[٢٠]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٠]يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
الْأَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: يَجْعَلُونَ حَالًا اتَّضَحَ بِهَا الْمَقْصُودُ مِنَ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ مُجْمَلَةً، وَأَمَّا جُمْلَةُ: يَكادُ الْبَرْقُ فَيَجُوزُ كَوْنُهَا حَالًا مِنْ ضَمِيرِ يَجْعَلُونَ، لِأَنَّ بِهَا كَمَالَ إِيضَاحِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا وَيَجُوزُ كَوْنُهَا اسْتِئْنَافًا لِبَيَانِ حَالِ الْفَرِيقِ عِنْدَ الْبَرْقِ نَشَأَ عَنْ بَيَانِ حَالِهِمْ عِنْدَ الرَّعْدِ. وَجُمْلَةُ: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ حَالٌ مِنَ (الْبَرْقِ) أَوْ مِنْ ضَمِيرِ (أَبْصَارِهِمْ) لَا غَيْرَ، وَفِي هَذَا تَشْبِيهٌ لِجَزَعِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ آيَاتِ الْوَعِيدِ بِمَا يَعْتَرِي الْقَائِمَ تَحْتَ السَّمَاءِ حِينَ الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَالظُّلُمَاتِ فَهُوَ يَخْشَى اسْتِكَاكَ سَمْعِهِ وَيَخْشَى الصَّوَاعِقَ حَذَرَ الْمَوْتِ وَيُعَشِّيهِ الْبَرْقُ حِينَ يَلْمَعُ بِإِضَاءَةٍ شَدِيدَةٍ وَيُعَمِّي عَلَيْهِ الطَّرِيقَ بَعْدَ انْقِطَاعِ لَمَعَانِهِ. وَقَوْلُهُ: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ تَمْثِيلٌ لِحَالِ حَيْرَةِ الْمُنَافِقِينَ بِحَالِ حَيْرَةِ السَّائِرِينَ فِي اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ الْمُرْعِدِ الْمُبْرِقِ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ اعْتِرَاضٌ لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّمْثِيلُ لِحَالِ الْمُنَافِقِينَ فِي كُفْرِهِمْ لَا لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ فِي التَّمْثِيلِ. وَقَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ رُجُوعٌ إِلَى وَعِيدِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ هُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّمْثِيلِ فَالضَّمَائِرُ الَّتِي فِي جُمْلَةِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ رَاجِعَةٌ إِلَى أَصْلِ الْكَلَامِ، وَتَوْزِيعُ الضَّمَائِرِ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. فَعَبَّرَ عَنْ زَوَاجِرِ الْقُرْآنِ بِالصَّوَاعِقِ وَعَنِ انْحِطَاطِ قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ وَهِيَ الْبَصَائِرُ عَنْ قَرَارِ نُورِ الْإِيمَانِ فِيهَا بِخَطْفِ الْبَرْقِ لِلْأَبْصَارِ، وَإِلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا يُشِيرُ كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ نَقْلًا عَنْ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ، يُقَالُ فُلَانٌ يَرْعُدُ وَيَبْرُقُ، عَلَى أَنَّ بِنَاءَهُ هُنَا عَلَى الْمَجَازِ السَّابِقِ يَزِيدُهُ قَبُولًا، وَعَبَّرَ عَمَّا يَحْصُلُ لِلْمُنَافِقِينَ مِنَ الشَّكِّ فِي صِحَّةِ اعْتِقَادِهِمْ بِمَشْيِ السَّارِي فِي ظُلْمَةٍ إِذَا أَضَاءَ لَهُ الْبَرْقُ، وَعَنْ إِقْلَاعِهِمْ عَنْ ذَلِكَ الشَّكِّ حِينَ رُجُوعِهِمْ إِلَى كُفْرِهِمْ بِوُقُوفِ الْمَاشِي عِنْدَ انْقِطَاعِ الْبَرْقِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ، وَخَلَّلَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِتَهْدِيدٍ لَا يُنَاسِبُ إِلَّا الْمُشَبَّهِينَ وَهُوَ
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢١٦]
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢١٦)الْمُنَاسَبَةُ أَنَّ الْقِتَالَ مِنَ الْبَأْسَاءِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ [الْبَقَرَة: ٢١٤] فَقَدْ كُلِّفَتْ بِهِ الْأُمَمُ قَبْلَنَا، فَقَدْ كُلِّفَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِقِتَالِ الْكَنْعَانِيِّينَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكُلِّفُوا بِالْقِتَالِ مَعَ طَالُوتَ وَهُوَ شَاوَلُ مَعَ دَاوُدَ، وَكُلِّفَ ذُو الْقَرْنَيْنِ بِتَعْذِيبِ الظَّالِمِينَ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانُوا فِي جِهَةِ الْمَغْرِبِ مِنَ الْأَرْضِ.
وَلَفْظُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ مِنْ صِيَغِ الْوُجُوبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آيَةِ الْوَصِيَّةِ. وَآل فِي (الْقِتَالِ) لِلْجِنْسِ، وَلَا يَكُونُ الْقِتَالُ إِلَّا لِلْأَعْدَاءِ فَهُوَ عَامٌّ عُمُومًا عُرْفِيًّا أَيْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ قِتَالُ عَدُوِّ الدِّينِ.
وَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَعْدَاؤُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْمُشْرِكُونَ، لِأَنَّهُمْ خَالَفُوهُمْ فِي الدِّينِ وَآذَوُا الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَالْقِتَالُ الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الْجِهَادُ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِي الْقِتَالِ فِي أَوَّلِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أُذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الْحَج: ٣٩]، ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ قِتَالِ الْمُبَادِئِينَ بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [الْبَقَرَة: ١٩٠] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي وَاقِعَةِ سَرِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ كَمَا يَأْتِي، وَذَلِكَ فِي الشَّهْرِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنِ الْهِجْرَةِ، فَالْآيَةُ وَرَدَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَعَ جُمْلَةِ التَّشْرِيعَاتِ وَالنُّظُمِ الَّتِي حَوَتْهَا كَقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الْبَقَرَة: ١٨٣]، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [الْبَقَرَة: ١٧٨]، كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [الْبَقَرَة: ١٨٠]. فَعَلَى الْمُخْتَارِ يَكُونُ قَوْلُهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ خَبَرًا عَنْ حُكْمٍ سَبَقَ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِهِ وَلِيَنْتَقِلَ مِنْهُ إِلَى قَوْلِهِ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ الْآيَةَ، أَوْ إِعَادَةً لِإِنْشَاءِ وُجُوبِ الْقِتَالِ زِيَادَةً فِي تَأْكِيدِهِ، أَوْ إِنْشَاءً أُنُفًا لِوُجُوبِ الْقِتَالِ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ أَوَّلَ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي هَذَا الْمَعْنَى بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا إِذْنٌ فِي الْقِتَالِ وَإِعْدَادٌ لَهُ وَلَيْسَتْ بِمُوجِبَةٍ لَهُ.
وَقَوْلُهُ: وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ، حَالٌ لَازِمَةٌ وَهِيَ يَجُوزُ اقْتِرَانُهَا بِالْوَاوِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهَا
جُمْلَةً ثَانِيَةً مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ، إِلَّا أَنَّ الْخَبَرَ بِهَذَا لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا لِلْمُخَاطَبِينَ
بِهَذَا الرَّجُلِ» (يَعْنِي الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَهَذَا مِنَ الْأَغْرَاضِ الدَّاعِيَةِ لِلتَّعْرِيفِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ الَّتِي أَهْمَلَهَا عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ فَيَصِحُّ هُنَا أَنْ يُجْعَلَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَيَيْهِ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ.
