وَالْفَاسِقُ لَفْظٌ مِنْ مَنْقُولَاتِ الشَّرِيعَةِ أَصْلُهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْفِسْقِ بِكَسْرِ الْفَاءِ، وَحَقِيقَةُ الْفِسْقِ خُرُوجُ الثَّمَرَةِ مِنْ قِشْرِهَا وَهُوَ عَاهَةٌ أَوْ رَدَاءَةٌ فِي الثَّمَرِ فَهُوَ خُرُوجٌ مَذْمُومٌ يُعَدُّ مِنَ الْأَدْوَاءِ مِثْلَ مَا قَالَ النَّابِغَةُ:
صِغَارُ النَّوَى مَكْنُوزَةٌ لَيْسَ قِشْرُهَا | إِذَا طَارَ قِشْرُ التَّمْرِ عَنْهَا بِطَائِرِ |
فَوَاسِقًا عَنْ قَصْدِهَا جَوَائِرَا | يَهْوَيْنَ فِي نَجْدٍ وَغَوْرٍ غَائِرَا |
وَإِسْنَادُ الْإِضْلَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مُرَاعًى فِيهِ أَنَّهُ الَّذِي مَكَّنَ الضَّالِّينَ مِنَ الْكَسْبِ وَالِاخْتِيَارِ بِمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنَ الْعُقُولِ وَمَا فَصَلَ لَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ الْخَيْرِ وَضِدِّهِ. وَفِي اخْتِيَارِ إِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ صِحَّةِ إِسْنَادِهِ لِفِعْلِ الضَّالِّ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ ضَلَالٌ مُتَمَكِّنٌ مِنْ نُفُوسِهِمْ حَتَّى صَارَ كَالْجِبِلَّةِ فِيهِمْ فَهُمْ مَأْيُوسٌ مِنِ اهْتِدَائِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [الْبَقَرَة: ٧]. فَإِسْنَادُ الْإِضْلَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى خَلْقِ أَسْبَابِهِ الْقَرِيبَةِ وَالْبَعِيدَةِ وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ النَّاسَ كُلَّهُمْ بِالْهُدَى وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَفْرُوغٌ مِنْهَا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ.
وَقَوْلُهُ: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ إِمَّا مُسُوقٌ لِبَيَانِ أَنَّ لِلْفِسْقِ تَأْثِيرًا فِي زِيَادَةِ الضَّلَالِ لِأَنَّ الْفِسْقَ يَرِينُ عَلَى الْقُلُوبِ وَيُكْسِبُ النُّفُوسَ ظُلْمَةً فَتَتَسَاقَطُ فِي الضَّلَالِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْأُخْرَى عَلَى التَّعَاقُبِ، حَتَّى يَصِيرَ لَهَا دُرْبَةً. وَهَذَا الَّذِي يُؤْذِنُ بِهِ التَّعْلِيق على الْوَصْف الْمُشْتَقِّ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْمَعْنَى الِاشْتِقَاقِيَّ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ هَؤُلَاءِ فَاسِقُونَ وَمَا مِنْ فَاسِقٍ إِلَّا وَهُوَ ضَالٌّ فَمَا ثَبَتَ الضَّلَالُ إِلَّا بِثُبُوتِ الْفِسْقِ عَلَى نَحْوِ طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ الِاقْتِرَانِيِّ، وَإِمَّا مُسُوقٌ لِبَيَانِ أَنَّ الضَّلَالَ وَالْفِسْقَ أَخَوَانِ فَحَيْثُمَا تَحَقَّقَ أَحَدُهُمَا أَنْبَأَ بِتَحَقُّقِ الْآخَرِ عَلَى نَحْوِ قِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ إِذَا أُرِيدَ مِنَ الْفَاسِقِينَ الْمَعْنَى اللَّقَبِيُّ الْمَشْهُورُ فَلَا يَكُونُ لَهُ إِيذَانٌ بِتَعْلِيلٍ، وَإِمَّا لِبَيَانِ أَنَّ الْإِضْلَالَُُ
قَنَاةِ الذَّكَرِ فَاسْتَحَالَ إِلَى عُفُونَةٍ تُحْدِثُ أَمْرَاضًا مُعْضِلَةً فَتُحْدِثُ بُثُورًا وَقُرُوحًا لِأَنَّهُ دَمٌ قَدْ فَسَدَ وَيَرِدُ أَيْ فِيهِ أَجْزَاءٌ حَيَّةٌ تُفْسِدُ فِي الْقَضِيبِ فَسَادًا مِثْلَ موت الْحَيّ فتؤول إِلَى تَعَفُّنٍ.
