حُكْمِ الْأَشْيَاءِ أَيَّامَ الْفَتْرَةِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ أَيْ فِيمَا ارْتَكَبَهُ النَّاسُ مِنْ تَنَاوُلِ الشَّهَوَاتِ وَنَحْوِهَا وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَصَحُّ أَنَّ الْأَمْرَ مَوْقُوفٌ وَأَنَّهُ لَا وَصْفَ لِلْأَشْيَاءِ يَتَرَتَّبُ مِنْ أَجْلِهِ عَلَيْهَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ.
وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا لَا يَحْتَاجُ الْعُلَمَاءُ إِلَى فَرْضِهِ لِأَنَّ أَهْلَ الْفَتْرَةِ لَا شَرْعَ لَهُمْ وَلَيْسَ لِأَفْعَالِهِمْ أَحْكَامٌ إِلَّا فِي وُجُوبِ التَّوْحِيدِ عِنْدَ قَوْمٍ، وَأَمَّا بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ فَقَدْ أَغْنَى الشَّرْعُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ وُجِدَ فِعْلٌ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنْ نَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ أَوِ اسْتِدْلَالٍ صَحِيحٍ فَالصَّحِيحُ أَنَّ أَصْلَ الْمَضَارِّ التَّحْرِيمُ وَالْمَنَافِعِ الْحِلُّ وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْإِمَامُ فِي «الْمَحْصُولِ» فَتَصِيرُ لِلْمَسْأَلَةِ ثَمَرَةٌ بِاعْتِبَارِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي الْإِسْلَامِ.
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
انْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا وَهُوَ مِمَّا عِلْمُهُ ضَرُورِيٌّ لِلنَّاسِ، إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ وَهُوَ أَيْضًا قَدْ يُغْفَلُ عَنِ النَّظَرِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ، وَذَلِكَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الِانْتِقَالُ اسْتِطْرَادًا لِإِكْمَالِ تَنْبِيهِ النَّاسِ إِلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ.
وَعَطَفَتْ (ثُمَّ) جُمْلَةَ (اسْتَوَى) عَلَى جُمْلَةِ خَلَقَ لَكُمْ. وَلِدَلَالَةِ (ثُمَّ) عَلَى التَّرْتِيبِ وَالْمُهْلَةِ فِي عَطْفِ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ كَانَتْ فِي عَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ لِلْمُهْلَةِ فِي الرُّتْبَةِ وَهِيَ مُهْلَةٌ تَخْيِيلِيَّةٌ فِي الْأَصْلِ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمَعْطُوفَ بِثُمَّ أَعْرَقُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي تَتَضَمَّنُهُ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا حَتَّى كَأَنَّ الْعَقْلَ يَتَمَهَّلُ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ بَعْدَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ فَيَنْتَبِهُ السَّامِعُ لِذَلِكَ كَيْ لَا يَغْفُلَ عَنْهُ بِمَا سَمِعَ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَشَاعَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ حَتَّى صَارَ كَالْحَقِيقَةِ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ بالترتيب الرتبي وبترتب الْإِخْبَارِ (بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ [الْبَلَد: ١١- ١٣] إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: ١٧] فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَكُّ رَقَبَةٍ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَلَمَّا كَانَ ذِكْرُ هَاتِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يَعِزُّ إِيفَاؤُهَا حَقَّهَا مِمَّا يُغْفِلُ السَّامِعَ عَنْ أَمْرٍ آخَرَ عَظِيمٍ نُبِّهَ عَلَيْهِ بِالْعَطْفِ بِثُمَّ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ آكَدُ وَأَهَمُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ يَصِفُ رَاحِلَتَهُ:

جَنُوحٌ دِفَاقٌ عَنْدَلٌ ثُمَّ أُفْرِعَتْ لَهَا كَتِفَاهَا فِي مُعَالًى مُصَعَّدِ (١)
فَإِنَّهُُُ
_________
(١) جنوح بِمَعْنى تميل فِي سَيرهَا للْيَمِين واليسار لشدَّة قوتها. والدقاق- بِكَسْر الدَّال- المندفقة السّير بِمَعْنى السريعة. والعندل: عَظِيمَة الرَّأْس. وأفرعت بِمَعْنى أطيلت كتفاها. فِي معالي أَي فِي جسم. معالي أَي عَال مصعد.
وَفَارِسٍ فِي غِمَارِ الْمَوْتِ مُنْغَمِسٍ إِذَا تَأَلَّى عَلَى مَكْرُوهَةٍ صَدَقَا
(أَيْ إِذَا حَلَفَ عَلَى أَنْ يُقَاتِلَ أَوْ يَقْتُلَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَاعِبِ وَالْأَضْرَارِ وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْحَرْبُ كَرِيهَةً) فَصَارَ نُطْقُهُمْ بِالْيَمِينِ مُؤذنًا بالغرم، وَكَثُرَ ذَلِكَ فِي أَلْسِنَتِهِمْ فِي أَغْرَاضِ التَّأْكِيدِ وَنَحْوِهِ، حَتَّى صَارَ يَجْرِي ذَلِكَ عَلَى اللِّسَانِ كَمَا تَجْرِي الْكَلِمَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَعَانِي مِنْ غَيْرِ إِرَادَةِ الْحَلِفِ، وَصَارَتْ كَثْرَتُهُ فِي الْكَلَامِ لَا تَنْحَصِرُ، فَكَثُرَ التَّحَرُّجُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ قَالَ كُثَيِّرٌ:
قَلِيلُ الْأَلَايِي حَافِظٌ لِيَمِينِهِ وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الأليّة برّت
فأشبهه جَرَيَانُ الْحَلِفِ عَلَى اللِّسَانِ اللَّغْوَ مِنَ الْكَلَامِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ اللَّغْوَ هُوَ الْيَمِينُ الَّتِي تَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ، لَمْ يَقْصِدِ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا الْحَلِفَ، وَلَكِنَّهَا جَرَتْ مَجْرَى التَّأْكِيدِ أَوِ التَّنْبِيهِ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ. وَقَوْلِ الْقَائِلِ: وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ فُلَانٍ كَلَامًا عَجَبًا، وَغَيْرُ هَذَا لَيْسَ بِلَغْوٍ، وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ، رَوَاهُ عَنْهَا فِي «الْمُوَطَّأ» و «الصّحاح»، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَأَخَذَ بِهِ الشَّافِعِيُّ، وَالْحُجَّةُ لَهُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ اللَّغْوَ قَسِيمًا لِلَّتِي كَسَبَهَا الْقَلْبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلِلَّتِي عَقَدَ عَلَيْهَا الْحَالِفُ الْيَمِينَ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما [الْمَائِدَة: ٨٩] فَمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ هُوَ مَا كَسَبَتْهُ الْقُلُوبُ لِأَنَّ مَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ مُبَيَّنٌ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ مُجمل بِما عَقَّدْتُمُ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ اللَّغْوُ هِيَ الَّتِي لَا قَصْدَ فِيهَا إِلَى الْحَلِفِ، وَهِيَ الَّتِي تَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ دُونَ قَصْدٍ، وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى نَفْيِ الْمُؤَاخَذَةِ نَفْيُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْإِثْمِ وَبِالْكَفَّارَةِ لِأَنَّ نَفْيَ الْفِعْلِ يَعُمُّ، فَالْيَمِينُ الَّتِي لَا قَصْدَ فِيهَا لَا إِثْمَ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا، وَغَيْرُهَا تَلْزَمُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ لِلْخُرُوجِ مِنِ الْإِثْمِ بِدَلِيلِ آيَةِ الْمَائِدَةِ إِذْ فَسَّرَ الْمُؤَاخَذَةَ فِيهَا بِقَوْلِهِ: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ [الْمَائِدَة: ٨٩] فَيَكُونُ فِي الْغَمُوسِ، وَفِي يَمِينِ التَّعْلِيقِ، وَفِي الْيَمِينِ عَلَى الظَّنِّ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ خِلَافُهُ، الْكَفَّارَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ.
وَقَالَ مَالِكٌ: «لَغْوُ الْيَمِينِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ كَذَلِكَ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ خِلَافُ ظَنِّهِ» قَالَ فِي «الْمُوَطَّأِ» :«وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ» وَهُوَ مَرْوِيٌّ فِي غَيْرِ «الْمُوَطَّأِ»، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمَنْ قَالَ بِهِ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَمَكْحُولٌ وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ. وَوَجْهُهُ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى كَسْبِ الْقَلْبِ فِي الْيَمِينِ، وَلَا تَكُونُ
وَإِخْبَارُهُمْ بِأَنَّهُمْ جَاءُوا لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ظَاهِرَ الْإِخْبَارِ لِأَنَّ مَجِيئَهُمْ مَعْلُومٌ لَهُمْ وَلَكِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي تَخْطِئَتِهِمْ وَتَوْقِيفِهِمْ عَلَى صِدْقِ مَا كَانُوا يُنْذِرُونَ بِهِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ فَيُنْكِرُونَهُ وَهُوَ الرُّجُوعُ إِلَى الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِلْحِسَابِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ. وَقَدْ يُقْصَدُ مَعَ هَذَا الْمَعْنَى مَعْنَى الْحُصُولِ فِي الْمِكْنَةِ وَالْمَصِيرِ إِلَى مَا كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ لَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ [النُّور: ٣٩]، وَقَوْلِ الرَّاجِزِ:
قَدْ يُصْبِحُ اللَّهُ إِمَامَ السَّارِي وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي جِئْتُمُونا ضَمِيرُ الْجَلَالَةِ وَلَيْسَ ضَمِيرُ الْمَلَائِكَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:
كَما خَلَقْناكُمْ.
وفُرادى حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي جِئْتُمُونا أَيْ مُنْعَزِلِينَ عَنْ كُلِّ مَا كُنْتُمْ تَعْتَزُّونَ بِهِ فِي الْحَيَاةِ الْأُولَى مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ وَأَنْصَارٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ (فُرَادَى) جُمَعُ فَرْدَانَ مِثْلُ سُكَارَى لِسَكْرَانَ. وَلَيْسَ فُرَادَى الْمَقْصُورُ مُرَادِفًا لِفُرَادَ الْمَعْدُولِ لِأَنَّ فُرَادَ الْمَعْدُولَ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى فَرْدًا فَرْدًا، مِثْلُ ثَلَاثٍ وَرُبَاعٍ مِنْ أَسْمَاءِ الْعَدَدِ الْمَعْدُولَةِ. وَأَمَّا فُرَادَى الْمَقْصُورُ فَهُوَ جَمْعُ فَرْدَانَ بِمَعْنَى الْمُنْفَرِدِ. وَوَجْهُ جَمْعِهِ هُنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَاءَ مُنْفَرِدًا عَنْ مَالِهِ.
وَقَوْلُهُ: كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ تَشْبِيهٌ لِلْمَجِيءِ أُرِيدَ مِنْهُ مَعْنَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ الَّذِي كَانُوا يُنْكِرُونَهُ فَقَدْ رَأَوْهُ رَأْيَ الْعَيْنِ، فَالْكَافُ لِتَشْبِيهِ الْخَلْقِ الْجَدِيدِ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ فَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ. وَ (مَا) الْمَجْرُورَةُ بِالْكَافِ مَصْدَرِيَّةٌ. فَالتَّقْدِيرُ: كَخَلْقِنَا إِيَّاكُمْ، أَيْ جِئْتُمُونَا مُعَادِينَ مَخْلُوقِينَ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ
الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ
[ق: ١٥].
الْعَطَشِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَجَعَلَ الْمَعْنَى: أَنَّ قَسْوَةَ قُلُوبِهِمْ حَصَلَتْ فِيهِمْ مِنْ أَجْلِ ذِكْرِ اللَّهِ، وَمَعْنَى الِابْتِدَاءِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ، أَيْ قَسَتْ قُلُوبُهُمُ ابْتِدَاءً مِنْ سَمَاعِ ذِكْرِ اللَّهِ. وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ اللَّهِ الْقُرْآنُ وَإِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ زِيَادَةُ تَشْرِيفٍ لَهُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ إِذَا تُلِيَتْ آيَةٌ اشْمَأَزُّوا فَتَمَكَّنَ الِاشْمِئْزَازُ مِنْهُمْ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ.
وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ كُفْرَهُمْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى كَرَاهِيَةِ مَا يَسْمَعُونَهُ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِالْقُرْآنِ فَكُلَّمَا سَمِعُوهُ أَعْرَضُوا وَعَانَدُوا وَتَجَدَّدَتْ كَرَاهِيَةُ الْإِسْلَامِ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى تُرَسَّخَ تِلْكَ الْكَرَاهِيَةُ فِي قُلُوبِهِمْ فَتَصِيرَ قُلُوبُهُمْ قَاسِيَةً.
فَكَانَ الْقُرْآنُ أَنْ سَبَّبَ اطْمِئْنَانَ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْد: ٢٨]. وَكَانَ سَبَبًا فِي قَسَاوَةِ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ. وَسَبَبُ ذَلِكَ اخْتِلَافُ الْقَابِلِيَّةِ فَإِنَّ السَّبَبَ الْوَاحِدَ تَخْتَلِفُ آثَارُهُ وَأَفْعَالُهُ بِاخْتِلَافِ الْقَابِلِيَّةِ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ خَصَائِصُ الْأَشْيَاءِ بِاعْتِبَارِ غَالِبِ آثَارِهَا فِي غَالِبِ الْمُتَأَثِّرَاتِ، فَذِكْرُ اللَّهِ سَبَبٌ فِي لِينِ الْقُلُوبِ وَإِشْرَاقِهَا إِذَا كَانَتِ الْقُلُوبُ سَلِيمَةً مِنْ مَرِضِ الْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ وَالْكِبْرِ، فَإِذَا حَلَّ فِيهَا هَذَا الْمَرَضُ صَارَتْ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ عِنْدَهَا أَشَدَّ مَرَضًا مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ.
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْحُكْمِ بِأَنَّ قَسَاوَةَ قُلُوبِهِمْ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُذْكَرَ اللَّهُ عِنْدَهُمْ يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَتَسَاءَلَ: كَيْفَ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ سَبَبَ قَسَاوَةِ قُلُوبِهِمْ؟ فَأُفِيدَ بِأَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ هُوَ أَنَّهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنَ الضَّلَالَةِ مُنْغَمِسُونَ فِي حَمْأَتِهَا فَكَانَ ضَلَالُهُمْ أَشَدَّ مِنْ أَنْ يَتَقَشَّعَ حِينَ يَسْمَعُونَ ذِكْرَ اللَّهِ.
وَافْتِتَاحُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ عَقِبَ مَا وُصِفُوا بِهِ مِنْ قَسَاوَةِ الْقُلُوبِ لِإِفَادَةِ أَنَّ مَا سَيُذْكَرُ مِنْ حَالِهِمْ بَعْدَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِمْ صَارُوا بِهِ أَحْرِيَاءَ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥]، فَكَانَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ:
أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَهُوَ الضَّلَالُ الشَّدِيدُ عِلَّةً لِقَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ
وَ (انْظُرُونا) بِهَمْزَةِ وَصْلٍ مَضْمُومًا، مِنْ نَظَرَهُ، إِذَا انْتَظَرَهُ مِثْلَ نَظَرَ، إِذَا أَبْصَرَ، إِلَّا أَنَّ نَظَرَ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ، وَنَظَرَ بِمَعْنَى أَبْصَرَ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ (إِلَى) قَالَ
تَعَالَى: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها [الْبَقَرَة: ٢٥٩].
والانتظار: التَّرَيُّثُ بِفِعْلٍ مَا، أَيْ تَرَيَّثُوا فِي سَيْرِكُمْ حَتَّى نَلْحَقَ بِكُمْ فَنَسْتَضِيءَ بِالَّنُورِ الَّذِي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَبِجَانِبِكُمْ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ يَأْذَنُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْأَوَّلِينَ بِالسَّيْرِ إِلَى الْجَنَّةِ فَوْجًا، وَيَجْعَلُ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَدِينَةِ سَائِرِينَ وَرَاءَهُمْ كَمَا
وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ «وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا»
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَسِيرُونَ فِي ظُلُمَاتٍ فَيَسْأَلُ الْمُنَافِقُونَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَنْتَظِرُوهُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ انْظُرُونا بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَضَمِّ الظَّاءِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَحْدَهُ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَكَسْرِ الظَّاءِ، مِنْ أَنْظَرَهُ، إِذَا أَمْهَلَهُ، أَيْ أَمْهِلُونَا حَتَّى نَلْحَقَ بِكُمْ وَلَا تُعَجِّلُوا السَّيْرَ فَيَنْأَى نُورُكُمْ عَنَّا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ بُعْدَهُمْ عَنْهُمْ مِنْ جَرَّاءِ السُّرْعَةِ.
وَالْاقْتِبَاسُ حَقِيقَتُهُ: أَخْذُ الْقَبَسِ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ الجذوة من الْحمر. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَمَجِيءُ فَعَلْتُ وَافْتَعَلْتُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِمْ: شَوَيْتُ وَاشْتَوَيْتُ، وَحَقَرْتُ وَاحْتَقَرْتُ. قُلْتَ: وَكَذَلِكَ حَفَرْتُ وَاحْتَفَرْتُ، فَيَجُوزُ أَنْ يكون إِطْلَاق تقتبس هُنَا حَقِيقَةً بِأَنْ يَكُونُوا ظَنُّوا أَنَّ النُّورَ الَّذِي كَانَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ نُورُ شُعْلَةٍ وَحَسِبُوا أَنَّهُمْ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَأْخُذُوا قَبَسًا مِنْهُ يُلْقَى ذَلِكَ فِي ظَنِّهِمْ لِتَكُونَ خَيْبَتُهُمْ أَشَدَّ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَارَ الِاقْتِبَاسُ لِانْتِفَاعِ أَحَدٍ بِضَوْءِ آخَرَ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الِاقْتِبَاسَ فِي الِانْتِفَاعِ بِالضَّوْءِ بِدُونِ عِلَاجٍ فَمَعْنَى نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ نُصِبْ مِنْهُ ونلتحق بِهِ فنستبر بِهِ.
وَيَظْهَرُ مِنْ إِسْنَادِ قِيلَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَنَّ قَائِلَهُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخَاطَبِينَ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ السَّائِقِينَ لِلْمُنَافِقِينَ.
وَتَكُونُ مَقَالَةُ الْمَلَائِكَةُ لِلْمُنَافِقِينَ تَهَكُّمًا إِذْ لَا نُورَ وَرَاءَهُمْ وَإِنَّمَا أَرَادُوا إِطْمَاعَهُمْ
وَ (التفجيرُ) : فَتْحُ الْأَرْضِ عَنِ الْمَاءِ أَيِ اسْتِنْبَاطُ الْمَاءِ الْغَزِيرِ وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الِاسْتِقَاءِ مِنْهَا بِلَا حَدٍّ وَلَا نُضُوبٍ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يَفْجُرُ لِنَفْسِهِ يَنْبُوعًا وَهَذَا مِنْ الِاسْتِعَارَةِ.
وَأُكِّدَ فِعْلُ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ترشيحا للاستعارة.
[٧]
[سُورَة الْإِنْسَان (٧٦) : آيَة ٧]
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧)
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ [الْإِنْسَان: ٥] إِلَخْ وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ [الْإِنْسَان: ١٥] إِلَخْ. وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ هُوَ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مِنْ شَأْنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ أَنْ يثيره فِي نَفسه السَّامِعِ الْمُغْتَبِطِ بِأَنْ يَنَالَ مِثْلَ مَا نَالُوا مِنَ النَّعِيمِ وَالْكَرَامَةِ فِي الْآخِرَةِ. فَيَهْتَمُّ بِأَن يفعل مثل مَا فَعَلُوا، فَذَكَرَ بَعْضَ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ آثَارِ الْإِيمَانِ مَعَ التَّعْرِيضِ لَهُمْ بِالِاسْتِزَادَةِ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا.
وَالْكَلَامُ إِخْبَارٌ عَنْهُمْ صَادِرٌ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ، بَعْضُهُ وَصْفٌ لِحَالِهِمْ فِي
الْآخِرَةِ وَبَعْضُهُ وَصْفٌ لِبَعْضِ حَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا الْمُوجِبِ لِنَوَالِ مَا نَالُوهُ فِي الْآخِرَةِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ: إِنَّ فِي الْكَلَامِ إِضْمَارًا وَتَقْدِيرُهُ: كَانُوا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ.
وَلَيْسَتِ الْجُمْلَةُ حَالًا من الْأَبْرارَ [الْإِنْسَان: ٥] وَضَمِيرِهِمْ لِأَنَّ الْحَالَ قَيْدٌ لِعَامِلِهَا فَلَوْ جُعِلَتْ حَالًا لَكَانَتْ قَيْدًا ل يَشْرَبُونَ [الْإِنْسَان: ٥]، وَلَيْسَ وَفَاؤُهُمْ بِالنَّذْرِ بِحَاصِلٍ فِي وَقْتِ شُرْبِهِمْ مِنْ خَمْرِ الْجَنَّةِ بَلْ هُوَ بِمَا أَسْلَفُوهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
وَالْوَفَاءُ: أَدَاءُ مَا وَجَبَ عَلَى الْمُؤَدِّي وَافِيًا دُونَ نَقْصٍ وَلَا تَقْصِيرٍ فِيهِ.
وَالنَّذْرُ: مَا يَعْتَزِمُهُ الْمَرْءُ وَيَعْقِدُ عَلَيْهِ نِيَّتَهُ، قَالَ عَنْتَرَةُ:
وَالنَّاذِرَيْنِ إِذَا لَمْ أَلْقَهُمَا دَمِي وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا عَقَدُوا عَلَيْهِ عَزْمَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالِامْتِثَالِ وَهُوَ مَا اسْتَحَقُّوا بِهِ صفة الْأَبْرارَ [الْإِنْسَان: ٥].
وَيَجُوزُ أَن يُرَاد بِالنَّذْرِ مَا يُنْذِرُونَهُ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ الْمُتَقَرَّبِ بِهِ إِلَى اللَّهِ، أَيْ يُنْشِئُونَ النُّذُورَ بِهَا لِيُوجِبُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ وَفَائِهِمْ بِمَا عَقَدُوا عَلَيْهِ ضَمَائِرَهُمْ مِنْ
وَ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: مَنْ أَعْطى إِلَخْ وَقَوْلِهِ: مَنْ بَخِلَ إِلَخْ يَعُمُّ كُلَّ مَنْ يَفْعَلُ الْإِعْطَاءَ وَيَتَّقِي وَيُصَدِّقُ بِالْحُسْنَى. وَرُوِيَ أَنَّ هَذَا نَزَلَ بِسَبَبِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اشْتَرَى بِلَالًا مِنْ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَأَعْتَقَهُ لِيُنْجِيَهُ مِنْ تَعْذِيبِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَذْكُرُ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ عِوَضَ أُمَيَّةَ بْنِ خلف، وهم وَهَمٌ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ أَبِي الدَّحْدَاحِ مَعَ رَجُلٍ مُنَافِقٍ سَتَأْتِي. وَهَذَا الْأَخير متقض أَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ وَسَبَبُ النُّزُول لَا يخصص الْعُمُومَ.
وَحُذِفَ مَفْعُولُ أَعْطى لِأَنَّ فِعْلَ الْإِعْطَاءِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ إِعْطَاءُ الْمَالِ بِدُونِ عِوَضٍ، يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِاشْتِهَارِ اسْتِعْمَالِهِ فِي إِعْطَاءِ الْمَالِ (وَلِذَلِكَ يُسَمَّى الْمَالُ الْمَوْهُوبُ عَطَاءً)، وَالْمَقْصُودُ إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ.
وَكَذَلِكَ حُذِفَ مَفْعُولُ اتَّقى لِأَنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّ الْمُقَدَّرَ اتَّقَى اللَّهَ.
وَهَذِهِ الْخِلَالُ الثَّلَاثُ مِنْ خِلَالِ الْإِيمَانِ، فَالْمَعْنَى: فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر: ٤٣- ٤٤]، أَيْ لَمْ نَكُ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ.
وَكَذَلِكَ فِعْلُ بَخِلَ لَمْ يُذَكَرْ مُتَعَلَّقُهُ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْبُخْلُ بِالْمَالِ.
واسْتَغْنى جُعِلَ مُقَابِلًا لِ اتَّقى فَالْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ وَدَعْوَتِهِ لِأَنَّ الْمُصِرَّ عَلَى الْكُفْرِ الْمُعْرِضَ عَنِ الدَّعْوَةِ يَعُدُّ نَفْسَهُ غَنِيًّا عَنِ اللَّهِ مُكْتَفِيًا بِوَلَايَةِ الْأَصْنَامِ وَقَوْمِهِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ مثل سين اسْتِحْبَاب بِمَعْنَى أَجَابَ. وَقَدْ يُرَادُ بِهِ زِيَادَةُ طَلَبِ الْغِنَى بِالْبُخْلِ بِالْمَالِ، فَتَكُونُ السِّينُ وَالتَّاءُ لِلطَّلَبِ، وَهَذِهِ الْخِلَالُ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَالْحُسْنَى: تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ فَهِيَ بِالْأَصَالَةِ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مُقَدَّرٍ، وَتَأْنِيثُهَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ مَوْصُوفَهَا الْمُقَدَّرَ يُعْتَبَرُ مُؤَنَّثَ اللَّفْظِ وَيَحْتَمِلُ أُمُورًا كَثِيرَةً مِثْلَ الْمَثُوبَةِ أَوِ النَّصْرِ أَوِ الْعِدَةِ أَوِ الْعَاقِبَةِ.
وَقَدْ يَصِيرُ هَذَا الْوَصْفُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ فَقِيلَ: الْحُسْنَى الْجَنَّةُ، وَقِيلَ: كَلِمَةُ


الصفحة التالية
Icon