وَتَعْرِيفُ الْجُزْأَيْنِ مُفِيدٌ لِلْقَصْرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: هَذَا رَبٌّ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَادَ اسْتِدْرَاجَ قَوْمِهِ فَابْتَدَأَ بِإِظْهَارِ أَنَّهُ لَا يَرَى تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ لِيَصِلَ بهم إِلَى التوحد وَاسْتَبْقَى وَاحِدًا مِنْ مَعْبُودَاتِهِمْ فَفَرَضَ اسْتِحْقَاقَهُ الْإِلَهِيَّةَ كَيْلَا يَنْفِرُوا مِنَ الْإِصْغَاءِ إِلَى اسْتِدْلَالِهِ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ قالَ إِنَّهُ خَاطَبَ بِذَلِكَ غَيْرَهُ، لِأَنَّ الْقَوْلَ حَقِيقَتُهُ الْكَلَامُ، وَإِنَّمَا يُسَاقُ الْكَلَامُ إِلَى مُخَاطَبٍ. وَلِذَلِكَ كَانَتْ حَقِيقَةُ الْقَوْلِ هِيَ ظَاهِرُ الْآيَةِ مِنْ لَفْظِهَا وَمِنْ تَرْتِيبِ نَظْمِهَا إِذْ رَتَّبَ قَوْلَهُ فَلَمَّا جَنَّ عَلَى قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْعَام: ٧٥] وَقَوْلِهِ: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الْأَنْعَام: ٧٥] وَرَتَّبَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً [الْأَنْعَام: ٧٤] الْآيَةَ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى:
قالَ هَذَا رَبِّي وَإِنَّمَا يَقُولُهُ لِمُخَاطَبٍ، وَلِقَوْلِهِ عَقِبَ ذَلِكَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، وَلِأَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى إِبْطَالِ كَوْنِ الْكَوَاكِبِ آلِهَةً وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى بَرَاءَتِهِ مِمَّا يُشْرِكُونَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ الْكَوَاكِبِ بُطْلَانُ إِلَهِيَّةِ أَجْرَامٍ أُخْرَى لَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُدَّعَى قَوْمِهِ فَدَلَّ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَادَلَةِ لِقَوْمِهِ وَإِرْخَاءِ الْعِنَانِ لَهُمْ لِيَصِلُوا إِلَى تَلَقِّي الْحُجَّةِ وَلَا يَنْفِرُوا مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ فَيَكُونُ قَدْ جَمَعَ جَمْعًا مِنْ قَوْمِهِ وَأَرَادَ الِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِمْ.
وَقَوْلُهُ: هَذَا رَبِّي أَيْ خَالِقِي وَمُدَبِّرِي فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ عِبَادَتِي. قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ جَرْيًا عَلَى مُعْتَقَدِ قَوْمِهِ لِيَصِلَ بِهِمْ إِلَى نَقْضِ اعْتِقَادِهِمْ فَأَظْهَرَ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَهُمْ لِيَهَشُّوا إِلَى ذَلِكَ ثُمَّ يَكِرُّ عَلَيْهِمْ بِالْإِبْطَالِ إِظْهَارًا لِلْإِنْصَافِ وَطَلَبِ الْحَقِّ. وَلَا يَرِيبُكَ فِي هَذَا أَنَّ صُدُورَ مَا ظَاهِرُهُ كُفْرٌ عَلَى لِسَانِهِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَنَّهُ ذَلِكَ طَرِيقٌ إِلَى إِرْشَادِ قَوْمِهِ وَإِنْقَاذِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ، وَاجْتَهَدَ فَرَآهُ أَرْجَى لِلْقَبُولِ عِنْدَهُمْ سَاغَ لَهُ التَّصْرِيحُ بِهِ لِقَصْدِ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ وَهُوَ لَا يَعْتَقِدُهُ، وَلَا يَزِيدُ قَوْلُهُ هَذَا قَوْمَهُ كُفْرًا، كَالَّذِي يُكْرَهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ
تَذْكِيرُهُمْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالْعِزَّةِ وَالنَّصْرِ، بَعْدَ الضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ وَالْخَوْفِ، لِيَذْكُرُوا كَيْفَ يَسَّرَ اللَّهُ لَهُمْ أَسْبَابَ النَّصْرِ مِنْ غَيْرِ مَظَانِّهَا، حَتَّى أَوْصَلَهُمْ إِلَى مُكَافَحَةِ عَدُوِّهِمْ وَأَنْ يَتَّقِيَ أَعْدَاؤُهُمْ بَأْسَهُمْ، فَكَيْفَ لَا يَسْتَجِيبُونَ لِلَّهِ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُمْ قَدْ كَثُرُوا وَعَزُّوا وَانْتَصَرُوا، فَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ، وَمَجِيءُ هَذِهِ الْخِطَابَاتِ بَعْدَ وَصْفِهِمْ بِالَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الَّذِي سَاقَ لَهُمْ هَذِهِ الْخَيْرَاتِ كُلِّهَا، وَأَنَّهُ سَيَكُونُ هَذَا أَثَرَهُ فِيهِمْ كُلَّمَا احْتَفَظُوا عَلَيْهِ كُفُوهُ مِنْ قَبْلِ سُؤَالِهِمْ، وَمِنْ قَبْلِ تَسْدِيدِ حَالِهِمْ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُونَ بَعْدَ تَرَفُّهِ حَالِهِمْ أَشَدَّ اسْتِجَابَةً وَأَثْبَتَ قُلُوبًا.
وَفَعْلُ وَاذْكُرُوا مُشْتَقٌّ مِنَ الذّكر- بِضَم الدَّال- وَهُوَ التَّذَكُّرُ لَا ذِكْرَ اللِّسَانِ، أَيْ تَذَكَّرُوا.
وإِذْ اسْمُ زَمَانٍ مُجَرَّدٍ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ، فَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، أَيِ اذْكُرُوا زَمَنَ كُنْتُمْ قَلِيلًا.
وَجُمْلَةُ: أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُضَافٌ إِلَيْهَا إِذْ لِيَحْصُلَ تَعْرِيفُ الْمُضَافِ، وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ اسْمِيَّةً لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ وَصْفِ الْقِلَّةِ وَالِاسْتِضْعَافِ فِيهِمْ.
وَأَخْبَرَ بِ قَلِيلٌ وَهُوَ مُفْرَدٌ عَنْ ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ قَلِيلًا وَكَثِيرًا قَدْ يَجِيئَانِ غَيْرَ
مُطَابِقَيْنِ لِمَا جَرَيَا عَلَيْهِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٤٦].
وَالْأَرْضُ يُرَادُ بِهَا الدُّنْيَا كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٦] فَالتَّعْرِيفُ شَبِيهٌ بِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ، أَوْ أُرِيدَ بِهَا أَرْضُ مَكَّةَ، فَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ، وَالْمَعْنَى تَذْكِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَيَّامِ إِقَامَتِهِمْ بِمَكَّةَ قَلِيلًا مُسْتَضْعَفِينَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا حِينَئِذٍ طَائِفَةً قَلِيلَةَ الْعَدَدِ قَدْ جَفَاهُمْ قَوْمُهُمْ وَعَادَوْهُمْ فَصَارُوا لَا قَوْمَ لَهُمْ وَكَانُوا عَلَى دِينٍ لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعَالِمِ فَلَا يَطْمَعُونَ فِي نَصْرٍ مُوَافِقٍ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَإِذَا كَانُوا كَذَلِكَ وَهُمْ فِي مَكَّةَ فَهُمْ كَذَلِكَ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْأَرْضِ فَآوَاهُمُ اللَّهُ بِأَنْ صَرَفَ أَهْلَ مَكَّةَ عَنِ اسْتِيصَالِهِمْ ثُمَّ بِأَنْ قَيَّضَ الْأَنْصَارَ أَهْلَ الْعَقَبَةِ الْأَوْلَى وَأَهْلَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ، فَأَسْلَمُوا وَصَارُوا أَنْصَارًا لَهُمْ بِيَثْرِبَ، ثُمَّ أَخْرَجَهُمْ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بِلَاد الْحَبَشَة فئاواهم بِهَا، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْهِجْرَةِ إِلَى يثرب فئاواهم بِهَا، ثُمَّ صَارَ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا أَعْدَاءً لِلْمُشْرِكِينَ فَنَصَرَهُمْ هُنَالِكَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَاللَّهُ
وَتَأْكِيدُ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ بِ أَنِ وَبِكَوْنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِيهَا اسْمًا مُخْبَرًا عَنْهُ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ لِقَصْدِ شِدَّةِ تَأْكِيدِ تَوَقُّعِ الْعَذَابِ.
وَتَنْكِيرُ يَوْمٍ لِلتَّهْوِيلِ، لِتَذْهَبَ نُفُوسُهُمْ لِلِاحْتِمَالِ الْمُمْكِنِ أَنْ يَكُونَ يَوْمًا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْحَشْرَ، فَتَخْوِيفُهُمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا أَوْقَعُ فِي نُفُوسِهِمْ.
وَبِذَلِكَ يَكُونُ تَنْكِيرُ يَوْمٍ صَالِحًا لِإِيقَاعِهِ مُقَابِلًا لِلْجَزَاءَيْنِ فِي قَوْلِهِ: يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ، فَيُقَدِّرُ السَّامِعُ: إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَيْنِ كَمَا رَجَوْتُ لَكُمْ إِنِ اسْتَغْفَرْتُمْ ثَوَابَيْنِ.
