وَاعْلَمْ أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَحْوِهَا فِي بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوِ الْمُشْرِكِينَ هُوَ وَعِيدٌ وَتَوْبِيخٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ أَيْضًا مَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَعْلَمَ سَامِعُوهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ شَارَكَ هَؤُلَاءِ الْمَذْمُومِينَ فِيمَا أَوْجَبَ ذَمَّهُمْ وَسَبَّبَ وَعِيدَهُمْ هُوَ آخِذٌ بِحَظٍّ مِمَّا نَالَهُمْ مِنْ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مِقْدَارِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْمُوجب.
[٢٨]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٨]
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨)
ثَنَى عِنَانَ الْخَطَّابِ إِلَى النَّاسِ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ آنِفًا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [الْبَقَرَة: ٢١]، بَعْدَ أَنْ عَقَّبَ بِأَفَانِينَ مِنَ الْجُمَلِ الْمُعْتَرِضَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي [الْبَقَرَة: ٢٥] إِلَى قَوْله:
الْخاسِرُونَ [الْبَقَرَة: ٢٧].
وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ تَنَاسَبٌ مَعَ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ
يَضْرِبَ مَثَلًا مَا
[الْبَقَرَة: ٢٦] وَمَا بَعْدَهُ مِمَّا حَكَى عَنِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قَوْلِهِمْ: مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا [الْبَقَرَة: ٢٦] حَتَّى يَكُونَ الِانْتِقَالُ إِلَى الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: تَكْفُرُونَ الْتِفَاتًا، فَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ مَوْقِعِ هَاتِهِ الْآيَةِ بَعْدَ مَا قَبْلَهَا هِيَ مُنَاسَبَةُ اتِّحَادِ الْغَرَضِ، بَعْدَ اسْتِيفَاءِ مَا تَخَلَّلَ وَاعْتَرَضَ.
وَمِنْ بَدِيعِ الْمُنَاسِبَةِ وَفَائِقِ التَّفَنُّنِ فِي ضُرُوبِ الِانْتِقَالَاتِ فِي الْمُخَاطَبَاتِ أَنْ كَانَتِ الْعِلَلُ الَّتِي قُرِنَ بِهَا الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [الْبَقَرَة: ٢١] إِلَخْ هِيَ الْعِلَلُ الَّتِي قُرِنَ بِهَا إِنْكَارُ ضِدِّ الْعِبَادَةِ وَهُوَ الْكُفْرُ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ هُنَا: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ فَقَالَ فِيمَا تَقَدَّمَ: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الْبَقَرَة: ٢١] الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً [الْبَقَرَة: ٢٢] الْآيَةَ وَقَالَ هُنَا: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ
[الْبَقَرَة: ٢٩] وَكَانَ ذَلِكَ مَبْدَأَ التَّخَلُّصِ إِلَى مَا سَيَرِدُ مِنْ بَيَانِ ابْتِدَاءِ إِنْشَاءِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَتَكْوِينِهِ وَأَطْوَارِهِ.
فَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: تَكْفُرُونَ مُتَعَيِّنٌ رُجُوعُهُ إِلَى (النَّاسِ) وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّ الْيَهُودَ لَمْ يَكْفُرُوا بِاللَّهِ وَلَا أَنْكَرُوا الْإِحْيَاءَ الثَّانِيَ.
