مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِاللَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَتَبِعَهُمُ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ [الْبَقَرَة: ١٥٨] فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَالْعُدُولُ إِلَى الْإِضَافَةِ هُنَا لِأَنَّهَا أَخْصَرُ طَرِيقٍ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا الْمَقْصِدِ فَهِيَ أَخْصَرُ مِنَ الْمَوْصُولِ فَلَوْ أُرِيدَ غَيْرُ اللَّهِ لَقِيلَ اعْبُدُوا أَرْبَابَكُمْ فَلَا جَرَمَ كَانَ قَوْلُهُ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ صَرِيحًا فِي أَنَّهُ دَعْوَةٌ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَلِذَلِكَ فَقَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَكُمْ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِمُوجِبِ الْعِبَادَةِ، أَوْ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِمَا اقْتَضَتْهُ الْإِضَافَةُ مِنْ تَضَمُّنِ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ بِأَحَقِّيَّةِ الْعِبَادَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يُفِيدُ تَذْكِيرَ الدَّهْرِيِّينَ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ
إِنَّمَا خَلَقَهُمْ آبَاؤُهُمْ فَقَالُوا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: ٢٤] فَكَانَ قَوْلُهُ:
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّ آبَاءَهُم الْأَوَّلين لَا بُد أَنْ يَنْتَهُوا إِلَى أَبٍ أَوَّلٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ وَجْهُ التَّأْكِيدِ بِزِيَادَةِ حَرْفِ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِكُمْ الَّذِي يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى قَبْلِكُمْ، لِأَنَّ (مِنْ) فِي الْأَصْلِ لِلِابْتِدَاءِ فَهِيَ تُشِيرُ إِلَى أَوَّلِ الْمَوْصُوفِينَ بِالْقَبْلِيَّةِ فَذِكْرُهَا هُنَا اسْتِرْوَاحٌ لِأَصْلِ مَعْنَاهَا مَعَ مَعْنَى التَّأْكِيدِ الْغَالِبِ عَلَيْهَا إِذَا وَقَعَتْ مَعَ قَبْلُ وَبعد.
وَالْخَلْقُ أَصْلُهُ الْإِيجَادُ عَلَى تَقْدِيرٍ وَتَسْوِيَةٍ وَمِنْهُ خَلَقَ الْأَدِيمَ إِذَا هَيَّأَهُ لِيَقْطَعَهُ وَيَخْرُزَهُ، قَالَ جُبَيْرٌ فِي هَرَمِ بْنِ سِنَانٍ:
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْ | ضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي |
كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ [التَّوْبَة: ١٣]. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَّلَهُمْ أَجَلًا وَهُوَ انْقِضَاءُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ وَهُوَ تِسْعَةٍ مِنِ الْهِجْرَةِ فِي حَجَّةِ أَبِي بَكْرٍ بِالنَّاسِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَهْرِ شَوَّالٍ وَقَدْ خرج
الْمُشْركُونَ لِلْحَجِّ فَقَالَ لَهُمْ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَأَخَّرَهَا آخِرَ الْمُحَرَّمِ مِنْ عَامِ عَشَرَةٍ مِنِ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أَيْ تِلْكَ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فَنَسَخَ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ جَمْعٌ مُعَرَّفٌ بِلَامِ الْجِنْسِ وَهُوَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ وَعُمُومُ الْأَشْخَاصِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَلِذَلِكَ قَاتَلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَقِيفًا فِي شَهْرِ ذِي الْقِعْدَةِ عَقِبَ فَتْحِ مَكَّةَ كَمَا فِي كُتُبِ الصَّحِيحِ. وَأَغْزَى أَبَا عَامِرٍ إِلَى أَوْطَاسَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْغَزْوِ فِي جَمِيعِ أَشْهُرِ السَّنَةِ يَغْزُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَهُمْ أَوْلَى بِالْحُرْمَةِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا نُسِخَ تَحْرِيمُ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فَمَا مَعْنَى
قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا»
فَإِنَّ التَّشْبِيهَ يَقْتَضِي تَقْرِيرَ حُرْمَةِ الْأَشْهُرِ. قُلْتُ: إِنْ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِيهَا تَبَعٌ لِتَعْظِيمِهَا وَحُرْمَتِهَا وَتَنْزِيهِهَا عَنْ وُقُوعِ الْجَرَائِمِ وَالْمَظَالِمِ فِيهَا فَالْجَرِيمَةُ فِيهَا تُعَدُّ أَعْظَمَ مِنْهَا لَوْ كَانَتْ فِي غَيْرِهَا. وَالْقِتَالُ الظُّلْمُ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَالْقِتَالُ لِأَجْلِ الْحَقِّ عِبَادَةٌ فَنُسِخَ تَحْرِيمُ الْقِتَالِ فِيهَا لِذَلِكَ وَبَقِيَتْ حُرْمَةُ الْأَشْهُرِ بِالنِّسْبَةِ لِبَقِيَّةِ الْجَرَائِمِ.
وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْآيَةَ قَرَّرَتْ حُرْمَةَ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ لِحِكْمَةِ تَأْمِينِ سُبُلِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، إِذِ الْعُمْرَةُ أَكْثَرُهَا فِي رَجَبٍ وَلِذَلِكَ قَالَ: قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى أَنْ أَبْطَلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي عَامِ حَجَّةِ أَبِي بَكْرٍ بِالنَّاسِ إِذْ قَدْ صَارَتْ مَكَّةُ بِيَدِ الْمُسْلِمِينَ وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ قُرَيْشٌ وَمُعْظَمُ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَالْبَقِيَّةُ مُنِعُوا مِنْ زِيَارَةِ مَكَّةَ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَقْتَضِي إِبْطَالَ تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ فِيهَا لِأَجْلِ تَأْمِينِ سَبِيلِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَقَدْ تَعَطَّلَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَبْقَ الْحَجُّ إِلَّا لِلْمُسْلِمِينَ وَهُمْ لَا قِتَالَ بَيْنَهُمْ، إِذْ قِتَالُ الظُّلْمِ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَقِتَالُ الْحَقِّ يَقَعُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا لَمْ يَشْغَلْ عَنْهُ شَاغِلٌ مِثْلُ الْحَجِّ، فَتَسْمِيَتُهُ
بِحُجَّةٍ وَلَكِنَّهُ مِمَّا يَرَوْنَهُ حُجَجًا بِأَنْ خَوَّفُوهُ غَضَبَ آلِهَتِهِمْ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ الْآيَةَ.
وَالتَّقْدِيرُ: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ فَقَالُوا: كَيْتَ وَكَيْتَ.
وَجُمْلَةُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ جَوَابُ مُحَاجَّتِهِمْ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠]، فَإِنْ كَانَتِ الْمُحَاجَّةُ عَلَى حَقِيقَةِ الْمُفَاعَلَةِ فَقَوْلُهُ أَتُحاجُّونِّي غَلْقٌ لِبَابِ الْمُجَادَلَةِ وَخَتْمٌ لَهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْمُحَاجَّةُ مُسْتَعْمَلَةً فِي الِاحْتِجَاجِ فَقَوْلُهُ: أَتُحاجُّونِّي جَوَابٌ لِمُحَاجَّتِهِمْ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمرَان: ٢٠]. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ وَتَأْيِيسٌ مِنْ رُجُوعِهِ إِلَى معتقدهم.
وفِي للظرفية الْمَجَازِيَّةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِ تُحاجُّونِّي وَدُخُولُهَا عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، لِأَنَّ الْمُحَاجَّةَ لَا تَكُونُ فِي الذَّوَاتِ، فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مَا يَصْلُحُ لَهُ الْمَقَامُ وَهُوَ صِفَاتُ اللَّهِ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ، أَيْ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: ٧٤] أَيْ فِي اسْتِئْصَالِهِمْ.
وَجُمْلَة وَقَدْ هَدانِ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ لَا جَدْوَى لِمُحَاجَّتِكُمْ إِيَّايَ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي اللَّهُ إِلَى الْحَقِّ، وَشَأْنُ الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ لِلْإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ اتِّصَافُ صَاحِبِهَا بِهَا مَعْرُوفًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ نَزَّلَهُمْ فِي خِطَابِهِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ هَدَاهُ كِنَايَةً عَلَى ظُهُورِ دَلَائِلِ الْهِدَايَةِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ أَتُحَاجُّونِي- بِنُونٍ وَاحِدَةٍ خَفِيفَةٍ- وَأَصْلُهُ أَتُحَاجُّونَنِي- بِنُونَيْنِ- فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا لِلتَّخْفِيفِ، وَالْمَحْذُوفَةُ هِيَ الثَّانِيَةُ الَّتِي هِيَ نُونُ الْوِقَايَةِ عَلَى مُخْتَارِ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ. قَالَ: لِأَنَّ الْأُولَى نُونُ الْإِعْرَابِ وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَهِيَ مُوَطِّئَةٌ لِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فَيَجُوزُ حَذْفُهَا تَخْفِيفًا، كَمَا قَالُوا: لَيْتِي فِي لَيْتَنِي. وَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْمَحْذُوفَةَ هِيَ الْأُولَى لِأَنَّ الثَّانِيَةَ جُلِبَتْ لِتَحْمِلَ الْكَسْرَةَ الْمُنَاسِبَةَ لِلْيَاءِ وَنُونُ الرَّفْعِ لَا تَكُونُ مَكْسُورَةً، وَأَيًّا مَا كَانَ فَهَذَا الْحَذْفُ مُسْتَعْمَلٌ لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ.
الْآخِرَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِجْمَالَ مَقْصُودٌ لِلْحَثِّ عَلَى التَّقْوَى وَتَحَقُّقِ فَائِدَتِهَا وَالتَّعْرِيضِ بِالتَّحْذِيرِ مِنَ التَّفْرِيطِ فِيهَا، فَلَا يَحْصُلُ التَّكْفِيرُ وَلَا الْمَغْفِرَةُ بِأَيِّ احْتِمَالٍ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تَذْيِيلٌ وَتَكْمِيلٌ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ حُصُولِ مَنَافِعَ أُخْرَى لَهُمْ مِنْ جراء التَّقْوَى.
[٣٠]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٣٠]
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ مِنْ قَصَصِ تَأْيِيدِ اللَّهِ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَيَكُونَ إِذْ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَاذْكُرْ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا، عَلَى طَرِيقَةِ نَظَائِرِهِ الْكَثِيرَةِ فِي الْقُرْآنِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ [الْأَنْفَال:
٢٦] فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ (اذْكُرُوا) مِنْ قَوْلِهِ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ [الْأَنْفَال: ٢٦]، فَإِنَّ الْمَكْرَ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَكْرٌ بِالْمُسْلِمِينَ وَيَكُونُ مَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا. فَهَذَا تَعْدَادٌ لِنِعَمِ النَّصْرِ، الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، فِي أَحْوَالٍ مَا كَانَ يَظُنُّ النَّاسُ أَنْ سَيَجِدُوا مِنْهَا مَخْلَصًا، وَهَذِهِ نِعْمَةٌ خَاصَّةٌ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْإِنْعَامُ بِحَيَاتِهِ وَسَلَامَتِهِ نِعْمَةٌ تَشْمَلُ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ، وَهَذَا تَذْكِيرٌ بِأَيَّامِ مُقَامِهِمْ بِمَكَّةَ، وَمَا لَاقَاهُ الْمُسْلِمُونَ عُمُومًا وَمَا لَاقَاهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُصُوصًا وَأَنَّ سَلَامَةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَامَةٌ لِأُمَّتِهِ.
وَالْمَكْرُ إِيقَاعُ الضُّرِّ خُفْيَةً، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ فِي آلِ عِمْرَانَ [٥٤]، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٩٩].
وَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ فِي مَوْضِعِ الْمَاضِي الَّذِي هُوَ الْغَالِبُ مَعَ إِذْ اسْتِحْضَارٌ لِلْحَالَةِ الَّتِي دَبَّرُوا فِيهَا الْمَكْرَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [فاطر:
٩].
وَمَعْنَى: لِيُثْبِتُوكَ لِيَحْبِسُوكَ يُقَالُ أَثْبَتَهُ إِذَا حَبَسَهُ وَمَنَعَهُ مِنَ الْحَرَكَةِ وَأَوْثَقَهُ، وَالتَّعْبِيرُ بالمضارع فِي لِيُثْبِتُوكَ، ويَقْتُلُوكَ، ويُخْرِجُوكَ، لِأَنَّ تِلْكَ الْأَفْعَالَ مُسْتَقْبَلَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِفِعْلِ الْمَكْرِ إِذْ غَايَةُ مَكْرِهِمْ تَحْصِيلُ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ.
وَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى تَرَدُّدِ قُرَيْشٍ فِي أَمر النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اجْتَمَعُوا
وَحُذِفَ مَفْعُولُ ادْعُ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، أَوْ لِأَنَّ الْفِعْلَ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الدَّوَامُ عَلَى الدَّعْوَةِ لَا بَيَانُ الْمَدْعُوِّينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مِنْ حَالِ الدَّعْوَةِ.
وَمَعْنَى الْمُلَابَسَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَخْلُوَ دَعْوَتُهُ إِلَى سَبِيلِ اللَّهِ عَنْ هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ:
الْحِكْمَةُ، وَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ.