وَأَمَّا أَذَى الْمَرْأَةِ فَلِأَنَّ عُضْوَ التَّنَاسُلِ مِنْهَا حِينَئِذٍ بصدد التهيؤ إل إِيجَادِ الْقُوَّةِ التَّنَاسُلِيَّةِ فَإِذَا أُزْعِجَ كَانَ إِزْعَاجًا فِي وَقت اشْتِغَاله بِعَمَل فَدَخَلَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ مَرَضٌ وَضَعْفٌ، وَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِدَمِ الْحيض أخذت البييضات فِي التَّخَلُّقِ قَبْلَ إبان صلاحيتها التخلق النَّافِعِ الَّذِي وَقَتُهُ بَعْدَ الْجَفَافِ، وَهَذَا قَدْ عَرَفَهُ الْعَرَبُ بِالتَّجْرِبَةِ قَالَ أَبُو كَبِيرٍ الْهُذَلِيُّ:
وَمُبَرَّإٍ مِنْ كُلِّ غُبَّرِ حِيضَةٍ | وَفَسَادِ مُرْضِعَةٍ وَدَاءٍ مُعْضِلِ |
وَقَوْلُهُ: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ تَفْرِيعُ الْحُكْمِ عَلَى الْعِلَّةِ، وَالِاعْتِزَالُ التَّبَاعُدُ بِمَعْزِلٍ وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ تَرْكِ مُجَامَعَتِهِنَّ، وَالْمَجْرُورُ بِفِي: وَقْتٌ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: فِي زَمَنِ الْمَحِيضِ وَقَدْ كَثُرَتْ إِنَابَةُ الْمَصْدَرِ عَنْ ظَرْفِ الزَّمَانِ كَمَا يَقُولُونَ آتِيكَ طُلُوعَ النَّجْمِ وَمَقْدِمَ الْحَاجِّ.
وَالنِّسَاءُ اسْمُ جَمْعٍ للْمَرْأَة لَا وَاحِد لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْأَزْوَاجُ كَمَا يَقْتَضِيهِ لفظ فَاعْتَزِلُوا الْمُخَاطَبِ بِهِ الرِّجَالُ، وَإِنَّمَا يَعْتَزِلُ مَنْ كَانَ يُخَالِطُ.
وَإِطْلَاقُ النِّسَاءِ عَلَى الْأَزْوَاجِ شَائِعٌ بِالْإِضَافَةِ كَثِيرًا نَحْوَ: يَا نِساءَ النَّبِيِّ [الْأَحْزَاب: ٣٠]، وَبِدُونِ إِضَافَةٍ مَعَ الْقَرِينَةِ كَمَا هُنَا، فَالْمُرَادُ اعْتَزِلُوا نِسَاءَكُمْ أَيِ اعْتَزِلُوا مَا هُوَ أَخَصُّ الْأَحْوَالِ بِهِنَّ وَهُوَ الْمُجَامَعَةُ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِهِنَّ تَأْكِيدًا لِلْأَمْرِ بِاعْتِزَالِهِنَّ وَتَبْيِينًا لِلْمُرَادِ مِنَ الِاعْتِزَالِ وَأَنَّهُ لَيْسَ التَّبَاعُدَ عَنِ الْأَزْوَاجِ بِالْأَبْدَانِ كَمَا كَانَ عِنْدَ الْيَهُودِ بَلْ هُوَ عَدَمُ الْقِرْبَانِ، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ مَفْصُولَةً بِدُونِ عَطْفٍ، لِأَنَّهَا مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَمُبَيِّنَةٌ لِلِاعْتِزَالِ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ يَقْتَضِي الْفَصْلَ، وَلَكِنْ خُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ اهْتِمَامًا بِهَذَا الْحُكْمِ لِيَكُونَ النَّهْيُ عَنِ الْقِرْبَانِ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ مَعْطُوفًا عَلَى التَّشْرِيعَاتِ.