وَ (كَيْفَ) اسْمٌ لَا يُعْرَفُ اشْتِقَاقُهُ يَدُلُّ عَلَى حَالَةٍ خَاصَّةٍ وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْكَيْفِيَّةُ نِسْبَةً إِلَى
يَشْرَحُونَ النِّسَاءَ شرحا (أَي يطأونهن وَهُنَّ مُسْتَلْقِيَاتٍ عَنْ أَقَفِيَتِهِنَّ) وَمُقْبِلَاتٍ وَمُدْبِرَاتٍ وَمُسْتَلْقِيَاتٍ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ تَزَوَّجَ رَجُلٌ مِنْهُمُ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ فَذَهَبَ يَصْنَعُ بِهَا ذَلِكَ فَأَنْكَرَتْهُ عَلَيْهِ وَقَالَتْ: إِنَّمَا كُنَّا نُؤْتَى عَلَى حَرْفٍ فَاصْنَعْ ذَلِكَ وَإِلَّا فَاجْتَنِبْنِي حَتَّى شَرَى أَمْرُهُمَا (أَيْ تَفَاقَمَ اللَّجَاجُ) فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيءَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أَيْ مُقْبِلَاتٍ كُنَّ أَوْ مُدْبِرَاتٍ أَوْ مُسْتَلْقِيَاتٍ يَعْنِي بِذَلِكَ فِي مَوْضِعِ الْوَلَدِ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التِّرْمِذِيِّ، وَمَا
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ قَالَ وَمَا أَهْلَكَكَ؟ قَالَ: حَوَّلْتُ رَحْلِي اللَّيْلَةَ (يُرِيدُ أَنَّهُ أَتَى امْرَأَتَهُ وَهِيَ مُسْتَدْبِرَةٌ) فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ شَيْئًا فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى رَسُولِهِ هَذِهِ الْآيَةَ: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ
الْآيَةَ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ فَأَخَذْتُ عَلَيْهِ الْمُصْحَفَ يَوْمًا فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ قَالَ: تَدْرِي فِيمَ أُنْزِلَتْ؟ قُلْتُ: لَا قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ نَافِعٍ فِي الْبُخَارِيِّ «يَأْتِيهَا فِي....» وَلَمْ يَزِدْ وَهُوَ يَعْنِي فِي كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ إِتْيَانَ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ: أُنْزِلَتْ إِتْيَانَ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي «غَرَائِبَ مَالِكٍ» وَالطَّبَرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا فَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ
رَجُلًا أَصَابَ امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَقَالُوا: أَثْفَرَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَعَلَى تَأْوِيلِ هَؤُلَاءِ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ، تَشْبِيهًا لِلْمَرْأَةِ بِالْحَرْثِ أَيْ بِأَرْضِ الْحَرْثِ وَأَطْلَقَ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ عَلَى مَعْنَى: فَاحْرُثُوا فِي أَيِّ مَكَانٍ شِئْتُمْ.
أَقُولُ: قَدْ أُجْمِلَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى هُنَا، وَأُبْهِمَ وَبَيَّنَ الْمُبْهَمَاتِ بِمُبْهَمَاتٍ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى لِاحْتِمَالِ أَمَرَكُمُ اللَّهُ مَعَانِيَ لَيْسَ مَعْنَى الْإِيجَابِ وَالتَّشْرِيعِ مِنْهَا، إِذْ لَمْ يُعْهَدْ سَبْقُ تَشْرِيعٍ مِنَ اللَّهِ فِي هَذَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ، ثُمَّ أُتْبِعَ بِقَوْلِهِ: يُحِبُّ التَّوَّابِينَ [الْبَقَرَة: ٢٢٢] فَرُبَّمَا أَشْعَرَ بِأَنَّ فِعْلًا فِي هَذَا الْبَيَانِ كَانَ يُرْتَكَبُ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الِانْكِفَافِ عَنْهُ وَأُتْبِعَ بِقَوْلِهِ:
وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ فَأَشْعَرَ بِأَنَّ فِعْلًا
أَهْلِ مَكَّةَ، وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِهَذَا الْمَوْصُولِ لِكَوْنِهِ كَاللَّقَبِ لَهُمْ، وَهُوَ مُمَيِّزُهُمْ عَنْ أَهْلِ الشِّرْكِ لِأَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ أَنْكَرُوا الْآخِرَةَ. وَلَيْسَ فِي هَذَا الْمَوْصُولِ إِيذَانٌ بِالتَّعْلِيلِ، فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِالْقُرْآنِ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ.
وَأَخْبَرَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ تَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَقْصُودِينَ بِالْإِنْذَارِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ بِضِدِّهِ وَهُوَ الْبِشَارَةُ.
وَزَادَهُمْ ثَنَاءً بِقَوْلِهِ: وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ إِيذَانًا بِكَمَالِ إِيمَانِهِمْ وَصِدْقِهِ، إِذْ كَانَتِ الصَّلَاةُ هِيَ الْعَمَلُ الْمُخْتَصُّ بِالْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْحَجَّ كَانَ يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ [الْبَقَرَة:
٢، ٣] وَلَمْ يَكُنِ الْحَجُّ مَشْرُوعًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي مُدَّةِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ.
