وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَتْرُكْ عَمَلًا كَانَ يَعْمَلُهُ فَوَكَلَهُ إِلَى الْإِنْسَانِ بَلِ التَّدْبِيرُ الْأَعْظَمُ لَمْ يَزَلْ لِلَّهِ تَعَالَى فَالْإِنْسَانُ هُوَ الْمَوْجُودُ الْوَحِيدُ الَّذِي اسْتَطَاعَ بِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِي خِلْقَتِهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِ بِوُجُوهٍ عَظِيمَةٍ لَا تَنْتَهِي خِلَافَ غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ مِنَ الْخَلِيفَةِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ إِذَا صَحَّ أَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ مَعْمُورَةً مِنْ قَبْلُ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ يُسَمَّوْنَ الْحِنَّ وَالْبِنَّ- بِحَاءٍ مُهْمِلَةٍ مَكْسُورَةٍ وَنُونٍ فِي الْأَوَّلِ، وَبِمُوَحَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ وَنُونٍ فِي الثَّانِي- وَقِيلَ اسْمُهُمُ الطَّمُّ وَالرَّمُّ- بِفَتْحِ أَوَّلِهِمَا-، وَأَحْسَبُهُ مِنَ الْمَزَاعِمِ، وَأَنَّ وَضْعَ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ مِنْ بَابِ قَوْلِ النَّاسِ: هَيَّانُ بْنُ بَيَّانٍ إِشَارَةً إِلَى غَيْرِ مَوْجُودٍ أَوْ غَيْرِ مَعْرُوفٍ. وَلَعَلَّ هَذَا أَنْجَزُ لِأَهْلِ الْقَصَصِ مِنْ خُرَافَاتِ الْفُرْسِ أَوِ الْيُونَانِ فَإِنَّ الْفُرْسَ زَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْإِنْسَانِ فِي الْأَرْضِ جِنْسٌ اسْمُهُ الطَّمُّ وَالرَّمُّ كَانَ الْيُونَانُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ مَعْمُورَةً بِمَخْلُوقَاتٍ تُدْعَى التِيتَانَ وَأَنَّ زُفَسَ وَهُوَ الْمُشْتَرِي كَبِيرُ الْأَرْبَابِ فِي اعْتِقَادِهِمْ جَلَّاهُمْ مِنَ الْأَرْضِ لِفَسَادِهِمْ. وَكُلُّ هَذَا يُنَافِيهِ سِيَاقُ الْآيَةِ فَإِنَّ تَعْقِيبَ ذِكْرِ خَلْقِ الْأَرْضِ ثُمَّ السَّمَاوَاتِ بِذِكْرِ إِرَادَتِهِ تَعَالَى جَعْلَ الْخَلِيفَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَعْلَ الْخَلِيفَةِ كَانَ أَوَّلَ الْأَحْوَالِ عَلَى الْأَرْضِ بَعْدَ خَلْقِهَا فَالْخَلِيفَةُ هُنَا الَّذِي يَخْلُفُ صَاحِبَ الشَّيْءِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَمْلُوكَاتِهِ وَلَا يَلْزَمُ أَن يكون المخلوف مُسْتَقِرًّا فِي الْمَكَانِ مِنْ قَبْلُ، فَالْخَلِيفَةُ آدَمُ وَخَلَفِيَّتُهُ قِيَامُهُ بِتَنْفِيذِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ تَعْمِيرِ الْأَرْضِ بِالْإِلْهَامِ أَوْ بِالْوَحْيِ وَتَلْقِينِ ذُرِّيَّتِهِ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ، وَمِمَّا يَشْمَلُهُ هَذَا التَّصَرُّفُ تَصَرُّفُ آدَمَ بِسَنِّ النِّظَامِ لِأَهْلِهِ وَأَهَالِيهِمْ عَلَى حَسَبِ وَفْرَةِ عَدَدِهِمْ وَاتِّسَاعِ تَصَرُّفَاتِهِمْ، فَكَانَتِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ إِيمَاءً إِلَى حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى إِقَامَةِ خَلِيفَةٍ لِتَنْفِيذِ الْفَصْلِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مُنَازَعَاتِهِمْ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ نِظَامٌ يَجْمَعُ الْبَشَرَ بِدُونِ ذَلِكَ، وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ الرُّسُلَ وَبَيَّنَ الشَّرَائِعَ فَرُبَّمَا اجْتَمَعَتِ الرِّسَالَةُ وَالْخِلَافَةُ وَرُبَّمَا انْفَصَلَتَا بِحَسَبِ مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ شَرَائِعِهِ إِلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَجَمَعَ الرِّسَالَةَ وَالْخِلَافَةَ لِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ غَايَةُ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الشَّرَائِعِ وَهُوَ الشَّرِيعَةُ الْخَاتِمَةُ وَلِأَنَّ امْتِزَاجَ الدِّينِ وَالْمُلْكِ هُوَ أَكْمَلُ مَظَاهِرِ الْخُطَّتَيْنِ قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ
إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ
[النِّسَاء: ٦٤] وَلِهَذَا أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامَةِ الْخَلِيفَةِ لِحِفْظِ نِظَامِ الْأُمَّةِ وَتَنْفِيذِ الشَّرِيعَةِ وَلَمْ يُنَازِعْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْخَاصَّةِ وَلَا مِنَ الْعَامَّةِ إِلَّا الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى، مِنْ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ وَدُعَاةِ الْفِتْنَةِ فَالْمُنَاظَرَةُ مَعَ أَمْثَالِهِمْ سُدًى.
وَجَبَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تُقِمَّ بَيْتَ زَوْجِهَا، وَأَنْ تُجَهِّزَ طَعَامَهُ، أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ، كَمَا لَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ عَلَى امْرَأَتِهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْإِنْفَاقُ عَلَى زَوْجِهَا بَلْ كَمَا تُقِمُّ بَيْتَهُ وَتُجَهِّزُ طَعَامَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ هُوَ أَنْ يَحْرُسَ الْبَيْتَ وَأَنْ يُحَضِرَ لَهَا الْمِعْجَنَةَ وَالْغِرْبَالَ، وَكَمَا تَحْضُنُ وَلَدَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكْفِيَهَا مُؤْنَةَ الِارْتِزَاقِ كَيْ لَا تُهْمِلَ وَلَدَهُ، وَأَنْ يَتَعَهَّدَهُ بِتَعْلِيمِهِ وَتَأْدِيبِهِ، وَكَمَا لَا تَتَزَوَّجُ عَلَيْهِ بِزَوْجٍ فِي مُدَّةِ عِصْمَتِهِ، يَجِبُ عَلَيْهِ هُوَ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجَةٍ أُخْرَى حَتَّى لَا تُحِسَّ بِهَضِيمَةٍ فَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ فَإِذَا تَأَتَّتِ الْمُمَاثَلَةُ الْكَامِلَةُ فَتُشَرَّعُ، فَعَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تُحْسِنَ مُعَاشَرَةَ زَوْجِهَا، بِدَلِيلِ مَا رُتِّبَ عَلَى حُكْمِ النُّشُوزِ، قَالَ تَعَالَى:
وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ [النِّسَاء: ٣٤] وَعَلَى الرَّجُلِ مِثْلُ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النِّسَاء: ١٩] وَعَلَيْهَا حِفْظُ نَفْسِهَا عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ بِزَوْجٍ، وَعَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ عَمَّنْ لَيست بِزَوْجَة [النُّور: ٣٠] ثُمَّ قَالَ: وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النُّور: ٣٠] الْآيَةَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥- ٦] إِلَّا إِذَا كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ أُخْرَى فَلِذَلِكَ حُكْمٌ آخَرٌ، يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَالْمُمَاثَلَةُ فِي بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ، وَالْمُمَاثَلَةُ فِي الرِّعَايَةِ،
فَفِي الْحَدِيثِ: «الرَّجُلُ
رَاعٍ عَلَى أَهْلِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا
، وَالْمُمَاثَلَةُ فِي التَّشَاوُرِ فِي الرَّضَاعِ، قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ [الْبَقَرَة: ٢٣٣] وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ [الطَّلَاق: ٦].
