّ فَهَذَا وَجْهُ ذِكْرِ وَصْفِ الْمُحْسِنَاتِ وَلَيْسَ هُوَ لِلِاحْتِرَازِ. وَفِي ذِكْرِ الْإِعْدَادِ إِفَادَةُ الْعِنَايَةِ بِهَذَا الْأَجْرِ وَالتَّنْوِيهُ بِهِ زِيَادَةً
عَلَى وَصْفِهِ بِالْعَظِيمِ.
وَتَوْكِيدُ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ بِحَرْفِ إِنْ الَّذِي لَيْسَ هُوَ لِإِزَالَةِ التَّرَدُّدِ إِظْهَارٌ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا
وَالْمَسُّ: الْإِصَابَةُ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهَا، وَالنَّصَبُ: التَّعَبُ مِنْ نَحْوِ شِدَّةِ حَرٍّ وَشِدَّةِ بَرْدٍ.
وَاللُّغُوبُ: الْإِعْيَاءُ مِنْ جَرَّاءِ عَمَلٍ أَوْ جَرْيٍ.
وَإِعَادَةُ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ لِتَأْكِيدِ انْتِفَاء المسّ.
[٣٦]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٣٦]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦)
مُقَابَلَةُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ لِلَّذِينِ أُورِثُوا الْكِتَابَ بِذِكْرِ الْكَافِرِينَ يَزِيدُنَا يَقِينًا بِأَنَّ تِلْكَ الْأَقْسَامَ أَقْسَامُ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُقَابَلَةُ جَزَاءِ الْكَافِرِينَ بِنَارِ جَهَنَّمَ يُوَضِّحُ أَنَّ الْجَنَّةَ دَارٌ لِلْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ عَلَى تَفَاوُتٍ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْكُفَّارِ: وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ نَارَ عِقَاب الْمُؤمنِينَ خَفِيفَة عَنْ نَارِ الْمُشْرِكِينَ.
فَجُمْلَةُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها [فاطر: ٣٣].
وَوَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنْ نَارِ جَهَنَّمَ بِأَنَّهَا لَهُمْ بِلَامِ الِاسْتِحْقَاقِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا أُعِدَّتْ لِجَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤] وَقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
[١٣١]، فَنَارُ عِقَابِ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ نَارٌ مُخَالِفَةٌ أَوْ أَنَّهَا أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ.
وَإِنَّمَا دَخَلَ فِيهَا مَنْ أُدْخِلَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ لِاقْتِرَافِهِمُ الْأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تَكُونَ لِلْكَافِرِينَ.
وَقُدِّمَ الْمَجْرُورُ فِي لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ عَلَى الْمسند إِلَيْهِ للتشويق إِلَى ذكر الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ حَتَّى إِذَا سَمِعَهُ السَّامِعُونَ تَمَكَّنَ مِنْ نُفُوسِهِمْ تَمَامَ التَّمَكُّنِ.
وَجُمْلَةُ لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ، وَالْقَضَاءُ:
حَقِيقَتُهُ الْحُكْمُ، وَمِنْهُ قَضَاءُ اللَّهِ حُكْمُهُ وَمَا أَوْجَدَهُ فِي مَخْلُوقَاتِهِ. وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى أَمَاتَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ [الْقَصَص: ١٥]. وَهُوَ هُنَا مُحْتَمِلٌ
الِاهْتِمَامِ لِوُرُودِ فَاعْبُدِ اللَّهَ، قَالَ فِي «إِيضَاحِ الْمُفَصَّلِ» فِي شَرْحِ قَوْلِ صَاحِبِ «الْمُفَصَّلِ» فِي الدِّيبَاجَةِ «اللَّهَ أَحْمَدُ عَلَى أَنْ جَعَلَنِي مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ»، اللَّهَ أَحْمَدُ عَلَى طَرِيقَةِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الْفَاتِحَة: ٥] تَقْدِيمًا لِلْأَهَمِّ، وَمَا قِيلَ:
إِنَّهُ لِلْحَصْرِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَالتَّمَسُّكِ فِيهِ بِنَحْوِ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ [الزمر: ٦٦] ضَعِيفٌ لِوُرُودِ
فَاعْبُدِ اللَّهَ اهـ. وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ فِي «حَاشِيَتِهِ عَلَى الْإِيضَاحِ» هُنَالِكَ قَوْلَهُ: (لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى الْحَصْرِ فَإِنَّ الْمَعْبُودِيَّةَ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى الْخَاصَّةِ بِهِ، فَالِاخْتِصَاصُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْحَالِ لَا مِنَ التَّقْدِيمِ) اهـ.