[٩٣]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٩٣]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ.
لَمَّا تَقَضَّى إِبْطَالُ مَا زَعَمُوهُ مِنْ نَفْيِ الْإِرْسَالِ وَالْإِنْزَالِ وَالْوَحْيِ، النَّاشِئِ عَنْ مَقَالِهِمُ الْبَاطِلِ، إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩١]، وَعَقَّبَ ذَلِكَ بِإِثْبَاتِ مَا لِأَجْلِهِ جَحَدُوا إِرْسَالَ الرُّسُلِ وَإِنْزَالَ الْوَحْيِ عَلَى بَشَرٍ، وَهُوَ إِثْبَاتُ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مُنَزَّلٌ مِنَ
اللَّهِ، عَقَّبَ بَعْدَ ذَلِكَ بِإِبْطَالِ مَا اخْتَلَقَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الشَّرَائِعِ الضَّالَّةِ فِي أَحْوَالِهِمُ الَّتِي شَرَعَهَا لَهُمْ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاءُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَمَا يَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ مِنَ الْبَحِيرَةِ، وَالسَّائِبَةِ، وَمَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنَ الذَّبَائِحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَهُمْ يَنْفُونَ الرِّسَالَةَ تَارَةً فِي حِينِ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِأَشْيَاءَ فَكَيْفَ بَلَغَهُمْ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ فِي زَعْمِهِمْ، وَهُمْ قَدْ قَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩١]. فَلَزِمَهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ فِيمَا زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِهِ لِأَنَّهُمْ عَطَّلُوا طَرِيقَ وُصُولِ مُرَادِ اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ وَهُوَ طَرِيقُ الرِّسَالَةِ فَجَاءُوا بِأَعْجَبَ مَقَالَةٍ.
الْمُتَابَعَةِ، وَمِنْ مُشَاهَدَةِ مَا لَا يَتَحَمَّلُهُ إِدْرَاكُهُ، وَمِنْ تَرَقُّبِ بَيَانِ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ وَالْمَقَاصِدِ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا الصَّبْرُ الْكَامِلُ يَقْتَضِي طَاعَةَ الْآمِرِ فِيمَا يَأْمُرُهُ بِهِ عَطَفَ عَلَيْهِ مَا يُفِيدُ الطَّاعَةَ إِبْلَاغًا فِي الِاتِّسَامِ بِأَكْمَلِ أَحْوَالِ طَالِبِ الْعِلْمِ.
فَجُمْلَةُ وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ سَتَجِدُنِي، أَوْ هُوَ مِنْ عَطْفِ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ عَطْفًا على صابِراً فيؤوّل بِمَصْدَرٍ، أَيْ وَغَيْرَ عَاصٍ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَهَمَّ مَا يَتَّسِمُ بِهِ طَالِبُ الْعِلْمِ هُوَ الصَّبْرُ وَالطَّاعَةُ لِلْمُعَلِّمِ.
وَفِي تَأْكِيدِهِ ذَلِكَ بِالتَّعْلِيقِ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ- اسْتِعَانَةً بِهِ وَحِرْصًا عَلَى تَقَدُّمِ التَّيْسِيرِ تَأَدُّبًا مَعَ اللَّهِ- إِيذَانٌ بِأَنَّ الصَّبْرَ وَالطَّاعَةَ مِنَ الْمُتَعَلِّمِ الَّذِي لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ أَعْسَرُ مِنْ صَبْرِ وَطَاعَةِ الْمُتَعَلِّمِ السَّاذِجِ، لِأَنَّ خُلُوَّ ذِهْنِهِ مِنَ الْعلم لَا يحرجه مِنْ مُشَاهَدَةِ الْغَرَائِبِ، إِذْ لَيْسَ فِي ذِهْنِهِ مِنَ الْمَعَارِفِ مَا يُعَارِضُ قَبُولَهَا، فَالْمُتَعَلِّمُ الَّذِي لَهُ نَصِيبٌ مِنَ الْعِلْمِ وَجَاءَ طَالِبًا الْكَمَالَ فِي عُلُومِهِ إِذَا بَدَا لَهُ مِنْ عُلُومِ أُسْتَاذِهِ مَا يُخَالِفُ مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِهِ يُبَادِرُ إِلَى الِاعْتِرَاضِ وَالْمُنَازَعَةِ. وَذَلِكَ قَدْ يُثِيرُ النَّفْرَةَ بَينه وَبَين أستاذ، فَلِتَجَنُّبِ ذَلِكَ خَشِيَ الْخَضِرُ أَنْ يَلْقَى مِنْ مُوسَى هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً، فَأَكَّدَ لَهُ مُوسَى أَنَّهُ يَصْبِرُ وَيُطِيعُ أَمْرَهُ إِذَا أَمَرَهُ. وَالْتِزَامُ مُوسَى ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى ثِقَتِهِ بِعِصْمَةِ مَتْبُوعِهِ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ آتَاهُ علما.