وَيُكَنَّى عَنِ الْجِمَاعِ بِالْقِرْبَانِ بِكَسْرِ الْقَافِ مَصْدَرُ قَرِبَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَلِذَلِكَ جِيءَ فِيهِ بِالْمُضَارِعِ الْمَفْتُوحِ الْعَيْنِ الَّذِي هُوَ مُضَارِعُ قَرِبَ كَسَمِعَ مُتَعَدِّيًا إِلَى الْمَفْعُولِ فَإِنَّ
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ حَتَّى كَمُلَ وَاجْتَمَعَ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَوَجَبَ أَنْ يُحَافَظَ عَلَى كَوْنِهِ مَجْمُوعًا، فَهَذَا وَجْهُ كَرَاهِيَةِ مَالك لتفريقه اهـ.
قُلْتُ: وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى تَفَرُّقِ أَجْزَاءِ الْمُصْحَفِ
الْوَاحِدِ فَيَقَعُ بَعْضُهَا فِي يَدِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ هُوَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ، وَمَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ: وَقَدْ جَمَعَهُ اللَّهُ، أَنَّ اللَّهَ أَمر رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَمْعِهِ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ مُنَجَّمًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ جَمْعَهُ فَلَا يُفَرَّقُ أَجْزَاءً. وَقَدْ أَجَازَ فُقَهَاءُ الْمَذْهَبِ تَجْزِئَةَ الْقُرْآنِ لِلتَّعَلُّمِ وَمَسَّ جُزْئِهِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، وَمِنْهُ كِتَابَتُهُ فِي الْأَلْوَاحِ.
وَقَوْلُهُ: وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ قُوَّةُ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّهُ فِي قُوَّةِ أَخْبِرُونِي، فَإِنَّ الِاسْتِفْهَامَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْفِعْلِ.
وَوُقُوعُ الِاسْتِفْهَامِ بِالِاسْمِ الدَّالِّ عَلَى طَلَبِ تَعْيِينِ فَاعِلِ الْإِنْزَالِ يُقَوِّي مَعْنَى الْفِعْلِ فِي الِاسْتِفْهَامِ إِذْ تَضَمَّنَ اسْمُ الِاسْتِفْهَامِ فِعْلًا وَفَاعِلًا مُسْتَفْهَمًا عَنْهُمَا، أَيْ أَخْبِرُونِي عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ عَلَّمَكُمُ اللَّهُ بِالْقُرْآنِ الَّذِي أَنْكَرْتُمْ كَوْنَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، احْتَجَجْتُمْ عَلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ بِنَفْيِ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْصَفْتُمْ لَوَجَدْتُمْ وَأَمَارَةُ نُزُولِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثَابِتَةٌ فِيهِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ مَعَهَا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْخِطَابُ أَشَدُّ انْطِبَاقًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَحْوَالِ التَّشْرِيعِ وَنِظَامِهِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَلِمَ ذَلِكَ مَنْ آمَنَ عِلْمًا رَاسِخًا، وَعلِمَ ذَلِكَ مَنْ بَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ عِنْدَ الدَّعْوَةِ وَمِنْ مُخَالِطِيهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ وَصفهم الله بِمثل هَذَا فِي آيَاتٍ أُخْرَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [هود: ٤٩].
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: وَعُلِّمْتُمْ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ: أَنْزَلَ الْكِتابَ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قِيلَ: وَعَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا.
