وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ مِثْلِهِ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى (مَا نَزَّلْنَا) أَيْ مِنْ مِثْلِ الْقُرْآنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى عَبْدِنا فَإِنْ أُعِيدَ إِلَى (مَا نَزَّلْنَا) أَيْ مِنْ مِثْلِ الْقُرْآنِ فَالْأَظْهَرُ أَنَّ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ أَيْ سُورَةٍ مَأْخُوذَةٍ مِنْ مِثْلِ الْقُرْآنِ أَيْ كِتَابٍ مِثْلِ الْقُرْآنِ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ صِفَةٌ لِسُورَةٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةً أَوْ بَيَانِيَّةً أَوْ زَائِدَةً، وَقَدْ قِيلَ بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَهِيَ وُجُوهٌ مَرْجُوحَةٌ، وَعَلَى الْجَمِيعِ فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ صِفَةٌ لِسُورَةٍ، أَيْ هِيَ بَعْضُ مِثْلِ مَا نَزَّلْنَا، وَمِثْلُ اسْمٌ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى الْمُمَاثِلِ، أَوْ سُورَةٌ مِثْلُ مَا نَزَّلْنَا وَ (مِثْلُ) صِفَةٌ عَلَى احْتِمَالَيْ كَوْنِ (مِنْ) بَيَانِيَّةً أَوْ زَائِدَةً، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَوْجُهِ تَقْتَضِي أَنَّ الْمِثْلَ سَوَاءً كَانَ صِفَةً أَوِ اسْمًا فَهُوَ مِثْلٌ مُقَدَّرٌ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ وَفَرْضِهِمْ وَلَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الْمِثْلَ مَوْجُودٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّعْجِيزِ. وَإِنْ أُعِيد الضَّمِير لعبدنا فَمِنْ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ (ائْتُوا) وَهِيَ ابْتِدَائِيَّةٌ وَحِينَئِذٍ فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ ظَرْفُ لَغْوٍ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ. وَيَجُوزُ كَوْنُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ صِفَةً لِسُورَةٍ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ وَالْمَعْنَى فِيهِمَا ائْتُوا بِسُورَةٍ مُنْتَزَعَةٍ مِنْ رَجُلٍ مِثْلِ مُحَمَّدٍ فِي الْأُمِّيَّةِ، وَلَفْظُ مِثْلِ إِذَنِ اسْمٌ.
وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكَ أَنَّ لَفْظَ (مِثْلٍ) فِي الْآيَةِ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْكِنَايَةَ عَنِ
الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١] بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَفْظَ (مِثْلِ) كِنَايَةٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ مِنْ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِمَنْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» وَإِنَّمَا لَفْظُ مِثْلٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الصَّرِيحِ إِلَّا أَنَّهُ أَشْبَهَ الْمُكْنَى بِهِ عَنْ نَفْسِ الْمُضَافِ هُوَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمِثْلَ هُنَا عَلَى تَقْدِيرِ الْإِسْمِيَّةِ غَيْرُ مُتَحَقَّقِ الْوُجُودِ إِلَّا أَنَّ سَبَبَ انْتِفَاءِ تَحَقُّقِهِ هُوَ كَوْنُهُ مَفْرُوضًا فَإِنَّ كَوْنَ الْأَمْرِ لِلتَّعْجِيزِ يَقْتَضِي تَعَذُّرَ الْمَأْمُورِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَاتِهِ الْوُجُوهِ بِمُقْتَضٍ وُجُودَ مِثْلٍ لِلْقُرْآنِ حَتَّى يُرَادَ بِهِ بَعْضُ الْوُجُوهِ كَمَا توهمه التفتازانيّ.
وَعِنْدِي أَنَّ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي احْتَمَلَهَا قَوْلُهُ: مِنْ مِثْلِهِ كُلَّهَا مُرَادَةٌ لِرَدِّ دَعَاوِي الْمُكَذِّبِينَ فِي اخْتِلَافِ دَعَاوِيهِمْ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ بَشَرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مُكْتَتَبٌ مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ. وَهَاتِهِ الْوُجُوهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ تُفَنِّدُ جَمِيعَ الدَّعَاوِي فَإِنْ كَانَ كَلَامَ بَشَرٍ فَأَتَوْا بِمُمَاثِلِهِ أَوْ بِمِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ فَأْتُوا أَنْتُمْ بِجُزْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسَاطِيرِ، وَإِنْ كَانَ يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ فَأْتُوا أَنْتُمْ مِنْ عِنْدِهِ بِسُورَةٍ فَمَا هُوَ بِبَخِيلٍ عَنْكُمْ إِنْ سَأَلْتُمُوهُ. وَكُلُّ هَذَا إِرْخَاءٌ لِعِنَانِ الْمُعَارَضَةِ وَتَسْجِيلٌ لِلْإِعْجَازِ عِنْدَ عَدَمِهَا.
وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ رَجَاءَهُمْ رَحْمَةَ اللَّهِ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ وَهِجْرَتِهِمْ وَجِهَادِهِمْ، فَتَأَكَّدَ بِذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَوْصُولُ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ، وَإِنَّمَا احْتِيجَ لِتَأْكِيدِهِ لِأَنَّ الصِّلَتَيْنِ لَمَّا كَانَتَا مِمَّا اشْتُهِرَ بِهِمَا الْمُسْلِمُونَ وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ صَارَتَا كَاللَّقَبِ إِذْ يُطْلَقُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ اسْمُ الَّذِينَ آمَنُوا كَمَا يُطْلَقُ عَلَى مُسْلِمِي قُرَيْشٍ يَوْمَئِذٍ اسْمُ الْمُهَاجِرِينَ فَأَكَّدَ قَصْدَ الدَّلَالَةِ عَلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ مِنَ الْمَوْصُولِ.
وَالرَّجَاءُ: تَرَقُّبُ الْخَيْرِ مَعَ تَغْلِيبِ ظَنِّ حُصُولِهِ، فَإِنَّ وَعْدَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُخْلَفُ فَضْلًا مِنْهُ وَصِدْقًا، وَلَكِنَّ الْخَوَاتِمَ مَجْهُولَةٌ وَمُصَادَفَةُ الْعَمَلِ لِمُرَادِ اللَّهِ قَدْ تَفُوتُ لِمَوَانِعَ لَا يَدْرِيهَا الْمُكَلَّفُ وَلِئَلَّا يَتَّكِلُوا فِي الِاعْتِمَادِ عَلَى الْعَمَلِ.
[٢١٩، ٢٢٠]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢١٩]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩)
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٢٠]
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠)
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما.
