نَفْسِهِ
فَفِي الْحَدِيثِ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِثْرَ سَمَاءٍ»
إِلَخْ، وَلَمَّا كَانَ تَكَوُّنُ الْمَطَرِ مِنَ الطَّبَقَةِ الزَّمْهَرِيرِيَّةِ الْمُرْتَفِعَةِ فِي الْجَوِّ جُعِلَ ابْتِدَاؤُهُ مِنَ السَّمَاءِ وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مِنَ السَّماءِ تَقْيِيدًا لِلصَّيِّبِ إِمَّا بِمَعْنَى مِنْ جَمِيعِ أَقْطَارِ الْجَوِّ إِذَا قُلْنَا إِنَّ التَّعْرِيفَ فِي السَّمَاءِ لِلِاسْتِغْرَاقِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» عَلَى بُعْدٍ فِيهِ إِذْ لَمْ يُعْهَدُ دُخُولُ لَامِ الِاسْتِغْرَاقِ إِلَّا عَلَى اسْمٍ كُلِّيٍّ ذِي أَفْرَادٍ دُونَ اسْمِ كُلٍّ ذِي أَجْزَاءٍ فَيَحْتَاجُ لِتَنْزِيلِ الْأَجْزَاءِ مَنْزِلَةَ أَفْرَادِ الْجِنْسِ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ نَظِيرٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي إِنْ جَعَلْنَا قَوْلَهُ: مِنَ السَّماءِ قَيْدًا لِلصَّيِّبِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ السَّمَاءِ أَعْلَى الِارْتِفَاعِ وَالْمَطَرُ إِذَا كَانَ مِنْ سَمْتٍ مُقَابِلٍ وَكَانَ عَالِيًا كَانَ أَدْوَمَ بِخِلَافِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ جَوَانِبِ الْجَوِّ وَيَكُونُ قَرِيبًا مِنَ الْأَرْضِ غَيْرَ مُرْتَفِعٍ. وَضَمِيرُ (فِيهِ) عَائِدٌ إِلَى (صَيِّبٍ) وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ بِمَعْنَى مَعَهُ، وَالظُّلُمَاتُ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ آنِفًا.
وَالْمُرَادُ بِالظُّلُمَاتِ ظَلَامُ اللَّيْلِ أَيْ كَسَحَابٍ فِي لَوْنِهِ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَسَحَابَةُ اللَّيْلِ أَشَدُّ مَطَرًا وَبَرْقًا وَتُسَمَّى سَارِيَةً. وَالرَّعْدُ أَصْوَاتٌ تَنْشَأُ فِي السَّحَاب. والبرق لَا مَعَ نَارِيٌّ مُضِيءٌ يَظْهَرُ فِي السَّحَابِ، وَالرَّعْدُ وَالْبَرْقُ يَنْشَآنِ فِي السَّحَابِ مِنْ أَثَرٍ كَهْرَبَائِيٍّ يَكُونُ فِي السَّحَابِ فَإِذَا تَكَاثَفَتْ سَحَابَتَانِ فِي الْجَوِّ إِحْدَاهُمَا كَهْرَبَاؤُهَا أَقْوَى مِنْ كَهْرَبَاءِ الْأُخْرَى وَتَحَاكَّتَا جَذَبَتِ الْأَقْوَى مِنْهُمَا الْأَضْعَفَ فَحَدَثَ بِذَلِكَ انْشِقَاقٌ فِي الْهَوَاءِ بِشِدَّةٍ وَسُرْعَةٍ فَحَدَثَ صَوْتٌ قَوِيٌّ هُوَ الْمُسَمَّى الرَّعْدَ وَهُوَ فَرْقَعَةٌ هَوَائِيَّةٌ مِنْ فِعْلِ الْكَهْرَبَاءِ، وَيَحْصُلُ عِنْدَ ذَلِكَ الْتِقَاءُ الْكَهْرَبَاءَيْنِ وَذَلِكَ يُسَبِّبُ انْقِدَاحَ الْبَرْقِ.
وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الصَّيِّبَ تَشْبِيهٌ لِلْقُرْآنِ وَأَنَّ الظُّلُمَاتِ وَالرَّعْدَ وَالْبَرْقَ تَشْبِيهٌ لِنَوَازِعِ الْوَعِيدِ
بِأَنَّهَا تَسُرُّ أَقْوَامًا وَهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِالْغَيْثِ وَتَسُوءُ الْمُسَافِرِينَ غَيْرَ أَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ، فَكَذَلِكَ الْآيَاتُ تَسُرُّ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يَجِدُونَ أَنْفُسَهُمْ نَاجِينَ مِنْ أَنْ تَحِقَّ عَلَيْهِمْ وَتَسُوءُ الْمُنَافِقِينَ إِذْ يَجِدُونَهَا مُنْطَبِقَةً عَلَى أَحْوَالِهِمْ
أَنْ يَسْأَلُوا عَنِ الْمَالِ الْمُنْفَقِ بِمَعْنَى السُّؤَالِ عَنِ النَّوْعِ الَّذِي يُنْفَقُ مِنْ ذَهَبٍ أَمْ مِنْ وَرِقٍ أَمْ مِنْ طَعَامٍ، لِأَنَّ هَذَا لَا تَتَعَلَّقُ بِالسُّؤَالِ عَنْهُ أَغْرَاضُ الْعُقَلَاءِ، إِذْ هُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْمَقْصِدَ مِنِ الْإِنْفَاقِ إِيصَالُ النَّفْعِ لِلْمُنْفَقِ عَلَيْهِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ كَيْفِيَّاتِ الْإِنْفَاقِ وَمَوَاقِعِهِ، وَلَا يُرِيبُكُمْ فِي هَذَا أَنَّ السُّؤَالَ هُنَا وَقَعَ بِمَا وَهِيَ يَسْأَلُ بِهَا عَنِ الْجِنْسِ لَا عَنِ الْعَوَارِضِ، فَإِنَّ ذَلِكَ اصْطِلَاحٌ مَنْطِقِيٌّ لِتَقْرِيبِ مَا تَرْجَمُوهُ مِنْ تَقْسِيمَاتٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى اللُّغَةِ الْيُونَانِيَّةِ وَأَخَذَ بِهِ السَّكَّاكِيُّ، لِأَنَّهُ يَحْفِلُ بِاصْطِلَاحِ أَهْلِ الْمَنْطِقِ وَذَلِكَ لَا يَشْهَدُ لَهُ الِاسْتِعْمَالُ الْعَرَبِيُّ.
وَالْخَيْرُ: الْمَالُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً [الْبَقَرَة: ١٨٠] آيَةِ الْوَصِيَّةِ.
وَمَا أَنْفَقْتُمْ شَرْطٌ، فَفِعْلُ أَنْفَقْتُمْ مُرَادٌ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الشَّرْطِ، وَعَبَّرَ بِالْمَاضِي لِإِظْهَارِ الرَّغْبَةِ فِي حُصُولِ الشَّرْطِ فَيَنْزِلُ كَالْحَاصِلِ الْمُتَقَرِّرِ.
وَاللَّام فِي فَلِلْوالِدَيْنِ لِلْمِلْكِ، بِمَعْنَى الِاسْتِحْقَاقِ أَيْ فالحقيق بِهِ الْوَالِدين أَيْ إِنْ تُنْفِقُوا فَأَنْفِقُوا لِلْوَالِدَيْنِ أَوْ أَعْطُوا لِلْوَالِدَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى [الْبَقَرَة: ١٧٧] الْآيَةَ.
وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى هَؤُلَاءِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ، وَهِيَ فِي النَّفَقَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ حَقِّ الْمَالِ أَعْنِي الزَّكَاةَ وَلَا هِيَ مِنْ حَقِّ الذَّاتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا ذَاتٌ كَالزَّوْجَةِ، بَلْ هَذِهِ النَّفَقَةُ الَّتِي هِيَ مَنْ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِكِفَايَةِ الْحَاجَةِ وَلِلتَّوْسِعَةِ وَأَوْلَى الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَقُومَ بِهَا أَشَدُّهُمْ قُرَابَةً بِالْمُعْوِزِينَ مِنْهُمْ، فَمِنْهَا وَاجِبَةٌ كَنَفَقَةِ الْأَبَوَيْنِ الْفَقِيرَيْنِ وَالْأَوْلَادِ الصِّغَارِ الَّذِينَ لَا مَالَ لَهُمْ إِلَى أَنْ يَقْدِرُوا عَلَى التَّكَسُّبِ أَوْ يَنْتَقِلَ حَقُّ الْإِنْفَاقِ إِلَى غَيْرِ الْأَبَوَيْنِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِحَسَبِ عَادَةِ أَمْثَالِهِمْ، وَفِي تَحْدِيدِ الْقُرْبَى الْمُوجِبَةِ لِلْإِنْفَاقِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. فَلَيْسَتْ هَاتِهِ الْآيَةُ بِمَنْسُوخَةٍ بِآيَةِ الزَّكَاةِ، إِذْ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا حَتَّى نَحْتَاجَ لِلنَّسْخِ وَلَيْسَ فِي لَفْظِ هَاتِهِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ حَتَّى يُظَنَّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي صَدَقَةٍ وَاجِبَةٍ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ.