وَتَفَاصِيلُ هَاتِهِ الْمُمَاثَلَةِ، بِالْعَيْنِ أَوْ بِالْغَايَةِ، تُؤْخَذُ مِنْ تَفَاصِيلِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَمَرْجِعُهَا إِلَى نَفْيِ الْإِضْرَارِ، وَإِلَى حِفْظِ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِالْمَعْرُوفِ أَيْ لَهُنَّ حَقٌّ مُتَلَبِّسًا بِالْمَعْرُوفِ، غَيْرِ الْمُنْكَرِ، مِنْ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ، وَالْآدَابِ، وَالْمَصَالِحِ، وَنَفْيِ الْإِضْرَارِ، وَمُتَابَعَةِ الشَّرْعِ. وَكُلُّهَا مَجَالُ أَنْظَارِ الْمُجْتَهِدِينَ.
وَلَمْ أَرَ فِي كُتُبِ فُرُوعِ الْمَذَاهِبِ تَبْوِيبًا لِأَبْوَابِ تَجْمَعُ حُقُوقَ الزَّوْجَيْنِ. وَفِي «سُنَنِ أبي دَاوُد»، و «سنَن ابْنِ مَاجَهْ»، بَابَانِ أَحَدُهُمَا لِحُقُوقِ الزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَالْآخَرُ لِحُقُوقِ الزَّوْجِ عَلَى الرَّجُلِ، بِاخْتِصَارٍ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعِدُّونَ الرَّجُلَ مَوْلًى لِلْمَرْأَةِ فَهِيَ وَلِيَّةٌ كَمَا يَقُولُونَ، وَكَانُوا لَا يَدَّخِرُونَهَا تَرْبِيَةً، وَإِقَامَةً وَشَفَقَةً، وَإِحْسَانًا، وَاخْتِيَارَ مَصِيرٍ، عِنْدَ إِرَادَةِ تَزْوِيجِهَا، لِمَا كَانُوا حَرِيصِينَ عَلَيْهِ مِنْ طَلَبِ الْأَكْفَاءِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ لَا يَرَوْنَ لَهَا حَقًّا فِي مُطَالَبَةٍ بِمِيرَاثٍ وَلَا بِمُشَارَكَةٍ فِي اخْتِيَارِ مَصِيرِهَا، وَلَا بِطَلَبِ مَا لَهَا مِنْهُمْ، وَقَدْ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى بَعْضِ أَحْوَالِهِمْ هَذِهِ فِي قَوْلِهِ: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ
وَشَيْءٍ مُرَادٌ بِهِ صِنْفٌ مِنَ النَّبَاتِ بِقَرِينَةِ إِضَافَةِ نَباتَ إِلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: فَأَخْرَجْنَا بِالْمَاءِ مَا يَنْبُتُ مِنْ أَصْنَافِ النَّبْتِ. فَإِنَّ النَّبْتَ جِنْسٌ لَهُ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ فَمِنْهُ زَرْعُ وَهُوَ مَا لَهُ سَاقٌ لَيِّنَةٌ كَالْقَصَبِ وَمِنْهُ شَجَرٌ وَهُوَ مَا لَهُ سَاقٌ غَلِيظَةٌ كَالنَّخْلِ، وَالْعِنَبِ وَمِنْهُ نَجْمٌ وَأَبٌّ وَهُوَ مَا يَنْبُتُ لَاصِقًا بِالتُّرَابِ، وَهَذَا التَّعْمِيمُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهَا مُخْتَلِفَةُ الصِّفَاتِ وَالثَّمَرَاتِ وَالطَّبَائِعِ وَالْخُصُوصِيَّاتِ وَالْمَذَاقِ، وَهِيَ كُلُّهَا نَابِتَةٌ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ الَّذِي هُوَ وَاحِدٌ، وَذَلِكَ آيَةٌ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ، قَالَ تَعَالَى: تسقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الرَّعْد: ٤] وَهُوَ تَنْبِيهٌ لِلنَّاسِ لِيَعْتَبِرُوا بِدَقَائِقِ مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِيهَا مِنْ مُخْتَلَفِ الْقُوَى الَّتِي سَبَّبَتِ اخْتِلَافَ أَحْوَالِهَا.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَاءُ التَّفْرِيعِ.
