مَا أَفَادَهُ الِاعْتِرَاضُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ وَقَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ فَجَاءَ بِهَذِهِ الْجُمَلِ الْحَالِيَّةِ وَالْمُسْتَأْنَفَةِ تَنْبِيهًا عَلَى وَجْهِ الشَّبَهِ وَتَقْرِيرًا لِقُوَّةِ مُشَابَهَةِ الزَّوَاجِرِ وَآيَاتِ الْهُدَى وَالْإِيمَانِ بِالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ
فِي حُصُولِ أَثَرَيِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ عَنْهُمَا مَعَ تَفَنُّنٍ فِي الْبَلَاغَةِ وَطَرَائِقِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ.
وَجَعَلَ فِي «الْكَشَّافِ» الْجُمَلَ الثَّلَاثَ مُسْتَأْنَفًا بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ بِأَنْ تَكُونَ الْأُولَى اسْتِئْنَافًا عَنْ جُمْلَةِ: أَوْ كَصَيِّبٍ [الْبَقَرَة: ١٩] وَالثَّانِيَةُ وَهِيَ: يَكادُ الْبَرْقُ مُسْتَأْنَفَةً عَنْ جُمْلَةِ: يَجْعَلُونَ لِأَنَّ الصَّوَاعِقَ تَسْتَلْزِمُ الْبَرْقَ، وَالثَّالِثَةُ وَهِيَ: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا مُسْتَأْنَفَةً عَنْ قَوْلِهِ: يَكادُ الْبَرْقُ وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ ضَعِيفٌ وَهُوَ فِي بَعْضِهَا أَضْعَفُ مِنْهُ فِي بَعْضٍ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا.
وَالْجَعْلُ وَالْأَصَابِعُ مُسْتَعْمَلَانِ فِي حَقِيقَتِهِمَا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ لِأَنَّ الْجَعْلَ هُوَ هُنَا بِمَعْنَى النَّوْطِ، وَالظَّرْفِيَّةُ لَا تَقْتَضِي الْإِحَاطَةَ فَجَعْلُ بَعْضِ الْإِصْبَعِ فِي الْأُذُنِ هُوَ جَعْلٌ لِلْإِصْبَعِ فَتَمَثُّلُ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِلْمَجَازِ الَّذِي عَلَاقَتُهُ الْجُزْئِيَّةُ تَسَامُحٌ وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِقَوْلِهِ هَذَا مِنَ الِاتِّسَاعَاتِ فِي اللُّغَةِ الَّتِي لَا يَكَادُ الْحَاصِرُ يَحْصُرُهَا كَقَوْلِهِ: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَة: ٦] فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [الْمَائِدَة: ٣٨] وَمِنْهُ قَوْلُكَ مَسَحْتُ بِالْمِنْدِيلِ، وَدَخَلْتُ الْبَلَدَ، وَقِيلَ ذَلِكَ مَجَازٌ فِي الْأَصَابِعِ، وَقِيلَ مَجَازٌ فِي الْجَعْلِ وَلِمَنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهُ مَجَازًا فِي الظَّرْفِيَّةِ فَتَكُونُ تَبَعِيَّةً لِكَلِمَةِ (فِي).
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنَ الصَّواعِقِ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ لِأَجْلِ الصَّوَاعِقِ إِذِ الصَّوَاعِقُ هِيَ عِلَّةُ جَعْلِ الْأَصَابِعِ فِي الْآذَانِ وَلَا ضَيْرَ فِي كَوْنِ الْجَعْلِ لِاتِّقَائِهَا حَتَّى يُقَالَ يَلْزَمُ تَقْدِيرُ مُضَافٍ نَحْوَ تَرْكٍ وَاتِّقَاءٍ إِذْ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُمْ سَقَاهُ مِنَ الْعَيْمَةِ (بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْيَاءِ وَهِيَ شَهْوَةُ اللَّبَنِ) لِأَنَّ الْعَيْمَةَ سَبَبُ السَّقْيِ وَالْمَقْصُودُ زَوَالُهَا إِذِ الْمَفْعُولُ لِأَجْلِهِ هُوَ الْبَاعِثُ وُجُودُهُ عَلَى الْفِعْلِ سَوَاءً كَانَ مَعَ ذَلِكَ غَايَةً لِلْفِعْلِ وَهُوَ الْغَالِبُ أَمْ لَمْ يَكُنْ كَمَا هُنَا.
وَالصَّوَاعِقُ جَمْعُ صَاعِقَةٍ وَهِيَ نَارٌ تَنْدَفِعُ مِنْ كَهْرَبَائِيَّةِ الْأَسْحِبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَقَوْلُهُ:
حَذَرَ الْمَوْتِ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ وَهُوَ هُنَا عِلَّةٌ وَغَايَةٌ مَعًا.
وَمِنْ بَدِيعِ هَذَا التَّمْثِيلِ أَنَّهُ مَعَ مَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنْ مَجْمُوعِ الْهَيْئَةِ الْمُرَكَّبَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا حَالُ الْمُنَافِقِينَ حِينَ مُنَازَعَةِ الْجَوَاذِبِ لِنُفُوسِهِمْ مِنْ جَوَاذِبِ الِاهْتِدَاءِ وَتَرْقُبِهَا مَا يُفَاضُ عَلَى نُفُوسِهِمْ مِنْ قَبُولِ دَعْوَةِ النَّبِيءِ وَإِرْشَادِهِ مَعَ جَوَاذِبِ الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ وَذَبِّهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنْ يَعْلَقَ بِهَا ذَلِكَ الْإِرْشَادُ حِينَمَا يَخْلُونَ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ، هُوَ مَعَ ذَلِكَ قَابِلٌ لِتَفْرِيقِ التَّشْبِيهِ فِي
تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنِ الْإِخْبَارِ لَازِمَ الْفَائِدَةِ، أَعْنِي كَتَبْنَاهُ عَلَيْكُمْ وَنَحْنُ عَالِمُونَ أَنَّهُ شَاقٌّ عَلَيْكُمْ، وَرُبَّمَا رُجِحَ هَذَا الْوَجْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
وَالْكُرْهُ بِضَمِّ الْكَافِ: الْكَرَاهِيَةُ وَنُفْرَةُ الطَّبْعِ مِنَ الشَّيْءِ وَمِثْلُهُ الْكُرْهُ بِالْفَتْحِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: الْكُرْهُ بِالضَّمِّ الْمَشَقَّةُ وَنُفْرَةُ الطَّبْعِ، وَبِالْفَتْحِ هُوَ الْإِكْرَاهُ وَمَا يَأْتِي عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْجَبْرِ عَلَى فِعْلٍ مَا بِأَذًى أَوْ مَشَقَّةٍ، وَحَيْثُ قُرِئَ بِالْوَجْهَيْنِ هُنَا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً [الْأَحْقَاف: ١٥] وَلَمْ يَكُنْ هُنَا وَلَا هُنَا لَك مَعْنًى لِلْإِكْرَاهِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْكَرَاهِيَةِ وَإِبَايَةِ الطَّبْعِ كَمَا قَالَ الْحَمَاسِيُّ الْعُقَيْلِيُّ:

بِكُرْهِ سُرَاتِنَا يَا آلَ عَمْرٍو نُغَادِيكُمْ بِمُرْهَفَةِ النِّصَالِ
رَوَوْهُ بِضَمِّ الْكَافِ وَبِفَتْحِهَا.
عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ الْوَارِدَ مَوْرِدَ التَّذْيِيلِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا قَبْلَهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْكَرَاهِيَةِ لِيَكُونَ جُزْئِيًّا مِنْ جُزْئِيَّاتِ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئا.
وَقد تحمل صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» لِحَمْلِ الْمَفْتُوحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالْآيَةِ الْأُخْرَى عَلَى الْمَجَازِ، وَقَرَّرَهُ الطِّيبِيُّ وَالتَّفْتَازَانِيُّ بِمَا فِيهِ تَكَلُّفٌ، وَإِذْ هُوَ مَصْدَرٌ فَالْإِخْبَارُ بِهِ مُبَالَغَةٌ فِي تَمَكُّنِ الْوَصْفِ مِنَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ كَقَوْلِ الْخَنْسَاءِ:
فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ أَيْ تُقْبِلٌ وَتُدْبِرُ.