وَابْنُ السَّبِيلِ هُوَ الْغَرِيبُ عَنِ الْحَيِّ الْمَارِّ فِي سَفَرِهِ، يُنْفَقُ عَلَيْهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ الْكِنَايَةُ عَنِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْعَلِيمَ الْقَدِيرَ إِذَا امْتَثَلَ أَحَدٌ لِأَمْرِهِ لَا يَحُولُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ جَزَائِهِ عَلَيْهِ حَائِلٌ. وَشَمَلَ عُمُومُ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ الْأَفْعَالَ الْوَاجِبَةَ وَالْمُتَطَوَّعَ بِهَا فَيَعُمُّ النَّفَقَات وَغَيرهَا.
يُقَالُ: جَنَّهُ اللَّيْلُ، أَيْ أَخْفَاهُ، وَجَنَانُ اللَّيْلِ- بِفَتْحِ الْجِيمِ-، وَجَنَّهُ: سَتْرُهُ الْأَشْيَاءَ الْمَرْئِيَّةَ بِظَلَامِهِ الشَّدِيدِ. يُقَالُ: جِنَّهُ اللَّيْلُ، وَهُوَ الْأَصْلُ. وَيُقَالُ: جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، وَهَذَا يُقْصَدُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي السَّتْرِ بِالظُّلْمَةِ حَتَّى صَارَتْ كَأَنَّهَا غِطَاءٌ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَسْمَعْ فِي كَلَامِهِمْ جَنَّ اللَّيْلُ قَاصِرًا بِمَعْنَى أَظْلَمَ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: رَأى كَوْكَباً أَنَّهُ حَصَلَتْ لَهُ رُؤْيَةُ الْكَوَاكِبِ عَرَضًا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِلتَّأَمُّلِ وَإِلَّا فَإِنَّ الْأُفُقَ فِي اللَّيْلِ مَمْلُوءٌ كواكب، وأنّ الْكَوَاكِب كَانَ حِينَ رَآهُ وَاضِحًا فِي السَّمَاءِ مُشْرِقًا بِنُورِهِ، وَذَلِكَ أَنْوَرُ مَا يَكُونُ فِي وَسَطِ السَّمَاءِ. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ رَأَى كَوْكَبًا مِنْ بَيْنِهَا شَدِيدَ الضَّوْءِ. فَعَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّ الْكَوْكَبَ هُوَ الزُّهَرَةُ. وَعَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ الْمُشْتَرِي.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَظَرَ الْكَوَاكِبَ فَرَأَى كَوْكَبًا فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ مِثْلُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشُّعَرَاء: ٦٣]، أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ. وَجُمْلَةُ رَأى كَوْكَباً جَوَاب فَلَمَّا. وَالْكَوْكَبُ: النَّجْمُ.
وَجُمْلَةُ: قالَ هَذَا رَبِّي مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا جَوَابًا لِسُؤَالٍ يَنْشَأُ عَنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ رَأى كَوْكَباً وَهُوَ أَنْ يَسْأَلَ سَائِلٌ: فَمَاذَا كَانَ عِنْد مَا رَآهُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: قالَ هَذَا رَبِّي جوبا لِذَلِكَ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ هُنَا لِقَصْدِ تَمْيِيزِ الْكَوْكَبِ مِنْ بَيْنِ الْكَوَاكِب وَلَكِن إجراؤه عَلَى نَظِيرَيْهِ فِي قَوْلِهِ حِينَ رَأَى الْقَمَرَ وَحِينَ رَأَى الشَّمْسَ هَذَا رَبِّي- هَذَا رَبِّي يُعَيِّنُ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ الْأَصْلِيُّ مِنْهُ هُوَ الْكِنَايَةُ بِالْإِشَارَةِ عَنْ كَوْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَمْرًا مَطْلُوبًا مَبْحُوثًا عَنْهُ فَإِذَا عُثِرَ عَلَيْهِ أُشِيرَ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ كَالْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ [الرّوم: ٥٦]، وَقَوْلِهِ: قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [يُوسُف: ٣٢] وَلَمْ يُقَلْ فَهُوَ الَّذِي لُمْتُنَّنِي. وَلَعَلَّ مِنْهُ قَوْلَهُ: هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا [يُوسُف: ٦٥] إِذْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى «بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا». وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» قَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: «ذَهَبْتُ لِأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ» (يَعْنِي عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ) وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ، لِأَنَّ عَلِيًّا وَشَأْنُهُ هُوَ الْجَارِي فِي خَوَاطِرِ النَّاسِ أَيَّامَ صِفِّينَ، وَسَيَأْتِي قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ [الْأَنْعَام: ٨٩] يَعْنِي كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَفِي حَدِيثِ سُؤَالِ الْقَبْرِ: «فَيُقَالُ لَهُ مَا عِلْمُكَ
التَّحْذِيرِ هُنَا وَالِاتِّقَاءِ- مِنَ الْفِتْنَةِ فَأَكَّدَ الْأَمْرَ بِاتِّقَائِهَا بِنَهْيِهَا هِيَ عَنْ إِصَابَتِهَا إِيَّاهُمْ، لِأَنَّ هَذَا النَّهْيَ مِنْ أَبْلَغِ صِيَغِ النَّهْيِ بِأَنْ يُوَجِّهَ النَّهْيَ إِلَى غَيْرِ الْمُرَادِ نَهْيُهُ تَنْبِيهًا لَهُ عَلَى تَحْذِيرِهِ مِنَ الْأَمْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي اللَّفْظِ، وَالْمَقْصُودُ تَحْذِيرُ الْمُخَاطَبِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّ نَهْيَ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ فِي صِيغَةِ النَّهْيِ يَسْتَلْزِمُ تَحْذِيرَ الْمُخَاطَبِ فَكَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ نَهْيَيْنِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ:
لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا، فَإِنَّهُ فِي الظَّاهِرِ الْمُتَكَلِّمُ نَفْسُهُ عَنْ فِعْلِ الْمُخَاطَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ [الْأَعْرَاف: ٢٧] وَيُسَمَّى هَذَا بِالنَّهْيِ الْمُحَوَّلِ، فَلَا ضَمِيرَ فِي النَّعْتِ بِالْجُمْلَةِ الطَّلَبِيَّةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةَ: لَا تُصِيبَنَّ نَهْيًا مُسْتَأْنَفًا تَأْكِيدًا لِلْأَمْرِ بِاتِّقَائِهَا مَعَ زِيَادَةِ التَّحْذِيرِ بِشُمُولِهَا مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الظَّالِمِينَ.
وَلَا يَصِحُّ جَعْلُ جُمْلَةِ: لَا تُصِيبَنَّ جَوَابًا لِلْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْهُ قَوْلُهُ: الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَإِنَّمَا كَانَ يَجُوزُ لَوْ قَالَ: «لَا تُصِيبَنَّكُمْ» كَمَا يَظْهَرُ
بِالتَّأَمُّلِ، وَقَدْ أَبْطَلَ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» جَعْلَ (لَا) نَافِيَةً هُنَا، وَرَدَّ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ تَجْوِيزَهُ ذَلِكَ.
وخَاصَّةً اسْمُ فَاعِلٍ مُؤَنَّثٍ لِجَرَيَانِهِ عَلَى فِتْنَةً فَهُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تُصِيبَنَّ وَهِيَ حَالٌ مُفِيدَةٌ لِأَنَّهَا الْمَقْصُودُ مِنَ التَّحْذِيرِ.
وَافْتِتَاحُ جُمْلَةِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ بِفِعْلِ الْأَمْرِ بِالْعِلْمِ لِلِاهْتِمَامِ لِقَصْدِ شِدَّةِ التَّحْذِيرِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الْأَنْفَال:
٢٤] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِمَنْ يُخَالِفُ أَمْرَهُ، وَذَلِكَ يَشْمَلُ مَنْ يُخَالِفُ الْأَمر بالاستجابة.
[٢٦]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٢٦]
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦)
عُطِفَ عَلَى الْأَمْرِ بِالِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ فِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، وَعَلَى إِعْلَامِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ نِيَّاتُهُمْ، وَعَلَى التَّحْذِيرِ مِنْ فِتْنَةِ الْخِلَافِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَ (إِلى أَجَلٍ) مُتَعَلِّقٌ بِ يُمَتِّعْكُمْ وَهُوَ غَايَةٌ لِلتَّمْتِيعِ، وَذَلِكَ مَوْعِظَةٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَتَاعَ لَهُ نِهَايَةٌ، فَعُلِمَ أَنَّهُ مَتَاعُ الدُّنْيَا. وَالْمَقْصُودُ بِالْأَجَلِ: أَجْلُ كُلِّ وَاحِدٍ وَهُوَ نِهَايَةُ حَيَاتِهِ، وَهَذَا وَعْدٌ بِأَنَّهُ نِعْمَةٌ بَاقِيَةٌ طُولَ الْحَيَاةِ.