وَوَصْفُهُ بِالْكَبِيرِ لِزِيَادَةِ تَهْوِيلِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْكِبَرِ الْكِبَرُ الْمَعْنَوِيُّ، وَهُوَ شِدَّةُ مَا يَقَعُ فِيهِ، أَعْنِي الْعَذَابَ، فَوَصْفُ الْيَوْمِ بِالْكِبَرِ مجَاز عَقْلِي.
[٤]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٤]
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤)
جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِلْخَوْفِ عَلَيْهِمْ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ صَائِرُونَ إِلَى اللَّهِ، أَيْ إِلَى قُدْرَتِهِ غَيْرَ مُنْفَلِتِينَ مِنْهُ فَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَى تَوَلِّيكُمْ عَنْ أَمْرِهِ.
فَالْمَرْجِعُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ. وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ لَازِمِهِ الْعُرْفِيِّ وَهُوَ عَدَمُ الِانْفِلَاتِ وَإِنْ طَالَ الزَّمَنُ، وَذَلِكَ شَامِلٌ لِلرُّجُوعِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ إِيَّاهُ خَاصَّةً لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَنْسَبُ بِالْمَصِيرِ الدُّنْيَوِيِّ لِأَنَّهُ الْمُسَلَّمُ عِنْدَهُمْ، وَأَمَّا الْمَصِيرُ الْأُخْرَوِيُّ فَلَوِ اعْتَرَفُوا بِهِ لَمَا كَانَ هُنَالِكَ قَوِيٌّ مُقْتَضٍ لِزِيَادَةٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ وَالتَّقَوِّي، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْحَصْرُ إِذْ هُمْ لَا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُرْجَعُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ بَلْهَ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى غَيْرِهِ.
مَعَ الْإِعْلَامِ بِأَنَّهَا مُقَامَةٌ عَلَى أُصُولِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَلِمَةَ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَعْلَمُ تَفَاصِيلَ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمُوحَى بِهِ إِلَيْهِ مُنْبَجِسٌ مِنْ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَقَوْلُهُ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ هُوَ مِمَّا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ:
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى حَنِيفاً عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فِي صَاحِبِ ذَلِكَ الْحَالِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْحَالُ زِيَادَةَ تَأْكِيدٍ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ: وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سُورَة النَّحْل: ١٢٠]، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ تَنْزِيهًا لِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ الْمُتَّبِعَةِ لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ أَنْ يُخَالِطَهَا شَيْءٌ مِنَ الشِّرْكِ.
وَنَفِيُ كَوْنِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ هُنَا بِحَرْفِ مَا النَّافِيَةِ لِأَنَّ مَا إِذَا نَفَتْ فِعْلَ كانَ
أَفَادَتْ قُوَّةَ النَّفْيِ وَمُبَاعَدَةَ الْمَنْفِيِّ. وَحَسَبُكَ أَنَّهَا يُبْنَى عَلَيْهَا الْجُحُودُ فِي نَحْوِ: مَا كَانَ لِيَفْعَلَ كَذَا.
فَحَصَلَ مِنْ قَوْلِهِ السَّابِقِ وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النَّحْل: ١٢٠] وَمن قَوْلِهِ هُنَا: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثَلَاثُ فَوَائِدَ: نَفْيُ الْإِشْرَاكِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي جَمِيعِ أَزْمِنَةِ الْمَاضِي، وَتَجَدُّدُ نَفْيِ الْإِشْرَاكِ تَجَدُّدًا مُسْتَمِرًّا، وَبَرَاءَتُهُ مِنَ الْإِشْرَاكِ بَرَاءَةً تَامَّةً.
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ شَوَائِبُ الْإِشْرَاكِ لِأَنَّهُ جَاءَ كَمَا جَاءَ إِبْرَاهِيمُ مُعْلِنًا تَوْحِيدًا لِلَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَمُجْتَثًّا لِوَشِيجِ الشِّرْكِ. وَالشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ كُلِّهَا وَإِنْ كَانَتْ تُحَذِّرُ مِنَ الْإِشْرَاكِ فَقَدِ امْتَازَ الْقُرْآنُ مِنْ بَيْنِهَا بِسَدِّ الْمَنَافِذِ الَّتِي يَتَسَلَّلُ مِنْهَا الْإِشْرَاكُ بِصَرَاحَةِ أَقْوَالِهِ وَفَصَاحَةِ بَيَانِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ فِي ذَلِكَ كَلَامًا مُتَشَابِهًا كَمَا قَدْ يُوجَدُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْأُخْرَى، مِثْلُ مَا جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ مَنْ وَصْفِ الْيَهُودِ بِأَبْنَاءِ اللَّهِ، وَمَا فِي الأناجيل من موهم بُنُوَّةِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِلَّهِ سُبْحَانَهُ عَمَّا يَصِفُونَ.
مُشْتَقًّا مِنِ اسْمِ الثَّمَرَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ أَوِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ الْأَرْبَاحَ وَعَفْوَ الْمَالِ يُشْبِهَانِ ثَمَرَ الشَّجَرِ. وَشَاعَ هَذَا الْمَجَازُ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً. قَالَ النَّابِغَةُ:
مَهْلًا فِدَاءٌ لَكَ الْأَقْوَامُ كُلُّهُمْ | وَمَا أُثَمِّرُ مِنْ مَالٍ وَمِنْ وَلَدِ |
فَقَالُوا: إِنَّهُ جَمْعُ ثِمَارٍ الَّذِي هُوَ جَمْعُ ثُمُرٍ، مِثْلُ كُتُبٍ جَمْعُ كِتَابٍ فَيَكُونُ دَالًّا عَلَى أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِمَّا تُنْتِجُهُ الْمَكَاسِبُ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي جَمْعِ أَسَاوِرَ مِنْ قَوْلِهِ: أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الْكَهْف: ٣١]. وَعَنِ النَّحَّاسِ بِسَنَدِهِ إِلَى ثَعْلَبٍ عَنِ الْأَعْمَشِ: أَنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ:
لَوْ سَمِعْتُ أَحَدًا يَقْرَأُ وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ (أَيْ بِضَمِّ الثَّاءِ) لَقَطَعْتُ لِسَانَهُ. قَالَ ثَعْلَبٌ: فَقُلْتُ لِلْأَعْمَشِ: أَنَأْخُذُ بِذَلِكَ. قَالَ: لَا وَلَا نِعْمَةَ عَيْنٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ: ثُمُرٌ، أَيْ بِضَمَّتَيْنِ.
وَالْمَعْنَى: وَكَانَ لِصَاحِبِ الْجَنَّتَيْنِ مَالٌ، أَيْ غَيْرُ الْجَنَّتَيْنِ. وَالْفَاءُ لتفريع جملَة فَقالَ عَلَى الْجُمَلِ السَّابِقَةِ، لِأَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمَلُ السَّابِقَةُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَنْشَأَ عَنْهُ غُرُورٌ بِالنَّفْسِ يَنْطِقُ رَبُّهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِك القَوْل.
و (الصاحب) هُنَا بِمَعْنَى الْمُقَارِنِ فِي الذِّكْرِ حَيْثُ انْتَظَمَهُمَا خَبَرُ الْمَثَلِ، أَوْ أُرِيدَ بِهِ الْمُلَابِسُ الْمُخَاصِمُ، كَمَا فِي قَوْلِ الْحَجَّاجِ يُخَاطِبُ الْخَوَارِجَ «أَلَسْتُمْ أَصْحَابِي بِالْأَهْوَازِ».
وَالْمُرَادُ بِالصَّاحِبِ هُنَا الرَّجُلُ الْآخَرُ مِنَ الرَّجُلَيْنِ، أَيْ فَقَالَ: مَنْ لَيْسَ لَهُ جَنَّاتٌ فِي حِوَارٍ بَيْنَهُمَا. وَلَمْ يَتَعَلَّقِ الْغَرَضُ بِذِكْرِ مَكَانِ هَذَا الْقَوْلِ وَلَا سَبَبِهِ لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ فِي الْمَوْعِظَةِ.
وَجُمْلَةُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ حَالٌ من ضمير فَقالَ.
وَالْمُحَاوَرَةُ: مُرَاجَعَةُ الْكَلَامِ بَيْنَ مُتَكَلِّمِينَ.
وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ مِنْ قَبْلُ حُذِفَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ (قَبْلُ). وَتَقْدِيرُهُ: مِنْ قَبْلِ إِرْسَالِ مُوسَى أَوْ مِنْ قَبْلِ مَا ذُكِرَ، فَإِنَّ بِنَاءَ (قَبْلُ) عَلَى الضَّمِّ عَلَامَةُ حَذْفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَنِيَّةِ مَعْنَاهُ.
وَالَّذِي ذُكِرَ: إِمَّا عَهْدُ مُوسَى الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى [طه:
١٣] وَقَوْلِهِ فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى [طه: ١٦] وَإِمَّا عَهْدُ اللَّهِ
لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي ذَكَّرَهُمْ بِهِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا رَجِعَ إِلَيْهِمْ غَضْبَانَ أَسِفًا، وَهُوَ مَا فِي قَوْلِهِ أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ [طه: ٨٦] الْآيَةَ.
وَالْمُرَادُ بِالْعَهْدِ إِلَى آدَمَ: الْعَهْدُ إِلَيْهِ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي أُنْسِيَ فِيهَا.
وَالنِّسْيَانُ: أُطْلِقَ هُنَا عَلَى إِهْمَالِ الْعَمَلِ بِالْعَهْدِ عَمْدًا، كَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ السَّامِرِيِّ فَنَسِيَ، فَيَكُونُ عِصْيَانًا، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ الْآيَةَ، وَقَدْ مَضَتْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٢٠، ٢١]. وَهَذَا الْعَهْدُ هُوَ الْمُبَيَّنُ فِي الْآيَةِ بِقَوْلِهِ فَقُلْنا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ [طه: ١١٧] الْآيَةَ.
وَالْعَزْمُ: الْجَزْمُ بِالْفِعْلِ وَعَدَمُ التَّرَدُّدِ فِيهِ، وَهُوَ مُغَالَبَةُ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْخَاطِرُ مِنَ الِانْكِفَافِ عَنْهُ لِعُسْرِ عَمَلِهِ أَوْ إِيثَارِ ضِدِّهِ عَلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٧]. وَالْمُرَادُ هُنَا: الْعَزْمُ عَلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَإِلْغَاءُ مَا يُحَسِّنُ إِلَيْهِ عَدَمَ الِامْتِثَالِ، قَالَ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمرَان: ١٥٩]، وَقَالَ فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَاف: ٣٥]، وَهُمْ نُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَيَعْقُوبُ، وَيُوسُفُ، وَأَيوب، ومُوسَى، وداوود، وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَاسْتُعْمِلَ نَفْيُ وِجْدَانِ الْعَزْمِ عِنْدَ آدَمَ فِي مَعْنَى عَدَمِ وُجُودِ الْعَزْمِ مِنْ صِفَتِهِ فِيمَا عُهِدَ إِلَيْهِ تَمْثِيلًا لِحَالِ طَلَبِ حُصُولِهِ عِنْدَهُ بِحَالِ الْبَاحِثِ عَلَى عَزْمِهِ فَلَمْ يَجِدْهُ عِنْدَهُ بعد الْبَحْث.
قَالَ سِيبَوَيْهِ: «وَسَأَلْتُهُ (يَعْنِي الْخَلِيلَ) عَنْ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً فَقَالَ: هَذَا وَاجِبٌ (أَيِ الرَّفْعُ وَاجِبٌ) وَهُوَ تَنْبِيهٌ كَأَنَّكَ قُلْتَ: أَتَسْمَعُ: أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَكَانَ كَذَا وَكَذَا اه.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«لَوْ نُصِبَ لَأَعْطَى مَا هُوَ عَكْسُ الْغَرَضِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ (أَيِ الْكَلَامَ) إِثْبَاتُ الِاخْضِرَارِ فَيَنْقَلِبُ بِالنَّصْبِ إِلَى نَفْيِ الِاخْضِرَارِ. مِثَالُهُ أَنْ تَقُولَ لِصَاحِبِكَ: أَلَمْ تَرَ أَنِّي أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ فَتَشْكُرُ، إِنْ نَصَبْتَهُ فَأَنْتَ نَافٍ لِشُكْرِهِ شَاكٍّ تَفْرِيطَهُ فِيهِ، وَإِنْ رَفَعْتَهُ فَأَنْتَ مُثْبِتٌ لِلشُّكْرِ. وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يَرْغَبَ لَهُ مَنِ اتَّسَمَ بِالْعِلْمِ فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ» اه.
وَالْمُخْضَرَّةُ: الَّتِي صَارَ لَوْنُهَا الْخُضْرَةَ. يُقَالُ: اخْضَرَّ الشَّيْءُ، كَمَا يُقَالُ: اصْفَرَّ الثَّمَرُ وَاحْمَرَّ، وَاسْوَدَّ الْأُفُقُ: وَصِيغَةُ افْعَلَّ مِمَّا يُصَاغُ لِلِاتِّصَافِ بِالْأَلْوَانِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ فِي مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ لِلْإِنْزَالِ، أَيْ أَنْزَلَ الْمَاءَ الْمُتَفَرِّعَ عَلَيْهِ الِاخْضِرَارُ لِأَنَّهُ لَطِيفٌ، أَيْ رَفِيقٌ بِمَخْلُوقَاتِهِ، وَلِأَنَّهُ عَلِيمٌ بِتَرْتِيبِ الْمُسَبَّبَاتِ على أَسبَابهَا.
[٦٤]
[سُورَة الْحَج (٢٢) : آيَة ٦٤]
لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤)
الْجُمْلَةُ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [الْحَج: ٦٣] لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْخَالِقِيَّةِ وَالْمُلْكِ الْحَقِّ لِيُعْلَمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ الْمُخْتَصُّ بِالْمَعْبُودِيَّةِ فَيُرَدَّ زَعْمُ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الْأَصْنَامَ لَهُ شُرَكَاءُ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَصَرْفُ عِبَادَتِهِمْ إِلَى أَصْنَامِهِمْ، وَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ ذِكْرُ إِنْزَالِ
وَمَعْنَى (قَدَّرَهُ) جَعَلَهُ عَلَى مِقْدَارٍ وَحَدٍّ مُعَيَّنٍ لَا مُجَرَّدَ مُصَادَفَةٍ، أَيْ خَلَقَهُ مُقَدَّرًا، أَيْ مُحْكَمًا مَضْبُوطًا صَالِحًا لِمَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ لَا تَفَاوُتَ فِيهِ وَلَا خَلَلَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ خَلَقَهُ بِإِرَادَةٍ وَعِلْمٍ عَلَى كَيْفِيَّةٍ أَرَادَهَا وَعَيَّنَهَا كَقَوْلِهِ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَر: ٤٩]. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [١٧].
وَتَأْكِيدُ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ بِقَوْلِهِ: تَقْدِيراً لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ تَقْدِيرٌ كَامِلٌ فِي نَوْعِ التَّقَادِيرِ.
وَمَا جَاءَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ بِأَغْرَاضِهَا وَهُوَ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ خُطْبَةِ الْكِتَابِ أَو الرسَالَة.
[٣]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٣]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣)
اسْتِطْرَادٌ لِانْتِهَازِ الْفُرْصَةِ لِوَصْفِ ضَلَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَسَفَالَةِ تَفْكِيرِهِمْ، فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْفرْقَان: ٢] وَمَا تَلَاهَا مِمَّا هُوَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، وَأُرْدِفَتْ بِقَوْلِهِ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ [الْفرْقَان: ٢] الشَّامِلِ لِكَوْنِ مَا اتَّخَذُوهُ مِنَ الْآلِهَةِ مَخْلُوقَاتٍ فَكَانَ مَا تَقَدَّمَ مُهَيِّئًا لِلتَّعْجِيبِ مِنَ اتِّخَاذِ الْمُشْرِكِينَ آلِهَةً دُونَ ذَلِكَ الْإِلَهِ الْمَنْعُوتِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ.
فَالْخَبَرُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ الْإِفَادَةُ بَلْ هُوَ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ كَيْفَ قَابَلُوا نِعْمَةَ إِنْزَالِ الْفُرْقَانِ بِالْجَحْدِ وَالطُّغْيَانِ وَكَيْفَ أَشْرَكُوا بِالَّذِي تِلْكَ صِفَاتُهُ آلِهَةً أُخْرَى صِفَاتُهُمْ عَلَى الضِّدِّ مِنْ صِفَاتِ مَنْ أَشْرَكُوهُمْ بِهِ، وَإِلَّا فَإِنَّ اتِّخَاذَ الْمُشْرِكِينَ آلِهَةً أَمْرٌ مَعْلُومٌ لَهُمْ وَلِلْمُؤْمِنِينَ فَلَا يُقْصَدُ إِفَادَتُهُمْ لِحُكْمِ الْخَبَرِ.
وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً [الْفرْقَان: ٢] وَقَوْلِهِ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ.
وَضَمِيرُ: اتَّخَذُوا عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَسْبِقْ لَهُمْ ذِكْرٌ فِي الْكَلَامِ وَإِنَّمَا
وَرَفْعُ الْعَذابُ عَلَى أَنَّهُ نَائِبُ فَاعِلٍ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ نُضَعِّفْ بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَبِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ مَكْسُورَةً وَنُصِبَ الْعَذابُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ فَيَكُونُ إِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرو وَيَعْقُوب يُضاعَفْ بِتَحْتِيَّةٍ لِلْغَائِبِ
وَتَشْدِيدِ الْعَيْنِ مَفْتُوحَةً. وَمُفَادُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ مُتَّحِدُ الْمَعْنَى عَلَى التَّحْقِيقِ.
وَرَوَى الطَّبَرَيُّ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى: أَنَّ بَيْنَ ضَاعَفَ وَضَعَّفَ فَرْقًا، فَأَمَّا ضَاعَفَ فَيُفِيدُ جَعْلَ الشَّيْءِ مِثْلَيْهِ فَتَصِيرُ ثَلَاثَةَ أَعْذِبَةٍ. وَأَمَّا ضَعَّفَ الْمُشَدَّدُ فَيُفِيدُ جَعْلَ الشَّيْءِ مِثْلَهُ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَهَذَا التَّفْرِيقُ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ادَّعَاهُ غَيْرُهُمَا. وَصِيغَةُ التَّثْنِيَةِ فِي قَوْلِهِ ضِعْفَيْنِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي إِرَادَةِ الْكَثْرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ [الْملك: ٤] لِظُهُورِ أَنَّ الْبَصَرَ لَا يَرْجِعُ خَاسِئًا وَحَسِيرًا مِنْ تَكَرُّرِ النَّظَرِ مَرَّتَيْنِ، وَالتَّثْنِيَةُ تَرِدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كِنَايَةً عَنِ التَّكْرِيرِ، كَقَوْلِهِمْ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَقَوْلِهِمْ: دَوَالَيْكَ، وَلِذَلِكَ لَا نَشْتَغِلُ بِتَحْدِيدِ الْمُضَاعَفَةِ الْمُرَادَةِ فِي الْآيَةِ بِأَنَّهَا تَضْعِيفٌ مَرَّةً وَاحِدَةً بِحَيْثُ يَكُونُ هَذَا الْعَذَابُ بِمِقْدَارِ مَا هُوَ لِأَمْثَالِ الْفَاحِشَةِ مَرَّتَيْنِ أَوْ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَذَلِكَ مَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَمَا إِعْرَاضُهُمْ عَنْهُ إِلَّا لِأَنَّ أَفْهَامَهُمْ سَبَقَتْ إِلَى الِاسْتِعْمَالِ الْمَشْهُورِ فِي الْكَلَامِ، فَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَأَبِي عُبَيْدَةَ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.
وَالْفَاحِشَةُ: الْمَعْصِيَةُ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الْأَعْرَاف: ٣٣] وَكُلَّمَا وَرَدَتِ الْفَاحِشَةُ فِي الْقُرْآنِ نَكِرَةً فَهِيَ الْمَعْصِيَةُ وَإِذَا وَرَدَتْ مَعْرِفَةً فَهِيَ الزِّنَا وَنَحْوُهُ.
وَالْمُبَيِّنَةُ: بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مُبَالَغَةٌ فِي بَيَانِ كَوْنِهَا فَاحِشَةً وَوُضُوحِهِ حَتَّى كَأَنَّهَا تُبَيِّنُ نَفْسَهَا وَكَذَلِكَ قَرَأَهَا الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ، أَيْ: يُبَيِّنُهَا فَاعِلُهَا.
وَالْمُضَاعَفَةُ: تَكْرِيرُ شَيْءٍ ذِي مِقْدَارٍ بِمِثْلِ مِقْدَارِهِ.
وَقَوْلُهُمْ: نَعْمَلْ صالِحاً وَعْدٌ بِالتَّدَارُكِ لِمَا فَاتَهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَلَكِنَّهَا إِنَابَةٌ بَعْدَ إِبَانِهَا.
وَلِإِرَادَةِ الْوَعْدِ جُزِمَ نَعْمَلْ صالِحاً فِي جَوَابِ الدُّعَاءِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ تُخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا.
وغَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ نَعْتٌ لِ صالِحاً، أَيْ عَمَلًا مُغَايِرًا لِمَا كُنَّا نَعْمَلُهُ فِي الدُّنْيَا وَهَذَا نَدَامَةٌ عَلَى مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ لِأَنَّهُمْ أَيْقَنُوا بِفَسَادِ عَمَلِهِمْ وَضُرِّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَالَمَ عَالَمُ الْحَقَائِقِ.
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ.
الْوَاوُ عَاطِفَةٌ فِعْلَ قَوْلٍ مَحْذُوفًا لِعِلْمِهِ مِنَ السِّيَاقِ بِحَسَبِ الضَّمِيرِ فِي نُعَمِّرْكُمْ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها فَإِنَّ صُرَاخَهُمْ كَلَامٌ مِنْهُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا وَنَقُولُ أَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ.
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيعٌ لِلتَّوْبِيخِ، وَجُعِلَ التَّقْرِيرُ عَلَى النَّفْيِ تَوْطِئَةً لِيُنْكِرَهُ الْمُقَرَّرُ حَتَّى إِذَا قَالَ: بَلَى عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَسَعْهُ الْإِنْكَارُ حَتَّى مَعَ تَمْهِيدِ وطاء الْإِنْكَار إِلَيْهِ.
وَالتَّعْمِيرُ: تَطْوِيلُ الْعُمُرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٩٦]، وَقَوْلِهِ: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١١].
وَمَا ظَرْفِيَّةٌ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ زَمَانَ تَعْمِيرِ مُعَمَّرٍ.
وَجُمْلَةُ يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ صِفَةٌ لِ مَا، أَيْ زَمَانًا كَافِيًا بِامْتِدَادِهِ لِلتَّذَكُّرِ وَالتَّبْصِيرِ.
والنَّذِيرُ الرَّسُولُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَجُمْلَةُ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ «أَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ» لِأَنَّ مَعْنَاهَا الْخَبَرُ
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «شَرْحِهِ» : هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ نَصٌّ جَلِيٌّ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ أَصْلُ عَمَلِهِ لِلَّهِ وَعَلَى ذَلِكَ عَقَدَ نِيَّتَهُ لَمْ تَضُرْهُ الْخَطَرَاتُ الَّتِي تَقَعُ فِي الْقَلْبِ وَلَا تُمْلَكُ، عَلَى مَا قَالَهُ مَالِكٌ خِلَافَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ رَبِيعَةُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا سُئِلَا عَنِ الرَّجُلِ يُحِبُّ أَنْ يُلْقَى فِي طَرِيقِ الْمَسْجِدِ وَيَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي طَرِيقِ السُّوقِ فَأَنْكَرُ ذَلِكَ رَبِيعَةُ وَلَمْ يُعْجِبْهُ أَنْ يُحِبَّ أَحَدٌ أَنْ يُرَى فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ أَوَّلُ ذَلِكَ وَأَصْلُهُ لِلَّهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: ٣٩]، وَقَالَ: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشُّعَرَاء: ٨٤]. قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا هَذَا شَيْءٌ يَكُونُ فِي الْقَلْبِ لَا يُمْلَكُ وَذَلِكَ من وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ لِيَمْنَعَهُ مِنَ الْعَمَلِ فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلَا يُكْسِلَهُ عَنِ التَّمَادِي عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَلَا يُؤَيِّسُهُ مِنَ الْأَجْرِ وَلِيَدْفَعَ الشَّيْطَانَ عَنْ نَفْسِهِ مَا اسْتَطَاعَ (أَيْ إِذَا أَرَادَ تَثْبِيطَهُ
عَنِ الْعَمَلِ)، وَيُجَدِّدَ النِّيَّةَ فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ اهـ. وَذُكِرَ قَبْلَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ يَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ رَبِيعَةَ. وَذَكَرَ أَنَّ رَبِيعَةَ أَنْكَرَ ذَلِكَ. قَالَ مَالِكٌ: فَقُلْتُ لَهُ مَا تَرَى فِي التَّهْجِيرِ إِلَى الْمَسْجِدِ قَبْلَ الظُّهْرِ؟ قَالَ: مَا زَالَ الصَّالِحُونَ يُهَجِّرُونَ. وَفِي «جَامِعِ الْمِعْيَارِ» : سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يَذْهَبُ إِلَى الْغَزْوِ وَمَعَهُ فَضْلُ مَالٍ لِيُصِيبَ بِهِ مِنْ فَضْلِ الْغَنِيمَةِ (أَيْ لِيَشْتَرِيَ مِنَ النَّاسِ مَا صَحَّ لَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ) فَأَجَابَ لَا بَأْسَ بِهِ وَنَزَعَ بِآيَةِ التِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ قَوْلِهِ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [الْبَقَرَة:
١٩٨] وَأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ وَلَا قَادِحٍ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَةِ إِذَا كَانَ قَصْدُهُ بِالْعِبَادَةِ وَجْهَ اللَّهِ وَلَا يُعَدُّ هَذَا تَشْرِيكًا فِي الْعِبَادَةِ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَبَاحَ ذَلِكَ وَرَفَعَ الْحَرَجَ عَنْ فَاعِلِهِ مَعَ أَنَّهُ قَالَ:
فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الْكَهْف: ١١٠] فَدَلَّ أَنَّ هَذَا التَّشْرِيكَ لَيْسَ بِدَاخِلٍ بِلَفْظِهِ وَلَا بِمَعْنَاهُ تَحْتَ آيَةِ الْكَهْفِ اهـ.