فَالْحِكْمَةُ: هِيَ الْمَعْرِفَةُ الْمُحْكَمَةُ، أَيِ الصَّائِبَةُ الْمُجَرَّدَةُ عَنِ الْخَطَأِ، فَلَا تُطْلَقُ الْحِكْمَةُ إِلَّا عَلَى الْمَعْرِفَةِ الْخَالِصَةِ عَنْ شَوَائِبِ الْأَخْطَاءِ وَبَقَايَا الْجَهْلِ فِي تَعْلِيمِ النَّاسِ وَفِي تَهْذِيبِهِمْ. وَلِذَلِكَ عَرَّفُوا الْحِكْمَةَ بِأَنَّهَا: مَعْرِفَةُ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ بِحَيْثُ لَا تَلْتَبِسُ عَلَى صَاحِبِهَا الْحَقَائِقُ الْمُتَشَابِهَةُ بَعْضُهَا بِبَعْض وَلَا تخطىء فِي الْعِلَلِ وَالْأَسْبَابِ. وَهِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ كَلَامٍ أَوْ عِلْمٍ يُرَاعَى فِيهِ إِصْلَاحُ حَالِ النَّاسِ وَاعْتِقَادُهُمْ إِصْلَاحًا مُسْتَمِرًّا لَا يَتَغَيَّرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦٩] مُفَصَّلًا فَانْظُرْهُ. وَتُطْلَقُ الْحِكْمَةُ عَلَى الْعُلُومِ الْحَاصِلَةِ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَيُرَادِفُهَا الْحُكْمُ.
والْمَوْعِظَةِ: الْقَوْلُ الَّذِي يُلَيِّنُ نَفْسَ الْمَقُولِ لَهُ لِعَمَلِ الْخَيْرِ. وَهِيَ أَخَصُّ مِنَ الْحِكْمَةِ لِأَنَّهَا حِكْمَةٌ فِي أُسْلُوبٍ خَاصٍّ لِإِلْقَائِهَا. وَتَقَدَّمت عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦٣]. وَعِنْدَ قَوْلِهِ: مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٤٥].
وَوَصْفُهَا بِالْحُسْنِ تَحْرِيضٌ عَلَى أَنْ تَكُونَ لَيِّنَةً مَقْبُولَةً عِنْدَ النَّاسِ، أَيْ حَسَنَةً فِي جِنْسِهَا، وَإِنَّمَا تَتَفَاضَلُ الْأَجْنَاسُ بِتَفَاضُلِ الصِّفَاتِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهَا.
وَعَطْفُ الْمَوْعِظَةِ عَلَى «الْحِكْمَةِ» لِأَنَّهَا تُغَايِرُ الْحِكْمَةَ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ الْوَجْهِيِّ، فَإِنَّهُ قَدْ يَسْلُكُ بِالْمَوْعِظَةِ مَسْلَكَ الْإِقْنَاعِ، فَمِنَ الْمَوْعِظَةِ حِكْمَةٌ، وَمِنْهَا خَطَابَةٌ، وَمِنْهَا جَدَلٌ.
وَتَقْلِيبُ الْكَفَّيْنِ: حَرَكَةٌ يَفْعَلُهَا الْمُتَحَسِّرُ، وَذَلِكَ أَنْ يُقَلِّبَهُمَا إِلَى أَعْلَى ثُمَّ إِلَى قُبَالَتِهِ تَحَسُّرًا عَلَى مَا صَرَفَهُ مِنَ الْمَالِ فِي إِحْدَاثِ تِلْكَ الْجَنَّةِ. فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّحَسُّرِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ: قَرَعَ السِّنَّ مِنْ نَدَمٍ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [آل عمرَان:
١١٩].
وَالْخَاوِيَةُ: الْخَالِيَةُ، أَيْ وَهِيَ خَالِيَةٌ مِنَ الشَّجَرِ وَالزَّرْعِ، وَالْعُرُوشِ: السَّقْفُ. وَ (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ. وَجُمْلَةُ عَلى عُرُوشِها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ خاوِيَةٌ.
وَهَذَا التَّرْكِيبُ أَرْسَلَهُ الْقُرْآنُ مَثَلًا لِلْخَرَابِ التَّامِّ الَّذِي هُوَ سُقُوطُ سُقُوفِ الْبِنَاءِ وَجُدْرَانِهِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٩]، عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ مُرَادٌ بِهِ جُدْرَانُ الْقَرْيَةِ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِعُرُوشِهَا، إِذِ الْقَرْيَةُ هِيَ الْمَنَازِلُ الْمُرَكَّبَةُ مِنْ جُدْرَانٍ وَسُقُفٍ، ثُمَّ جَعَلَ ذَلِكَ مَثَلًا لِكُلِّ هَلَاكٍ تَامّ لَا تبقى مَعَهُ بَقِيَّةٌ مِنَ الشَّيْءِ الْهَالِكِ.
وَجُمْلَةُ وَيَقُولُ حِكَايَةٌ لِتَنَدُّمِهِ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُ حِينَ لَا يَنْفَعُهُ النَّدَمُ بَعْدَ حُلُولِ الْعَذَابِ.
وَالْمُضَارِعُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ الْقَوْلِ مِنْهُ.
وَحَرْفُ النِّدَاءِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّلَهُّفِ. وَ (لَيْتَنِي) تَمَنٍّ مُرَادٌ بِهِ التَّنَدُّمُ. وَأَصْلُ قَوْلِهِمْ (يَا لَيْتَنِي) أَنَّهُ تَنْزِيلٌ لِلْكَلِمَةِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْقِلُ، كَأَنَّهُ يُخَاطِبُ كَلِمَةَ (لَيْتَ) يَقُولُ: احْضُرِي فَهَذَا أَوَانُكِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ سُورَة الزمر [٥٦].
وَهَذَا نَدَمٌ عَلَى الْإِشْرَاكِ فِيمَا مَضَى وَهُوَ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ آمَنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ حِينَئِذٍ.
وَقَوْلُهُ: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَوْعِظَةٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى جَزَاءِ قَوْلِهِ:
وَأَعَزُّ نَفَراً [الْكَهْف: ٣٤].
وَاقْتِصَارُ الشَّيْطَانِ عَلَى التَّسْوِيلِ لِآدَمَ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ آدَمُ وَحَوَّاءُ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ اقْتِدَاءَ الْمَرْأَةِ بِزَوْجِهَا مَرْكُوزٌ فِي الْجِبِلَّةِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٢٢].
وَقَوْلُهُ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ عَطَفٌ عَلَى فَأَكَلا مِنْها، أَيْ أَكَلَا مَعًا، وَتَعَمَّدَ آدَمُ مُخَالَفَةَ نَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ عَنِ الْأَكْلِ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ. وَإِثْبَاتُ الْعِصْيَانِ لِآدَمَ دُونَ زَوْجِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آدَمَ كَانَ قُدْوَةً لِزَوْجِهِ فَلَمَّا أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ تَبِعَتْهُ زَوْجُهُ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا [التَّحْرِيم: ٦].
