الْمُتَكَيَّفَ فِي إِنْكَارِ الْأَمْثَالِ إِضْلَالٌ مَعَ غَبَاوَةٍ فَلَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنَ الْيَهُودِ وَقَدْ عُرِفُوا بِهَذَا الْوَصْفِ.
وَالْقَوْلُ فِي مَذَاهِبِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي الْفِسْقِ وَتَأْثِيرِهِ فِي الْإِيمَانِ لَيْسَ هَذَا مَقَامُ بَيَانِهِ إِذْ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ.
فَإِنْ كَانَ مَحْمَلُ الْفَاسِقِينَ عَلَى مَا يَشْمَلُ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودَ الَّذِينَ طَعَنُوا فِي ضَرْبِ الْمَثَلِ كَانَ الْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَخْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ لِيَحْصُلَ تَمْيِيزُ الْمُرَادِ مِنَ الْمُضَلَّلِ وَالْمُهْتَدِي، وَإِنْ كَانَ مَحْمَلُ الْفَاسِقِينَ عَلَى الْيَهُودِ كَانَ الْقَصْرُ حَقِيقِيًّا ادِّعَائِيًّا أَيْ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَهُمُ الطَّاعِنُونَ فِيهِ وَأَشَدُّهُمْ ضَلَالًا هُمُ الْفَاسِقُونَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَبْعَدُ عَنِ الِاهْتِدَاءِ بِالْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ فِي شِرْكِهِمْ، وَأَمَّا الْيَهُودُ فَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَشَأْنُهُمْ أَنْ يَعْلَمُوا أَفَانِينَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَضَرْبَ الْأَمْثَالِ فَإِنْكَارُهُمْ إِيَّاهَا غَايَةُ الضَّلَالِ فَكَأَنَّهُ لَا ضَلَالَ سِوَاهُ.
وَجُمْلَةُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ إِلَى آخِره صفة للفاسقين لِتَقْرِيرِ اتِّصَافِهِمْ بِالْفِسْقِ لِأَنَّ هَاتِهِ الْخِلَالَ مِنْ أَكْبَرِ أَنْوَاعِ الْفُسُوقِ بِمَعْنَى الْخُرُوجِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ مَقْطُوعَةً مُسْتَأْنَفَةً عَلَى أَنَّ (الَّذِينَ) مُبْتَدَأٌ وَقَوْلَهُ: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ خَبَرٌ وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ لَا
تَخْرُجُ عَنْ مَعْنَى تَوْصِيفِ الْفَاسِقِينَ بِتِلْكَ الْخِلَالِ إِذِ الِاسْتِئْنَافُ لَمَّا وَرَدَ إِثْرَ حِكَايَةِ حَالٍ عَنِ الْفَاسِقِينَ تَعَيَّنَ فِي حُكْمِ الْبَلَاغَةِ أَنْ تَكُونَ هَاتِهِ الصِّلَةُ مِنْ صِفَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ لِلُزُومِ الِاتِّحَادِ فِي الْجَامِعِ الْخَيَالِيِّ وَإِلَّا لَصَارَ الْكَلَامُ مُقَطَّعًا مَنْتُوفًا فَلَيْسَ بَيْنَ الِاعْتِبَارَيْنِ إِلَّا اخْتِلَافُ الْإِعْرَابِ وَأَمَّا الْمَعْنَى فَوَاحِدٌ فَلِذَلِكَ كَانَ إِعْرَابُهُ صِفَةً أَرْجَحَ أَوْ مُتَعَيِّنًا إِذْ لَا دَاعِيَ إِلَى اعْتِبَارِ الْقَطْعِ.
وَمَجِيءُ الْمَوْصُولِ هُنَا لِلتَّعْرِيفِ بِالْمُرَادِ مِنَ الْفَاسِقِينَ أَيِ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ عُرِفُوا بِهَذِهِ الْخِلَالِ الثَّلَاثِ فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْفَاسِقِينَ الْيَهُودُ وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْوَصْفُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ وَهُمْ قَدْ عُرِفُوا بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ صِلَةُ الْمَوْصُولِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ هُنَا بَلْ هُمْ قَدْ شَهِدَتْ عَلَيْهِمْ كُتُبُ أَنْبِيَائِهِمْ بِأَنَّهُمْ نَقَضُوا عَهْدَ اللَّهِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَهُمْ قَدِ اعْتَرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ فَنَاسَبَ أَنْ يُجْعَلَ النَّقْضُ صِلَةً لِاشْتِهَارِهِمْ بِهَا، وَوَجْهُ تَخْصِيصِهِمْ بِذَلِكَ أَنَّ الطَّعْنَ فِي هَذَا الْمَثَلِ جَرَّهُمْ إِلَى زِيَادَةِ الطَّعْنِ فِي الْإِسْلَامِ فَازْدَادُوا بِذَلِكَ ضَلَالًا عَلَى ضَلَالِهِمُ السَّابِقِ فِي تَغْيِيرِ دِينِهِمْ وَفِي كُفْرِهِمْ بِعِيسَى، فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَضَلَالُهُمْ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ، عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَأَكْثَرُ الرَّدِّ فِي الْآيَاتِ الْمَدَنِيَّةِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ.