وَالتَّاء فِي قَوْلِهِ: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي تَفْرِيعٌ عَلَى وَعْدِ مُوسَى إِيَّاهُ بِأَنَّهُ يَجِدُهُ صَابِرًا، فَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ نَهْيَهُ عَنِ السُّؤَالِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا يُشَاهِدُهُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ حَتَّى يُبَيِّنَهُ لَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ.
وَأَكَّدَ النَّهْيَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ تَحْقِيقًا لِحُصُولِ أَكْمَلِ أَحْوَالِ الْمُتَعَلِّمِ مَعَ الْمُعَلِّمِ، لِأَنَّ السُّؤَالَ قَدْ يُصَادِفُ وَقْتَ اشْتِغَالِ الْمَسْئُولِ بِإِكْمَالِ عَمَلِهِ فَتَضِيقُ لَهُ نَفْسُهُ،
يَقُولُ: «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشَ
وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا، فَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ وَأَنْتُمْ تقتحمون فِيهَا»
.
[٢٠]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٢٠]
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (٢٠)
أُعِيدَتْ بِشَارَةُ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ تَفْصِيلًا لِلْإِجْمَالِ الْوَاقِعِ مِنْ قَبْلُ. وَافْتُتِحَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِحَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ الْفَارِقِ بَيْنَ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَحَالِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُضَادَّةِ بَيْنَهُمَا، فَحَرْفُ الِاسْتِدْرَاكِ هُنَا لِمُجَرَّدِ الْإِشْعَارِ بِتَضَادِّ الْحَالَيْنِ لِيَعْلَمَ السَّامِعُ أَنَّهُ سَيَتَلَقَّى حُكَمًا مُخَالِفًا لِمَا سَبَقَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٤٣]، وَقَوْلِهِ: وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [٤٦]، فَحَصَلَ فِي قَضِيَّةِ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا عِبَادَةَ الطَّاغُوتِ تَقْرِيرٌ عَلَى تَقْرِير ابتدئ بالإشارتين فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ [الزمر: ١٨] ثُمَّ بِمَا أُعْقِبَ مِنْ تَفْرِيعِ حَالِ أَضْدَادِهِمْ عَلَى ذِكْرِ أَحْوَالِهِمْ ثُمَّ بِالِاسْتِدْرَاكِ الْفَارِقِ بَيْنَ حَالِهِمْ وَحَالِ أَضْدَادِهِمْ.
وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ: هُمُ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا عِبَادَةَ الطَّاغُوتِ وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ وَاتَّبَعُوا أَحْسَنَ الْقَوْلِ وَاهْتَدَوْا بِهَدْيِ اللَّهِ وَكَانُوا أولي الْأَلْبَاب، فَعُدِلَ عَن الْإِتْيَان بضميرهم هُنَا إِلَى الْمَوْصُولِ لِقَصْدِ مَدْحِهِمْ بِمَدْلُولِ الصِّلَةِ وَلِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الصِّلَةَ سَبَبٌ لِلْحُكْمِ الْمَحْكُومِ بِهِ عَلَى الْمَوْصُولِ وَهُوَ نُوَالُهُمُ الْغُرَفَ. وَعُدِلَ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى وَصْفِ الرَّبِّ الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَّقِينَ لِمَا فِي تِلْكَ الْإِضَافَةِ مِنْ تَشْرِيفِهِمْ بِرِضَى رَبِّهِمْ عَنْهِمْ.