وَهُوَ ضِغْثٌ عَلَى إِبَّالَةٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مَنْعِ دَلِيلٍ شَهِدَ بِهِ الذَّوْقُ السَّلِيمُ عِنْدَ أَيِمَّةِ الِاسْتِعْمَالِ وَعَلَى سَنَدِ مَنْعِهِ بِتَوَهُّمِهِ أَنَّ التَّقْدِيمَ الَّذِي لُوحِظَ فِي مَقَامٍ يَجِبُ أَنْ يُلَاحَظَ فِي كُلِّ مَقَامٍ، كَأَنَّ الْكَلَامَ قد جعل قوالب يُؤْتَى بِهَا فِي كُلِّ مَقَامٍ، وَذَلِكَ يَنْبُو عَنْهُ اخْتِلَافُ الْمَقَامَاتِ الْبَلَاغِيَّةِ، حَتَّى جُعِلَ الِاخْتِصَاصُ بِالْعِبَادَةِ مُسْتَفَادًا مِنَ الْقَرِينَةِ لَا مِنَ التَّقْدِيمِ، كَأَنَّ الْقَرِينَةَ لَوْ سُلِّمَ وَجُودُهَا تَمْنَعُ مِنَ التَّعْوِيلِ عَلَى دَلَالَةِ النُّطْقِ.
[٣]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٣]
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣)
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ اسْتِئْنَافٌ لِلتَّخَلُّصِ إِلَى اسْتِحْقَاقِهِ تَعَالَى الْإِفْرَادَ بِالْعِبَادَةِ وَهُوَ غَرَضُ السُّورَةِ وَأَفَادَ التَّعْلِيلَ لِلْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ الْخَالصَةِ لِلَّهِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الدِّينُ الْخَالصُ مُسْتَحَقًّا لِلَّهِ وَخَاصًّا بِهِ كَانَ الْأَمْرُ بِالْإِخْلَاصِ لَهُ مُصِيبًا مَحَزَّهُ فَصَارَ أَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ مُسَبَّبًا عَنْ نِعْمَةِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ إِلَيْهِ وَمُقْتَضًى لِكَوْنِهِ مُسْتَحِقَ الْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ اقْتِضَاء الْكُلية لجزئياتها.
وَبِهَذَا الْعُمُومِ أَفَادَتِ الْجُمْلَةُ مَعْنَى التَّذْيِيلِ فَتَحَمَّلَتْ ثَلَاثَةَ مَوَاقِعَ كُلَّهَا تَقْتَضِي الْفَصْلَ.
وَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِأَدَاةِ التَّنْبِيهِ تَنْوِيهًا بِمَضْمُونِهَا لِتَتَلَقَّاهُ النَّفْسُ بِشَرَاشِرِهَا وَذَلِكَ هُوَ مَا رَجَّحَ اعْتِبَارَ الِاسْتِئْنَافِ فِيهَا، وَجَعَلَ مَعْنَى التَّعْلِيلَ حَاصِلًا تَبَعًا مِنْ ذِكْرِ إِخْلَاصٍ عَامٍّ بَعْدَ إِخْلَاصٍ خَاصٍّ وَمَوْرِدُهُمَا وَاحِدٌ.
وَاللَّامُ فِي لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ لَامُ الْمِلْكِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الِاسْتِحْقَاقِ، أَيْ لَا يَحِقُّ الدِّينُ الْخَالصُ، أَيْ الطَّاعَةُ غَيْرُ الْمَشُوبَةِ إِلَّا لَهُ عَلَى نَحْوِ الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: ٢].
