قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ خِطَابَاتِ التَّشْرِيعِ وَنَحْوَهَا غَيْرُ جَارِيَةٍ عَلَى الْمَعْرُوفِ فِي تَوَجُّهِ الْخِطَابِ فِي أَصْلِ اللُّغَاتِ لِأَنَّ الْمُشَرِّعَ لَا يَقْصِدُ لِفَرِيقٍ مُعَيَّنٍ، وَكَذَلِكَ خِطَابُ الْخُلَفَاءِ وَالْوُلَاةِ فِي الظَّهَائِرِ وَالتَّقَالِيدِ، فَقَرِينَةُ عَدَمِ قَصْدِ الْحَاضِرِينَ ثَابِتَةٌ وَاضِحَةٌ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ تَعَلُّقَهُ بِالْحَاضِرِينَ تَعَلُّقٌ أَصْلِيٌّ إِلْزَامِيٌّ وَتَعَلُّقَهُ بِالَّذِينَ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدُ تَعَلُّقٌ مَعْنَوِيٌّ إِعْلَامِيٌّ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَرَّرَ فِي تَعَلُّقِ الْأَمْرِ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ فَنَفْرِضُ مِثْلَهُ فِي تَوَجُّهِ الْخِطَابِ.
وَالْعِبَادَةُ فِي الْأَصْلِ التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الْفَاتِحَة: ٥] وَلَمَّا كَانَ التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ إِنَّمَا يَحْصُلُ عَنْ صِدْقِ الْيَقِينِ كَانَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَتَوْحِيدُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ مَبْدَأَ الْعِبَادَةِ لِأَنَّ مَنْ أَشْرَكَ مَعَ الْمُسْتَحِقِّ مَا لَيْسَ بِمُسْتَحِقٍّ فَقَدْ تَبَاعَدَ عَنِ التَّذَلُّلِ وَالْخُضُوعِ لَهُ. فَالْمُخَاطَبُ بِالْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْعَرَبِ وَالدَّهْرِيُّونَ مِنْهُمْ وَأَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ وَاجِبِ الْعِبَادَةِ مِنْ إِثْبَاتِ الْخَالِقِ وَمِنْ تَوْحِيدِهِ، وَمِنَ الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ، وَالْإِسْلَامِ لِلدِّينِ وَالِامْتِثَالِ لِمَا شَرَعَهُ إِلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ حَتَّى مُنْتَهَى الْعِبَادَةِ وَلَوْ بِالدَّوَامِ وَالْمُوَاظَبَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ فَإِنَّهُمْ مَشْمُولُونَ لِلْخِطَابِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، فَالْمَأْمُورِيَّةُ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ حَتَّى لَا يَلْزَمَ اسْتِعْمَالُ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعَانِيهِ عِنْد من يَأْبَى ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالَ وَإِنْ كُنَّا لَا نَأْبَاهُ إِذَا صَلَحَ لَهُ السِّيَاقُ بِدَلِيلِ تَفْرِيعِ قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً [الْبَقَرَة: ٢٢] عَلَى قَوْلِهِ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الْآيَةَ. فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُجَّةٌ لِلْقَوْلِ بِخِطَابِ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ إِنَّمَا يُعْنَى بِهِ الْإِيمَانُ وَالتَّوْحِيدُ وَتَصْدِيقُ الرَّسُولِ، وَخِطَابُهُمْ بِذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ سَمِجَةٌ.
وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي مَعْنَى الرَّبِّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [٢]. وَوَجْهُ الْعُدُولِ عَنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْإِضَافَةِ مِنْ طُرُقِ التَّعْرِيفِ نَحْوُ الْعَلَمِيَّةِ إِذْ لَمْ يَقُلِ اعْبُدُوا اللَّهَ، لِأَنَّ فِي الْإِتْيَانِ بِلَفْظِ الرَّبِّ إِيذَانًا بِأَحَقِّيَّةِ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ فَإِنَّ الْمُدَبِّرَ لِأُمُورِ الْخَلْقِ هُوَ جَدِيرٌ بِالْعِبَادَةِ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى الشُّكْرِ وَإِظْهَارَ الِاحْتِيَاجِ.
وَإِفْرَادُ اسْمِ الرَّبِّ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ رَبُّ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ رَبٌّ يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ بِالْإِفْرَادِ وَالْإِضَافَةِ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ أَشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ آلِهَةً إِلَّا أَنَّ بَعْضَ الْقَبَائِلِ كَانَ لَهَا مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِبَعْضِ الْأَصْنَامِ، كَمَا كَانَ لِثَقِيفٍ
وَالْكَبِيرُ فِي الْأَصْلِ هُوَ عَظِيمُ الْجُثَّةِ مِنْ نَوْعِهِ، وَهُوَ مَجَازٌ فِي الْقَوِيِّ وَالْكَثِيرِ وَالْمُسِنِّ وَالْفَاحِشِ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، شَبَّهَ الْقَوِيَّ فِي نَوْعِهِ بِعَظِيمِ
الْجُثَّةِ فِي الْأَفْرَادِ، لِأَنَّهُ مَأْلُوفٌ فِي أَنَّهُ قَوِيٌّ، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْعَظِيمِ فِي الْمَآثِمِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، مِثْلَ تَسْمِيَةِ الذَّنْبِ كَبِيرَةً،
وَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ»
الْحَدِيثَ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقِتَالَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ إِثْمٌ كَبِيرٌ، فَالنَّكِرَةُ هُنَا لِلْعُمُومِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، إِذْ لَا خُصُوصِيَّةَ لِقِتَالِ قَوْمٍ دُونَ آخَرِينَ، وَلَا لِقَتْلٍ فِي شَهْرٍ دُونَ غَيْرِهِ، لَا سِيَّمَا وَمُطَابَقَةُ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ قَدْ أَكَّدَتِ الْعُمُومَ، لِأَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ حُكْمُ هَذَا الْجِنْسِ وَهُوَ الْقِتَالُ فِي هَذَا الْجِنْسِ وَهُوَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، فَإِنَّ أَجْدَرَ أَفْرَادِ الْقِتَالِ بِأَنْ يَكُونَ مُبَاحًا هُوَ قِتَالُنَا الْمُشْرِكِينَ وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ التَّحَرُّجُ مِنْهُ، أَمَّا تَقَاتُلُ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَخْتَصُّ إِثْمُهُ بِوُقُوعِهِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَأَمَّا قِتَالُ الْأُمَمِ الْآخَرِينَ فَلَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ حِينَئِذٍ.
وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَتَقْرِيرٌ لِمَا لِتِلْكَ الْأَشْهَرِ مِنَ الْحُرْمَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهَا مُنْذُ زَمَنٍ قَدِيمٍ، لَعَلَّهُ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ حُرْمَةَ الزَّمَانِ تَقْتَضِي تَرْكَ الْإِثْمِ فِي مُدَّتِهِ.
وَهَذِهِ الْأَشْهُرُ هِيَ زَمَنٌ لِلْحَجِّ وَمُقَدِّمَاتِهِ وَخَوَاتِمِهِ وَلِلْعُمْرَةِ كَذَلِكَ فَلَوْ لَمْ يَحْرُمِ الْقِتَالُ فِي خِلَالِهَا لِتَعَطَّلَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، وَلِذَلِكَ أَقَرَّهَا الْإِسْلَامُ أَيَّامَ كَانَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ مُشْرِكُونَ لِفَائِدَةِ الْمُسْلِمِينَ وَفَائِدَةِ الْحَجِّ، قَالَ تَعَالَى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ [الْمَائِدَة: ٩٧] الْآيَةَ.
وَتَحْرِيمُ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ قَدْ خُصِّصَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ نُسِخَ، فَأَمَّا تَخْصِيصُهُ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ إِلَى قَوْلِهِ: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [الْبَقَرَة: ١٩١، ١٩٤]. وَأَمَّا نَسْخُهُ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إِلَى قَوْلِهِ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التَّوْبَة: ١، ٥] فَإِنَّهَا صَرَّحَتْ بِإِبْطَالِ الْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدَ الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْهُدْنَةِ، وَهُوَ الْعَهْدُ الْوَاقِعُ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَهْدًا مُؤَقَّتًا بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ وَلَا بِالْأَبَدِ، وَلِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ
وَالْمُحَاجَّةُ مُفَاعَلَةٌ مُتَصَرِّفَةٌ مِنَ الْحُجَّةِ، وَهِيَ الدَّلِيلُ الْمُؤَيِّدُ لِلدَّعْوَى. وَلَا يُعْرَفُ لِهَذِهِ الْمُفَاعَلَةِ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ بِمَعْنَى اسْتَدَلَّ بِحُجَّةٍ، وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ فِعْلُ حَجَّ إِذَا غَلَبَ فِي الْحُجَّةِ، فَإِنْ كَانَتِ احْتِجَاجًا مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَهِيَ حَقِيقَةٌ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مُحَاوِلَ الْغَلَبِ فِي الْحُجَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَلَقَّى مِنْ خَصْمِهِ مَا يَرُدُّ احْتِجَاجَهُ فَتَحْصُلُ الْمُحَاوَلَةُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَبِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ أُطْلِقَ عَلَى الِاحْتِجَاجِ مُحَاجَّةٌ، أَوِ الْمُفَاعَلَةُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَالْأَوْلَى حَمْلُهَا هُنَا عَلَى الْحَقِيقَةِ بِأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى حُصُولَ مُحَاجَّةٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ.
وَذَكَرَ الشَّيْخُ ابْنُ عَرَفَةَ فِي دَرْسِ تَفْسِيرِهِ: أَنَّ صِيغَةَ الْمُفَاعَلَةِ تَقْتَضِي أَنَّ الْمَجْعُولَ فِيهَا
فَاعِلًا هُوَ الْبَادِئُ بِالْمُحَاجَّةِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ اسْتَشْكَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٨] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ حَيْثُ قَالَ: إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [الْبَقَرَة: ٢٥٨]. فَبَدَأَ بِكَلَامِ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ مَفْعُولُ الْفِعْلِ وَأَجَابَ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بَدَأَ بِالْمُقَاوَلَةِ وَنُمْرُوذَ بَدَأَ الْمُحَاجَّةَ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ هَذَا الْقَيْدَ فِي اسْتِعْمَالِ صِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُمْ سَلَكُوا مَعَهُ طَرِيقَ الْحُجَّةِ عَلَى صِحَّةِ دِينِهِمْ أَوْ عَلَى إِبْطَالِ مُعْتَقَدِهِ وَهُوَ يَسْمَعُ، فَجَعَلَ سَمَاعَهُ كَلَامَهُمْ بِمَنْزِلَةِ جَوَابٍ مِنْهُ فَأَطْلَقَ عَلَى ذَلِكَ كَلِمَةَ الْمُحَاجَّةِ. وَأَبْهَمَ احْتِجَاجَهُمْ هُنَا إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ لِأَنَّ الْغَرَضَ هُوَ الِاعْتِبَارُ بِثَبَاتِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى الْحَقِّ. وَحَذْفُ مُتَعَلِّقِ حاجَّهُ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ، وَدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ:
أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ الْآيَاتِ.
وَقَدْ ذُكِرَتْ حُجَجُهُمْ فِي مَوَاضِع فِي الْقُرْآنِ، مِنْهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٥٢- ٥٦] إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [٧٢، ٧٣] قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ الْآيَاتِ، وَفِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [٨٥- ٩٨] إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ- إِلَى قَوْلِهِ- فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ وَكُلُّهَا مُحَاجَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَيَدْخُلُ فِي الْمُحَاجَّةِ مَا لَيْسَ
مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ [الْأَنْفَال: ٢٢]- وَقَوْلِهِ- وَاتَّقُوا فِتْنَةً [الْأَنْفَال:
٢٥] الْآيَةَ، وَرُتِّبَ عَلَى التَّقْوَى: الْوَعْدُ بِالنَّصْرِ وَمَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ وَسَعَةُ الْفَضْلِ.
وَالْفُرْقَانُ أَصْلُهُ مَصْدَرٌ كالشكران والغفران والبتان، وَهُوَ مَا يُفَرِّقُ أَيْ يُمَيِّزُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ
مُتَشَابِهَيْنِ، وَقَدْ أُطْلِقَ بِالْخُصُوصِ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ التَّفْرِقَةِ فَأُطْلِقَ عَلَى النَّصْرِ، لِأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ حَالَيْنِ كَانَا مُحْتَمَلَيْنِ قَبْلَ ظُهُورِ النَّصْرِ، وَلُقِّبَ الْقُرْآنُ بِالْفُرْقَانِ لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، قَالَ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ [الْفرْقَان: ١] وَلَعَلَّ اخْتِيَارَهُ هُنَا لِقَصْدِ شُمُولِهِ مَا يَصْلُحُ لِلْمَقَامِ مِنْ مَعَانِيهِ، فَقَدْ فُسِّرَ بِالنَّصْرِ، وَعَنِ السُّدِّيِّ، وَالضَّحَّاكِ، وَمُجَاهِدٍ، الْفُرْقَانُ الْمَخْرَجُ، وَفِي «أَحْكَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ»، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ أَنَّهُمْ سَأَلُوا مَالِكًا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً قَالَ مَخْرَجًا ثُمَّ قَرَأَ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطَّلَاق:
٣]، وَفُسِّرَ بِالتَّمْيِيزِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ فِي الْأَحْوَالِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ فِيهَا التَّمَايُزُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا، فَيَشْمَلُ ذَلِكَ أَحْوَالُ النَّفْسِ: مِنَ الْهِدَايَةِ، وَالْمَعْرِفَةِ، وَالرِّضَى، وَانْشِرَاحِ الْقَلْبِ، وَإِزَالَةِ الْحِقْدِ وَالْغِلِّ وَالْحَسَدِ بَيْنَهُمْ، وَالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَذَمِيمِ الْخَلَائِقِ.
وَقَدْ أَشْعَرَ قَوْلُهُ: لَكُمْ أَنَّ الْفُرْقَانَ شَيْءٌ نَافِعٌ لَهُمْ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كُلُّ مَا فِيهِ مَخْرَجٌ لَهُمْ وَنَجَاةٌ مِنَ الْتِبَاسِ الْأَحْوَالِ وَارْتِبَاكِ الْأُمُورِ وانبهام الْمَقَاصِد، فيؤول إِلَى اسْتِقَامَةِ أَحْوَالِ الْحَيَاةِ، حَتَّى يَكُونُوا مطمئني البال منشر حَيّ الْخَاطِرِ وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونُوا:
مَنْصُورِينَ، غَالِبِينَ، بصراء بالأمور، كلمة الْأَخْلَاقِ سَائِرِينَ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ وَالرُّشْدِ، وَذَلِكَ هُوَ مِلَاكُ اسْتِقَامَةِ الْأُمَمِ، فَاخْتِيَارُ الْفُرْقَانِ هُنَا، لِأَنَّهُ اللَّفْظُ الَّذِي لَا يُؤَدِّي غَيْرُهُ مُؤَدَّاهُ فِي هَذَا الْغَرَضِ وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْفَصَاحَةِ.
وَالتَّقْوَى تَشْمَلُ التَّوْبَةُ، فَتَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ تَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ الْفَارِطَةِ الَّتِي تَعْقُبُهَا التَّقْوَى. وَمَفْعُولُ يَغْفِرْ لَكُمْ، مَحْذُوفٌ وَهُوَ مَا يَسْتَحِقُّ الْغُفْرَانَ وَذَلِكَ هُوَ الذَّنْبُ، وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الذُّنُوبِ. وَهُوَ الصَّغَائِرُ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِاللَّمَمِ، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ بِأَنْ يُرَادَ بِالسَّيِّئَاتِ الصَّغَائِرُ وَبِالْمَغْفِرَةِ مَغْفِرَةُ الْكَبَائِرِ بِالتَّوْبَةِ الْمُعْقِبَةِ لَهَا، وَقِيلَ التَّكْفِيرُ السِّتْرُ فِي الدُّنْيَا، وَالْغُفْرَانُ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهَا فِي
الْقُرْآنِ وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ، لِأَنَّهُمْ يَجْهَلُونَ مَرَاتِبَ أَهْلِ الِاصْطِفَاءِ وَيَزِنُونَهُمْ بِمِعْيَارِ مَوَازِينِ نُفُوسِهِمْ، فَحَسِبُوا مَا يَأْتُونَهُ مِنَ الْخُزَعْبَلَاتِ مُثَبِّطًا لَهُ وَمُوشِكًا لِأَنْ يَصْرِفَهُ عَنْ دَعْوَتِهِمْ.
وَسَبِيلُ الرَّبِّ: طَرِيقُهُ. وَهُوَ مُجَازٌ لِكُلِّ عَمَلٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُبَلِّغَ عَامِلَهُ إِلَى رِضَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي يَحْصُلُ لِعَامِلِهِ غَرَضٌ مَا يُشْبِهُ الطَّرِيقَ الْمُوصِلَ إِلَى مَكَانٍ مَقْصُودٍ، فَلِذَلِكَ يُسْتَعَارُ اسْمُ السَّبِيلِ لِسَبَبِ الشَّيْءِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ فِي وَقْتِ الْأَمْرِ بِمُهَادَنَةٍ قُرَيْشٍ، أَيْ فِي مُدَّةِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ.
وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ عَقِبَ غَزْوَةِ أُحُدٍ لَمَّا أَحْزَنَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْظَرُ الْمُثْلَةِ بِحَمْزَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَقَالَ: «لَأَقْتُلَنَّ مَكَانَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ»
. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ.
وَلَا أَحْسَبُ مَا ذَكَرَاهُ صَحِيحًا. وَلَعَلَّ الَّذِي غَرَّ مَنْ رَوَاهُ قَوْلُهُ: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النَّحْل: ١٢٦] كَمَا سَيَأْتِي، بَلْ مَوْقِعُ الْآيَةِ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى إِيجَادِ سَبَبِ نُزُولٍ.
وَإِضَافَةُ سَبِيلِ إِلَى رَبِّكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّهَ أَرْشَدَ إِلَيْهِ وَأَمَرَ بِالْتِزَامِهِ. وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ تَجْرِيدٌ لِلِاسْتِعَارَةِ. وَصَارَ هَذَا الْمُرَكَّبُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [سُورَة الْأَنْفَال: ٣٦]، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَفِي قَوْلِهِ عَقِبَهُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [سُورَة النَّحْل:
١٢٥].
وَيُطْلَقُ سَبِيلُ اللَّهِ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ أَيْضًا عَلَى نُصْرَةِ الدَّيْنِ بِالْقِتَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [سُورَة التَّوْبَة: ٤١].
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْحِكْمَةِ لِلْمُلَابَسَةِ، كَالْبَاءِ فِي قَوْلِ الْعَرَبِ لِلْمُعَرِّسِ: بِالرِّفَاءِ
وَالْبَنِينَ، بِتَقْدِيرِ: أَعْرَسْتَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، وَهِيَ إِمَّا مُتَعَلِّقَةٌ بِ ادْعُ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ ادْعُ.
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : الْآيَات ٤٢ إِلَى ٤٣]
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣)كَانَ صَاحِبُهُ الْمُؤْمِنُ رَجُلًا صَالِحًا فَحَقَّقَ اللَّهُ رَجَاءَهُ، أَوْ كَانَ رَجُلًا مُحَدَّثًا مِنْ مُحَدَّثِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَوْ مِنْ مُحَدَّثِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمَعْنِيِّ بِالرَّجُلَيْنِ فِي الْآيَةِ، أَلْهَمَهُ اللَّهُ مَعْرِفَةَ مَا قَدَّرَهُ فِي الْغَيْبِ مِنْ عِقَابٍ فِي الدُّنْيَا لِلرَّجُلِ الْكَافِرِ الْمُتَجَبِّرِ.
وَإِنَّمَا لَمْ تُعْطَفْ جُمْلَةُ وَأُحِيطَ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ عَلَى رَجَاءِ صَاحِبِهِ الْمُؤْمِنِ إِذْ لَمْ يَتَعَلَّقِ الْغَرَضُ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ، وَإِنَّمَا الْمُهِمُّ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حَادِثٌ حَلَّ بِالْكَافِرِ عِقَابًا لَهُ عَلَى كُفْرِهِ لِيَعْلَمَ السَّامِعُونَ أَنَّ ذَلِكَ جَزَاءُ أَمْثَالِهِ وَأَنْ لَيْسَ بِخُصُوصِيَّةٍ لِدَعْوَةِ الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ.
وَالْإِحَاطَةُ: الْأَخْذُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، مَأْخُوذَةٌ مِنْ إِحَاطَةِ الْعَدُوِّ بِالْقَوْمِ إِذَا غَزَاهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٦٦] وَقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ
أَحاطَ بِالنَّاسِ
فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٦٠].
وَالْمَعْنَى: أُتْلِفَ مَالُهُ كُلُّهُ بِأَنْ أَرْسَلَ عَلَى الْجنَّة وَالزَّرْع حسبان مِنَ السَّمَاءِ فَأَصْبَحَتْ صَعِيدًا زَلَقًا وَهَلَكَتْ أَنْعَامُهُ وَسُلِبَتْ أَمْوَالُهُ، أَوْ خُسِفَ بِهَا بِزَلْزَالٍ أَوْ نَحْوِهِ.
وَتَقَدَّمَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي لَفْظِ ثَمَرٌ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ [الْكَهْف: ٣٤].
عَلَى الْإِغْرَاءِ بِالْأَكْلِ مِنْهَا الْمَحْكِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٢٠] قالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ، وَلَمْ يَدُلُّهُ الشَّيْطَانُ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ بَلْ كَذَّبَهُ وَدَلَّهُ عَلَى شَجَرَةٍ أُخْرَى بِآيَةِ أَنَّ آدَمَ لَمْ يُخَلَّدْ، فَحَصَلَ لِآدَمَ تَوَهُّمُ أَنَّهُ إِذَا أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي دَلَّهُ عَلَيْهَا الشَّيْطَانُ أَنْ يَخْلُدَ فِي الْحَيَاةِ.
وَالدَّلَالَةُ: الْإِرْشَادُ إِلَى شَيْءٍ مَطْلُوبٍ غَيْرِ ظَاهِرٍ لِطَالِبِهِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى الشَّجَرَةِ لِقَصْدِ الْأَكْلِ مِنْ ثَمَرَتِهَا.
وَسَمَّاهَا هُنَا شَجَرَةِ الْخُلْدِ بِالْإِجْمَالِ لِلتَّشْوِيقِ إِلَى تَعْيِينِهَا حَتَّى يُقْبِلَ عَلَيْهَا، ثُمَّ عَيَّنَهَا لَهُ عَقِبَ ذَلِكَ بِمَا أَنْبَأَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَكَلا مِنْها [طه: ١٢١].
وَقَدْ أَفْصَحَ هَذَا عَنِ اسْتِقْرَارِ مَحَبَّةِ الْحَيَاةِ فِي جِبِلَّةِ الْبَشَرِ.
وَالْمُلْكُ: التَّحَرُّرُ مِنْ حُكْمِ الْغَيْرِ، وَهُوَ يُوهِمُ آدَمَ أَنَّهُ يَصِيرُ هُوَ الْمَالِكُ لِلْجَنَّةِ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا غَيْرَ مَأْمُورٍ لِآمِرٍ.
وَاسْتُعْمِلَ الْبِلَى مَجَازًا فِي الِانْتِهَاءِ، لِأَنَّ الثَّوْبَ إِذَا بَلِيَ فَقَدِ انْتهى لبسه.
[١٢١- ١٢٢]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ١٢١ إِلَى ١٢٢]
فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢)
تَفْرِيعٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ دَلَّ عَلَيْهَا الْعَرْضُ، أَيْ فَعَمِلَ آدَمُ بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فَأَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ وَأَكَلَتْ حَوَّاءُ مَعَهُ.
[سُورَة الْحَج (٢٢) : آيَة ٦٦]
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦)وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بَعْدَ أَنْ أُدْمِجَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْبَعْثِ بِالْمَوَاعِظِ وَالْمِنَنِ وَالتَّذْكِيرِ بِالنِّعَمِ أُعِيدَ الْكَلَامُ عَلَى الْبَعْثِ هُنَا بِمَنْزِلَةِ نَتِيجَةِ الْقِيَاسِ، فَذُكِرَ الْمُلْحِدُونَ بِالْحَيَاةِ الْأُولَى الَّتِي لَا رَيْبَ فِيهَا، وَبِالْإِمَاتَةِ الَّتِي لَا يَرْتَابُونَ فِيهَا، وَبَانَ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ إِحْيَاءٌ آخَرُ كَمَا أُخِذَ مِنَ الدَّلَائِلِ السَّابِقَةِ.
وَهَذَا مَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ، فَجُمْلَةُ وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ [الْحَج: ٦٥] لِأَنَّ صَدْرَ هَذِهِ مِنْ جُمْلَةِ النِّعَمِ فَنَاسَبَ أَنْ تُعْطَفَ عَلَى سَابِقَتِهَا الْمُتَضَمَّنَةِ امْتِنَانًا وَاسْتِدْلَالًا كَذَلِكَ.
إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ تَذْيِيلٌ يَجْمَعُ الْمَقْصِدَ مِنْ تَعْدَادِ نِعَمِ الْمُنْعِمِ بِجَلَائِلِ النِّعَمِ الْمُقْتَضِيَةِ انْفِرَادَهُ بِاسْتِحْقَاقِ الشُّكْرِ وَاعْتِرَافَ الْخَلْقِ لَهُ بِوَحْدَانِيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ.
وَتَوْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ (إِنَّ) لَتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ أَنَّهُمْ كُفَرَاءُ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْإِنْسانَ تَعْرِيفُ الِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ الْمُؤْذِنِ بِأَكْثَرِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: جَمَعَ الْأَمِيرُ الصَّاغَةَ، أَيْ صَاغَةَ بَلَدِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشُّعَرَاء: ٣٨]. وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ الْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ مُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ، أَوْ أُرِيدَ بِالْإِنْسَانِ خُصُوصُ الْمُشْرِكِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مَرْيَم:
٦٦].
وَالْكَفُورُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْكَافِرِ، لِأَنَّ كُفْرَهُمْ كَانَ عَنْ تَعَنُّتٍ وَمُكَابَرَةٍ.
وَعَبَّرَ عَنْ مُنْزِلِ الْقُرْآنِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِ لِمَا تَقْتَضِيهِ الصِّلَةُ مِنِ اسْتِشْهَادِ الرَّسُولِ اللَّهَ عَلَى مَا فِي سِرِّهِ لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ كُلَّ سِرٍّ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
فَجُمْلَةُ الصِّلَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي لَازِمِ الْفَائِدَةِ وَهُوَ كَوْنُ الْمُتَكَلِّمِ، أَيِ الرَّسُولِ، عَالِمًا بِذَلِكَ. وَفِي ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ مُرَاقَبَتِهِ اللَّهَ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنْهُ. وَفِي ذَلِكَ إِيقَاظٌ لَهُمْ بِأَنْ يَتَدَبَّرُوا فِي هَذَا الَّذِي زَعَمُوهُ إِفْكًا أَوْ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ لِيَظْهَرَ لَهُمُ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْحَقَائِقِ النَّاصِعَةِ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ، فَيُوقِنُوا أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ إِنْزَالِهِ، وَلِيَعْلَمُوا بَرَاءَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ بِمَنْ زَعَمُوهُمْ يُعِينُونَهُ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي السِّرَّ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ يَسْتَغْرِقُ كُلَّ سِرٍّ، وَمِنْهُ إِسْرَارُ الطَّاعِنِينَ فِي الْقُرْآنِ عَنْ مُكَابَرَةٍ وَبُهْتَانٍ، أَيْ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا يَعْتَقِدُونَهُ ظُلْمًا وَزُورًا مِنْهُمْ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ مُوقِعُ جُمْلَةِ: إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي الْإِقْلَاعِ عَنْ هَذِهِ الْمُكَابَرَةِ وَفِي اتِّبَاعِ دِينِ الْحَقِّ لِيَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وَيَرْحَمَهُمْ، وَذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُقْلِعُوا وَيَتُوبُوا حَقَّ عَلَيْهِمُ الْغَضَبُ وَالنِّقْمَةُ.
[٧- ٩]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : الْآيَات ٧ الى ٩]
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩)
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها.
انْتِقَالٌ مِنْ حِكَايَةِ مَطَاعِنِهِمْ فِي الْقُرْآنِ وَبَيَانِ إِبْطَالِهَا إِلَى حِكَايَةِ مَطَاعِنِهِمْ فِي الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَمَدْلُولُ الصِّفَةِ مُرَاعًى كَمَا تَقَدَّمَ.
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [النَّجْم: ١٩- ٢٣].
فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ جِيءَ فِي جَانِبِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْتِفَاءِ تَأْثِيرِ الْأَصْنَامِ فِي الْعَوَالِمِ السَّمَاوِيَّةِ بِإِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ لَهَا شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ لِأَنَّهُمْ لَا يَدَّعُونَ لَهَا فِي مَزَاعِمِهِمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
وَلَمَّا قَضَى حَقُّ الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ عَلَى انْتِفَاءِ إِلَهِيَّةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ انْتَقَلَ إِلَى انْتِفَاءِ الْحُجَّةِ السَّمْعِيَّةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الْمُثْبِتَةِ آلِهَةً دُونَهُ لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِشُرَكَائِهِ وَأَنْدَادِهِ لَوْ كَانُوا، فَقَالَ تَعَالَى: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ على بَيِّنَات مِنْهُ الْمَعْنَى: بَلْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ حُجَّةٍ فِيهِ تُصَرِّحُ بِإِلَهِيَّةِ هَذِهِ الْآلِهَةِ الْمَزْعُومَةِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ عَلَى بَيِّنَاتٍ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ عَلى بَيِّنَةٍ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ.
فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجَمْعِ فَوَجْهُهَا أَنَّ شَأْنَ الْكِتَابِ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى أَحْكَامٍ عَدِيدَةٍ وَمَوَاعِظَ مُكَرَّرَةٍ لِيَتَقَرَّرَ الْمُرَادُ مِنْ إِيتَاءِ الْكُتُبِ مِنَ الدَّلَالَةِ الْقَاطِعَةِ بِحَيْثُ لَا تَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا وَلَا مُبَالَغَةً وَلَا نَحْوَهَا عَلَى حَدِّ قَوْلِ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ فِي دَلَالَةِ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْإِفْرَادِ فَالْمُرَادُ مِنْهَا جِنْسُ الْبَيِّنَةِ الصَّادِقُ بِأَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ.
وَوَصْفُ الْبَيِّنَاتِ أَوِ الْبَيِّنَةِ ب مِنْهُ للدلالة عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ كَوْنُ الْكِتَابِ الْمَفْرُوض إيتاؤه إيَّاهُم مُشْتَمِلًا عَلَى حُجَّةٍ لَهُمْ تُثْبِتُ إِلَهِيَّةَ الْأَصْنَامِ. وَلَيْسَ مُطْلَقُ كِتَابٍ يُؤْتُونَهُ أَمَارَةً مِنَ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ رَاضٍ مِنْهُمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ كَدَلَالَةِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ، وَلَيْسَتِ الْخَوَارِقُ نَاطِقَةً بِأَنَّهُ صَادِق فَأُرِيد: أآتيناهم كِتَابًا نَاطِقًا مِثْلَ مَا آتَيْنَا الْمُسْلِمِينَ الْقُرْآنَ.
ثُمَّ كَرَّ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ الْإِبْطَالَ بِوَاسِطَةِ بَلْ، بِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مُنْتَفٍ وَأَنَّهُمْ لَا بَاعِثَ لَهُمْ عَلَى مَزَاعِمِهِمُ الْبَاطِلَةِ إِلَّا وَعْدُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا مَوَاعِيدَ كَاذِبَةً يَغُرُّ بَعْضُهُمْ بِهَا بَعْضًا.
وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ يَعِدُونَهُمْ رُؤَسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَقَادَتُهُمْ بالموعودين عَامَّتُهُمْ وَدُهْمَاؤُهُمْ،
لَكَانَتْ تِلْكَ النِّسْبَةُ التَّبَنِّيَ لَا غَيْرَ إِذْ لَا تتعقل بنوة لله غَيْرَ التَّبَنِّي وَلَوْ كَانَ اللَّهُ مُتَبَنِّيًا لَاخْتَارَ مَا هُوَ الْأَلْيَقُ بِالتَّبَنِّي مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ دُونَ الْحِجَارَةِ الَّتِي زَعَمْتُمُوهَا بَنَاتٍ لِلَّهِ. وَإِذَا بَطَلَتْ بُنُوَّةُ تِلْكَ الْأَصْنَامِ الثَّلَاثَةِ الْمَزْعُومَةِ بَطَلَتْ إِلَهِيَّةُ سَائِرِ الْأَصْنَامِ الْأُخْرَى الَّتِي اعْتَرَفُوا بِأَنَّهَا فِي مَرْتَبَةٍ دُونَ مَرْتَبَةِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَاتِّفَاقِ الْخَصْمَيْنِ فَقَدِ اقْتَضَى الْكَلَامُ دَلِيلَيْنِ: طُوِيَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ دَلِيلُ اسْتِحَالَةِ الْوَلَدِ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذُكِرَ دَلِيلُ إِبْطَالِ التبنّي لما لايليق أَنْ يَتَبَنَّاهُ الْحَكِيمُ.
هَذَا وَجْهُ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيَانِ وَقْعِهَا مِمَّا قَبْلَهَا وَبِهِ تَخْرُجُ عَنْ نِطَاقِ الْحَيْرَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الْمُفَسِّرُونَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَ تَعَسُّفٍ فِي مَعْنَاهَا وَنَظْمِهَا وَمَوْقِعِهَا، وَلَمْ يَتِمَّ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ وَجْهُ الْمُلَازِمَةِ بَيْنَ شَرْطِ لَوْ وَجَوَابِهَا، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ عَنْ تَفْسِيرِهَا. فَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» مَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ زَعْمِ الْمُشْرِكِينَ بُنُوَّةُ الْمَلَائِكَةِ وَجَعْلُ جَوَابِ لَوْ مَحْذُوفًا وَجَعْلُ الْمَذْكُورِ فِي مَوْضِعِ الْجَوَابِ إِرْشَادًا إِلَى الِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ فِي الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ: «يَعْنِي لَوْ أَرَادَ اللَّهُ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ لَامْتَنَعَ، وَلَمْ يَصِحَّ لِكَوْنِهِ (أَيْ ذَلِكَ الِاتِّخَاذُ) مُحَالًا
وَلَمْ يَتَأَتَّ إِلَّا أَنْ يَصْطَفِيَ مِنْ خَلْقِهِ بَعْضَهُ وَيَخْتَصَّهُمْ وَيُقَرِّبَهُمْ كَمَا يَخْتَصُّ الرَّجُلُ وَلَدَهُ وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْمَلَائِكَةِ فغرّكم اخْتِصَاصه إِيَّاهُمْ فَزَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ أَوْلَادُهُ جَهْلًا مِنْكُمْ بِحَقِيقَتِهِ الْمُخَالَفَةِ لحقائق الْأَجْسَام والأعراض». فَجُعِلَ مَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ جَوَابُ لَوْ مُفِيدًا مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ الَّذِي يَعْقُبُ الْمُقَدَّمَ وَالتَّالِيَ غَالِبًا، فَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ بِمُرَادِفِهِ وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ الَّذِي هُوَ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ.
وَلِلْتَفْتَزَانِيِّ بَحْثٌ يَقْتَضِي عَدَمَ اسْتِقَامَةِ تَقْرِيرِ «الْكَشَّافِ» لِدَلِيلِ شَرْطِ لَوْ وَجَوَابِهِ، وَاسْتَظْهَرَ أَنَّ لَوْ صُهَيْبِيَّةٌ تَبَعًا لِتَقْرِيرِ ذكره صَاحب «الْكَشْف». وَبَعْدُ فَإِنَّ كَلَامَ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» يَجْعَلُ هَذِهِ الْآيَةَ مُنْقَطِعَةً عَنِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَيَجْعَلُهَا بِمَنْزِلَةِ غَرَضٍ مُسْتَأْنَفٍ مَعَ أَنَّ نَظْمَ الْآيَةِ نَظْمُ الِاحْتِجَاجِ لَا نَظْمُ الْإِفَادَةِ، فَكَانَ مَحْمَلُ «الْكَشَّافِ» فِيهَا بَعِيدًا. وَمَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ هَذَا فَإِنَّ فِي تَقْرِيرِ الْمُلَازَمَةِ فِي الِاسْتِدْلَالِ خَفَاءً وَتَعَسُّفًا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّقَّارُ فِي كِتَابِهِ «التَّقْرِيبُ مُخْتَصَرُ الْكَشَّافِ».
مِنْ عِنْدِهِ مُنَاسِبٌ لِحِكْمَتِهِ، فَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى دَلَائِلِ الْيَقِينِ وَالْحَقِيقَةِ، فَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِعْجَازَهُ، مِنْ جَانِبِ بَلَاغَتِهِ إِذْ غَلَبَتْ بَلَاغَةُ بُلَغَائِهِمْ، وَمِنْ جَانِبِ مَعَانِيهِ إِذْ أَعْجَزَتْ حِكْمَتُهُ حِكْمَةَ الْحُكَمَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَثِيلُ هَذَا فِي طَالِعَةِ سُورَةِ الزُّمَرِ وَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي طَالِعَةِ سُورَة غَافِر.
[٣- ٥]
[سُورَة الجاثية (٤٥) : الْآيَات ٣ إِلَى ٥]
إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥)
مَوْقِعُ هَذَا الْكَلَامِ مَوْقِعُ تَفْصِيلِ الْمُجْمَلِ لِمَا جَمَعَتْهُ جُمْلَةُ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الجاثية: ٢] بِاعْتِبَارِ أَنَّ آيَاتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا إِنَّمَا كَانَتْ آيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُوقِنِينَ، وَلِلَّذِينِ حَصَلَ لَهُمُ الْعِلْمُ بِسَبَبِ مَا ذَكَّرَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ [الجاثية: ٦].
وَأُكِّدَ بِ إِنَّ وَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُونَ غَيْرَ مُنْكِرِيهِ لِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ لِذَلِكَ بِسَبَبِ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِمَا فِي هَذِهِ الْكَائِنَاتِ مِنْ دِلَالَةٍ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [٩].
وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَلِذَلِكَ قَالَ: لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَقَالَ: آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: لَآيَاتٍ لَكُمْ أَوْ آيَاتٌ لَكُمْ، أَيْ هِيَ آيَاتٌ لِمَنْ يَعْلَمُونَ دَلَالَتَهَا مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ وَمِنَ الَّذِينَ يُوقِنُونَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ لَا أَثَرَ لَهَا فِي نُفُوسِ مَنْ هُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ الْآيَاتِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّ ذَاتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعِدَادَ صِفَاتِهَا دَلَائِلُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ فَجُعِلَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ بِمَنْزِلَةِ الظَّرْفِ لِمَا أُودِعَتْهُ
وَضْعُ الْيَدِ عَلَى شَيْءٍ وَضْعًا غَيْرَ شَدِيدٍ بِخِلَافِ الدَّفْعِ وَاللَّطْمِ. فَعَبَّرَ عَنْ نَفْيِ أَقَلِّ الْإِصَابَةِ بِنَفْيِ الْمَسِّ لِنَفْيِ أَضْعَفِ أَحْوَالِ الْإِصَابَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة: ٣] فَنَفْيُ قُوَّةِ الْإِصَابَةِ وَتَمَكُّنُهَا أَحْرَى.
وَاللُّغُوبُ: الْإِعْيَاءُ مِنَ الْجَرْيِ وَالْعَمَلِ الشَّدِيدِ.
[٣٩، ٤٠]
[سُورَة ق (٥٠) : الْآيَات ٣٩ إِلَى ٤٠]
فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠)
فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ.
تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ كُلُّهُ مِنْ قَوْلِهِ: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ [ق: ٢] الْآيَاتِ، وَمُنَاسَبَةُ وَقْعِهِ هَذَا الْمَوْقِعَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ [مَرْيَم: ٧٤] الْآيَةَ مِنَ التَّعْرِيضِ بتسلية النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ التَّكْذِيبِ بِمَا أَخْبَرْتَهُمْ مِنَ الْبَعْثِ وَبِالرِّسَالَةِ وَقَدْ جَمَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ الْمَوْصُولُ وَهُوَ مَا يَقُولُونَ.
وَضَمِيرُ يَقُولُونَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاعِظِ وَالنُّذُرِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ.
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠).