الْجِمَاعَ لَمْ يَجِئْ إِلَّا فِيهِ دُونَ قَرُبَ بِالضَّمِّ الْقَاصِرِ يُقَالُ قَرُبَ مِنْهُ بِمَعْنَى دَنَا وَقَرِبَهُ كَذَلِكَ وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْمُجَامَعَةِ، لِأَنَّ فِيهَا قُرْبًا وَلَكِنَّهُمْ غَلَّبُوا قَرِبَ الْمَكْسُورَ الْعَيْنِ فِيهَا دُونَ قَرُبَ الْمَضْمُومِ تَفْرِقَةً فِي الِاسْتِعْمَالِ، كَمَا قَالُوا بَعُدَ إِذَا تَجَافَى مَكَانُهُ وَبَعِدَ كَمَعْنَى الْبُعْدِ الْمَعْنَوِيّ وَلذَلِك يَدْعُو بِلَا يَبْعَدْ.
وَقَوْلُهُ: حَتَّى يَطْهُرْنَ غَايَةٌ لِاعْتَزِلُوا وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ، وَالطُّهْرُ بِضَمِّ الطَّاءِ مَصْدَرٌ مَعْنَاهُ النَّقَاءُ مِنَ الْوَسَخِ وَالْقَذَرِ وَفِعْلُهُ طَهُرَ بِضَمِّ الْهَاءِ، وَحَقِيقَةُ الطُّهْرِ نَقَاءُ الذَّاتِ، وَأُطْلِقَ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ عَلَى النَّقَاءِ الْمَعْنَوِيِّ وَهُوَ طُهْرُ الْحَدَثِ الَّذِي يُقَدَّرُ حُصُولُهُ لِلْمُسْلِمِ بِسَبَبٍ، وَيُقَالُ تَطَهَّرَ إِذَا اكْتَسَبَ الطَّهَارَةَ بِفِعْلِهِ حَقِيقَةً نَحْوَ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التَّوْبَة: ١٠٨] أَوْ مَجَازًا نَحْوَ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ [الْأَعْرَاف: ٨٢]، وَيُقَالُ اطَّهَّرَ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْهَاءِ وَهِيَ صِيغَةٌ تَطَهَّرَ وَقَعَ فِيهَا إِدْغَامُ التَّاءِ فِي الطَّاءِ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [الْمَائِدَة: ٦] وَصِيغَةُ التَّفَعُّلِ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ لِمُجَرَّدِ الْمُبَالَغَةِ فِي حُصُولِ مَعْنَى الْفِعْلِ وَلِذَلِكَ كَانَ إِطْلَاقُ بَعْضِهَا فِي مَوْضِعِ بَعْضٍ اسْتِعْمَالًا فَصِيحًا.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ حَتَّى يَطْهُرْنَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٍ يَطْهُرْنَ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَالْهَاءِ مَفْتُوحَتَيْنِ.
وَلَمَّا ذُكِرَ أَنَّ الْمَحِيضَ أَذًى عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ الطُّهْرَ هُنَا هُوَ النَّقَاءُ مِنْ ذَلِكَ الْأَذَى فَإِنَّ وَصْفَ حَائِضٍ يُقَابَلُ بِطَاهِرٍ وَقَدْ سُمِّيَتِ الْأَقْرَاءُ أَطْهَارًا، وَقَدْ يُرَادُ بِالتَّطَهُّرِ الْغُسْلُ بِالْمَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التَّوْبَة: ١٠٨] فَإِنَّ تَفْسِيرَهُ الِاسْتِنْجَاءُ فِي الْخَلَاءِ بِالْمَاءِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ أَفَادَ مَنْعَ الْقِرْبَانِ إِلَى حُصُولِ النَّقَاءِ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ بِالْجُفُوفِ وَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى فَإِذا تَطَهَّرْنَ بَعْدَ ذَلِكَ شَرْطًا ثَانِيًا دَالًّا عَلَى لُزُومِ تَطَهُّرٍ آخَرَ وَهُوَ غَسْلُ ذَلِكَ الْأَذَى بِالْمَاءِ، لِأَنَّ صِيغَةَ تَطَهَّرَ تَدُلُّ عَلَى طَهَارَةٍ مُعْمَلَةٍ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَانَ قَوْلُهُ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ تَصْرِيحًا بِمَفْهُومِ الْغَايَةِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَأْتُوهُنَّ، وَعَلَى الِاحْتِمَال الثَّانِي جَاءَ قِرَاءَةُ حَتَّى يَطْهُرْنَ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَالْهَاءِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ الطُّهْرَ الْمُكْتَسَبَ وَهُوَ الطُّهْرُ بِالْغُسْلِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْهُ مَعَ مَعْنَاهُ لَازِمُهُ أَيْضًا وَهُوَ النَّقَاءُ مِنَ الدَّمِ لِيَقَعَ الْغَسْلُ مَوْقِعَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَبِذَلِكَ كَانَ مَآلُ الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدًا، وَقَدْ رَجَّحَ الْمُبَرِّدُ قِرَاءَةَ حَتَّى يَطَّهَّرْنَ بِالتَّشْدِيدِ قَالَ لِأَنَّ الْوَجْهَ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ يُرَادُ بِهِمَا جَمِيعًا الْغَسْلُ وَهَذَا عَجِيبٌ صُدُورُهُ مِنْهُ فَإِنَّ اخْتِلَافَ الْمَعْنَيَيْنِ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ تَضَادٌّ أَوَّلِيٌّ لِتَكَوُنَ الْكَلِمَةُ الثَّانِيَةُ مُفِيدَةً شَيْئًا جَدِيدًا.
وَوَجْهُ بِنَاءِ فِعْلِ عُلِّمْتُمْ لِلْمَجْهُولِ ظُهُورُ الْفَاعِلِ، وَلِأَنَّهُ سَيَقُولُ قُلِ اللَّهُ.