إِلَيْهِمْ بَعْدَ تِلْكَ الْأَوْصَافِ أَحْرِيَاءُ بِمَا سَيُذْكَرُ بَعْدَهَا مِنَ الْحِكَمِ مِنْ أَجْلِهَا نَظِيرُ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥].
وَيَتَعَلَّقُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ بِ يُنادَوْنَ. وَإِذَا كَانَ النِّدَاءُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ كَانَ الْمُنَادَى (بِالْفَتْحِ) فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ لَا مَحَالَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَعَلُّقِ مِنَ الْأَرْضِ، بِقَوْلِهِ: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ [الرّوم: ٢٥] أَيْ دَعَاكُمْ مِنْ مَكَانِكُمْ فِي الأَرْض، ويذلك يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يُنادَوْنَ وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَأَتٍّ فِي قَوْلِهِ: إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ.
[٤٥]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٤٥]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ.
اعْتِرَاضٌ بتسلية للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ وَكُفْرِهِمْ بِالْقُرْآنِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَوْحَدَ فِي ذَلِكَ فَقَدْ أُوتِيَ مُوسَى التَّوْرَاةَ فَاخْتَلَفَ الَّذِينَ دَعَاهُمْ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ.
وَالْمَقْصُودُ الِاعْتِبَارُ بِالِاخْتِلَافِ فِي التَّوْرَاةِ فَإِنَّهُ أَشَدُّ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الْقُرْآنِ فَالِاخْتِلَافُ فِي التَّوْرَاةِ كَانَ عَلَى نَوْعَيْنِ: اخْتِلَافٌ فِيهَا بَيْنَ مُؤْمِنٍ بِهَا وَكَافِرٍ، فَقَدْ كَفَرَ بِدَعْوَةِ مُوسَى فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَبَعْضُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلُ قَارُونَ وَمِثْلُ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ فِي مَغِيبِ مُوسَى لِلْمُنَاجَاةِ، وَاخْتِلَافٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا اخْتِلَافًا عَطَّلُوا بِهِ بَعْضَ أَحْكَامِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ [الْبَقَرَة: ٢٥٣]، وَكِلَا الِاخْتِلَافَيْنِ مَوْضِعُ عِبْرَةٍ وَأُسْوَةٍ لِاخْتِلَافِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ. وَهَذَا مَا عَصَمَ اللَّهُ الْقُرْآنَ مِنْ مِثْلِهِ إِذْ قَالَ: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [يُوسُف: ١٢] فالتسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا أَوْقَعُ، وَهَذَا نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ آنِفًا: مَا يُقالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت: ٤٣] عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ مَعْنَيَيْهِ بِذِكْرِ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعُمُومِ وَهُوَ الْأَعْظَمُ الْأَهَمُّ.
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِالَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ مِنَ الْعَرَبِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ يَقْتَضِي
وَالْمُقَامُ بِضَمِّ الْمِيمِ: مَكَانُ الْإِقَامَةِ. وَالْمَقَامُ بِفَتْحِ الْمِيمِ: مَكَانُ الْقِيَامِ وَيَتَنَاوَلُ الْمَسْكَنَ وَمَا يَتْبَعُهُ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ الْمِيمِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْمِيمِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمَقَامِ الْمَكَانُ فَهُوَ مَجَازٌ بِعَلَاقَةِ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ.
وَالْأَمِينُ بِمَعْنَى الْآمِنِ وَالْمُرَادُ: الْآمِنُ سَاكِنُهُ، فَوَصْفُهُ بِ أَمِينٍ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [التِّين: ٣]. وَالْأَمْنُ أَكْبَرُ شُرُوطِ حُسْنِ الْمَكَانِ لِأَنَّ السَّاكِنَ أَوَّلُ مَا يَتَطَلَّبُ الْأَمْنَ وَهُوَ السَّلَامَةُ مِنَ الْمَكَارِهِ وَالْمَخَاوِفِ فَإِذَا كَانَ آمِنًا فِي مَنْزِلِهِ كَانَ مُطْمَئِنَّ الْبَالِ شَاعِرًا بِالنَّعِيمِ الَّذِي يَنَالُهُ. وَأَبَدَلَ مِنْهُ بِأَنَّهُم ي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
وَذَلِكَ مِنْ وَسَائِلِ النُّزْهَةِ وَالطِّيبِ. وأعيد حرف ي
مَعَ الْبَدَلِ لِلتَّأْكِيدِ.