وَقَوْلُهُ: فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً تَفْصِيلٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ، فَالْفَاءُ لِلتَّفْصِيلِ، وَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِهَا عَائِدٌ إِلَى النَّبَاتِ، أَيْ فَكَانَ مِنَ النَّبْتِ خَضِرٌ وَنَخْلٌ وَجَنَّاتٌ وَشَجَرٌ، وَهَذَا تَقْسِيمُ الْجِنْسِ إِلَى أَنْوَاعِهِ.
وَالْخَضِرُ: الشَّيْءُ الَّذِي لَوْنُهُ أَخْضَرُ، يُقَالُ: أَخْضَرُ وَخَضِرٌ كَمَا يُقَالُ: أَعْوَرُ وَعُوِرٌ، وَيُطْلَقُ الْخَضِرُ اسْمًا لِلنَّبْتِ الرَّطِبِ الَّذِي لَيْسَ بِشَجَرٍ كَالْقَصِيلِ وَالْقَضْبِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ لَمَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ
خَاصِرَتَاهَا»
الْحَدِيثَ. وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا لِقَوْلِهِ فِي وَصْفِهِ نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً، فَإِنَّ الْحَبَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّبْتِ الرَّطْبِ.
وَجُمْلَةُ: نُخْرِجُ مِنْهُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ خَضِراً لِأَنَّهُ صَارَ اسْمًا، وَ (مِنْ) اتِّصَالِيَّةٌ أَوِ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِهَا عَائِدٌ إِلَى خَضِراً.
وَالْحَبُّ: هُوَ ثَمَرُ النَّبَاتِ، كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالزَّرَارِيعُ كُلُّهَا.
وَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ مِثْلَ قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَذَكَرَ هُنَا يَتَّقُونَ لِأَنَّهُمْ إِذَا تَذَكَّرُوا يُسِّرَتْ عَلَيْهِمُ التَّقْوَى، وَلِأَنَّ التَّذَكُّرَ أَنْسَبُ بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ لِأَنَّ فِي الْأَمْثَالِ عِبْرَةً بِأَحْوَالِ الْمُمَثَّلِ بِهِ فَهِيَ مُفْضِيَةٌ إِلَى التَّذَكُّرِ، وَالِاتِّقَاءِ أَنْسَبُ بِانْتِفَاءِ الْعِوَجِ لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَقَامَتْ مَعَانِيهِ وَاتَّضَحَتْ كَانَ الْعَمَلُ بِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ أَيْسَرَ وَذَلِكَ هُوَ التَّقْوَى.
[٢٩]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٢٩]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٢٩)
اسْتِئْنَافٌ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّعَرُّضِ إِلَى الْمَقْصُودِ بَعْدَ الْمُقَدِّمَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَلَقَدْ ضَرَبْنا
لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ
[الرّوم: ٥٨] تَوْطِئَةٌ لِهَذَا الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ لِحَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَحَالِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، وَفِي هَذَا الِانْتِقَالِ تَخَلُّصٌ أُتْبِعَ تَذْكِيرُهُمْ بِمَا ضُرِبَ لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ عَلَى وَجْهِ إِجْمَالِ الْعُمُومِ اسْتِقْصَاءً فِي التَّذْكِيرِ وَمُعَاوَدَةً لِلْإِرْشَادِ، وَتَخَلُّصًا مَنْ وَصْفِ الْقُرْآنِ بِأَنَّ فِيهِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، إِلَى تَمْثِيلِ حَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِحَالٍ خَاصٍّ.
فَهَذَا الْمَثَلُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ إِلَى قَوْلِهِ:
أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر: ٢٢]، فَهُوَ مَثَلٌ لِحَالِ مَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُمْ لِلْإِسْلَامِ وَحَالِ مَنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ.
وَمَجِيءُ فِعْلِ ضَرَبَ اللَّهُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي مَعَ أَنَّ ضَرْبَ هَذَا الْمَثَلِ مَا حَصَلَ إِلَّا فِي زَمَنِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لِتَقْرِيبِ زَمَنِ الْحَالِ مِنْ زَمَنِ الْمَاضِي لِقَصْدِ التَّشْوِيقِ إِلَى عِلْمِ هَذَا الْمَثَلِ فَيُجْعَلُ كَالْإِخْبَارِ عَنْ أَمْرٍ حَصَلَ لِأَنَّ النُّفُوسَ أَرغب فِي علمه كَقَوْلِ الْمُثَوِّبِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ. وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً فِي سُورَةِ النَّحْلِ [١١٢].
أَمَّا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فَجَعَلَ فِعْلَ ضَرَبَ مُسْتَعْمِلًا فِي مَعْنَى الْأَمْرِ إِذْ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا وَقُلْ لَهُمْ مَا تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمَمَالِيكِ قَدِ اشْتَرَكَ فِيهِ شُرَكَاءُ، إِلَى آخَرِ كَلَامِهِ، فَكَانَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ الْخَبَرَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الطَّلَبِ، فَقَرَّرَهُ شَارِحُوهُ الطَّيِّبِيّ والقزويني والتفتازانيّ بِمَا حَاصِلُ مَجْمُوعِهِ: أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَإِذْ قَدْ كَانَ مُقْتَضَى الْإِضَافَةِ أَنْ تُفِيدَ تَعْرِيفَ الْمُضَافِ بِنِسْبَتِهِ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَكَانَ الْأَجْرُ وَالنُّورُ غَيْرَ مَعْلُومَيْنِ لِلسَّامِعِ كَانَ فِي الْكَلَامِ إِبْهَامٌ يُكَنَّى بِهِ عَنْ أَجْرٍ وَنُورٍ عَظِيمَيْنِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّنْوِيهِ بِذَلِكَ الْأَجْرِ وَذَلِكَ النُّورِ، أَيْ أَجْرٌ وَنُورٌ لَا يُوصَفَانِ إِلَّا أَجْرَهُمْ وَنُورَهُمْ، أَيْ أَجْرًا وَنُورًا لَائِقَيْنِ بِمَقَامٍ، مَعَ ضَمِيمَةِ مَا أَفَادَتْهُ الْعِنْدِيَّةُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: عِنْدَ رَبِّهِمْ مِنْ مَعْنَى الزُّلْفَى وَالْعِنَايَةِ بِهِمُ الْمُفِيدُ عَظِيمَ الْأَجْرِ وَالنُّورِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَا أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ عَائِدَيْنِ إِلَى لَفْظَيِ الصِّدِّيقُونَ والشُّهَداءُ أَوْ إِلَى لَفْظِ الشُّهَداءُ خَاصَّةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَكِنْ بِمَعْنًى آخَرَ غَيْرَ الْمَعْنَى
الَّذِي حُمِلَ عَلَيْهِ آنِفًا بَلْ بِمَعْنَى الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ مِمَّنْ كَانُوا قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، قَالَهُ فِي «الْكَشَّافِ».
وَمَعْنَى الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ حِينَئِذٍ مُغَايِرٌ لِلْمَعْنَى السَّابِقِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِخْدَامِ فِي الضَّمِيرِ. وَطَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ فِي حَمْلِ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ فِي قَوْلِهِ:
لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ بِتَقْدِيرِ: لَهُمْ مِثْلُ أَجْرِهِمْ وَنُورِهِمْ، وَلَا تَأْوِيلَ فِي إِضَافَةِ الْأَجْرِ وَالنُّورِ إِلَى الضَّمِيرَيْنِ بِهَذَا الْمَحْمَلِ فَإِنَّ تَعْرِيفَ الْمُضَافِ بَيِّنٌ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّاسِ مَا وُعِدَ بِهِ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ قَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِهِمْ: وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ [الْمَائِدَة: ٤٤] وَقَالَ: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النبيئين وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النِّسَاء: ٦٩].
وَفَائِدَةُ التَّشْبِيهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَصْوِيرُ قُوَّةِ الْمُشَبَّهِ وَإِنْ كَانَ أَقْوَى مِنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ لِأَنَّ لِلْأَحْوَالِ السَّالِفَةِ مِنَ الشُّهْرَةِ وَالتَّحَقُّقِ مَا يُقَرِّبُ صُورَةَ الْمُشَبَّهِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ، وَمِنْهُ مَا فِي لَفْظِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّشْبِيهِ
بِقَوْلِهِ: «كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ»
. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ.
تَتْمِيمٌ اقْتَضَاهُ ذِكْرُ أَهْلِ مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ وَالتَّنْوِيهِ بِهِمْ، فَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِوَصْفِ
وَالْإِسْتَبْرَقُ: الدِّيبَاجُ الْغَلِيظُ وَتَقَدَّمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٣١] وَهُمَا مُعَرَّبَانِ.
فَأَمَّا السُّنْدُسُ فَمُعَرَّبٌ عَنِ اللُّغَةِ الْهِنْدِيَّةِ وَأَصْلُهُ (سُنْدُونُ) بِنُونٍ فِي آخِرِهِ، قِيلَ: إِنَّ سَبَبَ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ أَنَّهُ جُلِبَ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِ، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ اسْمَهُ (سُنْدُونُ) فَصَيَّرَهُ لِلُغَةِ الْيُونَانِ سُنْدُوسُ (لِأَنَّهُمْ يُكْثِرُونَ تَنْهِيَةَ الْأَسْمَاءِ بِحَرْفِ السِّينِ) وَصَيَّرَهُ الْعَرَبُ سُنْدُسًا. وَفِي «اللِّسَانِ» : أَنَّ السُّنْدُسَ يُتَّخَذُ مِنَ الْمِرْعِزَّى (كَذَا ضَبَطَهُ مُصَحِّحُهُ) وَالْمَعْرُوفُ الْمِرْعَزُ كَمَا فِي «التَّذْكِرَة» و «شِفَاء الْغَلِيلِ». وَفِي «التَّذْكِرَةِ» الْمِرْعَزُ: مَا نَعِمَ وَطَالَ مِنَ الصُّوفِ اهـ. فَلَعَلَّهُ صُوفُ حَيَوَانٍ خَاصٍّ فِيهِ طُولٌ أَوْ هُوَ مِنْ نَوْعِ الشَّعَرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا أَخْضَرَ اللَّوْنِ لِقَوْلِ يَزِيدَ بْنِ حُذَّاقٍ الْعَبْدِيِّ يَصِفُ مَرْعَى فَرَسِهِ:
وَدَاوَيْتُهَا حَتَّى شَتَتْ حَبَشِيَّةً | كَأَنَّ عَلَيْهَا سُنْدُسًا وَسُدُوسًا |
تَرَدَّى ثِيَابَ الْمَوْتِ حُمْرًا فَمَا أَتَى | لَهَا اللَّيْلُ إِلَّا وَهِيَ مِنْ سُنْدُسٍ خُضْرُ |
وَالْمَعْنَى: أَنَّ فَوْقَهُمْ ثِيَابًا مِنَ الصِّنْفَيْنِ يَلْبَسُونَ هَذَا وَذَاكَ جَمْعًا بَيْنَ مَحَاسِنِ كِلَيْهِمَا، وَهِيَ أَفْخَرُ لِبَاسِ الْمُلُوكِ وَأَهْلِ الثَّرْوَةِ.
وَلَوْنُ الْأَخْضَرِ أَمْتَعٌ لِلْعَيْنِ وَكَانَ مِنْ شِعَارِ الْمُلُوكِ، قَالَ النَّابِغَةُ يَمْدَحُ مُلُوكَ غَسَّانَ:
يَصُونُونَ أَجْسَادًا قَدِيمًا نَعِيمُهُا | بِخَالِصَةِ الْأَرْدَانِ خُضْرِ الْمَنَاكِبِ |
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ خُضْرٌ بِالرَّفْعِ عَلَى الصِّفَةِ لِ ثِيابُ. وإِسْتَبْرَقٌ بِالرَّفْعِ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى ثِيابُ بِقَيْدِ كَوْنِهَا مِنْ سُنْدُسٍ فَمَعْنَى عَالِيهِمْ إِسْتَبْرَقٌ: أَنَّ الْإِسْتَبْرَقَ لِبَاسُهُمْ.
أَنَّ وُجُودَ حَرْفِ التَّنْفِيسِ مَانِعٌ مِنْ لَحَاقِ نُونِ التَّوْكِيدِ وَلِذَلِكَ تَجِبُ اللَّامُ فِي الْجُمْلَةِ. وَأَقُولُ فِي كَوْنِ وُجُودِ حَرْفِ التَّنْفِيسِ يُوجِبُ كَوْنَ اللَّامِ لَامَ جَوَابِ قَسَمٍ محلّ نظر.
[٦- ٨]
[سُورَة الضُّحَى (٩٣) : الْآيَات ٦ إِلَى ٨]
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨)
اسْتِئْنَافٌ مَسُوقٌ مَسَاقَ الدَّلِيلِ عَلَى تَحَقُّقِ الْوَعْدِ، أَيْ هُوَ وَعْدٌ جَارٍ عَلَى سَنَنِ مَا سَبَقَ مِنْ عِنَايَةِ اللَّهِ بِكَ مِنْ مَبْدَأِ نَشْأَتِكَ وَلُطْفِهِ فِي الشَّدَائِدِ بِاطِّرَادٍ بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الصُّدَفِ لِأَنَّ شَأْنَ الصُّدَفِ أَنْ لَا تَتَكَرَّرَ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اطِّرَادَ ذَلِكَ مُرَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا إِيقَاعُ الْيَقِينِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ مَا وَعَدَهُ اللَّهُ بِهِ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ قِيَاسًا عَلَى مَا ذَكَّرَهُ بِهِ مِنْ مُلَازَمَةِ لُطْفِهِ بِهِ فِيمَا مَضَى وَهُمْ لَا يَجْهَلُونَ ذَلِكَ عَسَى أَنْ يُقْلِعُوا عَنِ الْعِنَادِ وَيُسْرِعُوا إِلَى الْإِيمَانِ وَإِلَّا فَإِنَّ ذَلِكَ مَسَاءَةٌ تَبْقَى فِي نُفُوسِهِمْ وَأَشْبَاحُ رُعْبٍ تُخَالِجُ خَوَاطِرَهُمْ. وَيحصل مَعَ هَذَا الْمَقْصُودِ امْتِنَانٌ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقْوِيَةٌ لِاطْمِئْنَانِ نَفْسِهِ بِوَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ.
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَفِعْلُ يَجِدْكَ مُضَارِعُ وَجَدَ بِمَعْنَى أَلْفَى وَصَادَفَ، وَهُوَ الَّذِي يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ وَمَفْعُولُهُ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ. ويَتِيماً حَالٌ، وَكَذَلِكَ ضَالًّا وعائِلًا وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالَةِ تَيْسِيرِ الْمَنَافِعِ لِلَّذِي تَعَسَّرَتْ عَلَيْهِ بِحَالَةِ مَنْ وَجَدَ شَخْصًا فِي شِدَّةٍ يَتَطَلَّعُ إِلَى مَنْ يُعِينُهُ أَوْ يُغِيثُهُ.
وَالْيَتِيمُ: الصَّبِيُّ الَّذِي مَاتَ أَبُوهُ وَقَدْ كَانَ أَبُو النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ وَهُوَ جَنِينٌ أَوْ فِي أَوَّلِ
الْمُدَّةِ مِنْ وِلَادَتِهِ.
وَالْإِيوَاءُ: مَصْدَرُ أَوَى إِلَى الْبَيْتِ، إِذَا رَجَعَ إِلَيْهِ، فَالْإِيوَاءُ: الْإِرْجَاعُ إِلَى الْمَسْكَنِ، فَهَمْزَتُهُ الْأُولَى هَمْزَةُ التَّعْدِيَةِ، أَيْ جَعَلَهُ آوِيًا، وَقَدْ أُطْلِقَ الْإِيوَاءُ عَلَى الْكَفَالَةِ وَكِفَايَةِ الْحَاجَةِ مَجَازًا أَوِ اسْتِعَارَةً، فَالْمَعْنَى أَنْشَأَكَ عَلَى كَمَالِ الْإِدْرَاكِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَكُنْتَ عَلَى تَرْبِيَةٍ كَامِلَةٍ مَعَ أَنَّ شَأْنَ الْأَيْتَام أَن ينشأوا عَلَى نَقَائِصَ لِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مَنْ يُعْنَى بِتَهْذِيبِهِمْ وَتَعَهُّدِ أَحْوَالِهِمُ الْخُلُقِيَّةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «أَدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي»
فَكَانَ تَكْوِينُ نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ عَلَى الْكَمَالِ خَيْرًا مِنْ تَرْبِيَةِ الْأَبَوَيْنِ.