وَاللَّامُ فِي لَهُمْ لِلِاخْتِصَاصِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، أَيْ أُعِدَّتْ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ.
وَالْغُرَفُ: جَمْعُ غُرْفَةٍ بِضَمِّ الْغَيْنِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَهِيَ الْبَيْتُ الْمُرْتَكِزُ عَلَى بَيْتٍ آخَرَ، وَيُقَالُ لَهَا الْعُلِّيَّةُ (بِضَمِّ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا وَبِكَسْرِ اللَّامِ مُشَدَّدَةً وَالتَّحْتِيَّةُ كَذَلِكَ)
وَتَأَوَّلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ إِنْ نَظُنُّ بَعْدَ قَبُولِ خَبَرِكُمْ إِلَّا ظَنًّا وَلَيْسَ يُعْطِينَا يَقِينًا اه،
أَيْ فَهُوَ إِبْطَالُهُمْ لِخُصُوصِ قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ: السَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا.
وَأَمَّا إِشْكَالُهُ مِنْ جِهَةِ النَّظْمِ فَمَرْجِعُ الْإِشْكَالِ إِلَى اسْتِثْنَاءِ الظَّنِّ مِنْ نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ:
إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُفَرَّغَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُفَرَّغًا لِلْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِانْتِفَاءِ فَائِدَةِ التَّفْرِيعِ. وَالْخَلَاصُ مِنْ هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» أَنَّ مُصَحِّحَ الِاسْتِثْنَاءِ الظَّنُّ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى هُوَ الظَّنُّ الْمَوْصُوفُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُهُ مِنَ التَّحْقِيرِ الْمُشْعِرِ بِهِ التَّنْوِينُ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الْأَعْشَى:

أَحَلَّ بِهِ الشَّيْبُ أَثْقَالَهُ وَمَا اغْتَرَّهُ الشَّيْبُ إِلَّا اغْتِرَارَا (١)
أَيْ، إِلَّا ظَنًّا ضَعِيفًا.
وَمَفْعُولَا نَظُنُّ مَحْذُوفَانِ لِدَلِيلِ الْكَلَامِ عَلَيْهِمَا. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ نَظُنُّ السَّاعَةَ وَاقِعَةً.
وَقَوْلُهُمْ: وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ يُفِيدُ تَأْكِيدَ قَوْلِهِمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا، وَعَطْفُهُ عَطْفُ مُرَادِفٍ، أَيْ لِلتَّشْرِيكِ فِي اللَّفْظِ. وَالسِّينُ وَالتَّاء فِي بِمُسْتَيْقِنِينَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي حُصُول الْفِعْل.
[٣٣]
[سُورَة الجاثية (٤٥) : آيَة ٣٣]
وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ [الجاثية: ٣١] بِاعْتِبَارِ تَقْدِيرِ: فَيُقَالُ لَهُمْ، أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا، أَيْ جُمِعَ لَهُمْ بَيْنَ التَّوْبِيخِ وَالْإِزْعَاجِ فَوُبِّخُوا بِقَوْلِهِ: أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ إِلَى آخِرِهِ، وَأُزْعِجُوا بِظُهُورِ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِمْ، أَيْ ظُهُورِ جَزَاءِ سَيِّئَاتِهِمْ حِينَ رَأَوْا دَارَ الْعَذَابِ وَآلَاتِهِ رُؤْيَةَ مَنْ يُوقِنُ بِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لَهُ وَذَلِكَ بِعِلْمٍ يَحْصُلُ لَهُمْ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْأَهْوَالِ.
_________
(١) رُوِيَ بِالْعينِ الْمُهْملَة فِي اللَّفْظَيْنِ وبالغين الْمُعْجَمَة وَهُوَ أظهر...
وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي اللَّوْمِ وَالتَّوْبِيخِ عَلَى عَدَمِ إِنْفَاقِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَ (أَنْ) مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْهَا وَالْفِعْلُ الْمَنْصُوبُ بِهَا فِي مَحَلِّ جَرٍّ بِاللَّامِ، أَوْ بِ (فِي) مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا حَصَلَ لَكُمْ فِي عَدَمِ إِنْفَاقِكُمْ، أَيْ ذَلِكَ الْحَاصِلُ أَمْرٌ مُنْكَرٌ.
