وَيَفْصِلُوا بَيْنَ حَرْفِ النِّدَاءِ وَالِاسْمِ الْمُنَادَى حِينَئِذٍ بِكَلِمَةِ أَيْ وَهُوَ تَرْكِيبٌ غَيْرُ جَارٍ عَلَى قِيَاسِ اللُّغَةِ وَلَعَلَّهُ مِنْ بَقَايَا اسْتِعْمَالٍ عَتِيقٍ.
وَقَدِ اخْتَصَرُوا اسْمَ الْإِشَارَةِ فَأَبْقَوْا (هَا) التَّنْبِيهِيَّةَ وَحَذَفُوا اسْمَ الْإِشَارَةِ، فَأَصْلُ يَا أَيُّهَا النَّاس يَا أَي هَؤُلَاءِ وَقَدْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ فِي بَعْضِ كَلَامِهِمْ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ الَّذِي لَا نَعْرِفُهُ:
أَيُّهَذَانِ كُلَا زَادَيْكُمَا
وَرُبَّمَا أَرَادُوا نِدَاءَ الْمَجْهُولِ الْحَاضِرِ الذَّاتِ أَيْضًا بِمَا يَدُلُّ عَلَى طَرِيقِ إِحْضَارِهِ مِنْ حَالَةٍ قَائِمَةٍ بِهِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ فَرْدًا مِنْ جِنْسٍ فَتَوَصَّلُوا لِذَلِكَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ الدَّالِّ عَلَى الْحَالَةِ بِصِلَتِهِ وَالدَّالِّ عَلَى الْجِنْسِيَّةِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ يَأْتِي لِمَا تَأْتِي لَهُ اللَّامُ فَيُقْحِمُونَ أَيًّا كَذَلِكَ نَحْوَ:
يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ [الْحجر: ٦].
و (النَّاس) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي اشْتِقَاقِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ [الْبَقَرَة: ٨] وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ نُودِيَ هُنَا وَعُرِّفَ بِأَلْ يَشْمَلُ كُلَّ أَفْرَادِ مُسَمَّاهُ لِأَنَّ الْجُمُوعَ الْمُعَرَّفَةَ بِاللَّامِ لِلْعُمُومِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ عَهْدٌ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ وَاحْتِمَالُهَا الْعَهْدَ ضَعِيفٌ إِذِ الشَّأْنُ عَهْدُ الْأَفْرَادِ فَلِذَلِكَ كَانَتْ فِي الْعُمُومِ أَنَصَّ مِنْ عُمُومِ الْمُفْرَدِ الْمُحَلَّى بِأَلْ.
فَإِنْ نَظَرْتَ إِلَى صُورَةِ الْخِطَابِ فَهُوَ إِنَّمَا وَاجَهَ بِهِ نَاسًا سَامِعِينَ فَعُمُومُهُ لِمَنْ لَمْ يَحْضُرْ وَقْتَ سَمَاعِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلِمَنْ سَيُوجَدُ مِنْ بَعْدُ يَكُونُ بِقَرِينَةِ عُمُومِ التَّكْلِيفِ وَعَدَمِ قَصْدِ تَخْصِيصِ الْحَاضِرِينَ وَذَلِكَ أَمْرٌ قَدْ تَوَاتَرَ نَقْلًا وَمَعْنًى فَلَا جَرَمَ أَنْ يَعُمَّ الْجَمِيعَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْقِيَاسِ، وَإِنْ نَظَرْتَ إِلَى أَنَّ هَذَا مِنْ أَضْرُبِ الْخِطَابِ الَّذِي لَا يَكُونُ لِمُعَيَّنٍ فَيُتْرَكُ فِيهِ التَّعْيِينُ لِيَعُمَّ كُلَّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْمُخَاطَبَةِ بِذَلِكَ وَهَذَا شَأْنُ الْخِطَابِ الصَّادِرِ مِنَ الدُّعَاةِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْمُؤَلِّفِينَ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِمْ يَا قَوْمُ، وَيَا فَتَى، وَأَنْتَ تَرَى، وَبِهَذَا تَعْلَمُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَمَا ظَنُّكَ بِخِطَابِ الرُّسُلِ وَخِطَابٍ هُوَ نَازِلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ ذَلِكَ عَامًّا لِكُلِّ مَنْ يَشْمَلُهُ اللَّفْظُ مِنْ غَيْرِ اسْتِعَانَةٍ بِدَلِيلٍ آخَرَ. وَهَذَا هُوَ تَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي يَفْرِضُهَا الْأُصُولِيُّونَ وَيُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِخِطَابِ الْمُشَافَهَةِ وَالْمُوَاجَهَةِ هَلْ يَعُمُّ أَمْ لَا؟ وَالْجُمْهُورُ وَإِنْ قَالُوا إِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمَوْجُودِينَ دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى الْمُخَاطَبَةِ حَتَّى قَالَ الْعَضُدُ إِنَّ إِنْكَارَ ذَلِكَ مُكَابَرَةٌ، وَبحث فِيهِ التفتازانيّ، فَهُمْ قَالُوا إِنَّ شُمُولَ الْحُكْمِ لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ هُوَ مِمَّا تَوَاتَرَ مِنْ عُمُومِ الْبِعْثَةِ وَأَنَّ أَحْكَامَهَا شَامِلَةٌ لِلْخَلْقِ فِي جَمِيعِ الْعُصُورِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ.
قِتالٍ فِيهِ، وَهُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ فَيَجُوزُ فِيهِ إِبْدَالُ النَّكِرَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، بِخِلَافِ بَدَلِ الْبَعْضِ عَلَى أَنَّ وَصْفَ النَّكِرَةِ هُنَا بِقَوْلِهِ (فِيهِ) يَجْعَلُهَا فِي قُوَّةِ الْمَعْرِفَةِ. فَالْمُرَادُ بَيَانُ أَيِّ شَهْرٍ كَانَ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَأَيِّ قِتَالٍ، فَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ إِنْكَارِيًّا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَكَوْنُ الْمُرَادِ جِنْسَ هَذِهِ الْأَشْهُرِ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ اسْتِفْسَارًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ، وَمُجَرَّدُ كَوْنِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي تَسَبَّبَ عَلَيْهَا السُّؤَالُ وَقَعَتْ فِي شَهْرٍ مُعَيَّنٍ لَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ السُّؤَالِ بِذَلِكَ الشَّهْرِ، إِذْ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ السَّائِلِ بَلِ الْمَقْصُودُ السُّؤَالُ عَنْ دَوَامِ هَذَا الْحُكْمِ الْمُتَقَرِّرِ عِنْدَهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ لَا يَخْتَصُّ بِشَهْرٍ دُونَ شَهْرٍ.
وَإِنَّمَا اخْتِيرَ طَرِيقُ الْإِبْدَالِ هُنَا- وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ- لِأَجَلِ الِاهْتِمَامِ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ لِأَجْلِ الشَّهْرِ أَيَقَعُ فِيهِ قِتَالٌ؟ لَا لِأَجْلِ الْقِتَالِ هَلْ يَقَعُ فِي الشَّهْرِ وَهُمَا مُتَآيِلَانِ، لَكِنَّ التَّقْدِيمَ لِقَضَاءِ حَقِّ الِاهْتِمَامِ، وَهَذِهِ نُكْتَةٌ لِإِبْدَالِ عَطْفِ الْبَيَانِ تَنْفَعُ فِي مَوَاقِعَ كَثِيرَةٍ، عَلَى أَنَّ فِي طَرِيقِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ تَشْوِيقًا بِارْتِكَابِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ.