فَإِذَا تَأَوَّلْنَا الْآيَةَ بِمَا رُوِيَ مِنْ قِصَّةِ مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَالِاسْتِفْهَامُ بِقَوْلِهِ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ تَقْرِيرِيٌّ، إِمَّا لِإِبْطَالِ ظَاهِرِ كَلَامِهِمْ مَنْ جَحَدَ تَنْزِيلَ كِتَابٍ عَلَى بَشَرٍ، عَلَى طَرِيقَةِ إِفْحَامِ الْمُنَاظِرِ بِإِبْدَاءِ مَا فِي كَلَامِهِ مِنْ لَوَازِمِ الْفَسَادِ، مِثْلُ فَسَادِ اطِّرَادِ التَّعْرِيفِ أَوِ انْعِكَاسِهِ، وَإِمَّا لِإِبْطَالِ مَقْصُودِهِمْ مِنْ إِنْكَارِ رِسَالَة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقَةِ الْإِلْزَامِ لِأَنَّهُمْ أَظْهَرُوا أَنَّ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كَالشَّيْءِ الْمُحَالِ فَقِيلَ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى وَلَا يَسَعُهُمْ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: اللَّهُ، فَإِذَا اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ فَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَى مُوسَى كِتَابًا لِمَ لَا يُنَزِّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ مِثْلَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النِّسَاء: ٥٤] الْآيَةَ.
ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ قِرَاءَةُ: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ بِالْفَوْقِيَّةِ جَارِيَةً عَلَى الظَّاهِر، وقراءته بالتّحتيّة مِنْ قَبِيلِ الِالْتِفَاتِ. وَنُكْتَتُهُ أَنَّهُمْ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِهَذَا الْفِعْلِ الشَّنِيعِ جُعِلُوا كَالْغَائِبِينَ عَنْ مَقَامِ الْخِطَابِ.
وَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: وَعُلِّمْتُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُمُ الْيَهُودُ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ تَجْعَلُونَهُ، أَيْ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُخْفُونَ بَعْضَهَا فِي حَالِ أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَكُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الْمُعْتَرِضِ بِهِ.
وَيَجِيءُ عَلَى قِرَاءَةِ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ- بِالتَّحْتِيَّةِ- أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ إِلَى الْخِطَابِ بَعْدَ الْغَيْبَةِ الْتِفَاتًا أَيْضًا. وَحُسْنُهُ أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِشَيْءٍ حَسَنٍ عَادَ إِلَى مَقَامِ الْخِطَابِ، أَوْ لِأَنَّ مَقَامَ الْخِطَابِ أَنْسَبُ بِالِامْتِنَانِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ نَظْمَ الْآيَةِ صَالِحٌ لِلرَّدِّ عَلَى كِلَا الْفَرِيقَيْنِ مُرَاعَاةً لِمُقْتَضَى الرِّوَايَتَيْنِ. فَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى فَوَاوُ الْجَمَاعَةِ فِي «قَدَرُوا- وَقَالُوا» عَائِدَةٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ إِشَارَةُ هَؤُلَاءِ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فَالْوَاوُ وَاوُ الْجَمَاعَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ عَلَى طَرِيقَةِ
وَالصَّخْرَةُ: صَخْرَةٌ مَعْهُودَةٌ لَهُمَا، إِذْ كَانَا قَدْ أَوَيَا إِلَيْهَا فِي سَيْرِهِمَا فَجَلَسَا عَلَيْهَا، وَكَانَتْ فِي مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ. قِيلَ: إِنَّ مَوْضِعَهَا دُونَ نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ: نَهْرُ الزَّيْتِ، لِكَثْرَةِ مَا عِنْدَهُ مِنْ شَجَرِ الزَّيْتُونِ.
وَقَوْلُهُ: نَسِيتُ الْحُوتَ أَيْ نَسِيتُ حِفْظَهُ وافتقاده، أَي فانفلت فِي الْبَحْرِ.
وَقَوْلُهُ: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ. هَذَا نِسْيَانٌ آخَرُ غَيْرُ النِّسْيَانِ الْأَوَّلِ، فَهَذَا نِسْيَانُ ذِكْرِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ.
وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَما أَنْسانِيهُ- بِضَمِّ هَاءِ- الضَّمِيرِ عَلَى أَصْلِ الضَّمِيرِ وَهِيَ لُغَةٌ. وَالْكَسْرُ أَشْهَرُ لِأَنَّ حَرَكَةَ الْكَسْرَةِ بَعْدَ الْيَاءِ أَخَفُّ.
وأَنْ أَذْكُرَهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ ضَمِيرِ أَنْسانِيهُ لَا مِنَ الْحُوتِ، وَالْمَعْنَى: مَا أَنْسَانِي أَنْ أَذْكُرَهُ لَكَ إِلَّا الشَّيْطَانُ. فَالذِّكْرُ هُنَا ذِكْرُ اللِّسَانِ.
وَوَجْهُ حَصْرِهِ إِسْنَادَ هَذَا الْإِنْسَاءِ إِلَى الشَّيْطَانِ أَنَّ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ نِسْيَانِ أَنْ يُخْبِرَ مُوسَى بِتِلْكَ الْحَادِثَةِ نِسْيَانٌ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ فِي زَمَنٍ قَرِيبٍ مَعَ شِدَّةِ الِاهْتِمَامِ بِالْأَمْرِ الْمَنْسِيِّ وَشِدَّةِ عنايته بِإِخْبَار نبيئه بِهِ. وَمَعَ كَوْنِ الْمَنْسِيِّ أُعْجُوبَةً شَأْنُهَا أَنْ لَا تُنْسَى يَتَعَيَّنُ أَن الشَّيْطَان ألهاه بأَشْيَاء عَن أَن يتَذَكَّر ذَلِك الْحَادِث العجيب وَعلم يُوشَع أَنَّ الشَّيْطَانَ يَسُوءُهُ الْتِقَاءُ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ الصَّالِحَيْنِ، وَمَا لَهُ مِنَ الْأَثَرِ فِي بَثِّ الْعُلُومِ الصَّالِحَةِ فَهُوَ يَصْرِفُ عَنْهَا وَلَوْ بِتَأْخِيرِ وُقُوعِهَا طَمَعًا فِي حُدُوثِ الْعَوَائِقِ.
وَجُمْلَةُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَهِيَ بَقِيَّةُ
كَلَامِ فَتَى مُوسَى، أَيْ وَأَنَّهُ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ، أَيْ سَبَحَ فِي الْبَحْرِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَيِّتًا زَمَنًا طَوِيلًا.
وَقَوْلُهُ: عَجَباً جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَهِيَ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِ الْفَتَى، أَيْ أَعْجَبُ لَهُ عَجَبًا، فَانْتَصَبَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْآتِي بَدَلًا من فعله.
وَجُمْلَةُ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ مَعَ زِيَادَةِ الْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ اتِّبَاعِهِمْ بِلَوَائِحِ عَلَامَاتِ الصِّدْقِ وَالنُّصْحِ عَلَى رِسَالَتِهِمْ إِذْ هُمْ يَدْعُونَ إِلَى هُدًى وَلَا نَفْعَ يَنْجَرُّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ فَتَمَحَّضَتْ دَعْوَتُهُمْ لِقَصْدِ هِدَايَةِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ حِكْمَةٌ جَامِعَةٌ، أَيِ اتَّبِعُوا مَنْ لَا تَخْسَرُونَ مَعَهُمْ شَيْئًا مِنْ دُنْيَاكُمْ وَتَرْبَحُونَ صِحَّةَ دِينِكُمْ.
وَإِنَّمَا قُدِّمَ فِي الصِّلَةِ عَدَمُ سُؤَالِ الْأَجْرِ عَلَى الِاهْتِدَاءِ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا فِي شَكٍّ مِنْ صِدْقِ الْمُرْسَلِينَ وَكَانَ مِنْ دَوَاعِي تَكْذِيبِهِمُ اتِّهَامُهُمْ بِأَنَّهُمْ يَجُرُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا غَلَبَ عَلَيْهِمُ التَّعَلُّقُ بِحُبِّ الْمَالِ وَصَارُوا بُعَدَاءَ عَنْ إِدْرَاكِ الْمَقَاصِدِ السَّامِيَةِ كَانُوا يَعُدُّونَ كُلَّ سَعْيٍ يَلُوحُ عَلَى امْرِئٍ إِنَّمَا يَسْعَى بِهِ إِلَى نَفْعِهِ. فَقَدَّمَ مَا يُزِيلُ عَنْهُمْ هَذِه الاسترابة وليتهيّؤوا إِلَى التَّأَمُّلِ فِيمَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ التَّخْلِيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُرْسَلِينَ وَالْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، وَالتَّخْلِيَةُ تُقَدَّمُ عَلَى التَّحْلِيَةِ، فَكَانَتْ جملَة لَا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً أَهَمَّ فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ.
وَالْأَجْرُ يَصْدُقُ بِكُلِّ نَفْعٍ دُنْيَوِيٍّ يَحْصُلُ لِأَحَدٍ مِنْ عَمَلِهِ فَيَشْمَلُ الْمَالَ وَالْجَاهَ وَالرِّئَاسَةَ. فَلَمَّا نُفِيَ عَنْهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا أَجْرًا فَقَدْ نُفِيَ عَنْهُمْ أَنْ يَكُونُوا يَرْمُونَ مِنْ دَعْوَتِهِمْ إِلَى نَفْعٍ دُنْيَوِيٍّ يَحْصُلُ لَهُمْ.
وَبَعْدَ ذَلِكَ تَهَيَّأُ الْمَوْقِعُ لِجُمْلَةِ وَهُمْ مُهْتَدُونَ، أَيْ وَهُمْ مُتَّصِفُونَ بِالِاهْتِدَاءِ إِلَى مَا يَأْتِي بِالسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَهُمْ إِنَّمَا يَدْعُونَكُمْ إِلَى أَنْ تَسِيرُوا سِيرَتَهُمْ فَإِذَا كَانُوا هُمْ مُهْتَدِينَ فَإِنَّ مَا يَدْعُونَكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ دَعْوَةً إِلَى الْهُدَى، فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِمَوْقِعِهَا بَعْدَ الَّتِي قَبْلَهَا ثَنَاءً عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَعَلَى مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ وَتَرْغِيبًا فِي مُتَابَعَتِهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ مَثَّلَ بِهَا الْقَزْوِينِيُّ فِي «الْإِيضَاح» و «التَّلْخِيص» لِلْإِطْنَابِ الْمُسَمَّى بِالْإِيغَالِ وَهُوَ أَن يوتى بَعْدَ تَمَامِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِكَلَامٍ آخَرَ يَتِمُّ الْمَعْنَى بِدُونِهِ لِنُكْتَةٍ، وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكَ مِمَّا فَسَّرْنَا بِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُمْ مُهْتَدُونَ لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ زِيَادَةٍ بَلْ كَانَ لِتَوَقُّفِ الْمَوْعِظَةِ عَلَيْهَا، وَكَانَ قَوْلُهُ: مَنْ لَا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً كَالتَّوْطِئَةِ لَهُ. وَنَعْتَذِرُ لِصَاحِبِ «التَّلْخِيصِ» بِأَنَّ الْمِثَالَ يَكْفِي فِيهِ الْفَرْضُ وَالتَّقْدِيرُ.