وَقِيلَ: الْكُرْهُ اسْمٌ للشَّيْء الْمَكْرُوه كالخبز. فَالْقِتَالُ كَرِيهٌ لِلنُّفُوسِ، لِأَنَّهُ يَحُولُ بَيْنَ الْمُقَاتِلِ وَبَيْنَ طُمَأْنِينَتِهِ وَلَذَّاتِهِ وَنَوْمِهِ وَطَعَامِهِ وَأَهْلِهِ وَبَيْتِهِ، وَيُلْجِئُ الْإِنْسَانَ إِلَى عَدَاوَةِ مَنْ كَانَ صَاحِبَهُ وَيُعَرِّضُهُ لِخَطَرِ الْهَلَاكِ أَوْ أَلَمِ الْجِرَاحِ، وَلَكِنَّ فِيهِ دَفْعَ الْمَذَلَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ غَلَبَةِ الرِّجَالِ وَاسْتِضْعَافِهِمْ،
وَفِي الْحَدِيثِ «لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ فَإِذَا لَقِيتُمْ فَاصْبِرُوا»
، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْقِتَالَ مِنَ الضَّرُورَاتِ الَّتِي لَا يُحِبُّهَا النَّاسُ إِلَّا إِذَا كَانَ تَرْكُهَا يُفْضِي إِلَى ضُرٍّ عَظِيمٍ قَالَ الْعُقَيْلِيُّ:
كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ فَإِنَّهُ إِذَا جَازَ ذَلِكَ لِحِفْظِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْقَاذِهَا مِنَ الْهَلَاكِ كَانَ جَوَازُهُ لِإِنْقَاذِ فَرِيقٍ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَوْلَى. وَقَدْ يَكُونُ فِعْلُ ذَلِكَ بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْيِ.
وَعَلَى هَذَا فَالْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ قَوْمَهُ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَأَنَّهُمْ عَلَى دِينِ الصَّابِئَةِ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ الدِّينُ شَائِعًا فِي بُلْدَانِ الْكِلْدَانِ الَّتِي نَشَأَ فِيهَا إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأَنَّ الْأَصْنَامَ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا أَرَادُوا بِهَا أَنَّهَا صُوَرٌ لِلْكَوَاكِبِ وَتَمَاثِيلُ لَهَا عَلَى حَسَبِ تَخَيُّلَاتِهِمْ
وَأَسَاطِيرِهِمْ مِثْلَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْيُونَانُ الْقُدَمَاءُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ عَبَدُوا الْكَوَاكِبَ وَعَبَدُوا صُوَرًا أُخْرَى عَلَى أَنَّهَا دُونَ الْكَوَاكِبِ كَمَا كَانَ الْيُونَانُ يُقَسِّمُونَ الْمَعْبُودَاتِ إِلَى آلِهَةٍ وَأَنْصَافِ آلِهَةٍ.
عَلَى أَنَّ الصَّابِئَةَ يَعْتَقِدُونَ أنّ للكواكب رُوحَانِيَّاتٌ تَخْدِمُهَا.
وَأَفَلَ النَّجْمُ أُفُولًا: غَابَ، وَالْأُفُولُ خَاصٌّ بِغِيَابِ النَّيِّرَاتِ السَّمَاوِيَّةِ، يُقَالُ: أَفَلَ النَّجْمُ وَأَفَلَتِ الشَّمْسُ، وَهُوَ الْمَغِيبُ الَّذِي يَكُونُ بِغُرُوبِ الْكَوْكَبِ وَرَاءَ الْأُفُقِ بِسَبَبِ الدَّوْرَةِ الْيَوْمِيَّةِ لِلْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ، فَلَا يُقَالُ: أَفَلَتِ الشَّمْسُ أَوْ أَفَلَ النَّجْمُ إِذَا احْتَجَبَ بِسَحَابٍ.
وَقَوْلُهُ: لَا أُحِبُّ الْحُبُّ فِيهِ بِمَعْنَى الرِّضَى وَالْإِرَادَةِ، أَيْ لَا أَرْضَى بِالْآفِلِ إِلَهًا، أَوْ لَا أُرِيدُ الْآفِلَ إِلَهًا. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْمَحَبَّةِ هُوَ إِرَادَتُهُ إِلَهًا لَهُ بِقَوْلِهِ: هَذَا رَبِّي.
وَإِطْلَاقُ الْمُحِبَّةِ عَلَى الْإِرَادَةِ شَائِعٌ فِي الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التَّوْبَة: ١٠٨]. وَقَدَّرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِحَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ لَا أُحِبُّ عِبَادَةَ الْآفِلِينَ.
وَجَاءَ بِ الْآفِلِينَ بِصِيغَةِ جَمْعِ الذُّكُورِ الْعُقَلَاءِ الْمُخْتَصِّ بِالْعُقَلَاءِ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِ قَوْمِهِ أَنَّ الْكَوَاكِبَ عَاقِلَةٌ مُتَصَرِّفَةٌ فِي الْأَكْوَانِ، وَلَا يَكُونُ الْمَوْجُودُ مَعْبُودًا إِلَّا وَهُوَ عَالِمٌ.
وَوجه الِاسْتِدْلَال بالأقوال عَلَى عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْإِلَهِيَّةِ أَنَّ الْأُفُولَ مَغِيبٌ وَابْتِعَادٌ عَنِ النَّاسِ، وَشَأْنُ الْإِلَهِ أَنْ يَكُونَ دَائِمَ الْمُرَاقَبَةِ لِتَدْبِيرِ عِبَادِهِ فَلَمَّا أَفَلَ النَّجْمُ كَانَ فِي حَالَةِ أُفُولِهِ مَحْجُوبًا عَنِ الِاطِّلَاعِ عَلَى النَّاسِ، وَقَدْ بَنَى هَذَا الِاسْتِدْلَالَ عَلَى مَا هُوَ شَائِعٌ عِنْدَ الْقَوْمِ مِنْ كَوْنِ أُفُولِ النَّجْمِ مَغِيبًا عَنْ هَذَا الْعَالَمِ، يَعْنِي أَنَّ مَا يَغِيبُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُتَّخَذَ إِلَهًا
الَّذِي يَسَّرَ لَهُمْ ذَلِكَ كُلَّهُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِيهِ كَسْبٌ أَوْ تَعَمُّلٌ، أَفَلَا يَكُونُ نَاصِرًا لَهُمْ بَعْدَ أَنِ ازْدَادُوا وَعَزُّوا وَسَعَوْا لِلنَّصْرِ بأسبابه، وأفلا يستجيبونهم لَهُ إِذَا دَعَاهُمْ لِمَا يُحْيِيهِمْ وَحَالُهُمْ أَقْرَبُ إِلَى النَّصْرِ مِنْهَا يَوْمَ كَانُوا قَلِيلًا مُسْتَضْعَفِينَ.
وَالتَّخَطُّفُ شِدَّةُ الْخَطْفِ، وَالْخَطْفُ: الْأَخْذُ بِسُرْعَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ [الْبَقَرَة: ٢٠] وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْغَلَبَةِ السَّرِيعَةِ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ شِبْهُ الْأَخْذِ، فَإِذَا كَانَتْ سَرِيعَةً أَشْبَهَتِ الْخَطْفَ، قَالَ تَعَالَى: وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: ٢٧] أَيْ يَأْخُذُكُمْ أَعْدَاؤُكُمْ بِدُونِ كُبْرَى مَشَقَّةٍ، وَلَا طُولِ مُحَارَبَةٍ إِذْ كُنْتُمْ لُقْمَةً سَايِغَةً لَهُمْ، وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً، لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ صَرَفَهُمْ عَنْكُمْ، وَقَدْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ خَائِفِينَ فِي مَكَّةَ، وَكَانُوا خَائِفِينَ فِي طُرُقِ هِجْرَتَيْهِمْ، وَكَانُوا خَائِفِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، حَتَّى أَذَاقَهُمُ اللَّهُ نِعْمَةَ الْأَمْنِ مِنْ بَعْدِ النَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ.
والنَّاسُ مُرَادٌ بِهِمْ نَاسٌ مَعْهُودُونَ وَهُمُ الْأَعْدَاءُ، الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ، أَيْ طَائِفَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنْ جِنْسِ النَّاسِ مِنَ الْعُرَابِ الْمُوَالِينَ لَهُمْ.
وَمَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ: هِيَ الْأَمْوَالُ الَّتِي غَنِمُوهَا يَوْمَ بَدْرٍ.
وَالْإِيوَاءُ: جعل الْغَيْر ءاويا، أَيْ رَاجِعًا إِلَى الَّذِي يَجعله، فيؤول مَعْنَاهُ إِلَى الْحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ.
وَالتَّأْيِيدُ: التَّقْوِيَةُ أَيْ جَعْلُ الشَّيْءِ ذَا أَيْدٍ، أَيْ ذَا قُدْرَةٍ عَلَى الْعَمَلِ، لِأَنَّ الْيَدَ يُكَنَّى بِهَا عَنِ الْقُدْرَةِ قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ [ص: ١٧].
وَجُمْلَةُ: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ إِدْمَاجٌ بِذِكْرِ نِعْمَةِ تَوْفِيرِ الرِّزْقِ فِي خِلَالِ الْمِنَّةِ بِنِعْمَةِ النَّصْرِ وَتَوْفِيرِ الْعَدَدِ بَعْدَ الضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ، فَإِنَّ الْأَمْنَ وَوَفْرَةَ الْعَدَدِ يَجْلِبَانِ سَعَةَ الرِّزْقِ.
وَمَضْمُونُ هَذِهِ الْآيَةِ صَادِقٌ أَيْضًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ عُصُورِ النُّبُوَّةِ وَالْخِلَافَةِ الرَّاشِدَةِ، فَجَمَاعَتُهُمْ لَمْ تَزَلْ فِي ازْدِيَادِ عِزَّةٍ وَمَنَعَةٍ، وَلَمْ تَزَلْ مَنْصُورَةً عَلَى الْأُمَمِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي كَانُوا يَخَافُونَهَا مِنْ قَبْلَ أَنْ يُؤْمِنُوا، فَقَدْ نَصَرَهُمُ اللَّهُ عَلَى هَوَازِنَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَنَصَرَهُمْ عَلَى الرُّومِ يَوْمَ تَبُوكَ وَنَصَرَهُمْ عَلَى الْفُرْسِ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ، وَعَلَى الرُّومِ فِي مِصْرَ، وَفِي بَرْقَةَ، وَفِي إِفْرِيقِيَّةَ، وَفِي بِلَادِ الْجَلَالِقَةِ، وَفِي بِلَادِ الْفِرِنْجَةِ مِنْ أُورُوبَّا، فَلَمَّا زَاغَ الْمُسْلِمُونَ وَتَفَرَّقُوا أَخَذَ أَمْرُهُمْ يَقِفُ ثُمَّ يَنْقَبِضُ ابْتِدَاءً مِنْ ظُهُورِ
وَجُمْلَةُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ، أَيْ
فَمَا ظَنُّكُمْ بِرُجُوعِكُمْ إِلَى الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَقَدْ عَصَيْتُمْ أَمْرَهُ أَلَيْسَ يُعَذِّبُكُمْ عذَابا كَبِيرا.
[٥]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٥]
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥)
حَوْلَ أُسْلُوبِ الْكَلَامِ عَنْ مُخَاطَبَةِ النَّبِيءِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِمَا أَمَرَ بِتَبْلِيغِهِ إِلَى إِعْلَامِهِ بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الَّذِينَ أُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ إِلَيْهِمْ فِي جَهْلِهِمْ بِإِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِكُلِّ حَالٍ مِنَ الْكَائِنَاتِ مِنَ الذَّوَاتِ وَالْأَعْمَالِ ظَاهِرِهَا وَخَفِيِّهَا، فَقَدَّمَ لِذَلِكَ إِبْطَالَ وَهْمٍ مِنْ أَوْهَامِ أَهْلِ الشِّرْكِ أَنَّهُمْ فِي مُكْنَةٍ مِنْ إِخْفَاءِ بَعْضِ أَحْوَالِهِمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ قَوْلُهُ:
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ إِلَخْ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، جَمْعًا بَيْنَ إِخْبَارِهِمْ بِإِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِالْأَشْيَاءِ وَبَيْنَ إِبْطَالِ تَوَهُّمَاتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِصِفَاتِ اللَّهِ. وَقَدْ نَشَأَ هَذَا الْكَلَامُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [هود: ٤] لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ الْمَرْجُوعَ إِلَيْهِ لَمَّا كَانَ مَوْصُوفًا بِتَمَامِ الْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ هُوَ أَيْضًا مَوْصُوفٌ بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ لِلتَّلَازُمِ بَيْنَ تَمَامِ الْقُدْرَةِ وَتَمَامِ الْعِلْمِ.
وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ أَلا لِلِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِهِ لِغَرَابَةِ أَمْرِهِمُ الْمَحْكِيِّ وَلِلْعِنَايَةِ بِتَعْلِيمِ إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَضَمَائِرُ الْجَمَاعَةِ الْغَائِبِينَ عَائِدَةٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَمَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِبْلَاغِ إِلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [هود: ٢] وَلَيْسَ بِالْتِفَاتٍ. وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ لِلْمُفْرَدِ عَائِدَةٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ [هود: ٤].
وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَةِ حِجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي أَرْضِكُمْ هَذِهِ (أَيْ أَرْضِ الْإِسْلَامِ) أَبَدًا، وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا تَحْقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَاحْذَرُوهُ عَلَى دِينِكُمْ»
. وَمَعْنَى اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الْوَاقِعِ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ بُنِيَ عَلَى أُصُولِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَهِيَ أُصُولُ الْفِطْرَةِ، وَالتَّوَسُّطُ بَيْنَ الشِّدَّةِ وَاللِّينِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [سُورَة الْحَج: ٧٨].
وَفِي قَضِيَّةِ أَمْرِ إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، ثُمَّ فِدَائِهِ بِذَبْحِ شَاةٍ رَمَزٌ إِلَى الِانْتِقَالِ مِنْ شِدَّةِ الْأَدْيَانِ الْأُخْرَى فِي قَرَابِينِهَا إِلَى سَمَاحَةِ دِينِ اللَّهِ الْحَنِيفِ فِي الْقُرْبَانِ بِالْحَيَوَانِ دُونَ الْآدَمِيِّ. وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَنادَيْناهُ أَنْ يَا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [سُورَة الصافات:
١٠٧].
فَالشَّرِيعَةُ الَّتِي تُبْنَى تَفَاصِيلُهَا وَتَفَارِيعُهَا عَلَى أُصُولِ شَرِيعَةٍ تُعْتَبَرُ كَأَنَّهَا تِلْكَ الشَّرِيعَةُ.
وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَائِنَا: إِنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِالْقِيَاسِ فِي الْإِسْلَامِ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ دِينُ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: قَالَهُ اللَّهُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ جَمِيعَ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ قَدْ جَاءَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِذْ لَا يَخْطُرُ ذَلِكَ بِالْبَالِ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ شَرِيعَةٌ قَانُونِيَّةٌ
سُلْطَانِيَّةٌ، وَشَرْعُ إِبْرَاهِيمَ شَرِيعَةٌ قَبَائِلِيَّةٌ خَاصَّةٌ بِقَوْمٍ، وَلَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ النَّبِيءَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ابْتِدَاءً قَبْلَ أَنْ يُوحِي إِلَيْهِ بِشَرَائِعِ دِينِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَتَحْتَمِلُهُ أَلْفَاظُ الْآيَةِ لَكِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ إِذْ لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنَ التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ مَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ نَسْخٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَبْلُ.
وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ الْمُنْفَصِلُ عَائِدٌ عَلَى ذِي الْجَنَّتَيْنِ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي يُحاوِرُهُ عَائِدٌ عَلَى صَاحِبِ ذِي الْجَنَّتَيْنِ، وَرَبُّ الْجَنَّتَيْنِ يُحَاوِرُ صَاحِبَهُ. وَدَلَّ فِعْلُ الْمُحَاوَرَةِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ وَعَظَهُ فِي الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَرَاجَعَهُ الْكَلَامَ بِالْفَخْرِ عَلَيْهِ وَالتَّطَاوُلِ شَأْنَ أهل الغطرسة والنقائص أَنْ يَعْدِلُوا عَنِ الْمُجَادَلَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَى إِظْهَارِ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ.