وَجُمْلَةُ: يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: يُمَتِّعْكُمْ. وَالْإِيتَاءُ:
الْإِعْطَاءُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَتَاعِ الْحَسَنِ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ إِعْطَاءُ نَعِيمِ الْآخِرَةِ. وَالْفَضْلُ:
إِعْطَاءُ اَلْخَيْرِ. سُمِّيَ فَضْلًا لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ فَاعِلَ اَلْخَيْرِ يَفْعَلُهُ بِمَا هُوَ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَتِهِ، ثُمَّ تُنُوسِيَ ذَلِكَ فَصَارَ الْفَضْلُ بِمَعْنَى إِعْطَاءِ اَلْخَيْرِ.
وَالْفَضْلُ الْأَوَّلُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ، بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِفَضْلِ اللَّهِ الْغَنِيِّ عَنِ النَّاسِ.
وَالْفَضْلُ الثَّانِي الْمُضَافُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ هُوَ ثَوَابُ الْآخِرَةِ، بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِالْمَتَاعِ فِي الدُّنْيَا. وَالْمَعْنَى: وَيُؤْتِ اللَّهُ فَضْلَهُ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فِي عَمَلِهِ.
وَلَمَّا عُلِّقَ الْإِيتَاءُ بِالْفَضْلَيْنِ عُلِمَ أَنَّ مِقْدَارَ الْجَزَاءِ بِقَدْرِ الْمُجْزِيِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ عُلِّقَ بِذِي فَضْلٍ وَهُوَ فِي قُوَّةِ الْمُشْتَقِّ، فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِالتَّعْلِيلِ وَبِالتَّقْدِيرِ. وَضَبْطُ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ سِرٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ. وَنَظِيرُ هَذَا مَعَ اخْتِلَافٍ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَزِيَادَةِ بَيَانٍ، قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [النَّحْل: ٩٧].
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ عَطْفٌ عَلَى وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ فَهُوَ مِنْ تَمَامِ مَا جَاءَ تَفْسِيرًا لِ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود: ١] وَهُوَ مِمَّا أُوحِيَ بِهِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبَلِّغَهُ إِلَى النَّاسِ.
وَتَوَلَّوْا: أَصْلُهُ تَتَوَلَّوْا، حذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا.
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١٢٣]
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣)
ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ الْمُشِيرِ إِلَى أَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ مُتَبَاعِدٌ فِي رُتْبَةِ الرِّفْعَةِ عَلَى مَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا تَنْوِيهًا جَلِيلًا بِشَأْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَزِيَادَةً فِي التَّنْوِيهِ بِإِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، أَيْ جَعَلْنَاكَ مُتَّبِعًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، وَذَلِكَ أَجَلُّ مَا أَوْلَيْنَاكُمَا مِنَ الْكَرَامَةِ. وَقَدْ بَيَّنْتُ آنِفًا أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ هِيَ الْمَقْصُودُ، وَأَنَّ جُمْلَةَ إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [سُورَة النَّحْل: ١٢٠] إِلَخْ. تَمْهِيدٌ لَهَا.
وَزِيدَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ كَانَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ وَإِرْشَادٍ صَادِقٍ، تَعْرِيضًا بِأَنَّ الَّذِينَ زَعَمُوا اتِّبَاعَهُمْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ قَبْلُ قَدْ أَخْطَأُوهَا بِشُبْهَةٍ مِثْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، أَوْ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ مِثْلُ مَزَاعِمِ قُرَيْشٍ فِي دِينِهِمْ.
وأَنِ تفسيرية لفعل أَوْحَيْنا لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ، فَاحْتِيجَ إِلَى تَفْسِيرِهِ بِحَرْفِ التَّفْسِيرِ.
وَالِاتِّبَاعُ: اقْتِفَاءُ السَّيْرِ عَلَى سَيْرٍ آخَرَ. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْعَمَلِ بِمِثْلِ عَمَلِ الْآخَرِ.
وَانْتَصَبَ حَنِيفاً عَلَى الْحَالِ مِنْ إِبْراهِيمَ فَيَكُونُ زِيَادَةَ تَأْكِيدٍ لِمُمَاثِلِهِ قَبْلَهُ أَوْ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ إِلَيْكَ أَوْ مِنْ ضَمِيرِ اتَّبِعْ، أَيْ كُنْ يَا مُحَمَّدُ حَنِيفًا كَمَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ حَنِيفًا. وَلِذَلِكَ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ»
. وَتَفْسِيرُ فِعْلِ أَوْحَيْنا بِجُمْلَةِ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ تَفْسِيرٌ بِكَلَامٍ جَامِعٍ لِمَا أَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَى مُحَمَّد- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ
كِلَاهُمَا حِينَ جَدَّ الْجَرْيُ بَيْنَهُمَا | قَدْ أَقْلَعَا وَكِلَا أَنْفَيْهِمَا رَابِي |
وأُكُلَها قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ-. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الْكَافِ- وَهُوَ الثَّمَرُ، وَتَقَدَّمَ.
وَجُمْلَةُ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ. وَالْمَعْنَى: أَثْمَرَتِ الْجَنَّتَانِ إِثْمَارًا كَثِيرًا حَتَّى أَشْبَهَتِ الْمُعْطِيَ مِنْ عِنْدِهِ.
وَمَعْنَى وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً لَمْ تَنْقُصْ مِنْهُ، أَيْ مِنْ أُكُلِهَا شَيْئًا، أَيْ لَمْ تَنْقُصْهُ عَنْ مِقْدَارِ مَا تُعْطِيهِ الْأَشْجَارُ فِي حَالِ الْخِصْبِ. فَفِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ بِحَذْفِ مُضَافٍ. وَالتَّقْدِيرُ:
وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْ مِقْدَارِ أَمْثَالِهِ. وَاسْتُعِيرَ الظُّلْمُ لِلنَّقْصِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ بِتَشْبِيهِ هَيْئَةِ صَاحِبِ الْجَنَّتَيْنِ فِي إِتْقَانِ خَبَرِهِمَا وَتَرَقُّبِ إِثْمَارِهِمَا بِهَيْئَةِ مَنْ صَارَ لَهُ حَقٌّ فِي وَفْرَةِ غَلَّتِهَا بِحَيْثُ إِذَا لَمْ تَأْتِ الْجَنَّتَانِ بِمَا هُوَ مُتَرَقَّبٌ مِنْهُمَا أَشْبَهَتَا مَنْ حَرَمَ ذَا حَقٍّ حَقَّهُ فَظَلَمَهُ، فَاسْتُعِيرَ الظُّلْمُ لِإِقْلَالِ الْإِغْلَالِ، وَاسْتُعِيرَ نَفْيُهُ لِلْوَفَاءِ بِحَقِّ الْإِثْمَارِ.
وَالتَّفْجِيرُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٩٠].
وَالنَّهَرُ- بِتَحْرِيكِ الْهَاءِ- لُغَةٌ فِي النَّهْرِ بِسُكُونِهَا. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٩].
وَجُمْلَةُ وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ لِأَحَدِهِما. وَالثُّمُرُ- بِضَمِّ الثَّاءِ وَالْمِيمِ-: الْمَالُ الْكَثِيرُ الْمُخْتَلِفُ مِنَ النَّقْدَيْنِ وَالْأَنْعَامِ وَالْجَنَّاتِ وَالْمَزَارِعِ. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ ثُمِّرَ مَالُهُ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ بِالْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ، يُقَالُ: ثَمَّرَ اللَّهُ مَالَهُ إِذَا كَثُرَ. قَالَ النَّابِغَةُ:
فَلَمَّا رَأَى أَنْ ثَمَّرَ اللَّهُ مَالَهُ | وَأَثَّلَ مَوْجُودًا وَسَدَّ مَفَاقِرَهْ |
[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ١١٥]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥)
لَمَّا كَانَتْ قِصَّةُ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ فِرْعَوْنَ وَمَعَ قَوْمِهِ ذَاتَ عِبْرَةٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَالْمُعَانِدِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَانَدُوهُ، وَذَلِكَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَصَصِهَا كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً [طه: ٩٩، ١٠٠] فَكَأَنَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَحَبَّ الزِّيَادَةَ مِنْ هَذِهِ الْقَصَصِ ذَاتِ الْعِبْرَةِ رَجَاءَ أَنَّ قَوْمَهُ يَفِيقُونَ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه: ١١٤] أُعْقِبَتْ تِلْكَ الْقِصَّةُ بِقِصَّةِ آدَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَا عَرَّضَ لَهُ بِهِ الشَّيْطَانُ، تَحْقِيقًا لِفَائِدَةِ قَوْلِهِ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: ١١٤]. فَالْجُمْلَةُ عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ وَالْمُنَاسَبَةُ مَا سَمِعْتَ.