وَالْغِوَايَةُ: ضِدُّ الرُّشْدِ، فَهِيَ عَمَلٌ فَاسِدٌ أَوِ اعْتِقَادٌ بَاطِلٌ، وَإِثْبَاتُ الْعِصْيَانِ لِآدَمَ دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمئِذٍ نبيئا، ولأنّه كَانَ فِي عَالَمٍ غَيْرِ عَالَمِ التَّكْلِيفِ وَكَانَتِ الْغَوَايَةُ كَذَلِكَ، فَالْعِصْيَانُ وَالْغِوَايَةُ يَوْمَئِذٍ: الْخُرُوجُ عَنِ الِامْتِثَالِ فِي التَّرْبِيَةُ كَعِصْيَانِ بَعْضِ الْعَائِلَةِ أَمْرَ كَبِيرِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ شَنِيعًا لِأَنَّهُ عِصْيَانُ أَمْرِ اللَّهِ.
وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَنَدٌ لِتَجْوِيزِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَلَا لِمَنْعِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَالَمَ لَمْ يَكُنْ عَالَمَ تَكْلِيفٍ.
وَجُمْلَةُ ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَعَصى آدَمُ وَجُمْلَةِ قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً، لِأَنَّ الِاجْتِبَاءَ وَالتَّوْبَةَ عَلَيْهِ كَانَا بَعْدَ أَنْ عُوقِبَ آدَمُ وَزَوْجُهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ كَمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِتَرَتُّبِ الْإِخْرَاجِ مِنَ الْجَنَّةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ دُونَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى التَّوْبَةِ.
وَفَائِدَةُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ التَّعْجِيلُ بِبَيَانِ مَآلِ آدَمَ إِلَى صَلَاحٍ.
وَيَجُوزُ كَوْنُ الْكَفُورِ مَأْخُوذًا مِنْ كُفْرِ النِّعْمَةِ وَتَكُونُ الْمُبَالَغَةُ بِاعْتِبَارِ آثَارِ الْغَفْلَةِ عَنِ الشُّكْرِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الِاسْتِغْرَاق حَقِيقِيًّا.
[٦٧]
[سُورَة الْحَج (٢٢) : آيَة ٦٧]
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧)
هَذَا مُتَّصِلٌ فِي الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى مَا
رَزَقَهُمْ
[الْحَج: ٣٤] الْآيَةَ. وَقَدْ فَصَلَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ مَا اقْتَضَى الْحَالُ اسْتِطْرَادَهُ مِنْ قَوْلِهِ:
وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الْحَج: ٣٧- ٣٨] إِلَى هُنَا، فَعَادَ الْكَلَامُ إِلَى الْغَرَضِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ [الْحَج: ٣٤] الْآيَةَ لِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ. فَهَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا سَبَقَ مِنَ الشَّرَائِعِ لِقَصْدِ إِبْطَالِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ، بِأَنَّ اللَّهَ مَا جَعَلَ لِأَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ سَبَقَتْ إِلَّا مَنْسَكًا وَاحِدًا يَتَقَرَّبُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ الْمُتَقَرَّبَ إِلَيْهِ وَاحِدٌ. وَقَدْ جَعَلَ الْمُشْرِكُونَ مَنَاسِكَ كَثِيرَةً فَلِكُلِّ صَنَمٍ بَيْتٌ يُذْبَحُ فِيهِ مِثْلُ الْغَبْغَبِ لِلْعُزَّى، قَالَ النَّابِغَةُ:
وَمَا هُرِيقَ عَلَى الْأَنْصَابِ مِنْ جَسَدٍ...
(أَيْ دَمٍ). وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا [الْحَج: ٣٤] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ. وَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ وَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ وَلَمْ تُعْطَفْ كَمَا عُطِفَتْ نَظِيرَتُهَا الْمُتَقَدِّمَةُ.
وَقَدْ أَوْرَدُوا طَعْنَهُمْ فِي نُبُوءَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْحَالَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ إِذْ أَوْرَدُوا اسْمَ الِاسْتِفْهَامِ وَلَامَ الِاخْتِصَاصِ وَالْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ الَّتِي مَضْمُونُهَا مَثَارُ الِاسْتِفْهَامِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ تَعَجِيبِيٌّ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِهِ وَهُوَ بُطْلَانُ كَوْنِهِ رَسُولًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّعَجُّبَ مِنَ الدَّعْوَى يَقْتَضِي اسْتِحَالَتَهَا أَوْ بُطْلَانَهَا. وَتَرْكِيبُ مَا لِهذَا وَنَحْوُهُ يُفِيدُ الِاسْتِفْهَامَ عَنْ أَمْرٍ ثَابِتٍ لَهُ، فَاسْمُ الِاسْتِفْهَامِ مُبْتَدَأٌ ولِهذَا خَبَرٌ عَنْهُ فَمَثَارُ الِاسْتِفْهَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ ثُبُوتُ حَالِ أَكْلِ الطَّعَامِ وَالْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ لِلَّذِي يَدَّعِي الرِّسَالَةَ مِنَ اللَّهِ.
فَجُمْلَةُ: يَأْكُلُ الطَّعامَ جُمْلَةُ حَالٍ. وَقَوْلُهُمْ: لِهذَا الرَّسُولِ أَجْرَوْا عَلَيْهِ وَصْفَ الرِّسَالَةِ مُجَارَاةً مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَلَكِنَّهُمْ بَنَوْا عَلَيْهِ لِيَتَأَتَّى لَهُمُ التَّعَجُّبُ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْإِحَالَةُ وَالْإِبْطَالُ.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْإِشَارَةَ مَا بَعْدَهَا مِنَ اسْمٍ مُعَرَّفٍ بِلَامِ الْعَهْدِ وَهُوَ الرَّسُولُ.
وَكَنَّوْا بِأَكْلِ الطَّعَامِ وَالْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ عَنْ مُمَاثَلَةِ أَحْوَالِهِ لِأَحْوَالِ النَّاسِ تَذَرُّعًا مِنْهُمْ إِلَى إِبْطَالِ كَوْنِهِ رَسُولًا لِزَعْمِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ عَنِ اللَّهِ تَكُونُ أَحْوَالُهُ غَيْرَ مُمَاثِلَةٍ لِأَحْوَالِ النَّاسِ، وَخَصُّوا أَكْلَ الطَّعَامِ وَالْمَشْيَ فِي الْأَسْوَاقِ لِأَنَّهُمَا مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُشَاهَدَةِ الْمُتَكَرِّرَةِ، وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان: ٢٠]. ثُمَّ انْتَقَلُوا إِلَى اقْتِرَاحِ أَشْيَاءَ تُؤَيِّدُ رِسَالَتَهُ فَقَالُوا: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. وَخَصُّوا مِنْ أَحْوَالِ الرَّسُولِ حَالَ النِّذَارَةِ لِأَنَّهَا الَّتِي أَنْبَتَتْ حِقْدَهُمْ عَلَيْهِ.