مُتَوَسِّطِ شَيْئَيْنِ، وَشَأْنُهُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلْفِعْلِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ لِمُجَرَّدِ مَكَانٍ مُتَوَسِّطٍ إِمَّا بِالْإِضَافَةِ كَمَا هُنَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ [الْمَائِدَة: ١٠٦]، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ أَوِ اسْمِ الْفَاعِلِ إِلَى مَعْمُولِهِ أَوْ بِدُونِ إِضَافَةٍ تَوَسُّعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الْأَنْعَام: ٩٤] فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِرَفْعِ بَيْنُكُمْ.
وَالْحُوتُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى بِاسْتِصْحَابِهِ مَعَهُ لِيَكُونَ لَهُ عَلَامَةً عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ الْخَضِرُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سِيَاقِ الحَدِيث. وَالنِّسْيَان تقدم فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ نُنْسِها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠٦].
وَمَعْنَى نِسْيَانِهِمَا أَنَّهُمَا نَسِيَا أَنْ يُرَاقِبَا حَالَهُ أَبَاقٍ هُوَ فِي مِكْتَلِهِ حِينَئِذٍ حَتَّى إِذَا فَقَدَاهُ فِي مَقَامِهِمَا ذَلِكَ تَحَقَّقَا أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ الَّذِي فقداه فِيهِ هُوَ الْموضع الْمُؤَقت لَهُمَا بِتِلْكَ الْعَلَامَةِ فَلَا يَزِيدَا تَعَبًا فِي الْمَشْيِ، فَإِسْنَادُ النِّسْيَانِ إِلَيْهِمَا حَقِيقَةٌ، لِأَنَّ يُوشَعَ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُوكَلُ بِحِفْظِ الْحُوتِ فَكَانَ عَلَيْهِ مُرَاقَبَتُهُ إِلَّا أَنَّ مُوسَى هُوَ الْقَاصِدُ لِهَذَا الْعَمَلِ فَكَانَ يَهُمُّهُ تَعَهُّدُهُ وَمُرَاقَبَتُهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْعَمَلِ أَوِ الْحَاجَةِ إِذَا وَكَلَهُ إِلَى غَيْرِهِ لَا يَنْبَغِي لَهُ تَرْكُ تَعَهُّدِهِ. ثُمَّ إِنَّ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- نَامَ وَبَقِيَ فَتَاهُ يَقْظَانَ فَاضْطَرَبَ الْحُوتُ وَجَعَلَ
لِنَفْسِهِ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ.
وَالسَّرَبُ: النَّفَقُ. وَالِاتِّخَاذُ: الْجَعْلُ. وَقَدِ انْتَصَبَ سَرَباً عَلَى الْحَالِ مِنْ سَبِيلَهُ مُرَادًا بِالْحَالِ التَّشْبِيهُ، كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
إِذَا قَامَتَا تَضَوَّعَ الْمِسْكُ مِنْهُمَا | نَسِيمَ الصِّبَا جَاءَتْ بِرِيَّا الْقَرَنْفُلِ |
وَحَذْفُ مَفْعُولِ جاوَزا لِلْعِلْمِ، أَيْ جَاوَزَا مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ.
وَالْغَدَاءُ: طَعَامُ النَّهَارِ مُشْتَقٌّ مِنْ كَلِمَةِ الْغُدْوَةِ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ فِي وَقْتِ الْغُدْوَةِ، وَضِدُّهُ الْعَشَاءُ، وَهُوَ طَعَامُ الْعَشِيِّ. وَالنَّصَبُ: التَّعَبُ.