وَتَنْكِيرُ (قِتَالٍ) مُرَادٌ بِهِ الْعُمُومُ، إِذْ لَيْسَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ قِتَالًا مُعَيَّنًا وَلَا فِي شَهْرٍ مُعَيَّنٍ، بَلِ الْمُرَادُ هَذَا الْجِنْسُ فِي هَذَا الْجِنْسِ. وَ (فِيهِ) ظَرْفُ صِفَةٍ لِقِتَالٍ مُخَصَّصَةٍ لَهُ.
وَقَوْلُهُ: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ إِظْهَارُ لَفْظِ الْقِتَالِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِيَكُونَ الْجَوَابُ صَرِيحًا حَتَّى لَا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الشَّهْرَ الْحَرَامَ هُوَ الْكَبِيرُ، وَلِيَكُونَ الْجَوَابُ عَلَى طَبَقِ السُّؤَالِ فِي اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعَرِّفْ لَفْظَ الْقِتَالِ ثَانِيًا بِاللَّامِ مَعَ تَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فِي السُّؤَالِ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَغْنَى عَنْ تَعْرِيفِهِ بِاتِّحَادِ الْوَصْفَيْنِ فِي لَفْظِ السُّؤَالِ وَلَفْظِ الْجَوَابِ وَهُوَ ظَرْفُ (فِيهِ)، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ تَعْرِيفِ النَّكِرَةِ بِاللَّامِ إِذَا أُعِيدَ ذِكْرُهَا إِلَّا التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا تِلْكَ الْأُولَى لَا غَيْرُهَا، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِالْوَصْفِ الْمُتَّحِدِ، قَالَ التَّفْتَازَانِيّ: فالمسؤول عَنْهُ هُوَ الْمُجَابُ عَنْهُ وَلَيْسَ غَيْرُهُ كَمَا تُوُهِّمَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّكِرَةَ إِذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً كَانَتْ غَيْرَ الْأُولَى، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِضَرْبَةِ لَازِمٍ يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ يَتْبَعُ الْقَرَائِنَ.
وَالْجَوَابُ تَشْرِيعٌ إِنْ كَانَ السُّؤَالُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَاعْتِرَافٌ وَإِبْكَاتٌ إِنْ كَانَ السُّؤَالُ إِنْكَارًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُمْ تَوَقَّعُوا أَنْ يُجِيبَهُمْ بِإِبَاحَةِ الْقِتَالِ فَيُثَوِّرُوا بِذَلِكَ الْعَرَبَ وَمَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ.
فَإِذَا بَنَيْنَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ اسْتِدْلَالًا فِي نَفْسِهِ قَبْلَ الْجَزْمِ بِالتَّوْحِيدِ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْعَام: ٧٥] مَعْنَاهُ نُرِيهِ مَا فِيهَا مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ قَبْلَ أَنْ نُوحِيَ إِلَيْهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: رَأى كَوْكَباً بِمَعْنَى نَظَرَ فِي السَّمَاءِ فَرَأَى هَذَا الْكَوْكَبَ وَلَمْ يَكُنْ نَظَرَ فِي ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: قالَ هَذَا رَبِّي قَوْلًا فِي نَفْسِهِ عَلَى نَحْوِ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ الْمُفَكِّرُ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ حَدِيثُ النَّفْسِ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ فِي كَلْبِ صَيْدٍ:
قَالَتْ لَهُ النَّفْسُ إِنِّي لَا أَرَى طَمَعًا | وَأَنَّ مَوْلَاكَ لَمْ يَسْلَمْ وَلَمْ يَصِدِ |
ثُمَّ انْثَنَى وَقَالَ فِي التَّفْكِيرِ | إِنَّ الْحَيَاةَ الْيَوْمَ فِي الْكُرُورِ |
[٨٠]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٨٠]
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠)
لَمَّا أَعْلَنَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُعْتَقَدَهُ لِقَوْمِهِ أَخَذُوا فِي مُحَاجَّتِهِ، فَجُمْلَةُ وَحاجَّهُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَام:
٧٩]. وَعُطِفَتِ الْجُمْلَةُ بِالْوَاوِ دُونَ الْفَاءِ لِتَكُونَ مُسْتَقِلَّةً بِالْإِخْبَارِ بِمَضْمُونِهَا مَعَ أَنَّ تَفَرُّعَ مَضْمُونِهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا مَعْلُومٌ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ.
وَعَطْفُ الْأَوْلَادِ عَلَى الْأَمْوَالِ لِاسْتِيفَاءِ أَقْوَى دَوَاعِي الْخِيَانَةِ، فَإِنَّ غَرَضَ جُمْهُورِ النَّاسِ فِي جَمْعِ الْأَمْوَالِ أَنْ يَتْرُكُوهَا لِأَبْنَائِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَقَدْ كَثُرَ قَرْنُ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ فِي التَّحْذِيرِ، وَنَجِدُهُ فِي الْقُرْآنِ، قِيلَ إِنَّ هَاتِهِ الْآيَةَ مِنْ جُمْلَةِ مَا نَزَلَ فِي أَبِي لُبَابَةَ.
وَجِيءَ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ كَوْنِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ فِتْنَةً بِطَرِيقِ الْقَصْرِ قَصْرًا ادِّعَائِيًّا لِقَصْدِ الْمُبَالِغَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّهُمْ فِتْنَةٌ.
وَجَعَلَ نَفْسَ «الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ» فِتْنَةً لِكَثْرَةِ حُدُوثِ فِتْنَةِ الْمَرْءِ مِنْ جَرَّاءِ أَحْوَالِهِمَا، مُبَالَغَةً فِي التَّحْذِيرِ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ وَمَا يَنْشَأُ عَنْهَا، فَكَأَنَّ وُجُودَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ نَفْسُ الْفِتْنَةِ.
وَعُطِفَ قَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
عَلَى قَوْلِهِ: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْأَجْرِ عَلَى كَفِّ النَّفْسِ عَنِ الْمَنْهِيَّاتِ هُوَ خَيْرٌ مِنَ الْمَنَافِعِ الْحَاصِلَةِ عَنِ اقْتِحَامِ الْمَنَاهِي لِأَجْلِ الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد.
[٢٩]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٢٩]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
استيناف ابْتِدَائِيٌّ مُتَّصِلٌ بِالْآيَاتِ السَّابِقَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ [الْأَنْفَال: ٢٠] الْآيَةَ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْآيَاتِ إِلَى هُنَا.
وَافْتُتِحَ بِالنِّدَاءِ لِلِاهْتِمَامِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَخُوطِبَ الْمُؤْمِنُونَ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِعَهْدِ الْإِيمَانِ وَمَا يَقْتَضِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي نَظَائِرِهِ، وَعَقِبَ التَّحْذِيرِ مِنَ الْعِصْيَانِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى سُوءِ عَوَاقِبِهِ، بِالتَّرْغِيبِ فِي التَّقْوَى وَبَيَانِ حُسْنِ عَاقِبَتِهَا وَبِالْوَعْدِ بِدَوَامِ النَّصْرِ وَاسْتِقَامَةِ الْأَحْوَالِ إِنْ هُمْ دَامُوا عَلَى التَّقْوَى.