اسْتِئْنَافٌ لِإِبْطَالِ عَمَلَيْنِ غَالِبَيْنِ عَلَى النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهُمَا شُرْبُ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرُ وَهَذَا مِنْ عِدَادِ الْأَحْكَامِ الَّتِي بَيَّنَهَا فِي هَاتِهِ السُّورَةِ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى إِصْلَاحِ الْأَحْوَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْمَشْرُوعُ فِي بَيَانِهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [الْبَقَرَة: ١٧٨] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، عَدَا مَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْآدَابِ وَالزَّوَاجِرِ وَالْبَشَائِرِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْأَمْثَالِ وَالْقَصَصِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَفَنُّنِ أَسَالِيبِهِ تَنْشِيطًا لِلْمُخَاطَبِينَ وَالسَّامِعِينَ وَالْقَارِئِينَ وَمَنْ بُلِّغَ، وَقَدْ تَنَاسَقَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَالسَّائِلُونَ هُمُ الْمُسْلِمُونَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: نَزَلَتْ فِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَنَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي الْخَمْرِ فَإِنَّهَا مُذْهِبَةٌ لِلْعَقْلِ مُتْلِفَةٌ لِلْمَالِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَرَكَ الْخَمْرَ قَوْمٌ وَشَرِبَهَا آخَرُونَ ثُمَّ نَزَلَتْ بَعْدَهَا آيَةُ الْمَائِدَةِ [٩٠] : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ.
وَشُرْبُ الْخَمْرِ عَمَلٌ مُتَأَصِّلٌ فِي الْبَشَرِ قَدِيمًا لَمْ تُحَرِّمْهُ شَرِيعَةٌ مِنَ الشَّرَائِعِ لَا الْقَدْرَ الْمُسْكِرَ بَلَهُ مَا دُونَهُ، وَأَمَّا مَا يَذْكُرُهُ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ إِنَّ الْإِسْكَارَ حَرَامٌ فِي الشَّرَائِعِ كُلِّهَا فَكَلَامٌ لَا شَاهِدَ لَهُمْ عَلَيْهِ بَلِ الشَّوَاهِدُ عَلَى ضِدِّهِ مُتَوَافِرَةٌ، وَإِنَّمَا جَرَّأَهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَا قَعَّدُوهُ فِي
وَانْتَصَبَ نُوحاً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ عَلَى هَدَيْنا لِلِاهْتِمَامِ، ومِنْ قَبْلُ حَالٌ مِنْ نُوحاً. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ هَذَا الْحَالِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ مُتَأَصِّلَةٌ فِي أُصُولِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. وَبُنِيَ قَبْلُ عَلَى الضَّمِّ، عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي (قَبْلُ) وَأَخَوَاتِ غَيْرٍ مِنْ حَذْفِ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ قَبْلُ وَيُنْوَى مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ. وَتَقَدَّمَتْ تَرْجَمَةُ نُوحٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٣٣].
وَقَوْلُهُ: مِنْ ذُرِّيَّتِهِ حَال من دَاوُود، وداوُدَ مَفْعُولُ (هَدَيْنَا) مَحْذُوفًا. وَفَائِدَةُ هَذَا الْحَالِ التَّنْوِيهُ بِهَؤُلَاءِ الْمَعْدُودِينَ بِشَرَفِ أَصْلِهِمْ وَبِأَصْلِ فَضْلِهِمْ، وَالتَّنْوِيهُ بِإِبْرَاهِيمَ أَوْ بِنُوحٍ بِفَضَائِلِ ذُرِّيَّتِهِ. وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى نُوحٍ لَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّ نُوحًا أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَلِأَنَّ لُوطًا مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، وَلَيْسَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ حَسْبَمَا جَاءَ فِي كِتَابِ التَّوْرَاةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لُوطٌ عُومِلَ مُعَامَلَةَ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِشِدَّةِ اتِّصَالِهِ بِهِ. كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ ذِكْرُ اسْمِهِ بَعْدَ انْتِهَاءِ أَسْمَاءِ مَنْ هُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَدْحِ بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ لَا عَلَى الْعَطْفِ.
وَدَاوُدُ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ تَرْجَمَتِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥١]. وَنُكْمِلُهَا هُنَا بِأَنَّهُ دَاوُدُ بْنُ يِسِّي مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وُلِدَ بِقَرْيَةِ بَيْتِ لَحْمٍ سَنَةَ ١٠٨٥ قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَتُوُفِّيَ فِي أُورَشْلِيمَ سَنَةَ ١٠١٥. وَكَانَ فِي شَبَابِهِ رَاعِيًا لِغَنَمِ
أَبِيهِ. وَله معرفَة النغم وَالْعَزْفِ وَالرَّمْيِ بِالْمِقْلَاعِ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى (شَمْوِيلَ) نَبِيءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُبَارِكَ دَاوُدَ بْنَ يِسِّي، وَيَمْسَحَهُ بِالزَّيْتِ الْمُقَدَّسِ لِيَكُونَ مَلِكًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، عَلَى حَسَبِ تَقَالِيدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنْبَاءً بِأَنَّهُ سَيَصِيرُ مَلِكًا عَلَى إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مَوْتِ (شَاوُلَ) الَّذِي غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا مَسَحَهُ (شَمْوِيلُ) فِي قَرْيَةِ بَيْتِ لَحْمٍ دُونَ أَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ
وَالِاسْتِدْرَاكُ الَّذِي أَفَادَهُ لكِنَّ نَاشِئٌ عَنِ الْمُقَدَّمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَضَمَّنَتْهُمَا جُمْلَتَا وَما
كانُوا أَوْلِياءَهُ، إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ
لِأَنَّ ذَلِكَ يُثِيرُ فَرْضَ سَائِلٍ يَسْأَلُ عَنِ الْمُوجَبِ الَّذِي أَقْحَمَهُمْ فِي الصَّدِّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ حَقِيقُونَ بِوِلَايَتِهِ لِمَا تَقَدَّمَ عَنِ «الْكَشَّافِ»، فَحُذِفَ مَفْعُولُ يَعْلَمُونَ لِدَلَالَةِ الِاسْتِدْرَاكِ عَلَيْهِ لِتَعَلُّقِ الِاسْتِدْرَاكِ بِقَوْلِهِ:
وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ.
وَإِنَّمَا نَفَى الْعِلْمَ عَنْ أَكْثَرِهِمْ دُونَ أَنْ يُقَالَ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَاقْتَضَى أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَوْلِيَاءَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهُمْ مَنْ أَيْقَنُوا بِصِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَفَاقُوا مِنْ غَفْلَتِهِمُ الْقَدِيمَةِ، وَلَكِنْ حَمَلَهُمْ عَلَى الْمُشَايَعَةِ لِلصَّادِّينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، الْعِنَادُ وَطَلَبُ الرِّئَاسَةِ، وَمُوَافَقَةُ الدَّهْمَاءِ عَلَى ضَلَالِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ عُقَلَاءُ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ تَهَيَّأَ لِلْإِيمَانِ مِنْهُمْ مِثْلَ الْعَبَّاسِ وَعَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَحَكِيم بن حزم وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَمَنِ اسْتَبَقَاهُمُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ فَكَانُوا مِنْ نُصَرَائِهِ مِنْ بَعْدِ نُزُولِ هَذِه الْآيَة.