وَأَشَارَتْ جُمْلَةُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ إِلَى معنى تهيئهم لِلِاهْتِدَاءِ بِمَا فَطَرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ عُقُولٍ كَامِلَةٍ، وَأَصْلُ الْخِلْقَةِ مَيَّالَةٌ لِفَهْمِ الْحَقَائِقِ غَيْرُ مُكْتَرِثَةٍ بِالْمَأْلُوفِ وَلَا مُرَاعَاةِ الْبَاطِلِ، عَلَى تَفَاوُتِ تِلْكَ الْعُقُولِ فِي مَدَى سُرْعَةِ الْبُلُوغِ لِلِاهْتِدَاءِ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ عِنْدَ أول دُعَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ خَدِيجَةَ وَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بُعَيْدَ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَهُ، فَأُشِيرُ إِلَى رُسُوخِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي عُقُولِهِمْ بِذِكْرِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ مَعَ كَلِمَةِ أُولُوا الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهَا مُمْسِكٌ بِمَا أضيفت إِلَيْهِ كملة أُولُوا، وَبِمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَعْرِيفُ الْأَلْبابِ مِنْ مَعْنَى الْكَمَالِ، فَلَيْسَ التَّعْرِيفُ فِيهِ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ لِأَنَّ جِنْسَ الْأَلْبَابِ ثَابَتٌ لِجَمِيعِ الْعُقَلَاءِ. وَأَشَارَ إِعَادَةُ اسْمِ الْإِشَارَةِ إِلَى تَمَيُّزِهِمْ بِهَذِهِ الْخَصْلَةِ مِنْ بَيْنِ نُظَرَائِهِمْ وَأَهْلِ عَصْرِهِمْ.
وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْهِدَايَةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ وَقَابِلٍ، فَأُشِيرَ إِلَى الْفَاعِلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هَداهُمُ اللَّهُ، وَإِلَى الْقَابِل بِقَوْلِهِ: هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ. وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْقَصْرِ مَا فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ.
وَقَدْ دَلَّ ثَنَاءُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْكُمَّلِ بِأَنَّهُمْ أَحْرَزُوا صِفَةَ اتِّبَاعِ أَحْسَنِ الْقَوْلِ الَّذِي يَسْمَعُونَهُ، عَلَى شَرَفِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَلِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ وَلِغَلْقِ الْمَجَالِ فِي وَجْهِ الشُّبْهَةِ وَنَفْيِ تَلَبُّسِ السَّفْسَطَةِ. وَهَذَا مِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَعْيَانِ وَهُوَ مَا يُكْتَسَبُ بِهِ الِاعْتِقَادُ الصَّحِيحُ عَلَى قَدْرِ قَرِيحَةِ النَّاظِرِ، وَمِنْهُ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَهُوَ فَضِيلَةٌ وَكَمَالٌ فِي الْأَعْيَانِ وَهُوَ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَإِدْرَاكُ دَلَائِلِ ذَلِكَ وَالْفِقْهُ فِي ذَلِكَ وَالْفَهْمُ فِيهِ وَالتَّهَمُّمُ بِرِعَايَةِ مَقَاصِدِهِ فِي شَرَائِعِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَآدَابِ الْمُعَاشَرَةِ لِإِقَامَةِ نِظَامِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى أَصْدَقِ وَجْهٍ وَأَكْمَلِهِ، وَإِلْجَامُ الْخَائِضِينَ فِي ذَلِكَ بِعَمَايَةٍ وَغُرُورٍ، وَإِلْقَامُ الْمُتَنَطِّعِينَ وَالْمُلْحِدِينَ.
وَمِمَّا يَتْبَعُ ذَلِكَ انْتِفَاءُ أَحْسَنِ الْأَدِلَّةِ وَأَبْلَغِ الْأَقْوَالِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى هَذَا الْمَقْصُودِ بِدُونِ اخْتِلَالِ وَلَا اعْتِلَالِ بِتَهْذِيبِ الْعُلُومِ وَمُؤَلَّفَاتِهَا، فَقَدْ قِيلَ: خُذُوا مِنْ كُلِّ عِلْمٍ أَحْسَنَهُ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.
وَالْخِطَابُ فِي تَرى لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ الْخِطَابُ بِالْقُرْآنِ فَلَا يُقْصَدُ مُخَاطَبٌ مُعَيَّنٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خطابا للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُضَارِعُ فِي تَرى مُرَادٌ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ فَالْمَعْنَى:
وَتَرَى يَوْمَئِذٍ.
وَالْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ الْعَظِيمَةُ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ يَجْمَعُهُمْ دِينٌ جَاءَ بِهِ رَسُولٌ إِلَيْهِمْ.
وجاثِيَةً اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ مَصْدَرِ الْجُثُوِّ بِضَمَّتَيْنِ وَهُوَ الْبُرُوكُ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ بِاسْتِئْفَازٍ، أَيْ بِغَيْرِ مُبَاشَرَةِ المقعدة للْأَرْض، فالجائي هُوَ الْبَارِكُ الْمُسْتَوْفِزُ وَهُوَ هَيْئَةُ الْخُضُوعِ.