وَالْكَلَامُ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ. وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّحْقِيقِ وَلَامِ الْقَسَمِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْقِصَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى قَصْدِ التَّنْظِيرِ بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ فِي التَّفْرِيطِ فِي الْعَهْدِ، لِأَنَّ فِي الْقِصَّةِ الْأُولَى تَفْرِيطُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عَهْدِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ فِيهَا أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ [طه: ٨٦]، وَفِي قِصَّةِ آدَمَ تَفْرِيطًا فِي الْعَهْدِ أَيْضًا. وَفِي كَوْنِ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ كَمَا قَالَ فِي الْقِصَّةِ الْأُولَى وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي [طه: ٩٦] وَقَالَ فِي هَذِهِ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ [طه: ١٢٠].
وَفِي أَنَّ فِي الْقِصَّتَيْنِ نِسْيَانًا لِمَا يَجِبُ الْحِفَاظُ عَلَيْهِ وَتَذَكُّرُهُ فَقَالَ فِي الْقِصَّةِ الأولى فَنَسِيَ [طه: ١٦] وَقَالَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً.
وَالِاسْتِفْهَامُ: إِنْكَارِيٌّ، نَزَلَتْ غَفْلَةُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ عَنِ الِاعْتِبَارِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ وَالِاعْتِدَادِ بِهَا مَنْزِلَةَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهَا، فَأُنْكِرَ ذَلِكَ الْعَدَمُ عَلَى النَّاسِ الَّذِينَ أَهْمَلُوا الشُّكْرَ وَالِاعْتِبَارَ.
وَإِنَّمَا حُكِيَ الْفِعْلُ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ الْإِنْكَارِيُّ مُقْتَرِنًا بِحَرْفِ (لَمْ) الَّذِي يُخَلِّصُهُ إِلَى الْمُضِيِّ، وَحُكِيَ مُتَعَلِّقُهُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً وَهُوَ الْإِنْزَالُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي كَذَلِكَ وَلَمْ يُرَاعَ فِيهِمَا مَعْنَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ لِأَنَّ مَوْقِعَ إِنْكَارِ عَدَمِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ هُوَ كَوْنُهُ أَمْرًا مُتَقَرِّرًا مَاضِيًا لَا يدّعى جَهله.
وفَتُصْبِحُ بِمَعْنَى تَصِيرُ فَإِنَّ خَمْسًا مِنْ أَخَوَاتِ (كَانَ) تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى: صَارَ.
وَاخْتِيرَ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ النَّبَاتِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى الشُّكْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِقَامَةِ أَقْوَاتِ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ بِذِكْرِ لَوْنِهِ الْأَخْضَرِ لِأَنَّ ذَلِكَ اللَّوْنَ مُمْتِعٌ لِلْأَبْصَارِ فَهُوَ أَيْضًا مُوجِبُ شُكْرٍ عَلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ جَمَالِ الْمَصْنُوعَاتِ فِي الْمَرْأَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النَّحْل: ٦].
وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ مَصِيرِ الْأَرْضِ خَضْرَاءَ بِصِيغَةِ تُصْبِحُ مُخْضَرَّةً مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مُفَرَّعٌ عَلَى
فِعْلِ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً الَّذِي هُوَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِأَنَّهُ قَصَدَ مِنَ الْمُضَارِعِ اسْتِحْضَارَ تِلْكَ الصُّورَةِ الْعَجِيبَةِ الْحَسَنَةِ، وَلِإِفَادَةِ بَقَاءِ أَثَرِ إِنْزَالِ الْمَطَرِ زَمَانًا بَعْدَ زَمَانٍ كَمَا تَقُولُ:
أَنْعَمَ فَلَانٌ عَلَيَّ فَأَرُوحُ وَأَغْدُو شَاكِرًا لَهُ.
وَفِعْلُ تُصْبِحُ مُفَرَّعٌ عَلَى فِعْلِ أَنْزَلَ فَهُوَ مُثْبَتٌ فِي الْمَعْنَى. وَلَيْسَ مُفَرَّعًا عَلَى النَّفْيِ وَلَا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُنْصَبْ بَعْدَ الْفَاءِ لِأَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِالْفَاءِ جَوَابٌ لِلنَّفْيِ إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى: أَلَمْ تَرَ فَتُصْبِحَ الْأَرْضُ.
(٢)
أُجْرِيَتْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى هَذِهِ الصِّفَاتُ الْأَرْبَعُ بِطَرِيقِ تَعْرِيفِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِأَنَّ بَعْضَ الصِّلَاتِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ اتِّصَافُ اللَّهِ بِهِ وَهُمَا الصِّفَتَانِ الْأُولَى وَالرَّابِعَةُ وَإِذْ قَدْ كَانَتَا مَعْلُومَتَيْنِ كَانَتِ الصِّلَتَانِ الْأُخْرَيَانِ الْمَذْكُورَتَانِ مَعَهُمَا فِي حُكْمِ الْمَعْرُوفِ لِأَنَّهُمَا أُجْرِيَتَا عَلَى مَنْ عُرِفَ بِالصِّلَتَيْنِ الْأُولَى وَالرَّابِعَةِ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مَا كَانُوا يَمْتَرُونَ فِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا فِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ الْآيَاتُ مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [٨٦، ٨٧]، وَلَكِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ لِلَّهِ وَلَدًا وَشَرِيكًا فِي الْمُلْكِ.
وَمِنْ بَدِيعِ النَّظْمِ أَنْ جَعَلَ الْوَصْفَانِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِمَا مَعَهُمْ مُتَوَسِّطَيْنِ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا مِرْيَةَ فِيهِمَا حَتَّى يَكُونَ الْوَصْفَانِ الْمُسَلَّمَيْنِ كَالدَّلِيلِ أَوَّلًا وَالنَّتِيجَةِ آخِرًا، فَإِنَّ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا وَلَا أَنْ يَتَّخِذَ شَرِيكًا لِأَنَّ مُلْكَهُ الْعَظِيمَ يَقْتَضِي غِنَاهُ الْمُطْلَقَ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ اتِّخَاذُهُ وَلَدًا وَشَرِيكًا عَبَثًا إِذْ لَا غَايَةَ لَهُ، وَإِذَا كَانَتْ أَفْعَالُ الْعُقَلَاءِ تُصَانُ عَنِ الْعَبَثِ فَكَيْفَ بِأَفْعَالِ أَحْكَمِ الْحُكَمَاءِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ.
فَقَوْلُهُ: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَدَلٌ مِنَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ [الْفُرْقَانَ: ١].
وَإِعَادَةُ اسْمِ الْمَوْصُولِ لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ مِنَ الصِّلَتَيْنِ لِأَنَّ الصِّلَةَ الْأُولَى فِي غَرَضِ الِامْتِنَانِ بِتَنْزِيلِ الْقُرْآنِ لِلْهُدَى، وَالصِّلَةَ الثَّانِيَةَ فِي غَرَضِ اتِّصَافِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ.
وَفِي الْمُلْكِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْمُلْكِ يُنَافِي حَقِيقَةَ الْمُلْكِ التَّامَّةِ الَّتِي لَا يَلِيقُ بِهِ غَيْرُهَا.
وَالْخَلْقُ: الْإِيجَادُ، أَيْ أَوْجَدَ كُلَّ مَوْجُودٍ مِنْ عَظِيمِ الْأَشْيَاءِ وَحَقِيرِهَا. وَفُرِعَ عَلَى خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى إِتْقَانِ الْخَلْقِ إِتْقَانًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَالِقَ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ.
الْأَجْرِ. وَقَدْ
جَاءَ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ابْتَدَأَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَائِشَةَ فَقَالَ لَهَا:
«إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَسْتَعْجِلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ،
فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَقَالَ لِسَائِرِ أَزْوَاجِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ».
وَلَا طَائِلَ تَحْتَ الِاشْتِغَالِ بِأَنَّ هَذَا التَّخْيِيرَ هَلْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مَنْدُوبًا، فَإِنَّهُ أَمْرٌ قَدِ انْقَضَى وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي يُخَالِفُ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْوُجُوبِ أَو النّدب.