عَلَى أَهْلِ أَقْصَى الْمَدِينَةِ. وَأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ الْخَيْرُ فِي الْأَطْرَافِ مَا لَا يُوجَدُ فِي الْوَسَطِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ يَسْبِقُ إِلَيْهِ الضُّعَفَاءُ لِأَنَّهُمْ لَا يَصُدُّهُمْ عَنِ الْحَقِّ مَا فِيهِ أَهَّلُ السِّيَادَة من ترف وَعَظَمَةٍ إِذِ الْمُعْتَادُ أَنَّهُمْ يَسْكُنُونَ وَسَطَ الْمَدِينَةِ، قَالَ أَبُو تَمَّامٍ:
كَانَتْ هِيَ الْوَسَطَ الْمَحْمِيَّ فَاتَّصَلَتْ | بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفَا |
وَعَلَى هَذَا فَهَذَا الرَّجُلُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي سِفْرِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ وَهُوَ مِمَّا امْتَازَ الْقُرْآنُ بِالْإِعْلَامِ بِهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وُجِدَ أَنَّ اسْمَهُ حَبِيبُ بْنُ مُرَّةَ قِيلَ: كَانَ نَجَّارًا وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَمَّا أَشْرَفَ الرُّسُلُ عَلَى الْمَدِينَةِ رَآهُمْ وَرَأَى مُعْجِزَةً لَهُمْ أَوْ كَرَامَةً فَآمَنَ. وَقِيلَ:
كَانَ مُؤْمِنًا مِنْ قَبْلُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي وَصَفَهُ الْمُفَسِّرُونَ بِالنَّجَّارِ أَنَّهُ هُوَ (سَمْعَانُ) الَّذِي يُدْعَى (بِالنَّيْجَرِ) الْمَذْكُورُ فِي الْإِصْحَاحِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ وَأَنَّ وَصْفَ النَّجَّارِ مُحَرَّفٌ عَنْ (نَيْجَر) فَقَدْ جَاءَ فِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي جَرَتْ فِي كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ اسْمُ شَمْعُونَ الصَّفَا أَوْ سَمْعَانَ. وَلَيْسَ هَذَا الِاسْمُ مَوْجُودًا فِي كِتَابِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ.
وَوَصْفُ الرَّجُلِ بِالسَّعْيِ يُفِيدُ أَنَّهُ جَاءَ مُسْرِعًا وَأَنَّهُ بَلَغَهُ هَمُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِرَجْمِ الرُّسُلِ أَوْ تَعْذِيبِهِمْ، فَأَرَادَ أَنْ يَنْصَحَهُمْ خَشْيَةً عَلَيْهِمْ وَعَلَى الرُّسُلِ، وَهَذَا ثَنَاءٌ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ يُفِيدُ أَنَّهُ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي الْإِسْرَاع إِلَى تَغْيِير الْمُنْكَرِ.
وَجُمْلَةُ قالَ يَا قَوْمِ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ «جَاءَ رَجُلٌ» لِأَنَّ مَجِيئَهُ لَمَّا كَانَ لِهَذَا الْغَرَضِ كَانَ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ الْمَذْكُورُ.
وَافْتِتَاحُ خِطَابِهِ إِيَّاهُمْ بِنِدَائِهِمْ بِوَصْفِ الْقَوْمِيَّةِ لَهُ قَصْدٌ مِنْهُ أَنَّ فِي كَلَامِهِ الْإِيمَاءَ إِلَى أَنَّ
مَا سَيُخَاطِبُهُمْ بِهِ هُوَ مَحْضُ نَصِيحَةٍ لِأَنَّهُ يُحِبُّ لِقَوْمِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.
وَالِاتِّبَاعُ: الِامْتِثَالُ، اسْتُعِيرَ لَهُ الِاتِّبَاعُ تَشْبِيهًا لِلْأَخْذِ بِرَأْيِ غَيْرِهِ بِالْمُتَّبِعِ لَهُ فِي سَيْرِهِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُرْسَلِينَ لِلْعَهْدِ.