وَظَاهِرُ كَوْنِ كِتابِهَا مُفْرَدًا غَيْرَ مُعَرَّفٍ بِاللَّامِ أَنَّهُ كِتَابٌ وَاحِدٌ لِكُلِّ أُمَّةٍ فَيَقْتَضِي أَنْ يُرَادَ كِتَابُ الشَّرِيعَةِ مِثْلَ الْقُرْآنِ، وَالتَّوْرَاةِ، وَالْإِنْجِيلِ، وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ، فَمَعْنَى تُدْعى إِلى كِتابِهَا تُدْعَى لِتُعْرَضَ أَعْمَالُهَا عَلَى مَا أُمِرَتْ بِهِ فِي كِتَابِهَا كَمَا
فِي الْحَدِيثِ «الْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ»
وَقِيلَ: أُرِيدَ بِقَوْلِهِ: كِتابِهَا كِتَابَ تَسْجِيلِ الْأَعْمَالِ لِكُلِّ وَاحِدٍ، أَوْ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ وَتَكُونُ إِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْأُمَّةِ عَلَى إِرَادَةِ التَّوْزِيعِ عَلَى الْأَفْرَادِ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ صَحِيفَةُ عَمَلِهِ خَاصَّةٌ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الْإِسْرَاء: ١٤]، وَقَالَ: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [الْكَهْف: ٤٩] أَيْ كُلُّ مُجْرِمٍ مُشْفِقٌ مِمَّا فِي كِتَابِهِ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْأَخِيرَةَ وَقَعَ فِيهَا الْكِتَابُ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ فَقُبِلَ الْعُمُومُ. وَأَمَّا آيَةُ الْجَاثِيَةِ فَعُمُومُهَا بَدِّلِيٌّ بِالْقَرِينَةِ. فَالْمُرَادُ: خُصُوصُ الْأُمَمِ الَّتِي أُرْسِلَتْ إِلَيْهَا الرُّسُلُ وَلَهَا كُتُبٌ وَشَرَائِعُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الْإِسْرَاء: ١٥].
وَمَسْأَلَةُ مُؤَاخَذَةِ الْأُمَمِ الَّتِي لَمْ تَجِئْهَا الرُّسُلُ بِخُصُوصِ جَحْدِ الْإِلَهِ أَوِ الْإِشْرَاكِ بِهِ مُقَرَّرَةٌ فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [١٥].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا بِرَفْعِ كُلَّ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وتُدْعى
وَحَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ قَوْلَهُمْ: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: ٢٤] فَلَمَّا قَالَ: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [الْحَدِيد: ٥]، أَبْطَلَ بَعْدَهُ اعْتِقَادَ أَهْلِ الشِّرْكِ أَنَّ لِلزَّمَانِ الَّذِي هُوَ تَعَاقُبُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالدَّهْرِ تَصَرُّفًا فِيهِمْ، وَهَذَا مَعْنَى اسْمِهِ تَعَالَى: «الْمُدَبِّرُ».
وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
لَمَّا ذُكِرَ تَصَرُّفُ اللَّهِ فِي اللَّيْلِ وَكَانَ اللَّيْلُ وَقْتَ إِخْفَاءِ الْأَشْيَاءِ أَعْقَبَ ذِكْرَهُ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِأَخْفَى الْخَفَايَا وَهِيَ النَّوَايَا، فَإِنَّهَا مَعَ كَوْنِهَا مَعَانِيَ غَائِبَةً عَنِ الْحَوَاسِّ كَانَتْ مَكْنُونَةً فِي ظُلْمَةِ بَاطِنِ الْإِنْسَانِ فَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا عَالِمٌ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ [الْأَنْعَام: ٥٩]، وَقَوْلِهِ: أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ [هود: ٥].
بِذاتِ الصُّدُورِ: مَا فِي خَوَاطِرِ النَّاسِ مِنَ النَّوَايَا، فَ (ذَاتِ) هُنَا مُؤَنَّثُ (ذُو) بِمَعْنَى صَاحِبَةٍ.
وَالصُّحْبَةُ: هُنَا بِمَعْنَى الْمُلَازَمَةِ.
وَلَمَّا أُرِيدَ بِالْمُفْرَدِ الْجِنْسُ أُضِيفَ إِلَى «جَمْعٍ»، وَتَقَدَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٤٣]. وَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا الْمِقْدَارُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا عَلَى مَعَانِي سِتَّ عَشْرَةَ صِفَةً مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى: وَهِيَ: اللَّهُ، الْعَزِيزُ، الْحَكِيمُ، الْمَلِكُ، الْمُحْيِي، الْمُمِيتُ، الْقَدِيرُ، الْأَوَّلُ، الْآخِرُ، الظَّاهِرُ، الْبَاطِنُ، الْعَلِيمُ، الْخَالِقُ، الْبَصِيرُ، الْوَاحِدُ، الْمُدَبِّرُ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمِ هُوَ فِي سِتِّ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْحَدِيدِ فَهُوَ يَعْنِي مَجْمُوعَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا يُرَجِّحُ أَنه مكي.
وَإِلَّا فَإِنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ تَحْذِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمُوبِقَاتِ فِي النَّارِ.
وَمَعْنَى مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مُمَاثِلُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَأَفَادَتْ إِنَّما قَصْرَ الْجَزَاءِ عَلَى مُمَاثَلَةِ الْعَمَلِ الْمُجْزَى عَلَيْهِ قَصْرَ قَلْبٍ لِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنِ اعْتَذَرَ وَطَلَبَ أَنْ يَكُونَ جَزَاؤُهُ أَهْوَنَ مِمَّا شَاهَدَهُ.
وَالِاعْتِذَارُ: افْتِعَالٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُذْرِ. وَمَادَّةُ الِافْتِعَالِ فِيهِ دَالَّةٌ عَلَى تَكَلُّفِ الْفِعْلِ مِثْلَ الِاكْتِسَابِ وَالِاخْتِلَاقِ، وَالْعُذْرُ: الْحُجَّةُ الَّتِي تُبْرِئُ صَاحِبَهَا مِنْ تَبِعَةِ عَمَلٍ مَا. وَلَيْسَ لِمَادَّةِ الِاعْتِذَارِ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ دَالٌّ عَلَى إِيجَادِ الْعُذْرِ وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ عَذَرَ بِمَعْنَى قَبِلَ الْعُذْرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [٩٠].
