[٢٩]

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٩]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً.
هَذَا، إِمَّا اسْتِدْلَالٌ ثَانٍ عَلَى شَنَاعَةِ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى أَنَّهُ مِمَّا يُقْضَى مِنْهُ الْعَجَبُ فَإِنَّ دَلَائِلَ رُبُوبِيَّةِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ ظَاهِرَةٌ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَفِي خَلْقِ جَمِيعِ مَا فِي الْأَرْضِ فَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِكَثْرَةِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَفَصْلُ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِمُرَاعَاةِ كَمَالِ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ لِأَنَّ هَذِهِ كَالنَّتِيجَةِ لِلدَّلِيلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ فِي خَلْقِ الْأَرْضِ وَجَمِيعِ مَا فِيهَا وَفِي كَوْنِ ذَلِكَ لِمَنْفَعَةِ الْبَشَرِ إِكْمَالًا لِإِيجَادِهِمُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [الْبَقَرَة: ٢٨] لِأَنَّ فَائِدَةَ الْإِيجَادِ لَا تَكْمُلُ إِلَّا بِإِمْدَادِ الْمَوْجُودِ بِمَا فِيهِ سَلَامَتُهُ مِنْ آلَامِ الْحَاجَةِ إِلَى مُقَوِّمَاتِ وَجُودِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الْعَطْفِ لِدَفْعِ أَنْ يُوهِمَ الْعَطْفُ أَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ فَبِتَرْكِ الْعَطْفِ يُعْلَمُ أَنَّ الدَّلِيلَ الْأَوَّلَ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ وَفِي الْأَوَّلِ بُعْدٌ وَفِي الثَّانِي مُخَالَفَةُ الْأَصْلِ لِأَنَّ أَصْلَ الْفَصْلِ أَنْ لَا يَكُونَ قَطْعًا عَلَى أَنَّهُ تَوَهُّمٌ لَا يَضِيرُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ امْتِنَانًا عَلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ لِتَسْجِيلِ أَنَّ إِشْرَاكَهُمْ كُفْرَانٌ بِالنِّعْمَةِ أُدْمِجَ فِيهِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّهُ خَالِقٌ لِمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ حَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ وَمَعَادِنَ اسْتِدْلَالًا بِمَا هُوَ نِعْمَةٌ مُشَاهَدَةٌ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: لَكُمْ فَيَكُونُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ كَمَا قُرِّرَ آنِفًا، وَلَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى مَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ مُغَايَرَةٍ لِلْجُمْلَةِ الْأَوْلَى بِالِامْتِنَانِ لِأَنَّ مَا أُدْمِجَ فِيهَا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ رَجَّحَ اعْتِبَارَ الْفَصْلِ.
وَالْخَلْقُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [الْبَقَرَة: ٢١]. وَالْأَرْضُ اسْمٌ لِلْعَالَمِ الْكُرَوِيِّ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ الَّذِي يُعَمِّرُهُ الْإِنْسَانُ
وَالْحَيَوَانُ وَالنَّبَاتُ وَالْمَعَادِنُ وَهِيَ الْمَوَالِيدُ الثَّلَاثَةُ وَهَذِهِ الْأَرْضُ هِيَ مَوْجُودٌ كَائِنٌ هُوَ ظَرْفٌ لِمَا فِيهِ مِنْ أَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَحَيْثُ إِنَّ الْعِبْرَةَ كَائِنَةٌ فِي مُشَاهَدَةِ الْمَوْجُودَاتِ مِنَ الْمَوَالِيدِ الثَّلَاثَةِ، عُلِّقَ الْخَلْقُ هُنَا بِمَا فِي الْأَرْضِ مِمَّا يَحْتَوِيهِ ظَرْفُهَا مِنْ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ وَلَمْ يُعَلَّقْ بِذَاتِ الْأَرْضِ لِغَفْلَةِ جُلِّ النَّاسِ عَنِ الِاعْتِبَارِ بِبَدِيعِ خَلْقِهَا إِلَّا أَنَّ خَالِقَ الْمَظْرُوفِ جَدِيرٌ بِخَلْقِ الظَّرْفِ إِذِ الظَّرْفُ إِنَّمَا يُقْصَدُ لِأَجْلِ الْمَظْرُوفِ فَلَوْ كَانَ الظَّرْفُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ خَالِقِ الْمَظْرُوفِ لَلَزِمَ إِمَّا تَأَخُّرُ الظَّرْفِ عَنْ مَظْرُوفِهِ وَفِي ذَلِكَ إِتْلَافُ الْمَظْرُوفِ، وَالْمُشَاهَدَةُ تَنْفِي ذَلِكَ، وَإِمَّا تَقَدُّمُ الظَّرْفِ وَذَلِكَ عَبَثٌ. فَاسْتِفَادَةُ أَنَّهُ خَلَقَ الْأَرْضَ مَأْخُوذَةٌ بِطَرِيقِ الْفَحْوَى فَمِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يُجَوِّزَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنْ يُرَادَ بِالْأَرْضِ الْجِهَةُ السُّفْلِيَّةُ كَمَا يُرَادُ بِالسَّمَاءِ الْجِهَةُ الْعُلْوِيَّةُ، وَبُعْدُهُ مِنُُْ
بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ، شَاعَ إِطْلَاقُ الْيَمِينِ عَلَى كُلِّ حَلِفٍ، جَرْيًا عَلَى غَالِبِ الْأَحْوَالِ فَأُطْلِقَتِ الْيَمِينُ عَلَى قَسَمِ الْمَرْءِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ دُونَ عَهْدٍ وَلَا حَلِفٍ.
وَالْقَصْدُ مِنَ الْحَلِفِ يَرْجِعُ إِلَى قَصْدِ أَنْ يُشْهِدَ الْإِنْسَانُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى صِدْقِهِ فِي خَبَرٍ أَوْ وَعْدٍ أَوْ تَعْلِيق، وَلذَلِك يَقُوله: بِاللَّهِ أَيْ أُخْبِرُ مُتَلَبِّسًا بِإِشْهَادِ اللَّهِ، أَوْ أَعِدُ أَوْ أُعَلِّقُ مُتَلَبِّسًا بِإِشْهَادِ اللَّهِ عَلَى تَحْقِيقِ ذَلِكَ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَضَمَّنَ الْيَمِينُ مَعْنًى قَوِيًّا فِي الصِّدْقِ، لِأَنَّ مَنْ أَشْهَدَ بِاللَّهِ عَلَى بَاطِلٍ فَقَدِ اجْتَرَأَ عَلَيْهِ وَاسْتَخَفَّ بِهِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْيَمِينِ إِشْهَادُ اللَّهِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ [الْبَقَرَة: ٢٠٤] كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَوْلُ الْعَرَبِ يَعْلَمُ اللَّهُ فِي مَقَامِ الْحَلِفِ الْمُغَلَّظِ، وَلِأَجْلِهِ كَانَتِ الْبَاءُ هِيَ أَصْلَ حُرُوفِ الْقَسَمِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الْمُلَابَسَةِ فِي أَصْلِ مَعَانِيهَا، وَكَانَتِ الْوَاوُ وَالتَّاءُ لَاحِقَتَيْنِ بِهَا فِي الْقَسَمِ الْإِنْشَائِيِّ دُونَ الِاسْتِعْطَافِيِّ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ إِنْ كَانَتِ الْعُرْضَةُ بِمَعْنَى الْحَاجِزِ نَهْيُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ أَنْ يَجْعَلُوا اسْمَ اللَّهِ حَائِلًا مَعْنَوِيًّا دُونَ فِعْلِ مَا حَلَفُوا عَلَى تَرْكِهِ مِنِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ فَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، وَهِي مُتَعَلقَة بتجعلوا، وأَنْ تَبَرُّوا مُتَعَلق بعرضة عَلَى حَذْفِ اللَّامِ الْجَارَّةِ، الْمُطَّرِدِ حَذْفُهَا مَعَ أَنْ، أَيْ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ لِأَجْلِ أَنْ حَلَفْتُمْ بِهِ عُرْضَةً حَاجِزًا عَنْ فِعْلِ الْبِرِّ وَالْإِصْلَاحِ وَالتَّقْوَى، فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ نَهْيٌ عَنِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْيَمِينِ إِذَا كَانَتِ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا تَمْنَعُ مِنْ فِعْلِ خَيْرٍ شَرْعِيٍّ، وَهُوَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ بِحَسَبِ حكم الشَّيْء الْمَحْلُوف عَلَى تَرْكِهِ، وَمِنْ لَوَازِمِهِ التَّحَرُّزُ حِينَ الْحَلِفِ وَعَدَمُ التَّسَرُّعِ لِلْأَيْمَانِ، إِذْ لَا يَنْبَغِي التَّعَرُّضُ لِكَثْرَةِ التَّرَخُّصِ.
وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَغْضَبُ فَتُقْسِمُ بِاللَّهِ وَبِآلِهَتِهَا وَبِآبَائِهَا، عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ شَيْءٍ، لِيَسُدُّوا بِالْيَمِينِ بَابَ الْمُرَاجَعَةِ أَوِ النَّدَامَةِ.
وَفِي «الْكَشَّافِ» «كَانَ الرَّجُلُ يَحْلِفُ عَلَى تَرْكِ الْخَيْرِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، أَوْ إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، أَوْ إِحْسَانٍ، ثُمَّ يَقُولُ أَخَافُ أَنْ أَحْنَثَ فِي يَمِينِي، فَيَتْرُكُ فِعْلَ الْبِرِّ فَتَكُونُ الْآيَةُ وَارِدَةً لِإِصْلَاحِ خَلَلٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ.
وَقَدْ قِيلَ إِنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا حَلِفُ أَبِي بَكْرٍ أَلَّا يُنْفِقَ عَلَى ابْنِ خَالَتِهِ مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِأَنَّهُ مِمَّنْ خَاضُوا فِي الْإِفْكِ. وَلَا تَظْهَرُ لِهَذَا الْقَوْلِ مُنَاسَبَةٌ بِمَوْقِعِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي حَلِفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ أَلَّا يُكَلِّمَ خَتَنَهُ بَشِيرَ بْنَ النُّعْمَانِ الْأَنْصَارِيَّ،
وَتَكُونُ جُمْلَةُ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ حِكَايَةَ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ عِنْدَ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ.
فَيَكُونُ إِطْلَاقُ الْغَمَرَاتِ مَجَازًا مُفْرَدًا وَيَكُونُ الْمَوْتُ حَقِيقَةً. وَمَعْنَى بَسْطِ الْيَدِ تَمْثِيلًا لِلشِّدَّةِ فِي انْتِزَاعِ أَرْوَاحِهِمْ وَلَا بَسْطَ وَلَا أَيْدِيَ. وَالْأَنْفُسُ بِمَعْنَى الْأَرْوَاحِ، أَيْ أَخْرِجُوا أَرْوَاحَكُمْ مِنْ أَجْسَادِكُمْ، أَيْ هَاتُوا أَرْوَاحَكُمْ، وَالْأَمْرُ لِلْإِهَانَةِ وَالْإِرْهَاقِ إِغْلَاظًا فِي قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ وَلَا يَتْرُكُونَ لَهُمْ رَاحَةً وَلَا يُعَامِلُونَهُمْ بِلِينٍ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ يَجْزَعُونَ فَلَا يَلْفِظُونَ أَرْوَاحَهُمْ وَهُوَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَعِيدٌ بِالْآلَامِ عِنْد النّزع جزاءا فِي الدُّنْيَا عَلَى شِرْكِهِمْ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي شَكٍّ مِنَ الْبَعْثِ فَتَوَعَّدُوا بِمَا لَا شَكَّ فِيهِ، وَهُوَ حَالُ قَبْضِ الْأَرْوَاحِ بِأَنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ مَلَائِكَةً تَقْبِضُ أَرْوَاحَهُمْ بِشِدَّةٍ وَعُنْفٍ وَتُذِيقُهُمْ عَذَابًا فِي ذَلِكَ. وَذَلِكَ الْوَعيد يَقع فِي نُفُوسِهِمْ مَوْقِعًا عَظِيمًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَخَافُونَ شَدَائِدَ النَّزْعِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ [الْأَنْفَال: ٥٠] الْآيَة، وَقَول أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ عَلَى هَذَا صَادِرٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا وَعِيدًا بِمَا يُلَاقِيهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ شَدَائِدِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ بَعْدُ وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى [الْأَنْعَام: ٩٤] فَغَمَرَاتُ الْمَوْتِ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ يَوْمَ الْحَشْرِ فِي مُنَازَعَةِ الشَّدَائِدِ وَأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ بِحَالٍ مِنْهُمْ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَشَدَائِدِ النَّزْعِ فَالْمَوْتُ تَمْثِيلٌ وَلَيْسَ بِحَقِيقَةٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّمْثِيلِ تَقْرِيبُ الْحَالَةِ وَإِلَّا فَإِنَّ أَهْوَالَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مِنْ غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَلَكِنْ لَا يُوجَدُ فِي الْمُتَعَارَفِ مَا هُوَ أَقْصَى مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ دَلَالَةً عَلَى هَوْلِ الْأَلَمِ. وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: وَجَدْتُ أَلَمَ الْمَوْتِ، وَقَوْلِ أَبِي قَتَادَةَ فِي وَقْعَةِ حُنَيْنٍ:
«فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ»، وَقَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ:
وَشَمَمْتُ رِيحَ الْمَوْتِ مِنْ تِلْقَائِهِمْ فِي مَأْزِقٍ وَالْخَيْلُ لَمْ تَتَبَدَّدِ
وَجُمْلَةُ: وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ حَالٌ، أَيْ وَالْمَلَائِكَةُ مَادُّونَ أَيْدِيَهُمْ
سِوَى أَنَّهُ
وَصَفَ هَذَا الْفِعْلَ بِأَنَّهُ نُكُرٌ، وَهُوَ- بِضَمَّتَيْنِ-: الَّذِي تُنْكِرُهُ الْعُقُولُ وَتَسْتَقْبِحُهُ، فَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الشَّيْءِ الْإِمْرِ، لِأَنَّ هَذَا فَسَادٌ حَاصِلٌ وَالْآخَرُ ذَرِيعَةُ فَسَادٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَوَصَفَ النَّفْسَ بِالزَّاكِيَةِ لِأَنَّهَا نَفْسُ غُلَامٍ لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ فَلَمْ يَقْتَرِفْ ذَنْبًا فَكَانَ زَكِيًّا طَاهِرًا. وَالزَّكَاءُ: الزِّيَادَةُ فِي الْخَيْرِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ زَاكِيَةً- بِأَلْفٍ بَعْدِ الزَّايِ- اسْمَ فَاعِلٍ مِنْ زَكَا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ زَكِيَّةً، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: النُّونُ مِنْ قَوْلِهِ: نُكْراً هِيَ نِصْفُ الْقُرْآنِ، أَيْ نِصْفُ حُرُوفِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ: إِنَّ نِصْفَ الْقُرْآنِ هُوَ حَرْفُ التَّاءِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلْيَتَلَطَّفْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ
وَاخْتِلَافُ أَلْوَانِ الزَّرْعِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الزَّرْعِ لَوْنًا وَلِنَوْرِهَا أَلْوَانًا وَلِكُلِّ صِنْفٍ مِنَ الزَّرْعِ أَلْوَانٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي أَطْوَارِ نَبَاتِهِ وَبُلُوغِهِ أَشُدَّهُ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مَعَ اتِّحَادِ الْأَرْضِ الَّتِي تَنْبُتُ فِيهَا وَاتِّحَادِ الْمَاءِ الَّذِي نَبَتَ بِهِ آيَةٌ خَامِسَةٌ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَالِانْفِرَادِ بِالتَّصَرُّفِ.
وَمَعْنَى يَهِيجُ يُغْلُظُ وَيَرْتَفِعُ. وَحَقِيقَةُ الْهِيَاجِ: ثَوْرَةُ الْإِنْسَانِ أَوِ الْحَيَوَانِ، وَيُسْتَعَارُ الْهِيَاجُ لِشِدَّةِ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ الْحَيَوَانِ يُقَالُ: هَاجَتْ رِيحٌ، وَمِنْهُ هِيَاجُ الزَّرْعِ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ الزَّرْعَ تَطُولُ سُوقُهُ وَسَنَابِلُهُ فَيَتِمُّ جَفَافُهُ فَإِذَا تَحَرَّكَ بِمُرُورِ الرِّيحِ عَلَيْهِ صَارَ لَهُ حَفِيفٌ وَخَشْخَشَةٌ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْحَبُّ وَالْكَلَأُ وَهَذَا الطَّوْرُ آيَةٌ سَادِسَةٌ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ.
وَالْحُطَامُ: الْمَحْطُومُ، أَيِ الْمَكْسُورُ الْمَفْتُوتُ، وَوَزْنُ فُعَالٍ (بِضَمِّ الْفَاءِ) يَدُلُّ عَلَى الْمَفْعُولِ كَالْفُتَاتِ وَالدُقَاقِ، وَمُثُلُهُ الْفُعَالَةُ كَالصُبَابَةِ وَالْقُلَامَةِ وَالْقُمَامَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَبْلُغُ مِنَ الْيَبْسِ إِلَى حَدِّ أَنْ يَتَحَطَّمَ وَيَتَكَسَّرَ بِحَكِّ بَعْضِهِ بَعْضًا وَتَسَاقُطِهِ وَكَسْرِ الرِّيحِ إِيَّاهُ. وَهَذَا الطَّوْرُ آيَةٌ سَابِعَةٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ. وَجَمِيعُهَا آيَاتٌ عَلَى دِقَّةِ صُنْعِهِ وَكَيْفَ أَوْدَعَ الْأَطْوَارَ الْكَثِيرَةَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ يَخْلُفُ بَعْضُهَا بَعْضًا مِنْ طَوْرِ وُجُودِهِ إِلَى طَوْرِ اضْمِحْلَالِهِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ مُبَيِّنَةٌ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ وَفَذْلَكَةٌ لِلْأَطْوَارِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهَا، فَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْإِنْزَالِ إِلَى أَخِرِ الْأَطْوَارِ.
وَالْمُرَادُ: ذِكْرَى بِالدَّلَالَةِ عَلَى مَا يَغْفُلُ عَنْهُ الْعَاقِلُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الذِّكْرَى لِمَا يَذْهَلُ عَنْهُ الْعَاقِلُ مِمَّا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَحْوَالُ مِنْ مَبْدَئِهَا إِلَى مُنْتَهَاهَا. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا تَصْلُحُ مِثَالًا لِتَقْرِيبِ الْبَعْثِ فَإِنَّ إِنْزَالَ الْمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ وَإِنْبَاتَهَا بِسَبَبِهِ أَمْرٌ يَتَجَدَّدُ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَا عَلَيْهَا مِنَ النَّبَاتِ حُطَامًا، وَتَخَلَّلَتْ زَرَارِيعُهُ الْأَرْضَ فَنَبَتَتْ مَرَّةً أُخْرَى بِنُزُولِ الْمَاءِ، فَكَذَلِكَ يُعُودُ الْإِنْسَانُ بَعْدَ فَنَائِهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً [نوح: ١٧، ١٨] فَتَتَضَمَّنُ الْآيَةُ إِدْمَاجَ تَقْرِيبِ الْبَعْثِ وَإِمْكَانِهِ مَعَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ، وَمِنْ
ثُمَّ أُتْبِعَ بِوَصْفِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَهُمْ سُكَّانُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ تَأْكِيدًا لِكَوْنِهِمْ مَحْقُوقِينَ بِأَنْ يَحْمَدُوهُ لِأَنَّهُ خَالِقُ الْعَوَالِمِ الَّتِي هم منتفون بِهَا وَخَالِقُ ذَوَاتِهِمْ فِيهَا كَذَلِكَ.
وَعَقَّبَ ذَلِكَ بِجُمْلَةِ وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ اسْتِدْعَاءَهُ خَلْقَهُ لِحَمْدِهِ إِنَّمَا هُوَ لِنَفْعِهِمْ وَتَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ فَإِنَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُمْ كَمَا قَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات: ٥٦، ٥٧].
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي وَلَهُ الْكِبْرِياءُ مِثْلُهُ فِي فَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَالْكِبْرِيَاءُ: الْكِبْرُ الْحَقُّ الَّذِي هُوَ كَمَالُ الصِّفَاتِ وَكَمَالُ الْوُجُودِ. ثُمَّ أُتْبِعَ ذَلِكَ بِصِفَتَيِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لِأَنَّ الْعِزَّةَ تَشْمَلُ مَعَانِيَ الْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَالْحِكْمَةُ تَجْمَعُ مَعَانِيَ تَمَامِ الْعِلْمِ وَعُمُومِهِ.
وَبِهَذِهِ الْخَاتِمَةِ آذَنَ الْكَلَامُ بِانْتِهَاءِ السُّورَةِ فَهُوَ مِنْ بَرَاعَةِ خَوَاتِمِ السُّوَرِ.
الْمُضَاعَفَةِ فَالْعَمَلُ لِحُصُولِ الْإِقْرَاضِ كَأَنَّهُ عَمَلٌ لِحُصُولِ الْمُضَاعَفَةِ.
أَوْ عَلَى اعْتِبَارِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً فِي التَّقْدِيرِ فَيَقَعُ الْخَبَرُ الْفِعْلِيُّ بَعْدَ الْمُبْتَدَأِ مُفِيدًا تَقْوِيَةَ الْخَبَرِ وَتَأْكِيدَ حُصُولِهِ، وَاعْتِبَارِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ جَوَابًا، لِ (مَنِ) الْمَوْصُولَةِ بِإِشْرَابِ الْمَوْصُولِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَهُوَ إِشْرَابٌ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ.
وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ- كُلٌّ عَلَى قِرَاءَتِهِ- بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ.
وَمَعْنَى وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ: أَنَّ لَهُ أَنْفَسَ جِنْسِ الْأُجُورِ لِأَنَّ الْكَرِيمَ فِي كُلِّ شَيْءٍ هُوَ النَّفِيسُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٢٩].
وَجُعِلَ الْأَجْرُ الْكَرِيمُ مُقَابِلَ الْقَرْضِ الْحَسَنِ فَقُوبِلَ بِهَذَا مَوْصُوف وَصفته بمثلهما.
والمضاعفة: مماثلة الْمِقْدَار، فَالْمَعْنَى: يُعْطِيهِ مِثْلَيْ قَرْضِهِ.
وَالْمُرَادُ هُنَا مُضَاعَفَتُهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً كَمَا قَالَ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦١].
وَقَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [الْبَقَرَة: ٢٤٥].
وَضَمِيرُ النصب فِي فَيُضاعِفَهُ عَائِدٌ إِلَى الْقَرْضِ الْحَسَنِ، وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: فَيُضَاعِفُ جَزَاءَهُ لَهُ. لِأَنَّ الْقَرْضَ هُنَا تَمْثِيلٌ بِحَالِ السَّلَفِ الْمُتَعَارَفِ بَيْنَ النَّاسِ فَيَكُونُ تَضْعِيفُهُ مِثْلَ تَضْعِيفِ مَالِ السَّلَفِ وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّبَا.
وَالْأَجْرُ: مَا زَادَ عَلَى قَضَاءِ الْقَرْضِ مِنْ عَطِيَّةٍ يُسْدِيهَا الْمُسْتَسْلِفُ إِلَى من سلفه عِنْد مَا يَجِدُ سَعَةً، وَهُوَ الَّذِي
قَالَ فِيهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً»
، وَقَالَ تَعَالَى:
وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النِّسَاء: ٤٠].
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْأَجْرَ هُوَ الْمَغْفِرَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ [١٧]. وَهَذَا يَشْمَلُ الْإِنْفَاقَ فِي الصَّدَقَاتِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الْحَدِيد: ١٨]،
وَقَدْ ذكر الله باسمها فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَالَ ابْنُ التِّلْمِسَانِيِّ فِي «شَرْحِ الشِّفَاءِ» لِعِيَاضٍ: لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ امْرَأَةً فِي الْقُرْآنِ بِاسْمِهَا إِلَّا مَرْيَم للتّنْبِيه عَلَى أَنَّهَا أَمَةُ اللَّهِ إِبْطَالًا لِعَقَائِدِ النَّصَارَى.
وَالْإِحْصَانُ: جَعْلُ الشَّيْءِ حَصِينًا، أَيْ لَا يُسْلَكُ إِلَيْهِ. وَمَعْنَاهُ: مَنَعَتْ فَرْجَهَا عَنِ الرِّجَالِ.
وَتَفْرِيعُ فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا تَفْرِيعُ الْعَطِيَّةِ عَلَى الْعَمَلِ لِأَجْلِهِ. أَيْ جَزَيْنَاهَا عَلَى
إِحْصَانِ فَرْجِهَا، أَيْ بِأَنْ كَوَّنَ اللَّهُ فِيهِ نَبِيئًا بِصِفَةٍ خَارِقَةِ لِلْعَادَةِ فَخَلَّدَ بِذَلِكَ ذِكْرَهَا فِي الصَّالِحَاتِ.
وَالنَّفْخُ: مُسْتَعَارٌ لِسُرْعَةِ إِبْدَاعِ الْحَيَاةِ فِي الْمُكَوَّنِ فِي رَحِمِهَا. وَإِضَافَةُ الرُّوحِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّ تَكْوِينَ الْمَخْلُوقِ الْحَيِّ فِي رَحِمِهَا كَانَ دُونَ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ، أَوْ أُرِيدَ بِالرُّوحِ الْمَلَكُ الَّذِي يُؤْمَرُ بِنَفْخِ الْأَرْوَاحِ فِي الْأَجِنَّةِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ تَكُونُ مِنْ تَبْعِيضِيَّةً، وَعَلَى الثَّانِي تَكُونُ ابْتِدَائِيَّةً، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٩١].
وَتَصْدِيقُهَا: يَقِينُهَا بِأَنَّ مَا أَبْلَغَ إِلَيْهَا الْمَلَكُ مِنْ إِرَادَةِ الله حملهَا.
وبِكَلِماتِ رَبِّها: هِيَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي أَلْقَاهَا إِلَيْهَا بِطَرِيقِ الْوَحْي.
ووَ كُتُبِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ «الْإِنْجِيلَ» الَّذِي جَاءَ بِهِ ابْنُهَا عِيسَى وَهُوَ إِن لَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا فِي زَمَنِ عِيسَى فَقَدْ كَتَبَهُ الْحَوَارِيُّونَ فِي حَيَاةِ مَرْيَمَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَاد ب كُتُبِهِ، أَرَادَهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ أَنْ تَحْمِلَ مِنْ دُونِ مَسِّ رَجُلٍ إِيَّاهَا مِنْ بَابِ وَكَانَ كِتَابًا مَفْعُولًا.
وَالْقَانِتُ: الْمُتَمَحِّضُ لِلطَّاعَةِ. يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ومِنْ لِلِابْتِدَاءِ.
وَالْمُرَادُ بِالْقَانِتِينَ: الْمُكْثِرُونَ مِنَ الْعِبَادَةِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهَا كَانَتْ سَلِيلَةَ قَوْمٍ صَالِحِينَ، أَيْ فَجَاءَتْ عَلَى طَرِيقَةِ أُصُولِهَا فِي الْخَيْرِ وَالْعَفَافِ.
وَهَلْ يُنْبِتُ الْخَطِّيُّ إِلَّا وَشِيجَهُ
الْمُقَيَّدِ، وَتُنَاطُ بِهَا السِّلْسِلَةُ قَالَ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ [غَافِر: ٧١] فَالْأَغْلَالُ وَالسَّلَاسِلُ تُوضَعُ لَهُمْ عِنْدَ سَوْقِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ.
وَالسَّعِيرُ: النَّارُ الْمُسَعَّرَةُ، أَيِ الَّتِي سَعَّرَهَا الْمُوقِدُونَ بِزِيَادَةِ الْوَقُودِ لِيَشْتَدَّ الْتِهَابُهَا فَهُوَ فِي الْأَصْلِ وَصْفٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ جُعِلَ عِلْمًا عَلَى جَهَنَّمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٩٧].
وَكُتِبَ سَلَاسِلًا فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الَّتِي أُرْسِلَتْ إِلَى الْأَمْصَارِ بِأَلِفٍ بَعْدَ اللَّامِ الثَّانِيَةِ وَلَكِنَّ الْقُرَّاءَ اخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَتِهِ، فَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَر قرأوا سَلَاسِلًا مُنَوَّنًا فِي الْوَصْلِ وَوَقَفُوا عَلَيْهِ كَمَا يُوقِفُ عَلَى الْمُنَوَّنِ الْمَنْصُوبِ، وَإِذْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يُمْنَعَ مِنَ الصَّرْفِ لِأَنَّهُ عَلَى صِيغَةِ مُنْتَهَى الْجَمْعِ تَعَيَّنَ أَنَّ قِرَاءَتَهُ بِالتَّنْوِينِ لِمُرَاعَاةِ مُزَاوَجَتِهِ مَعَ الِاسْمَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَهُ وَهُمَا أَغْلالًا وسَعِيراً، وَالْمُزَاوَجَةُ طَرِيقَةٌ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَمِنْهَا
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنِسَاءٍ «ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ»
فَجَعَلَ «مَأْزُورَاتٍ» مَهْمُوزًا وَحَقُّهُ أَنْ يَكُونَ بِالْوَاوِ لَكِنَّهُ هُمِزَ لِمُزَاوَجَةِ مَأْجُورَاتٍ، وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ الْكَافِرَ «فَيُقَالُ لَهُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ»
، وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ: وَلَا تَلَوْتَ. وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ مُقْبِلٍ أَوِ الْقَلَّاحُ:
هَتَّاكُ أَخْبِيَةٍ وَلَّاجُ أَبَوِبَةٍ يُخَالِطُ الْبِرُّ مِنْهُ الْجِدَّ وَاللِّينَا
فَقَوْلُهُ (أَبْوِبَةٍ) جَمْعُ بَابٍ وَحَقُّهُ أَنْ يَقُولَ أَبْوَابٍ.
وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَتِينَةٌ يُعَضِّدُهَا رَسْمُ الْمُصْحَفِ وَهِيَ جَارِيَةٌ عَلَى طَرِيقَةٍ عَرَبِيَّةٍ فَصِيحَةٍ.
وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِدُونِ تَنْوِينٍ فِي الْوَصْلِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَتِهِ إِذَا وَقَفُوا عَلَيْهِ فَأَكْثَرُهُمْ قَرَأَهُ فِي الْوَقْفِ بِدُونِ أَلِفٍ فَيَقُولُ سَلاسِلَ فِي الْوَقْفِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِالْأَلِفِ عَلَى اعْتِبَارِهِ مُنَوَّنًا فِي الْوَصْلِ.
قَرَأَهُ الْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَابْنِ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ فِي الْوَقْفِ بِجَوَازِ الْوَجْهَيْنِ بِالْأَلِفِ وَبِتَرْكِهَا.
فَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يُنَوِّنُوا سَلَاسِلَا فِي الْوَصْلِ وَوَقَفُوا عَلَيْهِ بِأَلِفٍ بَعْدَ لَامِهِ الثَّانِيَةِ.
وَيَصْدِفُ عَنِ الذِّكْرَى مَنْ كَانَ شَقِيًّا فَيَكُونُ جَزَاؤُهُ النَّارَ الْكُبْرَى وَأُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ صَدَّهُمْ عَنِ التَّذَكُّرِ إِيثَارُ
حُبِّ مَا هُمْ فِيهِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ.
وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ الْإِشَارَةُ إِلَى دَلَائِلِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَدِيعِ صُنْعِهِ.
[١- ٤]
[سُورَة اللَّيْل (٩٢) : الْآيَات ١ إِلَى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤)
افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِالْقَسَمِ جَارٍ عَلَى أُسْلُوبِ السُّورَتَيْنِ قَبْلَ هَذِهِ، وَغَرَضُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَمُنَاسَبَةُ الْمُقْسَمِ بِهِ لِلْمُقْسَمِ عَلَيْهِ أَنَّ سَعْيَ النَّاسِ مِنْهُ خَيْرٌ وَمِنْهُ شَرٌّ وَهُمَا يُمَاثِلَانِ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ وَأَنَّ سَعْيَ النَّاسِ يَنْبَثِقُ عَنْ نَتَائِجَ مِنْهَا النَّافِعُ وَمِنْهَا الضَّارُّ كَمَا يُنْتِجُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ذُرِّيَّةً صَالِحَةً وَغَيْرَ صَالِحَةٍ.
وَفِي الْقسم بِاللَّيْلِ وبالنهار التَّنْبِيهُ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِهِمَا فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى حِكْمَةِ نِظَامِ اللَّهِ فِي هَذَا الْكَوْنِ وَبَدِيعِ قُدْرَتِهِ، وَخُصَّ بِالذِّكْرِ مَا فِي اللَّيْلِ مِنَ الدَّلَالَةِ مِنْ حَالَةِ غِشْيَانِهِ الْجَانِبَ الَّذِي يَغْشَاهُ مِنَ الْأَرْضِ. وَيَغْشَى فِيهِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ فَتَعُمُّهَا ظُلْمَتُهُ فَلَا تَبْدُو لِلنَّاظِرِينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْوَى أَحْوَالِهِ، وَخُصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ أَحْوَالِ النَّهَارِ حَالَةُ تَجْلِيَتِهِ عَنِ الْمَوْجُودَاتِ وَظُهُورِهِ عَلَى الْأَرْضِ كَذَلِكَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْغِشْيَانِ وَالتَّجَلِّي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها فِي سُورَةِ الشَّمْسِ [٣، ٤].
وَاخْتِيرَ الْقَسَمُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِمُنَاسَبَتِهِ لِلْمَقَامِ لِأَنَّ غَرَضَ السُّورَةِ بَيَانُ الْبَوْنِ بَيْنَ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَابْتُدِئَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِذِكْرِ اللَّيْلِ ثُمَّ ذِكْرِ النَّهَارِ عَكْسَ مَا فِي سُورَةِ الشَّمْسِ لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الشَّمْسِ بِمُدَّةٍ وَهِيَ سَادِسَةُ السُّوَرِ وَأَيَّامَئِذٍ كَانَ الْكُفْرُ مُخَيِّمًا عَلَى النَّاسِ إِلَّا نَفَرًا قَلِيلًا، وَكَانَ الْإِسْلَامُ قَدْ أَخَذَ فِي التَّجَلِّي فَنَاسَبَ تِلْكَ الْحَالة بِالْإِشَارَةِ إِلَى تَمْثِيلِهَا بِحَالَةِ اللَّيْلِ حِينَ يَعْقُبُهُ ظُهُورُ النَّهَارِ، وَيَتَّضِحُ هَذَا فِي جَوَابِ الْقَسَمِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى إِلَى قَوْلِهِ: إِذا تَرَدَّى [اللَّيْل: ٤- ١١].


الصفحة التالية
Icon