فَالتَّحَدِّي عَلَى صِدْقِ الْقُرْآنِ هُوَ مَجْمُوعُ مُمَاثَلَةِ الْقُرْآنِ فِي أَلْفَاظِهِ وَتَرَاكِيبِهِ، وَمُمَاثِلَةُ الرَّسُولِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ فِي أَنَّهُ أُمِّيٌّ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ تَعْلِيمٌ وَلَا يَعْلَمُ الْكُتُبَ السَّالِفَةَ، قَالَ تَعَالَى:
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ [العنكبوت: ٥١]. فَذَلِكَ مَعْنَى الْمُمَاثِلَةِ فَلَوْ أَتَوْا بِشَيْءٍ مِنْ خُطَبِ أَوْ شِعْرِ بُلَغَائِهِمْ غَيْرَ مُشْتَمِلٍ عَلَى مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِتْيَانًا بِمَا تَحَدَّاهُمْ بِهِ، وَلَوْ أَتَوْا بِكَلَامٍ مُشْتَمِلٍ عَلَى مَعَانٍ تَشْرِيعِيَّةٍ أَوْ مِنَ الْحِكْمَةِ مِنْ تَأْلِيفِ رَجُلٍ عَالِمٍ حَكِيمٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِتْيَانًا بِمَا تَحَدَّاهُمْ بِهِ. فَلَيْسَ فِي جَعْلِ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةً إِيهَامُ إِجْزَاءِ أَنْ يَأْتُوا بِشَيْءٍ مِنْ كَلَامِ بُلَغَائِهِمْ لِأَنَّ تِلْكَ مُمَاثَلَةٌ غَيْرُ تَامَّةٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَعْطُوفٌ عَلَى فَأْتُوا بِسُورَةٍ أَيِ ائْتُوا بِهَا وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ. وَالدُّعَاءُ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى طَلَبِ حُضُورِ الْمَدْعُوِّ، وَبِمَعْنَى اسْتِعْطَافِهِ وَسُؤَالِهِ لِفِعْلٍ مَا، قَالَ أَبُو فِرَاسٍ يُخَاطِبُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ لِيَفْدِيَهُ مِنْ أَسْرِ مَلِكِ الرُّومِ:

دَعَوْتُكَ لِلْجَفْنِ الْقَرِيحِ الْمُسَهَّدِ لَدَيَّ وَلِلنَّوْمِ الطَّرِيدِ الْمُشَرَّدِ
وَالشُّهَدَاءُ جَمْعُ شَهِيدٍ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مِنْ شَهِدَ إِذَا حَضَرَ، وَأَصْلُهُ الْحَاضِرُ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا [الْبَقَرَة: ٢٨٢] ثُمَّ اسْتُعْمِلَ هَذَا اللَّفْظُ فِيمَا يُلَازِمُهُ
الْحُضُورُ مَجَازًا أَوْ كِنَايَةً لَا بِأَصْلِ وَضْعِ اللَّفْظِ، وَأُطْلِقَ عَلَى النَّصِيرِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ فَإِنَّ الشَّاهِدَ يُؤَيِّدُ قَوْلَ الْمَشْهُودِ فَيَنْصُرُهُ عَلَى مَعَارِضِهِ وَلَا يُطْلَقُ الشَّهِيدُ عَلَى الْإِمَامِ وَالْقُدْوَةِ وَأَثْبَتَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَلَا يُعْرَفُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَلَا فِي كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ. وَلَعَلَّهُ انْجَرَّ إِلَيْهِ مِنْ تَفْسِيرِ «الْكَشَّافِ» لِحَاصِلِ مَعْنَى الْآيَةِ فَتَوَهَّمَهُ مَعْنًى وَضْعِيًّا فَالْمُرَادُ هُنَا ادْعُوا آلِهَتَكُمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيِ ادْعُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَدَأْبِكُمْ فِي الْفَزَعِ إِلَيْهِمْ عِنْدَ مُهِمَّاتِكُمْ مُعْرِضِينَ بِدُعَائِهِمْ وَاسْتِنْجَادِهِمْ عَنْ دُعَاءِ اللَّهِ وَاللَّجَأِ إِلَيْهِ فَفِي الْآيَةِ إِدْمَاجُ تَوْبِيخِهِمْ عَلَى الشِّرْكِ فِي أَثْنَاءِ التَّعْجِيزِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ وَهَذَا الْإِدْمَاجُ مِنْ أَفَانِينِ الْبَلَاغَةِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْبَلِيغِ غَرَضَيْنِ فَيُقْرِنُ الْغَرَضَ الْمَسُوقَ لَهُ الْكَلَامُ بِالْغَرَضِ الثَّانِي وَفِيهِ تَظْهَرُ مَقْدِرَةُ الْبَلِيغِ إِذْ يَأْتِي بِذَلِكَ الِاقْتِرَانِ بِدُونِ خُرُوجٍ عَنْ غَرَضِهِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ وَلَا تكلّف. قَالَ الْحَرْث بْنُ حِلِّزَةَ:
آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ
فَإِنَّ قَوْلَهُ رُبَّ ثَاوٍ عِنْدَ ذِكْرِ بُعْدِ الْحَبِيبَةِ وَالتَّحَسُّرِ مِنْهُ كِنَايَةٌ عَنْ أَنْ لَيْسَتْ هِيَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الَّذِي يُمَلُّ ثَوَاؤُهُ. وَقَدْ قَضَى بِذَلِكَ حَقَّ إِرْضَائِهَا بِأَنَّهُ لَا يَحْفِلُ بِإِقَامَةِ غَيْرِهَا، وَقَدْ عُدَُُّ
أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَنَّ الْكُلِّيَّاتِ التَّشْرِيعِيَّةَ وَهِيَ حَفِظُ الدِّينِ وَالنَّفْسِ وَالْعَقْلِ وَالنَّسَبِ وَالْمَالِ وَالْعِرْضِ هِيَ مِمَّا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الشَّرَائِعُ، وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كُنَّا نُسَاعِدُ عَلَيْهِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ عِنْدِي أَنَّ الشَّرَائِعَ كُلَّهَا نَظَرَتْ إِلَى حِفْظِ هَاتِهِ الْأُمُورِ فِي تَشْرِيعَاتِهَا، وَأَمَّا أَنْ تَكُونَ مُرَاعَاةً بِاطِّرَادٍ فِي غَيْرِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ فَلَا أَحْسَبُ ذَلِكَ يَتِمُّ، عَلَى أَنَّ مُرَاعَاتِهَا دَرَجَاتٍ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْبَحْثِ فِي هَذَا بَيْدَ أَنَّ كُتُبَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَيْسَ فِيهَا تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَلَا التَّنْزِيهُ عَنْ شُرْبِهَا، وَفِي التَّوْرَاةِ الَّتِي بِيَدِ الْيَهُودِ أَنَّ نُوحًا شَرِبَ الْخَمْرَ حَتَّى سَكِرَ، وَأَنَّ لُوطًا شَرِبَ الْخَمْرَ حَتَّى سَكِرَ سُكْرًا أَفْضَى بِزَعْمِهِمْ إِلَى أَمْرٍ شَنِيعٍ، وَالْأَخِيرُ مِنَ الأكاذيب لِأَن النبوءة تَسْتَلْزِمُ الْعِصْمَةَ، وَالشَّرَائِعُ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِي إِبَاحَةِ أَشْيَاءَ فَهُنَالِكَ مَا يَسْتَحِيلُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى نَقْصِهِمْ فِي أَنْظَارِ الْعُقَلَاءِ، وَالَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ: أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ لَا يَأْتِيهِ الْأَنْبِيَاءُ لَا يَشْرَبُهَا شَارِبُوهَا إِلَّا لِلطَّرَبِ وَاللَّهْوِ وَالسُّكْرِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَنَزَّهُ عَنهُ الْأَنْبِيَاء
وَلِأَنَّهَا يَشْرَبُونَهَا لِقَصْدِ التَّقَوِّي لِقِلَّةِ هَذَا الْقَصْدِ مِنْ شُرْبِهَا.