فَفِعْلُ الشَّرْطِ مُرَادٌ بِهِ الدَّوَامُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُتَّقِينَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا حُذِّرُوا مِنَ الْمُخَالَفَةِ وَالْخِيَانَةِ نَاسَبَ أَنْ تُفْرَضَ لَهُمُ الطَّاعَةُ فِي مُقَابِلِ ذَلِكَ.
وَلَقَدْ بَدَا حُسْنُ الْمُنَاسَبَةِ إِذْ رُتِّبَتْ عَلَى الْمَنْهِيَّاتِ تَحْذِيرَاتٌ مِنْ شُرُورٍ وَأَضْرَارٍ
فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ عُرْضَةٌ لِنَسْخِ دِينِهِمْ بِدِينِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَإِعْدَادًا لَهُمْ لِتَلَقِّي نَسْخٍ آخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِدِينٍ آخَرَ يَكُونُ شِعَارُهُ يَوْمًا آخَرَ غَيْرَ السَّبْتِ وَغَيْرَ الْأَحَدِ. فَهَذَا هُوَ التَّفْسِيرُ الَّذِي بِهِ يَظْهَرُ انْتِسَاقُ الْآيِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ.
وبَيْنَهُمْ ظَرْفٌ لِلْحُكْمِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ «يَحْكُمُ»، أَيْ حُكْمًا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ. وَلَيْسَتْ بَيْنَهُمْ لِتَعْدِيَةِ «يَحْكُمُ» إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ هُنَا.
[١٢٥]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١٢٥]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥)
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.
يَتَنَزَّلُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِقَوْلِهِ: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سُورَة النَّحْل: ١٢٣] فَإِنَّ الْمُرَادَ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنَ اتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، وَدِينُ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوَاعِدِ الْحَنِيفِيَّةِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَعْوَتِهِ النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ دَاعِيًا إِلَى اتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ.
وَمُخَاطَبَةُ اللَّهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْأَمْرِ فِي حِينِ أَنَّهُ دَاعٍ إِلَى الْإِسْلَامِ وَمُوَافِقٌ لِأَصُولِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ عَلَى الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مَعَ مَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ مِنَ الْهِدَايَةِ إِلَى طَرَائِقِ الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ.
فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَثْبِيتَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الدَّعْوَةِ وَأَنْ لَا يُؤَيِّسَهُ قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ لَهُ
إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ [سُورَة النَّحْل: ١٠١] وَقَوْلُهُمْ: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [سُورَة النَّحْل:
١٠٣] وَأَنْ لَا يَصُدَّهُ عَنِ الدَّعْوَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَهْدِي الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ. ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَتْرُكُوا حِيلَةً يحسبونها تثبّط النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ دَعْوَتِهِ إِلَّا أَلْقَوْا بِهَا إِلَيْهِ مِنْ:
تَصْرِيحٍ بِالتَّكْذِيبِ، وَاسْتِسْخَارٍ، وَتَهْدِيدٍ، وَبَذَاءَةٍ، وَاخْتِلَاقٍ، وَبُهْتَانٍ، كَمَا ذَلِكَ مَحْكِيٌّ فِي تَضَاعِيفِ
وَالْحُسْبَانُ: مَصْدَرُ حَسَبَ كَالْغُفْرَانِ. وَهُوَ هُنَا صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هَلَاكًا حُسْبَانًا، أَيْ مُقَدَّرًا مِنَ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَطاءً حِساباً [النبأ: ٣٦]. وَقِيلَ: الْحُسْبَانُ اسْمُ جَمْعٍ لِسِهَامٍ قِصَارٍ يُرْمَى بِهَا فِي طَلْقٍ وَاحِدٍ وَلَيْسَ لَهُ مُفْرَدٌ. وَقِيلَ: اسْمُ جَمْعِ حُسْبَانَةٍ وَهِيَ الصَّاعِقَةُ. وَقِيلَ: اسْمٌ لِلْجَرَادِ. وَالْمَعَانِي الْأَرْبَعَةُ صَالِحَةٌ هُنَا، وَالسَّمَاءُ: الْجَوُّ
الْمُرْتَفِعُ فَوْقَ الْأَرْضِ.
وَالصَّعِيدُ: وَجْهُ الْأَرْضِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [الْمَائِدَة:
٦]. وَفَسَّرُوهُ هُنَا بِذَلِكَ فَيَكُونُ ذِكْرُهُ هُنَا تَوْطِئَةً لِإِجْرَاءِ الصِّفَةِ عَلَيْهِ وَهِيَ زَلَقاً.
وَفِي «اللِّسَانِ» عَنِ اللَّيْثِ «يُقَالُ لِلْحَدِيقَةِ، إِذَا خَرِبَتْ وَذَهَبَ شَجْرَاؤُهَا: قَدْ صَارَتْ صَعِيدًا، أَيْ أَرْضًا مُسْتَوِيَةً لَا شجر فِيهَا» اهـ. وَهَذَا إِذَا صَحَّ أَحْسَنُ هُنَا، وَيَكُونُ وَصْفُهُ بِ زَلَقاً مُبَالَغَةً فِي انْعِدَامِ النَّفْعِ بِهِ بِالْمَرَّةِ. لَكِنِّي أَظُنُّ أَنَّ اللَّيْثَ ابْتَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ تَفْسِيرُ مَعْنَى الْكَلَامِ وَلَيْسَ تَبْيِينًا لِمَدْلُولِ لَفْظِ صَعِيدٍ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً [الْكَهْف: ٨] فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَالزَّلَقُ: مَصْدَرُ زَلَقَتِ الرِّجْلُ، إِذَا اضْطَرَبَتْ وَزَلَّتْ عَلَى الْأَرْضِ فَلَمْ تَسْتَقِرَّ. وَوَصْفُ الْأَرْضِ بِذَلِكَ مُبَالَغَةٌ، أَيْ ذَاتَ زَلَقٍ، أَيْ هِيَ مُزْلَقَةٌ.
وَالْغَوْرُ: مَصْدَرُ غَارَ الْمَاءُ، إِذَا سَاخَ الْمَاءُ فِي الْأَرْضِ. وَوَصْفُهُ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً. وَجَاءَ بِحَرْفِ تَوْكِيدِ النَّفْيِ زِيَادَةً فِي التَّحْقِيقِ لِهَذَا الرَّجَاءِ الصَّادِرِ مصدر الدُّعَاء.
[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ١٢٠]
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى (١٢٠)قَوْلُهُ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي الْأَعْرَافِ. وَالْفَاءُ لِتَعْقِيبِ مَضْمُونِ جُمْلَتِهَا عَلَى مَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهُوَ تَعْقِيبٌ نِسْبِيٌّ بِمَا يُنَاسِبُ مُدَّةً تَقَلُّبٍ فِي خِلَالِهَا بِخَيْرَاتِ الْجَنَّةِ حَتَّى حَسَدَهُ الشَّيْطَانُ وَاشْتَدَّ حَسَدُهُ.
وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ (وَسْوَسَ) هُنَا بِحَرْفِ (إِلَى) وَبِاللَّامِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٢٠] فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ بِاعْتِبَارِ كَيْفِيَّةِ تَعْلِيقِ الْمَجْرُورِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ فِي قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ، فَإِنَّهُ فِعْلٌ قَاصِرٌ لَا غِنًى لَهُ عَنِ التَّعْدِيَةِ بِالْحَرْفِ، فَتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ (إِلَى) هُنَا بِاعْتِبَارِ انْتِهَاءِ الْوَسْوَسَةِ إِلَى آدَمَ وَبُلُوغِهَا إِيَّاهُ، وَتَعْدِيَتُهُ بِاللَّامِ فِي الْأَعْرَافِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوَسْوَسَةَ كَانَتْ لِأَجْلِهِمَا.
وَجُمْلَةُ قالَ يَا آدَمُ [طه: ١١٧] بَيَانٌ لجملة فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِثَالٌ لِلْجُمْلَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِغَيْرِهَا فِي عِلْمِ الْمَعَانِي.
وَهَذَا الْقَوْلُ خَاطِرٌ أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ فِي نَفْسِ آدَمَ بِطَرِيقِ الْوَسْوَسَةِ وَهِيَ الْكَلَامُ الْخَفِيُّ إِمَّا بِأَلْفَاظٍ نَطَقَ بِهَا الشَّيْطَانُ سِرًّا لِآدَمَ لِئَلَّا يَطَّلِعَ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ فَيُحَذِّرُوا آدَمَ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ، فَيَكُونَ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً وَإِمَّا بِمُجَرَّدِ تَوَجُّهٍ أَرَادَهُ الشَّيْطَانُ كَمَا يُوَسْوِسُ لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا، فَيَكُونُ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَيْهِ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ الْمُشَابَهَةِ.
وهَلْ أَدُلُّكَ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعَرْضِ، وَهُوَ انْسَبُ الْمَعَانِي الْمَجَازِيَّةِ لِلِاسْتِفْهَامِ لِقُرْبِهِ مِنْ حَقِيقَتِهِ.
وَالِافْتِتَاحُ بِالنِّدَاءِ لِيَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ.
وَالشَّجَرَةُ هِيَ الَّتِي نَهَاهُ اللَّهُ عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا دُونَ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ، وَلَمْ يُذْكَرِ النَّهْيُ
عَنْهَا هُنَا وَذُكِرَ فِي قِصَّةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَهَذَا الْعَرْضُ مُتَقَدِّمٌ
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا بِإِذْنِهِ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ مُتَعَلِّقَاتِ فِعْلِ يُمْسِكُ وَمُلَابَسَاتِ مَفْعُولِهِ وَهُوَ كَلِمَةُ السَّماءَ عَلَى اخْتِلَافِ مَحَامِلِهِ، أَيْ يَمْنَعُ مَا فِي السَّمَاءِ مِنَ الْوُقُوعِ عَلَى الْأَرْضِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ إِلَّا وُقُوعًا مُلَابِسًا لِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ: هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي مَعْنَى الْآيَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «يَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ قَوْلُهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ عَلَى الْإِمْسَاكِ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَقْتَضِي بِغَيْرِ عَمَدٍ (أَيْ يَدُلُّ بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْمُتَعَلِّقِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [الرَّعْد: ٢] وَنَحْوِهِ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ: إِلَّا بِإِذْنِهِ فَيُمْسِكُهَا» اه. يُرِيدُ أَنَّ حَرْفَ الِاسْتِثْنَاءِ قَرِينَةٌ عَلَى الْمَحْذُوفِ.
وَالْإِذْنُ حَقِيقَتُهُ: قَوْلٌ يُطْلَبُ بِهِ فِعْلُ شَيْءٍ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْمَشِيئَةِ وَالتَّكْوِينِ، وَهُمَا مُتَعَلِّقُ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ.
وَقَدِ اسْتَوْعَبَتِ الْآيَةُ الْعَوَالِمَ الثَّلَاثَةَ: الْبَرَّ، وَالْبَحْرَ، وَالْجَوَّ.
وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِلتَّسْخِيرِ وَالْإِمْسَاكِ بِاعْتِبَارِ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ رَأْفَةً بِالنَّاسِ بِتَيْسِيرِ مَنَافِعِهِمُ الَّذِي فِي ضِمْنِهِ دَفْعُ الضّر عَنْهُم.
والرؤوف: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الرَّأْفَةِ أَوْ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، وَهِيَ صِفَةٌ تَقْتَضِي صَرْفَ الضُّرِّ.
وَالرَّحِيمُ: وَصْفٌ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَهِيَ صِفَةٌ تَقْتَضِي النَّفْعَ لِمُحْتَاجِهِ. وَقَدْ تَتَعَاقَبُ الصِّفَتَانِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يُفِيدُ مَا تَخْتَصُّ بِهِ كُلُّ صِفَةٍ مِنْهُمَا وَيُؤَكِّدُ مَا تجتمعان عَلَيْهِ.
وَجُمْلَةُ: اكْتَتَبَها نَعْتٌ أَوْ حَالٌ لِ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
وَالِاكْتِتَابُ: افْتِعَالٌ مِنَ الْكِتَابَةِ، وَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ تَدُلُّ عَلَى التَّكَلُّفِ لِحُصُولِ الْفِعْلِ، أَيْ حُصُولُهُ مِنْ فَاعِلِ الْفِعْلِ، فَيُفِيدُ قَوْلُهُ: اكْتَتَبَها أَنَّهُ تَكَلَّفَ أَنْ يَكْتُبَهَا. وَمَعْنَى هَذَا التَّكَلُّفِ أَنَّ النَّبِيءَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا كَانَ أُمِّيًّا كَانَ إِسْنَادُ الْكِتَابَةِ إِلَيْهِ إِسْنَادًا مجازيا فيؤول الْمَعْنَى: أَنَّهُ سَأَلَ مَنْ يَكْتُبُهَا لَهُ، أَيْ يَنْقُلُهَا، فَكَانَ إِسْنَادُ الِاكْتِتَابِ إِلَيْهِ إِسْنَادًا مَجَازِيًّا لِأَنَّهُ سَبَبُهُ، وَالْقَرِينَةُ مَا هُوَ مُقَرَّرٌ لَدَى الْجَمِيعِ مِنْ أَنَّهُ أُمِّيٌّ لَا يَكْتُبُ، وَمِنْ قَوْلِهِ: فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَتَبَهَا لنَفسِهِ لَكَانَ يَقْرَأها بِنَفْسِهِ. فَالْمَعْنَى: اسْتَنْسَخَهَا. وَهَذَا كُلُّهُ حِكَايَةٌ لِكَلَامِ النَّضْرِ بِلَفْظِهِ أَوْ بِمَعْنَاهُ، وَمُرَادُ النَّضْرِ بِهَذَا الْوَصْفِ تَرْوِيجُ بُهْتَانِهِ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ هَذَا الزُّورَ مَكْشُوفٌ قَدْ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ النَّاسِ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ النَّبِيءَ أُمِّيٌّ فَكَيْفَ يَسْتَمِدُّ قُرْآنَهُ مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ فَهَيَّأَ لِقَبُولِ ذَلِكَ أَنَّهُ كُتِبَتْ لَهُ، فَاتَّخَذَهَا عِنْدَهُ فَهُوَ يُنَاوِلُهَا لِمَنْ يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ فَيُمْلِي عَلَيْهِ مَا يَقُصُّهُ الْقُرْآنُ.