وأَعَزُّ أَشَدُّ عِزَّةً. وَالْعِزَّةُ: ضِدُّ الذُّلِّ. وَهِيَ كَثْرَةُ عَدَدِ عَشِيرَةِ الرَّجُلِ وَشَجَاعَتِهِ.
وَالنَّفَرُ: عَشِيرَةُ الرَّجُلِ الَّذِينَ يَنْفِرُونَ مَعَهُ. وَأَرَادَ بِهِمْ هُنَا وَلَدُهُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مُقَابَلَتُهُ فِي جَوَابِ صَاحِبِهِ بقوله: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَداً [الْكَهْف: ٤٠]. وَانْتَصَبَ
نَفَراً عَلَى تَمْيِيزِ نِسْبَةِ أَعَزُّ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ.
وَجُمْلَةُ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ قالَ، أَيْ قَالَ ذَلِكَ وَقَدْ دَخَلَ جَنَّتَهُ مُرَافِقًا لِصَاحِبِهِ، أَيْ دَخَلَ جَنَّتَهُ بِصَاحِبِهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: قالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً، لِأَنَّ الْقَوْلَ لَا يَكُونُ إِلَّا خِطَابًا لِآخَرَ، أَيْ قَالَ لَهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ:
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ [الْكَهْف: ٣٧]. وَوُقُوعُ جَوَابِ قَوْلِهِ: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً فِي خِلَالِ الْحِوَارِ الْجَارِي بَيْنَهُمَا فِي تِلْكَ الْجَنَّةِ.
وَمَعْنَى وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مُشْرِكٌ مُكَذِّبٌ بِالْبَعْثِ بَطِرٌ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ.
وَإِنَّمَا أَفْرَدَ الْجَنَّةَ هُنَا وَهُمَا جَنَّتَانِ لِأَنَّ الدُّخُولَ إِنَّمَا يَكُونُ لِإِحْدَاهَا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يَدْخُلُ إِنَّمَا يَدْخُلُ إِحْدَاهُمَا قَبْلَ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْهَا إِلَى الْأُخْرَى، فَمَا دَخَلَ إِلَّا إِحْدَى الْجَنَّتَيْنِ.
وَالظَّنُّ بِمَعْنَى: الِاعْتِقَادِ، وَإِذَا انْتَفَى الظَّنُّ بِذَلِكَ ثَبَتَ الظَّنُّ بِضِدِّهِ.
وَتَبِيدُ: تَهْلِكُ وَتَفْنَى.
وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْجَنَّةِ الَّتِي هُمَا فِيهَا، أَيْ لَا أعتقد أَنَّهَا تنْتَقض وَتَضْمَحِلُّ.

[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ١١٦]

وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦)
هَذَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ [طه: ١١٥] إِلَى آخِرِهَا، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ لَا يَكُونَ مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ بَلْ أَنْ يَكُونَ مَفْصُولًا، فَوُقُوعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعْطُوفَةً اهْتِمَامٌ بِهَا لِتَكُونَ قِصَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فَتَلْفِتَ إِلَيْهَا أَذْهَانَ السَّامِعِينَ. فَتَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً قِصَّةَ آدَمَ عَلَى قِصَّةِ مُوسَى عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ رَأى نَارا [طه: ١٠]، وَيَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَاذْكُرْ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، وَتَكُونَ جُمْلَةُ وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ تَذْيِيلًا لِقِصَّةِ هَارُونَ مَعَ السَّامِرِيِّ وَقَوْلُهُ مِنْ قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِ هَارُونَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَارُونَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْمٌ فِي الْحِفَاظِ عَلَى مَا عَهِدَ إِلَيْهِ مُوسَى. وَانْتَهَتِ الْقِصَّةُ بِذَلِكَ التَّذْيِيلِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى قِصَّةِ مُوسَى قِصَّةَ آدَمَ تَبَعًا لِقَوْلِهِ كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ [طه: ٩٩].
[١١٧- ١١٩]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ١١٧ الى ١١٩]
فَقُلْنا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩)
قِصَّةُ خَلْقِ آدَمَ وَسُجُودِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ وَإِبَاءِ الشَّيْطَانِ مِنَ السُّجُودِ تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ الْأَعْرَافِ، فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى بَيَانِ مَا اخْتُصَّتْ بِهِ هَاتِهِ السُّورَةُ مِنَ الْأَفَانِينِ وَالتَّرَاكِيبِ.
فَقَوْلُهُ إِنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الشَّيْطَانِ إِشَارَةً مُرَادًا مِنْهَا التَّحْقِيرُ، كَمَا حَكَى اللَّهُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٣٦] مِنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ، وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٢٢] إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ عَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمِهِ.
وَقَوْلُهُ عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ هُوَ كَقَوْلِهِ فِي الْأَعْرَافِ [٢٢] : وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ. فَذُكِرَتْ عَدَاوَتُهُ لَهُمَا جُمْلَةً هُنَالِكَ
الْمَطَرِ وَإِنْبَاتِ الْعُشْبِ فَمَا ذَلِكَ إِلَّا بَعْضُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.
وَإِنَّمَا لَمْ تُعْطَفِ الْجُمْلَةُ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا مَعَ اتِّحَادِهِمَا فِي الْغَرَضِ لِأَنَّ هَذِهِ تَتَنَزَّلُ مِنَ الْأُولَى مَنْزِلَةَ التَّذْيِيلِ بِالْعُمُومِ الشَّامِلِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي قَبْلَهَا، وَلِأَنَّ هَذِهِ لَا تَتَضَمَّنُ تَذْكِيرًا بِنِعْمَةٍ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْقَصْرِ. أَيْ لَهُ ذَلِكَ لَا لِغَيْرِهِ مِنْ أَصْنَامِكُمْ، إِنْ جَعَلْتَ الْقَصْرَ إِضَافِيًّا، أَوْ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِغِنَى غَيْرِهِ وَمَحْمُودِيَّتِهِ إِنْ جَعَلْتَ الْقَصْرَ ادِّعَائِيًّا.
وَنُبِّهَ بِوَصْفِ الْغِنَى عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ مَعْنَى الْغِنَى فِي صِفَاتِهِ تَعَالَى أَنَّهُ عَدَمُ الِافْتِقَارِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لَا إِلَى مَحَلٍّ وَلَا إِلَى مُخَصَّصٍ بِالْوُجُودِ دُونَ الْعَدَمِ وَالْعَكْسُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ افْتِقَارَ الْأَصْنَامِ إِلَى مَنْ يَصْنَعُهَا وَمَنْ يَنْقُلُهَا مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ وَمَنْ يَنْفُضُ عَنْهَا الْقَتَامَ وَالْقَذَرَ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهَا.
وَأَمَّا وَصْفُ الْحَمِيدُ بِمَعْنَى الْمَحْمُودِ كَثِيرًا، فَذِكْرُهُ لِمُزَاوَجَةِ وَصْفِ الْغِنَى لِأَنَّ الْغَنِيَّ مُفِيضٌ عَلَى النَّاسِ فَهُمْ يَحْمَدُونَهُ.
وَفِي ضَمِيرِ الْفَصْلِ إِفَادَةُ أَنَّهُ الْمُخْتَصُّ بِوَصْفِ الْغِنَى دُونَ الْأَصْنَامِ وَبِأَنَّهُ الْمُخْتَصُّ بِالْمَحْمُودِيَّةِ فَإِنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَكُونُوا يُوَجِّهُونَ الْحَمْدَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَكَّدَ الْحَصْرَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَبِلَامِ الِابْتِدَاءِ تَحْقِيقًا لِنِسْبَةِ الْقَصْرِ إِلَى الْمَقْصُورِ كَقَوْلِ عَمْرو بن معد يكرب: «إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ». وَهَذَا التَّأْكِيدُ لِتَنْزِيلِ تَحَقُّقِهِمُ اخْتِصَاصَهُ بِالْغِنَى أَوِ الْمَحْمُودِيَّةِ مَنْزِلَةَ الشَّكِّ أَوِ الْإِنْكَارِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجْرُوا عَلَى مُوجِبِ عِلْمِهِمْ حِينَ عَبَدُوا غَيْرَهُ وَإِنَّمَا يُعْبَدُ مَنْ وَصفه الْغنى.
هُمْ
مَعْرُوفُونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ وَخَاصَّةً مِنْ قَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الْفرْقَان: ٢].