مُسْتَعْمَلًا فِي تَفَاوُتِ الْمَوْصُوفِ بِهِ فِي الْفَضْلِ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّةِ الْوَصْفِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يُوسُف: ٣٣]. أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ نَقْدٍ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالْحِكْمَةِ وَالْأَوْهَامِ نُظَّارٌ فِي الْأَدِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ نُقَّادٌ لِلْأَدِلَّةِ السُّفُسْطَائِيَّةِ. وَفِي الْمَوْصُولِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اتِّبَاعَ أَحْسَنِ الْقَوْلِ سَبَبٌ فِي حُصُولِ هِدَايَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ.
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ مُسْتَأْنِفَةٌ لِاسْتِرْعَاءِ الذِّهْنِ لِتَلَقِّي هَذَا الْخَبَرَ. وَأُكِّدَ هَذَا الِاسْتِرْعَاءُ بِجَعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ اسْمَ إِشَارَةٍ لِيَتَمَيَّزَ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ. أَكْمَلَ تَمَيُّزَهُ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا أَحْرِيَاءَ بِهَذِهِ الْعِنَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ لِأَجْلِ مَا اتَّصَفُوا بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَهِيَ صِفَاتُ اجْتِنَابِهِمْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ مَعَ الْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ وَاسْتِمَاعِهِمْ كَلَامِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُ نَابِذِينَ مَا يُلْقِي بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَقْوَالِ التَّضْلِيلِ.
وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ عَقِبَ ذِكْرِ أَوْصَافٍ أَوْ أَخْبَارٍ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ فِي الِاهْتِمَامِ بِالْحُكْمِ وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ فَتَارَةً يُشَارُ إِلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ كَمَا هُنَا وَتَارَةً يُشَارُ إِلَى الْخَبَرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ فِي سُورَةِ [ص: ٥٥].
وَقَدْ أَفَادَ تَعْرِيفُ الْجُزْأَيْنِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ قَصْرَ الْهِدَايَةِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ قَصْرُ صِفَةٍ عَلَى مَوْصُوفٍ وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ قَصْرَ تَعْيِينٍ، أَيْ دُونِ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ.
وَمَعْنَى هَداهُمُ اللَّهُ أَنَّهُمْ نَالُوا هَذِهِ الْفَضِيلَةَ بِأَنْ خَلَقَ اللَّهُ نُفُوسَهُمْ قَابِلَةً لِلْهُدَى الَّذِي يُخَاطِبُهُمْ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَهَيَّأَتْ نُفُوسُهُمْ لِذَلِكَ وَأَقْبَلُوا عَلَى سَمَاعِ الْهُدَى بِشَرَاشِرِهِمْ وَسَعَوْا إِلَى مَا يُبَلِّغُهُمْ إِلَى رِضَاهُ وَطَلَبُوا النَّجَاةَ مِنْ غَضَبِهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَدْيِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ أَنَّهُ وَجَّهَ
إِلَيْهِمْ أَوَامِرَ إِرْشَادِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلُ لِلَّذِينَ خُوطِبُوا بِالْقُرْآنِ فَأَعْرَضُوا عَنْهُ وَلَمْ يَتَطَلَّبُوا الْبَحْثَ عَمَّا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى فَأَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ.
[٢٧- ٢٩]
[سُورَة الجاثية (٤٥) : الْآيَات ٢٧ الى ٢٩]وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
اعْتِرَاضُ تَذْيِيلٍ لِقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ [الجاثية: ٢٦] أَيْ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ فَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي أَحْوَالِ مَا حَوَتْهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ مِنْ إِحْيَاءٍ وَإِمَاتَةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ بِمَا أَوْجَدَ مِنْ أُصُولِهَا وَمَا قَدَّرَ مِنْ أَسْبَابِهَا وَوَسَائِلِهَا فَلَيْسَ لِلدَّهْرِ تَصَرُّفٌ وَلَا لِمَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِإِفَادَةِ التَّخْصِيصِ لِرَدِّ مُعْتَقَدِهِمْ مِنْ خُرُوجِ تَصَرُّفِ غَيْرِهِ فِي بَعْضِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كَقَوْلِهِمْ فِي الدَّهْرِ.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩).