[٣٠]
[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : آيَة ٣٠]
يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠)
تَوَلَّى اللَّهُ خِطَابَهُنَّ بَعْدَ أَنْ أَمَرَ رَسُولَهُ بِتَخْيِيرِهِنَّ فَخَيَّرَهُنَّ فَاخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، فَخَاطَبَهُنَّ رَبُّهُنَّ خِطَابًا لِأَنَّهُنَّ أَصْبَحْنَ عَلَى عَهْدٍ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُؤْتِيَهُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا. وَقَدْ سَمَّاهُ عُمَرُ عَهْدًا فَإِنَّهُ كَانَ كَثِيرًا مَا يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ سُورَةَ الْأَحْزَابِ فَإِذَا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ رَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أُذَكِّرُهُنَّ الْعَهْدَ، وَلَمَّا كَانَ الْأَجْرُ الْمَوْعُودُ مَنُوطًا بِالْإِحْسَانِ أُرِيدَ تَحْذِيرُهُنَّ مِنَ الْمَعَاصِي بُلُوغًا بِهِنَّ إِلَى مَرْتَبَةِ الْمَلَكِيَّةِ مُبَالَغَةً فِي التَّحْذِيرِ إِذْ جُعِلَ عَذَابُ الْمَعْصِيَةِ عَلَى فَرْضِ أَنْ تَأْتِيَهَا إِحْدَاهُنَّ عَذَابًا مُضَاعَفًا. وَنِدَاؤُهُنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا سَيُلْقَى إِلَيْهِنَّ. وَنَادَاهُنَّ بِوَصْفِ نِسَاءَ النَّبِيءِ لِيَعْلَمْنَ أَنَّ مَا سَيُلْقَى إِلَيْهِنَّ خَبَرٌ يُنَاسِبُ عُلُوَّ أَقْدَارِهِنَّ. وَالنِّسَاءُ هَنَا مُرَادٌ بِهِ الْحَلَائِلُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٦١]. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَأْتِ بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ مُرَاعَاةً لِمَدْلُولِ مَنْ الشَّرْطِيَّةِ لِأَنَّ مَدْلُولَهَا شَيْءٌ فَأَصْلُهُ عَدَمُ التَّأْنِيثِ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ مَنْ تَأْتِ بِفَوْقِيَّةٍ فِي أَوله مُرَاعَاة لما صدق مَنْ أَيْ: إِحْدَى النِّسَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُضاعَفْ بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ لِلْغَائِبِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ
لِلْحَقِيقَةِ، أَيْ لَا يُقَدِّرُ اللَّهُ مَوْتَهُمْ، فَقَوْلُهُ: فَيَمُوتُوا مُسَبَّبٌ عَلَى الْقَضَاءِ. وَالْمَعْنَى: لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ بِالْمَوْتِ فَيَمُوتُوا، وَمُحْتَمِلٌ لِلْمَجَازِ وَهُوَ الْمَوْتُ. وَتَفْرِيعُ فَيَمُوتُوا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ إِلَّا الْإِمَاتَةَ الَّتِي يَتَسَبَّبُ عَلَيْهَا الْمَوْتُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يَزُولُ عِنْدَهُ الْإِحْسَاسُ، فَيُفِيد أَنهم يماتون مَوْتًا لَيْسَ فِيهِ مِنَ الْمَوْتِ إِلَّا آلَامُهُ دُونَ رَاحَتِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَنادَوْا يَا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ [الزخرف: ٧٧] وَقَالَ تَعَالَى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ [النِّسَاء: ٥٦].
وَضَمِيرُ عَذابِها عَائِدٌ إِلَى جَهَنَّمَ لِيَشْمَلَ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الْمُعَذَّبِينَ يُعَذَّبُونَ بِالنَّارِ وَيُعَذَّبُونَ بِالزَّمْهَرِيرِ وَهُوَ شِدَّةُ الْبَرْدِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ.
وَوَقَعَ كَذلِكَ مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِقَوْلِهِ: نَجْزِي أَيْ نَجْزِيهِمْ جَزَاءً كَذَلِكَ الْجَزَاءِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣].
وَجُمْلَةُ كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ تَذْيِيلٌ. وَالْكَفُورُ: الشَّدِيدُ الْكُفْرِ، وَهُوَ الْمُشْرِكُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَجْزِي بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَنَصْبِ كُلَّ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ يُجْزَى بِيَاءِ الْغَائِبِ وَالْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ وَرَفْعِ كُلَّ.
[٣٧]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٣٧]
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧)
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ.
الضَّمِيرُ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [فاطر: ٣٦] وَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ
[فاطر: ٣٦] وَلَا تُجْعَلُ حَالًا لِأَنَّ التَّذْيِيلَ آذَنَ بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ وَبِاسْتِقْبَالِ كَلَامٍ جَدِيدٍ.
ويَصْطَرِخُونَ مُبَالَغَةٌ فِي (يَصْرُخُونَ) لِأَنَّهُ افْتِعَالٌ مِنَ الصُّرَاخِ وَهُوَ الصِّيَاحُ بِشِدَّةٍ وَجُهْدٍ، فَالِاصْطِرَاخُ مُبَالَغَةٌ فِيهِ، أَيْ يَصِيحُونَ مِنْ شِدَّةِ مَا نَابَهُمْ.
وَجُمْلَةُ رَبَّنا أَخْرِجْنا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يَصْطَرِخُونَ، يَحْسَبُونَ أَنَّ رَفْعَ الْأَصْوَاتِ أَقْرَبُ إِلَى عِلْمِ الله بندائهم ولإظهار عَدَمِ إِطَاقَةِ مَا هُمْ فِيهِ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ فَأَفَادَ قَوْلُهُ: لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أَنَّهُ مُسْتَحِقُّهُ وَأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهِ.
وَالدِّينُ: الطَّاعَةُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْخَالِصُ: السَّالِمُ مِنْ أَنْ يَشُوبَهُ تَشْرِيكُ غَيْرِهِ فِي عِبَادَتِهِ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ.
وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى مَعْنَى الْآيَةِ إِخْلَاصُ الْمُؤْمِنِ الْمُوَحِّدِ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، أَيْ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ لِأَجْلِهِ، أَيْ طَلَبًا لِرِضَاهُ وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ وَهُوَ آيِلٌ إِلَى أَحْوَالِ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُوله فَهِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُوله وَمن كَانَت هجرته إِلَى دنيا يُصِيبهَا أَو امْرَأَة ينْكِحهَا فَهجرَته إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»
. وَعَرَّفَ الْغَزَالِيُّ الْإِخْلَاصَ بِأَنَّهُ تَجْرِيدُ قَصَدِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ عَنْ جَمِيعِ الشَّوَائِبِ.
وَالْإِخْلَاصُ فِي الْعِبَادَةِ أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ وَإِلَى تَرْكِ الْمَنْهِيِّ إِرْضَاءَ اللَّهَ تَعَالَى، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: لِوَجْهِ اللَّهِ، أَيْ لِقَصْدِ الِامْتِثَالِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ الْحَظُّ الدُّنْيَوِيُّ هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى الْعِبَادَةِ مِثْلَ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ لِيَمْدَحَهُ النَّاسُ بِحَيْثُ لَوْ تَعَطَّلَ الْمَدْحُ لَتَرَكَ الْعِبَادَةَ.
وَلِذَا قِيلَ: الرِّيَاءُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ، أَيْ إِذَا كَانَ هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ أَنْ يُقَاتِلَ لِأَجْلِ الْغَنِيمَةِ فَلَوْ أَيِسَ مِنْهَا تَرَكَ الْقِتَالَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ لِلنَّفْسِ حَظٌّ عَاجِلٌ وَكَانَ حَاصِلًا تَبَعًا لِلْعِبَادَةِ وَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ فَهُوَ مُغْتَفَرٌ وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ ذَلِكَ لَا تَخْلُو عَنْهُ النُّفُوسُ، أَوْ كَانَ مِمَّا يُعِينُ عَلَى الِاسْتِزَادَةِ مِنَ الْعِبَادَةِ.
وَفِي «جَامِعِ الْعُتْبِيَّةِ» فِي مَا جَاءَ مِنْ أَنَّ النِّيَّةَ الصَّحِيحَةَ لَا تُبْطِلُهَا الْخَطْرَةُ الَّتِي لَا تُمْلَكُ.
حَدَّثَ الْعُتْبِيُّ عَنْ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ إِلَّا مُقَاتِلٌ، فَمِنْهُمْ مَنِ الْقِتَالُ طَبِيعَتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ رِيَاءً وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ احْتِسَابًا، فَأَيُّ هَؤُلَاءِ الشَّهِيدُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ: «مَنْ قَاتَلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ أَصْلُ أَمْرِهِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ»
أَنَّ اللَّهَ أَخَّرَ الْقَضَاءَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَجَلٍ اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ، فَأَمَّا قَوْمُ مُوسَى فَقَدْ قَضَى بَيْنَهُمْ بِاسْتِئْصَالِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَبِتَمْثِيلِ الْآشُورِيِّينَ بِالْيَهُودِ بَعْدَ مُوسَى، وَبِخَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَزَوَالِ مُلْكِ إِسْرَائِيلَ آخِرًا. وَهَذَا الْكَلَامُ دَاخِلٌ فِي إِتْمَامِ التسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي اسْتِبْطَاءِ النَّصْرِ.