وَعَنِ الْأَخْفَشِ أَنَّ (أَنْ) زَائِدَةٌ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [الْحَدِيد:
٨]. وَلَيْسَ نَصْبُهَا الْفِعْلَ الَّذِي بَعْدَهَا بِمَانِعٍ مِنِ اعْتِبَارِهَا زَائِدَةً لِأَنَّ الْحَرْفَ الزَّائِدَ قَدْ يَعْمَلُ مِثْلَ حَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٦].
وَالْوَاوُ فِي وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاوُ الْحَالِ وَهُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تُنْفِقُوا بِاعْتِبَارِ أَنَّ عُمُومَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَشْمَلُ مَا فِيهِمَا فَيَشْمَلُ الْمُخَاطَبِينَ فَذَلِكَ الْعُمُومُ هُوَ الرَّابِطُ. وَالتَّقْدِيرُ: لِلَّهِ مِيرَاثُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَيَشْمَلُ مِيرَاثُهُ إِيَّاكُمْ.
وَالْمَعْنَى: إِنْكَارُ عَدَمِ إِنْفَاقِ أَمْوَالِهِمْ فِيمَا دَعَاهُمُ اللَّهُ إِلَى الْإِنْفَاقِ فِيهِ وَهُمْ سَيَهْلَكُونَ
وَيَتْرُكُونَ أَمْوَالَهُمْ لِمَنْ قَدَّرَ اللَّهُ مَصِيرَهَا إِلَيْهِ فَلَوْ أَنْفَقُوا بَعْضَ أَمْوَالِهِمْ فِيمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ لَنَالُوا رِضَى اللَّهِ وَانْتَفَعُوا بِمَالٍ هُوَ صَائِرٌ إِلَى مَنْ يَرِثُهُمْ.
وَإِضَافَةُ مِيرَاثٍ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ عَلَى حَذْفٍ مُضَافٍ، تَقْدِيرُهُ: أَهْلِهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِيرَاثَ ذَاتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بَعْدَ انْقِرَاضِ النَّاسِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَقْصُودِ مِنْ حَثِّهِمْ عَلَى الْإِنْفَاقِ.
وَالْغِلْظَةُ: حَقِيقَتُهَا صَلَابَةُ الشَّيْءِ وَهِيَ مُسْتَعَارَةٌ هُنَا لِلْمُعَامَلَةِ بِالشِّدَّةِ بِدُونِ عَفْوٍ وَلَا تَسَامُحٍ، أَيْ كُنْ غَلِيظًا، أَيْ شَدِيدًا فِي إِقَامَةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمْثَالَهُمْ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [١٢٣]، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٩].
وَالْمَأْوَى: الْمَسْكَنُ، وَهُوَ مَفْعَلٌ مِنْ أَوَى إِذَا رَجَعَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَرْجِعُ إِلَى مَسْكَنه.
[١٠]
[سُورَة التَّحْرِيم (٦٦) : آيَة ١٠]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠)
أَعْقَبَتْ جُمْلَةَ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التَّحْرِيم: ٩] الْآيَةُ الْمَقْصُودُ مِنْهَا تَهْدِيدُهُمْ بِعَذَابِ السَّيْفِ فِي الدُّنْيَا وَإِنْذَارُهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ وَمَا قَارَنَ ذَلِكَ مِنْ مُقَابَلَةِ حَالِهِمْ بِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ، بِأَنْ ضَرَبَ مَثَلَيْنِ لِلْفَرِيقَيْنِ بِنَظِيرَيْنِ فِي حَالَيْهِمَا لَتَزْدَادَ الْمَوْعِظَةُ وُضُوحًا وَيَزْدَادَ التَّنْوِيهُ بِالْمُؤْمِنِينَ اسْتِنَارَةً. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فَائِدَةُ ذِكْرِ الْأَمْثَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧].
وَضَرْبُ الْمَثَلِ: إِلْقَاؤُهُ وَإِيضَاحُهُ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦].
فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَهَذَا الْمَثَلُ لَا يَخْلُو مِنْ تَعْرِيضٍ بِحَثِّ زَوجي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَاعَته وبأنّ رضى اللَّهِ تَعَالَى يتبع رضى رُسُلِهِ. فَقَدْ كَانَ الْحَدِيثُ عَنْ
زَوْجَتي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرِيبًا وَكَانَ عَمَلُهُمَا مَا فِيهِ بَارِقَةً مِنْ مُخَالَفَةٍ، وَكَانَ فِي الْمَثَلَيْنِ مَا فِيهِ إِشْعَارٌ بِالْحَالَيْنِ.
وَتَعْدِيَةُ ضَرَبَ بِاللَّامِ الدَّالِّ عَلَى الْعِلَّةِ تُفِيدُ أَنَّ إِلْقَاءَ الْمَثَلِ لِأَجْلِ مَدْخُولِ اللَّامِ.
فَمَعْنَى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُ أَلْقَى هَذَا التَّنْظِيرَ لِأَجْلِهِمْ، أَيِ اعْتِبَارِهِمْ بِهِمْ وَقِيَاسِ حَالِهِمْ عَلَى حَالِ الْمُمَثَّلِ بِهِ، فَإِذَا قِيلَ: ضَرَبَ لِفُلَانٍ مَثَلًا، كَانَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ قَصَدَهُ بِهِ وَأَعْلَمَهُ إِيَّاهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا [الزخرف: ٥٨].
وَالشَّيْءُ: اسْمٌ لِلْمَوْجُودِ.
وَالْمَذْكُورُ: الْمُعَيَّنُ الَّذِي هُوَ بِحَيْثُ يُذْكَرُ، أَيْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِخُصُوصِهِ وَيُخْبَرُ عَنْهُ بالأخبار وَالْأَحْوَال. ويعلّق لَفْظُهُ الدَّالُّ عَلَيْهِ بِالْأَفْعَالِ.
فَأَمَّا الْمَعْدُومُ فَلَا يُذَكَرُ لِأَنَّهُ لَا تَعَيُّنَ لَهُ فَلَا يُذْكَرُ إِلَّا بِعُنْوَانِهِ الْعَامِّ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ هُنَا.
وَلِهَذَا نَجْعَلُ مَذْكُوراً وَصْفًا لِ شَيْئاً، أُرِيدَ بِهِ تَقْيِيدُ شَيْئاً، أَيْ شَيْئًا خَاصًّا وَهُوَ الْمَوْجُودُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِاسْمِهِ المعيّن لَهُ.
[٢]
[سُورَة الْإِنْسَان (٧٦) : آيَة ٢]
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ مُتَرَتِّبٌ عَلَى التَّقْرِيرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الْإِنْسَان: ١] لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشْوِيقِ.
وَالتَّقْرِيرُ يَقْتَضِي الْإِقْرَارَ بِذَلِكَ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، فَالسَّامِعُ يَتَشَوَّفُ لِمَا يَرِدُ بَعْدَ هَذَا التَّقْرِيرِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَعْدُومًا فَأَوْجَدَ نُطْفَةً كَانَتْ مَعْدُومَةً ثُمَّ اسْتَخْرَجَ مِنْهَا إِنْسَانًا، فَثَبَتَ تَعَلُّقُ الْخَلْقِ بِالْإِنْسَانِ بَعْدَ عَدمه.
وتأكيد الْكَلَام بِحَرْفِ (إِنَّ) لِتَنْزِيلِ الْمُشْرِكِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجِبِ الْعِلْمِ حَيْثُ عَبَدُوا أَصْنَامًا لَمْ يَخْلُقُوهُمْ.
وَالْمُرَادُ بِ الْإِنْسانَ مِثْلُ مَا أُرِيدَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ [الْإِنْسَانِ: ١] أَيْ كُلُّ نَوْعِ الْإِنْسَانِ.
وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ كَيْفِيَّةُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ نُطْفَةِ التَّنَاسُلِ لِمَا فِي تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ مِنْ دَقَائِقِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى النُّطْفَةِ فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ.
وأَمْشاجٍ: مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَشْجِ وَهُوَ الْخَلْطُ، أَيْ نُطْفَةٌ مَخْلُوطَةٌ قَالَ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [يس: ٣٦] وَذَلِكَ يُفَسر مَعْنَى الْخَلْطِ الَّذِي أُشِيرُ إِلَيْهِ هُنَا.