وَ (لَوْلَا) حَرْفُ تَحْضِيضٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ، أَيْ لَوْ أُنْزِلَ إِلَيْهِ ملك لَا تَبِعْنَاهُ.
وَانْتَصَبَ (فَيَكُونَ) عَلَى جَوَابِ التَّحْضِيضِ.
وَ (أَوْ) لِلتَّخْيِيرِ فِي دَلَائِلِ الرِّسَالَةِ فِي وَهْمِهِمْ.
أَوْ أُرِيدَ أَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ وَاعِدٌ وَمَوْعُودٌ فِي الرُّؤَسَاءِ وَأَيِمَّةِ الْكُفْرِ يَعِدُونَ الْعَامَّةَ نَفْعَ الْأَصْنَامِ وَشَفَاعَتِهَا وَتَقْرِيبِهَا إِلَى اللَّهِ وَنَصْرِهَا غُرُورًا بِالْعَامَّةِ وَالْعَامَةُ تَعِدُ رُؤَسَاءَهَا التَّصْمِيمَ عَلَى الشِّرْكِ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها [الْفرْقَان: ٤٢].
وإِنْ نَافِيَةٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّعٌ عَنْ جِنْسِ الْوَعْدِ مَحْذُوفًا.
وَانْتَصَبَ غُرُوراً عَلَى أَنه صفة للمستثنى الْمَحْذُوفِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَعْدًا إِلَّا وَعْدًا غُرُورًا.
وَالْغُرُورُ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ فِي آل عمرَان [١٩٦].
[٤١]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٤١]
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١)
انْتِقَالٌ مِنْ نَفْيِ أَنْ يَكُونَ لِشُرَكَائِهِمْ خَلْقٌ أَوْ شَرِكَةُ تَصَرُّفٍ فِي الْكَائِنَاتِ الَّتِي فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَى إِثْبَاتِ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْقَيُّومُ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِتَبْقَيَا مَوْجُودَتَيْنِ فَهُوَ الْحَافِظُ بقدرته نظام بقائهما. وَهَذَا الْإِمْسَاكُ هُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ بِنِظَامِ الْجَاذِبِيَّةِ بِحَيْثُ لَا يَعْتَرِيهِ خَلَلٌ.
وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْحِفْظِ بِالْإِمْسَاكِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ.
وَحَقِيقَةُ الْإِمْسَاكِ: الْقَبْضُ بِالْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ بِحَيْثُ لَا يَنْفَلِتُ وَلَا يَتَفَرَّقُ، فَمُثِّلَ حَالُ حِفْظِ نِظَامِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِحَالِ اسْتِقْرَارِ الشَّيْءِ الَّذِي يُمْسِكُهُ الْمُمْسِكُ بِيَدِهِ، وَلَمَّا كَانَ فِي الْإِمْسَاكِ مَعْنَى الْمَنْعِ عُدِيَّ إِلَى الزَّوَالِ بِ مِنْ، وَحُذِفَتْ كَمَا هُوَ شَأْنُ حُرُوفِ الْجَرِّ مَعَ إِنَّ وإِنَّ فِي الْغَالِبِ، وَأُكِّدَ هَذَا الْخَبَرُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِتَحْقِيقِ مَعْنَاهُ وَأَنَّهُ لَا تَسَامُحَ فِيهِ وَلَا مُبَالَغَةَ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُمْسِكُ السَّماءَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٦٥]. ثُمَّ أُشِيرَ إِلَى أَنَّ شَأْنَ الْمُمْكِنَاتِ الْمَصِيرُ إِلَى الزَّوَالِ وَالتَّحَوُّلِ وَلَوْ بَعْدَ أَدْهَارٍ فَعُطِفَ عَلَيْهِ
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَى اتِّخَاذِ الْوَلَدِ اتِّخَاذُ التَّشْرِيفِ وَالتَّبَنِّي وَعَلَى هَذَا يَسْتَقِيمُ قَوْلُهُ:
لَاصْطَفى وَأَمَّا الِاتِّخَاذُ الْمَعْهُودُ فِي الشَّاهِدِ (يَعْنِي اتِّخَاذَ النَّسْلِ) فَمُسْتَحِيلٌ أَنْ يُتَوَهَّمَ فِي جِهَةِ اللَّهِ وَلَا يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَاصْطَفى. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى أَنْ يَتَّخِذَ الِاصْطِفَاءُ وَالتَّبَنِّي قَوْلُهُ: مِمَّا يَخْلُقُ أَي من محداثته اهـ وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ الْفَخْرُ.
وَبَنَى عَلَيْهِ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» فَقَالَ عقب تعقيب كَلَامِ «الْكَشَّافِ» «وَالْأَوْلَى مَا قِيلَ: لَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا كَمَا زَعَمْتُمْ لَاخْتَارَ الْأَفْضَلَ (أَيِ الذُّكُورَ) لَا الْأَنْقَصَ وَهُنَّ الْإِنَاث».
وَقَالَ التفتازانيّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» : هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ بِحَسْبِ الظَّاهِرِ، وَذَكَرَ أَنَّ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» لَمْ يَسْلُكْهُ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذكره التفتازانيّ هُنَاكَ. وَالَّذِي سَلَكَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَإِنْ كَانَ أَقْرَبُ وَأَوْضَحُ مِنْ مَسْلَكِ «الْكَشَّافِ» فِي تَقْرِيرِ الدَّلِيلِ لَكِنَّهُ يُشَارِكُهُ فِي أَنَّهُ لَا يَصِلُ الْآيَةَ بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْطَعَ بَيْنَهَا الْأَوَاصِرُ، وَكَمْ تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْآخِرِ.
وَجُمْلَةُ سُبْحانَهُ تَنْزِيهٌ لَهُ عَمَّا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ مِنَ الشُّرَكَاءِ بَعْدَ أَنْ أَبْطَلَهُ بِالدَّلِيلِ الِامْتِنَاعِيِّ عَوْدًا إِلَى خِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ الَّذِي فَارَقَهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر: ٢].
وَجُمْلَةُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ دَلِيلٌ لِلتَّنْزِيهِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ سُبْحانَهُ. فَجُمْلَةُ هُوَ اللَّهُ تَمْهِيدٌ لِلْوَصْفَيْنِ، وَذُكِرَ اسْمُهُ الْعَلَمُ لِإِحْضَارِهِ فِي الْأَذْهَانِ بِالِاسْمِ الْمُخْتَصِّ بِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: هُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ كَمَا قَالَ بَعْدَ: أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [الزمر: ٥]. وَإِثْبَاتُ
الْوَحْدَانِيَّةِ لَهُ يُبْطِلُ الشَّرِيكُ فِي الْإِلَهِيَّةِ عَلَى تَفَاوُتِ مَرَاتِبِهِ، وَإِثْبَاتُ الْقَهَّارُ يُبْطِلُ مَا زَعَمُوهُ مِنْ أَنَّ أَوْلِيَاءَهُمْ تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفًى وَتَشْفَعُ لَهُمْ.