[٣٥]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٣٥]
وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥)
مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْأَنْفَال: ٣٤] فَمَضْمُونُهَا سَبَبٌ ثَانٍ لِاسْتِحْقَاقِهِمُ الْعَذَابَ، وَمَوْقِعُهَا، عَقِبَ جُمْلَةِ: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ [الْأَنْفَال: ٣٤] يَجْعَلُهَا كَالدَّلِيلِ الْمُقَرِّرِ لِانْتِفَاءِ وِلَايَتِهِمْ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا عِنْدَ مَسْجِدِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُتَّقِينَ، فَكَانَ حَقِيقًا بِسَلْبِ وِلَايَةِ الْمَسْجِدِ عَنْهُ، فَعُطِفَتِ الْجُمْلَةُ بِاعْتِبَارِهَا سَبَبًا لِلْعَذَابِ، وَلَوْ فُصِلَتْ بِاعْتِبَارِهَا مُقَرِّرَةً لِسَلْبِ أَهْلِيَّةِ الْوِلَايَةِ عَنْهُمْ لَصَحَّ ذَلِكَ، وَلَكِنْ كَانَ الِاعْتِبَارُ الْأَوَّلُ أَرْجَحَ لِأَنَّ الْعَطْفَ أَدَلُّ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِ مَوْقِعِهَا يُفِيدُ الِاعْتِبَارَ الثَّانِي.
وَالْمُكَاءُ عَلَى صِيغَةِ مَصَادِرِ الْأَصْوَاتِ كَالرُّغَاءِ وَالثُّغَاءِ وَالْبُكَاءِ وَالنُّوَاحِ، يُقَالُ: مَكَا يَمْكُو إِذَا صَفَّرَ بِفِيهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ نَوْعٌ مِنَ الطَّيْرِ الْمَكَّاءُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ، وَجَمُعُهُ مَكَاكِيءُ بِهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ بَعْدَ الْيَاءِ، وَهُوَ طَائِرٌ أَبْيَضُ يَكُونُ بِالْحِجَازِ.
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١٢٨]
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى قَدْرِ الْجُرْمِ فِي الْعُقُوبَةِ، وَلِلتَّرْغِيبِ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى، وَالْعَفْوِ عَنِ الْمُعْتَدِينَ، وَلِتَخْصِيصِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَمْرِ بِالصَّبْرِ، وَالِاسْتِعَانَةِ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِمَعُونَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِصَرْفِ الْكَدَرِ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ جَرَّاءِ أَعْمَالِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ.
عَلَّلَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِأَنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ يتّقونه فيقفون عِنْد مَا حَدَّ لَهُمْ، وَمَعَ الْمُحْسِنِينَ.
وَالْمَعِيَّةُ هُنَا مَجَازٌ فِي التَّأْيِيدِ وَالنَّصْرِ.
وَأَتَى فِي جَانِبِ التَّقْوَى بِصِلَةٍ فِعْلِيَّةٍ مَاضِيَةٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى لُزُومِ حُصُولِهَا وَتَقَرُّرِهَا مِنْ قَبْلُ
لِأَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ، لِأَن التّقوى آئلة إِلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَهُوَ حَقٌّ عَلَى الْمُكَلَّفِ. وَلِذَلِكَ أُمِرَ فِيهَا بِالِاقْتِصَارِ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ.
وَأَتَى فِي جَانِبِ الْإِحْسَانِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى كَوْنِ الْإِحْسَانِ ثَابِتًا لَهُمْ دَائِمًا مَعَهُمْ، لِأَنَّ الْإِحْسَان فَضِيلَة، فبصاحبه حَاجَةٌ إِلَى رُسُوخِهِ مِنْ نَفسه وتمكّنه.
حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة ١٤٢٠ هـ- ٢٠٠٠ م الطبعة الأولى
وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: فَتَرَى لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَلَيْسَ للنبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم لِأَن الرَّسُول صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم يَوْمَئِذٍ فِي مَقَامَاتٍ عَالِيَةٍ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ.
وَالْإِشْفَاقُ: الْخَوْفُ مِنْ أَمْرٍ يَحْصُلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي يَقُولُونَ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْفَظِيعَةِ، أَوْ لِإِفَادَةِ تَكَرُّرِ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ وَإِعَادَتُهُ شَأْنُ الْفَزِعِينَ الْخَائِفِينَ.
وَنِدَاءُ الْوَيْلِ: نُدْبَةٌ لِلتَّوَجُّعِ مِنَ الْوَيْلِ. وَأَصْلُهُ نِدَاءٌ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا بِتَنْزِيلِ مَا لَا يُنَادَى مَنْزِلَةَ مَا يُنَادَى لِقَصْدِ حُضُورِهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: هَذَا وَقَتُكِ فَاحْضُرِي، ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ فَصَارَ لِمُجَرَّدِ الْغَرَضِ مِنَ النِّدَاءِ وَهُوَ التَّوَجُّعُ وَنَحْوُهُ.
وَالْوَيْلَةُ: تَأْنِيثُ الْوَيْلِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ سُوءُ الْحَالِ وَالْهَلَاكُ. كَمَا أُنِّثَتِ الدَّارُ عَلَى دَارَةَ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى سَعَةِ الْمَكَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ يَا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فِي سُورَة الْعُقُود الْمَائِدَة [٣١].
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلهم: مالِ هذَا الْكِتابِ مُسْتَعْمل فِي التَّعَجُّب. (فَمَا) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ، وَمَعْنَاهَا: أَيُّ شَيْءٍ، ولِهذَا الْكِتابِ صِفَةٌ لِ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّنْكِيرِ، أَيْ مَا ثَبَتَ لِهَذَا الْكِتَابِ.
وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ مِثْلُ قَوْلِهِ: مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ [يُوسُفَ: ١١].
وَجُمْلَةُ لَا يُغادِرُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، هِيَ مَثَارُ التَّعَجُّبِ، وَقَدْ جَرَى الِاسْتِعْمَالُ بِمُلَازَمَةِ الْحَالِ لِنَحْوِ مَا لَكَ فَيَقُولُونَ: مَا لَكَ لَا تَفْعَلُ وَمَا لَكَ فَاعِلًا.
وَالْمُغَادَرَةُ: التَّرْكُ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الْكَهْف: ٤٧].
وَالصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ: وَصْفَانِ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ، أَيْ فِعْلَةً أَوْ هَنَةً.
وَالْمُرَادُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ هُنَا الْأَفْعَالُ الْعَظِيمَةُ وَالْأَفْعَالُ الْحَقِيرَةُ. وَالْعِظَمُ وَالْحَقَارَةُ يَكُونَانِ بِحَسَبِ الْوُضُوحِ وَالْخَفَاءِ وَيَكُونَانِ بِحَسَبِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ.
وَالْأَوْقَاتُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ أَوْقَات الصَّلَوَات، وَهِي وَقْتُ الصُّبْحِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَوَقْتَانِ قَبْلَ غُرُوبِهَا وَهُمَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، وَقِيلَ الْمُرَادُ صَلَاةُ الْعَصْرِ. وَأَمَّا الظُّهْرُ فَهِيَ قَوْلُهُ: وَأَطْرافَ النَّهارِ كَمَا سَيَأْتِي.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ (فَسَبِّحْ). وَذَلِكَ وَقْتَا الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْمُجْمَلِ الَّذِي بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ.