وَفِي سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ مِنَ التَّوْرَاةِ «وَكَلَّمَ اللَّهُ هَارُونَ قَائِلًا: خَمْرًا وَمُسْكِرًا لَا تَشْرَبْ أَنْتَ وَبُنُوكَ مَعَكَ عِنْدَ دُخُولِكُمْ إِلَى خَيْمَةِ الِاجْتِمَاعِ لِكَيْ لَا تَمُوتُوا. فَرْضًا دَهْرِيًّا فِي أَجْيَالِكُمْ وَلِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُقَدَّسِ وَالْمُحَلَّلِ وَبَيْنَ النَّجِسِ وَالطَّاهِرِ».
وَشُيُوعُ شُرْبِ الْخَمْرِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَعْلُومٌ لِمَنْ عَلِمَ أَدَبَهُمْ وَتَارِيخَهُمْ فَقَدْ كَانَتِ الْخَمْرُ قِوَامَ أَوَدِ حَيَاتِهِمْ، وَقُصَارَى لَذَّاتِهِمْ وَمَسَرَّةَ زَمَانِهِمْ وَمَلْهَى أَوْقَاتِهِمْ، قَالَ طَرَفَةُ:
وَلَوْلَا ثَلَاثٌ هُنَّ مِنْ عِيشَةِ الْفَتَى وَجِدِّكَ لَمْ أَحْفِلْ مَتَى قَامَ عُوَّدِي
فَمِنْهُنَّ سَبْقِي الْعَاذِلَاتِ بِشَرْبَةٍ كُمَيْتٍ مَتَى مَا تُعْلَ بِالْمَاءِ تُزْبِدِ
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: «حُرِّمَتِ الْخَمْرُ وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ لِلْعَرَبِ عَيْشٌ أَعْجَبُ مِنْهَا، وَمَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَمْرِ». فَلَا جَرَمَ أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ فِي تَحْرِيمِهَا بِطَرِيقَةِ التَّدْرِيجِ فَأَقَرَّ حِقْبَةً إِبَاحَةَ شُرْبِهَا وَحَسْبُكُمْ فِي هَذَا الِامْتِنَانِ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [النَّحْل: ٦٧] عَلَى تَفْسِيرِ مَنْ فَسَّرَ السَّكَرَ بِالْخَمْرِ. وَقِيلَ السَّكَرُ: هُوَ النَّبِيذُ غَيْرُ الْمُسْكِرِ، وَالْأَظْهَرُ التَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ. وَآيَةُ سُورَةِ النَّحْلِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْأَثَرِ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَقَعَ فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ بِأَيَّامٍ، أَيْ فِي آخِرِ سَنَةِ أَرْبَعٍ أَوْ سَنَةِ خَمْسٍ عَلَى الْخِلَافِ فِي عَامِ غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ.
خَطَرَ لِشَاوُلَ، وَكَانَ مَرِيضًا، أَنْ يَتَّخِذَ مَنْ يَضْرِبُ لَهُ بِالْعودِ عِنْد مَا يَعْتَادُهُ الْمَرَضُ، فَصَادَفَ أَنِ اخْتَارُوا لَهُ دَاوُدَ فَأَلْحَقَهُ بِأَهْلِ مَجْلِسِهِ لِيَسْمَعَ أَنْغَامَهُ. وَلَمَّا حَارَبَ جُنْدُ (شَاوُلَ) الْكَنْعَانِيِّينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، كَانَ النَّصْرُ لِلْإِسْرَائِيلِيِّينَ بِسَبَبِ دَاوُدَ إِذْ رَمَى الْبَطَلَ الْفِلَسْطِينِيَّ (جَالُوتَ) بِمِقْلَاعِهِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَصَرَعَهُ وَقَطَعَ رَأْسَهُ، فَلِذَلِكَ صَاهَرَهُ (شَاوُلُ) بِابْنَتِهِ (مِيكَالَ)، ثُمَّ إِنَّ (شَاوُلَ) تَغَيَّرَ عَلَى دَاوُدَ، فَخَرَجَ دَاوُدُ إِلَى بِلَادِ الْفِلَسْطِينِيِّينَ وَجَمَعَ جَمَاعَةً تَحْتَ قِيَادَتِهِ، وَلَمَّا قُتِلَ (شَاوُلُ) سَنَةَ ١٠٥٥ بَايَعَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْجُنْدِ الْإِسْرَائِيلِيِّ فِي فِلَسْطِينَ دَاوُدَ مَلِكًا عَلَيْهِمْ.
وَجَعَلَ مَقَرَّ مُلْكِهِ (حَبْرُونَ)، وَبَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ قُتِلَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ الَّذِي خَلَفَ شَاوُلَ فَبَايَعَتِ الْإِسْرَائِيلِيُّونَ كُلُّهُمْ دَاوُدَ مَلِكًا عَلَيْهِمْ، وَرَجَعَ إِلَى أُورَشْلِيمَ، وَآتَاهُ اللَّهُ النُّبُوءَةَ وَأَمَرَهُ بِكِتَابَةِ الزَّبُورِ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْيَهُودِ بِالْمَزَامِيرِ.
وَسُلَيْمَانُ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠٢].
وَأَيُّوبُ نَبِيءٌ أَثْبَتَ الْقُرْآنُ نُبُوءَتَهُ. وَلَهُ قِصَّةٌ مُفَصَّلَةٌ فِي الْكِتَابِ الْمَعْرُوفِ بِكِتَابِ أَيُّوبَ، مِنْ جُمْلَةِ كُتُبِ الْيَهُودِ. وَيَظُنُّ بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ أَنَّ أَيُّوبَ مِنْ ذُرِّيَّةِ (نَاحُورَ) أَخِي إِبْرَاهِيمَ. وَبَعْضُهُمْ ظَنَّ أَنَّهُ ابْنُ حَفِيدِ عِيسُو بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَفِي كِتَابِهِ أَنَّ أَيُّوبَ كَانَ سَاكِنًا بِأَرْضِ عُوصَ (وَهِيَ أَرْضُ حُورَانَ بِالشَّامِ، وَهِيَ مَنَازِلُ بَنِي عُوصِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَهُمْ أُصُولُ عَادٍ) وَكَانَتْ مُجَاوِرَةً لِحُدُودِ بِلَادِ الْكِلْدَانِ، وَقَدْ ورد ذكر الكلدان فِي كِتَابِ أَيُّوبَ وَبَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ يَظُنُّ أَنَّهُ مَنْ صِنْفٍ عَرَبِيٍّ وَأَنَّهُ مَنْ عُوصَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَدَمُ التَّعَرُّضِ لِنِسْبَتِهِ فِي كِتَابِهِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بِأَرْضِ عُوصَ (الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْعَرَبِ الْعَارِبَةِ). وَزَعَمُوا أَنَّ كَلَامَهُ الْمَسْطُورَ فِي كِتَابِهِ كَانَ بِلُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ، وَأَنَّ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- نَقَلَهُ إِلَى الْعِبْرَانِيَّةِ. وَبَعْضُهُمْ يَظُنُّ أَنَّ الْكَلَامَ الْمَنْسُوبَ إِلَيْهِ كَانَ شِعْرًا تَرْجَمَهُ مُوسَى فِي كِتَابِهِ وَأَنَّهُ أَوَّلُ شِعْرٍ عُرِفَ
وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ قُلْتُ لِمُنْتَجِعِ بْنِ نَبْهَانَ «مَا تَمْكُو» فَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ثُمَّ وَضَعَهَا عَلَى فَمِهِ وَنَفَخَ.
وَالتَّصْدِيَةُ التَّصْفِيقُ مُشْتَقًّا مِنَ الصَّدَى وَهُوَ الصَّوْتُ الَّذِي يَرُدُّهُ الْهَوَاءُ مُحَاكِيًا لِصَوْتٍ صَالِحٍ فِي الْبَرَاحِ مِنْ جِهَةٍ مُقَابِلَةٍ.
وَلَا تُعْرَفُ لِلْمُشْرِكِينَ صَلَاةٌ، فَتَسْمِيَةُ مُكَائِهِمْ وَتَصْدِيَتِهِمْ صَلَاةً مُشَاكَلَةٌ تَقْدِيرِيَّةٌ لِأَنَّهُمْ لَمَّا صَدُّوا الْمُسْلِمِينَ عَنِ الصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عِنْدَ الْبَيْتِ. كَانَ مِنْ جُمْلَةِ طَرَائِقِ صَدِّهِمْ إِيَّاهُمْ تَشْغِيبُهُمْ عَلَيْهِمْ وَسُخْرِيَتُهُمْ بِهِمْ يُحَاكُونَ قِرَاءَةَ الْمُسْلِمِينَ وَصَلَاتَهُمْ بِالْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: «فَعَلَ ذَلِكَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ يَخْلِطُونَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَاتَهُ» وَبَنُو عَبْدِ الدَّارِ هُمْ سَدَنَةُ الْكَعْبَةِ وَأَهْلُ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ لِلِاسْتِسْخَارِ مِنَ الصَّلَاةِ سُمِّيَ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ صَلَاةً عَلَى طَرِيقَةِ الْمُشَاكَلَةِ التَّقْدِيرِيَّةِ، وَالْمُشَاكَلَةُ تَرْجِعُ إِلَى اسْتِعَارَةٍ عَلَاقَتُهَا الْمُشَاكَلَةُ اللَّفْظِيَّةُ أَوِ التَّقْدِيرِيَّةُ فَلَمْ تَكُنْ لِلْمُشْرِكِينَ صَلَاةٌ بِالْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ، وَهَذَا الَّذِي نَحَاهُ حُذَّاقُ الْمُفَسِّرِينَ: مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [الْأَحْقَاف: ٣٤] لِأَنَّ شَأْنَ التَّفْرِيعِ أَنْ يَكُونَ جَزَاءً عَلَى الْعَمَلِ الْمَحْكِيِّ قَبْلَهُ، وَالْمُكَاءُ وَالتَّصْدِيَةُ لَا يُعَدَّانِ كُفْرًا إِلَّا إِذَا كَانَا صَادِرَيْنِ لِلسُّخْرِيَةِ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالدِّينِ، وَأَمَّا لَوْ أُرِيدَ مُجَرَّدُ لَهْوٍ عَمِلُوهُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَلَيْسَ بِمُقْتَضٍ كَوْنَهُ كُفْرًا إِلَّا عَلَى تَأْوِيلِهِ بِأَثَرٍ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التَّوْبَة:
٣٧].
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً وَيَمْكُوَنَ وَيُصَفِّقُونَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَتْ قُرَيْشٌ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاة يصفقون ويصغرون، وَعَلَيْهِ فَإِطْلَاقُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ، قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو: أَرَانِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْمَكَانَ الَّذِي كَانُوا يَمْكُوَنَ فِيهِ نَحْوَ أَبِي قُبَيْسٍ، فَإِذَا صَحَّ الَّذِي قَالَهُ طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو فَالْعِنْدِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: عِنْدَ الْبَيْتِ بِمَعْنَى مُطْلَقِ الْمُقَارَبَةِ وَلَيْسَتْ عَلَى حَقِيقَةِ مَا يُفِيدُهُ (عِنْدَ) مِنْ شِدَّةِ الْقُرْبِ.
وَدَلَّ قَوْلُهُ: فَذُوقُوا الْعَذابَ عَلَى عَذَابٍ وَاقِعٍ بِهِمْ، إِذِ الْأَمْرُ هُنَا للتوبيخ والتغليظ وَذَلِكَ هُوَ الْعَذَابُ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، مِنْ قَتْلٍ وَأَسْرٍ وَحَرَبٍ (بِفَتْحِ الرَّاءِ).
وَتَقْدِيمُ ذِكْرِ الصَّغِيرَةِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ مِنْ حَيْثُ يَتَعَلَّقُ التَّعَجُّبُ مِنْ إِحْصَائِهَا. وَعُطِفَتْ عَلَيْهَا الْكَبِيرَةُ لِإِرَادَةِ التَّعْمِيمِ فِي الْإِحْصَاءِ لِأَنَّ التَّعْمِيمَ أَيْضًا مِمَّا يُثِيرُ التَّعَجُّبَ، فَقَدْ عَجِبُوا مِنْ إِحَاطَةِ كَاتِبِ الْكِتَابِ بِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ أَحْوَالِ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ، أَيْ لَا يُبْقِي صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمَا إِلَّا فِي حَالِ إِحْصَائِهِ إِيَّاهَا، أَيْ لَا يُغَادِرُهُ غَيْرَ مُحْصًى. فَالِاسْتِثْنَاءُ هُنَا مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ لِأَنَّهُ إِذَا أَحْصَاهُ فَهُوَ لَمْ يُغَادِرْهُ، فَآلَ إِلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يُغَادِرُ شَيْئًا، وَانْتَفَتْ حَقِيقَةُ الِاسْتِثْنَاءِ.
فَجُمْلَةُ أَحْصاها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَالرَّابِطُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ذِي الْحَالِ حَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ. وَالْإِحْصَاءُ: الْعَدُّ، أَيْ كَانَتْ أَفْعَالُهُمْ مَعْدُودَةً مُفَصَّلَةً.
وَجُمْلَةُ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَقُولُونَ. أَيْ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ حِينَ عُرِضَتْ عَلَيْهِمْ أَعْمَالُهُمْ كُلُّهَا عِنْدَ وَضْعِ ذَلِكَ الْكِتَابِ عَرْضًا سَرِيعًا حَصَلَ بِهِ عِلْمُ كُلٍّ بِمَا فِي كِتَابِهِ عَلَى وَجْهٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ.
وَجُمْلَةُ وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً لِمَا أَفْهَمَتْهُ الصِّلَةُ مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا غَيْرَ مَا عَمِلُوا، أَيْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ لَمْ يَعْمَلُوهُ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا فَيُؤَاخِذُهُ بِمَا لَمْ يَقْتَرِفْهُ، وَقَدْ حَدَّدَ لَهُمْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ مَا لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ وَمَا أُمِرُوا بِفِعْلِهِ، وَتَوَعَّدَهُمْ وَوَعَدَهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ فِي مُؤَاخَذَتِهِمْ بِمَا عَمِلُوهُ مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ بَعْدَ ذَلِكَ ظُلْمٌ لَهُمْ. وَالْمَقْصُودُ: إِفَادَةُ هَذَا الشَّأْن من شؤون اللَّهِ تَعَالَى، فَلِذَلِكَ عُطِفَتِ الْجُمْلَةُ لِتَكُونَ مَقْصُودَةً أَصَالَةً. وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مُفِيدَةٌ مَعْنَى التَّذْيِيلِ لِمَا فِيهَا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، وَمِنَ الْعُمُومِ الشَّامِلِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا وَغَيْرِهِ، فَكَانَتْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَالِحَةً لِلْفَصْلِ بِدُونِ عَطْفٍ لتَكون تذييلا.
انْتِهَاءُ النِّصْفِ الْأَوَّلِ وَابْتِدَاءُ النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ الْقَوْسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ [هود: ١١٤]. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَتَّجِهُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الطَّرَفَيْنِ مَعًا لِوَقْتِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ أَنَّ وَقْتَهَا مَا بَيْنَ الْخُرُوجِ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَالدُّخُولِ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ وَتِلْكَ حِصَّةٌ دَقِيقَةٌ.
وَعَلَى التَّفْسِيرَيْنِ فَلِلنَّهَارِ طَرَفَانِ لَا أَطْرَافٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ فَالْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ وَأَطْرافَ النَّهارِ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْجَمْعِ عَلَى الْمُثَنَّى، وَهُوَ مُتَّسَعٌ فِيهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ عِنْدَ أَمْنِ اللَّبْسِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيم: ٤].
وَالَّذِي حَسَّنَهُ هُنَا مُشَاكَلَةُ الْجَمْعِ لِلْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَعَلَّكَ تَرْضى - بِفَتْحِ التَّاءِ- بِصِيغَةِ الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، أَيْ رَجَاءً لَكَ أَنْ تَنَالَ مِنَ الثَّوَابِ عِنْدَ اللَّهِ مَا تَرْضَى بِهِ نَفْسُكَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَعَلَّ فِي ذَلِكَ الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنَ الصَّلَوَاتِ مَا تَرْضَى بِهِ نَفْسُكَ دُونَ زِيَادَةٍ فِي الْوَاجِبِ رِفْقًا بِكَ وَبِأُمَّتِكَ. وَيُبَيِّنُهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ».
وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ تَرْضى - بِضَمِّ التَّاءِ- أَيْ يُرْضِيكَ رَبُّكَ، وَهُوَ مُحْتَمل للمعنيين.
[١٣١]
[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ١٣١]
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١)
أُعْقِبَ أَمْرُهُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُونَهُ بِنَهْيِهِ عَنِ الْإِعْجَابِ بِمَا يَنْعَمُ بِهِ مِنْ تَنَعَّمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ فِي حِينِ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ بِأَنَّ
وَصِيغَةُ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ ضُرِبَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي تَقْرِيبِ زَمَنِ الْمَاضِي مِنَ الْحَالِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً [النِّسَاء: ٩]، أَيْ لَوْ شَارَفُوا أَنْ يَتْرُكُوا، أَيْ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَى آخِرِهَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِفِعْلِ ضُرِبَ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فِي التَّقْدِيرِ، أَيْ بُيِّنَ تَمْثِيلٌ عَجِيبٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِلَّفْظِ مَثَلٌ لِمَا فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ: تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي.
وَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنَ الْإِيجَازِ قَوْلُهُ: فَاسْتَمِعُوا لَهُ لِاسْتِرْعَاءِ الْأَسْمَاعِ إِلَى مُفَادِ هَذَا الْمَثَلِ مِمَّا يُبْطِلُ دَعْوَى الشَّرِكَةِ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، أَيِ اسْتَمِعُوا اسْتِمَاعَ تَدَبُّرٍ.
فَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي فَاسْتَمِعُوا لَهُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّحْرِيضِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، وَفِي التَّعْجِيبِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي. وَضَمِيرُ لَهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَثَلِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَثَلَ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مِنْ قَبِيلِ الْأَلْفَاظِ الْمَسْمُوعَةِ، وَعَائِدٌ عَلَى الضَّرْبِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ ضُرِبَ عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي عَلَى طَرِيقَةِ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: ٨]، أَيِ اسْتَمِعُوا لِلضَّرْبِ، أَيْ لِمَا يَدُلُّ عَلَى الضَّرْبِ مِنَ الْأَلْفَاظِ، فَيُقَدَّرُ مُضَاف بِقَرِينَة فَاسْتَمِعُوا لِأَنَّ الْمَسْمُوعَ لَا يَكُونُ إِلَّا أَلْفَاظًا، أَيِ اسْتَمِعُوا لِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَرْبِ الْمَثَلِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ فِي حَمَاقَةِ ضَارِبِيهِ.
وَاسْتُعْمِلَتْ صِيغَةُ الْمَاضِي فِي ضُرِبَ مَعَ أَنَّهُ لَمَّا يُقَلْ لِتَقْرِيبِ زَمَنِ الْمَاضِي مِنَ الْحَالِ كَقَوْلِهِ: لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً [النِّسَاء: ٩]، أَيْ لَوْ قَارَبُوا أَنْ يَتْرُكُوا، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ للسامعين بِأَن يتهيأوا لِتَلَقِّي هَذَا الْمَثَلِ، لِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ لَدَى الْبُلَغَاءِ مِنِ اسْتِشْرَافِهِمْ لِلْأَمْثَالِ وَمَوَاقِعِهَا.
وَمَعْنَى: مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا مَا يُطَاوِعُنَا طَلَبُ أَنْ نَتَّخِذَ عَبَدَةً لِأَنَّ (انْبَغَى) مُطَاوِعُ (بَغَاهُ) إِذَا طَلَبَهُ. فَالْمَعْنَى: لَا يُمْكِنُ لَنَا اتِّخَاذُنَا أَوْلِيَاءَ، أَيْ عِبَادًا، قَالَ تَعَالَى: وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص: ٣٥]. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٩٢]. وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ انْتِفَاءِ طَلَبِهِمْ هَذَا الِاتِّخَاذَ انْتِفَاءً شَدِيدًا، أَيْ نَتَبَرَّأُ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ نَفْيَ (كَانَ) وَجَعْلَ الْمَطْلُوبِ نَفْيُهُ خَبَرًا عَنْ (كَانَ) أَقْوَى فِي النَّفْيِ وَلِذَلِكَ يُسَمَّى جُحُودًا. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ فَائِدَتِهِ، أَيْ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَنَا فَكَيْفَ نُحَاوِلُهُ.
(وَمن) فِي قَوْلِهِ: مِنْ دُونِكَ لِلِابْتِدَاءِ لِأَنَّ أَصْلَ (دُونَ) أَنَّهُ اسْمٌ لِلْمَكَانِ، وَيُقَدَّرُ
مُضَافٌ مَحْذُوفٌ يُضَافُ إِلَيْهِ (دُونَ) نَحْوُ: جَلَسْتُ دُونَ، أَيْ دُونَ مَكَانِهِ، فَمَوْقِعُ (مِنْ) هُنَا مَوْقِعُ الْحَالِ مِنْ أَوْلِياءَ. وَأَصْلُهَا صِفَةٌ لِ أَوْلِياءَ فَلَمَّا قُدِّمَتِ الصِّفَةُ عَلَى الْمَوْصُوفِ صَارَتْ حَالًا. وَالْمَعْنَى: لَا نَتَّخِذُ أَوْلِيَاءَ لَنَا مَوْصُوفِينَ بِأَنَّهُمْ مِنْ جَانِبٍ دُونَ جَانِبِكَ، أَيْ أَنَّهُمْ لَا يَعْتَرِفُونَ لَكَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَهُمْ يُشْرِكُونَ مَعَكَ فِي الْإِلَهِيَّةِ.
وَعَنِ ابْنِ جِنِّيٍّ: أَنَّ (مِنْ) هُنَا زَائِدَةٌ. وَأَجَازَ زِيَادَةَ (مِنْ) فِي الْمَفْعُولِ.
و (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَوْلِياءَ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ عُمُومِ النَّفْيِ، أَيِ اسْتِغْرَاقِهِ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ.
وَالْأَوْلِيَاءُ: جَمْعُ الْوَلِيِّ بِمَعْنَى التَّابِعِ فِي الْوَلَاءِ فَإِنَّ الْوَلِيَّ يُرَادِفُ الْمَوْلَى فَيَصْدُقُ عَلَى كِلَا طَرَفَيِ الْوَلَاءِ، أَيْ عَلَى السَّيِّدِ وَالْعَبْدِ، أَوِ النَّاصِرِ وَالْمَنْصُورِ. وَالْمُرَادُ هُنَا: الْوَلِيُّ التَّابِعُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٤٥]، أَيْ لَا نَطْلُبُ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَكُونُوا عَابِدِينَ لَنَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَتَّخِذَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ نَتَّخِذَ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ أَنْ يَتَّخِذَنَا النَّاسُ أَوْلِيَاءَ لَهُمْ مِنْ دُونِكَ. فَمَوْقِعُ مِنْ دُونِكَ مَوْقِعُ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ نَتَّخِذَ. وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: أَنهم يتبرّؤون مِنْ أَنْ يَدْعُوا النَّاسَ لِعِبَادَتِهِمْ، وَهَذَا تَسْفِيهٌ لِلَّذِينَ عَبَدُوهُمْ
كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ، أَيْ هَبْكُمْ أَقْوَى مِنَ الْأَوَّلين أَو أشدّ حِيلَةً مِنْهُمْ أَوْ لَكُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ مَا لَيْسَ لَهُمْ، فَمَا أَنْتُمْ بِمُفْلِتِينَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ كَقَوْلِهِ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [العنكبوت: ٢٢].
وَجِيءَ بِلَامِ الْجُحُودِ مَعَ كانَ الْمَنْفِيَّةِ لِإِفَادَةِ تَأْكِيدِ نَفْيِّ كُلِّ شَيْءٍ يَحُولُ دُونَ قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالِاحْتِرَاسِ.
وَمَعْنَى «يُعْجِزُهُ» : يَجْعَلُهُ عَاجِزًا عَنْ تَحْقِيقِ مُرَادِهِ فِيهِ فَيُفْلِتُ أَحَدً عَنْ مُرَادِ اللَّهِ مِنْهُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً تَعْلِيلٌ لِانْتِفَاءِ شَيْءٍ يُغَالِبُ مُرَادَ اللَّهِ بِأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِلْمِ وَاسِعُهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ وَبِأَنَّهُ شَدِيدُ الْقُدْرَةِ.
وَقَدْ حَصَرَ هَذَانِ الْوَصْفَانِ انْتِفَاءَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ يُعْجِزُ اللَّهَ لِأَنَّ عَجْزَ الْمُرِيدِ عَنْ تَحْقِيقِ إِرَادَتِهِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ خَفَاءَ مَوْضِعِ تَحَقُّقِ الْإِرَادَةِ، وَهَذَا يُنَافِي إِحَاطَةَ الْعِلْمِ، أَوْ عَدَمَ اسْتِطَاعَةِ التَّمَكُّنِ مِنْهُ وَهَذَا يُنَافِي عُمُوم الْقُدْرَة.
[٤٥]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٤٥]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥)
تَذْكِيرٌ لَهُمْ عَنْ أَنْ يَغُرَّهُمْ تَأْخِيرُ الْمُؤَاخَذَةِ فَيَحْسَبُوهُ عَجْزًا أَوْ رِضًى مِنَ اللَّهِ بِمَا هُمْ فِيهِ فَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: ٣٢] فَعِلْمُهُمْ أَنَّ لِعَذَابِ اللَّهِ آجالا اقتضتها حكمته، فِيهَا رَعْيُ مَصَالِحِ أُمَمٍ آخَرِينَ، أَوِ اسْتِبْقَاءِ أَجْيَالٍ آتِينَ. فَالْمُرَادُ بِ النَّاسَ مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ، وَضَمِيرُ «مَا كَسَبُوا» وَضَمِيرُ يُؤَخِّرُهُمْ عَائِدٌ إِلَى أَجَلٍ.
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ جَاءَ فِيهَا بِما كَسَبُوا وَهُنَالِكَ جَاءَ فِيهَا بِظُلْمِهِمْ [النَّحْل: ٦١] لِأَنَّ مَا كَسَبُوا
أَنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ كَثِيرًا كَافِرِينَ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ، وَثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ كُلَّ وَاقِعٍ هُوَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ لَا يَقَعُ فِي مُلْكِهِ إِلَّا مَا يُرِيدُ فَأَنْتَجَ ذَلِكَ بِطَرِيقَةِ الشَّكْلِ الثَّالثِ أَنْ يُقَالَ: كُفْرُ الْكَافِرُ مُرَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الْأَنْعَام: ١١٢] وَلَا شَيْءَ من الْكفْر بمرضي لِلَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ، يَنْتِجُ الْقِيَاسُ بَعْضُ مَا أَرَادَهُ الله لَيْسَ بمرضي لَهُ فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْإِرَادَةُ وَالرِّضَى حَقِيقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَأَنْ يَكُونَ لَفْظَاهُمَا غَيْرَ مُتَرَادِفَيْنِ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ إِنَّ الْإِرَادَةَ غَيْرُ الرِّضَى، وَالرِّضَى غَيْرُ الْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ، فَالْإِرَادَةُ وَالْمَشِيئَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَالرِّضَى وَالْمَحَبَّةُ وَالِاخْتِيَارُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهَذَا حَمْلٌ لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى مَعَانٍ يُمْكِنُ مَعَهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَات قَالَ التفتازانيّ: وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ.
وَيَنْبَنِي عَلَيْهَا الْقَوْلُ فِي تَعَلُّقِ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ رَاجِعًا إِلَى خِطَابِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الْأَنْعَام: ١١٢] رَاجِعًا إِلَى تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِالْإِيجَادِ وَالْخَلْقِ. وَيَتَرَكَّبُ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا وَمَجْمُوعِ نَظَائِرِ كُلٍّ مِنْهُمَا الِاعْتِقَادُ بِأَنَّ لِلْعِبَادِ كَسْبًا فِي أَفْعَالِهِمُ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَأَنَّ اللَّهَ تَتَعَلَّقُ إِرَادَتُهُ بِخَلْقِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ عِنْدَ تَوَجُّهِ كَسْبِ الْعَبْدِ نَحْوَهَا، فَاللَّهُ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعَبْدِ غَيْرُ مُكْتَسِبٍ لَهَا. وَالْعَبْدُ مُكْتَسِبٌ غَيْرُ خَالِقٍ، فَإِنَّ الْكَسْبَ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ هُوَ الِاسْتِطَاعَةُ الْمُفَسَّرَةُ عِنْدَهُ بِسَلَامَةِ أَسْبَابِ الْفِعْلِ وَآلَاتِهِ، وَهِيَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْقُدْرَةِ وَالْجَبْرِ، أَيْ هِيَ دُونَ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ وَفَوْقَ تَسْخِيرِ الْجَبْرِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الدِّينِيَّةِ النَّاطِقَةِ بِمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَبَيْنَ دَلَالَةِ الضَّرُورَةِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ حَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ وَحَرَكَةِ الْمَاشِي، وَجَمْعًا بَيْنَ أَدِلَّةِ عُمُومِ الْقُدْرَةِ وَبَيْنَ تَوْجِيهِ الشَّرِيعَةِ خِطَابَهَا لِلْعِبَادِ بِالْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْكُفْرِ وَالسَّيِّئَاتِ وَتَرْتِيبِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ رَأَوُا الِاتِّحَادَ بَيْنَ مَعَانِي الْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالرِّضَى وَهُوَ قَولُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ وَجَمِيعِ الْمَاتُرِيدِيَّةِ فَسَلَكُوا فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ مَحْمَلَ لَفْظِ لِعِبادِهِ عَلَى الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، أَيْ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتَأْنَسُوا لِهَذَا الْمَحْمَلِ بِأَنَّهُ الْجَارِي عَلَى غَالِبِ اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ فِي لَفْظَةِ (الْعِبَادِ) لِاسْمِ اللَّهِ، أَوْ ضَمِيرِهِ
اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ عَرَضَ فِي أَثْنَاءِ نُزُولِ السُّورَةِ فَمُنَاسَبَتُهَا لِأَغْرَاضِ السُّورَةِ وَاضِحَةٌ لِأَنَّهَا تَعْلِيمٌ لِمَا يَصْلُحُ بِهِ مَقَامُ الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ بَيْنَ الْمُضَادِّينَ لَهُمْ وَاحْتِمَالُ مَا يُلَاقُونَهُ مِنْ صَلَفِهِمْ وَتَجَبُّرِهِمْ إِلَى أَنْ يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ.
وَقَدْ رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَخْبَارٌ مُتَفَاوِتَةُ الضَّعْفِ، فَرَوَى مَكِّيُّ بن أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَتَمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَهَمَّ أَنْ يَبْطِشَ بِهِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: «وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ». وَفِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ عُمَرَ شَتَمَهُ رَجُلٌ مِنْ غِفَارٍ فَهَمَّ أَنْ يَبْطِشَ بِهِ فَنَزَلَتْ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ «كُنَّا بَيْنَ يَدَيْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَرَأَ قَارِئٌ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ عُمَرُ: لِيَجْزِيَ عُمَرَ بِمَا صَنَعَ» يَعْنِي أَنَّهُ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ. وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ وَالْقُشَيْرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ: نَزَلُوا عَلَى بِئْرٍ يُقَال لَهَا: الْمُريْسِيع فَأَرْسَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ
غُلَامَهُ لِيَسْتَقِيَ مِنَ الْبِئْرِ فَأَبْطَأَ، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ: مَا حَسْبُكَ. قَالَ: غُلَامُ عُمَرَ قَعَدَ عَلَى فَمِ الْبِئْرِ فَمَا تَرَكَ أَحَدًا يَسْقِي حَتَّى مَلَأَ قرب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقرب أَبِي بَكْرٍ وَمَلَأَ لِمَوْلَاهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُ هَؤُلَاءِ إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: «سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ» فَهَمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِقَتْلِهِ، فَنَزَلَتْ.
وَرَوَى ابْنُ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الْبَقَرَة: ٢٤٥] الْآيَةَ قَالَ فِنْحَاصُ الْيَهُودِيُّ: احْتَاجَ رَبُّ مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ بِذَلِكَ اشْتَمَلَ عَلَى سَيْفِهِ وَخَرَجَ فِي طَلَبِهِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَبَعَثَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِهِ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: ضَعْ سَيْفَكَ
. وَهَاتَانِ رِوَايَتَانِ ضَعِيفَتَانِ وَمِنْ أَجْلِهِمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ.
وَأَقْرَبُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ مَا قَالَهُ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَلَوْ صَحَّتْ مَا كَانَ فِيهِ مَا يُفَكِّكُ انْتِظَامَ الْآيَاتِ سَوَاءٌ صَادَفَ نُزُولُهَا تِلْكَ الْحَادِثَةِ أَوْ أَمَرَ اللَّهُ بِوَضْعِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَجُزِمَ يَغْفِرُوا عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ الْأَمْرِ مَحْذُوفًا، أَيْ قُلْ لَهُمْ لِيَغْفِرُوا، أَوْ هُوَ مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ قُلْ، وَالْمَقُولُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ. وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ لِلَّذِينِ آمَنُوا اغْفِرُوا يَغْفِرُوا. وَهَذَا ثِقَةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ إِذَا قَالَ لَهُم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْتَثَلُوا. وَالْوَجْهَانِ
عِنْدَهُ نُزُولُ مَا فِي السَّحَابِ مِنَ الْمَاءِ أَوْ هِيَ السُّحُبُ الَّتِي تُنْزِلُ مَا فِيهَا مِنَ الْمَطَرِ عَلَى مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ.
وَإِسْنَادُ التَّقْسِيمِ إِلَيْهَا عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ مَجَازٌ بِالْمُشَابَهَةِ. وَرُوِيَ عَن الْحسن فَالْمُقَسِّماتِ السحب بقسم اللَّهُ بِهَا أَرْزَاقَ الْعِبَادِ» اه. يُرِيدُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلَنَا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً إِلَى قَوْلِهِ: رِزْقاً لِلْعِبادِ فِي سُورَةِ ق [٩- ١١].
وَمِنْ رَشَاقَةِ هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ فِيهِ مُنَاسَبَةً بَيْنَ الْمُقْسَمِ بِهِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ فَإِنَّ أَحْوَالَ الرِّيَاحِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا مَبْدَؤُهَا: نَفْخٌ، فَتَكْوِينٌ، فَإِحْيَاءٌ، وَكَذَلِكَ الْبَعْثُ مَبْدَؤُهُ: نَفْخٌ فِي الصُّورِ، فَالْتِئَامُ أَجْسَادِ النَّاسِ الَّتِي كَانَتْ مَعْدُومَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً، فَبَثُّ الْأَرْوَاحَ فِيهَا فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ. وَقَدْ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
أَمْراً إِشَارَةً إِلَى مَا يُقَابِلُهُ فِي الْمِثَالِ مِنْ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ وَهُوَ الرُّوحُ لِقَوْلِهِ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاء: ٨٥].
وَ (مَا) مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّما تُوعَدُونَ مَوْصُولَةٌ، أَيْ إِنَّ الَّذِي تُوعَدُونَهُ لِصَادِقٌ. وَالْخِطَابُ فِي تُوعَدُونَ لِلْمُشْرِكِينَ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى التَّأْكِيدِ بِالْقَسَمِ وَكَمَا يَقْتَضِيهِ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ [الذاريات: ٨].
فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ تُوعَدُونَ مُشْتَقًّا مِنَ الْوَعِيدِ الَّذِي مَاضِيهِ (أوعد)، وَهُوَ يبْنى لِلْمَجْهُولِ فَأصل تُوعَدُونَ تؤوعدون بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ تَاءِ الْمُضَارَعَةِ وَوَاوٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ هِيَ عَيْنُ فِعْلِ (أَوْعَدَ) وَبِفَتْحِ الْعَيْنِ لِأَجْلِ الْبِنَاءِ الْمَجْهُولِ فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ عَلَى مَا هُوَ الْمُطَّرِدُ مِنْ حَذْفِ هَمْزَةِ أُفْعِلُ فِي الْمُضَارِعِ مِثْلَ تُكْرِمُونَ، وَسَكَنَتِ الْوَاوُ سُكُونًا مَيِّتًا لِأَجْلِ وُقُوعِ الضَّمَّةِ قَبْلَهَا بَعْدَ أَنْ كَانَ سُكُونُهَا حَيًّا فَصَارَ تُوعَدُونَ ووزنه تافعلون.
وَالَّذِي أُوعِدُوهُ عَذَابُ الْآخِرَةِ وَعَذَابُ الدُّنْيَا مِثْلُ الْجُوعِ فِي سِنِي الْقَحْطِ السَّبْعِ الَّذِي هُوَ دَعْوَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ
بِقَوْلِهِ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينًا كَسِنِينِ يُوسُفَ)
وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ [١٠، ١١]. وَمِثْلُ عَذَابِ السَّيْفِ وَالْأَسْرِ يَوْمَ بَدْرٍ الَّذِي تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: ١٦].
عَلَى التَّكْذِيبِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا مُدَاهَنَةً لِقَوْمِكُمْ تَخْشَوْنَ إِنْ صَدَّقْتُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْ تَزُولَ رِئَاسَتُكُمْ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الْأَنْعَام: ٣٣].
وَعَلَى تَفْسِيرِ مُدْهِنُونَ بِمَعْنَى الْإِلَانَةِ، فَالْمَعْنَى: لَا تَتَرَاخَوْا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَتَدَبَّرُوهُ وَخُذُوا بِالْفَوْرِ فِي اتِّبَاعِهِ.
وَإِنْ فُسِّرَ مُدْهِنُونَ بِمَعْنَى: تَكْذِبُونَ، فَالْمَعْنَى وَاضِحٌ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ، وَصَوْغُ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فِي أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ لِأَن المقرّر عَلَيْهِ إِدْهَانٌ ثَابت مستمرّ.
[٨٢]
[سُورَة الْوَاقِعَة (٥٦) : آيَة ٨٢]
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢)
إِذَا جَرَيْنَا عَلَى مَا فَسَّرَ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ [الْوَاقِعَة: ٨١] عَطَفَ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ فَتَكُونُ دَاخِلَةً فِي حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ وَمُسْتَقِلَّةً بِمَعْنَاهَا.
وَالْمَعْنَى: أَفَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِدْلَالُ بِتَكْوِينِ نَسْلِ الْإِنْسَانِ وَخَلْقِ الْحَبِّ، وَالْمَاءِ فِي الْمُزْنِ، وَالنَّارِ مِنْ أَعْوَادِ الِاقْتِدَاحِ، فَإِنَّ فِي مَجْمُوعِ ذَلِكَ حُصُولَ مُقَوِّمَاتِ الْأَقْوَاتِ وَهِيَ رِزْقٌ، وَالنَّسْلُ رِزْقٌ، يُقَالُ: رُزِقَ فُلَانٌ وَلَدًا، لِأَن الرزق يُطلق عَلَى الْعَطَاءِ النَّافِعِ، قَالَ لَبِيدٌ:
رُزِقَتْ مَرَابِيعَ النُّجُومِ وَصَابَهَا وَدْقُ الرَّوَاعِدِ جَوْدُهَا فَرِهَامُهَا
أَيْ أُعْطِيَتْ وَقَالَ تَعَالَى: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات:
٥٧] فَعَطَفَ الْإِطْعَامَ عَلَى الرِّزْقِ وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ.
وَالْاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ الْعَاطِفِ إِنْكَارِيٌّ، وَإِذْ كَانَ التَّكْذِيبُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ
(١٢)
اسْمُ الْجَلَالَةِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُوَ اللَّهُ. وَهَذَا مِنْ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِمُتَابَعَةِ الِاسْتِعْمَالِ كَمَا سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ جرى ذكر شؤون من عَظِيم شؤون اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ [الطَّلَاق: ١] إِلَى هُنَا، فَقَدْ تَكَرَّرَ اسْمُ الْجَلَالَةِ وَضَمِيرُهُ وَالْإِسْنَادُ إِلَيْهِ زُهَاءَ ثَلَاثِينَ مَرَّةً فَاقْتَضَى الْمَقَامُ عَقِبَ ذَلِكَ أَنْ يُزَادَ تَعْرِيفُ النَّاسِ بِهَذَا الْعَظِيمِ، وَلَمَّا صَارَ الْبِسَاطُ مَلِيئًا بِذِكْرِ اسْمِهِ صَحَّ حَذْفُهُ عِنْدَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ إِيجَازًا وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٦٥]، وَكَذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [الْبَقَرَة: ١٨]، وَقَوْلِهِ: مَقامِ إِبْراهِيمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٥].
فَالْجُمْلَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا.
وَالْمَوْصُولُ صِفَةٌ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ وَقَدْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الصِّلَةُ لِمَا فِيهَا مَنْ الدَّلَالَةِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى، وَعَلَى أَنَّ النَّاسَ وَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي الْأَرْضِ عَبِيدُهُ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّقُوهُ، وَلَا يَتَعَدَّوْا حُدُودَهُ، وَيُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى مَدَى طَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ فَإِنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَأَنَّهُ قَدِيرٌ عَلَى إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ إِنْ أَطَاعُوهُ وَعِقَابِهِمْ إِنْ عَصَوْهُ.
وَفِيهِ تَنْوِيهٌ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْرِ الَّذِي يَتَنَزَّلُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
وَالسَّبْعُ السَّمَاوَاتِ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا غَيْرَ مَرَّةٍ، وَهِيَ سَبْعٌ مُنْفَصِلٌ بَعْضُهَا عَنِ الْآخَرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ نُوحٍ [١٥] : أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً.
وَقَوْلُهُ: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ عَطْفٌ عَلَى سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ قَوْلَهُ: مِنَ الْأَرْضِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ لَفْظَ الْأَرْضِ وَيَكُونُ حَرْفُ مِنَ مَزِيدًا لِلتَّوْكِيدِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ وَالْأَخْفَشِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِزِيَادَةِ مِنَ أَنْ تَقَعَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَالنَّهْيِ وَالِاسْتِفْهَامِ وَالشَّرْطِ وَهُوَ الْأَحَقُّ بِالْقَبُولِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَثِيرًا فِي الْكَلَامِ، وَعَدَمُ الْكَثْرَةِ لَا يُنَافِي الْفَصَاحَةَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَخَلَقَ الْأَرْضَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ:
مِثْلَهُنَّ حَالًا مِنْ الْأَرْضِ.
وَمُمَاثَلَةُ الْأَرْضِ لِلسَّمَاوَاتِ فِي دَلَالَةِ خَلْقِهَا عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ أَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ لَيْسَ أَضْعَفَ دَلَالَةً عَلَى الْقُدْرَةِ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا خَصَائِصَ دَالَّةً عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ.
لم لَا يَسْتَكْثِرْ مِنْهُ» فَهَذِهِ نُفُوسٌ خَيِّرَةٌ حَقِيقَةٌ أَنْ تَشْرُفَ بِالْقَسَمِ بِهَا وَمَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ إِلَّا لِكَرَامَتِهَا.
وَالْمُرَادُ اللَّوَّامَةُ فِي الدُّنْيَا لَوْمًا تَنْشَأُ عَنْهُ التَّوْبَةُ وَالتَّقْوَى وَلَيْسَ الْمُرَادُ لَوْمَ الْآخِرَةِ إِذْ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي [الْفجْر: ٢٤].
وَمُنَاسَبَةُ الْقَسَمِ بِهَا مَعَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنَّهَا النُّفُوسُ ذَاتُ الْفَوْزِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَعَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ لَا أُقْسِمُ مُرَادٌ مِنْهُ عَدَمُ الْقَسَمِ فَفَسَّرَ النَّفْسَ اللَّوَّامَةَ بِالَّتِي تَلُومُ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ.
وَقَوْلُهُ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ إِلَخْ دَلِيلٌ عَلَى جَوَابِ الْقَسَمِ إِذْ تَقْدِيرُ الْجَوَابِ لَنَجْمَعَنَّ عِظَامَكُمْ وَنَبْعَثْكُمْ لِلْحِسَابِ.
وَتَعْرِيفُ الْإِنْسانُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَوُقُوعُهُ فِي سِيَاقِ الْإِنْكَارِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَهُوَ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى غَالِبِ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ إِذْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ قَلِيلًا. فَالْمَعْنَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ الْكَافِر.
وَجُمْلَة أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ حَرْفِ أَنْ الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ الْمُخَفَّفَةِ النُّونِ الَّتِي هِيَ أُخْتُ (إِنْ) الْمَكْسُورَةِ.
وَاسْمُ أَنْ ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٌ.
وَالْجُمْلَةُ الْوَاقِعَةُ بَعْدَ أَنْ خَبَرٌ عَنْ ضَمِيرِ الشَّأْنِ، فَسِيبَوَيْهِ يَجْعَلُ أَنْ مَعَ اسْمِهَا وَخَبَرِهَا سَادَّةً مَسَدَّ مَفْعُولَيْ فِعْلِ الظَّنِّ. وَالْأَخْفَشُ يَجْعَلُ أَن مَعَ جزئيها فِي مَقَامِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ (أَيْ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ) وَيُقَدَّرُ مَفْعُولًا ثَانِيًا. وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ خَوَاصِّ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ جَوَازَ دُخُولِ (أَن) الْمَفْتُوحَة الْهمزَة بَعْدَهَا فَيَسْتَغْنِي الْفِعْلُ بِ (أَنْ) وَاسْمِهَا وَخَبَرِهَا عَنْ مَفْعُولَيْهِ.
وَجِيءَ بِحَرْفِ لَنْ الدَّالِّ عَلَى تَأْكِيدِ النَّفْيِ لِحِكَايَةِ اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ اسْتِحَالَةَ جَمْعِ الْعِظَامِ بَعْدَ رِمَامِهَا وَتَشَتُّتِهَا.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: نَزَلَتْ فِي عَدِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ (الصَّوَابُ ابْنُ أَبِي ربيعَة) قَالَ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ حَدِّثْنِي عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَدِيٌّ: لَوْ عَايَنْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَمْ أُصَدِّقْكَ أَوْ يَجْمَعُ اللَّهُ الْعِظَامَ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
، أَلَا قُلْتَ: إِنَّ سَبَبَ النُّزُولِ لَا يُخَصِّصُ الْإِنْسَانَ بِهَذَا السَّائِلِ.
وَجُمْلَةُ: وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَجُمْلَةِ: يَقُولُ إِلَخْ.
وأَنَّى اسْمُ اسْتِفْهَامٍ بِمَعْنَى: أَيْنَ لَهُ الذِّكْرَى، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ وَالنَّفْيِ، وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَيْنَ لَهُ نَفْعُ الذِّكْرَى.
وَجُمْلَةُ: يَقُولُ يَا لَيْتَنِي إِلَخْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا بِاللِّسَانِ تَحَسُّرًا وَتَنَدُّمًا فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنَ الْإِنْسانُ أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ يَتَذَكَّرُ فَإِنَّ تَذَكُّرَهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى تَحَسُّرٍ وَنَدَامَةٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِي نَفْسِهِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ بَيَانًا لِجُمْلَةِ يَتَذَكَّرُ وَمَفْعُولُ قَدَّمْتُ مَحْذُوفٌ لِلْإِيجَازِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِحَياتِي تَحْتَمِلُ مَعْنَى التَّوْقِيتِ، أَيْ قَدَّمْتُ عِنْدَ أَزْمَانِ حَيَاتِي فَيَكُونُ الْمُرَادُ الْحَيَاةَ الْأَوْلَى الَّتِي قَبْلَ الْمَوْتِ. وَتَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اللَّامُ لِلْعِلَّةِ، أَيْ قَدَّمْتُ
الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ لِأَجْلِ أَنْ أَحْيَا فِي هَذِهِ الدَّارِ. وَالْمُرَادُ: الْحَيَاةُ الْكَامِلَةُ السَّالِمَةُ مِنَ الْعَذَابِ لِأَنَّ حَيَاتَهُمْ فِي الْعَذَابِ حَيَاةُ غِشَاوَةٍ وَغِيَابٍ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [الْأَعْلَى: ١٣].
وَحَرْفُ النِّدَاءِ فِي قَوْلِهِ: يَا لَيْتَنِي لِلتَّنْبِيهِ اهْتِمَامًا بِهَذَا التَّمَنِّي فِي يَوْمِ وُقُوعٍ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ رَابِطَةٌ لِجُمْلَةِ لَا يُعَذِّبُ إِلَخْ بِجُمْلَةِ دُكَّتِ الْأَرْضُ لِمَا فِي إِذا مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ.
وَالْعَذَابُ: اسْمُ مَصْدَرِ عَذَّبَ.
وَالْوَثَاقُ: اسْمُ مَصْدَرِ أَوْثَقَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُعَذِّبُ بِكَسْرِ الذَّالِ ويُوثِقُ بِكَسْرِ الثَّاءِ عَلَى أَنَّ أَحَدٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَاعِلُ يُعَذِّبُ، ويُوثِقُ وَأَنَّ عَذَابَهُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصَدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ فَضَمِيرُ عَذابَهُ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُبَيِّنٌ لِلنَّوْعِ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ عَذَابًا مِثْلَ عَذَابِهِ، وَانْتِفَاءُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الشِّدَّةِ، أَيْ يُعَذِّبُ عَذَابًا هُوَ أَشَدُّ عَذَابٍ يُعَذَّبُهُ الْعُصَاةُ، أَيْ


الصفحة التالية
Icon