وَالْقَهْرُ: الْغَلَبَةُ، أَي هُوَ الشَّديد الْغَلَبَةِ لِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ وَلَا يَصْرِفُهُ عَنْ إِرَادَتِهِ
مِنَ الْآيَاتِ لِأَنَّهَا مُلَازِمَةٌ لَهَا بِأَدْنَى نَظَرٍ وَجُعِلَتِ الْآيَاتُ لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِدِلَالَتِهَا وَعَلِمُوا مِنْهَا أَنَّ مُوجِدَهَا وَمُقَدِّرَ نِظَامِهَا وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَفِي خَلْقِكُمْ إِلَخْ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ لِمَا فِي هَذَا الْخَاصِّ مِنَ التَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ إِيجَادِ النَّوْعِ اسْتِدْعَاءً لِلشُّكْرِ عَلَيْهِ.
وَالْبَثُّ: التَّوْزِيعُ وَالْإِكْثَارُ وَهُوَ يَقْتَضِي الْخَلْقَ وَالْإِيجَادَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَفِي خَلْقِ اللَّهِ مَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ. وَتَقَدَّمَ الْبَثُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤].
وَعَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ فِي يَبُثُّ لِيُفِيدَ تَجَدُّدَ الْبَثِّ وَتَكَرُّرَهُ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ أَجْنَاسِ الدَّوَابِّ وَأَنْوَاعِهَا وَأَصْنَافِهَا. وَالدَّابَّةُ تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ غَيْرَ الْإِنْسَانِ وَهَذَا أَصْلُ إِطْلَاقِهَا وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى مَا يَدِبُّ بِالْأَرْجُلِ دُونَ الطَّائِرِ كَقَوْلِهِ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: ٣٨].
وَالرِّزْقُ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْمَطَرِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ لِأَنَّ الْمَطَرَ سَبَبُ وُجُودِ الْأَقْوَاتِ. وَالرِّزْقُ: الْقُوتُ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤] وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ
. وَتَقَدَّمَتْ نَظَائِرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَاسِطِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِي مَوَاضِعَ عِدَّةٍ.
وَالْمُرَادُ بِ (الْمُؤْمِنِينَ)، وَبِ (قوم يوقنون)، وب (قَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وَاحِدٌ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ فَحَصَلَ لَهُمُ الْيَقِينُ وَكَانُوا يَعْقِلُونَ، أَيْ يَعْلَمُونَ دَلَالَةَ الْآيَاتِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَالَّذِينَ يُوقِنُونَ، أَيْ يَعْلَمُونَ وَلَا يُكَابِرُونَ، وَالَّذِينَ يَعْقِلُونَ دَلَالَةَ الْآثَارِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ وَنَظَرُوا النَّظَرَ الصَّحِيحَ فِي شَوَاهِدِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَعَلمُوا أَن لَا بُد لَهَا مِنْ صَانِعٍ وَأَنَّهُ وَاحِدٌ فَأَيْقَنَ بِذَلِكَ الْعَاقِلُ مِنْهُمُ الَّذِي كَانَ مُتَرَدِّدًا، وَازْدَادَ إِيمَانًا مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَصَارَ مُوقِنًا. فَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِالْآيَاتِ هُمُ
الْمُتَأَوِّلُونَ عَلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ هُنَا الصَّلَاةُ. قُلْتُ: وَلِذَلِكَ صَارَ فِعْلُ التَّسْبِيحِ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى: صَلِّ. وَالْبَاءُ فِي بِحَمْدِ رَبِّكَ يُرَجِّحُ كَوْنَ الْمُرَادِ بِالتَّسْبِيحِ الصَّلَاةَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةِ مِنْهَا الْفَاتِحَةُ وَهِيَ حَمْدٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِالصَّلَاةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ
فَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «كُنَّا جُلُوسًا عِنْد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ فَقَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَنْ صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا»
يَعْنِي بِذَلِكَ الْعَصْرَ وَالْفَجْرَ. ثُمَّ قَرَأَ جَرِيرٌ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها كَذَا. وَالْقِرَاءَةُ الْغُرُوبِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَبْلَ الْغُرُوبِ:
الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ. وَعَنْ قَتَادَةَ: الْعَصْرُ.
وَقَوْلُهُ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ فِيهِ هُوَ الصَّلَاةُ، وَعَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ أَنَّهُ قَوْلُ سُبْحَانَ اللَّهِ، فَعَلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ الصَّلَاةُ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَصَلَاةُ الْعِشَاءِ.
وقَبْلَ الْغُرُوبِ ظرف وَاسع يبتدىء مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ لِأَنَّهَا حِينَ
تَزُولُ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ قَدْ مَالَتْ إِلَى الْغُرُوبِ وَيَنْتَهِي بِغُرُوبِهَا، وَشَمِلَ ذَلِكَ وَقْتَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَذَلِكَ مَعْلُوم للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَسْبِيحُ اللَّيْلِ بِصَلَاتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ لِأَنَّ غُرُوبَ الشَّمْسِ مَبْدَأُ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُؤَرِّخُونَ بِاللَّيَالِي وَيَبْتَدِئُونَ الشَّهْرَ بِاللَّيْلَةِ الْأَوْلَى الَّتِي بَعْدَ طُلُوعِ الْهِلَالِ الْجَدِيدِ عَقِبَ غُرُوبِ الشَّمْسِ.
وَقِيلَ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ كُلُّهَا نَوَافِلُ، فَالَّذِي قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ رَكْعَتَا الْفَجْرِ، وَالَّذِي قَبْلَ الْغُرُوبِ رَكْعَتَانِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَالَهُ أَبُو بَرْزَةَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَالَّذِي مِنَ اللَّيْلِ قِيَامُ اللَّيْلِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَيَأْتِي عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الِاخْتِلَافُ فِي مَحْمَلِ الْأَمْرِ عَلَى النَّدْبِ إِنْ كَانَا عَامًّا أَوْ
[سُورَة الْوَاقِعَة (٥٦) : آيَة ٧٣]
نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣)الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ [الْوَاقِعَة: ٧٢]، أَيْ إِنَّ إِنْشَاءَ النَّارِ كَانَ لِفَوَائِدَ وَحِكَمًا مِنْهَا أَنْ تَكُونَ تَذْكِرَةً لِلنَّاسِ يَذْكُرُونَ بِهَا نَارَ جَهَنَّمَ وَيُوَازِنُونَ بَيْنَ إِحْرَاقِهَا وَإِحْرَاقِ جَهَنَّمَ الَّتِي يَعْلَمُونَ أَنَّهَا أَشَدُّ مِنْ نَارِهِمْ.
وَالْمَتَاعُ: مَا يُتَمَتَّعُ، أَيْ يُنْتَفَعُ بِهِ زَمَانًا، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٧٧].
وَالْمُقْوِي: الدَّاخِلُ فِي الْقَوَاءِ (بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْمَدِّ) وَهِيَ الْقَفْرُ، وَيُطْلَقُ الْمُقْوِي عَلَى الْجَائِعِ لِأَنَّ جَوْفَهُ أقوت، أَي خلقت مِنَ الطَّعَامِ إِذْ كِلَا الْفِعْلَيْنِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقَوَى وَهُوَ الْخَلَاءُ. وَفَرَاغُ الْبَطْنِ: قَوَاءٌ وَقَوًى. فَإِيثَارُ هَذَا الْوَصْفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِيَجْمَعَ الْمَعْنَيَيْنِ فَإِنَّ النَّارَ مَتَاعٌ لِلْمُسَافِرِينَ يَسْتَضِيئُونَ بِهَا فِي مَنَاخِهِمْ وَيَصْطَلُونَ بِهَا فِي الْبَرْدِ وَيَرَاهَا السَّائِرُ لَيْلًا فِي الْقَفْرِ فَيَهْتَدِي إِلَى مَكَانِ النُّزُلِ فَيَأْوِي إِلَيْهِمْ، وَمَتَاعٌ لِلْجَائِعِينَ يَطْبُخُونَ بِهَا طَعَامَهُمْ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَهَذَا إدماج للامتنان فِي خِلَالِ الِاسْتِدْلَالِ. وَاخْتِيرَ هَذَانِ الْوَصْفَانِ لِأَنَّ احْتِيَاجَ أَصْحَابِهِمَا إِلَى النَّارِ أَشَدُّ مِنِ احْتِيَاج غَيرهمَا.
[٧٤]
[سُورَة الْوَاقِعَة (٥٦) : آيَة ٧٤]
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤)
رَتَّبَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْكَلَامِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى دَلَائِلِ عَظَمَةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَعَلَى أَمْثَالٍ لِتَقْرِيبِ الْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرُوا خَبَرَهُ، وَعَلَى جَلَائِلِ النِّعَمِ الْمُدْمَجَةِ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ أَنْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُنَزِّهَهُ تَنْزِيِهًا خَاصًّا مُعَقِّبًا لِمَا تُفِيضُهُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَوْصَافُ الْجَلِيلَةُ الْمَاضِيَةُ مِنْ تَذَكُّرٍ جَدِيدٍ يَكُونُ التَّنْزِيهُ عَقِبَهُ ضَرْبًا مِنَ التَّذَكُّرِ فِي جَلَالِ ذَاتِهِ وَالتَّشَكُّرِ لِآلَائِهِ فَإِنَّ لِلْعِبَادَاتِ مَوَاقِعَ تَكُونُ هِيَ فِيهَا أَكْمَلَ مِنْهَا فِي دُونِهَا، فَيَكُونُ لَهَا مِنَ الْفَضْلِ مَا يُجْزَلُ ثَوَابُهُ فَالرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَخْلُو عَنْ تَسْبِيحِ رَبِّهِ وَالتَّفَكُّرِ فِي عَظَمَةِ شَأْنِهِ وَلَكِنْ لِاخْتِلَافِ التَّسْبِيحِ وَالتَّفَكُّرِ مِنْ تَجَدُّدِ مُلَاحَظَةِ النَّفْسِ مَا يَجْعَلُ لِكُلِّ حَالٍ مِنَ التَّفَكُّرِ مَزَايَا تُكْسِبُهُ خَصَائِصَ وَتَزِيدُهُ ثَوَابًا.
فَإِذَا كَانَ الْمَسْكَنُ لَا يَسَعُ مُبَيِّتَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ خَرَجَ الْمُطَلِّقُ مِنْهُ وَبَقِيَتِ الْمُطَلَّقَةُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِيمَا رَوَاهُ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ.
ومَنْ الْوَاقِعَةُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ فِي بَعْضِ مَا سَكَنْتُمْ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْمَسْكَنَ صَالِحٌ لِلتَّبْعِيضِ بِحَسَبِ عُرْفِ السُّكْنَى مَعَ تَجَنُّبِ التَّقَارُبِ فِي الْمَبِيتِ إِنْ كَانَتْ غَيْرَ رَجْعِيَّةٍ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَسَعْهُمَا خَرَجَ الزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ وُجْدِكُمْ بَدَلٌ مُطَابِقٌ، وَهُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ فَإِنَّ مَسْكَنَ الْمَرْءِ هُوَ وُجْدُهُ الَّذِي وَجَدَهُ غَالِبًا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مُقَتِّرًا عَلَى نَفْسِهِ.
وَالْوُجْدُ: مُثَلَّثُ الْوَاوِ هُوَ الْوِسْعُ وَالطَّاقَةُ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ الْوَاوِ. وَقَرَأَهُ رَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِكَسْرِهَا.
وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ.
أُتْبِعَ الْأَمْرُ بِإِسْكَانِ الْمُطَلَّقَاتِ بِنَهْيٍ عَنِ الْإِضْرَارِ بِهِنَّ فِي شَيْءٍ مُدَّةَ الْعِدَّةِ مِنْ ضِيقِ مَحَلٍّ أَوْ تَقْتِيرٍ فِي الْإِنْفَاقِ أَوْ مُرَاجَعَةٍ يَعْقُبُهَا تَطْلِيقٌ لِتَطْوُيْلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهِنَّ قصدا للكناية وَالتَّشَفِّي كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣١]. أَوْ لِلْإِلْجَاءِ إِلَى افْتِدَائِهَا مِنْ مُرَاجَعَتِهِ بِخُلْعٍ.
وَالضَّارَّةُ: الْإِضْرَارُ الْقَوِيُّ فَكَأَنَّ الْمُبَالَغَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى النَّهْيِ لَا إِلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، أَيْ هُوَ نَهْيٌ شَدِيدٌ كَالْمُبَالَغَةِ فِي قَوْلِهِ: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: ٤٦] فِي أَنَّهَا مُبَالَغَةٌ فِي النَّفْيِ وَمَثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ.
وَالْمُرَادُ بِالتَّضْيِيقِ: التَّضْيِيقُ الْمَجَازِيُّ وَهُوَ الْحَرَجُ وَالْأَذَى.
وَاللَّامُ فِي لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ لِتَعْلِيلِ الْإِضْرَارِ وَهُوَ قَيْدٌ جَرَى عَلَى غَالِبِ مَا يَعْرِضُ
لِلْمُطَلَّقِينَ مِنْ مَقَاصِدِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا [الْبَقَرَة: ٢٣١] وَإِلَّا فَإِنَّ الْإِضْرَارَ بِالْمُطَلَّقَاتِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِقَصْدِ التَّضْيِيقِ عَلَيْهِنَّ.
فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [٢٧، ٢٨] وَقَوْلُهُ فِيهَا: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ إِلَى قَوْلِهِ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات: ٥١- ٥٥].
وَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ لَيْسَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَكَانَ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّنْدِيمِ، أَوِ التَّوْبِيخِ فَعُمُومُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَعُمُومُ الْمُجْرِمِينَ عَلَى حَقِيقَتِهِ.
وَأَجَابَ الْمُجْرِمُونَ بِذِكْرِ أَسْبَابِ الزَّجِّ بِهِمْ فِي النَّارِ لِأَنَّهُمْ مَا ظَنُّوا إِلَّا ظَاهِرَ الِاسْتِفْهَامِ، فَذَكَرُوا أَرْبَعَةَ أَسْبَابٍ هِيَ أُصُولُ الْخَطَايَا وَهِيَ: أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ فَحَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ.
وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْمُطْعِمِينَ الْمَسَاكِينَ وَذَلِكَ اعْتِدَاءٌ عَلَى ضُعَفَاءِ النَّاسِ بِمَنْعِهِمْ حَقَّهُمْ فِي الْمَالِ.
وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَخُوضُونَ خَوْضَهُمُ الْمَعْهُودَ الَّذِي لَا يَعْدُو عَنْ تَأْيِيدِ الشِّرْكِ وَأَذَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ.
وَأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْجَزَاءِ فَلَمْ يَتَطَلَّبُوا مَا يُنْجِيهِمْ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ، سَلَكُوا بِهَا طَرِيقَ الْإِطْنَابِ الْمُنَاسِبَ لِمَقَامِ التَّحَسُّرِ وَالتَّلَهُّفِ عَلَى مَا فَاتَ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: لِأَنَّا لَمْ نَكُنْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ اشْتَهَرُوا بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الصَّلَاةِ، وَبِأَنَّهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، وَبِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَبِيَوْمِ الدِّينِ وَيُصَدِّقُونَ الرُّسُلَ وَقَدْ جَمَعَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢- ٤] هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ.
وَأَصْلُ الْخَوْضِ الدُّخُولُ فِي الْمَاءِ، وَيُسْتَعَارُ كَثِيرًا لِلْمُحَادَثَةِ الْمُتَكَرِّرَةِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ إِطْلَاقُهُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْجِدَالِ وَاللَّجَاجِ غَيْرِ الْمَحْمُودِ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الْأَنْعَام: ٩١] وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَقَدْ جَمَعَ الْإِطْلَاقَيْنَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الْأَنْعَام: ٦٨].
وَبِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ الْأَسْبَابِ الْأَرْبَعَةِ فِي جَوَابِهِمْ فَضْلًا عَنْ مَعْنَى الْكِنَايَةِ، لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ لِلْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ.
وَيَوْمُ الدِّينِ: يَوْمُ الْجَزَاءِ وَالْجَزَاءِ.
حَيْثُ كَانَ هَذَا غَالِبًا عَلَى الْكُفَّارِ جَاءَ التَّوْبِيخُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِاسْمِ الْجِنْسِ إِذْ يَقَعُ (كَذَا) بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْمَنْزِعِ اهـ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ ضَلَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَمِنْ فِتْنَةِ الشَّيْطَانِ لِبَعْضِ جَهَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُخَيِّلَ إِلَيْهِمْ مَا يَحْصُلُ لِأَحَدٍ بِجَعْلِ اللَّهِ مِنِ ارْتِبَاطِ الْمُسَبَّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا وَالْمَعْلُولَاتِ بِعِلَلِهَا فَيَضَعُوا مَا يُصَادِفُ نَفْعَ أَحَدِهِمْ مِنَ الْحَوَادِثِ مَوْضِعَ كَرَامَةٍ مِنَ اللَّهِ لِلَّذِي صَادَفَتْهُ مَنَافِعُ ذَلِكَ، تَحْكِيمًا لِلشَّاهِيَةِ وَمَحَبَّةِ النَّفْسِ وَرَجْمًا بِالْغَيْبِ وَافْتِيَاتًا عَلَى اللَّهِ، وَإِذَا صَادَفَ أَحَدَهُمْ مِنَ الْحَوَادِثِ مَا جَلَبَ لَهُ ضُرًّا تَخَيَّلَهُ بِأَوْهَامِهِ انْتِقَامًا مِنَ اللَّهِ قَصَدَهُ بِهِ، تَشَاؤُمًا مِنْهُمْ.
فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمُوا مَا نَالَهُمْ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ إِكْرَامًا مِنَ اللَّهِ لَهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِكَرَامَةِ اللَّهِ.
وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَوَهَّمُوا مَا صَادَفَهُمْ من فتور الزرق إِهَانَةً مِنَ اللَّهِ لَهُمْ لَيْسُوا بِأَحَطَّ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمُهُمْ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ نِعْمَةٍ.
فَذَلِكَ الِاعْتِقَادُ أَوْجَبَ تَغَلْغُلَ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي إِشْرَاكِهِمْ وَصَرَفَ أَنْظَارَهُمْ عَنِ التَّدَبُّرِ فِيمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَرُبَّمَا جَرَتِ الْوَسَاوِسُ الشَّيْطَانِيَّةُ فِتْنَةً مِنْ ذَلِكَ لِبَعْضِ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ وَقِصَارِ الْأَنْظَارِ وَالْجُهَّالِ بِالْعَقِيدَةِ الْحَقِّ كَمَا أَفْصَحَ أَحْمَدُ بْنُ الرَّاوَنْدِيِّ (١). عَنْ تَزَلْزُلِ فَهْمِهِمْ وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ بِقَوْلِهِ:
كَمْ عَاقِلٍ عَاقِلٍ أَعْيَتْ مَذَاهِبُهُ | وَجَاهِلٍ جَاهِلٍ تَلْقَاهُ مَرْزُوقَا |
هَذَا الَّذِي تَرَكَ الْأَفْهَامَ حَائِرَةً | وَصَيَّرَ الْعَالِمَ النِّحْرِيرَ زِنْدِيقَا |
_________
(١) هُوَ أَحْمد بن يحيى أَبُو الْحُسَيْن ابْن الراوندي بواو مَفْتُوحَة ثمَّ نون سَاكِنة نِسْبَة إِلَى راوند قَرْيَة من قرى قاسان بنواحي أَصْبَهَان. كَانَ من الْمُعْتَزلَة ثمَّ صَار ملحدا توفّي سنة خمسين وَمِائَتَيْنِ، وَقيل سنة خمس وَأَرْبَعين وَقيل سنة ثَمَان وَتِسْعين.