ضِدُّ الْجَبَلِ، وَزِيَادَةُ الْهَاء على مِثْلِهِ سَمَاعِيٌّ لِأَنَّهَا لَا تُؤْذِنُ بِمَعْنًى، غَيْرِ تَأْكِيدِ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْجَمَاعَةِ.
وَضَمِيرُ بُعُولَتُهُنَّ، عَائِدٌ إِلَى (الْمُطَلَّقَاتِ) قَبْلَهُ، وَهُنَّ الْمُطَلَّقَاتُ الرَّجْعِيَّاتُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَقَدْ سَمَّاهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى مُطَلَّقَاتٍ لِأَنَّ أَزْوَاجَهُنَّ أَنْشَئُوا طَلَاقَهُنَّ، وَأَطْلَقَ اسْمَ الْبُعُولَةِ عَلَى الْمُطَلِّقِينَ، فَاقْتَضَى ظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ أَزْوَاجٌ لِلْمُطَلَّقَاتِ، إِلَّا أَنَّ صُدُورَ الطَّلَاقِ مِنْهُمْ إِنْشَاءٌ لِفَكِّ الْعِصْمَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ مُدَّةَ الْعِدَّةِ تَوْسِعَةً عَلَى الْمُطَلِّقِينَ، عَسَى أَنْ تَحْدُثَ لَهُمْ نَدَامَةٌ وَرَغْبَةٌ فِي مُرَاجَعَةِ أَزْوَاجِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [الطَّلَاق: ١]، أَيْ أَمْرَ الْمُرَاجَعَةِ، وَذَلِكَ شَبِيهٌ بِمَا أَجْرَتْهُ الشَّرِيعَةُ فِي الْإِيلَاءِ، فَلِلْمُطَلِّقِينَ بِحَسَبِ هَذِهِ الْحَالَةِ حَالَةُ وَسَطٍ بَيْنِ حَالَةِ الْأَزْوَاجِ وَحَالَةِ الْأَجَانِبِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ
هَذِهِ الْحَالَةِ الْوَسَطِ أَوْقَعَ عَلَيْهِمُ اسْمَ الْبُعُولَةِ هُنَا، وَهُوَ مَجَازٌ قَرِينَتُهُ وَاضِحَةٌ، وَعِلَاقَتُهُ اعْتِبَارُ مَا كَانَ، مِثْلُ إِطْلَاقِ الْيَتَامَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٢].
وَقَدْ حَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الْمَجَازِ فَإِنَّهُمُ اعْتَبَرُوا الْمُطَلَّقَةَ طَلَاقًا رَجْعِيًّا امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً عَنِ الْمُطَلِّقِ بِحَسَبِ الطَّلَاقِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ لِلْمُطَلِّقِ حَقُّ الْمُرَاجَعَةِ، مَا دَامَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْعِدَّةِ، وَلَوْ بِدُونِ رِضَاهَا، وَجَبَ إِعْمَالُ مُقْتَضَى الْحَالَتَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. قَالَ مَالِكٌ: «لَا يَجُوزُ لِلْمُطَلِّقِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمُطَلَّقَتِهِ الرَّجْعِيَّةِ، وَلَا أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا بِدُونِ إِذْنٍ، وَلَوْ وَطِئَهَا بِدُونِ قَصْدِ مُرَاجَعَةٍ أَثِمَ، وَلَكِنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ، وَوَجَبَ اسْتِبْرَاؤُهَا مِنَ الْمَاءِ الْفَاسِدِ، وَلَوْ كَانَتْ رَابِعَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ تَزَوُّجُ امْرَأَةٍ أُخْرَى، مَا دَامَت تِلْكَ فِي الْعِدَّةُ».
وَإِنَّمَا وَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ لِانْتِظَارِ مُرَاجَعَتِهِ، وَيُشْكِلُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّ عُثْمَانَ قَضَى لَهَا بِالْمِيرَاثِ إِذَا مَاتَ مُطَلِّقُهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ قَضَى بِذَلِكَ فِي امْرَأَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، بِمُوَافَقَةِ عَلِيٍّ، رَوَاهُ فِي «الْمُوَطَّأِ»، فَيَدْفَعُ الْإِشْكَالَ بِأَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ شَرْطٌ فِي إِنْفَاذِ الطَّلَاقِ، وَإِنْفَاذُ الطَّلَاقِ مَانِعٌ مِنِ الْمِيرَاثِ، فَمَا لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ فَالطَّلَاقُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْإِعْمَالِ وَالْإِلْغَاءِ، فَصَارَ ذَلِكَ شَكًّا فِي مَانِعِ الْإِرْثِ، وَالشَّكُّ فِي الْمَانِعِ يُبْطِلُ إِعْمَالَهُ.
وَحَمَلَ أَبُو حَنِيفَةَ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ الْبُعُولَةَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَقَالَا «الزَّوْجِيَّةُ مُسْتَمِرَّةٌ بَيْنَ الْمُطَلِّقِ الرَّجْعِيِّ وَمُطَلَّقَتِهِ لِأَنَّ اللَّهَ سَمَّاهُمْ بُعُولَةً» وسوغا دُخُول الطَّلَاق عَلَيْهَا، وَلَوْ وَطِئَهَا فَذَلِكَ ارْتِجَاعٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ بِهِ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَنُسِبَ إِلَى
هَذَيْنِ الْمَكَانَيْنِ، أَيْ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي السَّيْرِ فِي الظُّلُمَاتِ. وَمَنْ يَنْفِي الْإِضَافَةَ عَلَى مَعْنَى (فِي) يَجْعَلُهَا إِضَافَةً عَلَى مَعْنَى اللَّامِ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ كَمَا فِي «كَوْكَبِ الْخَرْقَاءِ» (١). وَالْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، إِمَّا مَجَازٌ لُغَوِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُشَابَهَةِ، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ «الْمِفْتَاحِ» فِي مَبْحَثِ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ إِذْ جَعَلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ [هود: ٤٤] إِضَافَةَ الْمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ تَشْبِيهًا لِاتِّصَالِ الْمَاءِ بِالْأَرْضِ بِاتِّصَالِ الْملك بالمالك اهـ. فَاسْتَعْمَلَ فِيهِ الْإِضَافَةَ الَّتِي هِيَ عَلَى مَعْنَى لَامِ الْمِلْكِ فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ وَإِمَّا مَجَازٌ عَقْلِيٌّ على رَأْي التفتازانيّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِذْ قَالَ فِي «كَوْكَبِ الْخَرْقَاءِ» «حَقِيقَةُ الْإِضَافَةِ اللَّامِيَّةِ الِاخْتِصَاصُ الْكَامِلُ، فَالْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ تَكُونُ مَجَازًا حكميا».
ولعلّ التفتازانيّ يَرَى الِاخْتِلَافَ فِي الْمَجَازِ بِاخْتِلَافِ قُرْبِ الْإِضَافَةِ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ مِنْ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ وَبُعْدِهَا مِنْهُ كَمَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمِثَالَيْنِ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ: لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ،
يُؤْذِنُ بِالْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّهُ إِسْنَادُ الْحُكْمِ أَوْ مَعْنَاهُ إِلَى مَلَابِسٍ لِمَا هُوَ لَهُ.
وَجُمْلَةُ: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ مُسْتَأْنِفَةٌ لِلتَّسْجِيلِ وَالتَّبْلِيغِ وَقَطْعِ مَعْذِرَةِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا.
وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ مُتَعَلِّقٌ بِ فَصَّلْنَا كَقَوْلِهِ:
وَيَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعِذَارَى مَطِيَّتِي أَيْ فَصَّلْنَا لِأَجْلِ قَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
وَتَفْصِيلُ الْآيَاتِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٥٥]. وَجَعَلَ التَّفْصِيلَ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ تَعْرِيضًا بِمَنْ لَمْ يَنْتَفِعُوا مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ.
_________
(١) فِي قَول الشَّاعِر الَّذِي لم يعرف اسْمه:
إِذا كَوْكَب الخرقاء لَاحَ بسحرة | سُهَيْل أذاعت غزلها فِي القرائب |
مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ مَا يُلَاقُونَهُ مِنَ الْعَذَابِ مُسَبَّبٌ عَلَى ظُلْمِهِمْ، أَيْ شِرْكِهِمْ.
وَالْمَعْنَى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ فَلَا يَجِدُ وِقَايَةً تُنْجِيهِ مِنْ ذَوْقِ الْعَذَابِ فَيُقَالُ لَهُمْ: ذُوقُوا الْعَذَابَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يكون المُرَاد بالظالمين جَمِيعَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مِنَ الْأُمَمِ غَيْرُ خَاصٍّ بِالْمُشْرِكِينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ، فَيَكُونُ الظَّالِمِينَ إِظْهَارًا عَلَى أَصْلِهِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَعْنَى التَّذْيِيلِ، أَيْ وَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ وَأَشْبَاهِهِمْ، وَيَظْهَرُ بِذَلِكَ وَجْهُ تَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الزمر: ٢٥].
وَجَاءَ فِعْلُ وَقِيلَ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ وَهُوَ وَاقِعٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّهُ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ فِعْلٍ مَضَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ بِتَقْدِيرِ (قَدْ) وَلِذَلِكَ لَا يُحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِ صِيغَةِ الْمُضِيِّ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ الْمُحَقَّقِ وُقُوعُهُ.
وَالذَّوْقُ: مُسْتَعَارٌ لِإِحْسَاسِ ظَاهِرِ الْجَسَدِ لِأَنَّ إِحْسَاسَ الذَّوْقِ بِاللِّسَانِ أَشَدُّ مِنْ إِحْسَاسِ ظَاهِرِ الْجِلْدِ فَوَجْهُ الشَّبَهِ قُوَّةُ الْجِنْسِ.
وَالْمَذُوقُ: هُوَ الْعَذَابُ فَهُوَ جَزَاءُ مَا اكْتَسَبُوهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشِّرْكِ وَشَرَائِعِهِ، فَجُعِلَ الْمَذُوقُ نَفْسُ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مُبَالِغَةً مُشِيرَةً إِلَى أَنَّ الْجَزَاءَ وَفْقُ أَعْمَالِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَادِلٌ فِي تَعْذِيبِهِمْ.
وَأُوثِرَ تَكْسِبُونَ عَلَى (تَعْمَلُونَ) لِأَنَّ خِطَابَهُمْ كَانَ فِي حَالِ اتِّقَائِهِمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُعَذَّبِ مِنَ التَّبَرُّمِ الَّذِي هُوَ كَالْإِنْكَارِ عَلَى مُعَذِّبِهِ. فَجِيءَ بِالصِّلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ مَا ذَاقُوهُ جَزَاءُ مَا اكْتَسَبُوهُ قطعا لتبرمهم.
لِذِكْرِ اللَّهِ، وَلَكِنْ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مِمَّا نَزَلَ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ الْآيَةَ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: اعْلَمُوا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ إِقْبَالًا عَلَيْهِمْ لِلِاهْتِمَامِ.
وَقَوْلُهُ: أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ مُصَرَّحَةٌ وَيَتَضَمَّنُ تَمْثِيلِيَّةً مَكْنِيَّةً بِسَبَبِ تَضَمُّنِهِ تَشْبِيهَ حَالِ ذِكْرِ اللَّهِ وَالْقُرْآنِ فِي إِصْلَاحِ الْقُلُوبِ بِحَالِ الْمَطَرِ فِي إِصْلَاحِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ جَدْبِهَا. وَطُوِيَ ذِكْرُ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا وَرُمِزَ إِلَيْهَا بِلَازِمِهَا وَهُوَ إِسْنَادُ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا بِسَبَبِ الْمَطَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها (١) [النَّحْل: ٦٥].
وَالْمَقْصُودُ الْإِرْشَادُ إِلَى وَسِيلَةِ الْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ وَالْحَثِّ عَلَى تَعَهُّدِ النَّفْسِ بِالْمَوْعِظَةِ، وَالتَّذْكِيرُ بِالْإِقْبَالِ عَلَى الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ وَكَلَامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْلِيمِهِ وَأَنَّ فِي اللَّجَأِ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَجَاةً وَفِي الْمَفْزَعِ إِلَيْهِمَا عِصْمَةً وَقَدْ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي».
وَقَالَ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبَ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ لِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ»
. وَقَوْلُهُ: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِجُمْلَةِ أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها لِأَنَّ السَّامِعَ قَوْلَهُ: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها يَتَطَلَّبُ
مَعْرِفَةَ الْغَرَضِ مِنْ هَذَا الْإِعْلَامِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ جَوَابًا عَنْ تَطَلُّبِهِ، أَيْ أَعْلَمْنَاكُمْ بِهَذَا تَبْيِينًا لِلْآيَاتِ.
وَيُفِيدُ بِعُمُومِهِ مُفَادَ التَّذْيِيلِ لِلْآيَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ مَكِيِّهَا وَمَدَنِيِّهَا لِأَنَّ
_________
(١) فِي المطبوعة (ألم تَرَ أَن الله أنزل من السَّمَاء مَاء فأحيا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا) وَهَذَا خطأ، لِأَنَّهُ جمع بَين آيَتَيْنِ، والمثبت هُوَ الصَّوَاب وَالله أعلم. [.....]
بَينا اهـ. وَهَذَا كَلَامٌ لَا يُفِيدُ إِذْ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ يُعْرَفُ مَنِ الَّذِي كَتَبَهُ بِالْأَلِفِ، وَلَا مَنِ الَّذِي مَحَا الْأَلِفَ وَلَا مَتَى كَانَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ زَمَنِ كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ وَزَمَنِ أَبِي عُبَيْدٍ، وَلَا يُدْرَى مَاذَا عُنِي بِمُصْحَفِ عُثْمَانَ أَهْوَ مُصْحَفُهُ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ أَمْ هُوَ مُصْحَفٌ مِنَ الْمَصَاحِفِ الَّتِي نُسِخَتْ فِي خِلَافَتِهِ وَوَزَّعَهَا عَلَى الْأَمْصَارِ؟.
وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ فِيهِمَا فِي الْوَصْلِ.
وَأَمَّا فِي الْوَقْفِ فَحَمْزَةُ وَقَفَ عَلَيْهِمَا بِدُونِ أَلِفٍ. وَهِشَامُ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَقَفَا عَلَيْهِمَا بِالْأَلِفِ عَلَى أَنَّهُ صِلَةٌ لِلْفَتْحَةِ، أَيْ إِشْبَاعٌ لِلْفَتْحَةِ وَوَقَفَ أَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَلَى الْأَوَّلِ بِالْأَلِفِ وَعَلَى الثَّانِي بِدُونِ أَلِفٍ وَوَجْهُهُ مَا وَجَّهْتُ بِهِ قِرَاءَةَ ابْنِ كَثِيرٍ وَخَلَفٍ.
وَقَوْلُهُ: قَدَّرُوها تَقْدِيراً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ عَائِدًا إِلَى الْأَبْرارَ [الْإِنْسَان:
٥] أَوْ عِبادُ اللَّهِ [الْإِنْسَان: ٦] الَّذِي عَادَتْ إِلَيْهِ الضمائر الْمُتَقَدّمَة من قَوْله يُفَجِّرُونَها [الْإِنْسَان: ٦] ويُوفُونَ [الْإِنْسَان: ٧] إِلَى آخَرِ الضَّمَائِرِ فَيَكُونُ مَعْنَى التَّقْدِيرِ رَغْبَتُهُمْ أَنْ تَجِيءَ
عَلَى وَفْقِ مَا يَشْتَهُونَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى نَائِبِ الْفَاعِلِ الْمَحْذُوفِ الْمَفْهُومِ مِنْ بِنَاءِ يُطافُ لِلنَّائِبِ، أَيِ الطَّائِفُونَ عَلَيْهِمْ بِهَا قَدَّرُوا الْآنِيَةَ وَالْأَكْوَابَ، أَيْ قَدَّرُوا مَا فِيهَا مِنَ الشَّرَابِ عَلَى حَسَبِ مَا يَطْلُبُهُ كُلُّ شَارِبٍ مِنْهُمْ وَمَآلُهُ إِلَى مَعْنَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ. وَكَانَ مِمَّا يُعَدُّ فِي الْعَادَةِ مِنْ حِذْقِ السَّاقِي أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ أَحَدٍ مِنَ الشُّرْبِ مَا يُنَاسِبُ رَغْبَتَهُ.
وتَقْدِيراً مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُؤَكِّدٌ لِعَامِلِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى وَفَاءِ التَّقْدِيرِ وَعَدَمِ تَجَاوُزِهِ الْمَطْلُوبِ وَلَا تَقْصِيره عَنهُ.
[١٧- ١٨]
[سُورَة الْإِنْسَان (٧٦) : الْآيَات ١٧ إِلَى ١٨]
وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨)
أَتْبَعَ وَصْفَ الْآنِيَةِ وَمَحَاسِنِهَا بِوَصْفِ الشَّرَابِ الَّذِي يَحْوِيهِ وَطِيبِهِ، فَالْكَأْسُ كَأْسُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ عُمُومِ الْآنِيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَا تُسَمَّى آنِيَةَ الْخَمْرِ
«وَقَدْ وُدِّعَ مُحَمَّدٌ». وَلَعَلَّ
جُنْدُبًا رَوَى حَدِيثَيْنِ جَمَعَهُمَا ابْنُ عُيَيْنَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ كَلِمَةَ «فِي غَارٍ» تَصْحِيفٌ، وَأَنَّ أَصْلَهَا:
كُنْتُ غَازِيًا. وَيَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُهُ جَمَعَ حَدِيثَيْنِ.
وَعُدَّتْ هَذِهِ السُّورَةُ حَادِيَةَ عَشْرَةَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْفَجْرِ وَقَبْلَ سُورَةِ الِانْشِرَاحِ.
وَعَدَدُ آيِهَا إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً.
وَهِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ فِي قصار المفصّل.
أغراضها
إِبْطَالُ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ مَا يَأْتِي مِنَ الْوَحْيِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ انْقَطَعَ عَنْهُ.
وَزَادَهُ بِشَارَةً بِأَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْأُولَى عَلَى مَعْنَيَيْنِ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى. وَأَنَّهُ سَيُعْطِيهِ رَبُّهُ مَا فِيهِ رِضَاهُ. وَذَلِكَ يَغِيظُ الْمُشْرِكِينَ.
ثُمَّ ذَكَّرَهُ اللَّهُ بِمَا حَفَّهُ بِهِ مِنْ أَلْطَافِهِ وَعِنَايَتِهِ فِي صِبَاهُ وَفِي فُتُوَّتِهِ وَفِي وَقْتِ اكْتِهَالِهِ وَأَمَرَهُ بِالشُّكْرِ عَلَى تِلْكَ النِّعَمِ بِمَا يُنَاسِبُهَا مِنْ نَفْعٍ لِعَبِيدِهِ وَثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ.
[١- ٣]
[سُورَة الضُّحَى (٩٣) : الْآيَات ١ إِلَى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣)
الْقَسَمُ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ رَدًّا عَلَى زَعْمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الْوَحْيَ انْقَطَعَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَوْهُ لَمْ يَقُمِ اللَّيْلَ بِالْقُرْآنِ بِضْعَ لَيَالٍ. فَالتَّأْكِيدُ مُنْصَبٌّ عَلَى التَّعْرِيضِ الْمُعَرَّضِ بِهِ لِإِبْطَالِ دَعْوَى الْمُشْرِكِينَ. فَالتَّأْكِيدُ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ وَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَتَرَدَّدُ فِي وُقُوعِ مَا يُخْبِرُهُ اللَّهُ بِوُقُوعِهِ.
وَمُنَاسَبَةُ الْقَسَمِ بِ الضُّحى وَاللَّيْلِ أَنَّ الضُّحَى وَقْتُ انْبِثَاقِ نُورِ الشَّمْسِ فَهُوَ إِيمَاءٌ إِلَى تَمْثِيلِ نُزُولِ الْوَحْيِ وَحُصُولِ الِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَأَنَّ اللَّيْلَ وَقْتُ قِيَامِ
الصفحة التالية