وَأَقُول: إِن الْقَصْد إِلَى الْعِبَادَةِ لِيَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ فَيَسْأَلُهُ مَا فِيهِ صَلَاحُهُ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا لَا ضَيْرَ فِيهِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْعِبَادَةَ جُعِلَتْ وَسِيلَةً لِلدُّعَاءِ وَنَحْوِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ تَقَرُّبٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ شُرِعَتْ صَلَوَاتٌ لِكَشْفِ الضُّرِّ وَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ مِثْلَ صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ وَصَلَاةِ الضُّرِّ وَالْحَاجَةِ، وَمِنَ الْمُغْتَفَرِ أَيْضًا أَنْ يَقْصِدَ الْعَامِلُ مِنْ عَمَلِهِ
مَوْصُولَةً. وَوُجُودُ الْفَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: إِمَّا لِأَنَّهُمَا جَوَابَانِ لِلشَّرْطِ، وَإِمَّا لِمُعَامَلَةِ الْمَوْصُولِ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْإِمْهَالَ إِعْذَارٌ لَهُمْ ليتداركوا أَمرهم.
وَتَقْدِيم قَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ، كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُ وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ لفظا وَمعنى فِي سُورَةِ غَافِرٍ [٣١].
وَحَرْفُ (عَلَى) مُؤْذِنٌ بِمُؤَاخَذَةِ وَتَحَمُّلِ أَعْبَاءٍ كَمَا أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: فَلِنَفْسِهِ مُؤْذِنٌ بِالْعَطَاءِ.
وَالْخِطَابُ فِي رَبُّكَ للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَعْزِيزِ تَسْلِيَتِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ آنِفًا:
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ [فصلت: ٤٥] مِنْ الْعُدُولِ إِلَى لَفْظِ الرَّبِّ الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ.
وَالْمُرَادُ بِنَفْيِ الظُّلْمِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى لِعَبِيدِهِ: أَنَّهُ لَا يُعَاقِبُ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ بِمُجْرِمٍ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا وَضَعَ لِلنَّاسِ شَرَائِعَ وَبَيَّنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَوَعَدَ وَأَوْعَدَ فَقَدْ جَعَلَ ذَلِكَ قَانُونًا، فَصَارَ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى عِقَابِ مَنْ لَيْسَ بمجرم ظلما إِذْ الظُّلْمُ هُوَ الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ فِي الْقَوَانِينِ الْمُتَلَقَّاةِ مِنَ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ أَوِ الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنَ الْعُقُولِ الْحَكِيمَةِ.
وَأَمَّا صِيغَةُ (ظَلَّامٍ) الْمُقْتَضِيَةُ الْمُبَالَغَةَ فِي الظُّلْمِ فَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ قَبْلَ دُخُولِ النَّفْيِ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي وَقَعَتْ هِيَ فِيهَا كَأَنَّهُ قِيلَ: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُسِيءَ لَكَانَ ظَلَّامًا لَهُ وَمَا هُوَ بِظَلَّامٍ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي: إِنَّ النَّفْيَ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى كَلَامٍ مُقَيَّدٍ قَدْ يَكُونُ النَّفْيُ نَفْيًا لِلْقَيْدِ وَقَدْ يَكُونُ الْقَيْدُ قَيْدًا فِي النَّفْيِ وَمَثَّلُوهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ دَقِيقٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ فِي نَفْيِ
الْوَصْفِ الْمَصُوغِ بِصِيغَةِ الْمُبَالغَة من تَمام عَدْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ جَعَلَ كُلَّ دَرَجَاتِ الظُّلْمِ فِي رُتْبَةِ الظُّلْمِ الشَّدِيدِ
وَمِنْ مُصْطَلَحَاتِ مُتَكَلَّفَةٍ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهَ سُكُونًا فَقَالَ: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الرّوم: ٢١].
وَالْحُورُ: جَمْعُ الْحَوْرَاءِ، وَهِيَ الْبَيْضَاءُ، أَيْ بِنِسَاءٍ بَضِيضَاتِ الْجِلْدِ.
وَالْعَيْنُ: جَمْعُ الْعَيْنَاءِ، وَهِيَ وَاسِعَةُ الْعَيْنِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ. وَشَمِلَ الْحُورُ الْعِينِ النِّسَاءَ الّلاء كنّ أَزوَاجهنَّ فِي الدُّنْيَا، وَنِسَاءً يَخْلُقُهُنَّ اللَّهُ لِأَجْلِ الْجَنَّةِ قَالَ تَعَالَى:
إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً [الْوَاقِعَة: ٣٥] وَقَالَ تَعَالَى: هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ [يس: ٥٦].
وَمَعْنَى يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ أَيْ هُمْ يَأْمُرُونَ بِأَنْ تَحَضُرَ لَهُمُ الْفَاكِهَةُ، أَيْ فَيُجَابُونَ.
وَالدُّعَاءُ نَوْعٌ مِنَ الْأَمْرِ أَيْ يَأْذَنُونَ بِكُلِّ فَاكِهَةٍ، أَيْ بِإِحْضَارِ كُلِّ فَاكِهَةٍ. وكل هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْكَثْرَةِ الشَّدِيدَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْإِحَاطَةِ، أَيْ بِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الْفَاكِهَةِ.
وَالْفَاكِهَةُ: مَا يُتَفَكَّهُ بِهِ، أَيْ يُتَلَذَّذُ بِطَعْمِهِ مِنَ الثِّمَارِ وَنَحْوِهَا.
وَجُمْلَةُ يَدْعُونَ حَالٌ من الْمُتَّقِينَ [الدُّخان: ٥١]، وآمِنِينَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَدْعُونَ. وَالْمُرَادُ هُنَا أَمْنٌ خَاصٌّ غَيْرُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فِي مَقامٍ أَمِينٍ [الدُّخان: ٥١] وَهُوَ الْأَمْنُ مِنَ الْغَوَائِلِ وَالْآلَامِ مِنْ تِلْكَ الْفَوَاكِهِ عَلَى خِلَافِ حَالِ الْإِكْثَارِ مِنَ الطَّعَامِ فِي الدُّنْيَا كَقَوْلِهِ فِي خَمْرِ الْجَنَّةِ لَا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ [الصافات: ٤٧]، أَوْ آمَنِينَ مِنْ نَفَادِ ذَلِكَ وَانْقِطَاعِهِ.
وَجُمْلَةُ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى حَالٌ أُخْرَى. وَهَذِهِ بِشَارَةٌ بِخُلُودِ النِّعْمَةِ لِأَنَّ الْمَوْتَ يَقْطَعُ مَا كَانَ فِي الْحَيَاةِ مِنَ النَّعِيمِ لِأَصْحَابِ النَّعِيمِ كَمَا كَانَ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ لَا يَمُوتُونَ نِذَارَةً بِدَوَامِ الْعَذَابِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ انْتِفَاءِ ذَوْقِ الْمَوْت عَن أجل الْجَنَّةِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَا يَذُوقُونَ الْمَوْتَ أَلْبَتَّةَ وَقَرِينَةُ ذَلِكَ وَصْفُهَا بِ الْأُولى. وَالْمُرَادُ بِ الْأُولى السَّالِفَةُ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى [الدُّخان: ٣٥].