وَالْجَنَّاتُ: جَمْعُ جَنَّةٍ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ. وَالْعُيُونُ: جَمْعُ عَيْنٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ:
فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٠]، فَهَذَا نَعِيمُ مَكَانِهِمْ. وَوَصَفَ نَعِيمَ أَجْسَادِهِمْ بِذِكْرِ لِبَاسِهِمْ وَهُوَ لِبَاسُ التَّرَفِ وَالنَّعِيمِ وَفِيهِ كِنَايَةٌ عَنْ تَوَفُّرِ أَسْبَابِ نَعِيمِ الْأَجْسَادِ لِأَنَّهُ لَا يَلْبَسُ هَذَا اللِّبَاسَ إِلَّا مَنِ اسْتَكْمَلَ مَا قَبْلَهُ مِنْ مُلَائِمَاتِ الْجَسَدِ بَاطِنَهُ وَظَاهِرَهُ.
وَالسُّنْدُسُ: الدِّيبَاجُ الرَّقِيقُ النَّفِيسُ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ مُعَرَّبٌ مِنَ الْفَارِسِيَّةِ وَقِيلَ عَرَبِيٌّ.
أَصْلُهُ: سِنْدِيٌّ، مَنْسُوبٌ إِلَى السِّنْدِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. وَالسُّنْدُسُ يُلْبَسُ مِمَّا يَلِي الْجَسَدَ.
وَالْإِسْتَبْرَقُ: الدِّيبَاجُ الْقَوِيُّ يُلْبَسُ فَوْقَ الثِّيَابِ وَهُوَ مُعَرَّبُ اسْتَبَرَهْ فَارِسِيَّةٌ، وَهُوَ الْغَلِيظُ
مُطْلَقًا ثُمَّ خُصَّ بِغَلِيظِ الدِّيبَاجِ، ثُمَّ عُرِّبَ.
وَتَقَدَّمَا فِي قَوْلِهِ يَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٣١] فَارْجِعْ إِلَيْهِ. ومِنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَالْمُبَيَّنُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ يَلْبَسُونَ. وَالتَّقْدِيرُ: ثِيَابًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ.
لَوْ كَانَ غَيْرَ مَنْفِيٍّ لَكَانَ ظُلْمًا شَدِيدًا فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ أُخِذَ الْجَانِي قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ عَمَلَهُ جِنَايَةٌ
لَكَانَتْ مُؤَاخَذَتُهُ بِهَا ظُلْمًا شَدِيدًا. وَلَعَلَّ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» يَرْمِي إِلَى مَذْهَبِهِ مِنِ اسْتِوَاءِ السَّيِّئَاتِ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْعَبِيدِ دُونَ التَّعْبِيرِ بِالنَّاسِ وَنَحْوِهِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ مَعْنَى الظُّلْمِ فِي نُفُوسِ الْأُمَّةِ، أَيْ لَا أَظْلِمُ وَلَوْ كَانَ الْمَظْلُومُ عَبْدِي فَإِذَا كَانَ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ الْعِبَادَ قَدْ جَعَلَ مُؤَاخَذَةَ مَنْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ تَشْرِيعٌ ظُلْمًا فَمَا بَالَكَ بِمُؤَاخَذَةِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِالتَّبِعَاتِ دُونَ تَقَدُّمٍ إِلَيْهِمْ بِالنَّهْيِ مِنْ قَبْلُ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: لَا عُقُوبَةَ إِلَّا عَلَى عَمَلٍ فِيهِ قَانُونٌ سَابِقٌ قبل فعله.