[٨]
[سُورَة التَّحْرِيم (٦٦) : آيَة ٨]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.
أُعِيدَ خِطَابُ الْمُؤْمِنِينَ وَأُعِيدَ نِدَاؤُهُمْ وَهُوَ نِدَاءٌ ثَالِثٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَالَّذِي قَبْلَهُ نِدَاءٌ لِلْوَاعِظِينَ. وَهَذَا نِدَاءٌ لِلْمَوْعُوظِينَ وَهَذَا الْأُسْلُوبُ مِنْ أساليب الْإِعْرَاض الْمُتَّهم بهَا.
أَمر الْمُؤمنِينَ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ إِذَا تَلَبَّسُوا بِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ إِصْلَاحِ أَنْفُسِهِمْ بَعْدَ أَنْ أُمِرُوا بِأَنْ يُجَنِّبُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيَهُمْ مَا يَزُجُّ بِهِمْ فِي عَذَابِ النَّارِ، لِأَنَّ اتِّقَاءَ النَّارِ يَتَحَقَّقُ بِاجْتِنَابِ مَا يَرْمِي بِهِمْ فِيهَا، وَقَدْ يُذْهَلُونَ عَمَّا فَرَطَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَهُدُوا إِلَى سَبِيلِ التَّوْبَةِ الَّتِي يَمْحُونَ بِهَا مَا فَرَطَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ.
وَهَذَا نَاظِرٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ مَوْعِظَةِ امْرَأَتي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ [التَّحْرِيم: ٤].
وَالتَّوْبَةُ: الْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَى الْعِصْيَانِ مَعَ النَّدَمِ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُ فِيمَا مَضَى.
وَتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ فِي
بِبَيَانِ هَذَا عَنْ بَيَانِ الْمَعْنَى الْآخَرِ الَّذِي قَيَّدَهُ قَوْله: سُدىً، [الْقِيَامَة: ٣٦] أَيْ تَرْكُهُ بِدُونِ جَزَاءٍ عَلَى أَعْمَالِهِ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْإِحْيَاءِ أَنْ يُجَازَى عَلَى عَمَلِهِ. وَالْمَعْنَى: أَيَحْسَبُ أَنْ يُتْرَكَ فَانِيًا وَلَا تُجَدَّدَ حَيَاتُهُ.
وَوَقَعَ وَصْفُ سُدىً فِي خِلَالِ ذَلِكَ مَوْقِعَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى لُزُومِ بَعْثِ النَّاسِ مِنْ جَانِبِ الْحِكْمَةِ، وَانْتَقَلَ بَعْدَهُ إِلَى بَيَانِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ مِنْ جَانِبِ الْمَادَّةِ، فَكَانَ وُقُوعُهُ إِدْمَاجًا.
فَالْإِنْسَانُ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ وَطُوِّرَ أَطْوَارًا حَتَّى صَارَ جَسَدًا حَيًّا تَامَّ الْخِلْقَةِ وَالْإِحْسَاسِ فَكَانَ بَعْضُهُ مِنْ صِنْفِ الذُّكُورِ وَبَعْضُهُ مِنْ صِنْفِ الْإِنَاثِ، فَالَّذِي قَدَرَ عَلَى هَذَا الْخَلْقِ الْبَدِيعِ لَا يُعْجِزُهُ إِعَادَةُ خَلْقِ كُلِّ وَاحِدٍ كَمَا خَلَقَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِحِكْمَةٍ دَقِيقَةٍ وَطَرِيقَةٍ أُخْرَى لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ.
وَالنُّطْفَةُ: الْقَلِيلُ مِنَ الْمَاءِ سُمِّيَ بِهَا مَاءُ التَّنَاسُلِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ.
وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِير معنى يُمْنى فَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَعْنَاهُ: تُرَاقُ. وَلَمْ يُذْكَرْ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ أَنَّ فِعْلَ: مَنَى أَوْ أَمْنَى يُطْلَقُ بِمَعْنَى أَرَاقَ سِوَى أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ اللُّغَةِ قَالَ فِي تَسْمِيَةِ (مِنَى) الَّتِي بِمَكَّةَ إِنَّهَا سُمِّيَتْ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا تُرَاقُ بِهَا دِمَاءُ الْهَدْيِ، وَلَمْ يُبَيِّنُوا هَلْ هُوَ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ أَوْ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ.
وَأَحْسَبُ هَذَا مِنَ الْتَلْفِيقَاتِ الْمَعْرُوفَةِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْ طَلَبِهِمْ إِيجَادَ أَصْلٍ لِاشْتِقَاقِ الْأَعْلَامِ وَهُوَ تَكَلُّفٌ صُرَاحٌ، فَاسْمُ (مِنَى) عَلَمٌ مُرْتَجَلٌ، وَقَالَ ثَعْلَبُ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَنَى اللَّهُ عَلَيْهِ الْمَوْتَ، أَيْ قَدَّرَهُ لِأَنَّهَا تُنْحَرُ فِيهَا الْهَدَايَا وَمِثْلُهُ عَنِ ابْنِ شُمَيْلٍ وَعَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ. وَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ تَمَنَّى بِمَعْنَى تُخْلَقُ مِنْ قَوْلِهِمْ مَنَى اللَّهُ الْخَلْقَ، أَيْ خَلَقَهُمْ.