الطُّغْيَانُ وَالتَّكَبُّرُ عَنِ اتِّبَاعِ مَنْ لَا يَرَوْنَ لَهُ فَضْلًا عَلَيْهِمْ: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١].
وإِذِ ظَرْفٌ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي يَتَعَلَّقُ بِ (طَغْوَاهَا) لِأَنَّ وَقْتَ انْبِعَاثِ أَشْقَاهَا لِعَقْرِ النَّاقَةِ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي بَدَتْ فِيهِ شِدَّةُ طَغْوَاهَا فَبَعَثُوا أَشْقَاهُمْ لِعَقْرِ النَّاقَةِ الَّتِي جُعِلَتْ لَهُمْ آيَةً وَذَلِكَ مُنْتَهَى الْجُرْأَةِ.
وانْبَعَثَ: مُطَاوِعُ بَعَثَ، فَالْمَعْنَى: إِذْ بَعَثُوا أَشْقَاهُمْ فَانْبَعَثَ وَانْتَدَبَ لِذَلِكَ.
وإِذِ مُضَافٌ إِلَى جُمْلَةِ: انْبَعَثَ أَشْقاها وَقُدِّمَ ذِكْرُ هَذَا الظَّرْفِ عَنْ مَوْقِعِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ لِأَنَّ انْبِعَاثَ أَشْقَاهَا لِعَقْرِ النَّاقَةِ جُزْئِيٌّ مِنْ جُزْئِيَّاتِ طَغْوَاهُمْ فَهُوَ أَشَدُّ تَعَلُّقًا بِالتَّكْذِيبِ الْمُسَبَّبِ عَنِ الطَّغْوَى فَفِي تَقْدِيمِهِ قَضَاءٌ لِحَقِّ هَذَا الِاتِّصَالِ، وَلِإِفَادَةِ أَنَّ انْبِعَاثَ أَشْقَاهُمْ لِعَقْرِ النَّاقَةِ كَانَ عَنْ إِغْرَاءٍ مِنْهُمْ إِيَّاهُ، وَلَا يَفُوتُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ أَنْ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ، وَيُسْتَفَادُ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ: فَعَقَرُوها وأَشْقاها: أَشَدُّهَا شِقْوَةً، وَعُنِيَ بِهِ رَجُلٌ مِنْهُمْ سَمَّاهُ الْمُفَسِّرُونَ قُدَارَ (بِضَمِّ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ الْمُهْمِلَةِ) بْنَ سَالِفٍ، وَزِيَادَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي الشَّقَاوَةِ بِأَنَّهُ الَّذِي بَاشَرَ الْجَرِيمَةَ وَإِنْ كَانَ عَنْ مَلَأٍ مِنْهُمْ وَإِغْرَاءٍ.
وَالْفَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ عَاطِفَةٌ عَلَى كَذَّبَتْ فَتُفِيدُ التَّرْتِيبَ وَالتَّعْقِيبَ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِيهَا، وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: كَذَّبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحَدَّاهُمْ بِآيَةِ النَّاقَةِ وَحَذَّرَهُمْ مِنَ التَّعَرُّضِ لَهَا بِسوء وَمن مَنعهم شُرْبَهَا فِي نَوْبَتِهَا مِنَ السُّقْيَا، وَعُطِفَ عَلَى فَكَذَّبُوهُ، أَيْ فِيمَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ فَعَقَرُوهَا بِالتَّكْذِيبِ الْمَذْكُورِ أَوَّلَ مَرَّةٍ غَيْرَ التَّكْذِيبِ الْمَذْكُورِ
ثَانِيًا. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ آيَةَ النَّاقَةِ أُرْسِلَتْ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ كَذَّبُوا وَهُوَ الشَّأْنُ فِي آيَاتِ الرُّسُلِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا جَاءَ فِي سُورَةِ هُودٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ الْمُجَرَّدِ وَهِيَ تُفِيدُ عَطْفَ مُفَصَّلٍ عَلَى مُجْمَلٍ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ [الْبَقَرَة: ٣٦] فَإِنَّ إِزْلَالَهُمَا إِبْعَادُهُمَا وَهُوَ يَحْصُلُ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ لَا قَبْلُهُ. وَقَوْلِهِ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا [الْأَعْرَاف: ٤]،


الصفحة التالية
Icon