وَجُمْلَةُ: لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً مُقَابِلَةٌ جُمْلَةَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْفرْقَان: ٢].
وَجُمْلَةُ: وَهُمْ يُخْلَقُونَ مُقَابِلَةٌ جُمْلَةَ: وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً [الْفرْقَان: ٢] لِأَنَّ وَلَدَ الْخَالِقِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَلِّدًا مِنْهُ فَلَا يَكُونُ مَخْلُوقًا.
وَجُمْلَةُ: وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً مُقَابِلَةٌ جُمْلَةَ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الْفرْقَان: ٢] لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْمُلْكِ تَقْتَضِي الشَّرِكَةَ فِي التَّصَرُّفِ.
وَضَمِيرُ: لِأَنْفُسِهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى آلِهَةً أَيْ لَا تَقْدِرُ الْأَصْنَامُ وَنَحْوُهَا عَلَى ضُرِّ أَنْفُسِهِمْ وَلَا عَلَى نَفْعِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ وَاتَّخَذُوا أَيْ لَا تَقْدِرُ الْأَصْنَامُ عَلَى نَفْعِ الَّذِينَ عَبَدُوهُمْ وَلَا عَلَى ضُرِّهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ ضَرًّا وَلا نَفْعاً هُنَا جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ لِقَصْدِ الْإِحَاطَةِ بِالْأَحْوَالِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَهَذَا نَظِيرُ أَنْ يُقَالَ: شَرْقًا وَغَرْبًا، وَلَيْلًا وَنَهَارًا. وَبِذَلِكَ يَنْدَفِعُ مَا يشكل فِي بادىء الرَّأْيِ مِنْ وَجْهِ نَفْيِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى إِضْرَارِ أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُ لَا تَتَعَلَّقُ إِرَادَةُ أَحَدٍ بِضُرِّ نَفْسِهِ، وَبِذَلِكَ أَيْضًا لَا يُتَطَلَّبُ وَجْهٌ لِتَقْدِيمِ الضُّرِّ عَلَى النَّفْعِ، لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ فِي تَقْدِيمِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، فَالْمُتَكَلِّمُ مُخَيَّرٌ فِي ذَلِكَ وَالْمُخَالِفَةُ بَيْنَ الْآيَاتِ فِي تَقْدِيمِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مُجَرَّدُ تَفَنُّنٍ.
وَالْمَجْرُورُ فِي لِأَنْفُسِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ يَمْلِكُونَ.
وَالضُّرُّ- بِفَتْحِ الضَّادِ- مَصْدَرُ ضَرَّهُ، إِذَا أَصَابَهُ بِمَكْرُوهٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٤٩].
وَجُمْلَةُ: وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً مُقَابِلَةٌ جُمْلَةَ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الْفرْقَان: ٢] لِأَنَّ أَعْظَمَ مَظَاهِرِ تَقْدِيرِ الْخَلْقِ هُوَ مَظْهَرُ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَذَلِكَ مِنَ الْمُشَاهَدَاتِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلا نُشُوراً فَهُوَ تَكْمِيلٌ لِقَرْعِ الْمُشْرِكِينَ نُفَاةِ الْبَعْثِ لِأَنَّ نَفْيَ أَنْ يَكُونَ الْآلِهَةُ يَمْلِكُونَ نُشُورًا يَقْتَضِي إِثْبَاتَ حَقِيقَةِ النُّشُورِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِذِ الْأَكْثَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ نَفْيَ الشَّيْءِ
وَالضِّعْفُ: مُمَاثِلُ عَدَدٍ مَا. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٣٨]. وَمَعْنَى مُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ: أَنَّهُ يَكُونُ ضِعْفَ عَذَابِ أَمْثَالِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ إِذَا صَدَرَتْ مِنْ غَيْرِهِنَّ، وَهُوَ ضِعْفٌ فِي الْقُوَّةِ وَفِي الْمُدَّةِ، وَأُرِيدَ: عَذَابُ الْآخِرَةِ.
وَجُمْلَةُ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً مُعْتَرِضَةٌ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهَا آنِفًا.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يُحَقِّقُ وَعِيدَهُ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا زَوْجَةُ نَبِيءٍ، قَالَ تَعَالَى: كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ: فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [التَّحْرِيم: ١٠].
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْعَذابُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيِ: الْعَذَابُ الَّذِي جَعَلَهُ الله للفاحشة.
فَعُطِفَ عَلَيْهَا الْخَبَرُ، عَلَى أَنَّ عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ جَائِزٌ عَلَى التَّحْقِيقِ وَهُوَ هُنَا حَسَنٌ.
وَوَصْفُ الرَّسُولِ بِالنَّذِيرِ لِأَنَّ الْأَهَمَّ مِنْ شَأْنِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ هُوَ النِّذَارَةُ.
وَالْفَاءُ فِي فَذُوقُوا لِلتَّفْرِيعِ. وَحَذْفُ مَفْعُولِ «ذُوقُوا» لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، أَيْ ذُوقُوا الْعَذَابَ.
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ فَذُوقُوا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الدَّوَامِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ.
وَقَوْلُهُ: فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ تَفْرِيعٌ عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ الْحِكَايَةِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَلَامِ الَّذِي وَبَّخَهُمُ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ تَذْيِيلُ لَهُ وَتَفْرِيعٌ عَلَيْهِ لِتَأْيِيسِهِمْ مِنَ الْخَلَاصِ يَعْنِي: فَأَيْنَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاؤُكُمْ وَنُصَرَاؤُكُمْ فَمَا لَكُمْ مَنْ نَصِيرٍ.
وَعُدِلَ عَنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ أَنْ يُقَالَ: فَمَا لَكُمَ مِنْ نَصِيرٍ، إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ بِوَصْفِ «الظَّالِمِينَ» لِإِفَادَةِ سَبَبِ انْتِفَاءِ النَّصِيرِ عَنْهُمْ فَفِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ، أَيْ لِأَنَّكُمْ ظَالِمُونَ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مَنْ نَصِيرٍ، فَالْمَقْصُودُ ابْتِدَاءُ نَفْيِ النَّصِيرِ عَنْهُمْ وَيَتْبَعُهُ التَّعْمِيمُ بِنَفْيِ النَّصِيرِ عَنْ كُلِّ مَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا مُفَرَّعًا عَلَى الْقِصَّةِ ذُيِّلَتْ بِهِ لِلسَّامِعِينَ مِنْ قَوْلِهِ:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ [فاطر: ٣٦]، فَلَيْسَ فِيهِ عُدُولٌ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِفَادَةُ شُمُولِ هَذَا الْحُكْمِ لِكُلِّ ظَالِمٍ فَيَدْخُلُ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ فِي الْعُمُومِ.
وَالظُّلْمُ: هُوَ الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ صَاحِبِ حَقٍّ، وَأَعْظَمُهُ الشِّرْكُ لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى اللَّهِ بإنكار صفته النفيسة وَهِي الْوَحْدَانِيَّةُ، وَاعْتِدَاءُ الْمُشْرِكِ على نَفسه إِذْ أَقْحَمَهَا فِي الْعَذَابِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: ١٣].
وَتَعْمِيمُ «الظَّالِمِينَ» وَتَعْمِيمُ «النَّصِيرِ» يَقْتَضِي أَنَّ نَصْرَ الظَّالِمِ تَجَاوُزٌ لِلْحَقِّ، لِأَنَّ الْحَقَّ أَنْ لَا يَكُونَ لِلظَّالِمِ نَصِيرٌ، إِذْ وَاجِبُ الْحِكْمَةِ وَالْحَقِّ أَنْ يَأْخُذَ الْمُقْتَدِرُ عَلَى يَدِ كُلِّ ظَالِمٍ لِأَنَّ الْأُمَّةَ مُكَلَّفَةٌ بِدَفْعِ الْفَسَادِ عَنْ جَمَاعَتِهَا.
