وَلِلْخَلِيفَةِ شُرُوطٌ مَحَلُّ بَيَانِهَا كُتُبُ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ، وَسَتَجِيءُ مُنَاسَبَتُهَا فِي آيَاتٍ آتِيَةٍ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ خِطَابَهُ تَعَالَى هَذَا لِلْمَلَائِكَةِ كَانَ عِنْدَ إِتْمَامِ خَلْقِ آدَمَ عِنْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ أَوْ قَبْلَ النَّفْخِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمُخْبَرِ عَنْ جَعْلِهِ خَلِيفَةً هُوَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ كَمَا يَقُولُ الَّذِي كَتَبَ كِتَابًا بِحَضْرَةِ جَلِيسٍ إِنِّي مُرْسِلٌ كِتَابًا إِلَى فُلَانٍ فَإِنَّ السَّامِعَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي هُوَ بِصَدَدِ كِتَابَتِهِ كِتَابٌ لِفُلَانٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابُهُمْ بِذَلِكَ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ، وَعَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا يَكُونُ اسْمُ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: جاعِلٌ لِلزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ وَصْفَ الْخَلِيفَةِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لِآدَمَ سَاعَتَئِذٍ.
وَقَوْلُ اللَّهِ هَذَا مُوَجَّهٌ إِلَى الْمَلَائِكَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِخْبَارِ لِيَسُوقَهُمْ إِلَى مَعْرِفَةِ فَضْلِ الْجِنْسِ الْإِنْسَانِيِّ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ مَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِهَذَا الْجِنْسِ، وَلِيَكُونَ كَالِاسْتِشَارَةٍ لَهُمْ تَكْرِيمًا لَهُمْ فَيَكُونُ تَعْلِيمًا فِي قَالَبِ تَكْرِيمٍ مِثْلَ إِلْقَاءِ الْمُعَلِّمِ فَائِدَةً لِلتِّلْمِيذِ فِي صُورَةِ سُؤَالٍ وَجَوَابٍ وَلِيَسُنَّ الِاسْتِشَارَةَ فِي الْأُمُورِ، وَلِتَنْبِيهِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى مَا دَقَّ وَخَفِيَ مِنْ حِكْمَةِ خَلْقِ آدَمَ كَذَا ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ.
وَعِنْدِي أَنْ هَاتِهِ الِاسْتِشَارَةَ جُعِلَتْ لِتَكُونَ حَقِيقَةً مُقَارَنَةً فِي الْوُجُودِ لِخَلْقِ أَوَّلِ الْبَشَرِ حَتَّى تَكُونَ نَامُوسًا أُشْرِبَتْهُ نُفُوسُ ذُرِّيَّتِهِ لِأَنَّ مُقَارَنَةَ شَيْءٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْمَعَانِي لِتَكْوِينِ شَيْءٍ مَا، تُؤْثِرُ تَآلُفًا بَيْنَ ذَلِكَ الْكَائِنِ وَبَيْنَ الْمُقَارَنِ. وَلَعَلَّ هَذَا الِاقْتِرَانَ يَقُومُ فِي الْمَعَانِي الَّتِي لَا تُوجَدُ إِلَّا تَبَعًا لِذَوَاتِ مَقَامِ أَمْرِ التَّكْوِينِ فِي الذَّوَاتِ فَكَمَا أَنَّ أَمْرَهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَيْ إِنْشَاءَ ذَاتٍ أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، كَذَلِكَ أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ اقْتِرَانَ مَعْنًى بِذَاتٍ أَوْ جِنْسٍ أَنْ يُقَدَّرَ حُصُولَ مَبْدَأِ ذَلِكَ الْمَعْنَى عِنْدَ تَكْوِينِ أَصْلِ ذَلِكَ الْجِنْسِ أَوْ عِنْدَ تَكْوِينِ الذَّاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَكُونَ قَبُولُ الْعِلْمِ مِنْ خَصَائِصِ الْإِنْسَانِ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاء عِنْد مَا خَلَقَهُ.
وَهَذَا هُوَ وَجْهُ مَشْرُوعِيَّةِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الْأَفْعَالِ لِيَكُونَ اقْتِرَانُ ابْتِدَائِهَا بِلَفْظِ اسْمِهِ تَعَالَى مُفِيضًا لِلْبَرَكَةِ عَلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَلِهَذَا أَيْضًا طَلَبَتْ مِنَّا الشَّرِيعَةُ تَخَيُّرَ أَكْمَلِ الْحَالَاتِ وَأَفْضَلِ الْأَوْقَاتِ لِلشُّرُوعِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَمُهِمَّاتِ الْمُطَالِبِ، وَتَقَدَّمَ هَذَا فِي الْكَلَامِ عَلَى الْبَسْمَلَةِ، وَسَنَذْكُرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالشُّورَى عِنْدَ قَوْلِهِ
تَعَالَى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ [النِّسَاء: ١٢٧] وَقَالَ: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ [الْبَقَرَة: ٢٣٢] فَحَدَّدَ اللَّهُ لِمُعَامَلَاتِ النِّسَاءِ حُدُودًا، وَشَرَعَ لَهُنَّ أَحْكَامًا، قَدْ أَعْلَنَتْهَا عَلَى الْإِجْمَالِ هَذِهِ الْآيَةُ الْعَظِيمَةُ، ثُمَّ فَصَّلَتْهَا الشَّرِيعَةُ تَفْصِيلًا، وَمِنْ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ فِي التَّنْبِيهِ إِلَى هَذَا عَطْفُ الْمُؤْمِنَاتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ ذِكْرِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ أَوِ الْفَضَائِلِ، وَعَطْفُ النِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ.
وَقَوْلُهُ: بِالْمَعْرُوفِ الْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا تَعْرِفُهُ الْعُقُولُ السَّالِمَةُ، الْمُجَرَّدَةُ مِنَ الِانْحِيَازِ إِلَى الْأَهْوَاءِ، أَوِ الْعَادَاتِ أَوِ التَّعَالِيمِ الضَّالَّةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْحَسَنُ وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ نَصًّا أَوْ قِيَاسًا، أَوِ اقْتَضَتْهُ الْمَقَاصِدُ الشَّرْعِيَّةُ أَوِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ، الَّتِي لَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يُعَارِضُهَا. وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْمَعْرُوفَ عَلَى مَا قَابَلَ الْمُنْكَرَ أَيْ وَلِلنِّسَاءِ مِنَ الْحُقُوقِ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ مُلَابِسًا ذَلِكَ دَائِمًا لِلْوَجْهِ غَيْرِ الْمُنْكَرِ شَرْعًا وَعَقْلًا، وَتَحْتَ هَذَا تَفَاصِيلُ كَبِيرَةٌ تُؤْخَذُ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ مَجَالٌ لِأَنْظَارِ الْمُجْتَهِدِينَ. فِي مُخْتَلَفِ الْعُصُورِ وَالْأَقْطَارِ.
فَقَوْلُ مَنْ يَرَى أَنَّ الْبِنْتَ الْبِكْرَ يُجْبِرُهَا أَبُوهَا عَلَى النِّكَاحِ، قَدْ سَلَبَهَا حَقَّ الْمُمَاثَلَةِ لِلِابْنِ، فَدَخَلَ ذَلِكَ تَحْتَ الدَّرَجَةِ، وَقَوْلُ مَنْ مَنَعَ جَبْرَهَا وَقَالَ لَا تُزَوَّجُ إِلَّا بِرِضَاهَا قَدْ أَثْبَتَ لَهَا
حَقَّ الْمُمَاثَلَةِ لِلذَّكَرِ، وَقَوْلُ مَنْ مَنَعَ الْمَرْأَةَ مِنَ التَّبَرُّعِ بِمَا زَاد على ثلاثها إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا قَدْ سَلَبَهَا حَقَّ الْمُمَاثَلَةِ لِلرَّجُلِ، وَقَوْلُ مَنْ جَعَلَهَا كَالرَّجُلِ فِي تَبَرُّعِهَا بِمَا لَهَا قَدْ أَثْبَتَ لَهَا حَقَّ الْمُمَاثَلَةِ لِلرَّجُلِ، وَقَوْلُ مَنْ جَعَلَ لِلْمَرْأَةِ حَقَّ الْخِيَارِ فِي فِرَاقِ زَوْجِهَا إِذَا كَانَتْ بِهِ عَاهَةٌ قَدْ جَعَلَ لَهَا حَقَّ الْمُمَاثَلَةِ وَقَوْلُ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا ذَلِكَ قَدْ سَلَبَهَا هَذَا الْحَقَّ. وَكُلٌّ يَنْظُرُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَوْ مِنَ الْمُنْكَرِ. وَهَذَا الشَّأْنُ فِي كُلِّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ حُقُوقِ الصِّنْفَيْنِ، وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ تَسْوِيَةٍ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، أَوْ مِنْ تَفْرِقَةٍ، كُلُّ ذَلِكَ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى تَحْقِيقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بِالْمَعْرُوفِ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا فَكُونُوا مِنْ ذَلِكَ بِمَحَلِّ التَّيَقُّظِ، وَخُذُوا بِالْمَعْنَى دُونَ التَّلَفُّظِ.
وَدِينُ الْإِسْلَامِ حَرِيٌّ بِالْعِنَايَةِ بِإِصْلَاحِ شَأْنِ الْمَرْأَةِ، وَكَيْفَ لَا وَهِيَ نِصْفُ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، وَالْمُرَبِّيَةُ الْأُولَى، الَّتِي تُفِيضُ التَّرْبِيَةَ السَّالِكَةَ إِلَى النُّفُوسِ قَبْلَ غَيْرِهَا، وَالَّتِي تُصَادِفُ عُقُولًا لَمْ تَمَسَّهَا وَسَائِلُ الشَّرِّ، وَقُلُوبًا لَمْ تَنْفُذْ إِلَيْهَا خَرَاطِيمُ الشَّيْطَانِ. فَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ التَّرْبِيَةُ خَيْرًا، وَصِدْقًا، وَصَوَابًا، وَحَقًّا، كَانَتْ أَوَّلُ مَا يَنْتَقِشُ فِي تِلْكَ الْجَوَاهِرِ الْكَرِيمَةِ، وَأَسْبَقَ مَا يَمْتَزِجُ بِتِلْكَ الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ، فَهَيَّأَتْ لِأَمْثَالِهَا، مِنْ خَوَاطِرِ الْخَيْرِ، مَنْزِلًا رَحْبًا، وَلَمْ تُغَادِرْ لِأَغْيَارِهَا مِنَ الشُّرُورِ كَرَامَةً وَلَا حُبًّا.
وَالْمُتَرَاكِبُ: الْمُلْتَصِقُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فِي السُّنْبُلَةِ، مِثْلُ الْقَمْحِ وَغَيْرِهِ، وَالتَّفَاعُلُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي رُكُوبِ بَعْضِهِ بَعْضًا.
وَجُمْلَةُ: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ عَطْفٌ عَلَى فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: مِنَ النَّخْلِ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وقِنْوانٌ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ.
وَالْمَقْصُودُ بِالْإِخْبَارِ هُنَا التَّعْجِيبُ مِنْ خُرُوجِ الْقِنْوَانِ مِنَ الطَّلْعِ وَمَا فِيهِ مِنْ بَهْجَةٍ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ تَغْيِيرِ أُسْلُوبِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَنْ أَسَالِيبِ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا إِذْ لَمْ تُعْطَفْ أَجْزَاؤُهَا عَطْفَ الْمُفْرَدَاتِ، عَلَى أَنَّ مَوْقِعَ الْجُمْلَةِ بَيْنَ أَخَوَاتِهَا يُفِيدُ مَا أَفَادَتْهُ أَخَوَاتُهَا مِنَ الْعِبْرَةِ وَالْمِنَّةِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي النَّخْلِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الْجِنْسِيِّ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِالتَّعْرِيفِ فِيهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ الْجِنْسُ الْمَأْلُوفُ الْمَعْهُودُ لِلْعَرَبِ، فَإِنَّ النَّخْلَ شَجَرُهُمْ وَثَمَرَهُ قُوتُهُمْ وَحَوَائِطَهُ مُنْبَسَطُ نُفُوسِهِمْ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ حَالًا مِنَ النَّخْلِ اعْتِدَادًا بِالتَّعْرِيفِ اللَّفْظِيِّ كَقَوْلِهِ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ طَلْعِها بَدَلَ بَعْضٍ مِنَ النَّخْلِ بِإِعَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ الدَّاخِلِ عَلَى الْمُبْدَلِ مِنْهُ.
وقِنْوانٌ- بِكَسْرِ الْقَافِ- جَمْعُ قِنْوٍ- بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْضًا- عَلَى الْمَشْهُورِ فِيهِ عِنْدَ الْعَرَبِ غَيْرَ لُغَةِ قَيْسٍ وَأَهْلِ الْحِجَازِ فَإِنَّهُمْ يَضُمُّونَ الْقَافَ. فَقِنْوَانٌ- بِالْكَسْرِ- جَمْعُ تَكْسِيرٍ.
وَهَذِهِ الصِّيغَةُ نَادِرَةٌ، غَيْرَ جَمْعِ فُعَلٍ (بِضَمٍّ فَفَتْحٍ) وَفعل (بِضَمٍّ فَسُكُونٍ) وَفعل (بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ) إِذَا كَانَا وَاوِيَّيِ الْعَيْنِ وفعال.
وَالْقِنْوُ: عُرْجُونُ التَّمْرِ، كَالْعُنْقُودِ لِلْعِنَبِ، وَيُسَمَّى الْعِذْقَ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ- وَيُسَمَّى الْكِبَاسَةُ- بِكَسْرِ الْكَافِ-.
وَالطَّلْعُ: وِعَاءُ عُرْجُونِ التَّمْرِ الَّذِي يَبْدُو فِي أَوَّلِ خُرُوجِهِ يَكُونُ كَشَكْلِ
لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ:
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الزمر: ٢٧] عَلِمَ أَنَّهُ سَيَنْزِلُ عَلَيْهِ مَثَلٌ مِنْ أَمْثَالِ الْقُرْآنِ فَأَنْبَأَهُ اللَّهُ بِصِدْقِ مَا عَلِمَهُ وَجَعَلَهُ لِتَحَقُّقِهِ كَأَنَّهُ مَاضٍ.
وَلِيُلَائِمَ تَوْجِيهَ الِاسْتِفْهَامِ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا (فَإِنَّهُ سُؤَالُ تَبْكِيتٍ) فَتَلْتَئِمُ أَطْرَافُ نَظْمِ الْكَلَامِ، فَعُدِلَ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ مِنْ إِلْقَاءِ ضَرْبِ الْمَثَلِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ إِلَى إِلْقَائِهِ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ لِإِفَادَةِ صِدْقِ عِلْمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُلُّ هَذَا أَدَقُّ مَعْنًى وَأَنْسَبُ بِبَلَاغَةِ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْمُضِيَّ فِي فِعْلِ ضَرَبَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَقَالَ: إِنَّ مَعْنَاهُ: ضَرْبُ الْمَثَلِ فِي عِلْمِهِ فَأَخْبِرْ بِهِ قَوْمَكَ.
فَالَّذِي دَعَا الزَّمَخْشَرِيَّ إِلَى سُلُوكِ هَذَا الْمَعْنَى فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ رَعْيُ مُنَاسَبَاتٍ اخْتُصَّ بِهَا سِيَاقُ الْكَلَامِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ، وَلَا دَاعِيَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهَا مِنْ نَظَائِرِ صِيغَتِهَا مِمَّا لَمْ يُوجَدْ لِلَّهِ فِيهِ مُقْتَضٍ لِنَحْوِ هَذَا الْمَحْمَلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً كَمَا فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [٢٤]، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهِ
عِنْدَ قَوْلِهِ: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً فِي سُورَةِ [النَّحْلِ: ١١٢].
وَقَدْ يُقَالُ فِيهِ وَفِي نَظَائِرِهِ: إِنَّ الْعُدُولَ عَنْ أَنْ يُصَاغَ بِصِيغَةِ الطَّلَبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ [يس: ١٣]، وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ [الْكَهْف: ٣٢] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الْكَهْف: ٤٥] إِلَى أَنْ صِيَغَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ هُوَ التَّوَسُّلُ إِلَى إِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الْمَثَلِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ.
وَإِسْنَادُ ضَرْبِ الْمَثَلِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ كَوَّنَ نَظْمَهُ بِدُونِ وَاسِطَةٍ ثُمَّ أَوْحَى بِهِ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْقُرْآنُ كُلُّهُ مِنْ جَعْلِ اللَّهِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَمْثَالُهُ وَغَيْرُهَا، وَهُوَ كُلُّهُ مَأْمُورٌ رَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبْلِيغِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا فَاضْرِبْهُ لِلنَّاسِ وَبَيِّنْهُ لَهُمْ، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنْ ضَرْبِ هَذَا الْمَثَلِ مُحَاجَّةُ الْمُشْرِكِينَ وَتَبْكِيتُهُمْ بِهِ فِي كَشْفِ سُوءِ حَالَتِهِمْ فِي الْإِشْرَاكِ، إِذْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَجْرِيَ الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقَةِ نَظَائِرِهِ كَقَوْلِهِ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ [يس: ١٣]، وَكَذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: ٩]، قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ [الزمر: ١٠]، قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ [الزمر: ١١]، قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ [الزمر: ١٤]، قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ [الزمر:
١٥]، فَبَشِّرْ عِبادِ [الزمر: ١٧].
أَضْدَادِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ التَّنْوِيهَ بِهِمْ بِأَنَّ إِيمَانَهُمْ أَنْجَاهُمْ مِنَ الْجَحِيمِ.
وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَكَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ مَا يَشْمَلُ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمْ فِي دَرَكَاتِ الْجَحِيمِ، فَالْمُشْرِكُونَ اسْتَحَقُّوا الْجَحِيمَ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِ كُفْرِهِمْ، وَالْيَهُودُ اسْتَحَقُّوهُ مِنْ يَوْمِ كَذَّبُوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالنَّصَارَى اسْتَحَقَّهُ بَعْضُهُمْ حِينَ أَثْبَتُوا لِلَّهِ ابْنًا وَبَعْضُهُمْ مِنْ حِينِ تَكْذِيبِهِمْ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي اسْتِحْضَارِهِمْ بِتَعْرِيفِ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ جَدِيرُونَ بِذَلِكَ لِأَجْلِ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ. وَلَمْ يُؤْتَ فِي خَبَرِهِمْ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ إِذْ لَا يُظَنُّ أَنَّ غَيْرَهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِأَصْحَابِ مُضَافٌ إِلَى الْجَحِيمِ دَلَالَةٌ عَلَى شِدَّةِ مُلَازَمَتِهِمْ لِلْجَحِيمِ.
[٢٠]
[سُورَة الْحَدِيد (٥٧) : آيَة ٢٠]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ.
أَعْقَبَ التَّحْرِيضَ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَالْإِنْفَاقِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى دَحْضِ سَبَبِ الشُّحِّ أَنَّهُ الْحِرْصُ عَلَى اسْتِبْقَاءِ الْمَالِ لِإِنْفَاقِهِ فِي لَذَائِذِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَضُرِبَ لَهُمْ مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِحَالٍ مُحَقَّرَةٍ عَلَى أَنَّهَا زَائِلَةٌ تَحْقِيرًا لِحَاصِلِهَا وَتَزْهِيدًا فِيهَا لِأَنَّ التَّعَلُّقَ بِهَا يَعُوقُ عَنِ الْفَلَاحِ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْحَشْر: ٩]، وَقَالَ: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النِّسَاء: ١٢٨].
كُلُّ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ الْحَثِّ عَلَى الْإِنْفَاقِ الْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ، وَأُشِيرَ إِلَى أَنَّهَا يَنْبَغِي أَنْ تُتَّخَذَ الْحَيَاةُ وَسِيلَةً لِلنَّعِيمِ الدَّائِمِ فِي الْآخِرَةِ، وَوِقَايَةً مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ، وَمَا
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ خُضْرٌ بِالْجَرِّ نَعْتًا لِ سُندُسٍ، وإِسْتَبْرَقٌ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى ثِيابُ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ خُضْرٌ بِالرَّفْعِ وإِسْتَبْرَقٌ بِالْجَرِّ
عَطْفًا عَلَى سُندُسٍ بِتَقْدِيرِ: وَثِيَابُ إِسْتَبْرَقٍ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ خُضْرٌ بِالْجَرِّ نَعْتًا لِ سُندُسٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ بَيَانٌ لِلثِّيَابِ فَهُوَ فِي معنى الْجمع. وَقَرَأَ وإِسْتَبْرَقٌ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى سُندُسٍ.
وَالْأَسَاوِرُ: جَمْعُ سُوَارٍ وَهُوَ حَلْيٌ شَكْلُهُ أُسْطُوَانِيٌّ فَارِغُ الْوَسَطِ يَلْبَسُهُ النِّسَاءُ فِي مَعَاصِمِهِنَّ وَلَا يَلْبَسُهُ الرِّجَالُ إِلَّا الْمُلُوكَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ سُوَارَيْ كِسْرَى.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ حَالَ رِجَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَالُ الْمُلُوكِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ النِّسَاءَ يَتَحَلَّيْنَ بِأَصْنَافِ الْحُلِيِّ.
وَوُصِفَتِ الْأَسَاوِرُ هُنَا بِأَنَّهَا مِنْ فِضَّةٍ. وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٣١] بِأَنَّهَا مِنْ ذَهَبٍ فِي قَوْلِهِ: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ، أَيْ مَرَّةً يُحَلَّوْنَ هَذِهِ وَمَرَّةً الْأُخْرَى، أَوْ يُحَلَّوْنَهُمَا جَمِيعًا بِأَنْ تُجْعَلَ مُتَزَاوِجَةً لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْهَجُ مَنْظَرًا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْله:
كانَتْ قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ [الْإِنْسَان: ١٥، ١٦].
وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً.
هَذَا احْتِرَاسٌ مِمَّا يُوهِمُهُ شُرْبُهُمْ مِنَ الْكَأْسِ الْمَمْزُوجَةِ بِالْكَافُورِ وَالزَّنْجَبِيلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَا فِي أَمْثَالِهَا الْمَعْرُوفَةِ فِي الدُّنْيَا وَمِنَ الْغَوْلِ وَسُوءِ الْقَوْلِ وَالْهَذَيَانِ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِكَوْنِ شَرَابِهِمْ طَهُورًا بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الطَّهَارَةِ وَهِيَ النَّزَاهَةُ مِنَ الْخَبَائِثِ، أَيْ مُنَزَّهًا عَمَّا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْخَبَاثَةِ وَالْفَسَادِ.
وَأَسْنَدَ سَقْيَهُ إِلَى رَبِّهِمْ إِظْهَارًا لِكَرَامَتِهِمْ، أَيْ أَمَرَ هُوَ بِسَقْيِهِمْ كَمَا يُقَالُ: أَطْعَمَهُمْ رَبُّ الدَّار وسقاهم.
وَالضَّلَالُ: عَدَمُ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الطَّرِيقِ الْموصل إِلَى مَكَان مَقْصُود سَوَاءٌ سَلَكَ السَّائِرُ طَرِيقًا آخَرَ يُبْلِغُ إِلَى غَيْرِ الْمَقْصُودِ أَمْ وَقَفَ حَائِرًا لَا يَعْرِفُ أَيَّ طَرِيقٍ يَسْلُكُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّكَ كُنْتَ فِي حَيْرَةٍ مِنْ حَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ قَوْمِكَ فَأَرَاكَهُ اللَّهُ غَيْرَ مَحْمُودٍ وَكَرَّهَهُ إِلَيْكَ وَلَا تَدْرِي مَاذَا تَتَّبِعُ مِنَ الْحَقِّ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَنْشَأَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ إِعْدَادِهِ لِتَلَقِّي الرِّسَالَةِ فِي الْإِبَّانِ، أَلْهَمَهُ أَنَّ مَا عَلَيْهِ قَوْمُهُ مِنَ الشِّرْكِ خَطَأٌ وَأَلْقَى فِي نَفْسِهِ طَلَبَ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ لِيَتَهَيَّأَ بِذَلِكَ لِقَبُولِ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالضَّلَالِ هُنَا اتِّبَاعَ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ مِنَ الْإِشْرَاكِ قَبْلَ النُّبُوءَةِ بِاتِّفَاقِ عُلَمَائِنَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي عِصْمَتِهِمْ مِنْ نَوْعِ الذُّنُوبِ الْفَوَاحِشِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ الشَّرَائِعُ فِي كَوْنِهَا فَوَاحِشَ وَبِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ التَّنَافِي بَيْنَ اعْتِبَارِ الْفِعْلِ فَاحِشَةً وَبَيْنَ الْخُلُوِّ عَنْ وُجُودِ شَرِيعَةٍ قَبْلَ النُّبُوءَةِ، فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا نَزَّهُوهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَالْمُعْتَزِلَةُ مَنَعُوا ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ دَلِيلِ الْعَقْلِ كَافِيًا فِي قُبْحِ الْفَوَاحِشِ عَلَى إِرْسَالِ كَلَامِهِمْ فِي ضَابِطِ دَلَالَةِ الْعَقْلِ. وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُنَا أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ مَا يُنَافِي أُصُولَ الدِّينِ قَبْلَ رِسَالَتِهِ وَلَمْ يَزَلْ عُلَمَاؤُنَا يَجْعَلُونَ مَا تَوَاتَرَ مِنْ حَالِ اسْتِقَامَتِهِ وَنَزَاهَتِهِ عَنِ الرَّذَائِلِ قَبْلَ نُبُوءَتِهِ دَلِيلًا مِنْ جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى رِسَالَتِهِ، بَلْ قَدْ شَافَهَ الْقُرْآنُ بِهِ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [يُونُس: ١٦] وَقَوْلِهِ: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٦٩]، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُؤْثَرْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَفْحَمُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَسَاوِي أَعْمَالِهِمْ بِأَنْ يَقُولُوا فَقَدْ كُنْتَ تَفْعَلُ ذَلِكَ مَعَنَا.
وَالْعَائِلُ: الَّذِي لَا مَالَ لَهُ، وَالْفَقْرُ يُسَمَّى عَيْلَةً، قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ [التَّوْبَة: ٢٨] وَقَدْ أَغْنَاهُ اللَّهُ غِنَاءَيْنِ: أَعْظَمُهُمَا غِنَى الْقَلْبِ إِذْ أَلْقَى فِي قَلْبِهِ قِلَّةَ الِاهْتِمَامِ بِالدُّنْيَا، وَغِنَى الْمَالِ حِينَ أَلْهَمَ خَدِيجَةَ مُقَارَضَتَهُ فِي تِجَارَتِهَا.
وَحُذِفَتْ مَفَاعِيلُ فَآوى، فَهَدى، فَأَغْنى لِلْعِلْمِ بِهَا مِنْ ضَمَائِرِ الْخطاب قبلهَا، وحدفها إِيجَازٌ، وَفِيهِ رِعَايَةٌ على الفواصل.