وَأُدْخِلَتِ الْفَاءُ عَلَى فَسَبِّحْ لِأَنَّهُ لَمَّا قُدِّمَ عَلَيْهِ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ لِلِاهْتِمَامِ شَابَهَ تَقْدِيمَ أَسْمَاءِ الشَّرْطِ الْمُفِيدَةِ مَعْنَى الزَّمَانِ، فَعُومِلَ الْفِعْلُ مُعَامَلَةَ جَوَابِ الشَّرْطِ
كَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ»
، أَيِ الْأَبَوَيْنِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٧٩].
وَوَجْهُ الِاهْتِمَامِ بِآنَاءِ اللَّيْلِ أَنَّ اللَّيْلَ وَقْتٌ تَمِيلُ فِيهِ النُّفُوسُ إِلَى الدَّعَةِ فَيُخْشَى أَنْ تَتَسَاهَلَ فِي أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِيهِ.
وَآنَاءِ اللَّيْلِ: سَاعَاتُهُ. وَهُوَ جَمْعُ إِنْيٌ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَيَاءٍ فِي آخِرِهِ.
وَيُقَالُ: إِنْوٌ- بِوَاوٍ فِي آخِرِهِ. وَيُقَالُ: إِنًى- بِأَلْفٍ فِي آخِرِهِ مَقْصُورًا- وَيُقَالُ: أَنَاءٌ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي أَوَّلِهِ وَبِمَدٍّ فِي آخِرِهِ- وَجَمْعُ ذَلِكَ عَلَى آنَاءٍ بِوَزْنِ أَفْعَالٍ.
وَقَوْلُهُ وَأَطْرافَ النَّهارِ بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَطَرَفُ الشَّيْءِ مُنْتَهَاهُ. قِيلَ: الْمُرَادُ أَوَّلُ النَّهَارِ وَآخِرُهُ، وَهُمَا وَقْتَا الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ لِلِاهْتِمَامِ بِالْبَعْضِ، كَقَوْلِهِ حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [الْبَقَرَة: ٢٣٨]. وَقِيلَ: الْمُرَادُ طَرَفُ سَيْرِ الشَّمْسِ فِي قَوْسِ الْأُفُقِ، وَهُوَ بُلُوغُ سَيْرِهَا وَسَطَ الْأُفُقِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالزَّوَالِ، وَهُمَا طَرَفَانِ طَرَفُ النِّهَايَةِ وَطَرَفُ الزَّوَالِ، وَهُوَ
فَالْمُرَادُ بِ النَّاسُ هُنَا الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَا هُوَ الْمُصْطَلَحُ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ النَّاسُ جَمِيعَ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمِينَ وَمُشْرِكِينَ.
وَفِي افْتِتَاحِ السُّورَةِ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ وَتَنْهِيَتِهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ شِبْهٌ بِرَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ. وَمِمَّا يَزِيدُهُ حُسْنًا أَنْ يَكُونَ الْعَجُزُ جَامِعًا لِمَا فِي الصَّدْرِ وَمَا بَعْدَهُ، حَتَّى يَكُونَ كَالنَّتِيجَةِ لِلِاسْتِدْلَالِ وَالْخُلَاصَةِ لِلْخُطْبَةِ وَالْحَوْصَلَةِ لِلدَّرْسِ.
وَضَرْبُ الْمَثَلِ: ذِكْرُهُ وَبَيَانُهُ اسْتُعِيرَ الضَّرْبُ لِلْقَوْلِ وَالذِّكْرِ تَشْبِيهًا بِوَضْعِ الشَّيْءِ بِشِدَّةٍ، أَيْ أُلْقِيَ إِلَيْكُمْ مَثَلٌ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ٢٦].
وَبُنِيَ فِعْلُ ضُرِبَ بِصِيغَةِ النَّائِبِ فَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ فَاعِلٌ بِعَكْسِ مَا فِي الْمَوَاضِعِ الْأُخْرَى الَّتِي صُرِّحَ فِيهَا بِفَاعِلِ ضَرْبِ الْمَثَلِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ٢٦] وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً فِي [سُورَةِ النَّحْلِ: ٧٥] وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِي [سُورَةِ الزُّمَرِ: ٢٩] وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ فِي [سُورَةِ النَّحْلِ:
٧٦]. إِذْ أُسْنِدَ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ وَغَيْرِهَا ضَرْبُ الْمَثَلِ إِلَى اللَّهِ، وَنَحْوُ قَوْلِهِ: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ فِي [سُورَةِ النَّحْلِ: ٧٤]. وضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ فِي [سُورَةِ يس: ٧٨]، إِذْ أُسْنِدَ الضَّرْبُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا نَسْجُ التَّرْكِيبِ عَلَى إِيجَازٍ صَالِحٍ لِإِفَادَةِ احْتِمَالَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَدَّرَ الْفَاعِلُ اللَّهَ تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ الْمَثَلُ تَشْبِيهًا تَمْثِيلِيًّا، أَيْ أَوْضَحَ اللَّهُ تَمْثِيلًا يُوَضِّحُ حَالَ الْأَصْنَامِ فِي فَرْطِ الْعَجْزِ عَنْ إِيجَادِ أَضْعَفِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ لِكُلِّ أَحَدٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُقَدَّرَ الْفَاعِلُ الْمُشْرِكِينَ وَيَكُونُ الْمَثَلُ بِمَعْنَى الْمُمَاثِلُ، أَيْ جَعَلُوا أَصْنَامَهُمْ مُمَاثِلَةً لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْإِلَهِيَّةِ.
وَالْمُجِيبُونَ هُمُ الْعُقَلَاءُ مِنَ الْمَعْبُودِينَ الْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَقَوْلُهُمْ: سُبْحانَكَ كَلِمَةُ تَنْزِيهٍ كُنِّيَ بِهَا عَنِ التَّعَجُّبِ مِنْ قَوْلٍ فَظِيعٍ. كَقَوْلِ الْأَعْشَى:
قَدْ قُلْتُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ | سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ |
نَحْشُرُهُمْ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَرَّعَتْهُمُ الْآيَةُ بِالْوَعِيدِ وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ إِلَى قَوْله: مَسْحُوراً [الْفرْقَان: ٧، ٨] لَكِنْ مَا يَقْتَضِيهِ وَصْفُهُمْ بِ الظَّالِمُونَ وَالْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ:
لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ [الْفرْقَان: ١١] مِنْ شُمُولِ كُلِّ مَنْ تَحَقَّقَ فِيهِ مَضْمُونُ الصِّلَةِ، كُلُّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ نَحْشُرُهُمْ عَائِدًا إِلَى لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ فَيَشْمَلُ الْمُشْرِكِينَ الْمَوْجُودِينَ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ وَمَنِ انْقَرَضَ مِنْهُمْ بَعْدَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَمَنْ سَيَأْتِي بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَوَصْفُ الْعِبَادِ هُنَا تَسْجِيلٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِالْعُبُودِيَّةِ وَتَعْرِيضٌ بِكُفْرَانِهِمْ حَقَّهَا.
وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِمْ لِتَمْيِيزِهِمْ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ الْعِبَادِ.
وَهَذَا أَصْلٌ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَى عَيْنِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لَدَى الْقَاضِي.
وَإِسْنَادُ الْقَوْلِ إِلَى مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ فِي الْأَصْنَامِ نُطْقًا يَسْمَعُهُ عَبَدَتُهَا، أَمَّا غَيْرُ الْأَصْنَامِ مِمَّنْ عُبِدَ مِنَ الْعُقَلَاءِ فَالْقَوْلُ فِيهِمْ ظَاهِرٌ.
وَإِعَادَةُ فِعْلِ ضَلُّوا فِي قَوْلِهِ: أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ لِيَجْرِيَ عَلَى ضَمِيرِهِمْ مُسْنَدٌ فِعْلِيٌّ فَيُفِيدُ التَّقَوِّيَ فِي نِسْبَةِ الضَّلَالِ إِلَيْهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَمْ هُمْ ضَلُّوا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ دُونَ تَضْلِيلٍ مِنْكُمْ. وَحَقُّ الْفِعْلِ أَنْ يُعَدَّى بِ (عَنْ) وَلَكِنَّهُ عُدِّيَ بِنَفْسِهِ لتَضَمّنه معنى (أخطؤوا)، أَوْ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ.
وسُبْحانَكَ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي مَقَامِ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُمْ يُنَزِّهُونَ اللَّهَ عَنْ أَنْ يَدَّعُوا لِأَنْفُسِهِمْ مُشَارَكَتَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ.
وَالتَّحْوِيلُ: نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى غَيْرِهِ، وَكَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَوْلِ وَهُوَ الْجَانِبُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا تَقَعُ الْكَرَامَةُ فِي مَوْقِعِ الْعِقَابِ، وَلَا يُتْرَكُ عِقَابُ الْجَانِي. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الْحُكَمَاءِ: مَا بِالطَّبْعِ لَا يَتَخَلَّفُ وَلَا يَخْتَلِفُ.
[٤٤]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٤٤]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً.
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ [فاطر: ٤٣] اسْتِدْلَالًا عَلَى أَنَّ مُسَاوَاتَهُمْ لِلْأَوَّلِينَ تُنْذِرُ بِأَنْ سَيَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ مِنْ نَوْعِ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ آثَارِ اسْتِئْصَالِهِمْ فِي دِيَارِهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ كَانَ عَاقِبَتُهُمُ الِاضْمِحْلَالَ مَعَ أَنَّهُمْ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ هَؤُلَاءِ فَيَكُونُ اسْتِئْصَالُ هَؤُلَاءِ أقرب.
وَجِيء بِهَذِهِ الْحَالِ فِي هَذِهِ الْآيَة لما يفِيدهُ مَوْقِعُ الْحَالِ مِنِ اسْتِحْضَارِ صُورَةِ تِلْكَ الْقُوَّةِ إِيثَارًا لِلْإِيجَازِ لِاقْتِرَابِ خَتْمِ السُّورَةِ. وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْتَ فِي نَظَائِرِهَا بِجُمْلَةِ الْحَالِ وَلَكِنْ أُتِيَ فِيهَا بِجُمْلَةِ وَصْفٍ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ غَافِرٍ [٢١] : الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ، وَفِي سُورَة الرّوم [٩] الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ حَيْثُ أوثر فيهمَا الْإِطْنَابُ بِتَعْدَادِ بَعْضِ مَظَاهِرِ تِلْكَ الْقُوَّةِ.
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً.
لَمَّا عَرَضَ وَصْفَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ بِأَنَّهُمْ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قُرَيْشٍ فِي مَعْرِضِ التَّمْثِيلِ بِالْأَوَّلِينَ تَهْدِيدًا وَاسْتِعْدَادًا لِتَلَقِّي مِثْلِ عَذَابِهِمْ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالِاحْتِرَاسِ عَنِ الطَّمَاعِيَةِ فِي النَّجَاةِ مِنْ مِثْلِ عَذَابِهِمْ بِعِلَّةِ أَنَّ لَهُمْ مِنَ الْمُنْجِيَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ لِلْأُمَمِ الْخَالِيَةِ كَزَعْمِهِمْ: أَنَّ لَهُمْ آلِهَةً تَمْنَعُهُمْ
مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بشفاعتها أَو دفاعها فَقِيلَ: وَما
التَّحْقِيقِ فِيهِ مَعْنًى لَيْسَ فِي مَعْنَى الْإِرَادَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِحْسَانِ وَالِابْتِهَاجِ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِتَرْكِ الِاعْتِرَاضِ، وَلِهَذَا يُقَابَلُ الرِّضَى بِالسُّخْطِ، وَتُقَابَلُ الْإِرَادَةُ بِالْإِكْرَاهِ، وَالرِّضَى آئِلٌ إِلَى مَعْنَى الْمَحَبَّةِ. وَالرِّضَى يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ نَفَاسَةُ الْمَرْضِيِّ عِنْدَ الرَّاضِي وَتَفْضِيلُهُ وَاخْتِيَارُهُ، فَإِذَا أُسْنِدَ الرِّضَى إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ لَازَمَ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ لِأَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الِانْفِعَالَاتِ، كَشَأْنِ إِسْنَادِ الْأَفْعَالِ وَالصِّفَاتِ الدَّالَّةِ فِي اللُّغَةِ عَلَى الانفعالات مثل:
الرحمان والرؤوف، وَإِسْنَادُ الْغَضَبِ والفرح والمحبة، فيؤوّل الرِّضَى بَلَازِمِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْعِنَايَةِ وَالْإِثَابَةِ إِنْ عُدِّيَ إِلَى النَّاسِ، وَمِنَ النَّفَاسَةِ وَالْفَضْلِ إِنْ عُدِّيَ إِلَى أَسْمَاءِ الْمَعَانِي.
وَقَدْ فَسَّرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِالِاخْتِيَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٣].
وَفِعْلُ الرِّضَى يُعَدَّي فِي الْغَالِبِ بِحَرْفِ (عَنْ)، فَتَدْخُلُ عَلَى اسْمِ عَيْنٍ لَكِنْ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِيهَا هُوَ مُوجِبُ الرِّضَى. وَقَدْ يُعَدَّى بِالْبَاءِ فَيَدْخُلُ غَالِبًا عَلَى اسْمِ مَعْنًى نَحْوَ: رَضِيتُ بِحُكْمِ فُلَانٍ، وَيَدْخُلُ عَلَى اسْمِ ذَاتٍ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى يَدُلُّ عَلَيْهِ تَمْيِيزٌ بَعْدَهُ نَحْوَ: رَضِيَتُ بِاللَّهِ رَبًّا، أَوْ نَحْوِهِ مِثْلُ: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التَّوْبَة: ٣٨]، أَوْ قَرِينَةُ مَقَامٍ كَقَوْلِ قُرَيْشٍ فِي وَضْعِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ: هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ رَضِينَا بِهِ، أَيْ رَضِينَا بِهِ حَكَمًا إِذْ هُمْ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى تَحْكِيمِ أَوَّلِ دَاخِلٍ.
وَيُعَدَّى بِنَفْسِهِ، وَلَعَلَّهُ يُرَاعَى فِيهِ التَّضْمِينُ، أَوِ الْحَذْفُ وَالْإِيصَالُ، فَيَدْخُلُ غَالِبًا عَلَى اسْمِ مَعْنًى نَحْوَ: رَضِيَتُ بِحُكْمِ فُلَانٍ بِمَعْنَى: أَحْبَبْتُ حُكْمَهُ. وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ قَدْ يُعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ بِوَاسِطَةِ لَامِ الْجَرِّ نَحْوَ: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [الْمَائِدَة: ٣]، أَيْ رَضِيتُهُ لِأَجْلِكُمْ وَأَحْبَبْتُهُ لَكُمْ، أَيْ لِأَجْلِكُمْ، أَيْ لِمَنْفَعَتِكُمْ وَفَائِدَتِكُمْ. وَفِي هَذَا التَّرْكِيبِ مُبَالَغَةٌ فِي التَّنْوِيهِ بِالشَّيْءِ الْمَرْضِيِّ لَدَى السَّامِعِ حَتَّى كَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَرْضَاهُ لِأَجْلِ السَّامِعِ.
فَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ: لِعِبادِهِ عَامًّا غَيْرَ مَخْصُوصٍ وَهُوَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ ثَارَ فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي تَعَلُّقِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ إِذْ مِنَ الضَّرُورِيِّ
وَأُوثِرَ التَّفَكُّرُ بِالذِّكْرِ فِي آخِرِ صِفَاتِ الْمُسْتَدِلِّينَ بِالْآيَاتِ، لِأَنَّ الْفِكْرَ هُوَ مَنْبَعُ الْإِيمَانِ وَالْإِيقَانِ وَالْعِلْمِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قَوْلِهِ: لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ [الجاثية: ٣] آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [الجاثية: ٤] آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الجاثية: ٥].
[١٤، ١٥]
[سُورَة الجاثية (٤٥) : الْآيَات ١٤ إِلَى ١٥]
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥)
إِنْ كَانَتْ هَذِهِ مُتَّصِلَةً بِالْآيِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي النُّزُولِ وَلَمْ يَصِحَّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا فَمُنَاسَبَةُ وَقْعِهَا هُنَا أَنَّ قَوْلَهُ: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ إِلَى قَوْلِهِ: لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ [الجاثية: ٧- ١١] يُثِيرُ غَضَبَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالْقُرْآنِ. وَقَدْ أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ يَعْتَزُّونَ بِكَثْرَتِهِمْ فَكَانَ مَا ذُكِرَ مِنِ اسْتِهْزَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِالْقُرْآنِ وَاسْتِكْبَارِهِمْ عَنْ سَمَاعِهِ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ أَنْ يَبْطِشَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ بِبَعْضِ الْمُشْرِكِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَدَرَ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ غَضَبٌ أَوْ تَوَعُّدٌ وَأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِهِمْ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَالسُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَصَابَهُمْ أَذًى شَدِيدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالتَّجَاوُزِ عَنْ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ فِي اسْتِبْقَاءِ الْهُدُوءِ بِمَكَّةَ وَالْمُتَارَكَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فَفِي ذَلِكَ مَصَالِحُ جَمَّةٌ مِنْ شُيُوعِ الْقُرْآنِ بَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ وَبَيْنَ الْقَبَائِلِ النَّازِلِينَ حَوْلَهَا فَإِنَّ شُيُوعَهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَأْخُذَ بِمَجَامِعِ قُلُوبِهِمْ بِالرَّغْمِ عَلَى مَا يُبْدُونَهُ مِنْ إِعْرَاضٍ وَاسْتِكْبَارٍ وَاسْتِهْزَاءٍ فَتَتَهَيَّأُ نُفُوسُهُمْ إِلَى الدُّخُولِ فِي الدِّينِ عِنْدَ زَوَالِ مُمَانَعَةِ سَادَتِهِمْ بَعْدَ هِجْرَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَبَعْدَ اسْتِئْصَالِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ هَذَا مِنَ الْأَمْرِ بِالصَّفْحِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ أَذَاهُمْ، وَلَكِنْ كَانَ أَكْثَرُ الْآيَاتِ أَمْرًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْسِهِ وَكَانَتْ هَذِهِ أَمْرًا لَهُ بِأَنْ يُبَلِّغَ لِلْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي وَقْتٍ كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ كَثُرُوا فِيهِ وَأَحَسُّوا بِعِزَّتِهِمْ. فَأُمِرُوا بِالْعَفْوِ وَأَنْ يَكِلُوا أَمْرَ نَصْرِهِمْ إِلَى
فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُحْمَلَ الذَّرْوُ عَلَى نَشْرِ قِطَعِ السَّحَابِ نَشْرًا يُشْبِهُ الذَّرْوَ. وَحَقِيقَةُ الذَّرْوِ رَمْيُ أَشْيَاءَ مُجْتَمِعَةٍ تُرْمَى فِي الْهَوَاءِ لِتَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ مِثْلَ الْحَبِّ عِنْدَ الزَّرْعِ وَمِثْلَ الصُّوفِ وَأَصْلُهُ ذَرْوُ الرِّيَاحِ التُّرَابَ فَشُبِّهَ بِهِ دَفْعُ الرِّيحِ قِطَعَ السَّحَابِ حَتَّى تَجْتَمِعَ فَتَصِيرَ سَحَابًا كَامِلًا فَالذَّارِيَاتُ تَنْشُرُ السَّحَابَ ابْتِدَاءً كَمَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ [الرّوم: ٤٨]. وَالذَّرْوُ وَإِنْ كَانَ مِنْ صِفَةِ الرِّيَاحِ فَإِنَّ كَوْنَ الْمَذْرُوِّ سَحَابًا يُؤَوَّلُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ أَحْوَالِ السَّحَابِ وَقِيلَ ذَرْوُهَا التُّرَابَ وَذَلِكَ قَبْلَ نَشْرِهَا السُّحُبَ وَهُوَ مُقَدِّمَةٌ لِنَشْرِ السَّحَابِ.
وَنَصْبُ ذَرْواً عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِإِرَادَةِ تَفْخِيمِهِ بِالتَّنْوِينِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيِ الْمَذْرُوِّ، وَيَكُونُ نَصْبُهُ عَلَى الْمَفْعُول بِهِ.
وفَالْحامِلاتِ وِقْراً هِيَ الرِّيَاحُ حِينَ تَجَمُّعِ السَّحَابِ وَقَدْ ثَقُلَ بِالْمَاءِ، شَبَّهَ جَمْعَهَا إِيَّاهُ بِالْحَمْلِ لِأَنَّ شَأْنَ الشَّيْءِ الثَّقِيلِ أَنْ يَحْمِلَهُ الْحَامِلُ، وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [الرّوم: ٤٨] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ [الرَّعْد: ١٢] وَقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [النُّور: ٤٣].
وَالْوِقْرُ بِكَسْرِ الْوَاوِ: الشَّيْءُ الثَّقِيلُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحَامِلَاتُ الْأَسْحِبَةَ الَّتِي مُلِئَتْ بِبُخَارِ الْمَاءِ الَّذِي يَصِيرُ مَطَرًا،
عُطِفَتْ بِالْفَاءِ عَلَى الذَّارِيَاتِ بِمَعْنَى الرِّيَاحِ لِأَنَّهَا نَاشِئَةٌ عَنْهَا فَكَأَنَّهَا هِيَ.
وفَالْجارِياتِ يُسْراً: الرِّيَاحُ تَجْرِي بِالسَّحَابِ بَعْدَ تَرَاكُمِهِ وَقَدْ صَارَ ثَقِيلًا بِمَاءِ الْمَطَرِ، فَالتَّقْدِيرُ: فَالْجَارِي بِذَلِكَ الْوِقْرِ يُسْرًا.
وَمَعْنَى الْيُسْرِ: اللِّينُ وَالْهَوْنُ، أَيِ الْجَارِيَاتُ جَرْيًا لَيِّنًا هَيِّنًا شَأْنَ السَّيْرِ بِالثِّقَلِ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مِنْ بَيْتِ جَارَتِهَا | مَشْيُ السَّحَابَةِ لَا ريث وَلَا رَيْثٌ وَلَا عَجَلُ |
وفَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً الرِّيَاحُ الَّتِي تَنْتَهِي بِالسَّحَابِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَبْلُغُ
وَالْمُرَادُ بِ الْحَدِيثِ إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقُرْآنِ وَإِرَادَةُ الْقُرْآنِ مِنْ مِثْلِ قَوْلِهِ: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ وَارِدَةٌ فِي الْقُرْآنِ، أَيْ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ [٤٤] فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النَّجْمِ [٥٩] أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ.
وَيَكُونُ الْعُدُولُ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ بِقَوْلِهِ: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ دُونَ أَنْ يَقُولَ: أَفَبِهِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ، إِخْرَاجًا لِلْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِتَحْصُلَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ زِيَادَةُ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ.
وَأَمَّا الْفَخْرُ فَجَعَلَ الْإِشَارَةَ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةً إِلَى مَا تَحَدَّثُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ [الْوَاقِعَة: ٤٧، ٤٨]، فَإِنَّ اللَّهَ رَدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ [الْوَاقِعَة: ٤٩] الْآيَةَ. وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [الْوَاقِعَة: ٧٧] ثُمَّ عَادَ إِلَى كَلَامِهِمْ فَقَالَ: أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي تَتَحَدَّثُونَ بِهِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ لِأَصْحَابِكُمْ اه، أَيْ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [العنكبوت: ٢٥].
وَإِنَّهُ لَكَلَامٌ جَيِّدٌ وَلَوْ جَعَلَ الْمُرَادَ مِنْ (هَذَا الْحَدِيثِ) جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ
أَصْلًا وَتَفْرِيعًا، أَيْ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي قَرَعَ أَسْمَاعَكُمْ، لَكَانَ أَجْوَدَ. وَإِطْلَاقُ الْحَدِيثِ عَلَى خَبَرِ الْبَعْثِ أَوْضَحُ لِأَنَّ الْحَدِيثَ يُرَادُ بِهِ الْخَبَرُ الَّذِي صَارَ حَدِيثًا لِلْقَوْمِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى كِلَا التَّفْسِيرَيْنِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ.
وَالْمُدْهِنُ: الَّذِي يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ، يُقَالُ: أَدْهَنَ، وَيُقَالُ: دَاهَنَ، وَفُسِّرَ أَيْضًا بِالتَّهَاوُنِ وَعَدَمِ الْأَخْذِ بِالْحَزْمِ، وَفُسِّرَ بِالتَّكْذِيبِ.
وَالْاسْتِفْهَامُ عَلَى كُلِّ التَّفَاسِيرِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ، أَيْ كَلَامُكُمْ لَا يَنْبَغِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُدَاهَنَةً كَمَا يُقَالُ لِأَحَدٍ قَالَ كَلَامًا بَاطِلًا: أَتَهْزَأُ، أَيْ قَدْ نَهَضَ بُرْهَانُ صِدْقِ الْقُرْآنِ بِحَيْثُ لَا يُكَذِّبُ بِهِ مُكَذِّبٌ إِلَّا وَهُوَ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَذَّبَ لِأَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ بِمَا قَامَ عَلَيْهِ الْبُرْهَانُ لَا يَسْتَطِيعُ صَاحِبُهُ دَفْعَهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَيْسَ إِصْرَارُكُمْ
كَانَتْ عِلَّةُ إِنْزَالِهِ إِخْرَاجَ جَمِيعِ النَّاسِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَفَسَادِ الْأَعْمَالِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، نَظَرًا لِخُصُوصِ الْفَرِيقِ الَّذِي انْتَفَعَ بِهَذَا الذِّكْرِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِمْ.
وَلَيْسَ ذَلِكَ بِدَالٍّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى هَذَا الْفَرِيقِ وَلَكِنَّهُ مُجَرَّدُ تَخْصِيصٍ بِالذِّكْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا أَوَّلُ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً.
عَطْفٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى وَالتَّنْوِيهُ بِالْمُتَّقِينَ وَالْعِنَايَةُ بِهِمْ هَذَا الْوَعْدُ عَلَى امْتِثَالِهِمْ بِالنَّعِيمِ الْخَالِدِ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ نَعِيمٌ مُقَيَّدٌ حُصُولُهُ لِرَاغِبِيهِ بِأَنْ يُؤْمِنُوا وَيَعْمَلُوا الصَّالِحَاتِ.
وصالِحاً نَعْتٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ يَعْمَلْ أَيْ عَمَلًا صَالِحًا، وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ تُفِيدُ الْعُمُوم كإفادته إِيَّاه فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. فَالْمَعْنَى: وَيَعْمَلُ جَمِيعَ الصَّالِحَاتِ، أَيِ الْمَأْمُورِ بِهَا أَمْرًا جَازِمًا بِقَرِينَةِ اسْتِقْرَاءِ أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ.
وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَجُمْلَةُ قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوب فِي يُدْخِلْهُ وَلِذَلِكَ فَذِكْرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا.
وَالرِّزْقُ: كُلُّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَتَنْكِيرُهُ هُنَا لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ رِزْقًا عَظِيمًا.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ نُدْخِلْهُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَعَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ يَكُونُ فِيهِ سُكُون الِالْتِفَات.
[١٢]
[سُورَة الطَّلَاق (٦٥) : آيَة ١٢]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً
كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [١- ٣].
وَصِيغَةُ لَا أُقْسِمُ صِيغَةُ قَسَمٍ، أَدْخَلَ حَرْفَ النَّفْيِ عَلَى فِعْلِ أُقْسِمُ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي تَحْقِيقِ حُرْمَةِ الْمُقْسَمِ بِهِ بِحَيْثُ يُوهِمُ لِلسَّامِعِ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يُهِمُّ أَنْ يُقْسِمَ بِهِ ثُمَّ يَتْرُكُ الْقَسَمَ مَخَافَةَ الْحِنْثِ بِالْمُقْسَمِ بِهِ فَيَقُولُ: لَا أُقْسِمُ بِهِ، أَيْ وَلَا أُقْسِمُ بِأَعَزَّ مِنْهُ عِنْدِي، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ تَأْكِيدِ الْقَسَمِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [٧٥].
وَفِيهِ مُحَسِّنٌ بَدِيعِيٌّ مِنْ قَبِيلِ مَا يُسَمَّى تَأْكِيدَ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ. وَهَذَا لَمْ نَذْكُرْهُ فِيمَا مَضَى وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ.
وَالْقَسَمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ بِاعْتِبَارِهِ ظَرْفًا لِمَا يَجْرِي فِيهِ مِنْ عَدْلِ اللَّهِ وَإِفَاضَةِ فَضْلِهِ وَمَا يَحْضُرُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنُّفُوسِ الْمُبَارَكَةِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى يَوْمَ الْقِيامَةِ غَيْرُ مَرَّةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨٥].
وَجَوَابُ الْقَسَمِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْجَوَابِ إِذِ التَّقْدِيرُ: لَنَجْمَعَنَّ عِظَامَ الْإِنْسَانِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ لَنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ.
وَفِي «الْكَشَّافِ» «قَالُوا إِنَّهُ (أَيْ لَا أُقْسِمُ) فِي الْإِمَامِ بِغَيْرِ أَلِفٍ» وَتَبَرَّأَ مِنْهُ بِلَفْظِ (قَالُوا) لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْمَوْجُودِ فِي الْمَصَاحِفِ. وَقَدْ نُسِبَ إِلَى الْبَزِّيِّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَرَأَ لَأُقْسِمُ الْأَوَّلُ دُونَ أَلِفٍ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْهُ ذَكَرَهَا الشَّيْخُ عَلِيٌّ النُّورِيُّ فِي «غَيْثِ النَّفْعَ» وَلَمْ يَذْكُرْهَا الشَّاطِبِيُّ. وَاقْتَصَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَلَى نِسْبَتِهَا إِلَى ابْنِ كَثِيرٍ دُونَ تَقْيِيدٍ، فَتَكُونُ اللَّامُ لَامَ قَسَمٍ.
وَالْمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ خِلَافُ ذَلِكَ، وَعَطَفَ قَوْلَهَ: وَلا أُقْسِمُ تَأْكِيدًا لِلْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، وَتَعْرِيفُ النَّفْسِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ الْأَنْفُسِ اللَّوَّامَةِ. وَالْمُرَادُ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ.
وَوَصْفُ اللَّوَّامَةِ مُبَالَغَةٌ لِأَنَّهَا تُكْثِرُ لَوْمَ صَاحِبِهَا عَلَى التَّقْصِيرِ فِي التَّقْوَى وَالطَّاعَةِ. وَهَذَا اللَّوْمُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الِاصْطِلَاحِ بِالْمُحَاسَبَةِ، وَلَوْمُهَا يَكُونُ بِتَفْكِيرِهَا وَحَدِيثِهَا النَّفْسِيِّ.
قَالَ الْحَسَنُ «مَا يُرَى الْمُؤْمِنُ إِلَّا يَلُومُ نَفْسَهُ عَلَى مَا فَاتَ وَيَنْدَمُ، يَلُومُ نَفْسَهُ عَلَى الشَّرِّ لِمَ فَعَلَهُ وَعَلَى الْخَيْر
وَأَمَّا إِسْنَادُهُ إِلَى الْمَلَكِ فَإِمَّا حَقِيقَةٌ، أَوْ عَلَى مَعْنَى الْحُضُورِ وَأَيًّا مَا كَانَ فَاسْتِعْمَالُ (جَاءَ) مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَجَازِهِ وَحَقِيقَتِهِ، أَوْ فِي مَجَازَيْهِ.
والْمَلَكُ: اسْمُ جِنْسٍ وَتَعْرِيفُهُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَيُرَادِفُهُ الِاسْتِغْرَاقُ، أَيْ وَالْمَلَائِكَةُ.
وَالصَّفُّ: مَصْدَرُ صَفَّ الْأَشْيَاءَ إِذَا جَعَلَ الْوَاحِدَ حَذْوَ الْآخَرِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْمَصْفُوفَةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا [الصَّفّ: ٤] وَقَوْلُهُ: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا فِي سُورَةِ طه [٦٤].
وَاسْتِعْمَالُ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ كَاسْتِعْمَالِ مَجِيءِ الْمَلَكِ، أَيْ أُحْضِرَتْ جَهَنَّمُ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا فَكَأَنَّهَا (جَاءَ) بِهَا جَاءٍ وَالْمَعْنَى: أُظْهِرَتْ لَهُمْ جَهَنَّمُ قَالَ تَعَالَى: حَتَّى إِذا
جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها
[الزمر: ٧١] وَقَالَ: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى [النازعات: ٣٦] وَوَرَدَ
فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَرْفَعُهُ: «أَنَّ لِجَهَنَّمَ سَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا»
وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِمَعْنَى وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ وَأُمُورُ الْآخِرَةِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ.
وَإِنَّمَا اقْتُصِرَ عَلَى ذِكْرِ جَهَنَّمَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَعِيدُ الَّذِينَ لَمْ يَتَذَكَّرُوا وَإِلَّا فَإِنَّ الْجَنَّةَ أَيْضًا مُحَضَرَةٌ يَوْمَئِذٍ قَالَ تَعَالَى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ [الشُّعَرَاء: ٩٠- ٩١].
ويَوْمَئِذٍ الْأَوَّلُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ جِيءَ وَالتَّقْدِيرُ: وَجِيءَ يَوْمَ تُدَكُّ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا إِلَى آخِرِهِ.
ويَوْمَئِذٍ الثَّانِي بَدَلٌ مِنْ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ وَالْمَعْنَى: يَوْمَ تُدَكُّ الْأَرْضُ دَكًّا إِلَى آخِرِهِ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ. وَالْعَامِلُ فِي الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ مَعًا فِعْلُ يَتَذَكَّرُ وَتَقْدِيمُهُ لِلِاهْتِمَامِ مَعَ مَا فِي الْإِطْنَابِ مِنَ التَّشْوِيقِ لِيَحْصُلَ الْإِجْمَالُ ثُمَّ التَّفْصِيلُ مَعَ حُسْنِ إِعَادَةِ مَا هُوَ بِمَعْنَى إِذا لِزِيَادَةِ الرَّبْطِ لِطُولِ الْفَصْلِ بِالْجُمَلِ الَّتِي أُضِيفَ إِلَيْهَا إِذا والْإِنْسانُ: هُوَ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ، وَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ [الْفجْر: ١٥] الْآيَةَ فَهُوَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِبُعْدِ مَعَادِ الضَّمِيرِ.