أَنْ يَدْعُوَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ وَيَذْكُرُوهُ بِخَيْرٍ. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ خُرُوجِهِ إِلَى غَزْوَةِ مُؤْتَةَ وَدَعَا لَهُ الْمُسْلِمُونَ حِينَ وَدَّعُوهُ وَلِمَنْ مَعَهُ بِأَنْ يَرُدَّهُمُ اللَّهُ سَالِمِينَ:
وَنَبْكِي حِينَ نَقْتُلُكُمْ عَلَيْكُمْ وَنَقْتُلُكُمْ كَأَنَّا لَا نُبَالِي
لكنني أسأَل الرحمان مَغْفِرَةً وَضَرْبَةً ذَات فرع يقذف الزَّبَدَا
أَوْ طَعْنَةً مِنْ يَدَيْ حَرَّانَ مُجْهِزَةً بِحَرْبَةٍ تَنْفُذُ الْأَحْشَاءَ وَالْكَبِدَا
حَتَّى يَقُولُوا إِذَا مروا على حدثي أَرْشَدَكَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا
وَقَدْ عَلِمْتَ مِنْ تَقْيِيدِنَا الْحَظَّ بِأَنَّهُ حَظٌّ دُنْيَوِيٌّ أَنَّ رَجَاءَ الثَّوْابِ وَاتِّقَاءَ الْعِقَابِ هُوَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى الْإِخْلَاصِ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى التَّقَرُّبِ لِرِضَى اللَّهِ تَعَالَى. وَيَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ فَضِيلَةَ الْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ هِيَ قَضِيَّةٌ أَخَصُّ مِنْ قَضِيَّةِ صِحَّةِ الْعِبَادَةِ وَإِجْزَائِهَا فِي ذَاتِهَا إِذْ قَدْ تَعْرُو الْعِبَادَةِ عَنْ فَضِيلَةِ الْإِخْلَاصِ وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ صَحِيحَةٌ مُجْزِئَةٌ، فَلِلْإِخْلَاصِ أَثَرٌ فِي تَحْصِيلِ ثَوَابِ الْعَمَلِ وَزِيَادَتِهِ وَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِصِحَّةِ الْعَمَلِ. وَفِي «مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ» : وَأَمَّا الْإِخْلَاصُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ مُجَرَّدَ الِانْقِيَادِ فَإِنْ حَصَلَ مَعَهُ دَاعٍ آخَرَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَانِبُ الدَّاعِي إِلَى الِانْقِيَادِ رَاجِحًا عَلَى جَانِبِ الدَّاعِي الْمُغَايِرِ، أَوْ مُعَادِلًا لَهُ، أَوْ مَرْجُوحًا. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُعَادِلَ وَالْمَرْجُوحَ سَاقِطٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الدَّاعِي إِلَى الطَّاعَةِ
رَاجِحًا عَلَى جَانِبِ الدَّاعِي الْآخَرِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يُفِيدُ أَوْ لَا اهـ.
وَذَكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ: أَنَّ الْغَزَالِيَّ- أَيْ فِي كِتَابِ النِّيَّةِ مِنَ الرُّبْعِ الرَّابِعِ مِنَ «الْإِحْيَاءِ» - يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ مَا كَانَ فِيهِ دَاعِيَ غَيْرِ الطَّاعَةِ مَرْجُوحًا أَنَّهُ يُنَافِي الْإِخْلَاصَ.
وَعَلَامَتُهُ أَنْ تَصِيرَ الطَّاعَةُ أَخَفَّ عَلَى الْعَبْدِ بِسَبَبِ مَا فِيهَا مِنْ غَرَضٍ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ بْنَ الْعَرَبِيِّ- أَيْ فِي كِتَابِ «سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ» كَمَا نَقَلَهُ فِي «الْمِعْيَارِ» - يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي الْإِخْلَاصِ.
- قَالَ الشَّاطِبِيُّ-: وَكَانَ مَجَالُ النَّظَرِ فِي الْمَسْأَلَةِ يَلْتَفِتُ إِلَى انْفِكَاكِ الْقَصْدَيْنِ أَوْ عَدَمِ انْفِكَاكِهِمَا، فَالْغَزَالِيُّ يَلْتَفِتُ إِلَى مُجَرَّدِ وُجُودِ اجْتِمَاعِ الْقَصْدَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ الْقَصْدَانِ مِمَّا يَصِحُّ انْفِكَاكُهُمَا أَوْ لَا، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ يَلْتَفِتُ إِلَى وَجْهِ الِانْفِكَاكِ).
وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧).
عُطِفَ عَلَى وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ وَهَذَا تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةِ السَّلَامَةِ مِمَّا ارْتَبَكَ فِيهِ غَيْرُهُمْ. وَذَلِكَ مِمَّا يُحْمَدُ اللَّهُ عَلَيْهِ كَمَا وَرَدَ أَنَّ مِنْ آدَابِ مَنْ يَرَى غَيْرَهُ فِي شِدَّةٍ أَوْ بَأْسٍ أَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا هُوَ فِيهِ. وَضَمِيرُ وَقاهُمْ عَائِدٌ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فِي وَزَوَّجْناهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ.
وفَضْلًا حَالٌ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ. وَالْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَذِكْرُ الرَّبِّ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَضْلًا مِنْهُ أَوْ مِنَّا.
وَنُكْتَةُ هَذَا الْإِظْهَارِ تَشْرِيفُ مقَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ إِكْرَامٌ لَهُ لِإِيمَانِهِمْ بِهِ.
وَجُمْلَةُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ تَذْيِيلٌ، وَالْإِشَارَةُ فِي ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِتَعْظِيمِ الْفَضْلِ بِبُعْدِ الْمَرْتَبَةِ. وَأُتِيَ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ لِتَخْصِيصِ الْفَوْزِ بِالْفَضْلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَهُوَ قَصْرٌ لِإِفَادَةِ مَعْنَى الْكَمَالِ كَأَنَّهُ لَا فوز غَيره.
[٥٨، ٥٩]
[سُورَة الدُّخان (٤٤) : الْآيَات ٥٨ إِلَى ٥٩]
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩)
الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا مُتَفَرِّعٌ عَمَّا قَبْلَهَا حَيْثُ كَانَ الْمَذْكُورُ بَعْدَ الْفَاءِ فَذْلَكَةً لِلسُّورَةِ، أَيْ إِجْمَالٌ لِأَغْرَاضِهَا بَعْدَ تَفْصِيلِهَا فِيمَا مَضَى إِحْضَارًا لِتِلْكَ الْأَغْرَاضِ وَضَبْطًا لِتَرَتُّبِ عِلَّتِهَا.
وَضَمِيرُ يَسَّرْناهُ عَائِدٌ إِلَى الْكِتَابِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْمَقَامِ وَالْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ
وَالْخَشْيَةُ: الْخَوْفُ. وَأُطْلِقَتِ الْخَشْيَةُ عَلَى أَثَرِهَا وَهُوَ الطَّاعَةُ.
وَالْبَاءُ فِي بِالْغَيْبِ بِمَعْنَى (فِي) الظَّرْفِيَّةِ لِتَنْزِيلِ الْحَالِ مَنْزِلَةَ الْمَكَانِ، أَيِ الْحَالَةُ الْغَائِبَةُ وَهِيَ حَالَةُ عَدَمِ اطِّلَاعِ أَحَدٍ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْخَشْيَةَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الطَّاعَةِ لِلَّهِ بِحَيْثُ لَا يَرْجُو ثَنَاءَ أَحَدٍ وَلَا عِقَابَ أَحَدٍ فَيَتَعَلَّقُ الْمَجْرُورُ بِالتَّاءِ بِفِعْلِ خَشِيَ.
وَلَكَ أَنْ تُبْقِيَ الْبَاءَ عَلَى بَعْضِ مَعَانِيهَا الْغَالِبَةِ وَهِيَ الْمُلَابَسَةُ وَنَحْوُهَا وَيَكُونُ الْغَيْبُ مَصْدَرًا وَالْمَجْرُورُ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ خَشِيَ.
وَمَعْنَى وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ أَنَّهُ حَضَرَ يَوْمَ الْحَشْرِ مُصَاحِبًا قَلْبَهُ الْمُنِيبَ إِلَى اللَّهِ، أَيْ مَاتَ مَوْصُوفًا بِالْإِنَابَةِ وَلَمْ يُبْطِلْ عَمَلَهُ الصَّالِحَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشُّعَرَاء: ٨٨، ٨٩].
وَإِيثَارُ اسْمِهِ الرَّحْمنَ فِي قَوْلِهِ: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْمُتَّقِيَ يَخْشَى اللَّهَ وَهُوَ يعلم أَنه رحمان، وَلِقَصْدِ التَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ
أَنْكَرُوا اسْمه الرحمان وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: ٦٠].