وَالْأَظْهَرُ قَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ مُضَارِعُ أَمْنَى الرَّجُلُ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [٥٨].
وَالْعَلَقَةُ: الْقِطْعَةُ الصَّغِيرَةُ مِنَ الدَّمِ الْمُتَعَقِّدِ.
وَعُطِفُ فِعْلُ كانَ عَلَقَةً بِحَرْفِ ثُمَّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّرَاخِي الْرُتْبِي فَإِنَّ كَوْنَهُ عَلَقَةً
أَعْجَبُ مِنْ كَوْنِهِ نُطْفَةً لِأَنَّهُ صَارَ عَلَقَةً بَعْدَ أَنْ كَانَ مَاءً فَاخْتَلَطَ بِمَا تُفْرِزُهُ رَحِمُ الْأُنْثَى مِنَ الْبُوَيْضَاتِ فَكَانَ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا عَلَقَةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي فَائِدَةِ التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النَّجْمِ [٤٦] مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى.
بَدْرًا فَإِذَا صَارَ بَدْرًا صَارَ تُلُوُّهُ الشَّمْسَ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ يظْهر عِنْد مَا تَغْرُبُ الشَّمْسُ، وَقَرِيبًا مِنْ غُرُوبِهَا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَهُوَ أَيْضًا يُضِيءُ فِي أَكْثَرِ لَيَالِي الشَّهْرِ جَعَلَهُ اللَّهُ عِوَضًا عَنِ الشَّمْسِ فِي عِدَّةِ لَيَالٍ فِي الْإِنَارَةِ، وَلِذَلِكَ قُيِّدَ الْقَسَمُ بِحِينِ تُلُوِّهِ لِأَنَّ تُلُوَّهُ لِلشَّمْسِ حِينَئِذٍ تَظْهَرُ مِنْهُ مَظَاهِرُ التُّلُوِّ لِلنَّاظِرِينَ، فَهَذَا الزَّمَانُ مِثْلُ زَمَانِ الضُّحَى فِي الْقَسَمِ بِهِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَسَمٍ بِوَقْتِ تُلُوِّهِ الشَّمْسَ، فَحَصَلَ الْقَسَمُ بِذَاتِ الْقَمَرِ وَبِتُلُوِّهِ الشَّمْسَ.
وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ نُورَ الْقَمَرِ مُسْتَفَادٌ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ، أَيْ مِنْ تَوَجُّهِ أَشِعَّةِ
الشَّمْسِ إِلَى مَا يُقَابِلُ الْأَرْضَ مِنَ الْقَمَرِ، وَلَيْسَ نَيِّرًا بِذَاتِهِ، وَهَذَا إِعْجَازٌ عِلْمِيٌّ مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَهُوَ مِمَّا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ.
وَابْتُدِئَ بِالشَّمْسِ لِمُنَاسَبَةِ الْمَقَامِ إِيمَاءً لِلتَّنْوِيهِ بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّ هَدْيَهُ كَنُورِ الشَّمْسِ لَا يَتْرُكُ لِلضَّلَالِ مَسْلَكًا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْوَعْدِ بِانْتِشَارِهِ فِي الْعَالَمِ كَانْتِشَارِ نُورِ الشَّمْسِ فِي الْأُفُقِ، وَأُتْبِعَ بِالْقَمَرِ لِأَنَّهُ يُنِيرُ فِي الظَّلَامِ كَمَا أَنَارَ الْإِسْلَامُ فِي ابْتِدَاءِ ظُهُورِهِ فِي ظُلْمَةِ الشِّرْكِ، ثُمَّ ذُكِرَ النَّهَارُ وَاللَّيْلُ مَعَهُ لِأَنَّهُمَا مَثَلٌ لِوُضُوحِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ ضَلَالَةِ الشِّرْكِ وَذَلِكَ عَكْسُ مَا فِي سُورَةِ اللَّيْلِ لِمَا يَأْتِي.
وَمُنَاسَبَةُ اسْتِحْضَارِ السَّمَاءِ عَقِبَ ذِكْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَاسْتِحْضَارِ الْأَرْضِ عَقِبَ ذِكْرِ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ، وَاضِحَةٌ، ثُمَّ ذُكِرَتِ النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ لِأَنَّهَا مَظْهَرُ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ.
وَالضَّمِيرُ الْمُؤَنَّثُ فِي قَوْلِهِ: جَلَّاها ظَاهِرُهُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الشَّمْسِ فَمَعْنَى تجلية النَّهَار بالشمس وَقْتُ ظُهُورِ الشَّمْسِ.
فَإِسْنَادُ التَّجْلِيَةِ إِلَى النَّهَارِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ وَالْقَسَمُ إِنَّمَا هُوَ بِالنَّهَارِ لِأَنَّهُ حَالَةٌ دَالَّةٌ عَلَى دَقِيقِ نِظَامِ الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْأَرْضِ، أَيْ أَضَاءَ الْأَرْضَ فَتَجَلَّتْ لِلنَّاظِرِينَ لِظُهُورِ الْمَقْصُودِ كَمَا يُقَالُ عِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ «أَرْسَلَتْ» يَعْنُونَ أَرْسَلَتِ السَّمَاءُ مَاءَهَا.
وَقُيِّدَ الْقَسَمُ بِالنَّهَارِ بِقَيْدِ وَقْتِ التَّجْلِيَةِ إِدْمَاجًا لِلْمِنَّةِ فِي الْقَسَمِ.
وَابْتُدِئَ الْقَسَمُ بِالشَّمْسِ وَأَضْوَائِهَا الثَّلَاثَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْمُنْعَكِسَةِ لِأَنَّ الشَّمْسَ