بِمَقْرُبَةِ مِنْهَا كَرَامَةً لَهُمْ عَنْ كُلْفَةِ الْمَسِيرِ إِلَيْهَا، وَقَدْ يَكُونُ عِبَارَةً عَنْ تَيْسِيرِ وُصُولِهِمْ إِلَيْهَا بِوَسَائِلَ غَيْرِ مَعْرُوفَةٍ فِي عَادَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا.
وَقَوْلُهُ: غَيْرَ بَعِيدٍ يُرَجِّحُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ، أَيْ غَيْرُ بَعِيدٍ مِنْهُمْ وَإِلَّا صَارَ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا لِ أُزْلِفَتِ كَمَا يُقَالُ: عَاجِلٌ غَيْرُ آجِلٍ، وَقَوْلُهُ: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [طه: ٧٩] وَالتَّأْسِيسُ أَرْجَحُ مِنَ احْتِمَالِ التَّأْكِيدِ.
وَانْتَصَبَ غَيْرَ بَعِيدٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَصْفٌ لِظَرْفِ مَكَانٍ مَحْذُوفٍ.
وَالتَّقْدِيرُ: مَكَانًا غَيْرَ بَعِيدٍ، أَيْ عَنِ الْمُتَّقِينَ. وَهَذَا الظَّرْفُ حَالٌ مِنَ الْجَنَّةُ. وَتَجْرِيدُ
بَعِيدٍ مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ: إِمَّا عَلَى اعْتِبَارِ غَيْرَ بَعِيدٍ وَصفا لمَكَان، وَإِمَّا جَرْيٌ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْغَالِبِ فِي وَصْفِ بَعِيدٍ وَقَرِيبٍ إِذَا أُرِيدَ الْبُعْدُ وَالْقُرْبُ بِالْجِهَةِ دُونَ النَّسَبِ أَنْ يُجَرَّدَا مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ كَمَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ أَوْ لِأَنَّ تَأْنِيثَ اسْمِ الْجَنَّةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ كَمَا قَالَ الزَّجَّاجُ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى زِنَةِ الْمَصْدَرِ مِثْلَ الزَّئِيرِ وَالصَّلِيلِ، كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الْأَعْرَاف: ٥٦].
وَجُمْلَةُ هَذَا مَا تُوعَدُونَ مُعْتَرِضَةٌ، فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهَا وَحْدَهَا مُعْتَرِضَةً وَمَا بَعْدَهَا مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهَا فَتَكُونُ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ وَهَمَا لِلْمُتَّقِينَ ولِكُلِّ أَوَّابٍ، وَتُجْعَلْ لِكُلِّ أَوَّابٍ بَدَلًا مِنْ لِلْمُتَّقِينَ، وَتَكْرِيرُ الْحَرْفِ الَّذِي جُرَّ بِهِ الْمُبْدَلُ مِنْهُ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا [سبأ: ٣٢] لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ الْآيَةَ وَقَوْلُهُ: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النِّسَاء: ١١]. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ الْمُذَكَّرُ مُرَاعًى فِيهِ مَجْمُوعُ مَا هُوَ مُشَاهَدٌ عِنْدَهُمْ مِنَ الْخَيْرَاتِ.
وَالْأَوَّابُ: الْكَثِيرُ الْأَوْبِ، أَيِ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ، أَيْ إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ.
وَالْحَفِيظُ: الْكَثِيرُ الْحِفْظِ لِوَصَايَا اللَّهِ وَحُدُودِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مُحَافِظٌ عَلَى الطَّاعَةِ فَإِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ فَلْتَةٌ أَعْقَبَهَا بِالتَّوْبَةِ.
ومَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ بدل من لِكُلِّ أَوَّابٍ.
فَالْعِلْمُ الْمَنْفِيُّ فِي قَوْله: فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ
[الْوَاقِعَة: ٦١]، هُوَ الْعِلْمُ التَّفْصِيلِيُّ، وَالْعِلْمُ الْمُثْبَتُ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى هُوَ الْعِلْمُ الْإِجْمَالِيُّ، وَالْإِجْمَالِيُّ كَافٍ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّفْصِيلِيِّ إِذْ لَا أَثَرَ لِلتَّفْصِيلِ فِي الْاِعْتِقَادِ.
وَفِي الْمُقَابَلَةِ بَين قَوْله: فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ
[الْوَاقِعَة: ٦١] بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ مُحَسِّنُ الطِّبَاقَ.
وَلَمَّا كَانَ عِلْمُهُمْ بِالنَّشْأَةِ الْأُولَى كَافِيًا لَهُمْ فِي إِبْطَالِ إِحَالَتِهِمُ النَّشْأَةَ الثَّانِيَةَ رَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْبِيخِ مَا لَمْ يُرَتِّبْ مِثْلَهُ عَلَى قَوْلِهِ: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْوَاقِعَة: ٦٠، ٦١] فَقَالَ: فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ، أَيْ هَلَّا تَذَكَّرْتُمْ بِذَلِكَ فَأَمْسَكْتُمْ عَنِ الْجَحْدِ، وَهَذَا تَجْهِيلٌ لَهُمْ فِي تَرْكِهِمْ قِيَاسَ الْأَشْبَاهِ عَلَى أَشْبَاهِهَا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ آنِفًا: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ [الْوَاقِعَة: ٥٧].
وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: تَذَكَّرُونَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ بَابَ التَّذَكُّرِ مَفْتُوحٌ فَإِنْ فَاتَهُمُ التَّذَكُّرُ فِيمَا مَضَى فَلْيَتَدَارَكُوهُ الْآنَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ النَّشْأَةَ بِسُكُونِ الشِّينِ تَلِيهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ مَصْدَرَ نَشَأَ عَلَى وَزْنِ الْمَرَّةِ وَهِي مرّة للْجِنْس. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ بِفَتْحِ الشِّينِ بَعْدَهَا أَلِفٌ تَلِيهَا هَمْزَةٌ، وَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ الْفَعَالَةِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَة العنكبوت.
[٦٣، ٦٤]
[سُورَة الْوَاقِعَة (٥٦) : الْآيَات ٦٣ إِلَى ٦٤]
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤)
انْتِقَالٌ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَصَلَاحِيَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ لَهُ بِضَرْبٍ آخَرَ مِنْ ضُرُوبِ الْإِنْشَاءِ بَعْدَ الْعَدَمِ.
فَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ مَا بَعْدَهَا عَلَى جُمْلَةِ: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ [الْوَاقِعَة: ٥٧] كَمَا فَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ [الْوَاقِعَة: ٥٨] لِيَكُونَ الْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْجُمَلِ مُتَّحِدًا وَهُوَ الْاِسْتِدْلَالُ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ، فَقَصَدَ تَكْرِيرَ الْاِسْتِدْلَالِ وَتَعْدَادَهُ بِإِعَادَةِ جُمْلَةِ
انْتِظَارِهَا عَلَى تِسْعَةِ أَشْهُرٍ). فَإِذَا بَلَغَتْ سِنَّ الْيَأْسِ دُونَ رِيبَةٍ اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِئِذٍ. وَنَحْنُ نَتَأَوَّلُ لَهُ بِأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ: فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، أَيْ بَعْدَ زَوَالِ الِارْتِيَابِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ الْأَشْهُرِ بَعْدَ مُضِيِّ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ تَبْلُغُ بِهَا سِنَّ مَنْ لَا يُشْبِهُ أَنْ تَحِيضَ تَعَبُّدٌ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْحَمْلِ قَدِ اتَّضَحَ وَانْتِظَارَ الْمُرَاجَعَةِ قَدِ امْتَدَّ. إِلَّا أَنْ نَعْتَذِرَ لَهُمْ بِأَنَّ مُدَّةَ الِانْتِظَارِ لَا يَتَحَفَّزُ فِي خِلَالِهَا الْمُطَلِّقُ لِلرَّأْيِ فِي أَمْرِ الْمُرَاجَعَةِ لِأَنَّهُ فِي سِعَةِ الِانْتِظَارِ فَيُزَادُ فِي الْمُدَّةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» :«قَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ: مِنَ الرِّيبَةِ الْمَرْأَةُ الْمُسْتَحَاضَةُ الَّتِي لَا يَسْتَقِيمُ لَهَا الْحيض تحيض فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ مِرَارًا، وَفِي الْأَشْهُرِ مَرَّةً (أَيْ بِدُونَ انْضِبَاطٍ) » اه. وَنَقْلَ الطَّبَرِيُّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَابْنِ زَيْدٍ، فَيَجِبُ أَنْ يُصَارَ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَالْمَرْأَةُ إِذَا قَارَبَتْ وَقْتَ الْيَأْسِ لَا يَنْقَطِع عَنْهَا الْمَحِيض دُفْعَةً وَاحِدَةً بَلْ تَبْقَى عِدَّةَ أَشْهُرٍ يَنْتَابُهَا الْحَيْضُ غِبًّا بِدُونِ انْتِظَامٍ ثُمَّ يَنْقَطِعُ تَمَامًا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ عَطْفٌ عَلَى وَاللَّائِي يَئِسْنَ وَالتَّقْدِيرُ: عِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. وَيَحْسُنُ الْوُقُفُ عَلَى قَوْلِهِ: فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ.
وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.
مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ فَهِيَ إِتْمَامٌ لِأَحْوَالِ الْعِدَّةِ الْمُجْمَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [الطَّلَاق: ١] وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ مِنْهُنَّ، أَيْ مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.
فَحَصَلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا تَفْصِيلٌ لِأَحْوَالِ الْمُطَلَّقَاتِ وَحَصَلَ أَيْضًا مِنْهَا بَيَانٌ لِإِجْمَالِ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَأُولاتُ اسْمُ جَمْعٍ لِذَاتٍ بِمَعْنَى: صَاحِبَةٍ. وَذَاتُ: مُؤَنَّثُ ذُو، بِمَعْنَى:
صَاحِبٍ. وَلَا مُفْرَدَ لِ أُولاتُ مِنْ لَفْظِهِ كَمَا لَا مُفْرَدَ لِلَفْظِ (أولو) وأُولاتُ مِثْلُ ذَوَاتٍ كَمَا أَنَّ أُولُو مِثْلُ ذَوُو. وَيُكْتَبُ أُولاتُ بِوَاوٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ فِي الرَّسْمِ تَبَعًا لِكِتَابَةِ لَفْظِ (أُولُو) بِوَاوٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ لِقَصْدِ التَّفْرِقَةِ فِي الرَّسْمِ بَيْنَ أُولِي فِي حَالَةِ
وَمَشِيئَةُ اللَّهِ ذَلِكَ تَعَلُّقُ عِلْمِهِ بِسُلُوكِ الْمُهْتَدِينَ وَالضَّالِّينَ.
وَمَحَلُّ كَذلِكَ نَصْبٌ بِالنِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ هُنَا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ الصِّفَةُ، وَالتَّقْدِيرُ: يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِضْلَالًا وَهَدْيًا كَذَلِكَ الْإِضْلَالُ وَالْهَدْيُ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: ١٤٣].
وَقَدَّمَ وَصْفَ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا التَّشْبِيهِ لِمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ مِنْ تَفْصِيلٍ عِنْدَ التَّدَبُّرِ فِيهِ، وَحَصَلَ مِنْ تَقْدِيمِهِ مُحَسِّنُ الْجَمْعِ ثُمَّ التَّقْسِيمُ إِذْ جَاءَ تَقْسِيمُهُ بِقَوْلِهِ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ.
وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ.
كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِإِبْطَالِ التَّخَرُّصَاتِ الَّتِي يَتَخَرَّصُهَا الضَّالُّونَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ عِنْدَ سَمَاعِ
الْأَخْبَارِ عَنْ عَالَمِ الْغَيْبِ وَأُمُورِ الْآخِرَةِ مِنْ نَحْو: مَا هَذَا بِهِ أَبُو جَهْلٍ فِي أَمْرِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ يَشْمَلُ ذَلِكَ وَغَيْرَهُ، فَلِذَلِكَ كَانَ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ حُكْمُ التَّذْيِيلِ.
وَالْجُنُودُ: جَمْعُ جُنْدٍ وَهُوَ اسْمٌ لِجَمَاعَةِ الْجَيْشِ وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لِتَنْفِيذِ أَمْرِهِ لِمُشَابَهَتِهَا الْجُنُودَ فِي تَنْفِيذِ الْمُرَادِ.
وَإِضَافَةُ رَبٍّ إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ، وَتَعْرِيضٍ بِأَنَّ مِنْ شَأْنِ تِلْكَ الْجُنُودِ أَنَّ بَعْضَهَا يَكُونُ بِهِ نَصْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَنَفْيُ الْعِلْمِ هُنَا نَفْيٌ لِلْعِلْمِ التَّفْصِيلِيِّ بِأَعْدَادِهَا وَصِفَاتِهَا وَخَصَائِصِهَا بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِعَدَدِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ قَدْ حَصَلَ لِلنَّاسِ بِإِعْلَامٍ مِنَ اللَّهِ لَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ.
وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ.
فِيهِ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ أَعْلَاهَا أَنْ يَكُونَ هَذَا تَتِمَّةً لِقَوْلِهِ: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، أَيْ أَنَّ النَّافِعَ لَكُمْ أَنْ تَعْلَمُوا أَنَّ الْخَبَرَ عَنْ خَزَنَةِ النَّارِ بِأَنَّهُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ فَائِدَتُهُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرَى
وَالْعِمَادُ: عُودٌ غَلِيظٌ طَوِيلٌ يُقَامُ عَلَيْهِ الْبَيْتُ يُرْكَزُ فِي الْأَرْضِ تُقَامُ عَلَيْهِ أَثْوَابُ الْخَيْمَةِ أَوِ الْقُبَّةِ وَيُسَمَّى دِعَامَةً، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْقُوَّةِ تَشْبِيهًا لِلْقَبِيلَةِ الْقَوِيَّةِ بِالْبَيْتِ ذَاتِ الْعِمَادِ.
وَإِطْلَاقُ الْعِمَادِ عَلَى الْقُوَّةِ جَاءَ فِي قَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:
وَنَحْنُ إِذَا عِمَادُ الْحَيِّ خَرَّتْ | عَلَى الْأَحْفَاضِ نَمْنَعُ مَنْ يَلِينَا |
وَوُصِفَتْ عَادٌ بِ ذاتِ الْعِمادِ لِقُوَّتِهَا وَشِدَّتِهَا، أَيْ قَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمًا هُمْ أَشَدُّ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوكَ قَالَ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ [مُحَمَّد: ١٣] وَقَالَ: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً [غَافِر: ٢١].
والَّتِي: صَادِقٌ عَلَى «عَادٍ» بِتَأْوِيلِ الْقَبِيلَةِ كَمَا وُصِفَتْ بِ ذاتِ الْعِمادِ وَالْعَرَبُ يَقُولُونَ: تَغْلِبُ ابْنَةُ وَائِلٍ، بِتَأْوِيلِ تَغْلِبَ بِالْقَبِيلَةِ.
والْبِلادِ: جَمْعُ بَلَدٍ وَبَلْدَةٍ وَهِيَ مِسَاحَةٌ وَاسِعَةٌ مِنَ الْأَرْضِ مُعَيَّنَةٌ بِحُدُودٍ أَوْ سُكَّانٍ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْبِلادِ لِلْجِنْسِ وَالْمَعْنَى: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُ تِلْكَ الْأُمَّةِ فِي الْأَرْضِ.
وَأُرِيدَ بِالْخَلْقِ خَلْقُ أَجْسَادِهِمْ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا طِوَالًا شِدَادًا أَقْوِيَاءَ، وَكَانُوا أَهْلَ عَقْلٍ وَتَدْبِيرٍ، وَالْعَرَبُ تَضْرِبُ الْمَثَلَ بِأَحْلَامِ عَادٍ، ثُمَّ فَسَدَتْ طِبَاعُهُمْ بِالتَّرَفِ فَبَطِرُوا النِّعْمَةَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ هُنَا لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ، أَيْ فِي بُلْدَانِ الْعَرَبِ وَقَبَائِلِهِمْ.
وَقَدْ وَضَعَ الْقَصَّاصُونَ حَوْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ قِصَّةً مَكْذُوبَةً فَزَعَمُوا أَنَّ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ مُرَكَّبٌ جُعِلَ اسْمًا لِمَدِينَةٍ بِالْيَمَنِ أَوْ بِالشَّامِ أَوْ بِمِصْرَ، وَوَصَفُوا قُصُورَهَا وَبَسَاتِينَهَا بِأَوْصَافٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ، وَتَقَوَّلُوا أَنَّ أَعْرَابِيًّا يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قِلَابَةَ كَانَ فِي زَمَنِ الْخَلِيفَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ تَاهَ فِي ابْتِغَاءِ إِبِلٍ