وَالْمَعْنَى عَلَى الَّذِينَ خَشُوا: خَشِيَ صَاحِبُ هَذَا الِاسْمِ، فَأَنْتُمْ لَا حَظَّ لَكُمْ فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّكُمْ تُنْكِرُونَ أَن الله رحمان بَلْهَ أَنْ تَخْشَوْهُ.
وَوَصْفُ قَلْبٍ بِ مُنِيبٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّ الْقَلْبَ سَبَبُ الْإِنَابَةِ لِأَنَّهُ الْبَاعِثُ عَلَيْهَا.
وَجُمْلَةُ ادْخُلُوها بِسَلامٍ مِنْ تَمَامِ مَقُولِ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ. وَهَذَا الْإِذْنُ مِنْ كَمَالِ إِكْرَامِ الضَّيْفِ أَنَّهُ إِنْ دُعِيَ إِلَى الْوَلِيمَةِ أَوْ جِيءَ بِهِ فَإِنَّهُ إِذَا بَلَغَ الْمَنْزِلَ قِيلَ لَهُ: ادْخُلْ بِسَلَامٍ.
وَالْبَاءُ فِي بِسَلامٍ لِلْمُلَابَسَةِ. وَالسَّلَامُ: السَّلَامَةُ مِنْ كُلِّ أَذًى مِنْ تَعَبٍ أَوْ نَصَبٍ، وَهُوَ دُعَاءٌ.
أَفَرَأَيْتُمْ وَإِنْ كَانَ مَفْعُولُ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ مُخْتَلِفًا وَسَيَجِيءُ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ [الْوَاقِعَة: ٦٨] وَقَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ [الْوَاقِعَة: ٧١].
وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ الْفَاءَ لِتَفْرِيعِ مُجَرَّدِ اسْتِدْلَال على اسْتِدْلَالٍ لَا لِتَفْرِيعِ مَعْنَى مَعْطُوفِهَا عَلَى مَعْنَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، عَلَى أَنَّهُ لَمَّا آلَ الْاِسْتِدْلَالُ السَّابِقُ إِلَى عُمُومِ صَلَاحِيَّةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ جَازَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُرَادًا بِهَا تَمْثِيلٌ بِنَوْعٍ عَجِيبٍ مِنْ أَنْوَاعِ تَعَلُّقَاتِ الْقُدْرَةِ بِالْإِيجَادِ دُونَ إِرَادَةِ الْاِسْتِدْلَالِ عَلَى خُصُوصِ الْبَعْثِ فَيَصِحُّ جَعْلُ الْفَاءِ تَفْرِيعًا عَلَى جُمْلَةِ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا اقْتَضَتْ سِعَةَ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ.
وَمُنَاسِبَةُ الْاِنْتِقَالِ مِنَ الْاِسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ النَّسْلِ إِلَى الْاِسْتِدْلَالِ بِنَبَاتِ الزَّرْعِ هِيَ التَّشَابُهُ الْبَيِّنُ بَيْنَ تَكْوِينِ الْإِنْسَانِ وَتَكْوِينِ النَّبَاتِ، قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧].
وَالْقَوْلُ فِي أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ [الْوَاقِعَة: ٥٨].
وَمَا تَحْرُثُونَ مَوْصُول وصلَة وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ.
وَالْحَرْثُ: شَقُّ الْأَرْضِ لِيُزْرَعَ فِيهَا أَوْ يُغْرَسَ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: مَا تَحْرُثُونَ أَنَّهُ الْأَرْضُ إِلَّا أَنَّ هَذَا لَا يُلَائِمُ ضَمِيرَ تَزْرَعُونَهُ فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ مَا تَحْرُثُونَ بِأَنْ يُقَدَّرَ: مَا تَحْرُثُونَ لَهُ، أَيْ لِأَجْلِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، وَالَّذِي يَحْرُثُونَ لِأَجْلِهِ هُوَ النَّبَاتُ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا ضَمِيرُ النَّصْبِ فِي أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ لِأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى النَّفْيِ وَالَّذِي يُنْفَى هُوَ مَا يَنْبُتُ مِنَ الْحَبِّ لَا بَذْرُهُ.
فَإِنَّ فِعْلَ (زَرَعَ) يُطْلَقُ بِمَعْنَى: أَنْبَتَ، قَالَ الرَّاغِبُ: الزَّرْعُ، الْإِنْبَاتُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ فَنَفَى عَنْهُمُ الزَّرْعَ وَنَسَبَهُ إِلَى نَفْسِهِ اه وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَيُطْلَقُ فِعْلُ (زَرَعَ) بِمَعْنَى: بَذَرَ الْحَبَّ فِي الْأَرْضِ لِقَوْلِ صَاحِبِ «لِسَانِ الْعَرَبِ» : زَرَعَ الْحَبَّ: بَذَرَهُ، أَيْ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْحَبُّ الَّذِي يُبْذَرُ فِي الْأَرْضِ زَرِيعَةً لَكِنْ لَا يَنْبَغِي حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ. فَالْمَعْنَى: أَفَرَأَيْتُمْ
النَّصْبِ وَالْجَرِّ وَبَيْنَ حَرْفِ (إِلَى). وَلَيْتَهُمْ قَصَرُوا كِتَابَتَهُ بِوَاوٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ عَلَى لَفْظِ أُولِي الْمُذَكَّرِ الْمَنْصُوبِ أَوِ
الْمَجْرُورِ وَتَرَكُوا التَّكَلُّفَ فِي غَيْرِهِمَا.
وَجُعِلَتْ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ الْحَامِلِ مَنْهَاةً بِوَضْعِ الْحَمْلِ لِأَنَّهُ لَا أَدَلَّ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْهُ، إِذِ الْغَرَضُ الْأَوَّلُ مِنَ الْعِدَّةِ تَحَقُّقُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْ وَلَدٍ لِلْمُطَلَّقِ أَوْ ظُهُورِ اشْتِغَالِ الرَّحِمِ بِجَنَيْنٍ لَهُ. وَضُمَّ إِلَى ذَلِكَ غَرَضٌ آخَرُ هُوَ تَرَقُّبُ نَدَمِ الْمُطَلِّقِ وَتَمْكِينُهُ مِنْ تَدَارُكِ أَمْرِهِ بِالْمُرَاجَعَةِ، فَلَمَّا حَصَلَ الْأَهَمُّ أُلْغِيَ مَا عَدَاهُ رَعْيًا لِحَقِّ الْمَرْأَةِ فِي الِانْطِلَاقِ مِنْ حَرَجِ الِانْتِظَارِ، على أَن وضع الْحَمْلَ قَدْ يَحْصُلُ بِالْقُرْبِ مِنَ الطَّلَاقِ فَأُلْغِيَ قَصْدُ الِانْتِظَارِ تَعْلِيلًا بِالْغَالِبِ دُونَ النَّادِرِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا: عَلَيْهَا أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالب وَابْن عَبَّاس.
وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ لَا تَتَعَارَضُ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَ آيَةِ عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣٤] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً لِأَنَّ تِلْكَ فِي وَادٍ وَهَذِهِ فِي وَادٍ، تِلْكَ فِي شَأْنُ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ وَهَذِهِ فِي شَأْنِ الْمُطَلَّقَاتِ.
وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ أَجَلُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا مُنْحَصِرَةً حِكْمَتُهُ فِي تَحَقُّقِ بَرَاءَةِ رَحِمِ امْرَأَةِ الْمُتَوَفَّى مِنْ وَلَدٍ لَهُ إِذْ لَهُ فَائِدَةَ فِيهِ غَيْرَ ذَلِكَ (وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ جَعَلَتْ ذَلِكَ لِغَرَضِ الْحُزْنِ عَلَى الزَّوْجِ الْمُتَوَفَّى لِلْقَطْعِ بِأَنَّ هَذَا مَقْصِدٌ جَاهِلِيٌّ)، وَقَدْ دَلَّتِ الشَّرِيعَةُ فِي مَوَاضِعَ عَلَى إِبْطَالِهِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ فِي تَصَارِيفَ كَثِيرَةٍ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ إِلَخْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣٤].
وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ غَايَةٌ لِحُصُولِ هَذَا الْمَقْصِدِ نَجَمَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الْحَامِلَ إِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا تَخْرُجُ مِنْ عِدَّةِ وَفَاةِ زَوْجِهَا وَلَا تُقَضِّي أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا كَمَا أَنَّهَا لَوْ كَانَ أَمَدُ حَمْلِهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَعَشْرٍ إِذْ لَا حِكْمَةَ فِي ذَلِكَ.
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْحَامِلِ وَضْعُ حَمْلِهَا سَوَاءً كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ أَمْ كَانَتْ مُعْتَدَّة من وَفَاةٍ.
لِلْبَشَرِ لِيَتَذَكَّرُوا دَارَ الْعِقَابِ بِتَوْصِيفِ بَعْضِ صِفَاتِهَا لِأَنَّ فِي ذِكْرِ الصِّفَةِ عَوْنًا عَلَى زِيَادَةِ اسْتِحْضَارِ الْمَوْصُوفِ، فَغَرَضُ الْقُرْآنِ الذِّكْرَى، وَقَدِ اتَّخَذَهُ الضَّالُّونَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ لَهْوًا وَسُخْرِيَةً وَمِرَاءً بِالسُّؤَالِ عَنْ جَعْلِهِمْ تِسْعَةَ عَشَرَ وَلِمَ يَكُونُوا عِشْرِينَ أَوْ مِئَاتٍ أَوْ آلَافًا.
وَضَمِيرُ هِيَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِلَى عِدَّتَهُمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ وَتَأْنِيثُ ضَمِيرِهِ لِتَأْوِيلِهِ بِالْقِصَّةِ أَوِ الصِّفَةِ أَوِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ.
وَالْمَعْنَى: نَظِيرُ الْمَعْنَى عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى سَقَرَ [المدثر: ٢٦] وَإِنَّمَا تَكُونُ ذِكْرى بِاعْتِبَارِ الْوَعِيدِ بِهَا وَذِكْرِ أَهْوَالِهَا.
وَالْقَصْرُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مُضَافٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ تَقْدِيرُهُ: وَمَا ذِكْرُهَا أَوْ وَصْفُهَا أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ ضَمِيرُ هِيَ إِلَى جُنُودَ رَبِّكَ وَالْمَعْنَى الْمَعْنَى، وَالتَّقْدِيرُ التَّقْدِيرُ، أَيْ وَمَا ذِكْرُهَا أَوْ عِدَّةُ بَعْضِهَا.
وَجَوَّزَ الزَّجَّاجُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى نَارِ الدُّنْيَا، أَيْ أَنَّهَا تذكر للنَّاس بِنَارِ الْآخِرَةِ، يُرِيدُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً [الْوَاقِعَة: ٧١- ٧٣]. وَفِيهِ مُحَسِّنُ الِاسْتِخْدَامِ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَمَا عِدَّتُهُمْ إِلَّا ذِكْرَى لِلنَّاسِ لِيَعْلَمُوا غِنَى اللَّهِ عَنِ الْأَعْوَانِ وَالْجُنْدِ فَلَا يَظَلُّوا فِي اسْتِقْلَالِ تِسْعَةَ عَشَرَ تُجَاهَ كَثْرَةِ أَهْلِ النَّارِ.
وَإِنَّمَا حَمَلَتِ الْآيَةُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ بِحُسْنِ مَوْقِعِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَهَذَا مِنْ بَلَاغَةِ نَظْمِ الْقُرْآنِ. وَلَوْ وَقَعَتْ إِثْرَ قَوْلِهِ: لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ [المدثر: ٢٩] لَتَمَحَّضَ ضَمِيرُ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعَوْدِ إِلَى سَقَرَ، وَهَذَا مِنَ الْإِعْجَازِ بِمَوَاقِعِ جُمَلِ الْقُرْآنِ كَمَا فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَبَيْنَ لَفْظِ الْبَشَرِ الْمَذْكُورِ هُنَا وَلَفْظِ الْبَشَرِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ التَّجْنِيسُ التَّامُّ
لَهُ فَاطَّلَعَ عَلَى هَذِهِ الْمَدِينَةِ وَأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ أَخْبَرَ النَّاسَ فَذَهَبُوا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ وَجَدَ فِيهِ الْمَدِينَةَ فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا. وَهَذِهِ أَكَاذِيبُ مَخْلُوطَةٌ بِجَهَالَةٍ إِذْ كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اسْمُهَا إِرَمَ وَيُتْبَعُ بِذَاتِ الْعِمَادِ بِفَتْحِ إِرَمَ وَكَسْرِ ذاتِ فَلَوْ كَانَ الِاسْمُ مُرَكَّبًا مَزْجِيًّا لَكَانَ بِنَاءُ جُزْأَيْهِ عَلَى الْفَتْحِ، وَإِنْ كَانَ الِاسْمُ مُفْرَدًا وذاتِ صِفَةٌ لَهُ فَلَا وَجْهَ لِكَسْرِ ذاتِ، عَلَى أَنَّ مَوْقِعَ هَذَا الِاسْمِ عَقِبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بِعادٍ يُنَاكِدُ ذَلِكَ كُلَّهُ.
وَمُنِعَ ثَمُودَ مِنَ الصَّرْفِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأُمَّةُ الْمَعْرُوفَةُ، وَوُصِفَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ لِجَمْعِ الْمُذَكَّرِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ جابُوا دُونَ أَنْ يَقُولَ الَّتِي جابت الصخر بِتَأْوِيلِ الْقَوْمِ
فَلَمَّا وُصِفَ عُدِلَ عَنْ تَأْنِيثِهِ تَفَنُّنًا فِي الْأُسْلُوبِ.
وَمَعْنَى جابُوا: قَطَعُوا، أَيْ نَحَتُوا الصَّخْرَ وَاتَّخَذُوا فِيهِ بُيُوتًا كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [الشُّعَرَاء: ١٤٩] وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ثَمُودَ أَوَّلُ أُمَمِ الْبَشَرِ نَحَتُوا الصَّخْرَ وَالرُّخَامَ.
والصَّخْرَ: الْحِجَارَةُ الْعَظِيمَةُ.
وَالْوَادِ: اسْمٌ لِأَرْضٍ كَائِنَةٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ مُنْخَفِضَةٍ، وَمِنْهُ سُمِّي مَجْرَى الْمَاءِ الْكَثِيرِ وَادًا وَفِيهِ لُغَتَانِ: أَنْ يَكُونَ آخِرُهُ دَالًا، وَأَنْ يَكُونَ آخِرُهُ يَاءً سَاكِنَةً بَعْدَ الدَّالِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِدُونِ يَاءٍ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ بِيَاءٍ فِي آخِرِهِ وَصْلًا وَوَقْفًا، وَقَرَأَهُ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ بِيَاءٍ فِي الْوَصْلِ وَبِدُونِهَا فِي الْوَقْفِ وَهِيَ قِرَاءَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُرَاعَاة الفواصل مثل مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [الْفجْر: ٤] وَهُوَ مَرْسُومٌ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ يَاءٍ وَالْقِرَاءَاتُ تَعْتَمِدُ الرِّوَايَةَ بِالسَّمْعِ لَا رَسْمِ الْمُصْحَفِ إِذِ الْمَقْصُودُ مِنْ كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ أَنْ يَتَذَكَّرَ بِهَا الْحُفَّاظُ مَا عَسَى أَنْ يَنْسَوْهُ.
وَالْوَادِ: عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى مَنَازِلِ ثَمُودَ، وَيُقَالُ لَهُ: وَادِي الْقُرَى، بِإِضَافَتِهِ إِلَى «الْقُرَى» الَّتِي بَنَتْهَا ثَمُودُ فِيهِ وَيُسَمَّى أَيْضًا «الْحِجْرَ» بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، وَيُقَالُ لَهَا: «حِجْرُ ثَمُودَ» وَهُوَ وَادٍ بَيْنَ خَيْبَرَ وَتَيْمَاءَ فِي طَرِيقِ الْمَاشِي مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الشَّامِ، وَنَزَلَهُ الْيَهُودُ بَعْدَ ثَمُودَ لَمَّا نَزَلُوا بِلَادَ الْعَرَبِ، ونزله من قبائل الْعَرَبِ قُضَاعَةُ وَجُهَيْنَةُ، وَعُذْرَةُ وَبَلِيٌّ.


الصفحة التالية
Icon