وَالْكَلِمَةُ هِيَ كَلِمَةُ الْإِمْهَالِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِالنِّسْبَةِ لِبَعْضِ الْمُكَذِّبِينَ، وَالْإِمْهَالُ إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ صُرِعُوا بِبَدْرٍ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْجَلَالَةِ بِلَفْظِ رَبِّكَ لِمَا فِي مَعْنَى الرَّبِّ مِنَ الرَّأْفَةِ بِهِ وَالِانْتِصَارِ لَهُ، وَلِمَا فِي الْإِضَافَةِ إِلَى ضمير الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّشْرِيفِ. وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ تَعْزِيزٌ لِلتَّسْلِيَةِ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ كَلِمَةَ (بَيْنَ) دَالَّةً عَلَى أُخْرَى مُقَدَّرَةً عَلَى سَبِيلِ إِيجَازِ الْحَذْفِ.
وَالتَّقْدِيرُ: بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ بِمَا يُظْهِرُ بِهِ انْتِصَارَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ يَكْثُرُ أَنْ يُقَالَ: بَيْنَ كَذَا وَبَيْنَ كَذَا، قَالَ تَعَالَى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سبأ: ٥٤].
وَمَعْنَى سَبَقَتْ أَيْ تَقَدَّمَتْ فِي عِلْمِهِ عَلَى مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ وَإِرَادَتِهِ.
وَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى: جِنْسٌ يَصْدُقُ بِكُلِّ مَا أُجِّلَ بِهِ عِقَابُهُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ. وَأَمَّا ضَمِيرُ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ فَهُوَ خَاصٌّ بِالْمُشْرِكِينَ الشَّاكِّينَ فِي الْبَعْثِ وَالشَّاكِّينَ فِي أَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ.
وَالرَّيْبُ: الشَّكُّ، فَوَصْفُ شَكٍّ بِ مُرِيبٍ مِنْ قَبِيلِ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ بِأَنِ اشْتُقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ وَصْفٌ كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ أَلْيَلُ! وَشعر شَاعِر.
[٤٦]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٤٦]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)
هَذَا مِنْ مُكَمِّلَاتِ التَّسْلِيَةِ وَمِنْ مُنَاسَبَاتِ ذِكْرِ الْأَجَلِ الْمُسَمَّى. وَفِيهِ مَعْنَى التَّذْيِيلِ لِأَنَّ مَنْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُفِيدَةٌ لِلْعُمُومِ سَوَاءٌ اعْتُبِرَتْ شَرْطِيَّةً أَوْ
ثُمَّ وَصَفَ نَعِيمَ نُفُوسِهِمْ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ فِي مَجَالِسِهِمْ وَمُحَادَثَاتِهِمْ بِقَوْلِهِ:
مُتَقابِلِينَ لِأَنَّ الْحَدِيثَ مَعَ الْأَصْحَابِ وَالْأَحِبَّةِ نَعِيمٌ لِلنَّفْسِ فَأَغْنَى قَوْلُهُ: مُتَقابِلِينَ عَنْ ذِكْرِ اجْتِمَاعِهِمْ وَتَحَابِّهِمْ وَحَدِيثِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُهُمْ أَجْمَعِينَ بِأَنَّ ذِكْرَ مَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَهُوَ صِيغَةُ مُتَقَابِلِينَ وَمَادَّتُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَازِ الْبَدِيعِ.
[٥٤- ٥٧]
[سُورَة الدُّخان (٤٤) : الْآيَات ٥٤ الى ٥٧]
كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧)
كَذلِكَ.
اعْتِرَاضٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَاهُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٩١]. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ آنِفًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى.
مَعْنَى زَوَّجْناهُمْ جَعَلْنَاهُمْ أَزْوَاجًا جَمْعَ زَوْجٍ ضِدِّ الْفَرْدِ، أَيْ جَعَلْنَا كُلَّ فَرْدٍ مِنَ الْمُتَّقِينَ زَوْجًا بِسَبَبِ نِسَاءٍ حُورِ الْعُيُونِ.
وَالزَّوْجُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْقَرِينِ، أَيْ قَرَنَّا بِكُلِّ وَاحِدٍ نِسَاءً حُورًا عِينًا، وَلَيْسَ فِعْلُ زَوَّجْناهُمْ هُنَا مُشْتَقًّا مِنَ الزَّوْجِ الشَّائِعِ إِطْلَاقُهُ عَلَى امْرَأَةِ الرَّجُلِ وَعَلَى رَجُلِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ يُقَالُ: زَوَّجَهُ ابْنَتَهُ وَتَزَوَّجَ بِنْتَ فُلَانٍ، قَالَ تَعَالَى: زَوَّجْناكَها [الْأَحْزَاب: ٣٧]، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُرَادٍ هُنَا إِذْ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، إِذْ لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ عُقُودُ نِكَاحٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُمْ مَأْنُوسُونَ بِصُحْبَةِ حَبَائِبَ مِنَ النِّسَاءِ كَمَا أَنِسُوا بِصُحْبَةِ الْأَصْحَابِ وَالْأَحِبَّةِ مِنَ الرِّجَالِ اسْتِكْمَالًا لِمُتَعَارَفِ الْأُنْسِ بَيْنَ النَّاسِ. وُفِي كِلَا الْأُنْسَيْنِ نَعِيمٌ نَفْسَانِيٌّ مُنْجَرٌّ لِلنَّفْسِ مِنَ النَّعِيمِ الْجُثْمَانِيِّ، وَهَذَا مَعْنًى سَامٍ مِنْ مَعَانِي الِانْبِسَاطِ الرُّوحِيِّ وَإِنَّمَا أَفْسَدَ بَعْضَهُ فِي
الدُّنْيَا مَا يُخَالِطُ بَعْضَهُ مِنْ أَحْوَالٍ تَجُرُّ إِلَى فَسَادٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ مِثْلَ ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ شَرْعًا وَمِثْلَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَرْأَةِ قَسْرًا،
تَسَعُ مَا يُلْقَى فِيهَا مِنْ أَهْلِ الْعَذَابِ بِأَنْ يُكْشَفَ بَاطِنُهَا لِلْمَعْرُوضِينَ عَلَيْهَا حَتَّى يَرَوْا سِعَتَهَا كَقَوْلِ الرَّاجِزِ:
امْتَلَا الْحَوْضُ وَقَالَ: قَطْنِي وَالِاسْتِفْهَامُ فِي هَلْ مِنْ مَزِيدٍ مُسْتَعْمَلٌ لِلتَّشْوِيقِ وَالتَّمَنِّي.
وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ مُشَوِّقَةٌ إِلَى الْإِيفَاءِ بِمَا خُلِقَتْ لَهُ كَمَا قَالَ الشَّيْطَان قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الْأَعْرَاف: ١٦]. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى إِظْهَارِ الِامْتِثَالِ لِمَا خَلَقَهَا اللَّهُ لِأَجْلِهِ، وَلِأَنَّهَا لَا تَتَلَكَّأُ وَلَا تَتَعَلَّلُ فِي أَدَائِهِ عَلَى أَكْمَلِ حَالٍ فِي بَابِهِ.
وَالْمَزِيدُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ مِثْلَ الْمَجِيدِ وَالْحَمِيدِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ مَفْعُولٍ مِنْ زَادَ، أَيْ هَلْ مِنْ جَمَاعَةٍ آخَرِينَ يلقون فيّ.
[٣١- ٣٥]
[سُورَة ق (٥٠) : الْآيَات ٣١ إِلَى ٣٥]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥)
عَطَفَ وَأُزْلِفَتِ عَلَى يَقُولُ لِجَهَنَّمَ. فَالتَّقْدِيرُ: يَوْمَ أزلفت الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَهُوَ رُجُوعٌ إِلَى مُقَابِلِ حَالَةِ الضَّالِّينَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَّصِلَةٌ فِي الْمَعْنَى بِجُمْلَةِ وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق: ٢١] وَلَوِ اعْتُبِرَتْ مَعْطُوفَةً عَلَيْهَا لَصَحَّ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ عَطْفَهَا عَلَى جملَة يَوْم يَقُول لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ [ق: ٣٠] غَنِيَّةٌ عَنْ ذَلِكَ وَلَا سِيَّمَا مَعَ طُولِ الْكَلَامِ.
وَالْإِزْلَافُ: التَّقْرِيبُ مُشْتَقٌّ مِنَ الزَّلَفِ بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ الْقُرْبَةُ، وَقِيَاسُ فِعْلِهِ أَنَّهُ كَفَرِحَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ وَلَمْ يُرْوَ فِي كَلَامِهِمْ، أَيْ جُعِلَتِ الْجَنَّةُ قَرِيبًا مِنَ الْمُتَّقِينَ، أَيِ ادْنُوَا مِنْهَا.
وَالْجَنَّةُ مَوْجُودَةٌ مِنْ قَبْلِ وُرُودِ الْمُتَّقِينَ إِلَيْهَا فَإِزْلَافُهَا قَدْ يَكُونُ بِحَشْرِهِمْ لِلْحِسَابِ
وَنُنْشِئَكُمْ
عَطْفٌ عَلَى نُبَدِّلَ
، أَيْ مَا نَحْنُ بِمَغْلُوبِينَ عَلَى إِنْشَائِكُمْ.
وَهَذَا الْعَطْفُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ مُغَايِرٍ بِالذَّاتِ فَيَكُونُ إِنْشَاؤُهُمْ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ تَبْدِيلِ أَمْثَالِهِمْ، أَيْ نَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، فَتَبْدِيلُ أَمْثَالِهِمْ خَلْقُ أَجْسَادٍ أُخْرَى تُودَعُ فِيهَا الْأَرْوَاحُ، وَأَمَّا إِنْشَاؤُهُمْ فَهُوَ نَفْخُ الْأَرْوَاحِ فِي الْأَجْسَادِ الْمَيِّتَةِ الْكَامِلَةِ وَفِي الْأَجْسَادِ الْبَالِيَةِ بَعْدَ إِعَادَتِهَا بِجَمْعِ مُتَفَرِّقِهَا أَوْ بِإِنْشَاءِ أَمْثَالِهَا مِنْ ذَوَاتِهَا مِثْلِ: عَجْبِ الذَّنَبِ، وَهَذَا إِبْطَالٌ لِاسْتِبْعَادِهِمُ الْبَعْثَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ صُوَرِ شُبْهَتِهِمُ الْبَاعِثَةِ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ مُغَايِرٍ بِالْوَصْفِ بِأَنْ يُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ
الْإِشَارَةُ إِلَى كَيْفِيَّةِ التَّبْدِيلِ إِشَارَةٌ عَلَى وَجْهِ الْإِبْهَامِ.
وَعَطَفَ بِالْوَاوِ دُونَ الْفَاءِ لِأَنَّهُ بِمُفْرَدِهِ تَصْوِيرٌ لِقُدْرَةِ الله تَعَالَى وحكمته بعد مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
مِنْ إِثْبَاتِ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى الْبَعْثِ.
وَمَا
مِنْ قَوْله: فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ
صَادِقَةٌ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ، أَوِ الْهَيْئَةِ الَّتِي يَتَكَيَّفُ بِهَا الْإِنْشَاءُ، أَيْ فِي كَيْفِيَّةٍ لَا تَعْلَمُونَهَا إِذْ لَمْ تُحِيطُوا عِلْمًا بِخَفَايَا الْخِلْقَةِ. وَهَذَا الْإِجْمَالُ جَامِعٌ لِجَمِيعِ الصُّوَرِ الَّتِي يَفْرِضُهَا الْإِمْكَانُ فِي بَعْثِ الْأَجْسَادِ لِإِيدَاعِ الْأَرْوَاحِ.
وَالظَّرْفِيَّةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ فِي
ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ مَعْنَاهَا قُوَّةُ الْمُلَابَسَةِ الشَّبِيهَةِ بِإِحَاطَةِ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ كَقَوْلِهِ: فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار: ٧، ٨].
وَمَعْنَى لَا تَعْلَمُونَ
: أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ تَفَاصِيلَ تِلْكَ الْأَحْوَال.
[٦٢]
[سُورَة الْوَاقِعَة (٥٦) : آيَة ٦٢]
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (٦٢)
أَعْقَبَ دَلِيلَ إِمْكَانِ الْبَعْثِ الْمُسْتَنِدِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى صَلَاحِيَّةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ لِذَلِكَ وَلِسَدِّ مَنَافِذِ الشُّبْهَةِ بِدَلِيلٍ مِنْ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ، وَهُوَ تَشْبِيهُ النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ بِالنَّشْأَةِ الْأُولَى الْمَعْلُومَةِ عِنْدَهُمْ بِالضَّرُورَةِ، فَنَبَّهُوا لِيَقِيسُوا عَلَيْهَا النَّشْأَةَ الثَّانِيَةَ فِي أَنَّهَا إِنْشَاءٌ مِنْ أَثَرِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ، وَفِي أَنَّهُمْ لَا يُحِيطُونَ عِلْمًا بِدَقَائِقِ حُصُولِهَا.
وَهَذَا التَّفْسِيرُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الِاعْتِدَادُ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مَشْرُوطًا بِأَنْ تَحْصُلَ الرِّيبَةُ فِي يَأْسِهَا مِنَ الْمَحِيضِ فَاصْطَدَمَ أَصْحَابُهُ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ الَّذِي يَقْتَضِي أَنَّهُ إِنْ لَمْ تَحْصُلِ الرِّيبَةُ فِي يَأْسِهِنَّ أَنَّهُنَّ لَا يَعْتَدِدْنَ بِذَلِكَ أَوْ لَا يَعْتَدِدْنَ أَصْلًا فَنَسَبَ ابْنُ لُبَابَةَ (مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ) إِلَى دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى سُقُوطِ الْعِدَّةِ عَنِ الْمَرْأَةِ الَّتِي يُوقِنُ أَنَّهَا يَائِسَةٌ.
قُلْتُ وَلَا تُعْرَفُ نِسْبَةُ هَذَا إِلَى دَاوُدَ. فَإِنَّ ابْنَ حَزْمٍ لَمْ يَحْكِهِ عَنْهُ وَلَا حَكَاهُ أَحَدٌ مِمَّنْ تَعَرَّضُوا لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ، قَالَ ابْنُ لُبَابَةَ: وَهُوَ شُذُوذٌ، وَقَالَ ابْنُ لُبَابَةَ: وَأَمَّا ابْنُ بُكَيْرٍ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ، أَيْ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ فَجَعَلَا الْمَرْأَةَ الْمُتَيَقَّنَ يَأْسُهَا مُلْحَقَةً بِالْمُرْتَابَةِ فِي الْعِدَّةِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ يُرِيدُ أَنَّ الْعِدَّةَ لَهَا حِكْمَتَانِ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ، وَانْتِظَارُ الْمُرَاجَعَةِ، وَأَمَّا الَّذِينَ لَا يَعْتَبِرُونَ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ فَهُمْ فِي سِعَةٍ مِمَّا لَزِمَ الَّذِينَ يَعْتَبِرُونَهُ.
وَأَصْحَابُ هَذَا الطَّرِيقِ مُخْتَلِفُونَ فِي الْوِجْهَةِ وَفِي مَحْمِلِ الْآيَةِ بِحَسَبِهَا: فَقَالَ عِكْرِمَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَقَتَادَةُ: لَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُرْتَابِ فِي مُعَاوَدَةِ الْحَيْضِ إِلَيْهَا عِدَّةٌ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ تعلقا بِظَاهِر الْآيَة (وَلَعَلَّ عِلَّةَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّ ثَلَاثَةَ الْأَشْهُرِ يَتَبَيَّنُ فِيهَا أَمْرُ الْحَمْلِ فَإِنَّ لَمْ يَظْهَرْ حَمْلٌ بَعْدَ انْقِضَائِهَا تَمَّتْ عِدَّةُ الْمَرْأَةِ)، لِأَنَّ الْحَمْلَ بَعْدَ سِنِّ الْيَأْسِ نَادِرٌ فَإِذَا اعْتَرَتْهَا رِيبَةُ الْحَمْلِ انْتَقَلَ النَّظَرُ إِلَى حُكْمِ الشَّكِّ فِي الْحَمْلِ وَتِلْكَ مَسْأَلَةٌ غَيْرُ الَّتِي نَزَلَتْ فِي شَأْنِهَا الْآيَةُ.
وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمُرْتَابَ فِي يَأْسِهَا تَمْكُثُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ (أَيْ أَمَدَ الْحَمْلِ الْمُعْتَادِ) فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ بِهَا حَمْلٌ ابْتَدَأَتِ الِاعْتِدَادَ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فَتَكْمُلُ لَهَا سَنَةٌ كَامِلَةٌ.
وَأَصِلُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ مِنْ قَضَاءِ عُمَرَ بْنِ الْخطاب وَلم يُخَالِفهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَخَذَ بِهِ مَالِكٌ. وَعَنْ مَالِكٍ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» : تِسْعَةُ أَشْهُرٍ لِلرِّيبَةِ وَالثَّلَاثَةُ الْأَشْهُرِ هِيَ الْعِدَّةُ. وَلَعَلَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الْعِدَّةَ بَعْدَ مُضِيِّ التِّسْعَةِ الْأَشْهُرِ تَعَبُّدٌ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ وَأَمَّا التِّسْعَةُ الْأَشْهُرِ فَأَوْجَبَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَعَلَّهُ بِالِاجْتِهَادِ، وَهُوَ تَقْيِيدٌ لِلْإِطْلَاقِ
الَّذِي فِي الْآيَةِ.
وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: تَعْتَدُّ الْمُرْتَابُ فِي يَأْسِهَا بِالْأَقْرَاءِ (أَيْ تَنْتَظِرُ الدَّمَ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ سِنَّ مَنْ لَا يُشْبِهُ أَنْ تَحِيضَ وَلَوْ زَادَتْ مُدَّةُ
وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦].
كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ.
اسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَى قَوْلِهِ: مَثَلًا بِتَأْوِيلِ مَا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ، بِالْمَذْكُورِ، أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الضَّلَالِ الْحَاصِلِ لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَلِلْكَافِرِينَ، وَالْحَاصِلِ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بَعْدَ أَنِ اسْتَيْقَنُوا فَلَمْ يُؤْمِنُوا يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ أَنْ يُضِلَّهُ مِنْ عِبَادِهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْهُدَى الَّذِي اهْتَدَاهُ الْمُؤْمِنُونَ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ يَهْدِي اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ.
وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّشْبِيهِ تَقْرِيبُ الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ وَهُوَ تَصَرُّفُ اللَّهِ تَعَالَى بِخَلْقِ أَسْبَابِ الْأَحْوَالِ الْعَارِضَةِ لِلْبَشَرِ، إِلَى الْمَعْنَى الْمَحْسُوسِ الْمَعْرُوفِ فِي وَاقِعَةِ الْحَالِ، تَعْلِيمًا
لِلْمُسْلِمِينَ وَتَنْبِيهًا لِلنَّظَرِ فِي تَحْصِيلِ مَا يَنْفَعُ نُفُوسَهُمْ.
وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ السَّبَبِيَّةُ فِي اهْتِدَاءِ مَنْ يَهْتَدِي وَضَلَالِ مَنْ يَضِلُّ، فِي أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا وَإِرَادَةً لِحِكْمَةٍ اقْتَضَاهَا عِلْمُهُ تَعَالَى فَتَفَاوَتَ النَّاسُ فِي مَدَى إِفْهَامِهِمْ فِيهِ بَيْنَ مُهْتَدٍ وَمُرْتَابٍ مُخْتَلِفِ الْمَرْتَبَةِ فِي رَيْبِهِ، ومكابر كَافِر وسيّىء فَهْمٍ كَافِر.
وَهَذِه كلمة عَظِيمَةٌ فِي اخْتِلَافِ تَلَقِّي الْعُقُولِ لِلْحَقَائِقِ وَانْتِفَاعِهِمْ بِهَا أَوْ ضِدِّهِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ قَرَائِحِهِمْ وَفُهُومِهِمْ وَتَرَاكِيبِ جِبِلَّاتِهِمُ الْمُتَسَلْسِلَةِ مِنْ صَوَابٍ إِلَى مِثْلِهِ، أَوْ مِنْ تَرَدُّدٍ وَاضْطِرَابٍ إِلَى مِثْلِهِ، أَوْ مِنْ حَنَقٍ وَعِنَادٍ إِلَى مِثْلِهِ، فَانْطَوَى التَّشْبِيهُ مِنْ قَوْلِهِ: كَذلِكَ عَلَى أَحْوَالٍ وَصُوَرٍ كَثِيرَةٍ تَظْهَرُ فِي الْخَارِجِ.
وَإِسْنَادُ الْإِضْلَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُوجِدُ الْأَسْبَابِ الْأَصْلِيَّةِ فِي الْجِبِلَّاتِ، وَاقْتِبَاسُ الْأَهْوَاءِ وَارْتِبَاطُ أَحْوَالِ الْعَالَمِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَدَعْوَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصُّلَحَاءِ إِلَى الْخَيْرِ، وَمُقَاوَمَةُ أَيِمَّةِ الضَّلَالِ لِتِلْكَ الدَّعَوَاتِ. تِلْكَ الْأَسْبَابُ الَّتِي أَدَّتْ بِالضَّالِّينَ إِلَى ضَلَالِهِمْ وَبِالْمُهْتَدِينَ إِلَى هُدَاهُمْ. وَكُلٌّ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ. فَمَا عَلَى الْأَنْفُسِ الْمُرِيدَةِ الْخَيْرَ وَالنَّجَاةَ إِلَّا التَّعَرُّضَ لِأَحَدِ الْمَهِيعَيْنِ بَعْدَ التَّجَرُّدِ وَالتَّدَبُّرِ لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الْبَقَرَة: ٢٨٦].
زِيَادَةً فِي التَّشْوِيقِ إِلَى تَلَقِّيهِ، وَإِيذَانًا بِجِنْسِ الْجَوَابِ مِنْ قَبْلِ ذِكْرِهِ لِيَحْصُلَ بَعْدَ ذِكْرِهِ مَزِيدُ تَقَرُّرِهِ فِي الْأَذْهَانِ.
وَالرُّؤْيَةُ فِي أَلَمْ تَرَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَةً عِلْمِيَّةً تَشْبِيهًا لِلْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ بِالرُّؤْيَةِ فِي الْوُضُوحِ وَالِانْكِشَافِ لِأَنَّ أَخْبَارَ هَذِهِ الْأُمَمِ شَائِعَةٌ مَضْرُوبَةٌ بِهَا الْمُثُلُ فَكَأَنَّهَا مُشَاهَدَةٌ.
فَتَكُونُ كَيْفَ اسْتِفْهَامًا مُعَلِّقًا فِعْلَ الرُّؤْيَةِ عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولَيْنِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً وَالْمَعْنَى: أَلَمْ تَرَ آثَارَ مَا فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، وَتَكُونُ كَيْفَ اسْمًا مُجَرَّدًا عَنِ الِاسْتِفْهَامِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلِ الرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ.
وَعُدِلَ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى التَّعْرِيفِ بِإِضَافَةِ رَبٍّ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ فِي قَوْلِهِ:
فَعَلَ رَبُّكَ لِمَا فِي وَصْفِ رَبٍّ مِنَ الْإِشْعَارِ بِالْوَلَايَةِ وَالتَّأْيِيدِ وَلِمَا تُؤْذِنُ بِهِ إِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ مِنْ إِعْزَازِهِ وَتَشْرِيفِهِ.
وَقَدِ ابْتُدِئَتِ الْمَوْعِظَةُ بِذِكْرِ عَادٍ وَثَمُودَ لِشُهْرَتِهِمَا بَيْنَ الْمُخَاطَبِينَ وَذُكِرَ بَعْدَهُمَا قَوْمُ فِرْعَوْنَ لِشُهْرَةِ رِسَالَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى فِرْعَوْنَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِبِلَادِ الْعَرَبِ وَهُمْ يُحَدِّثُونَ الْعَرَبَ عَنْهَا.
وَأُرِيدَ بِ «عَادٍ» الْأُمَّةُ لَا مَحَالَةَ قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ [هود:
٥٩] فَوَجْهُ صَرْفِهِ أَنَّهُ اسْمٌ ثُلَاثِيٌّ سَاكِنُ الْوَسَطِ مِثْلَ هِنْدٍ وَنُوحٍ وَإِرَمَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ اسْمُ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ وَهُوَ جَدُّ عَادٍ لِأَنَّ عَادًا هُوَ ابْنُ عُوصِ بْنِ إِرَمَ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعُجْمَةِ لِأَنَّ الْعَرَبَ الْبَائِدَةَ يُعْتَبَرُونَ خَارِجِينَ عَنْ أَسْمَاءِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ، فَهُوَ عَطْفُ بَيَانٍ لِ «عَادٍ» لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِ «عَادٍ» الْقَبِيلَةُ الَّتِي جَدُّهَا الْأَدْنَى هُوَ عَادُ بْنُ عُوصِ بن إرم، وهم عَادٌ الْمَوْصُوفَةُ بِ الْأُولى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى [النَّجْم: ٥٠] لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ قَبِيلَةٌ أُخْرَى تُسَمَّى عَادًا أَيْضًا. كَانَتْ تَنْزِلُ مَكَّةَ مَعَ الْعَمَالِيقِ يُقَالُ: إِنَّهُمْ بَقِيَّةٌ مِنْ عَاد الأولى فَعَاد وَإِرَمَ اسْمَانِ لِقَبِيلَةِ عَادٍ الْأُولَى.
وَوُصِفَتْ عَادٌ بِ ذاتِ الْعِمادِ، وذاتِ وَصْفٌ مُؤَنَّثٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِعَادٍ الْقَبِيلَةُ.
الصفحة التالية