عَطْفٌ عَلَى فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ فَهُوَ مِنْ تَمَامِ التَّفْرِيعِ، أَيِ اصْبِرْ عَلَى أَقْوَالِ أَذَاهُمْ وَسُخْرِيَتِهِمْ. وَلَعَلَّ وَجْهَ هَذَا الْعَطْفِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يستهزئون بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ مِثْلَ قِصَّةِ إِلْقَاءِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ سَلَا الْجَزُورِ عَلَى ظهر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَجَدَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي حِجْرِ الْكَعْبَةِ فَأَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى أَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَهُ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [غَافِر: ٢٨] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى إِلَى قَوْلِهِ: كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق: ٩- ١٩].
فَالْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ: الصَّلَاةُ وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الصَّلَاةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَجْمَعَ
وَفِي قَوْلِهِ: الَّتِي تُورُونَ إِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ:
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ [الْوَاقِعَة: ٦٨].
وَهُوَ أَيْضًا وَصْفٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ الدَّلِيلِ وَهُوَ النَّارُ الَّتِي تَقْتَدِحُ مِنَ الزَّنْدِ لَا النَّارُ الْمُلْتَهِبَةُ. وَضَمِيرُ شَجَرَتِهَا عَائِدٌ إِلَى النَّارِ.
وَشَجَرَةُ النَّارِ: هِيَ جِنْسُ الشَّجَرِ الَّذِي فِيهِ حُرَّاقٌ، أَيْ مَا يُقْتَدَحُ مِنْهُ النَّارَ وَهُوَ شَجَرُ الزَّنْدِ أَوِ الزِّنَادِ وَأَشْجَارُ النَّارِ كَثِيرَةٌ مِنْهَا الْمَرْخُ (بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ) وَالْعَفَارُ (بِفَتْحِ الْعَيْنِ) وَالْعُشَرُ (بِضَمٍّ فَفَتْحٍ) وَالْكَلْخُ (بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ) وَمِنَ الْأَمْثَالِ «فِي كُلِّ شَجَرٍ نَارٌ، وَاسْتَمْجَدَ الْمَرْخُ وَالْعَفَارُ» أَيْ أَكْثَرَ مِنَ النَّارِ.
وتُورُونَ: مُضَارِعُ أَوْرَى الزَّنْدَ إِذَا حَكَّهُ بِمِثْلِهِ يَسْتَخْرِجُ مِنْهُ النَّارَ كَانُوا يَضَعُونَ عُودًا مِنْ شَجَرِ النَّارِ وَيَحُكُّونَهُ مِنْ أَعْلَاهُ بِعُودٍ مِثْلِهِ فَتَخْرُجُ النَّارُ مِنَ الْعُودِ الْأَسْفَلِ وَيُسَمَّى الْعُودُ الْأَعْلَى زَنْدًا (بِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ النُّونِ) وَزِنَادًا (بِكَسْرِ الزَّايِ) وَيُسَمَّى الْأَسْفَلُ زَنْدَةً بِهَاءِ تَأْنِيثٍ فِي آخِرِهِ، شَبَّهُوا الْعُودَ الْأَعْلَى بِالْفَحْلِ وَشَبَّهُوا الْعُودَ الْأَسْفَلَ بِالطَّرُوقَةِ وَقَدْ تَابَعَ ذُو الرُّمَّةِ هَذَا الْمَعْنَى فِي وَصْفِهِ الِاقْتِدَاحَ لِلنَّارِ فَقَالَ عَلَى شِبْهِ الْأَلْغَازِ:
وَسِقْطٍ كَعَيْنِ الدِّيكِ عَاوَرْتُ صَاحِبِي | أَبَاهَا وَهَيَّأْنَا لِمَوْقِعِهَا وَكْرًا |
مُشَهَّرَةٍ لَا تُمْكِنُ الْفَحْلَ أُمَّهَا | إِذَا نَحْنُ لَمْ نُمْسِكْ بِأَطْرَافِهَا قَسْرَا |
الَّتِي تُورُونَهَا.
وَتَعْدِيَةُ تُورُونَ إِلَى ضَمِيرِ النَّارَ تَعْدِيَةً عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ تُورُونَ شَجَرَتَهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها، وَقد شَاعَ هَذَا الْحَذْفُ فِي الْكَلَامِ فَقَالُوا:
أَوْرَى النَّارَ كَمَا قَالُوا: أَوَرَى الزِّنَادَ.
وَجُمْلَةُ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها إِلَخْ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ إِلَخْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ [الْوَاقِعَة: ٥٩].
رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا: «إِنَّمَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ عَلَى مَنْ لَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ»
. وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ. وَلَمْ يَقْبَلْهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: لَا نَتْرُكُ كِتَابَ الله وَسنة نبيئنا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي لَعَلَّهَا نَسِيَتْ أَوْ شُبِّهَ عَلَيْهَا. وَأَنْكَرَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِيمَا ذَكَرَتْهُ مِنْ أَنَّهُ أَذِنَ لَهَا فِي الِانْتِقَالِ إِلَى مَكَانٍ غَيْرِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ «روى عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ لِلْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنَةِ سُكْنَى»
(١). وَرَوَوْا أَنَّ قَتَادَةَ وَابْنَ أَبِي لَيْلَى أَخَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [الطَّلَاق: ١] إِذِ الْأَمْرُ هُوَ الْمُرَاجَعَةُ، فَقَصَرَا الطَّلَاقَ فِي قَوْلِهِ: إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطَّلَاق: ١]، عَلَى الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لِأَنَّ الْبَائِنَ لَا تَتَرَقَّبُ بَعْدَهُ مُرَاجَعَةً وَسَبَقَهَا إِلَى هَذَا الْمَأْخَذِ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ الْمَذْكُورَةُ.
رَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أَرْسَلَ إِلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ يَسْأَلُهَا عَنِ الْحَدِيثِ فَحَدَّثَتْهُ فَقَالَ مَرْوَانُ: لَمْ نَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا مِنَ الْمَرْأَةِ سَنَأْخُذُ بِالْعِصْمَةِ الَّتِي وَجَدْنَا عَلَيْهَا النَّاسَ فَبَلَغَ قَوْلُ مَرْوَانَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ فَقَالَتْ: «بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ الْقُرْآنُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، إِلَى قَوْلِهِ: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [الطَّلَاق: ١] قَالَتْ: هَذَا لِمَنْ كَانَتْ لَهُ رَجْعَةٌ فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلَاثِ» اه.
وَيَرُدُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ إِحْدَاثَ الْأَمْرِ لَيْسَ قَاصِرًا عَلَى الْمُرَاجَعَةِ فَإِنَّ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي يُحْدِثُهُ اللَّهُ أَنْ يُرَقِّقَ قُلُوبَهُمَا فَيَرْغَبَا مَعًا فِي إِعَادَةِ الْمُعَاشَرَةِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ. وَعَلَى تَسْلِيمِ اقْتِصَارِ
ذَلِكَ عَلَى إِحْدَاثِ أَمْرِ الْمُرَاجَعَةِ فَذِكْرُ هَذِهِ الْحِكْمَةِ لَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ عُمُومِ اللَّفْظِ الَّذِي قَبْلَهَا إِذْ يَكْفِي أَنْ تَكُونَ حِكْمَةً لِبَعْضِ أَحْوَالِ الْعَامِّ. فَالصَّوَابُ أَنَّ حَقَّ السُّكْنَى لِلْمُطَلَّقَاتِ كُلِّهِنَّ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ، أَيْ فِي الْبُيُوتِ الَّتِي تَسْكُنُونَهَا، أَيْ لَا يُكَلَّفُ الْمُطَلِّقُ بِمَكَانٍ لِلْمُطَلَّقَةِ غَيْرَ بَيْتِهِ وَلَا يَمْنَعُهَا السُّكْنَى بِبَيْتِهِ. وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطَّلَاق: ١].
_________
(١) هَكَذَا يروي الْمُفَسِّرُونَ عَن عمر: أَنه سمع من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِك وَلم أَقف عَلَيْهِ مُسْندًا.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ التَّفَاعُلِ مُسْتَعْمَلَةً فِي مَعْنَى تَكْرِيرِ الْفِعْلِ أَيْ يَكْثُرُ سُؤَالُ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ سُؤَالًا مُتَكَرِّرًا أَوْ هُوَ من تعدد السُّؤَال لأجل تعدد السَّائِلِينَ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ [١] «هُوَ كَقَوْلِكَ تَدَاعَيْنَا». وَنُقِلَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ هُنَا: «إِذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ مُفْرَدًا يُقَالُ: دَعَوْتُ، وَإِذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ مُتَعَدِّدًا يُقَالُ: تَدَاعَيْنَا، وَنَظِيرُهُ، رَمَيْتُهُ وَتَرَامَيْنَاهُ وَرَأَيْتُ الْهِلَالَ وَتَرَاءَيْنَاهُ وَلَا يَكُونُ هَذَا تَفَاعُلًا مِنَ الْجَانِبَيْنِ» اهـ. ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، أَيْ هُوَ فِعْلٌ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ ذِي عَدَدٍ كَثِيرٍ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَفْعُولُ يَتَساءَلُونَ مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَنِ الْمُجْرِمِينَ.
وَالتَّقْدِيرُ: يَتَسَاءَلُونَ الْمُجْرِمِينَ عَنْهُمْ، أَيْ عَنْ سَبَبِ حُصُولِهِمْ فِي سَقَرَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ بَيَانُ جُمْلَةِ يَتَساءَلُونَ بِجُمْلَةِ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، فَإِنَّ مَا سَلَكَكُمْ فِي بَيَانٍ لِلتَّسَاؤُلِ.
وَأَصْلُ معنى سلكه أدخلهُ بَين أَجْزَاءِ شَيْءٍ حَقِيقَةً وَمِنْهُ جَاءَ سِلْكُ الْعِقْدِ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلزَّجِّ بِهِمْ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [١٢] قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ وَفِي قَوْله: يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً فِي سُورَةِ الْجِنِّ [١٧]. وَالْمَعْنَى: مَا زُجَّ بِكُمْ فِي سَقَرَ.
فَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي أَصْلِ مَعْنَاهُ كَانَ الْبَاعِثُ عَلَى السُّؤَالِ:
إِمَّا نِسْيَانُ الَّذِي كَانُوا عَلِمُوهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَسْبَابِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فَيَبْقَى عُمُومُ يَتَساءَلُونَ الرَّاجِعُ إِلَى أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَعُمُومُ الْمُجْرِمِينَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَكُلٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ يُشْرِفُ عَلَى الْمُجْرِمِينَ مِنْ أَعَالِي الْجَنَّةِ فَيَسْأَلُهُمْ عَنْ سَبَبِ وُلُوجِهِمُ النَّارَ فَيَحْصُلُ جَوَابُهُمْ وَذَلِكَ إِلْهَامٌ مِنَ اللَّهِ لِيَحْمَدَهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ عَلَى مَا أَخَذُوا بِهِ مِنْ أَسْبَابِ نَجَاتِهِمْ مِمَّا أَصَابَ الْمُجْرِمِينَ وَيَفْرَحُوا بِذَلِكَ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سُؤَالًا مُوَجَّهًا مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ إِلَى نَاسٍ كَانُوا يَظُنُّونَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَرَأَوْهُمْ فِي النَّارِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَوِ الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ مَوْتِ أَصْحَابِهِمْ، فَيكون المُرَاد بِأَصْحَابِهِ الْيَمِينِ بَعْضَهُمْ وَبِالْمُجْرِمِينَ بَعْضَهُمْ وَهَذَا مِثْلُ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ الْآيَاتِ
وَلَمْ يُعَرِّجْ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى بَيَانِ نَظْمِ الْآيَةِ وَاتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا عَدَا الزَّمَخْشَرِيَّ وَابْنَ عَطِيَّةَ.
وَقَدْ عُرِفَ هَذَا الِاعْتِقَادُ الضَّالُّ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ طَرَفَةُ:
فَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ | وَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ عَمْرَو بْنَ مَرْثَدِ |
فَأَصْبَحْتُ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ وَطَافَ بِي | بَنُونَ كِرَامٌ سَادَةٌ لِمُسَوَّدِ |
فَنَبَّهَ اللَّهُ عَلَى خَطَأِ اعْتِقَادِهِمْ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ مُمَاثِلِهِ مِمَّا اعْتَقَدَهُ الْأُمَمُ قَبْلَهُمُ الَّذِي كَانَ مُوجِبًا صَبَّ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ أَحْوَال الدُّنْيَا لَا تُتَّخَذُ أَصْلًا فِي اعْتِبَارِ الْجَزَاءِ عَلَى الْعَمَلِ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ الْمُطَّرِدَ هُوَ جَزَاءُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْجِنْسُ وَتَعْرِيفُهُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَيَسْتَغْرِقُ أَفْرَادَ الْجِنْسِ وَلَكِنَّهُ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ مُرَادٌ بِهِ النَّاسُ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمُ الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ وَذَلِكَ الْغَالِبُ فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ فِي الْقُرْآنِ النَّازِلِ بِمَكَّةَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: ٦، ٧] أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [الْقِيَامَة: ٣] لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ [الْبَلَد: ٤، ٥] وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى [الْفجْر: ٢٣] الْآيَةَ.
وَقِيلَ: أُرِيدَ إِنْسَانٌ مُعَيَّنٌ، فَقِيلَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ أَوْ أَبُو حُذَيْفَة بن الْغيرَة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَقِيلَ: أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ عَنْ مُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ، وَقِيلَ: أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ عَنِ الْكَلْبِيِّ أَيْضًا وَإِنَّمَا هَؤُلَاءِ الْمُسَمَّوْنَ أَعْلَامُ التَّضْلِيلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمِنِِْ