الَّتِي قُرِنَ خَلْقُهَا بِخَلْقِ الْأَرْضِ. وَبَعْضُهُمْ يُفَسِّرُ السَّمَاوَاتِ بِالْأَفْلَاكِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْأَفْلَاكَ هِيَ الطُّرُقُ الَّتِي تَسْلُكُهَا الْكَوَاكِبُ السَّيَّارَةُ فِي الْفَضَاءِ (١)
، وَهِيَ خُطُوطٌ فَرْضِيَّةٌ لَا ذَوَاتَ لَهَا فِي الْخَارِجِ.
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى السَّمَاوَاتِ سَبْعًا هُنَا وَفِي غَيْرِ آيَةٍ، وَقَدْ ذَكَرَ الْعَرْشَ وَالْكُرْسِيَّ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا مُحِيطَانِ بِالسَّمَاوَاتِ وَجَعَلَ السَّمَاوَاتِ كُلَّهَا فِي مُقَابَلَةِ الْأَرْضِ وَذَلِكَ يُؤَيِّدُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عُلَمَاءُ الْهَيْئَةِ مِنْ عَدِّ الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ تِسْعَةً وَهَذِهِ أَسْمَاؤُهَا عَلَى التَّرْتِيبِ فِي بُعْدِهَا مِنَ الْأَرْضِ: نِبْتُونْ، أُورَانُوسُ، زُحَلُ، الْمُشْتَرِي، الْمِرِّيخُ، الشَّمْسُ، الزُّهَرَةُ، عُطَارِدُ، بِلْكَانُ.
وَالْأَرْضُ فِي اصْطِلَاحِهِمْ كَوْكَبٌ سَيَّارٌ، وَفِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ لَمْ تُعَدَّ مَعَهَا لِأَنَّهَا الَّتِي مِنْهَا تُنْظَرُ الْكَوَاكِبُ وَعُدَّ عِوَضًا عَنْهَا الْقَمَرُ وَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ الأَرْض فعده مَعهَا عِوَضٌ عَنْ عَدِّ الْأَرْضِ تَقْرِيبًا لِأَفْهَامِ السَّامِعِينَ.
وَأَمَّا الثَّوَابِتُ فَهِيَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْهَيْئَةِ شُمُوسٌ سَابِحَةٌ فِي شَاسِعِ الْأَبْعَادِ عَنِ الْأَرْضِ
وَفِي ذَلِكَ شُكُوكٌ. وَلَعَلَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْهَا سَمَاوَاتٍ ذَاتَ نِظَامٍ كَنِظَامِ السَّيَّارَاتِ السَّبْعِ فَلَمْ يَعُدَّهَا فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا عَدَّ لَنَا السَّمَاوَاتِ الَّتِي هِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِنِظَامِ أَرْضِنَا.
وَقَوْلُهُ: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ نَتِيجَةٌ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ دَلَائِلِ الْقُدْرَةِ الَّتِي لَا تَصْدُرُ إِلَّا مِنْ عَلِيمٍ فَلِذَلِكَ قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ، إِنَّ الْقُدْرَةَ يَجْرِي تَعَلُّقُهَا عَلَى وَفْقِ الْإِرَادَةِ، وَالْإِرَادَةُ عَلَى وَفْقِ الْعِلْمِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْإِنْكَارِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَالتَّعْجِيبِ مِنْهُ فَإِنَّ الْعَلِيمَ بِكُلِّ شَيْءٍ يُقَبِّحُ الْكُفْرَ بِهِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى عُمُومِ الْعِلْمِ وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ جَمِيعُ الْمِلِّيِّينَ كَمَا نَقَلَهُ الْمُحَقِّقُ السَّلَكُوتِيُّ فِي «الرِّسَالَةِ الْخَاقَانِيَّةِ» وَأَنْكَرَ الفلاسفة علمه بالجزئيات وَزَعَمُوا أَنَّ تعلق الْعلم بالجزئيات لَا يَلِيقُ بِالْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَهُوَ تَوَهُّمٌ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ.
_________
(١) إِن عُلَمَاء الْهَيْئَة يقسمون الأجرام العلوية أقساما: الأول الشموس وَهِي شمس عالمنا هَذَا وهنالك شموس أُخْرَى يعبر عَنْهَا بالثوابت وَهِي لبعدها الشاسع عَنَّا لم يَتَيَسَّر ضبط سَيرهَا ويعبر عَن كل شمس بِأَنَّهُ الجرم المركزي لِأَنَّهُ تتبعه سيارات تَدور حوله. الثَّانِي السيارات وَهِي الْكَوَاكِب الَّتِي تَدور حول الشَّمْس وتستمد نورها من نور الشَّمْس وَهِي: نبتون أورانوس. زحل. المُشْتَرِي.
المريخ. الأَرْض. الزهرة. عُطَارِد. الثَّالِث: نجيمات وَهِي سيارات صَغِيرَة وَاقعَة بَين فلكي المريخ وَالْمُشْتَرِي. الرَّابِعَة: الأقمار وَهِي تَوَابِع للسيارات تَدور حول وَاحِد من السيارات وَهِي وَاحِد تَابع للْأَرْض وَأَرْبَعَة للْمُشْتَرِي وَثَمَانِية لزحل وَأَرْبَعَة لأورانوس وَوَاحِد لنبتون. ويعبر عَن هَذَا الْمَجْمُوع بالنظام الشمسي لِأَن جَمِيع حركاته مرتبطة بحركة الشَّمْس.
وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ دَلِيلُ الْجَوَابِ، أَيْ فَحِنْثُهُمْ فِي يَمِينِ الْإِيلَاءِ مَغْفُورٌ لَهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْإِيلَاءَ حَرَامٌ، لِأَنَّ شَأْنَ إِيلَائِهِمْ الْوَارِدَ فِيهِ
الْقُرْآنُ، قَصْدُ الْإِضْرَارِ بِالْمَرْأَةِ. وَقَدْ يَكُونُ الْإِيلَاءُ مُبَاحًا إِذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْإِضْرَارُ وَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ كَالَّذِي يَكُونُ لِقَصْدِ التَّأْدِيبِ، أَوْ لِقَصْدٍ آخَرَ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا، غَيْرِ قَصْدِ الْإِضْرَارِ الْمَذْمُومِ شَرْعًا. وَقَدْ آلَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، قِيلَ: لِمَرَضٍ كَانَ بِرِجْلِهِ، وَقِيلَ: لِأَجْلِ تَأْدِيبِهِنَّ لِأَنَّهُنَّ قَدْ لَقِينَ مِنْ سِعَةِ حِلْمِهِ وَرِفْقِهِ مَا حدا ببعضهن إِلَى الْإِفْرَاطِ فِي الْإِدْلَالِ، وَحَمَلَ الْبَقِيَّةَ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِالْأُخْرَيَاتِ، أَوْ عَلَى اسْتِحْسَانِ ذَلِكَ. وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ بِبَوَاطِنِ الْأُمُورِ.
وَأَمَّا جَوَازُ الْإِيلَاءِ لِلْمَصْلَحَةِ كَالْخَوْفِ عَلَى الْوَلَدِ مِنَ الْغَيْلِ، وَكَالْحِمْيَةِ مِنْ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَإِبَاحَتُهُ حَاصِلَةٌ مِنْ أَدِلَّةِ الْمَصْلَحَةِ وَنَفْيِ الْمَضَرَّةِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْحَلِفِ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ، لِمَا فِيهِمْ مِنْ ضَعْفِ الْعَزْمِ وَاتِّهَامِ أَنْفُسِهِمْ بِالْفَلْتَةِ فِي الْأَمْرِ، إِنْ لَمْ يُقَيِّدُوهَا بِالْحَلِفِ.
وَعَزْمُ الطَّلَاقِ: التَّصْمِيمُ عَلَيْهِ، وَاسْتِقْرَارُ الرَّأْيِ فِيهِ بَعْدَ التَّأَمُّلِ وَهُوَ شَيْءٌ لَا يَحْصُلُ لِكُلِّ مُوَّلٍ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ غَالِبُ الْقَصْدِ مِنِ الْإِيلَاءِ الْمُغَاضَبَةَ وَالْمُضَارَّةَ، فَقَوْلُهُ: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ دَلِيلٌ عَلَى شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله: فَإِنْ فاؤُ فَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ لَمْ يَفِيئُوا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الطَّلَاقُ، فَهُمْ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَفِيئُوا أَوْ يُطَلِّقُوا فَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَقَدْ وَقَعَ طَلَاقُهُمْ.
وَقَوْلُهُ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ دَلِيلُ الْجَوَابِ، أَيْ فَقَدْ لَزِمَهُمْ وَأَمْضَى طَلَاقَهُمْ، فَقَدْ حَدَّ اللَّهُ لِلرِّجَالِ فِي الْإِيلَاءِ أَجَلًا مَحْدُودًا، لَا يَتَجَاوَزُونَهُ، فَإِمَّا أَنْ يَعُودُوا إِلَى مُضَاجَعَةِ أَزْوَاجِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يطلقوا، وَلَا نمدوحة لَهُمْ غَيْرُ هَذَيْنِ.
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِلْمُوَلِّي أَجَلًا وَغَايَةً، أَمَّا الْأَجَلُ فَاتَّفَقَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَالِفِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِإِيلَاءٍ، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَحَمَّادٍ يَقُولُ: هُوَ إِيلَاءٌ، وَلَا ثَمَرَةَ لِهَذَا الْخِلَافِ فِيمَا يَظْهَرُ، إِلَّا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَلِفِ بِقَصْدِ الضُّرِّ مِنْ تَأْدِيبِ الْقَاضِي إِيَّاهُ إِذَا رَفَعَتْ زَوْجُهُ أَمْرَهَا إِلَى الْقَاضِي وَمِنْ أَمْرِهِ إِيَّاهُ بِالْفَيْئَةِ.
الَّذِي هُوَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ، أَيْ أَمْرُ بَيْنِكُمْ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِاسْتِعْمَالُ مِنْ قَبِيلِ الضَّمِيرِ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ مُعَادُهُ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا مِنَ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: ٣٢]، لَكِنَّ هَذَا لَا يُعْهَدُ فِي الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ لِأَنَّ الضَّمِيرَ الْمُسْتَتِرَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْكَلَامِ وَإِنَّمَا دَعَا إِلَى تَقْدِيرِهِ وُجُودُ مُعَادِهِ الدَّالِّ عَلَيْهِ. فَأَمَّا وَالْكَلَامُ خَلِيٌّ عَنْ مُعَادٍ وَعَنْ لَفْظِ الضَّمِيرِ فَالْمُتَعَيَّنُ أَنْ نَجْعَلَهُ مِنْ حَذْفِ الْفَاعِلِ كَمَا قَرَّرْتُهُ لَكَ ابْتِدَاءً، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ تَوارَتْ بِالْحِجابِ لَيْسَ فِيهِ لَفْظُ ضَمِيرٍ إِذِ التَّاءُ عَلَامَةٌ لِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى مُؤَنَّثٍ لِأَنَّا نَقُولُ: التَّحْقِيقُ أَنَّ التَّاءَ فِي الْفِعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَى الضَّمِيرِ هِيَ الْفَاعِلُ.
وَعَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ جَعَلَ بَيْنَكُمْ فَاعِلًا، أَيْ أُخْرِجَ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ وَجُعِلَ اسْمًا لِلْمَكَانِ الَّذِي يجْتَمع فِيهِ مَا صدق الضَّمِيرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ اسْمُ الْمَكَانِ، أَيِ انْفَصَلَ الْمَكَانُ الَّذِي كَانَ مَحَلَّ اتِّصَالِكُمْ فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنِ انْفِصَالِ أَصْحَابِ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ مَحَلَّ اجْتِمَاعٍ.
وَالْمَكَانِيَّةُ هُنَا مَجَازِيَّةٌ مِثْلُ لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات: ١].
وَقَوْلُهُ: وَضَلَّ عَنْكُمْ عَطْفٌ عَلَى تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَهُوَ مِنْ تَمَامِ التَّهَكُّمِ وَالتَّأْيِيسِ.
وَمَعْنَى ضَلَّ: ضِدُّ اهْتَدَى، أَيْ جَهِلَ شُفَعَاؤُكُمْ مَكَانَكُمْ لَمَّا تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ فَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَيْكُمْ لِيَشْفَعُوا لَكُمْ. و (مَا) مَوْصُولَة مَا صدقهَا الشُّفَعَاءُ لِاتِّحَادِ صِلَتِهَا وَصِلَةِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ، أَيِ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزَعُمُونَهُمْ شُرَكَاءَ، فَحَذَفَ مَفْعُولَا الزَّعْمِ لِدَلَالَةِ نَظِيرِهِ عَلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ: زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ، وَعَبَّرَ عَنِ الْآلِهَةِ بِ (مَا) الْغَالِبَةِ فِي غَيْرِ الْعَاقِلِ لِظُهُورِ عَدَمِ جَدْوَاهَا، وَفَسَّرَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ ضَلَّ بِمَعْنَى غَابَ وَتَلِفَ وَذَهَبَ،
وَجَعَلُوا (مَا) مَصْدَرِيَّةً، أَيْ ذَهَبَ زَعْمُكُمْ أَنَّهَا تَشْفَعُ لَكُمْ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أبلغ وأوقع.
أَيْ بِوَجْهٍ قُسِّمَ الْحُسْنُ عَلَى أَجْزَائِهِ أَقْسَامًا.
فَمَعَانِيهُ مُتَشَابِهَةٌ فِي صِحَّتِهَا وَأَحْكَامِهَا وَابْتِنَائِهَا عَلَى الْحَقِّ وَالصِّدْقِ وَمُصَادَفَةِ الْمَحَزِّ مِنَ الْحُجَّةِ وَتَبْكِيتِ الْخُصُومِ وَكَوْنِهَا صَلَاحًا لِلنَّاسِ وَهُدًى. وَأَلْفَاظُهُ مُتَمَاثِلَةُ فِي الشَّرَفِ وَالْفَصَاحَةِ وَالْإِصَابَةِ لِلْأَغْرَاضِ مِنَ الْمَعَانِي بِحَيْثُ تَبْلُغُ أَلْفَاظُهُ وَمَعَانِيهُ أَقْصَى مَا تَحْتَمِلُهُ أَشْرَفُ لُغَةٍ لِلْبَشَرِ وَهِيَ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ مُفْرَدَاتٍ وَنَظْمًا، وَبِذَلِكَ كَانَ مُعْجِزًا لكل بليغ عَن أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ، وَفِي هَذَا
إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ جَمِيعَ آيَاتِ الْقُرْآنِ بَالِغٌ الطَّرَفَ الْأَعْلَى مِنَ الْبَلَاغَةِ وَأَنَّهَا مُتَسَاوِيَةٌ فِي ذَلِكَ بِحَسْبِ مَا يَقْتَضِيهِ حَالُ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا، وَأَمَّا تَفَاوُتُهَا فِي كَثْرَةِ الْخُصُوصِيَّاتِ وَقِلَّتِهَا فَذَلِكَ تَابِعٌ لِاخْتِلَافِ الْمَقَامَاتِ وَمُقْتَضَيَاتِ الْأَحْوَالِ، فَإِنَّ بَلَاغَةَ الْكَلَامِ مُطَابَقَتُهُ لِمُقْتَضَى الْحَالِ، وَالطَّرَفِ الْأَعْلَى مِنَ الْبَلَاغَةِ هُوَ مُطَابَقَةُ الْكَلَامِ لِجَمِيعِ مَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ، فَآيَاتُ الْقُرْآنِ مُتَمَاثِلَةُ مُتَشَابِهَةُ فِي الْحُسْنِ لَدَى أَهْلِ الذَّوْقِ مِنَ الْبُلَغَاءِ بِالسَّلِيقَةِ أَوْ بِالْعِلْمِ وَهُوَ فِي هَذَا مُخَالِفٌ لِغَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ تَفَاوُتٍ رُبَّمَا بَلَغَ بَعْضُهُ مُبْلَغَ أَنْ لَا يُشْبِهَ بَقِيَّتَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاء: ٨٢]، فَالْكَاتِبُ الْبَلِيغُ وَالشَّاعِرُ الْمُجِيدُ لَا يَخْلُو كَلَامُ أَحَدٍ مِنْهُمَا مِنْ ضَعْفٍ فِي بَعْضِهِ، وَأَيْضًا لَا تَتَشَابَهُ أَقْوَالُ أَحَدٍ مِنْهُمَا بَلْ تَجِدُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا قِطَعًا مُتَفَاوِتَةً فِي الْحُسْنِ وَالْبَلَاغَةِ وَصِحَّةِ الْمَعَانِي. وَبِمَا قَرَّرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ هَنَا مُرَادٌ بِهِ مَعْنًى غَيْرَ الْمُرَادِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمرَان: ٧] لِاخْتِلَافِ مَا فِيهِ التَّشَابُهِ.
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: كَوْنُهُ مَثَانِيَ، وَمَثَانِي: جَمْعُ مَثْنًى بِضَمِّ الْمِيمِ وَبِتَشْدِيدِ النُّونِ جَمْعًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، أَوِ اسْمُ جَمْعٍ. وَيَجُوزُ كَوْنُهُ جَمْعُ مَثْنًى بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ وَهُوَ اسْمٌ لِجَعْلِ الْمَعْدُودِ أَزْوَاجًا اثْنَيْنِ، اثْنَيْنِ، وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَى التَّكْرِيرِ. كُنِّيَ عَنْ مَعْنَى التَّكْرِيرِ بِمَادَّةِ التَّثْنِيَةِ لِأَنَّ التَّثْنِيَةَ أَوَّلُ مَرَاتِبِ التَّكْرِيرِ، كَمَا كُنِّيَ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ عَنِ التَّكْرِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الْملك: ٤]، وَقَوْلُ الْعَرَبِ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، أَيْ إِجَابَاتٌ كَثِيرَةٌ وَمُسَاعَدَاتٌ كَثِيرَةٌ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى مَثانِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي فِي سُورَةِ [الْحِجْرِ: ٨٧]، فَالْقُرْآنُ مَثَانِي لِأَنَّهُ مُكَرَّرُ الْأَغْرَاضِ.
أَنْفُسِهِمْ خَوَاطِرُ خَيْرٍ مِنْ إِيمَانٍ وَمَحَبَّةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ نَقَضُوهَا بِخَوَاطِرِ الْكُفْرِ وَالْبَغْضَاءِ، وَهَذَا مِنْ صُنْعِ أَنْفُسِهِمْ فَإِسْنَادُ الْفِتَنِ إِلَيْهِمْ إِسْنَادٌ حَقِيقِيٌّ، وَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي أَعْمَالِهِمْ مِنْ صَلَاةٍ وَصَدَقَةٍ.
وَهَذَا ينشأ عَنهُ الْكَذِبِ، وَالْخِدَاعِ، وَالْاسْتِهْزَاءِ، وَالطَّعْنِ فِي الْمُسْلِمِينَ، قَالَ تَعَالَى:
يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ [النِّسَاء: ٦٠].
الثَّانِي: التَّرَبُّصُ، وَالتَّرَبُّصُ: انْتِظَارُ شَيْءٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ [الْبَقَرَة: ٢٢٨] الْآيَةَ.
وَيَتَعَدَّى فِعْلُهُ إِلَى الْمَفْعُولِ بِنَفْسِهِ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ مَا زَادَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِالْبَاءِ. وَحَذَفَ هُنَا مَفْعُولَهُ وَمُتَعَلِّقَهُ لِيَشْمَلَ عِدَّةَ الْأُمُورِ الَّتِي يَنْتَظِرُهَا الْمُنَافِقُونَ فِي شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ كَثِيرَةٌ مَرْجِعُهَا إِلَى أَذَى الْمُسلمين وَالْإِضْرَارِ بِهِمْ فَيَتَرَبَّصُونَ هَزِيمَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْغَزَوَاتِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ، قَالَ تَعَالَى فِي بَعْضِهِمْ: وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ [التَّوْبَة: ٩٨]، وَيَتَرَبَّصُونَ انْقِسَامَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ قَالُوا لِفَرِيقٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يُنَدِّمُونَهُمْ عَلَى مَنْ قُتِلَ مِنْ قَوْمِهِمْ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا [آل عمرَان: ١٦٨].
الثَّالِثُ: الِارْتِيَابُ فِي الدِّينِ وَهُوَ الشَّكُّ فِي الِاعْتِمَادِ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَوْ عَلَى الْكَافِرِينَ وَيَنْشَأُ عَنْهُ الْقُعُودُ عَنِ الْجِهَادِ قَالَ تَعَالَى: فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [التَّوْبَة: ٤٥] وَلِذَلِكَ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآجَالِ، وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ: لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا [آل عمرَان: ١٥٦].
الرَّابِعُ: الْغُرُورُ بِالْأَمَانِيِّ، وَهِيَ جَمْعُ أُمْنِيَّةٍ وَهِيَ اسْمُ التَّمَنِّي. وَالْمُرَادُ بِهَا مَا كَانُوا يُمَنُّونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّ انْتِصَارَ الْمُؤْمِنِينَ عَرَضٌ زَائِلٌ، وَأَنَّ الْحَوَادِثَ تَجْرِي عَلَى رَغْبَتَهِمْ وَهَوَاهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المُنَافِقُونَ: ٨]
وَقَوْلُهُمْ: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ [آل عمرَان: ١٦٧] وَلِذَلِكَ يَحْسَبُونَ أَنَّ الْعَاقِبَةَ لَهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المُنَافِقُونَ: ٧]. وَقَدْ بَيَّنْتُ الْخِصَالَ الَّتِي تَتَوَلَّدُ عَلَى النِّفَاقِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَطَبِّقْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأُصُولَ الْأَرْبَعَةَ وَأَلْحِقْ فُرُوعَ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْغَايَةِ بِ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ التَّنْدِيدُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَرْعَوُوا عَنْ
الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ فَعَلَ اللَّازِمِ لِأَنَّ فِعْلَ الشُّكْرِ لَا يَتَعَدَّى لِلْمَشْكُورِ بِنَفْسِهِ غَالِبًا بَلْ بِاللَّامِ يُقَالُ:
شَكَرْتُ لَكَ قَالَ تَعَالَى: وَاشْكُرُوا لِي [الْبَقَرَة: ١٥٢].
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَهُوَ مَقُولٌ لِقَوْلٍ يَقُولُونَهُ فِي نُفُوسِهِمْ أَوْ يَنْطِقُ بِهِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ وَهُوَ حَالٌ مِنْ ضمير يَخافُونَ [الْإِنْسَان: ٧] أَيْ يَخَافُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ فِي نُفُوسِهِمْ قَائِلِينَ: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً، فَحُكِيَ وَقَوْلُهُمْ: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ وَقَوْلُهُمْ: إِنَّا نَخافُ إِلَخْ. عَلَى طَرِيقَةِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمَعْكُوسِ وَالدَّاعِي إِلَى عَكْسِ النَّشْرِ مُرَاعَاةُ حُسِنِ تَنْسِيقِ النَّظْمِ لِيَكُونَ الِانْتِقَالُ مَنْ ذِكْرِ الْإِطْعَامِ إِلَى مَا يَقُولُونَهُ لِلْمُطْعَمِينَ، وَالِانْتِقَالُ مِنْ ذِكْرِ خَوْفِ يَوْمِ الْحِسَابِ إِلَى بِشَارَتِهِمْ بِوِقَايَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مِنْ شَرِّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَا يَلْقَوْنَهُ فِيهِ مِنَ النَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ وَالنَّعِيمِ.
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَبِّنا ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا وَحَرْفُ مِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ وَهُوَ حَالٌ مِنْ يَوْماً قُدِّمَ عَلَيْهِ، أَيْ نَخَافُ يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا حَالَ كَوْنِهِ مِنْ أَيَّامِ رَبِّنَا، أَيْ مِنْ أَيَّامِ تَصَارِيفِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَجْرِيدِيَّةً كَقَوْلِكَ: لِي مِنْ فُلَانٍ صَدِيقٌ حَمِيمٌ. وَيَكُونُ يَوْماً مَنْصُوبًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَتَنْوِينُهُ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ نَخَافُهُ فِي يَوْمٍ شَدِيدٍ.
وعَبُوساً: مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ لِفِعْلِ نَخافُ، أَيْ نَخَافُ غَضْبَانَ شَدِيدَ الْغَضَبِ هُوَ رَبُّنَا، فَيَكُونُ فِي التَّجْرِيدِ تَقْوِيَةٌ لِلْخَوْفِ إِذْ هُوَ كَخَوْفٍ مِنْ شَيْئَيْنِ (وَتِلْكَ نُكْتَةُ التَّجْرِيدِ)، أَوْ يَكُونُ عَبُوساً حَالًا مِنْ رَبِّنا.
وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ مِنْ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ نَخافُ كَمَا عُدِّيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً [الْبَقَرَة: ١٨٢]. وَيَنْتَصِبُ يَوْماً عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِفِعْلِ نَخافُ فَصَارَ لِفِعْلِ نَخافُ مَعْمُولَانِ. وعَبُوساً صِفَةٌ لِ يَوْماً، وَالْمَعْنَى: نَخَافُ عَذَابَ يَوْمٍ هَذِهِ صِفَتُهُ، فَفِيهِ تَأْكِيدُ الْخَوْفِ بِتَكْرِيرِ مُتَعَلِّقِهِ وَمَرْجِعُ التَّكْرِيرِ إِلَى كَوْنِهِ خَوْفَ اللَّهِ لِأَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَدْلِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ.
وَالْعَبُوسُ: صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ لِمَنْ هُوَ شَدِيدُ الْعَبْسِ، أَيْ كُلُوحُ الْوَجْهِ وَعَدَمُ انْطِلَاقِهِ، وَوَصْفُ الْيَوْمِ بِالْعَبُوسِ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِعَارَةِ. شُبِّهَ الْيَوْمُ الَّذِي تَحْدُثُ فِيهِ حَوَادِثُ تَسُوءُهُمْ بِرَجُلٍ يُخَالِطُهُمْ يَكُونُ شَرِسَ الْأَخْلَاقِ عَبُوسًا فِي مُعَامَلَتِهِ.
وَالْقَمْطَرِيرُ: الشَّدِيدُ الصَّعْبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْقَمْطَرِيرُ الْمُقْبِضُ
فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إِثْبَاتُ أَن من شؤون اللَّهِ تَعَالَى تَيَسُّرًا لِلْعَبْدِ أَنْ يَعْمَلَ بِعَمَلِ السَّعَادَةِ أَوْ عَمَلِ الشَّقَاءِ سَوَاءٌ كَانَ عَمَلُهُ أَصْلًا لِلسَّعَادَةِ كَالْإِيمَانِ أَوْ لِلشَّقَاوَةِ كَالْكُفْرِ، أم كَانَ للْعَمَل مِمَّا يَزِيدُ السَّعَادَةَ وَيَنْقُصُ مِنَ الشَّقَاوَةِ وَذَلِكَ بِمِقْدَارِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا لِأَنَّ ثُبُوتَ أَحَدِ مَعْنَيَيِ التَّيْسِيرِ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ جِنْسِهِ فَيَصْلُحُ دَلِيلًا لِثُبُوتِ التَّيْسِيرِ مِنْ أَصْلِهِ.
أَوْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْ سَوْقِ الْآيَةِ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى قَوْلِهِ: «اعْمَلُوا» لِأَنَّ الْآيَةَ ذَكَرَتْ عَمَلًا وَذَكَرَتْ تَيْسِيرًا لِلْيُسْرَى وَتَيْسِيرًا لِلْعُسْرَى، فَيَكُونُ الْحَدِيثُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْعَمَلَ هُوَ عَلَامَةُ التَّيْسِيرِ وَتَكُونُ الْيُسْرَى مَعْنِيًّا بِهَا السَّعَادَةُ وَالْعُسْرَى مَعْنِيًّا بهَا الشقاوة، وَمَا صدق السَّعَادَةِ الْفَوْز بِالْجنَّةِ، وَمَا صدق الشَّقَاوَةِ الْهُوِيُّ فِي النَّارِ.
وَإِذْ كَانَ الْوَعْدُ بِتَيْسِيرِ الْيُسْرَى لِصَاحِبِ تِلْكَ الصِّلَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَعْمَالِ الْإِعْطَاءِ وَالتَّقْوَى وَالتَّصْدِيقِ بِالْحُسْنَى كَانَ سُلُوكُ طَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ التَّيْسِيرُ فَتَعَيَّنَ أَنَّ التَّيْسِيرَ مُسَبَّبٌ عَنْ تِلْكَ الصِّلَاتِ، أَيْ جَزَاءٌ عَنْ فِعْلِهَا: فَالْمُتَيَسِّرُ: تَيْسِيرُ الدَّوَامِ عَلَيْهَا، وَتَكُونُ الْيُسْرَى صِفَةً لِلْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ.
وَالْأَصْلُ: مُسْتَيْسِرٌ لَهُ أَعْمَالُهُ، وَعُدِلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى وَصْفِ الْيُسْرَى لِلثَّنَاءِ عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ بِأَنَّهَا مُيَسَّرَةٌ مِنَ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى فِي سُورَةِ الْأَعْلَى [٨].
وَخُلَاصَةُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ بَيَانٌ لِلْفَرْقِ بَيْنَ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ بِأَعْمَالِ عِبَادِهِ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهَا، وَبَيْنَ تَعَلُّقِ خِطَابِهِ إِيَّاهُمْ بِشَرَائِعِهِ، وَأَنَّ مَا يَصْدُرُ عَنِ النَّاسِ مِنْ أَعْمَالٍ ظَاهِرَةٍ وَبَاطِنَةٍ إِلَى خَاتِمَةِ كُلِّ أَحَدٍ وَمُوَافَاتِهِ هُوَ عُنْوَانٌ لِلنَّاسِ عَلَى مَا كَانَ قَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ، وَيَلْتَقِي الْمَهْيَعَانِ فِي أَنَّ الْعَمَلَ هُوَ وَسِيلَةُ الْحُصُولِ عَلَى الْجَنَّةِ أَوِ الْوُقُوعِ فِي جَهَنَّمَ.
وَإِنَّمَا خُصَّ الْإِعْطَاءُ بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى مَعَ شُمُولِ اتَّقى لِمُفَادِهِ، وَخُصَّ الْبُخْلُ بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى مَعَ شُمُولِ اسْتَغْنى لَهُ، لِتَحْرِيضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْإِعْطَاءِ، فَالْإِعْطَاءُ وَالتَّقْوَى شِعَارُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ التَّصْدِيقِ بِالْحُسْنَى وَضِدُّ الثَّلَاثَةِ مِنْ شِعَارِ الْمُشْرِكِينَ.