[٣٠]
[سُورَة ق (٥٠) : آيَة ٣٠]
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠)
ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ [ق: ٢٨]. وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ يَوْمَ يَقُولُ قَوْلًا آخَرَ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ. ومناسبته تَعْلِيقِهِ بِهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لِجَهَنَّمَ مَقْصُودٌ بِهِ تَرْوِيعُ الْمَدْفُوعِينَ إِلَى جَهَنَّمَ أَنْ لَا يَطْمَعُوا فِي أَنَّ كَثْرَتَهُمْ يَضِيقُ بِهَا سَعَةُ جَهَنَّمَ فَيَطْمَعُ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يُوجَدُ لَهُ مَكَانٌ فِيهَا، فَحَكَاهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ عِبْرَةً لِمَنْ يَسْمَعُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَتَعْلِيمًا لِأَهْلِ الْقُرْآنِ الْمُؤْمِنِينَ وَلِذَلِكَ اسْتَوَتْ قِرَاءَةُ يَقُولُ بِالْيَاءِ، وَهِيَ لِنَافِعٍ وَأَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ جَرْيًا عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِ مَا سَبَقَهُ مِنْ قَوْلِهِ: قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ. وَقِرَاءَةُ الْبَاقِينَ بِالنُّونِ عَلَى الِالْتِفَاتِ بَلْ هُوَ الْتِفَاتٌ تَابِعٌ لِتَبْدِيلِ طَرِيقِ الْإِخْبَارِ مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ غَائِبٍ إِلَى خِطَابِ حَاضِرٍ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ حَقِيقِيٌّ وَهُوَ كَلَامٌ يَصْدُرُ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ بِمَحْضِ خَلْقِهِ دُونَ وَاسِطَةٍ.
فَلِذَلِكَ أُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ كَمَا يُقَالُ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي هَلِ امْتَلَأْتِ مُسْتَعْمَلٌ فِي تَنْبِيهِ أَهْلِ الْعَذَابِ إِلَى هَذَا السُّؤَالِ عَلَى وَجْهِ التَّعْرِيضِ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ لِجَهَنَّمَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً بِأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِي أَصْوَاتِ لَهِيبِهَا أَصْوَاتًا ذَاتَ حُرُوفٍ يَلْتَئِمُ مِنْهَا كَلَامٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا عَنْ دَلَالَةِ حَالِهَا عَلَى أَنَّهَا
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضمير قَدَّرْنا [الْوَاقِعَة: ٦٠]، أَيْ قَدَّرْنَا الْمَوْتَ عَلَى أَنْ نُحْيِيَكُمْ فِيمَا بَعْدُ إِدْمَاجًا لِإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الْوَاقِعَة: ٤٧] فَتَكُونُ (عَلَى) بِمَعْنَى (مَعَ) وَتَكُونُ حَالًا مُقَدَّرَةً، وَهَذَا كَقَوْلِ الْوَاعِظِ: «عَلَى شَرْطِ النَّقْضِ رُفِعَ الْبُنْيَانُ، وَعَلَى شَرْطِ الْخُرُوجِ دَخَلَتِ الْأَرْوَاحُ لِلْأَبْدَانِ» وَيَكُونُ مُتَعَلِّقُ (مَسْبُوقِينَ) مَحْذُوفًا دَالًّا عَلَيْهِ الْمَقَامُ، أَيْ مَا نَحْنُ بِمَغْلُوبِينَ فِيمَا قَدَّرْنَاهُ مِنْ خَلْقِكُمْ وَإِمَاتَتِكُمْ، وَيُجْعَلُ الْوَقْف على (مسبوقين).
وَيُفِيدُ قَوْلُهُ: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ إِلَخْ وَرَاءَ ذَلِكَ عِبْرَةً بِحَالِ الْمَوْتِ بَعْدَ الْحَيَاةِ فَإِنَّ فِي تَقَلُّبِ ذَيْنِكَ الْحَالَيْنِ عِبْرَةً وَتَدَبُّرًا فِي عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَتَصَرُّفِهِ فَيَكُونُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وِزَانُهُ وِزَانُ قَوْلِهِ الْآتِي: لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً [الْوَاقِعَة: ٧٠] وَقَوْلِهِ: نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ [الْوَاقِعَة: ٧٣].
وَمَعْنَى: أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
: نُبَدِّلُ بِكُمْ أَمْثَالَكُمْ، أَيْ نَجْعَلُ أَمْثَالَكُمْ بَدَلًا.
وَفِعْلُ (بَدَّلَ) يَنْصِبُ مَفْعُولًا وَاحِدًا وَيَتَعَدَّى إِلَى مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِحَرْفِ الْبَاءِ، وَهُوَ الْغَالِبُ أَوْ بِ (مِنَ) الْبَدَلِيَّةِ فَإِنَّ مَفْعُولَ (بَدَّلَ) صَالِحٌ لِأَنْ يَكُونَ مُبْدَلًا وَمُبْدَلًا مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦١] قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى، وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٢] عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ، فَالتَّقْدِيرُ هُنَا: عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ مِنْكُمْ أَمْثَالَكُمْ، فَحُذِفَ، مُتَعَلِّقُ نُبَدِّلَ
وَأُبْقِيَ الْمَفْعُولُ لِأَنَّ الْمَجْرُورَ أَوْلَى بِالْحَذْفِ.
وَالْأَمْثَالُ: جَمْعُ مِثْلٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَهُوَ النَّظِيرُ، أَيْ نَخْلُقُ ذَوَاتٍ مُمَاثِلَةٍ لِذَوَاتِكُمُ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا وَنُودِعُ فِيهَا أَرْوَاحَكُمْ. وَهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْإِعَادَةَ عَنْ عَدَمٍ لَا عَنْ تَفْرِيقٍ. وَقَدْ تَرَدَّدَ فِي تَعْيِينِ ذَلِكَ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ وَالْكَلَامِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُفِيدَ مَعْنَى التَّهْدِيدِ بِالْاِسْتِئْصَالِ، أَيْ لَوْ شِئْنَا اسْتِئْصَالَكُمْ لَمَا أَعْجَزْتُمُونَا فَيَكُونُ إِدْمَاجًا لِلتَّهْدِيدِ فِي أَثْنَاءِ الْاِسْتِدْلَالِ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [إِبْرَاهِيم: ١٩].
«مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ» كَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَيْهَقِيَّ رَوَاهُ عَنِ الْحَاكِمِ فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ: هُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ. فَإِنَّ رِجَالَ سَنَدِهِ ثِقَاتٌ.
وَفِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» لِلْوَاحِدِيِّ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ خَلَّادَ (١) بْنَ النُّعْمَانِ وَأُبَيًّا سَأَلَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
. وَقِيلَ: إِنَّ السَّائِلَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ سَأَلَ عَنْ عِدَّةِ الْآيِسَةِ.
فَالرِّيبَةُ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ تَكُونُ مُرَادًا بِهَا مَا حَصَلَ مِنَ التَّرَدُّدِ فِي حُكْمِ هَؤُلَاءِ الْمُطَلَّقَاتِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ الشَّرْطِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَهُوَ الْمَوْصُولُ وَبَيْنَ خَبَرِهِ وَهُوَ جُمْلَةُ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ.
وَالْفَاءُ فِي فَعِدَّتُهُنَّ دَاخِلَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الْخَبَرِ لِمَا فِي الْمَوْصُولِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما [النِّسَاء: ١٦] وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ.
وَالِارْتِيَابُ عَلَى هَذَا قَدْ وَقَعَ فِيمَا مَضَى فَتَكُونُ إِنِ مُسْتَعْمَلَةً فِي مَعْنَى الْيَقِينِ بِلَا نُكْتَةٍ.
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: مَشَى أَصْحَابُهَا إِلَى أَنَّ مَرْجِعَ الْيَأْسِ وَمَرْجِعَ الِارْتِيَابِ وَاحِدٌ، وَهُوَ حَالَةُ الْمُطَلَّقَةِ مِنَ الْمَحِيضِ، وَهُوَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ وَبِهِ فَسَّرَ يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ
وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ هَادٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَنَسَبَهُ ابْنُ لُبَابَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ.
وَهَذَا التَّفْسِيرُ يَمْحَضُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الِارْتِيَابِ حُصُولَ الرَّيْبِ فِي حَالِ الْمَرْأَةِ.
وَعَلَى هَذَا فَجُمْلَةُ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ خَبَرٌ عَنْ اللَّائِي يَئِسْنَ، أَيْ إِنِ ارْتَبْنَ هُنَّ وَارْتَبْتُمْ أَنْتُمْ لِأَجْلِ ارْتِيَابِهِنَّ، فَيَكُونُ ضَمِيرُ جَمْعِ الذُّكُورِ الْمُخَاطَبِينَ تَغْلِيبًا وَيَبْقَى الشَّرْطُ عَلَى شَرْطِيَّتِهِ. وَالِارْتِيَابُ مُسْتَقْبَلٌ وَالْفَاءُ رَابِطَةٌ لِلْجَوَابِ.
_________
(١) خَلاد بخاء مُعْجمَة فِي أَوله ابْن النُّعْمَان الْأنْصَارِيّ. قَالَ فِي «الْإِصَابَة» : لم يذكر إلّا فِي تَفْسِير مقَاتل.
سُوءِ فَهْمِهِمْ لِهَذِهِ الْعِدَّةِ تَمْهِيدًا بِالتَّعْرِيضِ قَبْلَ التَّصْرِيحِ، لِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ شَعَرَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ بِأَنَّهُمْ لَمَّا ارْتَابُوا فِي ذَلِكَ فَقَدْ كَانُوا دُونَ مَرْتَبَةِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لِأَنَّهُمْ لَا يُنَازِعُونَ فِي أَنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ أَرْجَحُ مِنْهُمْ عُقُولًا وَأَسَدُّ قَوْلًا، وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهِ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا، أَيْ لِيَقُولُوا هَذَا الْقَوْلَ إِعْرَابًا عَمَّا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ غَيْرَ عَالِمِينَ بِتَصْدِيقِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ.
وَاللَّامُ لَامُ الْعَاقِبَةِ مِثْلَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: ٨].
وَالْمَرَضُ فِي الْقُلُوبِ: هُوَ سُوءُ النِّيَّةِ فِي الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَزَالُوا فِي تَرَدُّدٍ بَيْنَ أَنْ يُسْلِمُوا وَأَنْ يَبْقَوْا عَلَى الشِّرْكِ مِثْلَ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الْمُنَافِقُونَ لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ مَا ظَهَرُوا إِلَّا فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَالْآيَةُ مَكِّيَّةٌ.
وماذا أَرادَ اللَّهُ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ فَإِنَّ (مَا) اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَ (ذَا) أَصْلُهُ اسْمُ إِشَارَةٍ فَإِذَا وَقَعَ بَعْدَ (مَا) أَوْ (مِنْ) الِاسْتِفْهَامِيَّتَيْنِ أَفَادَ مَعْنَى الَّذِي، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: مَا الْأَمْرُ الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ بِهَذَا الْكَلَامِ فِي حَالِ أَنَّهُ مَثَلٌ، وَالْمَعْنَى: لَمْ يُرِدِ اللَّهُ هَذَا الْعَدَدَ الْمُمَثَّلِ بِهِ، وَقَدْ كُنِّيَ بِنَفْيِ إِرَادَةِ اللَّهِ الْعَدَدَ عَنْ إِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَالَ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى: لَمْ يُرِدِ اللَّهُ الْعَدَدَ الْمُمَثَّلَ بِهِ فَكَنَّوْا بِنَفْيِ إِرَادَةِ اللَّهِ وَصْفَ هَذَا الْعَدَدِ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَدَدُ مُوَافِقًا لِلْوَاقِعِ لِأَنَّهُمْ يَنْفُونَ فَائِدَتَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا تَكْذِيبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا وَحْيًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى قَوْلِهِ: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: ٣٠].
ومَثَلًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ هَذَا، وَالْمَثَلُ: الْوَصْفُ، أَيْ بِهَذَا الْعَدَدِ وَهُوَ تِسْعَةَ عَشَرَ، أَيْ مَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا الْعَدَدِ دُونَ غَيْرِهِ مِثْلَ عِشْرِينَ.
وَالْمَثَلُ: وَصْفُ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ، أَيْ مَا وَصَفَهُ مِنْ عَدَدِ خَزَنَةِ النَّارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [مُحَمَّد: ١٥] الْآيَةَ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِذِي حِجْرٍ لَامُ التَّعْلِيلِ، أَيْ قَسَمٌ لِأَجْلِ ذِي عَقْلٍ يَمْنَعُهُ مِنَ الْمُكَابَرَةِ فَيَعْلَمُ أَنَّ الْمُقْسِمَ بِهَذَا الْقَسَمِ صَادِقٌ فِيمَا أقسم عَلَيْهِ.
[٦- ١٤]
[سُورَة الْفجْر (٨٩) : الْآيَات ٦ إِلَى ١٤]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠)
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤)
لَا يَصْلُحُ هَذَا أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلْقَسَمِ وَلَكِنَّهُ: إِمَّا دَلِيلُ الْجَوَابِ إِذْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ مَا فُعِلَ بِهَذِهِ الْأُمَمِ الثَّلَاثِ وَهُوَ الِاسْتِئْصَالُ الدَّالُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ، فَتَقْدِيرُ الْجَوَابِ لَيَصُبَّنَّ رَبُّكَ عَلَى مُكَذِّبِيكَ سَوْطَ عَذَابٍ كَمَا صَبَّ عَلَى عَادٍ وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ.
وَإِمَّا تَمْهِيدٌ لِلْجَوَابِ وَمُقَدِّمَةٌ لَهُ إِنْ جَعَلْتَ الْجَوَابَ قَوْلَهُ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ اعْتِرَاضٌ جُعِلَ كَمُقَدِّمَةٍ لِجَوَابِ الْقَسَمِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ لِلْمُكَذِّبِينَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرُهُمْ، فَيَكُونُ تَثْبِيتًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إِبْرَاهِيم: ٤٢].
فَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ تَقْرِيرِيٌّ، وَالْمُخَاطَبُ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَثْبِيتًا لَهُ وَوَعْدًا بِالنَّصْرِ، وَتَعْرِيضًا لِلْمُعَانِدِينَ بِالْإِنْذَارِ بِمِثْلِهِ فَإِنَّ مَا فُعِلَ بِهَذِهِ الْأُمَمِ الثَّلَاثِ مَوْعِظَةٌ وَإِنْذَارٌ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ فَعَلُوا مِثْلَ فِعْلِهِمْ مِنْ تَكْذِيبِ رُسُلِ اللَّهِ قُصِدَ مِنْهُ تَقْرِيبُ وُقُوعِ ذَلِكَ وَتَوَقُّعُ حُلُولِهِ. لِأَنَّ التَّذْكِيرَ بِالنَّظَائِرِ وَاسْتِحْضَارَ الْأَمْثَالِ يُقَرِّبُ إِلَى الْأَذْهَانِ الْأَمْرَ الْغَرِيبَ الْوُقُوعِ،
لِأَنَّ بُعْدَ الْعَهْدِ بِحُدُوثِ أَمْثَالِهِ يُنْسِيهِ النَّاسَ، وَإِذَا نُسِيَ اسْتَبْعَدَ النَّاسُ وُقُوعَهُ، فَالتَّذْكِيرُ يُزِيلُ الِاسْتِبْعَادَ.
فَهَذِهِ الْعِبَرُ جُزْئِيَّاتٌ مِنْ مَضْمُونِ جَوَابِ الْقَسَمِ، فَإِنْ كَانَ مَحْذُوفًا فَذِكْرُهَا دَلِيلُهُ، وَإِنْ كَانَ الْجَوَابُ قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ كَانَ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْجَوَابِ


الصفحة التالية
Icon