لَمَّا جَرَى ذِكْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أُعْقِبَ بِإِنْذَارِ الَّذِينَ أَنْكَرُوهُ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهِمْ فِيهِ.
والْمُبْطِلُونَ: الْآتُونَ بِالْبَاطِلِ فِي مُعْتَقَدَاتِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ إِذِ الْبَاطِلُ مَا ضَادَّ الْحَقَّ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ ابْتِدَاءً هُنَا هُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ الْبَاطِلِ ثُمَّ تَجِيءُ دَرَجَاتُ الْبَاطِلِ مُتَنَازِلَةً وَمَا مِنْ دَرَجَةٍ مِنْهَا إِلَّا وَهِيَ خَسَارَةٌ عَلَى فَاعِلِهَا بِقَدْرِ فَعْلَتِهِ وَقَدْ أَنْذَرَ اللَّهُ النَّاسَ وَهُوَ الْعَلِيمُ بِمَقَادِيرِ تِلْكَ الْخَسَارَةِ.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ يَخْسَرُ، وَقُدِّمَ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَاسْتِرْعَاءِ الْأَسْمَاعِ لِمَا يَرِدُ مِنْ وَصْفِ أَحْوَالِهِ.
ويَوْمَئِذٍ تَوْكِيدٌ لِ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ وَتَنْوِينُهُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفِ لِدَلَالَةِ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ يَوْمَ عَلَيْهِ، أَيْ يَوْمَ إِذْ تَقُومُ السَّاعَةُ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ فَالتَّأْكِيدُ بِتَحْقِيقِ
مَضْمُونِ الْخَبَرِ وَلِتَهْوِيلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
الذَّوَاتُ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا تَصِيرُ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجَازِيهَا عَلَى أَعْمَالِهَا.
وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ فَمَفَادُهُ مَفَادُ اسْمِهِ (الْمُهَيْمِنُ).
وَتَعْرِيفُ الْجَمْعِ فِي الْأُمُورُ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ لَا لِلْقَصْرِ إِذْ لَا مُقْتَضَى لِلْقَصْرِ الْحَقِيقِيِّ وَلَا دَاعِيَ لِلْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ إِذْ لَا يُوجَدُ مِنَ الْكُفَّارِ مَنْ يُثْبِتُ الْبَعْثَ وَلَا مَنْ زَعَمُوا أَنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ فِي تَصَرُّفِ غَيْرِ اللَّهِ.
وَالرُّجُوعُ: مُسْتَعَارٌ لِلْكَوْنِ فِي مَكَانٍ غَيْرِ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ دُونَ سَبْقِ مُغَادَرَةٍ عَنْ هَذَا الْمَكَانِ.
وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ الْأُمُورُ، لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ فَتَكُونُ كَالْمَثَلِ صَالِحَةً لِلتَّسْيِيرِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ تُرْجَعُ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ عَلَى مَعْنَى يُرْجِعُهَا مُرْجِعٌ وَهُوَ اللَّهُ قَسْرًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ وَخَلَفٍ تُرْجَعُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، أَيْ تَرْجِعُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهَا لِأَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ لِذَلِكَ فِي آجالها.
[٦]
[سُورَة الْحَدِيد (٥٧) : آيَة ٦]
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ.
مُنَاسَبَةُ ذِكْرِهِ هَذِهِ الْجُمْلَةَ أَنَّ تَقْدِيرَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَتَعَاقُبَهُمَا مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُشَاهَدَةِ فِي أَحْوَالِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمُلَابَسَاتِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْحَدِيد: ٥] وَهُوَ أَيْضًا مُنَاسِبٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [الْحَدِيد: ٥] تَذْكِيرٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ الْمُتَصَرِّفَ فِي سَبَبِ الْفَنَاءِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ هُمَا اللَّذَانِ يُفْنِيَانِ النَّاسَ، قَالَ الْأَعْشَى:
أَلَمْ تَرَوْا إِرَمًا وَعَادًا | أَفْنَاهُمَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ |