وَإِبْلِيسُ اسْمُ الشَّيْطَانِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ مُوَلِّدُ الشَّيَاطِينِ، فَكَانَ إِبْلِيسُ لِنَوْعِ الشَّيَاطِينِ وَالْجِنِّ بِمَنْزِلَةِ آدَمَ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ. وَإِبْلِيسُ اسْمٌ مُعَرَّبٌ مِنْ لُغَةٍ غَيْرِ عَرَبِيَّةٍ لَمْ يُعَيِّنْهَا أَهْلُ اللُّغَةِ، وَلَكِنْ يَدُلُّ لِكَوْنِهِ مُعَرَّبًا أَنَّ الْعَرَبَ مَنَعُوهُ مِنَ الصَّرْفِ وَلَا سَبَبَ فِيهِ سِوَى الْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ وَلِهَذَا جَعَلَ الزَّجَّاجُ هَمْزَتَهُ أَصْلِيَّةً، وَقَالَ وَزْنُهُ عَلَى فِعْلِيلَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ اسْمٌ عَرَبِيٌّ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِبْلَاسِ وَهُوَ الْبُعْدُ مِنَ الْخَيْرِ وَالْيَأْسُ مِنَ الرَّحْمَةِ وَهَذَا اشْتِقَاقٌ حَسَنٌ لَوْلَا أَنَّهُ يُنَاكِدُ مَنْعَهُ مِنَ الصَّرْفِ وَجَعَلُوا وَزْنَهُ إِفْعِيلَ لِأَنَّ هَمْزَتَهُ مَزِيدَةٌ وَقَدِ اعْتُذِرَ عَنْ مَنْعِهِ
مِنَ الصَّرْفِ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْأَسْمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ عُدَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْجَمِيِّ وَهُوَ اعْتِذَارٌ رَكِيكٌ. وَأَكْثَرُ الَّذِينَ أَحْصَوُا الْكَلِمَاتِ الْمُعَرَّبَةَ فِي الْقُرْآنِ لَمْ يَعُدُّوا مِنْهَا اسْمَ إِبْلِيسَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يتبينوا ذَلِك وصلاحية الِاسْمِ لِمَادَّةٍ عَرَبِيَّةٍ وَمُنَاسَبَتِهِ لَهَا.
وَجُمَلُ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ مُخَالَفَةَ حَالِهِ لِحَالِ الْمَلَائِكَةِ فِي السُّجُودِ لِآدَمَ، شَأْنُهُ أَنْ يُثِيرَ سُؤَالًا فِي نَفْسِ السَّامِعِ كَيْفَ لَمْ يَفْعَلْ إِبْلِيسُ مَا أُمِرَ بِهِ وَكَيْفَ خَالَفَ حَالَ جَمَاعَتِهِ وَمَا سَبَبُ ذَلِكَ لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُ لِحَالَةِ مَعْشَرِهِ مُخَالَفَةٌ عَجِيبَةٌ إِذِ الشَّأْنُ الْمُوَافَقَةُ بَيْنَ الْجَمَاعَاتِ كَمَا قَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ:

وَهَلْ أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشَدِ
فَبَيَّنَ السَّبَبَ بِأَنَّهُ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَفَرَ بِاللَّهِ.
وَالْإِبَاءُ الِامْتِنَاعُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَلَقِّيهِ. وَالِاسْتِكْبَارُ شِدَّةُ الْكِبْرِ وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْعَدِّ أَيْ عَدَّ نَفْسَهُ كَبِيرًا مِثْلَ اسْتَعْظَمَ وَاسْتَعْذَبَ الشَّرَابَ أَوْ يَكُونُ السِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ اسْتَجَابَ وَاسْتَقَرَّ فَمَعْنَى اسْتَكْبَرَ اتَّصَفَ بِالْكِبْرِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ اسْتَكْبَرَ عَلَى اللَّهِ بِإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ آدَمُ مُسْتَحِقًّا لِأَنْ يَسْجُدَ هُوَ لَهُ إِنْكَارًا عَنْ تَصْمِيمٍ لَا عَنْ مُرَاجَعَةٍ أَوِ اسْتِشَارَةٍ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخْرَى مِثْلُ قَوْلِهِ: قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الْأَعْرَاف: ١٢] وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ خَالَفَ فِعْلُ إِبْلِيسَ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ حِينَ قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [الْبَقَرَة: ٣٠]، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّوَقُّفِ فِي الْحِكْمَةِ وَلِذَلِكَ قَالُوا:
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [الْبَقَرَة: ٣٠] فَإِبْلِيسُ بِإِبَائِهِ انْتَقَضَتِ الْجِبِلَّةُ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَاسْتَحَالَتْ إِلَى جِبِلَّةٍ أُخْرَى عَلَى نَحْوِ مَا يَعْرِضُ مِنْ تَطَوُّرٍ لِلْعَاقِلِ حِينَ يَخْتَلُّ عَقْلُهُ وَلِلْقَادِرِ حِينَ تُشَلُّ بَعْضُ أَعْضَائِهِ، وَمِنَ الْعِلَلِ عِلَلٌ جُسْمَانِيَّةٌ وَمِنْهَا عِلَلٌ رُوحَانِيَّةٌ كَمَا قَالَ:
وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
عَطْفُ هَذَا النَّهْيِ عَلَى النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا لِزِيَادَةِ التَّحْذِيرِ مِنْ صَنِيعِهِمْ فِي تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ، لِقَصْدِ الْمُضَارَّةِ، بِأَنَّ فِي ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً بِأَحْكَامِ اللَّهِ الَّتِي شَرَّعَ فِيهَا حَقَّ الْمُرَاجَعَةِ، مُرِيدًا رَحْمَةَ النَّاسِ، فَيَجِبُ الْحَذَرُ مِنْ أَن يجعلوها هزءا.
وَآيَاتُ اللَّهِ هِيَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ شَرَائِعِ الْمُرَاجِعَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [الْبَقَرَة: ٢٢٨] إِلَى قَوْلِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة:
٢٣٠].
وَالْهُزُءُ بِضَمَّتَيْنِ مَصْدَرُ هَزَأَ بِهِ إِذَا سَخِرَ وَلَعِبَ، وَهُوَ هُنَا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ لَا تَتَّخِذُوهَا مُسْتَهْزَأً بِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُخَاطَبُ بِهَذَا الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بِالَّذِينَ يَسْتَهْزِئُونَ بِالْآيَاتِ، تَعَيَّنَ أَنَّ الْهُزُءَ مُرَادٌ بِهِ مَجَازُهُ وَهُوَ الِاسْتِخْفَافُ وَعَدَمُ الرِّعَايَةِ، لِأَنَّ الْمُسْتَخِفَّ بِالشَّيْءِ الْمُهِمِّ يُعَدُّ لِاسْتِخْفَافِهِ بِهِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَهَمِّيَّتِهِ، كَالسَّاخِرِ وَاللَّاعِبِ.
وَهُوَ تَحْذِيرٌ لِلنَّاسِ مِنَ التَّوَصُّلِ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ إِلَى مَا يُخَالِفُ مُرَادَ اللَّهِ، وَمَقَاصِدَ شَرْعِهِ، وَمِنْ هَذَا التَّوَصُّلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، مَا يُسَمَّى بِالْحِيَلِ الشَّرْعِيَّةِ بِمَعْنَى أَنَّهَا جَارِيَةٌ عَلَى صُوَرٍ صَحِيحَةِ الظَّاهِرِ، بِمُقْتَضَى حُكْمِ الشَّرْعِ، كَمَنْ يَهِبُ مَالَهُ لِزَوْجِهِ لَيْلَةَ الْحَوْلِ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ وُجُوبِ زَكَاتِهِ، وَمِنْ أَبْعَدِ الْأَوْصَافِ عَنْهَا الْوَصْفُ بِالشَّرْعِيَّةِ.
فَالْمُخَاطَبُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ مُحَذَّرُونَ أَنْ يَجْعَلُوا حُكْمَ اللَّهِ فِي الْعِدَّةِ، الَّذِي قُصِدَ مِنْهُ انْتِظَارُ النَّدَامَةِ وَتَذَكُّرُ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، لَعَلَّهُمَا يَحْمِلَانِ الْمُطَّلِقَ عَلَى إِمْسَاكِ زَوْجَتِهِ حِرْصًا عَلَى بَقَاءِ الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ، فَيُغَيِّرُوا ذَلِكَ وَيَجْعَلُوهُ وَسِيلَةً إِلَى زِيَادَةِ النِّكَايَةِ، وَتَفَاقُمِ الشَّرِّ وَالْعَدَاوَةِ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي مِائَةَ طَلْقَةٍ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ «بَانَتْ مِنْكَ بِثَلَاثٍ، وَسَبْعٌ وَتِسْعُونَ اتَّخَذْتَ بِهَا آيَات الله هزءا» يُرِيدُ أَنَّهُ عَمَدَ إِلَى مَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ، بِحِكْمَةِ تَوَقُّعِ النَّدَامَةِ مَرَّةً أُولَى وَثَانِيَةً، فَجَعَلَهُ سَبَبُ نِكَايَةٍ وَتَغْلِيظٍ، حَتَّى اعْتَقَدَ أَنَّهُ يُضَيِّقُ عَلَى نَفْسِهِ الْمُرَاجَعَةِ إِذْ جَعَلَهُ مِائَةً.
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ حَذَّرَهُمْ دَعَاهُمْ بِالرَّغْبَةِ فَقَالَ:
الْأَمْرِ وَالْعَمَلِ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ الْمَتْبُوعَ فَهُوَ الِائْتِمَارُ، وَيَتَعَدَّى فِعْلُهُ إِلَى ذَاتِ الْمُتَّبِعِ فَيُقَالُ: اتَّبَعْتُ فُلَانًا بِهَذِهِ
الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّ الِاتِّبَاعَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّاتِ.
وَإِطْلَاقُ الِاتِّبَاعِ بِمَعْنَى الِائْتِمَارِ شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ جَاءَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَأَمَرَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ، وَاسْتُعْمِلَ أَيْضًا فِي مَعْنَى الْمُلَازِمَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ، لِأَنَّ مَنْ يَتِّبِعُ أَحَدًا يُلَازِمُهُ. وَمِنْهُ سُمِّي الرَّئِيُّ مِنَ الْجِنِّ فِي خُرَافَاتِ الْعَرَبِ تَابِعَةً، وَمِنْهُ سُمِّي مَنْ لَازَمَ الصَّحَابِيَّ وَرَوَى عَنْهُ تَابِعِيًّا.
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ فِي الْآيَةِ مُرَادًا بِهِ دَوَامُ الِامْتِثَالِ لِمَا أَمَرَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَعِنَادِهِمْ، فَالِاتِّبَاعُ الْمَأْمُورُ بِهِ اتِّبَاعٌ فِي شَيْءٍ مَخْصُوصٍ، وَهَذَا مَأْمُورٌ بِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ مُسْتَمِرٌّ فِي الْأَمْرِ بِالدَّوَامِ عَلَيْهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِمُلَازَمَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَالْإِعْلَانِ بِهَا وَدُعَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ وَأَنْ لَا يَعْتَرِيَهُ فِي ذَلِكَ لِينٌ وَلَا هَوَادَةٌ حَتَّى لَا يَكُونَ لِبَذَاءَتِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ تَأْثِيرٌ عَلَى نَفْسِهِ يُوهِنُ دَعْوَتَهُمْ وَالْحِرْصَ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَاعْتِقَادُ أَنَّ مُحَاوَلَةَ إِيمَانِهِمْ لَا جَدْوَى لَهَا. فَالْمُرَادُ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مَا أُوحِيَ مِنَ الْقُرْآنِ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ، أَوْ أَمْرًا بِدَعْوَتِهِمْ لِلْإِسْلَامِ وَعَدَمِ الِانْقِطَاعِ عَنْ ذَلِكَ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ شَدًّا لساعد النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَقَامَاتِ دَعْوَتِهِ إِلَى اللَّهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: لَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْأَنْعَام: ١٠٨] كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [الْأَنْعَام:
٥٠]. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ بِالِاتِّبَاعِ الْأَمْرَ بِاتِّبَاعِ أَوَامِرِ الْقُرْآنِ وَنَوَاهِيهِ مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ لَهُ بِهَذَا السِّيَاقِ، وَفِي الْإِتْيَانِ بِلَفْظِ: رَبِّكَ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ تأنيس للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَلَطُّفٌ مَعَهُ.
احْتِرَاسٌ، وَمَجْمُوعُ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ اسْتِطْرَادٌ وَاعْتِرَاضٌ.
وَالْاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ وَجُمْلَةِ فَما رَعَوْها.
وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالْاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ يَشْمَلُهُ حُكْمُ الْعَامِلِ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَشْمَلْهُ لَفْظُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَإِنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ مُنْقَطِعًا أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَنْ مَدْلُولِ الِاسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَيْسَ مُنْقَطِعًا عَنْ عَامِلِهِ، فَالْاسْتِثْنَاءُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ مَعْمُولًا فِي الْمَعْنَى لِفِعْلِ كَتَبْناها فَالْمَعْنَى: لَكِنْ كَتَبْنَا عَلَيْهِمُ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ، أَيْ أَنْ يَبْتَغُوا رِضْوَانَ اللَّهِ بِكُلِّ عَمَلٍ لَا خُصُوصَ الرَّهْبَانِيَّةِ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا، أَيْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفْهُمْ بِهَا بِعَيْنِهَا.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا لِتَكْلِيفِ اللَّهِ بِهَا وَلَوْ فِي عُمُومِ مَا يَشْمَلُهَا، أَيْ لَيْسَتْ مِمَّا يَشْمَلُهُ الْأَمْرُ بِرِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يُرْضُونَ اللَّهَ بِهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا لِبَعْضِ أَحْوَالِ كِتَابَةِ التَّكَالِيفِ عَلَيْهِمْ وَهِيَ كِتَابَةُ الْأَمْرِ بِهَا بِعَيْنِهَا فَتَكُونُ الرَّهْبَانِيَّةُ مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ رِضْوَانُ اللَّهِ، أَيْ كَتَبُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ تَحْقِيقًا لِمَا فِيهِ رِضْوَانُ اللَّهِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ [آل عمرَان:
٩٣]،
وَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ»
فِي قِصَّةِ ذَبْحِ الْبَقَرَةِ. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ.
وَانْتَصَبَ ابْتِغاءَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِفِعْلِ كَتَبْناها، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مَفْعُولًا لِأَجْلِهِ بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ، أَيْ لَكِنَّهُمُ ابْتَدَعُوهَا لْابْتِغَاءِ رِضْوَانِ اللَّهِ.
وَفِي الْآيَةِ عَلَى أَظْهَرِ الِاحْتِمَالَيْنِ إِشَارَةٌ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ وَهُوَ إِثْبَاتُ الْعِلَّةِ فِي آحَادِ جُزْئِيَّاتِهَا وَإِثْبَاتُ الْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي صُوَرِهَا.
وَفِيهَا حُجَّةٌ لِانْقِسَامِ الْبِدْعَةِ إِلَى مَحْمُودَةٍ وَمَذْمُومَةٍ بِحَسَبِ انْدِرَاجِهَا تَحْتَ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَشْرُوعِيَّةِ فَتَعْتَرِيهَا الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ كَمَا حَقَّقَهُ الشِّهَابُ الْقَرَافِيُّ وَحُذَّاقُ الْعُلَمَاءِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ حَاوَلُوا حَصْرَهَا فِي الذَّمِّ فَلَمْ يَجِدُوا مَصْرِفًا. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ لَمَّا جُمِعَ النَّاسُ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ «نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ».
كِنَايَةٌ رَمْزِيَّةٌ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ أَمَارَاتِ حُلُولِ مَا يوعدون يسلتزم التَّحْذِيرَ مِنَ التَّهَاوُنِ بِهِ، وَلِذَلِكَ خُتِمَتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ بِقَوْلِهِ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: ١٩].
وَكُرِّرَتْ كَلِمَةُ إِذَا فِي أَوَائِلِ الْجُمَلِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ حُرُوفِ الْعَطْفِ مَعَ إِغْنَاءِ حَرْفِ الْعَطْفِ عَنْ إِعَادَةِ إِذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسانُ الْآيَة [الْقِيَامَة: ٧- ١٠]، لِإِفَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِ كُلِّ جُمْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْجُمَلِ لِيَكُونَ مَضْمُونُهَا مُسْتَقِلًّا فِي جَعْلِهِ عَلَامَةً عَلَى وُقُوعِ مَا يُوعَدُونَ.
وَطَمْسُ النُّجُومِ: زَوَالُ نُورِهَا، وَأَنَّ نُورَ مُعْظَمِ مَا يَلُوحُ لِلنَّاسِ مِنَ النُّجُومِ سَبَبُهُ انْعِكَاسُ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ عَلَيْهَا حِينَ احْتِجَابِ ضَوْءِ الشَّمْسِ عَلَى الْجَانِبِ الْمُظْلِمِ مِنَ الْأَرْضِ، فَطَمْسُ النُّجُومِ يَقْتَضِي طَمْسَ نُورِ الشَّمْسِ، أَيْ زَوَالَ الْتِهَابِهَا بِأَنْ تَبْرُدَ حَرَارَتُهَا، أَوْ بِأَنْ تَعْلُوَ سَطْحَهَا طَبَقَةٌ رَمَادِيَّةٌ بِسَبَبِ انْفِجَارَاتٍ مِنْ دَاخِلِهَا، أَوْ بِأَنْ تَتَصَادَمَ مَعَ أَجْرَامٍ سَمَاوِيَّةٍ أُخْرَى لِاخْتِلَالِ نِظَامِ الْجَاذِبِيَّةِ فَتَنْدَكُّ وَتَتَكَسَّرُ قِطَعًا فَيَزُولُ الْتِهَابُهَا.
وَمَعْنَى فُرِجَتْ تَفَرَّقَ مَا كَانَ مُلْتَحِمًا مِنْ هَيْكَلِهَا، يُقَالُ: فُرِجَ الْبَابُ إِذَا فَتَحَهُ.
وَالْفُرْجَةُ: الْفَتْحَةُ فِي الْجِدَارِ وَنَحْوِهِ. فَإِذَا أُرِيدَ بِالسَّمَاءِ الْجِنْسُ الصَّادِقُ بِجَمِيعِ السَّمَاوَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ الْعُمُومِ الْحَقِيقِيِّ، أَوِ الصَّادِقُ بِسَمَاوَاتٍ مَشْهُورَةٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْعُمُومِ الْعُرْفِيِّ وَهِيَ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ الَّتِي يُعَبِّرُ أَهْلُ الْهَيْئَةِ عَنْهَا بِالْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ فَرَجُ السَّمَاوَاتِ حُدُوثَ أَخَادِيدَ عَظِيمَةٍ فِي الْكَوَاكِبِ زِيَادَةً عَلَى طَمْسِ نُورِهَا.
وَإِذَا أُرِيدَ بِالسَّمَاءِ فَرْدٌ مُعَيَّنٌ مَعْهُودٌ وَهِيَ مَا نُشَاهِدُهُ كَالْقُبَّةِ الزَّرْقَاءِ فِي النَّهَارِ وَهِيَ كُرَةُ الْهَوَاءِ، فَمَعْنَى فُرِجَتْ: فَسَادُ عَنَاصِرِ الْجَوِّ بِحَيْثُ تَصِيرُ فِيهِ طَرَائِقَ مُخْتَلِفَةَ الْأَلْوَانِ تَبْدُو كَأَنَّهَا شُقُوقٌ فِي كُرَةِ الْهَوَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: ١] وَكُلُّ ذَلِكَ مُفْضٍ إِلَى انْقِرَاضِ الْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ بِجَمِيعِ نِظَامِهِ وَمَجْمُوعِ أَجْسَامِهِ.
وَالنَّسْفُ: قَلْعُ أَجْزَاءِ الشَّيْءِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ وَتَفْرِيقُهَا مِثْلَ الْهَدْمِ.
وَنَسْفُ الْجِبَالِ: دَكُّهَا وَمَصِيرُهَا تُرَابًا مُفَرَّقًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا [المزمل: ١٤].
التَّقْوِيمِ أَكْمَلُهُ وَأَلْيَقُهُ بِنَوْعِ الْإِنْسَانِ، أَيْ أَحْسَنُ تَقْوِيمٍ لَهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ تَقْوِيمٌ خَاصٌّ بِالْإِنْسَانِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ فِي تَعْدِيلِ الْقُوَى الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ بِحَيْثُ لَا تَكُونُ إِحْدَى قُوَاهُ مُوقِعَةً لَهُ فِيمَا يُفْسِدُهُ، وَلَا يَعُوقُ بَعْضُ قُوَاهُ الْبَعْضَ الْآخَرَ عَنْ أَدَاءِ وَظِيفَتِهِ فَإِنَّ غَيْرَهُ مَنْ جِنْسِهِ كَانَ دُونَهُ فِي التَّقْوِيمِ.
وَحَرْفُ فِي يُفِيدُ الظَّرْفِيَّةَ الْمَجَازِيَّةَ الْمُسْتَعَارَةَ لِمَعْنَى التَّمَكُّنِ وَالْمِلْكِ فَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى بَاءِ الْمُلَابَسَةِ أَوْ لَامِ الْمِلْكِ، وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنْ أَحَدِ الْحَرْفَيْنِ الْحَقِيقِيَّيْنِ لِهَذَا الْمَعْنَى إِلَى حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ لِإِفَادَةِ قُوَّةِ الْمُلَابَسَةِ أَوْ قُوَّةِ الْمِلْكِ مَعَ الْإِيجَازِ وَلَوْلَا الْإِيجَازُ لَكَانَتْ مُسَاوَاةُ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ بِتَقْوِيمٍ مَكِينٍ هُوَ أَحْسَنُ تَقْوِيمٍ.
فَأَفَادَتِ الْآيَةُ أَنَّ اللَّهَ كَوَّنَ الْإِنْسَانَ تَكْوِينًا ذَاتِيًّا مُتَنَاسِبًا مَا خَلَقَ لَهُ نَوْعَهُ مِنَ الْإِعْدَادِ لِنِظَامِهِ وَحَضَارَتِهِ، وَلَيْسَ تَقْوِيمُ صُورَةِ الْإِنْسَانِ الظَّاهِرَةِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا جَدِيرًا بِأَنْ يُقْسِمَ عَلَيْهِ إِذْ لَا أَثَرَ لَهُ فِي إِصْلَاحِ النَّفْسِ، وَإِصْلَاحِ الْغَيْرِ، وَالْإِصْلَاحِ فِي الْأَرْضِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هُوَ الْمُرَادِ لَذَهَبَتِ الْمُنَاسَبَةُ الَّتِي فِي الْقَسَمِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَالْبَلَدِ الْأَمِينِ. وَإِنَّمَا هُوَ مُتَمِّمٌ لِتَقْوِيمِ النَّفْسِ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا
إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ»

(١) فَإِنَّ الْعَقْلَ أَشْرَفُ مَا خُصَّ بِهِ نَوْعُ الْإِنْسَانِ مِنْ بَيْنِ الْأَنْوَاعِ.
فَالْمَرْضِيُّ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ تَقْوِيمُ إِدْرَاكِ الْإِنْسَانِ وَنَظَرِهِ الْعَقْلِيِّ الصَّحِيحِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي تَصْدُرُ عَنْهُ أَعْمَالُ الْجَسَدِ إِذِ الْجِسْمُ آلَةٌ خَادِمَةٌ لِلْعَقْلِ فَلِذَلِكَ كَانَ هُوَ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَأَمَّا خَلْقُ جَسَدِ الْإِنْسَانِ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ فَلَا ارْتِبَاطَ لَهُ بِمَقْصِدِ السُّورَةِ وَيَظْهَرُ هَذَا كَمَالَ الظُّهُورِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ فَإِنَّهُ لَوْ حُمِلَ الرَّدُّ أَسْفَلَ سَافِلِينَ عَلَى مَصِيرِ الْإِنْسَانِ فِي أَرْذَلِ الْعُمُرِ إِلَى نَقَائِصِ قُوَّتِهِ كَمَا فَسَّرَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لَكَانَ نُبُوُّهُ عَنْ غَرَضِ السُّورَةِ أَشَدَّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ فِيهِ تَرَدُّدُ
_________
(١) رَوَاهُ مُسلم. وَرَوَاهُ غَيره يزِيد بَعضهم على بعض.


الصفحة التالية
Icon