وَالْإِمْلَاءُ: هُوَ الْإِمْلَالُ وَهُوَ إِلْقَاءُ الْكَلَامِ لِمَنْ يَكْتُبُ أَلْفَاظَهُ أَوْ يَرْوِيهَا أَوْ يَحْفَظُهَا.
وَتَفْرِيعُ الْإِمْلَاءِ عَلَى الِاكْتِتَابِ كَانَ بِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّ إِمْلَاءَهَا عَلَيْهِ لِيَقْرَأَهَا أَوْ لِيَحْفَظَهَا.
وَالْبُكْرَةُ: أَوَّلُ النَّهَارِ. وَالْأَصِيلُ: آخِرُ الْمَسَاءِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ [٢٠٥]، أَيْ تُمْلَى عَلَيْهِ طَرَفَيِ النَّهَارِ. وَهَذَا مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ كَثْرَةِ الْمُمَارَسَةِ لتلقي الأساطير.
[٦]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٦]
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦)
لَقَّنَ اللَّهُ رَسُولَهُ الْجَوَابَ لِرَدِّ بُهْتَانِ الْقَائِلِينَ إِنْ هَذَا الْقُرْآنَ إِلَّا إِفْكٌ، وَإِنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، بِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ.
إِنَّ الَّذِينَ تَرَوْنَهُمْ إِخْوَانَكُمْ | يَشْفِي غَلِيلَ صُدُورِهِمُ أَنْ تُصْرَعُوا |
وَفِعْلُ الرُّؤْيَةِ قَلْبِيٌّ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ وَالْإِنْبَاءِ، أَيْ أَنْبِئُونِي شَيْئًا مَخْلُوقًا لِلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ.
وماذا كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَ (ذَا) الَّتِي بِمَعْنَى الَّذِي حِينَ تَقَعُ بَعْدَ اسْمِ اسْتِفْهَامٍ، وَفِعْلُ الْإِرَاءَةِ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ بِالِاسْتِفْهَامِ.
وَالتَّقْدِيرُ: أَرُونِي شَيْئًا خَلَقُوهُ مِمَّا على الْأَرْضِ.
ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ شَيْئًا نَاشِئًا مِنَ الْأَرْضِ، أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ مَا عَلَيْهَا كَإِطْلَاقِ الْقَرْيَةِ عَلَى سُكَّانِهَا فِي قَوْله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُف: ٨٢].
وأَمْ مُنْقَطِعَةٌ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ، وَهِيَ تُؤْذِنُ بِاسْتِفْهَامٍ بَعْدَهَا. وَالْمَعْنَى: بَلْ أَلَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ.
وَالشِّرْكُ بِكَسْرِ الشِّينِ: اسْمٌ لِلنَّصِيبِ الْمُشْتَرَكِ بِهِ فِي مِلْكِ شَيْءٍ.
وَالْمَعْنَى: أَلَهُمْ شِرْكٌ مَعَ اللَّهِ فِي ملك السَّمَوَات وتصريف أحوالها كَسَيْرِ الْكَوَاكِبِ وَتَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَتَسْخِيرِ الرِّيَاحِ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ.
وَلَمَّا كَانَ مَقَرُّ الْأَصْنَامِ فِي الْأَرْضِ كَانَ مِنَ الرَّاجِح أَن تتخيّل لَهُمُ الْأَوْهَامُ تَصَرُّفًا كَامِلًا فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّهُمْ آلِهَةٌ أَرْضِيَّةٌ، وَقَدْ كَانَتْ مَزَاعِمُ الْعَرَبِ وَاعْتِقَادَاتُهُمْ أَفَانِينَ شَتَّى مُخْتَلِطَةً مِنِ اعْتِقَادِ الصَّابِئَةِ وَمِنِ اعْتِقَادِ الْفُرْسِ وَاعْتِقَادِ الرُّومِ فَكَانُوا أَشْبَاهًا لَهُمْ فَلِذَلِكَ قِيلَ لِأَشْبَاهِهِمْ فِي الْإِشْرَاكِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ، أَيْ فَكَانَ تَصَرُّفُهُمْ فِي ذَلِكَ تَصَرُّفَ الْخَالِقِيَةِ، فَأَمَّا السَّمَاوَاتُ فَقَلَّمَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ لِلْأَصْنَامِ تَصرفا فِي شؤونها، وَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَدَّعُوا ذَلِكَ وَلَكِنْ جَاءَ قَوْلُهُ: أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ مَجِيءَ تَكْمِلَةِ الدَّلِيلِ عَلَى الْفَرْضِ وَالِاحْتِمَالِ، كَمَا يُقَالُ فِي آدَابِ الْبَحْثِ «فَإِنْ قُلْتَ». وَقَدْ كَانُوا يَنْسِبُونَ لِلْأَصْنَامِ بُنُوَّةً لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى:
الْأَصْنَامُ وَالْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ فَخُصَّ الِاعْتِقَادُ بِأَهْلِ مَكَّةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقُولُوهُ فِي غَيْرِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ، لِأَنَّ أَسْمَاءَهَا مُؤَنَّثَةٌ، وَإِلَّا فَإِنَّ فِي أَسْمَاءِ كَثِيرٍ مِنْ أَسْمَاءِ أَصْنَامِهِمْ مَا هُوَ مُذَكَّرٌ نَحْوَ ذِي الْخَلَصَةِ، وَذَكَرَ فِي «الْكَشَّافِ» عِنْدَ ذِكْرِ الْبَسْمَلَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي أَعْمَالِهِمْ: بِاسْمِ اللَّاتِ، بِاسْمِ الْعُزَّى.
فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِبْطَالُ إِلَهِيَّةِ أَصْنَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَالْآيَاتِ بَعْدَهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى حُجَجِ انْفِرَادِ اللَّهِ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَوْ كَانَ اللَّهُ مُتَّخِذًا وَلَدًا لَاخْتَارَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ مَا يَشَاءُ اخْتِيَارَهُ، أَيْ
لَاخْتَارَ مَا هُوَ أَجْدَرُ بِالِاخْتِيَارِ وَلَا يَخْتَارُ لِبُنُوَّتِهِ حِجَارَةً كَمَا زَعَمْتُمْ لِأَنَّ شَأْنَ الِاخْتِيَارِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْأَحْسَنِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَارِ مِنْهَا فَبَطَلَ أَنْ تَكُونَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى وَمَنَاة بَنَات لله تَعَالَى، وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ عَنْهَا بَطَلَ عَنْ سَائِرِ الْأَصْنَامِ بِحُكْمِ الْمُسَاوَاةِ أَوِ الْأَحْرَى، فَتَكُونُ لَوْ هُنَا هِيَ الْمُلَقَّبَةُ لَوْ الصُّهَيْبِيَّةَ، أَيْ الَّتِي شَرْطُهَا مَفْرُوضٌ فَرْضًا عَلَى أَقْصَى احْتِمَالٍ وَهِيَ الَّتِي يُمَثِّلُونَ لَهَا بِالْمَثَلِ الْمَشْهُورِ: «نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخِفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ»، فَكَانَ هَذَا إِبْطَالًا لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَى قَوْله:
كَفَّارٌ [الزمر: ٣]. وَلَيْسَ هُوَ إِبْطَالًا لِمَقَالَةِ بَعْضِ الْعَرَبِ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَقِيدَةِ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ الَّذِينَ وَجِّهَ الْخِطَابَ إِلَيْهِمْ، وَلَا إِبْطَالًا لِبُنُوَّةِ الْمَسِيحِ عِنْدَ النَّصَارَى لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَقَدٍ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ الْمُخَاطِبِينَ وَلَا شُعُورٌ لَهُمْ بِهِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مُحَاجَّةُ النَّصَارَى وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْقُرْآنُ الْمَكِّيُّ إِلَى مُحَاجَّةِ النَّصَارَى.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ بُنِيَ الدَّلِيلُ عَلَى قَاعِدَةِ اسْتِحَالَةِ الْوَلَدِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذْ بُنِيَ الْقِيَاسُ الشَّرْطِيُّ عَلَى فَرْضِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ لَا عَلَى فَرْضِ التَّوَلُّدِ، فَاقْتَضَى أَنَّ الْمُرَادَ بِاتِّخَاذِ الْوَلَدِ التَّبَنِّي لِأَنَّ إِبْطَالَ التَّبَنِّي بِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ يَسْتَلْزِمُ إِبْطَالَ تَّوَلُّدِ الِابْنِ بِالْأَوْلَى.
وَعُزِّزَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ فِعْلِ الِاتِّخَاذِ بِتَعْقِيبِهِ بِفِعْلِ الِاصْطِفَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ مُجَارَاةِ الْخَصْمِ الْمُخْطِئ لِيُغَيِّرَ فِي مَهْوَاةِ خَطَئِهِ، أَيْ لَوْ كَانَ لِأَحَدٍ مِنَ اللَّهِ نِسْبَةُ بُنُوَّةٍ
حم (١)
تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظَائِرِهِ، وَهَذِهِ جملَة مُسْتَقلَّة.
[٢]
[سُورَة الجاثية (٤٥) : آيَة ٢]
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَهُوَ جُمْلَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ. الْكِتابِ هُوَ الْمَعْهُودُ وَهُوَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَى تِلْكَ السَّاعَةِ.
وَالْمَقْصُودُ: إِثْبَاتُ أَنَّ الْقُرْآنَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللَّهِ إِلَى رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُجْعَلَ الْقُرْآنُ مُسْنَدًا إِلَيْهِ وَيُخْبَرَ عَنْهُ فَيُقَالُ الْقُرْآنُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِأَنَّ كَوْنَهُ مُنَزَّلًا مِنَ اللَّهِ هُوَ مَحَلُّ الْجِدَالِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هُوَ الْخَبَرُ وَلَوْ أَذْعَنُوا لِكَوْنِهِ تَنْزِيلًا لَمَا كَانَ مِنْهُمْ نِزَاعٌ فِي أَنَّ تَنْزِيلَهُ مِنَ اللَّهِ وَلَكِنْ خُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِغَرَضَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: التَّشْوِيقُ إِلَى تَلَقِّي الْخَبَرِ لِأَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا الِابْتِدَاءَ بِتَنْزِيلِ الْكِتَابِ اسْتَشْرَفُوا إِلَى مَا سَيُخْبَرُ عَنْهُ فَأَمَّا الْكَافِرُونَ فَيَتَرَقَّبُونَ أَنَّهُ سَيُلْقَى إِلَيْهِمْ وَصْفٌ جَدِيدٌ لِأَحْوَالِ تَنْزِيل
الْكتاب فيتهيّأون لِخَوْضٍ جَدِيدٍ مِنْ جِدَالِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَتَرَقَّبُونَ لِمَا يَزِيدُهُمْ يَقِينًا بِهَذَا التَّنْزِيلِ.
وَالْغَرَضُ الثَّانِي: أَنْ يُدَّعَى أَنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ تَنْزِيلًا أَمْرٌ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ فَالَّذِينَ خَالَفُوا فِيهِ كَأَنَّهُمْ خَالَفُوا فِي كَوْنِهِ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهَلْ يَكُونُ التَّنْزِيلُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيُؤَوَّلُ إِلَى تَأْكِيدِ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَدْلُولِ كَوْنِهِ تَنْزِيلًا وَكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَّا بِاخْتِلَافِ مَفْهُومِ الْمَعْنيين دون مَا صدقيهما عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: ٢].
وَإِيثَارُ وَصْفَيِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى لِإِشْعَارِ وَصْفِ الْعَزِيزِ بِأَنَّ مَا نَزَلَ مِنْهُ مُنَاسِبٌ لِعِزَّتِهِ فَهُوَ كِتَابٌ عَزِيزٌ كَمَا وَصَفَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:
وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ [فصلت: ٤١]، أَيْ هُوَ غَالِبٌ لِمُعَانِدِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَعْجَزَهُمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ، وَلِإِشْعَارِ وَصْفِ الْحَكِيمِ بِأَنَّ مَا نَزَلَ
[سُورَة ق (٥٠) : آيَة ٣٨]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨)مُنَاسَبَةُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها [ق: ٦] إِلَى قَوْلِهِ: لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق: ١٠]، وَكَانَ ذَلِكَ قَرِيبًا مِمَّا وُصِفَ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ تَرْتِيبِ الْمَخْلُوقَاتِ إِجْمَالًا ثُمَّ نَزَلَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ [ق: ١٥] كَانَ بَعْضُ الْيَهُودِ بِمَكَّةَ يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ، وَهَذَا مَكْتُوبٌ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ «التَّوْرَاةِ».
وَالِاسْتِرَاحَةُ تُؤْذِنُ بِالنَّصْبِ وَالْإِعْيَاءِ فَلَمَّا فَرَغَتِ الْآيَةُ مِنْ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ فِي
أَقْوَالِهِمْ عَطَفَتْ إِلَى تَكْذِيبِ الَّذِينَ كَانُوا يُحَدِّثُونَهُمْ بِحَدِيثِ الِاسْتِرَاحَةِ، فَهَذَا تَأْوِيلُ مَوْقِعِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ مَعَ مَا حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى طَلِيعَةِ السُّورَةِ فَقَوْلُ مَنْ قَالَ نَزَلَتْ فِي يَهُودِ الْمَدِينَةِ تَكَلُّفٌ إِذْ لَمْ يَكُنِ الْيَهُودُ مَقْصُورِينَ عَلَى الْمَدِينَةِ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ وَكَانُوا يَتَرَدَّدُونَ إِلَى مَكَّةَ.
فَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ تَكْمِلَةٌ لِمَا وَصَفَ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ فِي قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها إِلَى قَوْلِهِ:
مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق: ٦، ٧] لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ إِبْطَالًا لِمَقَالَةِ الْيَهُودِ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ وَقَعَتْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ وَبَيْنَ مَا فُرِّعَ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [طه: ١٣٠].
وَالْوَاوُ فِي وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ وَاوُ الْحَالِ لِأَنَّ لِمَعْنَى الْحَالِ هُنَا مَوْقِعًا عَظِيمًا مِنْ تَقْيِيدِ ذَلِكَ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الْقَصِيرَةِ بِأَنَّهُ لَا يَنْصَبُ خَالِقُهُ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ مُعْظَمِ هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانُ إِمْكَانِ الْبَعْثِ إِذْ أَحَالَهُ الْمُشْرِكُونَ بِمَا يَرْجِعُ إِلَى ضِيقِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ إِيقَاعِهِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى إِبْرَازِ مَعْنَى سَعَةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ. وَمَعْنَى وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ: مَا أَصَابَنَا تَعَبٌ. وَحَقِيقَةُ الْمَسِّ: اللَّمْسُ، أَيْ
وَذَكَرَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْحَجَرِيُّ التُّونِسِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الْأَشْمُونِيِّ لِلْأَلْفِيَّةِ الْمُسَمَّاةِ «زَوَاهِرُ الْكَوَاكِبِ» عَنْ كِتَابِ «الْبُرْهَانُ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ» هَذَا الِاسْمُ سُمِّيَ بِهِ كِتَابَانِ أَحَدُهُمَا لِكَمَالِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ وَالثَّانِي: لِابْنِ أَبِي الْأُصْبُعِ أَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ لِمَ أُكِّدَ الْفِعْلُ بِاللَّامِ فِي الزَّرْعِ وَلَمْ يُؤَكَّدْ، فِي الْمَاءِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ الزَّرْعَ وَنَبَاتَهُ وَجَفَافَهُ بَعْدَ النَّضَارَةِ حَتَّى يَعُودَ حُطَامًا مِمَّا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الزَّارِعِ أَوْ أَنَّهُ مِنْ سَقْيِ الْمَاءِ، وَجَفَافُهُ مِنْ عَدَمِ السَّقْيِ، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى جَعْلِهِ حُطَامًا فِي حَالِ نُمُوِّهِ لَوْ شَاءَ، وَإِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ مِمَّا لَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ لِأَحَدٍ قُدْرَةً عَلَيْهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى اه.
وَحَذْفُ هَذِهِ اللَّامِ قَلِيلٌ إِلَّا إِذَا وَقَعَتْ لَوْ وَشَرطهَا صلَة لموصول فَيَكْثُرُ حَذْفُ هَذِهِ اللَّامِ لِلطُّولِ وَهُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ ابْنُ مَالِكٍ فِي «التَّسْهِيلِ» وَتَبِعَهُ الرَّضِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ [النِّسَاء: ٩] وَإِنْ قَالَ الْمُرَادِيُّ وَالدَّمَامِينِيُّ فِي «شَرْحَيْهِمَا» : إِنَّ هَذَا لَا يُعْرَفُ لِغَيْرِ الْمُصَنِّفِ، قَالَ الرَّضِيُّ: وَكَذَلِكَ إِذَا طَالَ الشَّرْطُ بِذِيُولِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [لُقْمَان: ٢٧]، أَيْ وَأَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَحَذْفُ اللَّامِ قَلِيلٌ وَلَكِنَّهُ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ. وَلِلْفَخْرِ كَلَامٌ فِي ضَابِطِ حَذْفِ هَذِهِ اللَّامِ، لَيْسَ لَهُ تَمام.
[٧١، ٧٢]
[سُورَة الْوَاقِعَة (٥٦) : الْآيَات ٧١ إِلَى ٧٢]
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢)
هُوَ مِثْلُ سَابِقِهِ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ.
وَمُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْمَاءِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ النَّارِ هِيَ مَا تَقَدَّمَ فِي مُنَاسَبَةِ الِانْتِقَالِ إِلَى خَلْقِ الْمَاءِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ، فَإِنَّ النَّارَ تَخْرُجُ مِنَ الشَّجَرِ بِالِاقْتِدَاحِ وَتُذَكَّى بِالشَّجَرِ فِي الِاشْتِعَالِ والالتهاب.
وَهَذَا اسْتِدْلَال عَلَى تَقْرِيبِ كَيْفِيَّةِ الْإِحْيَاءِ لِلْبَعْثِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الِاقْتِدَاحَ إِخْرَاجٌ وَالزَّنْدُ الَّذِي بِهِ إِيقَادُ النَّارِ يَخْرُجُ مِنْ أَعْوَادِ الِاقْتِدَاحِ وَهِيَ مَيِّتَةٌ.
وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ فَلَهَا حُكْمُ الِاعْتِرَاضِ.
وَجِيءَ بِالْوَعْدِ مِنَ الشَّرْطِ لِتَحْقِيقِ تَعْلِيقِ الْجَوَابِ عَلَى شَرْطِهِ.
[٦]
[سُورَة الطَّلَاق (٦٥) : آيَة ٦]
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ.
هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَمَا أُلْحِقَ بِهَا مِنَ الْجُمَلِ إِلَى قَوْلِهِ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ [الطَّلَاق: ٨] إِلَخْ تَشْرِيعٌ مُسْتَأْنَفٌ فِيهِ بَيَانٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطَّلَاق: ١] وَقَوْلِهِ: أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [الطَّلَاق: ٢]، وَقَوْلِهِ: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطَّلَاق: ٤] فَتَتَنَزَّلُ هَذِهِ الْجُمَلُ مِنَ اللَّاتِي قَبْلَهَا مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِبَعْضٍ، وَيَدُلُّ الِاشْتِمَالُ لِبَعْضٍ وَكُلُّ ذَلِكَ مُقْتَضًى لِلْفَصْلِ. وَابْتُدِئَ بِبَيَانِ مَا فِي لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطَّلَاق: ١] مِنْ إِجْمَالٍ.
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي أَسْكِنُوهُنَّ عَائِدٌ إِلَى النِّسَاءِ الْمُطَلَّقَاتِ فِي قَوْلِهِ: إِذا طَلَّقْتُمُ [الطَّلَاق: ١]. وَلَيْسَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ هَذَا الضَّمِيرُ إِلَّا لَفْظُ النِّسَاءِ وَإِلَّا لَفْظُ أُولاتُ الْأَحْمالِ [الطَّلَاق: ٤]، وَلَكِنَّ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ الْإِسْكَانَ
خَاصٌّ بِالْمُعْتَدَّاتِ الْحَوَامِلِ فَإِنَّهُ يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا تُخْرِجُوهُنَّ [الطَّلَاق: ١] فَتَعَيَّنَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى النِّسَاءِ الْمُطَلَّقَاتِ كُلِّهِنَّ، وَبِذَلِكَ يَشْمَلُ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ وَالْبَائِنَةَ وَالْحَامِلَ، لِمَا عَلِمْتَهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ إِرَادَةِ الرَّجْعِيَّةِ وَالْبَائِنَةِ مِنْ لَفْظِ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطَّلَاق: ١].
وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَائِلُونَ بِوُجُوبِ السُّكْنَى لَهُنَّ جَمِيعًا. قَالَ أَشْهَبُ: قَالَ مَالِكٌ:
يَخْرُجُ عَنْهَا إِذَا طَلَّقَهَا وَتَبْقَى هِيَ فِي الْمَنْزِلِ. وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا الَّتِي لَمْ تَبِنْ فَإِنَّهَا زَوْجَةٌ يَتَوَارَثَانِ وَالسُّكْنَى لَهُنَّ لَازِمَةٌ لِأَزْوَاجِهِنَّ اه. يُرِيدُ أَنَّهَا مُسْتَغْنًى عَنْ أَخْذِ حُكْمِ سُكْنَاهَا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَا يُرِيدُ أَنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا سُكْنَى لِلْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا بَائِنًا. وَمُتَمَسَّكُهُمْ فِي ذَلِكَ مَا رَوَتْهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ: أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَأَنَّ أَخَا زَوْجِهَا مَنَعَهَا مِنَ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ، وَأَنَّهَا رَفَعَتْ أَمْرَهَا إِلَى
ورَهِينَةٌ: مَصْدَرٌ بِوَزْنِ فَعَيْلَةٍ كَالشَّتِيمَةِ فَهُوَ مِنَ الْمَصَادِرِ الْمُقْتَرِنَةِ بِهَاءٍ كَهَاءِ التَّأْنِيثِ مِثْلَ الْفُعُولَةِ وَالْفَعَّالَةِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ فَعِيلٍ الَّذِي هُوَ وَصْفٌ بِمَعْنى الْمَفْعُول مثيل قَتِيلَةٍ، إِذْ لَوْ قَصَدَ الْوَصْف لقيل رعين لِأَنَّ فَعَيْلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ إِذَا جَرَى عَلَى مَوْصُوفِهِ كَمَا هُنَا، وَالْإِخْبَارُ بِالْمَصَدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ مُسَوَّرِ بْنِ زِيَادَةَ الْحَارِثِيِّ:
أَبَعْدَ الَّذِي بِالنَّعْفِ نَعْفِ كُوَيْكِبٍ | رَهِينَةِ رَمْسٍ ذِي تُرَابٍ وَجَنْدَلِ |
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ.
وأَصْحابَ الْيَمِينِ: هُمْ أَهْلُ الْخَيْرِ جُعِلَتْ عَلَامَاتُهُمْ فِي الْحَشْرِ بِجِهَاتِ الْيَمِينِ فِي مُنَاوَلَةِ الصُّحُفِ وَفِي مَوْقِفِ الْحِسَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَالْيَمِينُ هُوَ جِهَةُ أَهْلِ الْكَرَامَةِ فِي الِاعْتِبَارِ كَجِهَةِ يَمِينِ الْعَرْشِ أَوْ يَمِينِ مَكَانِ الْقُدْسِ يَوْمَ الْحَشْرِ لَا يُحِيطُ بِهَا وَصْفُنَا وَجُعِلَتْ عَلَامَةُ أَهْلِ الشَّرِّ الشَّمَالَ فِي تَنَاوُلِ صُحُفِ أَعْمَالِهِمْ وَفِي مَوَاقِفِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: فِي جَنَّاتٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: يَتَساءَلُونَ قُدِّمَ لِلِاهْتِمَامِ، ويَتَساءَلُونَ حَالٌ مِنْ أَصْحابَ الْيَمِينِ وَهُوَ مَنَاطُ التَّفْصِيلِ الَّذِي جِيءَ لِأَجْلِهِ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي جَنَّاتٍ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُمْ فِي جَنَّاتٍ. وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَيَكُونُ يَتَساءَلُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ.
وَمَعْنَى يَتَساءَلُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِ صِيغَةِ التَّفَاعُلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى صُدُورِ الْفِعْلِ مِنْ جَانِبَيْنِ، أَيْ يَسْأَلُ أَصْحَابُ الْيَمِينِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنْ شَأْنِ الْمُجْرِمِينَ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ بَيَانًا لِجُمْلَةِ يَتَساءَلُونَ. وَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ:
سَلَكَكُمْ يُؤْذِنُ بِمَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ: فَيَسْأَلُونَ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، وَلَيْسَ الْتِفَاتًا، أَوْ يَقُولُ بَعْضُ الْمَسْئُولِينَ لِأَصْحَابِهِمْ جَوَابًا لِسَائِلِيهِمْ قُلْنَا لَهُمْ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ.
فَفَاءُ التَّفْرِيعِ مُرْتَبِطَةٌ بِجُمْلَةِ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الْفجْر: ١٤] بِمَا فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ الَّذِي اقْتَضَاهُ كَوْنُهَا تَذْيِيلًا.
وَالْمَعْنَى: هَذَا شَأْنُ رَبِّكَ الْجَارِي عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ.
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ فَيَتَوَهَّمُ خِلَافَ ذَلِكَ إِذْ يَحْسِبُ أَنَّ مَا يَنَالُهُ مِنْ نِعْمَةٍ وَسَعَةٍ فِي الدُّنْيَا تكريما مِنَ اللَّهِ لَهُ، وَمَا يَنَالُهُ مِنْ ضِيقِ عَيْشٍ إِهَانَةٌ أَهَانَهُ اللَّهُ بِهَا.
وَهَذَا التَّوَهُّمُ يَسْتَلْزِمُ ظَنَّهُمْ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى جَارِيَةً عَلَى غَيْرِ حِكْمَةٍ قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [فصلت: ٥٠].
فَأَعْلَمُ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤمنِينَ بِالْحَقِيقَةِ الْحَقِّ وَنَبَّهَهُمْ لِتَجَنُّبِ تَخْلِيطِ الدَّلَائِلِ الدَّقِيقَةِ السَّامِيَةِ، وَتَجَنُّبِ تَحْكِيمِ الْوَاهِمَةِ وَالشَّاهِيَةِ، وَذَكَّرَهُمْ بِأَنَّ الْأَحْوَالَ الدُّنْيَوِيَّةَ أَعْرَاضٌ زَائِلَةٌ وَمُتَفَاوِتَةُ الطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِبْطَالٌ لِمُعْتَقَدِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَضَلَالِهِمُ الَّذِي كَانَ غَالِبًا عَلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّابِغَةُ فِي آلِ غَسَّانَ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا مُشْرِكِينَ وَكَانُوا مُتَدَيِّنِينَ بِالنَّصْرَانِيَّةِ:
مَجَلَّتُهُمْ ذَاتُ الْإِلَهِ وَدِينُهُمْ | قَوِيمٌ فَمَا يَرْجُونَ غَيْرَ الْعَوَاقِبِ |
وَلَا يَحْسِبُونَ الْخَيْرَ لَا شَرَّ بَعْدَهُ | وَلَا يَحْسِبُونَ الشَّرَّ ضَرْبَةَ لَازِبِ |
وَاقْتِصَارُ الْآيَةِ عَلَى تَقْتِيرِ الرِّزْقِ فِي مُقَابَلَةِ النِّعْمَةِ دُونَ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلَلِ وَالْآفَاتِ لِأَنَّ غَالِبَ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ صِحَّةُ الْمِزَاجِ وَقُوَّةُ الْأَبْدَانِ فَلَا يَهْلِكُونَ إِلَّا بِقَتْلٍ أَوْ هَرَمٍ فِيهِمْ وَفِي ذَوِيهِمْ، قَالَ النَّابِغَةُ:
تَغْشَى مَتَالِفَ لَا يُنْظِرْنَكَ الْهَرَمَاِِ